أيها اللاجئ الفلسطيني في سورية، إنه مخيم اليرموك الذي كنت كلما فَرَغَتْ قربتك تزودت من معينه. كلما ضعفت أو تعبت، أسندت ظهرك إليه. كلما جار عليك الزمان، رميت رأسك على صدره. كلما ضاقت بك الدنيا وعبست بوجهك المدن، التجأت إلى فضاءه الرحب. كلما انتابك خوف أو جزع وجدت الطمأنينة فيه، ولا تبالي إن فاتتك الدنيا خارجه. صادمة هي الصور الآتية اليوم من المخيم، الحيز الجغرافي الذي شكل على مدار عقود، التجمع الأكبر للاجئين الفلسطينيين خارج فلسطين. المخيم المدرسة، النهضة الاقتصادية والثقافية والسياسية، ساحة العمل الوطني الأهم خارج البلاد. المخيم الذي يضم في تربته عشرات القادة الشهداء الذين ارتقوا على طول سنوات الصراع مع الاحتلال.
بينما كان يعيش مخيم اليرموك، بكل ما يمثله من رمزية للشعب الفلسطيني، خرابه الأخير، كان هناك على المقلب الآخر، فلسطينيون، لديهم ما يكفي من الترف وفائض الوقت للحديث عن الزفاف الملكي البريطاني. آخرون انشغلوا بمتابعة الشائعات المتعلقة بصحة الرئيس الفلسطيني، وكأن هذا المخيم ينتمي لجزر الأرخبيل الإندونيسي، فيما عم الصمت الجهات الرسمية والفصائلية الفلسطينية، باستثناء تلك المحسوبة على النظام، حيث انشغلت بالحديث عن الانتصار والتحرير وطرد الإرهاب ودعاوى "إعادة الإعمار"!
في العودة إلى البدايات فإنه بعد مجزرة شارع الجاعونة الشهيرة منتصف تموز 2012، خرج المحلل السياسي "طالب إبراهيم" متحدثاً بلسان النظام، وقال بالحرف: "هذا المثلث الأخضر (يقصد المخيم) سيتحول إلى مثلث أحمر إن لم تكف "العصابات المسلحة" عن استخدامه ضد "الدولة السورية". بدا الحديث مفاجئاً ومستهجناً، إذ لم يكن ثمة "عصابات" حينئذ، ولا مسلحين، وكان المخيم يخضع بالكامل لما سمي حينها "اللجان الشعبية" التابعة للفصائل الفلسطينية المحسوبة على النظام (الجبهة الشعبية- قيادة عامة، فتح انتفاضة، جبهة النضال الشعبي، تنظيم الصاعقة). كل ما هنالك أن أهالي المخيم قرروا فتح المدارس والمساجد وتحويلها إلى مراكز ايواء للنازحين الذين قدموا من حي الميدان والعسالي وحي القدم والحجر الاسود وحي التضامن، وجادوا بالغالي والنفيس لإغاثتهم والتخفيف من معاناتهم.
الذي حصل أن إرادة الصهاينة المتمثلة بإزالة مخيم اليرموك والتخلص منه، لما هو عنصر تهديد ظل قائماً منذ النكبة، شاهداً عليها، حاضنة لكل ما يتصل بمعركة التحرير المنشودة، يرفد العمل الوطني بالكادر البشري، يحفظ الذاكرة الفلسطينية، ويبقيها حية، وحاضرة مهما تقادمت عليها السنوات، وجدت أخيراً هذه الإرادة من ينفذها. من نافل القول أن ما نزل بمخيم اليرموك يُعبر عن عقيدة النظام السوري تجاه أي منطقة أو مدينة، تشق عصا الطاعة، أو يصعب اخضاعها. الأدلة في هذا الباب أكثر من أن تحصى. بيد أن المختلف في قضية المخيم، هو خصوصيته، ورمزيته، وتاريخه، ودوره في معادلة الصراع مع الاحتلال منذ النكبة. كل هذا لم يشفع لمخيم اليرموك بالرغم من خطاب الممانعة الذي يتغنى به النظام دائماً.
في المشهد الأخير جاء "التعفيش" والنهب، والشماتة، والرقص على أنقاض مساكن اللاجئين الفلسطينيين المهدمة، والقهقهة أمام مشاهد الدمار، كبند أخير من بنود العقاب_ المؤامرة، على مخيم اليرموك وأهله. ومن جهة أخرى، فإن الصور التذكارية وتصريحات قادة الفصائل والشخصيات الفلسطينية التابعة للنظام، على أبواب المخيم، وفي شوارعه وساحاته، جاءت لذر الرماد في العيون، وفي سياق عملية تضليل وقلب للحقائق، مستمرة منذ قصف المخيم بطائرات الميغ عام 2012، ولتأكيد رواية النظام لما حل بالمخيم، وصولا إلى الترويج لما يسمى حاليا بعملية إعادة الإعمار.
الدمار الهائل الذي بدأ يتكشف مع خروج الصور والفيديوهات من مخيم اليرموك، يثبت صدقية هواجس الناس تجاه عملية اسقاط المخيم وظهور داعش كالفطر في جنوب دمشق، من ثم عملية "تحرير" المخيم وطرد التنظيم. اختصر المشهد السيد أنور عبد الهادي رئيس الدائرة السياسية في منظمة التحرير من دمشق عندما أكد أن العودة غير ممكنة ولن تكون قريبة بسبب الدمار الكبير، وطالب الأونروا والمنظمة بالاستعداد لعملية إعادة الإعمار. وأكد ذلك أيضاً الناطق باسم وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الأونروا عندما قال أن الدمار طال أكثر من ثمانين بالمئة من مباني المخيم وما بقي واقفاً فهو متهالك وغير صالح للسكن.
الوضع الحالي للمخيم لا يسمح بإعادة إعمار دون إزالة الكتل المدمرة والتي تشكل أكثر من ثمانين بالمئة من المباني السكنية، ما يعني إزالة أحياء وشوارع أساسية. بمعنى آخر، سيتم تجريف المخيم بعد الانتهاء من عمليات النهب و "التعفيش" الجارية على قدم وساق، من ثم عليكم أن تنتظروا مثل بقية سكان المناطق المهجرة، عملية إعادة الإعمار المرتبطة بالحل السياسي وتعقيداتها.
المحصلة الأكيدة أن المخيم انتهى إلى غير رجعة، إذ حتى لو صدق السيد أنور عبد الهادي الذي أمنت منظمته الغطاء السياسي للنظام في كل إجراءاته المتخذة ضد المخيمات، فإن التركيبة الديموغرافية أو البنية السكانية والتي شكلت هدفاً أساسياً لمن قرر تجريف المخيم، يستحيل أن تعود. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا، هل ستتم عملية اعادة اعمار الموعودة وفق المخطط والواقع التنظيمي السابق، بطريقة تحفظ خارطة المخيم وكينونته ورمزيته، وتضمن عودة السكان وفق التركيبة الديموغرافية السابقة، أم أنه سيعاد تنظيمه وهندسته وفق مخططات جديدة، تنهي وجود المخيم إلى الأبد، وتثبت عملية التجريف التي تعرض لها المجتمع الفلسطيني في مخيم اليرموك؟
وإذا ما أخذنا بالحسبان الأوضاع الاقتصادية والسياسية التي تمر بها دول الاقليم، لاسيما تلك التي تساهم بدعم الأونروا والسلطة الفلسطينية، في ظل الحديث عن صفقة القرن وشطب ما يسمى بقضايا الحل النهائي ومن ضمنها قضية اللاجئين وحق العودة، فهل ستقبل تلك الدول دعم عملية إعادة الإعمار في هذه الظروف، هذا فضلاً عن الأزمات التي تتعرض لها الاونروا على الصعيد المالي وهي بالكاد تستطيع تأمين متطلبات التعليم والصحة لهذا العام.
خلاصة القول، هناك تجارب مريرة لشعبنا الفلسطيني لا تزال ماثلة أمامه لمخيمات تم تدميرها وإزالتها وانتهت من الوجود، وأخرى تلقى أهلها وعوداً بالعودة إليها وإعادة الإعمار كمخيم نهر البارد الذي لم تنته عملية اعماره منذ أحد عشر عاماً، بيد أن الحقيقة المرة والمؤسفة، والثابت الوحيد الذي يُجمع عليه سكان مخيم اليرموك اليوم بمختلف مشاربهم وتوجهاتهم، هو أن المخيم انتهى إلى غير رجعة.
عرْضُ ساحة الأمويين في دمشق والمباني المحيطة بها، ونافورة الماء فيها، والحافلات تملأها، والمذيعة العفيَة بصحتها، المزيَنة بثيابها الأنيقة، وضيفها الفيلسوف على شاشة تلفزيون نظام الأسد، ذلك كله وغيره، لا يلغي الساحات والمباني المدمًرة في معظم سورية، ولا شتم الأمويين أو اللطم الإيراني في مسجدهم، ولا انقطاع الماء في سورية وغرق السوريين هرباً في المياه الدولية، ولا حافلات "داعش" التي كانت تحميها مليشيات قاسم سليماني وحسن نصر الله في أثناء عبورها سورية من غربها إلى شرقها، ولا صورة المذيع المليشياوي الذي يبشَر مناطق الحصار والتجويع بالباصات الخضر، ولا صحة المعتقلين الذين تحولوا إلى ركام من العظام في معتقلات الأسد، ولا ما تبقى من ثياب رثة عند الأسر السورية المعوزة المغصوصة، ولا فلسفة الضيف تمتُ إلى أي سرديةٍ سوريةٍ لها علاقة بواقع الحال السوري البائس.
بعد بضعة أسابيع على انتفاضة أهل سورية على الاستبداد، أشاع نظام الأسد مفردة "خلصت". مرَ عام بعد عام على ثورة السوريين، وبقيت المنظومة الاستبدادية منفصمةً عن الواقع، متجاهلة، في خطابها وسياساتها، ما يحصل في سورية. والآن، تعود الأسطوانة المزيّفة ذاتها، ولكن على نطاق أوسع. تتصوّر أنها أوصلت السوريين إلى درجةٍ من اليأس والإحباط، لكي يسلموا بما تسميه "الأمر الواقع"، وما يسميها أبواقها "الواقعية السياسية". إنها ترى الأمور جغرافيا، لا نفساً وروحاً وإرادةً وموقفاً وقراراً بالخلاص مما كان قائماً. خرجت ثلاثة أرباع سورية من ربقة الاستبداد في وقت من الأوقات. كان الفاعل بالنسبة لمنظومة الاستبداد الإرهاب والمؤامرة الكونية، ولم تعترف يوماً بأنها روح شعب سورية، ونفسه وإرادته، وموقفه الرافض لاستبدادها والخلاص منه. استدعت له إيران، وبعدها روسيا لـ "تحرّر" أرض سورية من أهلها. استلزم "التحرير" حصاراً لم تقم به النازية، ودماراً لا يشبه إلا ما حدث في غروزني.
شرّد فِعْلُ منظومة الاستبداد نصف سكان سورية داخلاً وخارجا، هدّم نصفها، أفقر معظمها، خرّب النسيج الاجتماعي، حوّل الدولة إلى وقيع تتقاذف سيادته، وتستبيحها أكثر من عشر قوى. ولا يتوقف قادة منظومة الاستبداد عن التشدّق بالسيادة المتهتكة. قالها الإيرانيون والروس إنه لولاهم لسقطت تلك المنظومة. ذلك لا يهمهم؛ وتابِعوهم يشترون سرديتهم بكل وضاعة، وينعتون الروس والإيرانيين بالأصدقاء والحلفاء الذين يحاربون معهم الإرهاب.
عادةً، يختلف اللصوص؛ وها هم "الأصدقاء والحلفاء" يختلفون. منظومة الاستبداد بين المطرقة والسندان؛ إذا بقوا، لا سيادة ولا قيمة لهم، وإن خرجوا، السقوط المحتّم مصيرهم. إن خرج أحدهم، وإيران المرشح الأوفر حظاَ، زاد استعباد الروس لهم، وانفضحت كذبة السيادة أبدياً، والسقوط الحتمي هو المصير. هذا في السندان، أما في المطرقة، فأميركا تضع يدها على سورية المفيدة فعلياً، وتركيا على حدود الشمال؛ وحدود الجنوب والشرق لا تنفع معها بروباغندا التحشيد أو الاستسلام عن طريق "المصالحات".
تستمر مكابرة منظومة الاستبداد؛ فبعد التعنت وعرقلة أي فرصةٍ لحل سياسي، وبعد اضطرار روسيا لنوعٍ من الحصاد السياسي بعد ثلاثة أشهر من التدخل (تحولت إلى ثلاث سنوات)، وبعد تحايل روسيا على القرارات الدولية، وسعيها إلى تفصيل حل بمقاسها ومقاس المنظومة، تراها أخيرا مأزومةً على حل عبر تكوين لجنة دستورية تجاوبت معها منظومة الأسد مرغمة بعد سحبها القبول من فم الأسد أمام كاميرا بوتين في سوتشي... بعد كل ذلك الانسحاق، تشيع منظومة الاستبداد مفردة "خلصت" للمرة المئة.
لا أيتها المنظومة؛ ما خلصت؛ وكي تخلص لا بد من رسم دستور جديد، ينهي تحكم فردٍ بالبلاد والعباد، يخلق البيئة الطبيعية المحايدة المناسبة، ليختار شعب سورية مَن يريد أن يتعاقد معه لحمل مسؤولية الحكم الخالي من الاستبداد والظلم والإجرام.
منظر الشاشة الباهر، وخطاب المحبَطين والمحبِطين واليائسين والميأسين، وهراء إعادة الإعمار عن طريق دول السلاح والفقر، والقانون رقم عشرة، والمجتمع المتجانس، و"أنصاف الرجال"، والخطف، وأخذ الرهائن والأتاوات ممن تبقى من "جيش حماة الديار"، وتحكّم الشرطة العسكرية الروسية بمليشيات "الدفاع الوطني" وحلها، واستدعاء رئيس المنظومة إلى سوتشي، وهذر وليد المعلم، والشبيحة الذين تسللوا إلى أوروبا، وإسرائيل التي تريد أن تثبِت ضمها الجولان واستهدافها عصابات إيران في سورية، ومضافة امتحانات الثانوية، وحال "داعش" المتلاشي وجبهة النصرة المكشوف؛.... لا يشي ذلك كله بأنها خلصت. تخلص فقط عندما تخلصون؛ وستخلصون. ملفات الإجرام تنتظركم في لاهاي. صور التعذيب حتى الموت التي نقلها سيزر (القيصر) حاضرة. بيوت سورية ومشافيها وأسواقها المدمرة حاضرة جداَ. لا يزال مفعول السلاح الكيميائي حاضراَ جداَ جداَ، حتى عند أرواح من استخدمه.
الأهم من ذلك كله أن هناك من لا يزال مصمما على الخلاص، طالما عقله ونفسه يعملان. سـ"تخلص" وستعود سورية إلى سكة الحياة؛ ولكن حرة من الاستبداد والاستعباد والتزييف والبيع الرخيص من أجل بقاء الطغمة. هذا ليس تفكيراً رغبوياً؛ إنه المسار الطبيعي للتاريخ؛ حتمي، حتى ولو طال الزمن.
بغض النظر عما قاله بشار الأسد، في مقابلته أخيرا مع صحيفة بريطانية، عن خلافات مع حليفه الروسي، ونفيه أن تكون روسيا تملي عليه قرارته؛ وبغض النظر عن كلام الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، في ذكرى يوم القدس، إنه مستعد لإخراج قواته من سورية، إذا طلبت منه القيادة السورية ذلك؛ فالأكيد أن الأسد لا يقدر على رفض مطالبة الروس بخروج القوات الأجنبية من سورية، بما فيها الإيرانية ومقاتلي حزب الله. والأكيد أيضاً أن قرار خروج مقاتلي حزب الله في يد القيادة الإيرانية أولاً.
واضح اليوم أن مفاوضات الروس حالياً مع جميع الأطراف، لتحقيق استعادة جيش نظام الأسد على المنطقة الحدودية الجنوبية، شكلت تحولاً في العلاقات بين أعضاء التحالف المؤيد للنظام، وأظهرت إلى العلن التضارب بين المصالح الروسية والمصالح الإيرانية في سورية. كما أبرزت دور إسرائيل في رسم الخطوط الحمراء وبلورة الوقائع على الحدود في هضبة الجولان.
ضمن هذا السياق، تبرز خمس حقائق: الأولى التي ليس في وسع نظام الأسد إنكارها أنه لولا القوات الإيرانية ومقاتلي حزب الله والمليشيات الشيعية، لما استطاع الأسد الصمود في الحرب الأهلية السورية الدموية، لكن الروس هم من حققوا انتصاره في هذه الحرب، ورجّحوا الكفة لصالحه.
الحقيقة الثانية التي يعيها ضمناً نظام الأسد أن مصلحته الآن تتلاقى مع المصلحة الروسية، الرامية إلى تعزيز نظامه واستعادته السيطرة على كامل أراضي سورية. وهي تتعارض حالياً مع مصلحة إيران التي تهدف إلى تعزيز وجودها العسكري في سورية، الأمر الذي قد يعوق سيطرة الجيش السوري على هضبة الجولان، في ظل التهديدات الإسرائيلية ضد الوجود العسكري الإيراني.
الحقيقة الثالثة، أوضحت إسرائيل، في مفاوضاتها مع الروس، أنها ليست ضد عودة الأمور إلى ما كانت عليه قبيل اندلاع الثورة في سورية. وفي الواقع الدعم الذي يقدمه بنيامين نتنياهو إلى الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، بمثابة موافقة علنية على سياسة الأخير في سورية، أي قبول إسرائيل بعودة جيش الأسد إلى الحدود، لكنها تشترط حدوث ذلك بإبعاد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني ومليشيا حزب الله عن الحدود، ولن تقبل التنازل عن هذا الشرط.
الحقيقة الرابعة، حتى سقوط مدينة حلب في 2016، نجحت العقيدة العسكرية التي طبقتها إيران في سورية باستخدام مليشيات شيعية تقاتل على الأرض، وتأتمر بأوامرها. وبحسب دراسةٍ نشرها معهد واشنطن للدراسات الاستراتيجية، انتقلت إيران، بعد ذلك، إلى مرحلة جديدة، تميزت بترسيخ وجودها العسكري في سورية، واستأجرت لهذه الغاية أكثر من 20 منشأة عسكرية سورية لتخزين المدافع والصواريخ الباليستية للحرس الثوري، بالإضافة إلى منصات صواريخ والطائرات من دون طيار، والعمل على استكمال بناء ممر برّي يربط طهران بسورية. ما تفعله إيران اليوم هو دفاعٌ عن مصالحها البعيدة المدى من خلال وجود عسكري دائم في سورية. والسؤال الآن: هل مع قرب انتهاء القتال في سورية تحولت القوات الإيرانية من رصيد إلى عبء؟
الحقيقة الخامسة، على الرغم من التحالف القوي اليوم بين روسيا وإيران الذي يستند إلى مصالح مشتركة في سورية، وإلى سياسةٍ معادية للغرب إجمالاً، والولايات المتحدة خصوصاً، فإن لروسيا علاقات جيدة وقديمة مع تل أبيب، تعود إلى عدة أسباب، منها وجود أكثر من مليون مهاجر من أصل روسي في إسرائيل، وكون تل أبيب جسرا بين موسكو وواشنطن. وهذا يفسر التواصل الدائم والعلاقات الجيدة بين بوتين ونتنياهو. وقد كان الأخير من القادة البارزين القلائل الذين شاركوا بوتين في موسكو الاحتفالات بالانتصار على النازية. قد تكون روسيا بحاجة إلى إيران على المدى القصير. ولكن لا شيء يضمن استمرار ذلك بعد التسوية السياسية في سورية، خصوصاً إذا كان الوجود العسكري الإيراني هناك سيعرّض للخطر هذه التسوية، أو سيزعزع استقرار نظام الأسد مستقبلاً، في ظل التهديدات الإسرائيلية المعارضة لهذا الوجود.
يسعى الروس إلى تسويةٍ تضمن، بالدرجة الأولى، مصالحهم على المدى البعيد، وتعزّز استقرار نظام الأسد، ولا تغضب الإيرانيين، وتهدّئ من مخاوف الإسرائيليين. والسؤال: ما الذي ينتظره فعلا الإسرائيليون من الروس؟ برأي خبراء عسكريين إسرائيليين، الرعاية الروسية لإخراج المعارضة من جنوب سورية، وإبعاد الإيرانيين وحزب الله مسافةً معينة عن الحدود، يمكن أن تؤدي إلى نتائج تكتيكية قد تخدم إسرائيل في المرحلة الحاضرة. لكن مشكلة الوجود العسكري الإيراني لن ترى طريقها إلى الحل في رأي هؤلاء، ما لم يجر التوصل إلى حل لمشكلة المواقع العسكرية التي يشغلها الإيرانيون في أماكن متفرقة من سورية، وتفكيك منشآتٍ أقامتها لتطوير سلاح نوعي لحزب الله. وحل هذه المسألة سيكون على الأرجح على عاتق إسرائيل نفسها.
منذ قراية شهرين وحتى اليوم يواصل المسؤولين في لبنان حراكهم السياسي وتصريحاتهم ضد وجود اللاجئين السوريين، مصرين على ضرورة عودتهم إلى بلادهم، على اعتبار انها باتت أمنة في ظل سيطرة النظام وحلفائه على مناطق هؤلاء اللاجئين.
وكانت البداية مع إصدار النظام في سوريا القانون رقم 10 والذي من شأنه أن يحرم اللاجئين في لبنان من السوريين من ممتلكاتهم وينتزعها منهم النظام بهذه الأسالبب والقوانين مايعني بقائهم في لبنان وعدم قدرتهم على العودة، وهذا حق لحكومة لبنان في إبداء تخوفها، إلا أنه فيما يبدو لم يكن تخوفاً بقدر استغلال الأمر للتصعيد ضد اللاجئين.
طيلة سنوات الحرب الدائرة في سوريا ولجوء قرابة مليون سوري إلى لبنان هرباً من قصف وقتل النظام وحليفه الأبرز حزب الله اللبناني الذي يشارك النظام بشكل فاعل في قتل الشعب السوري وتهجيره ولم يحرك مسؤولي لبنان ساكناً واكتفوا بتصريحات هشة على وجود الحزب في سوريا.
ومع سيطرة النظام على جل المناطق في سوريا لاسيما حول العاصمة، والسعي للظهور بمظهر المدافع عمن قتلهم وهجرهم وانه كان يحارب الإرهاب لتسويق نفسه كان لابد لحزب الله وبأيادي عدة في لبنان من الدفع لإجبار اللاجئين على العودة للمناطق التي هجروا منها بشكل قسري، لتأكيد نظرية الأمن والأمان الذي نشره النظام وأنه حان الوقت لعودة من خرج منها على اعتبار أنه لم يخرج هرباً من النظام بل من "الإرهابيين".
يعاني لبنان منذ أعوام اضطراباً سياسياً واقتصادياً وخدماتياً بشكل كبير، وهناك عشرات المشكلات التي من المفترض أن يسعى مسؤولي لبنان الدولة الجارة التي احتضن السوريين أبنائهم إبان حرب تموز ولم يتوانى الشعب السوري من شماله حتى جنوبه في تقدم العون لهم، إلا أن مسؤولي لبنان لم يبق لهم قضية ومشكلة إلا قضية اللاجئين.
لم تتوقف القيادة الروسية منذ إعلانها الأول عن تحقيقها النصر في سورية عن السعي للحصول على إقرار الدول الفاعلة في الملف السوري (الولايات المتحدة، إيران، تركيا، إسرائيل، الأردن، السعودية، قطر) بانفرادها في التقرير على الأرض السورية والتسليم لها بصياغة الحل السياسي الذي يعبر عن هذا «الواقع».
وقد أخذ تعبيرها عن هذه الرغبة أشكالاً وصوراً ديبلوماسية وسياسية وعسكرية، من عرقلة مفاوضات جنيف ومنع تحقيق تقدم فيها إلى تشكيل مسار موازٍ في آستانة، ووضع مسودة دستور بديل للدولة السورية والعمل على تسويقها، وعقد مؤتمر حوار في سوتشي والعمل على تمرير نتائجه عبر الأمم المتحدة، مروراً بحماية النظام من المحاسبة والمعاقبة في مجلس الأمن الدولي باستخدام حق النقض (الفيتو) 12 مرة، واستخدام قوة نيران كبيرة وسياسة الأرض المحروقة للقضاء على المعارضة المسلحة وتهجير المواطنين ودفع المعارضة السياسية إلى القبول بما يملى عليها، وعقد اتفاقات على مناطق خفض التصعيد من دون العودة إلى النظام أو إشراكه في صياغتها، وفرض اتفاقات عسكرية عليه (اتفاقيتين حول القاعدة البحرية في طرطوس والجوية في مطار حميميم) واقتصادية (استثمار النفط والغاز والفوسفات واحتكار إعادة الإعمار)، وصولاً إلى صور إعلامية فجة من النوع الذي حصل في قاعدة حميميم بمنع رئيس النظام من التقدم مع الرئيس الروسي نحو المنصة، أو دعوته إلى القاعدة ليفاجأ بأنه أمام وزير الدفاع الروسي، أو حمله إلى روسيا في طائرة عسكرية وحيداً أكثر من مرة لمقابلة الرئيس الروسي، الذي سيقدم له أركان جيشه الذي حقق النصر على «الإرهاب» في سورية، ويبلغه بقراراته حول الشأن السوري.
صحيح أن القيادة الروسية حققت نجاحاً مهماً عبر صياغة تفاهمات وتحديد أدوار ومناطق نفوذ مع الدول الفاعلة على الأرض السورية، لكنها توهمت أن ما حققته قد حسم الصراع على سورية، بعد «إنهائها» الصراع في سورية بين النظام والمعارضة بإضعاف المعارضة السياسية واختراقها وسحق المعارضة المسلحة بفرض تسويات مناطقية ومصالحات مذلة عليها والسيطرة على مساحات شاسعة كانت تحت سيطرتها، وأنه بات في مقدورها فرض رؤيتها وصيغتها للحل على الدول الفاعلة، بمن في ذلك حليفتها في القتال إلى جانب النظام: إيران.
لقد وجدت القيادة الروسية، بإعطاء موافقتها على طلب إسرائيل إبعاد القوات الإيرانية والميليشيات التابعة لها مسافة 60 إلى 80 كيلومتراً عن حدود الجولان المحتل، نفسها في موقف حرج وخطر في ضوء رفض إيران وميليشياتها الشيعية لتفاهمها مع إسرائيل، وانكشاف هشاشة التوازنات السياسية والميدانية التي صاغتها، حيث عبرت ردود فعل إيرانية، سياسية وميدانية وإعلامية، عن رفض الاتفاق الروسي الإسرائيلي، رفضت إيران، بصيغ مباشرة وغير مباشرة، دعوتها إلى الخروج من جنوب سورية بالإعلان عن عدم وجود قوات إيرانية في الجنوب، ما يفقد الاتفاق الروسي الإسرائيلي مبرراته، وهو ما دفع القيادة الروسية إلى رفع سقف مطلبها بدعوة كل القوات الأجنبية، وتسمية القوات الإيرانية وحزب الله ضمن قائمة القوات المدعوة إلى الخروج من سورية. وردت إيران بالإعلان عن عدم وجود قوات إيرانية في سورية، مجرد مستشارين عسكريين، وبررت وجودهم بدعوتهم من قبل السلطة الشرعية فيها، وعرضت وسائل إعلامها وتصريحات مسؤوليها حجم مساهمتها في الصراع في سورية: الأموال (30 مليار دولار أميركي) والأسلحة والذخائر والميليشيات والقتلى (2000 قتيل إيراني و1640 من حزب الله وحوالى 8000 عراقي وأفغاني وباكستاني)، وبإلقاء قفازات التحدي في وجه القيادة الروسية بالإعلان عن رفض الانسحاب من سورية (إعلان أمين عام حزب الله، حسن نصرالله، «أن عناصره لن يغادروا سورية حتى لو اجتمع العالم ضدهم»)، وهذا دفعها إلى الرد بنشر قوات لها على الحدود السورية اللبنانية في محافظة حمص في منطقة القصير، لإجبار قوات حزب الله هناك على الانسحاب، وفي القلمون ومعبر جوسية.
أطلقت الدعوة الروسية إلى انسحاب كل القوات الأجنبية من سورية، باستثناء القوات الروسية التي تتمتع وحدها بشرعية البقاء، مواقف محلية وإقليمية ودولية عكست رفض التقديرات الروسية حول الصراع على سورية والتصورات السياسية والميدانية المرتبطة بها. فقد وجد النظام الفرصة سانحة للتعبير عن تحفظه بالإعلان عن شرعية الوجود الإيراني على الأرض السورية وحصر الحق في دعوتها للخروج بالنظام، حق سيادي، واستثمار تركيا اللحظة السياسية بالضغط من أجل الحصول على ضوء أخضر لدخول تل رفعت، وعقد اتفاق مع الولايات المتحدة حول منبج، وتصعيد الضغط الأميركي والإسرائيلي على روسيا لتنفيذ دعوة رئيسها إلى خروج القوات الأجنبية بإخراج القوات الإيرانية، صعدت إسرائيل ضغطها بإجراء مناورات برية ضخمة في الجولان المحتل وتدريبات جوية فوق اليونان شملت كيفية التعامل مع صواريخ أس 300 الروسية خلال القصف، مكّنتها اليونان، التي تمتلك منصات منها منصوبة على أراضيها، من تحقيق ذلك، وعرقلة الإدارة الأميركية للتحرك الروسي لإعادة بسط سيطرة النظام على الجنوب السوري، عبر الإعلان عن تمسكها باتفاق خفض التصعيد وتحذيرها من القيام بعمل عسكري هناك. ربطت القيادة الروسية التصعيد الإسرائيلي بالتحريض الأميركي على ضرب إيران وإخراجها من سورية، تنفيذاً لتهديداتها التي تلت انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي معها، ما رفع توترها، لأنها ترى في انفجار حرب إسرائيلية- إيرانية في سورية نسفاً لكل ما حققته فيها، فشنت حملة ديبلوماسية وإعلامية ضد الولايات المتحدة اتهمتها بدعم «داعش»، والتخطيط لاستفزاز جديد عبر القيام بعملية تفجير مواد كيماوية سامة في محافظة دير الزور لتبرير هجوم جديد على النظام السوري.
لقد خلط الاتفاق الروسي- الإسرائيلي على سحب القوات الإيرانية بعيداً عن حدود الجولان المحتل الأوراق وفتح، من جديد، باب المساومات والمقايضات على ترتيبات بديلة للتفاهمات القائمة، كانت القيادة الروسية قد اعتبرتها راسخة ونهائية وقابلة للتوظيف في التقدم إلى الإمام على طريق فرض الشروط الروسية وتنفيذ التصور الروسي للحل في سورية، وقد رفع حدة حرج موقف القيادة الروسية كونها ما تزال تحتاج التحالف مع إيران وتوظيف الانتشار البري الإيراني في حماية مناطق سيطرة النظام، لأن البديل نزول قوات روسية وتحقيق هدف أميركي في استدراجها إلى مستنقع جديد، في إعادة للتجربة الأفغانية، تهزم فيه، أو دفعها إلى الاتفاق مع واشنطن على تفاهم على مستقبل المنطقة بالشروط الأميركية، ما وضعها بين نارين: بلع الإهانة الإيرانية والاحتفاظ بالتحالف معها ريثما تنجز تفاهمها مع واشنطن، وهذا ينطوي على خطر تحويل سورية إلى ملعب لإيران يصعب السيطرة عليه لاحقاً، أو القبول بالشروط الأميركية والاصطدام مع إيران لإخراجها من سورية وخسارة ورقة من أوراق القوة بتحالفها مع إيران.
تتكشف في خصوصية العيد الصور الأكثر إيلاماً وغزارة عن شدة ما يكابده السوريون، جراء استمرار حرب دموية طالت وطاولت كل شيء في حيواتهم، مخلفة دماراً وخراباً هائلين، ومئات الآلاف من القتلى والجرحى، ومثلهم من المعتقلين والمفقودين، وملايين النازحين واللاجئين، ولا نحتاج إلى كثير من التأمل والتفكير كي نقدر المعاناة المضاعفة في يوم العيد للمقهورين والمشردين في شتى بقاع الأرض، ولأولئك الذين يستحضرون، صبيحة العيد، ملامح أحبتهم وأبنائهم من الضحايا أو المفقودين أو من المعتقلين والمغيبين قسرياً، لكن ما يزيد الطين بلة اليوم، تلك التبدلات الحاصلة في المشهد السوري والتي تعمق أوجاع الناس وتوجسهم من تفاقم هذا العذاب والخراب والضياع.
والبداية من ملايين السوريين الهاربين من أتون العنف والاعتقال، والذين يستقبلون العيد وقد كثرت أسئلتهم الحائرة والخائفة على مصيرهم، جراء ارتهان بقائهم وشروط حياتهم، ليس بواجب الحماية الإنسانية، بل بالتطورات السياسية التي تجري في بلدان الاغتراب. والأمثلة كثيرة، تبدأ بتنامي حالة من التوجس والخشية عند طالبي اللجوء في الغرب، مع تقدم وزن التيارات الشعبوية اليمينية التي لا توفر مناسبة لمحاصرتهم وتهديد وجودهم وشروط عيشهم، مروراً بالاندفاعات العدائية ضدهم التي تلت الانتخابات النيابية اللبنانية وتوجت بموجة من التصريحات تتعمد، زوراً وبهتاناً، تحميلهم مسؤولية ما آلت إليه الأوضاع الاقتصادية من تدهور وفساد، ربطاً بتشديد المطالبة بإعادتهم إلى بلادهم دون الاهتمام باستقرار الأوضاع الأمنية والسياسية هناك، وبما يمكن أن ينتظرهم من عمليات انتقام وإذلال واعتقال، وأوضح التجليات المعركة التي افتعلها وزير خارجية لبنان مع منظمات الأمم المتحدة المعنية بشؤون اللاجئين، ومطالبته بوقف منح الإقامة المؤقتة للعاملين فيها وللنازحين السوريين، تلتها دعوة رئيس الجمهورية وفداً برلمانياً غربياً للتعاون من أجل الحد من تدفق السوريين وتسهيل عودتهم إلى بلادهم... انتهاء بتضاعف نوازع خوف اللاجئين السوريين من عدم الاستقرار والأمان في المخيمات أو المدن التركية، ليس فقط بسبب هشاشة حياتهم وتراجع فرص العيش والتعليم مع تراجع المعونات المقدمة من منظمات الإغاثة الدولية ومع إحكام حكومة أنقرة رقابتها على شروط حياتهم وحركتهم، وإنما أيضاً خشية من مستجدات سياسية قد تنعكس عليهم مع اقتراب الانتخابات البرلمانية التركية، ليصح تفسير بعض الاندفاعات التمييزية التي بدأت تظهر ضدهم، وإن على نطاق ضيق، بوصفها محاولة يتبعها حزب العدالة والتنمية، لإرضاء وكسب أوساط من المجتمع التركي لا تحبذ احتضان هؤلاء اللاجئين أو متضررة من وجودهم، مثلما يصح فهم تنامي ظواهر الخوف والقلق عند اللاجئين السوريين من احتمال قدوم حكومة في أنقرة لا تجد فيهم المنفعة؛ بل تعدهم أحد مسببات مشكلات تركيا الاقتصادية التي بدأت تتفاقم مع تراجع قيمة الليرة وتعدد ظواهر الركود.
ومن المشهد، تلحظ في العيد، حين تقترب من الوجوه وتلمس الأيادي المرتعشة، ثقل المعاناة ووطأة العوز والحاجة عند الناس، جراء التدهور المريع للوضع الاقتصادي، وانهيار كثير من المنشآت والقطاعات الإنتاجية، وتهتك الشبكات الخدمية والتعليمية والصحية، مما أفضى إلى تردي شروط الحياة وصعوبة الحصول على السلع الأساسية، في ظل تراجع شديد في القدرة الشرائية وتفشي غلاء فاحش لا ضابط له، ربطاً بتدهور غير مسبوق في قيمة الليرة السورية أمام الدولار وغيره من العملات الأجنبية، وأفضى تالياً إلى ازدياد كبير وخطير في أعداد الأسر السورية العاجزة عن توفير أبسط مستلزمات العيش، كالغذاء والكساء والدواء، وعن التكيف مع شح الماء والكهرباء، وتراجع الفرص التعليمية والصحية، خصوصاً لمئات الآلاف من الأطفال، فكيف الحال أمام متطلبات العيد؟! وكيف الحال مع الملايين الذين باتوا بلا مأوى وفي حالة قهر وعوز شديدين وقد فقدوا كل ما يملكون أو يدخرون، ومنشغلين بلملمة جراحهم وتسكين آلامهم؟! وكيف الحال مع تفكك قطاع الدولة وتراجع دوره في تخفيف معاناة العاملين فيه، ولنقل فقدانه القدرة على ضمان ولائهم عبر رشوتهم بزيادة أجورهم وتأمين بعض مستلزمات حياتهم؟!
ويكتمل المشهد المأساوي بوقوف غالبية السوريين هذا العيد في حضرة ما يسميه النظام «انتصاراً» وقد تمكن بعد استجرار دعم عسكري خارجي واسع من استعادة كثير من المناطق التي خرجت عن سيطرته لسنوات، وحشر مختلف فصائل المعارضة المسلحة في الشمال والجنوب السوريين. والأمر لا يتعلق فقط بما يثيره الترويج المستفز لهذا الانتصار الزائف؛ بل بما يرافقه من ممارسات ابتزازية وانتقامية ضد المجتمع السوري الذي تجرأ وثار على رعاته وسادته... كذا! فأي عيد للسوريين وقد تكرس القمع المنفلت وتشرعن وباتت لحظة خلاصهم بعيدة؟ وأي عيد مع هذه العودة المقززة لأساليب الماضي القهرية والتمييزية، لكن بأشكال أكثر احتقاراً وإذلالاً للإنسان وحقوقه؟ وأي عيد في ظل شيوع حالة رعب عامة جراء انحسار شروط الأمن والسلامة، وانتشار مراكز قوى وجماعات سلطوية غير منضبطة، تأمر وتنهى وتتحكم في الأرض وتقرر بقوة السلاح ما يحلو لها بمصائر البشر وممتلكاتهم، من دون أن يطال المرتكبين أي حساب أو عقاب؟ وتتواتر يومياً الحكايات عن حجم تعديات المسلحين وتنوع تجاوزاتهم ضد حيوات الناس وحقوقهم... عن مواطنين أبرياء يتعرضون، ولأسباب تافهة، للإذلال والابتزاز والأذى وللتنازل مثلاً، عن أراضيهم أو بيوتهم أو سياراتهم... عن تحسر عائلات على فشلها في تأمين «الفدية» لاسترداد أحد أبنائها المخطوفين!
والحال، في زحمة هذا المشهد المؤلم، أنه لن تخدعك جوقات صغيرة من السوريين تصطنع فرح العيد، وتبالغ في إظهار سعادتها وبهجتها، منهم ربما من لا يعنيهم ما حصل من خراب وضحايا ما داموا قد سلموا برؤوسهم وأموالهم، ومنهم من يريدون أن يهربوا من كوابيس مرعبة تحفزها ذاكرة مكتظة بصور التعذيب الشنيع والمجازر والتدمير والقتل المعمم، ومنهم من قد يتقصدون من وراء تعظيم هيصة العيد تفريغ انفعالات يحكمها الأسى والتشتت ومغالبة أرواحهم الحزينة والضائعة.
شيئاً فشيئاً بدأت المعارضة السياسية السورية تنفصل عن واقع شعبها الثائر، وثورتها التي طالبت بإسقاط النظام، وقدمت من أجل هذا أكثر من مليون شهيد، و12 مليون مشرد، ومئات الآلاف من المعتقلين، وأضعافهم جرحى ومعاقين، لنجدها اليوم تقصر عملها وشغلها على اعتماد دستور ثبت أن الاحتلال الروسي قد كتبه، وعمده شريكه الإيراني، وكأن الثورة والشهداء والعذابات والدمار والخراب، كلها من أجل إصلاحات دستورية، وكأن شبيحة وعفيشة العصابات الطائفية تنتظر دستوراً لكي تطبقه، وهي تعفش وتدمر وتخرب، وتستخدم الكيماوي والبراميل المتفجرة، وكل أسلحة الدمار الشامل.
مع كل يوم نرى ابتعاد المعارضة السياسية السورية عن اهتمامات وانشغالات الثورة والثوار، تجلى ذلك في داخلها يوم خرج من أبناء جلدتها رافضين سياستها، وبقدر اقترابها من العصابة الطائفية ومن منصاتها المعلنة والمستترة كانت المعارضة السياسية تبتعد عن شعبها وثورتها، يوم محضها دعمه وتأييده بتشكيلها المجلس الوطني السوري وما بعده، حتى غدت هذه المعارضة أكثر تمثيلاً واستجابة لرغبة مجتمع دولي مجرم، آثر ترديد رواية العصابة والاحتلال، أكثر من اهتمامه برواية المشرد والمعذب والشهيد والثائر.
كل المعارك السياسية التي خاضتها المعارضة كانت وبالاً على الثورة وشعبها، ولعل ما حصل في الآستانة ثم في سوتشي، وقبلهما جنيف خير دليل على ذلك، فالشعب المسكين لم يعرف حتى تفاصيل هذه الاتفاقيات ليحاكم موقعيها عليها، وإنما ظلت غامضة ومبهمة، والأصح أن المعارضة نفسها لم تعرف تفاصيل هذه الاتفاقيات، فكان حال شهود الزور أفضل منهم، فشهود الزور على الأقل يعرفون على ماذا يشهدون زوراً، أما هؤلاء فقد شهدوا على ما يجهلونه، وشهدوا على شيك بياض يريده الأعداء لهم أن يشهدوا عليه.
الانقلاب الذي حصل في مواقف المجتمع الدولي، ومعه المعارضة السياسية السورية، من إسقاط العصابة الطائفية، إلى رحيل النظام، ثم مجلس حكم انتقالي، فدستور لا يعلم أحد سقفه الزمني، ومعه تم شطب كل ما تعهدت به المعارضة أمام شعبها، وتعهد به النظام أمام قرارات دولية، وراح معه الحديث عن مئات الآلاف من المعتقلين المعذبين، كل هذا يذكرني بمقابلة للنائب عبد الحليم خدام، حين تحدث عن كيف كان يتلاعب النظام بالحديث عن الإصلاحات، فبعد أن تعهّد بشار يوم وصوله إلى السلطة بإصلاحات سياسية، تراجع إلى إصلاحات قانونية، ثم إصلاحات إدارية، ليتم تفريغ الإصلاح كله من مضمونه، وهي اللعبة التي يكررها مع المعارضة السياسية اليوم، الذي زاد عليها بزرع معارضات كاذبة في وسطها من صنعه وصنع أسياده، ليقوم بتفجيرها من الداخل، بل وتطالب حتى بعودة النظام السوري إلى مناطق حررها الآلاف من الثوار يوماً ما، ومع هذا تظل هذه المعارضات الصورية الداعمة للعصابة الطائفية من تمثل ثورته.
هل يتذكر من يطالب بتغيير الدستور إلغاء المادة الثامنة من الدستور الذي كلّ الشعب وملّ وهو يطالب بإلغائها لعقود، فألغيت فماذا كانت النتيجة؟ لقد بدأ الكثير يترحم عليها، بعد أن رأى ما حلّ به، المشكلة ليست في البردعة.. المشكلة في الحمار، وما لم يتغير الحمار فلن يكون هناك تحسن، أو تطور، الحصان قبل العربة، ويكفي بيع للوهم وحرث في البحر.;
تعرضت مدن وبلدات في محافظة إدلب، الأسبوع الماضي، إلى قصف جوي عنيف من طيران النظام، بعد أشهر من الهدوء النسبي في إطار مسار أستانا. وكانت الكلفة البشرية مرتفعة جدا، في بلدة زردنا بصورة خاصة، حيث قتل 48 مدنيا، فيما استهدف القصف مشفى أطفال في تفتناز قتل فيها عشرة أشخاص نصفهم أطفال. كما استهدف القصف بلدات وقرى بنش وأريحا ورام حمدان وقرى أخرى. وشهدت تلك المناطق حركة نزوح كثيفة باتجاه الحدود التركية المغلقة في وجه اللاجئين.
ويمكن إدراك خطورة ما تواجهه منطقة «خفض التصعيد» هذه من قراءة تصريحات منسق الشؤون الإنسانية للأمم المتحدة، بانوس موميتز، الذي حذر من موجات نزوح كبيرة قد تصل إلى مليونين ونصف المليون هم عدد السكان الأصليين إضافة إلى النازحين من مناطق أخرى على مدى السنوات السابقة. وتحدث موميتز عن «حالة تأهب قصوى» لدى فرق الإغاثة التابعة للأمم المتحدة في المناطق المستهدفة.
اللافت أن تركيا، بمسؤوليها وإعلامها، لزمت الصمت بشأن هذا التصعيد الخطير في منطقة مجاورة لحدودها، تنتشر فيها نقاط مراقبة للجيش التركي، ومن المفترض أنها تحت الحماية التركية وفقا لتفاهمات أستانا مع روسيا وإيران. وإذا كانت روسيا قد نفت مشاركة طيرانها في قصف تلك المناطق، فهذا لا يعفيها من مسؤولية ما يقوم به طيران النظام الكيماوي الذي لا يستطيع الإقلاع من أي مطار بدون موافقة روسية.
هذا ما يسمح لنا بطرح افتراضات عما يدور تحت الطاولة أو وراء الأبواب المغلقة. من المحتمل أن روسيا التي لم تنجح، إلى الآن، في الوصول إلى تفاهمات مع الولايات المتحدة بشأن سوريا، شبيهة بتفاهماتها مع الإدارة الأمريكية السابقة، تعمل على تخريب التقارب المحتمل بين أنقرة وواشنطن بصدد ما سمي بخارطة الطريق بشأن منبج. مع العلم أن القراءتين التركية والأمريكية مختلفتان، إلى الآن، لخارطة الطريق المذكورة. ففي حين تسعى تركيا إلى تسويقها كإنجاز لسياستها الخارجية، يحقق مطالبها بطرد القوات الكردية من المدينة، يحتفظ الأمريكيون بالغموض بشأنها، فيما يستمر تحالفهم الميداني مع «قوات سوريا الديموقراطية» في مطاردة بقايا قوات «تنظيم الدولة» شرقي نهر الفرات.
يمكن، إذن، قراءة كل من الغموض الأمريكي والتصعيد الروسي، كفكي كماشة تضغط على أنقرة لتحدد خياراتها الاستراتيجية وتموضعها في التنافس الأمريكي – الروسي، في وقت تنام تركيا وتستيقظ على وقع حملة انتخابية مزدوجة، برلمانية ورئاسية، يقترب موعد إجرائها باطراد، ويشتعل التنافس فيها بين الحكم والمعارضة، ولا يبدو فيها كل من الرئيس أردوغان وحزبه في أفضل حالاتهما.
حتى منافسي أردوغان في الانتخابات الرئاسية، وأحزاب المعارضة، لا يتوقعون أن يخسر أردوغان في الانتخابات الرئاسية، لكن حزب العدالة والتنمية قد يخسر غالبيته البرلمانية أمام مجموع أحزاب المعارضة، وإن كان سيبقى صاحب الحصة الأكبر في مقاعد البرلمان الـ600. وفي هذه الحالة قد لا يتمكن من تشكيل حكومة بمفرده أو مع حليفه الصغير «حزب الحركة القومية»، ما لم يتمكن من استمالة أحد أحزاب المعارضة، وتبدو هذه في حالة إجماع على وجوب تغيير الحكم.
خسارة الغالبية البرلمانية قد ترغم السلطة على إعادة الانتخابات، بعد ثلاثة أشهر، وهو ما يحتم إعادة الانتخابات الرئاسية أيضا، وفقا للتعديلات الدستورية التي ربطت بين البرلمانيات والرئاسيات.
الطريقة الوحيدة لعدم خسارة «العدالة والتنمية» وحليفه القومي الغالبية البرلمانية، هي في إفشال «حزب الشعوب الديموقراطي» في تجاوز حاجز العشرة في المئة المشترطة لدخول نوابه إلى البرلمان. ففي هذه الحالة تذهب أصوات ناخبي الحزب الكردي إلى منافسه التقليدي في مناطق نفوذه، أي حزب العدالة والتنمية. ويتراوح عدد المقاعد النيابية التي قد يخسرها «الشعوب الديموقراطي» ويكسبها «العدالة والتنمية»، في هذه الحالة، بين 60 – 70 مقعدا، من شأنها ترجيح الكفة للحكم أو مجموع المعارضة في مجلس النواب.
هذا ما يفسر غياب تصعيد إدلب، في المعركة الانتخابية، مقابل الحضور البارز لـ»خريطة طريق منبج» والحملة العسكرية على جبل قنديل حيث تتمركز القيادة الميدانية لحزب العمال الكردستاني. وحيث أن موضوع منبج لم يعط ثمارا واضحة وفورية، وبقي موضوع طرد قوات قسد منها، على ما تأمل القيادة التركية، غارقا في الغموض الأمريكي، تصاعدت نبرة الوعيد بشأن جبل قنديل التي تتعرض لقصف الطيران التركي فعلا منذ أشهر، ومن المتوقع أن يليه اجتياح بري «لتطهير تلك المنطقة من الإرهابيين»، كما توعد وزير الخارجية مولود شاويش أوغلو، اجتياح بري «يمكن أن يبدأ في أي لحظة» كما قال. وبالنظر إلى رغبة الحكومة في توظيف هذه الحملة العسكرية المرتقبة لمصلحة الحزب الحاكم في الحملة الانتخابية، سواء بكسب مزيد من أصوات التيار القومي المنقسم على نفسه، أو بدفع الحزب الكردي إلى ارتكاب حماقة ما عشية الانتخابات (كالدعوة إلى التظاهر مثلا، أو إطلاق تصريحات تخل بـ»الوحدة الوطنية»)، بما من شأنه دفنه تحت حاجز العشرة في المئة.
بالعودة إلى التصعيد الروسي في منطقة «خفض التصعيد» التركية في إدلب، لا بد من التذكير بما قاله وزير الخارجية الروسي، بعد لقاء بوتين – بشار في سوتشي، عن ضرورة انسحاب جميع القوات الأجنبية من الأراضي السورية. ولا تقتصر هذه على الإيرانيين وحدهم، بل تشمل تركيا أيضا التي تسيطر على منطقتي «درع الفرات» وعفرين، إضافة إلى 12 نقطة مراقبة في محافظة إدلب. من المحتمل، إذن، قراءة التصعيد الأخير بوصفه ضغطا مباشرا على تركيا يهدد بإخراجها من الأراضي السورية، ما لم تخضع خضوعا تاما للمطالب الروسية، والتزاما بالتحالف مع موسكو بدلا من التقارب مع واشنطن.
انتشرت أواخر شهر رمضان سلسلة من الإشاعات تلقفها السوريون في مهاجرهم بتفاؤل كما يتلقف الظامىء رشفة ماء، وكان أبرزها إشاعة حول عزم النظام السوري إصدار عفو عام عن كل المعتقلين والمطلوبين، وقد زاد عدد الملاحقين على مليون ونصف المليون من الذين انتشرت أسماؤهم في مواقع الأنترنت، كما انتشرت أنباء عن إنهاء الحواجز الأمنية، وعن اقتراب صدور هيكلة جديدة لأجهزة الأمن، وجعلها مؤسسة واحدة تجتمع فيها عشرات الفروع الأمنية، وتسربت أنباء عن انتشار الشرطة العسكرية الروسية وسيطرتها على ميليشيات الشبيحة، وعن ضم هؤلاء في الجيش النظامي، وكبرت أفراح مؤيدي النظام بانتهاء القضية السورية، وبعودة الحياة في دمشق إلى طبيعتها بعد أن تم تدمير الغوطة واليرموك وريف دمشق، وتهجير سكان هذه المناطق، وكان الانتصار الأكبر حين أجبر النظام ميليشيات «داعش» على إعادة التمركز والانتشار في البادية أو الذهاب إلى معسكرات «داعش» في منطقة مزيريب في الجنوب (في انتظار دور جديد لهم)، وقبل النظام المشاركة في إعداد دستور جديد، أو إجراء تعديلات على دستور 2012، وفي الوقت ذاته، أعلن تنظيم (البي واي دي)، استعداده للتفاوض مع النظام دون شروط، وبدأت الأخبار تتوالى عن قرب عودة المهجرين من لبنان، وكل ذلك يوحي باقتراب الوصول إلى حل سياسي يضمن بقاء النظام واستمراره، وسيتم الاكتفاء بمنح المعارضة مشاركة في حكومة وحدة وطنية، حسب الخطة الروسية.
لا أدري إن كان أحد من أولياء الدم، أو من المهجرين، أو من ذوي المعتقلين أو من المهجرين قسراً أو طوعاً قد يقبل بهذه النهاية المفجعة للسوريين بعد ثماني سنين من كارثة الدمار الشامل والإبادة الجماعية، التي شغلت العالم كله، وهل يمكن لأحد أن يتخيل إمكانية أن يوافق هؤلاء المعذبون في الأرض على العودة أسرى إلى سيطرة من دمروهم وشردوهم، ولاسيما أن النظام وضع شرطاً للعودة تم إعلانه رسمياً، هو تقبيل «الحذاء» العسكري، بما يعني إذلال السوريين وإرغامهم وإهانتهم. هذا المخطط الذي تسعى له روسيا لترسيخ انتصار النظام على الشعب ليس عملياً، ومحال أن يؤسس لعودة الأمن والأمان، فسيبقى المطلوبون (حتى لو صدر عفو عنهم) حذرين من تعرضهم للاعتقال، بل إن النظام سيصبح أشد وأعتى في قبضته الأمنية، وسيكون الشعب المعارض كله قيد الاعتقال، ولن يكون الخطر على العائدين من النظام وحده، وإنما سيكون من الشبيحة الذين اعتادوا على القتل والإذلال.
يتجاهل الروس مانص عليه بيان جنيف، وما أقرته القرارات الأممية بتشكيل هيئة حكم انتقالي تضم المعارضة مع ممثلي النظام، مع مستقلين وتكنوقراط، لترسم مستقبل سوريا وتصل بها إلى حكم غير طائفي، وتقوم بتشكيل مجلس عسكري مشترك يقوم بإعادة هيكلة عامة للجيش ولأجهزة الأمن، ثم تقوم بإعداد الدستور والاستعداد لانتخابات برلمانية ورئاسية.
إن البدء بإعداد دستور والانتقال إلى الانتخابات تحت سيطرة النظام (الذي لم يتوقف لحظة عن القصف والتدمير وهو يتابع رؤيته للحل العسكري ) سيكون التفافاً على الحل السياسي وإجهاضاً له، وامتهاناً لإرادة الشعب السوري، واستخفافاً بكل قرارات الأمم المتحدة، وانتصاراً لبقاء إيران وتحقيقاً لطموحاتها التوسعية في سوريا والمنطقة كلها عبر النظام الذي استدعاها للسيطرة على سوريا، ليضمن بقاءه من خلالها.
ولئن كانت الولايات المتحدة قد سلمت الملف السوري كله إلى روسيا، فإن عواقب هذا الموقف القاسي على الشعب السوري، ستنعكس سلباً على المنطقة كلها، فلن يعود اللاجئون في لبنان والأردن، لأنهم لن يكونوا في مأمن تحت سلطة النظام، ولن يعود اللاجئون السوريون من أوروبا التي بدأ اليمين فيها يعلن ضيقه بهم وبسواهم من اللاجئين، وستبقى القضية السورية مفتوحة على نزف الدماء وعلى الظلم، وعلى احتمالات الثأر المتبادل مستقبلاً.
يجب على المعارضة أن تتمسك بالقرار 2254،وألا تشارك في أي مقترح أو خطة تتجاوز تشكيل هيئة حكم انتقالي، ومجلس عسكري مشترك، وأن تحافظ على المبادئ التي أعلنها مؤتمر الرياض، ولن يكون بوسع أحد أن يفرض على السوريين ما يرفضونه، ولم يبق لدى شعبنا ما يخسره، ولتبق الحرية والكرامة وإنهاء الاستبداد أهدافاً لابد من الوصول إليها مهما طال الزمن.
تعيد الدول المتصارعة على النفوذ في سورية تأسيس دولة سورية -ما بعد الصراع-، من خلال هيمنتها على الواقع الميداني عسكرياً، وعلى الأطراف الداخلية المتحاربة (النظام والمعارضات) سياسياً، وذلك بتحويلها أطراف الصراع المحليين إلى مجرد أدوات، تارةً تنفيذية لرغبات الدول»التعطيلية» لأي حلول محتملة، وأخرى أدوات «تحريكية» لإنشاء مسار تفاوضي يؤسس لدولنة شتات سورية ما بعد حرب السنوات السبعة، أي لتنظيم صناعة مرحلة الفوضى المحتملة، وفق معايير تناسب في المرتبة الأولى الموقع الجغرافي لها، وتضبطه لما يحمله من حساسيات إقليمية خارجية، وكذلك لتوظيف الاحتقانات الداخلية وتوجيهها وإدارة صراعاتها بما يخدم معادلة الفوضى «الخلاقة للفوضى» في المنطقة.
والأسئلة هنا كثيرة قبل الحديث عن صياغة دستور لسورية يفقد الشعب السوري أحد حقوقه المنصوص عليها ضمن كل القوانين الدولية، حيث لا نعرف هل نحتاج إلى دستور ينظم الدولة، أم نحتاج بداية إلى وجود الدولة بأدواتها المجتمعية الآمنة قبل صياغة الدستور؟ والسؤال الذي لا مهرب منه، هل سورية اليوم تملك مقومات قيامتها كدولة حديثة من جديد؟ أي هل هي قادرة على لملمة مجموع إرادات القوى المحلية المهيمنة عليها تحت سلطة «دولة»؟ أم أن هذه الدولة المأمولة هي تنظيم نفوذ هذه القوى المحلية، ضمن معايير التحاصص على مستوى القيادات (أمراء الحرب)؟
أي أننا أمام تســـاؤلات تتعلق بالدور المجتمعي في إقامة الدولة الســـورية من جديد، هذا الدور الذي تم إقصاؤه منذ المراحل الأولى لتطور الصراع بين النظام والثائرين عليه، ليغدو بين النظام وداعميه الدوليين من جهة، ضد المعارضين المســــلحين غير المـــتآلفين، وأصحاب الأجندات المتعارضة فيما بينهم، والجهات الدولية الداعمة لهم، من جهة مقابلة، أي تم نزع العامل المجتمعي السوري منذ بداية تحول الاحتجاجات على النظام، ومصادرة الثورة السياسية لمصلحة الصراع المسلح المدعوم خارجياً لكل الأطراف، على جانبي الصراع. ما يعني أن سورية تمر الآن بمرحلة ما قبل الدولة الحديثة من جديد، بفعل تقسيمها خلال هذه الحرب الطويلة إلى مجتمعات بثقافات ومرجعـــيات طـــائفية وقومية متنازعة على أدورها، وتوظيفاتها التاريخية والمستقبلية، بعد أن كانت سوريا تمثل خلال ثورتها في عامها الأول نظاماً ومؤيدين وثواراً ومعارضة تقليدية كل شرائح المجتمع ومكوناته، على اختـــلاف موقفهما من النظام والثورة ضده، أي أن الثورة لم تنـــشأ على أسس التناقض المذهبي، أو الامتيازات القومية (على رغم وجودها بما يتعلق بالكرد السوريين)، أو المرجعيات الأيديولوجية والتبعية الإقليمية التي تتحكم اليوم بالتجمعات البشرية كقوى مهيمنة، والتي أعاد التهجير القسري رسم خارطتها الديموغرافية.
وإذا كان من المفهوم أن تعمل الأطراف المستفيدة من استمرار الحرب على تهميش وقرصنة دور السوريين، إلا أنه من غير المقبول أن تمارس الأمم المتحدة عبر المفاوضات الجارية في أروقتها، تشكيل اللجنة الدستورية لصياغة دستور سوري، يراعي مقاس الأطراف المتفاوضة بالنيابة «الشكلية» فقط عن الجهات الدولية التي تمثلها هذه الأطراف المحلية، ما يعني أن السوريين الذين تحملوا عبء الحرب التي لا ناقة لهم فيها ولا جمل، هم الخاسر أيضاً من الحلول المقترحة، التي تكافئ أطراف الحرب الظالمة وتعاقب من جديد ضحاياها، وتحول أمراء الحرب إلى ساسة يتقاسمون سورية وفق قرارات أممية تنظم هذه الفوضى تحت ما يسمى «دستور لجنة سوتشي».
إن إعادة إنتاج التجربة الصومالية في سوريا من خلال المراهنة على تفاهمات ومحاصصات بين قوى عنفية (النظام وقادة الفصائل ذات الأجندات الخارجية)، من شأنه أن يسمح من جديد بقيام نظام قمعي، لكن متعدد المساهمات، حيث تشاركه القوى المسلحة مسؤولية ضبط أمن السلطة، وليس الشعب، كما هو حال النظام الأمني الحاكم لسورية، ما يعمق الشروخ المجتمعية التي صنعتها قادة الحروب، ويدخل البلاد في مرحلة الفشل الكامل التي تعيق تنميته وتحوله إلى دولة، وعلى الرغم من أن الحالة السورية على رغم النزاعات الأهلية تحمل في مفاهيم شعبها افتراقاتها عن الحالة الصومالية، حيث الوعي الاجتماعي الشعبي ما زال يفوق وعي القيادات الحاكمة له على الطرفين، ويسعى لكسر الحواجز الطائفية، ونزع ألغام الخلافات الأيدلوجية، التي يعتبرها أدوات الأطراف المدعوة إلى صناعة مستقبله تحت شعار التوافق على صياغة دستوره، من خلال لجنة تحاصصية غير تمثيلية عن الشعب السوري، إلا أن المخاوف المجتمعية كبيرة ما يحدث الآن من انقلاب على أولويات الحل السياسي، وهو يمهد لسعي دولي تقوده دول (روسيا، إيران، تركيا) صاحبة المسار الانقلابي (آستانة) على التفاوض السياسي إلى دولنة الفوضى السورية بل وشرعنتها.
لم يستطع النظام السوري خلال خمسين عاماً تحويل سلوكه العنفي إلى سلوك مجتمعي عام، وهو ما بدا واضحاً خلال انتفاضتهم عليه، واحتجاجاتهم التي تحولت إلى ثورة سلمية في عامها الأول، حيث قابلوا الرصاص الحي بهتافات الحرية والوحدة المجتمعية «واحد واحد الشعب السوري واحد»، ما يظهر قدرة السوريين الكبيرة على التعايش السلمي البيني ونبذ العنف والطائفية، في الوقت الذي أنتجت فيه حرب السنوات السبعة أشد التنظيمات العنفية في سوريا، والعالم، ما يعني أنها صناعة فوق مجتمعية وغير شعبية، وتمت على مستويين داخلي وخارجي بهدف تحويل الصراع إلى نزاع غير محلي، يسهل تلاعب القوى الخارجية به، وفي ذات الوقت يبرر لأجهزة النظام سبغ الثورة بكل مكوناتها بالعنف والإرهاب، واستخدام أقصى درجات العنف ضد السوريين تحت ذريعة محاربة الإرهاب والتطرف، ما يعني أننا أمام أطراف قد تتساوى بمسؤوليتها عن كل الدمار مع النظام الديكتاتوري، ما ينزع حجة الوسيط الدولي بقبولهم كأطراف فاعلة في مستقبل سورية، ويمكنها أن تسهم في صياغة دستور يعيد للسوريين دورهم الإنساني والحضاري.
إن التعاطي مع مسألة الانتقال السياسي يفرض بالضرورة وجود مبادئ دستورية عامة، لا يمكن تجاوزها خلال مرحلة ما قبل الدستور، وخلال صياغته، من قبل لجنة منتخبة وفق الأسس والمعايير الوطنية، حيث لا يمكن لأطراف تتنازع فيما بينها على السلطة، أن تصنع دستوراً لدولة ديموقراطية يقوم على المساواة والتعددية والعدالة، ما يضع اللجنة الدستورية التي نص عليها مؤتمر سوتشي أمام خيارين: إما أن يمارس أعضاؤها لعبة التعطيل على بعضهم بعضاً، أو القبول بمبدأ التحاصص في السلطة، وفي كلا الخيارين تتحول الأمم المتحدة من مؤسسة للحفاظ على الأمن والسلم الدوليين وحفظ حقوق الإنسان، إلى هيئة تشاركية في الحرب على الشعب السوري، وانتزاع حقه في تقرير مصيره ومستقبله، ويجعلها شريكة في دولنة فوضى إمارات الحرب وأمرائها، عبر صناعة دستور على مقاس المتفاوضين ومنح أدوات الحرب المشتعلة فرصة النجاة من العدالة الانتقالية تحت مسمى واقعية الحل التحاصصي.
يمر العيد على الشعب السوري المعذب في عام الثورة الثامن، بمزيد من الألم والحزن والفقد الذي يعتلج قلوب السوريين المعذبين في الداخل والخارج، حزناً على من فقدوا من أهل وأقرباء وأصدقاء، وألماً على فراق أرض ودار وبيت وأحباب، مع استمرار إجراء نظام الأسد الذي قتل بهجة وفرحة العيد وحوله في سوريا لمأتم وحزن طويل.
عيد السوريين ممزوج بلوعة الفراق بقلوب معذبة تبكي من كان في ذات عيد بينهم يشاركهم أفراحهم، قبل أن يغادر مفارقاً بقصف النظام وحلفائه أو مغيباً في سجونه ومعتقلاته، أو مهجر أبعد عن أرضه وأهله مقهوراً معذباً فرقتهم الحواجز والحدود.
في كل عيد يستذكر الآباء والأمهات أبنائهم وأحبابهم ممن فقدوهم بقصف أو مجزرة هنا وصاروخ هناك، لم يترك الأسد وحلفائه إلا تلك الذاكرة المؤلمة التي تعتلج صدورهم، في كل عيد يستنظر الأبناء آبائهم المعتقلين في السجون علهم يبصرون النور ويروهم بعد انتظار وغيا طويل في سجون الأسد وحلفائه، في كل عيد يتطلع المهجر من أرضه وبلده وداره بعيداً عنها في الداخل والخارج للوقت الذي يعود فيه إلى أرض ودار وجيران أبعد عنهم قسراً.
عيد السوريين اليوم لايختلف عما سبقه من أعياد طيلة سنوات الثورة، عيد ممزوج بالدم والفراق والألم والحزن، يتطلع السوريين في الداخل وبلاد الاغتراب للعيد الأكبر الذي ينتظرون بزوال النظام وعودة المغيبين وعودة الحياة لبلدهم بعد أن تهدأ تلك المدافع والطائرات التي وجهت لصدورهم وعكرت صفو حياتهم وقتلت العيد وكل فرحة باتت حلماً يستنظرونه في كل عام.
أحمد نور
تختصر قاعدة حميميم هيكلية الحكم في سورية، رئيسا ومرؤوسا، وتوضح، من خلال خبر مقتضب، أنها صادرت كل السلطات المدنية، إضافة إلى السلطة العسكرية. وهي إذ تعلن عن سلطتها القضائية، والتنفيذية، من نافذتها الإعلامية في سورية، فإنها تبعث رسائل داخلية وخارجية، وهي عبر تأكيدها حقها في تطبيق القانون، عند تقصير الجهات المعنية بذلك، في ختام تحذيرها النظام من التقصير في معاقبة "الشبّيح" طلال دقاق الذي تعمد إطعام أسوده المتوحشة حصاناً أصيلاً، تحت عين الكاميرا وتهليلاته، في متابعة لما هو حاله من إجرام بحق السوريين، بترخيص رسمي من الأجهزة الأمنية، وإطعام لحومهم الحية لأسده المتوحش، فإنها تزيح عن كاهلها عبء الصمت عن جرائم صغيرة، للتلويح بأن ملف الجرائم الأكبر ملا يزال في أدراجها على قيد انتظار صراخها، عندما يحين أوانه.
لا تختلف الصورة المهينة لجنود النظام "المنبطحين أرضاً" تحت أقدام الشرطة الروسية التي اعتقلتهم بالجرم المشهود، خلال نهبهم بيوت السوريين بعد تدميرها فوق رؤوسهم، عن خبر تحذير روسيا نظام الأسد من التقصير في معاقبة الدقاق، والإعلان عن فتح القاعدة تحقيقا في الأمر، أي أنها انتزعت صفة القاضي الأول عن رئيس النظام، لتمنحها لقائد قاعدة حميميم، القاضي الأول والقائد الأعلى للقوات العسكرية والشرطية، وما بينهما من مؤسسات الدولة السورية، في رسالةٍ مضمونها محلي، ومترجم مباشرة إلى اللغة الفارسية، ليدرك معناها وأبعادها "قاسم سليماني وقواته" التي ينفي النظام السوري وجودها على الأرض السورية، بينما يتمسكون بسيادة قرارهم بعدم القبول بأي املاءاتٍ خارجيةٍ، لإنهاء الوجود الإيراني من سورية، في "شيزوفيرنيا" تصريحات متضاربة للمسؤولين السوريين من أعلى الهرم حتى نائب وزير خارجيته، تفيد تناقضاتها بحقيقة التخبط القراراتي في سورية.
من المفيد أن توجد قوة ردع روسية للجرائم الصغيرة، التي ترتكب في ظل فوضى الصلاحيات الأمنية، وانتشار المليشيات "التشبيحية" التي أصبحت سلطاتها توازي سلطات الأجهزة الأمنية التي أسستها في مناطق. وفي أخرى تفوقها وتتجاوزها في إعلان عن إقامة إمارات فوق السلطة، ما يشرعن حالة الهلع التي يعيشها السوريون، ولجوءهم إلى طلب الحماية من عناصر الشرطة الروسية لحماية أنفسهم وممتلكاتهم، على الرغم من معرفتهم أن روسيا هي الشريك الأساسي في عملية التدمير الممنهجة لسورية ما بعد 2015، إثر دخولها الرسمي إلى الأجواء السورية، وانتزاع المدن من فصائل المعارضة واحدة تلو الأخرى، وتغيير مسار التفاوض الأممي في جنيف، المبني على أساس بيان جنيف 1، والقرارات الأممية ذات الصلة، إلى مسار المصالحات والتسويات في أستانة، تحت شعار تسليم سلاح الفصائل في مقابل حصول قادتها على ميزات المشاركة بقوى الشرطة التي تلجم طموح الناس وحرياتهم، ما يعني إعادة إنتاج النظام الاستبدادي، مع تغيير في التسميات وإعادة توظيف الأدوار للمسلحين.
تحاكي موسكو برسالتها السلطوية (داخل سورية) إيران التي تمنّي النفس بإحكام إطباق يدها على مؤسسات الدولة جميعها، بما فيها أجهزة الأمن التي تهدّدها اليوم روسيا بإقامة الحد الرقابي على أدائها بمحاسبة "شبّيحتها" الذين تكاثروا داخل المجتمع السوري، بحماية إيرانية أيضاً، ليشكلوا طبقةً خاصة بهم، ومدارات جغرافية خارج قوانين الدولة. ولها أجهزة ردع وتعذيب للمواطنين السوريين، تنافس زنازين المعتقلات، وتصل إلى حد إطعام أجسادهم وهم أحياء للأسد الجائع كما حال الدقاق الذي يخشى السوريون أن محاسبته ستقتصر على محاكمة أسوده القاتلة (سلاح الجريمة)، على غرار التسوية التاريخية التي قادتها روسيا مع الولايات المتحدة الأميركية والمجتمع الدولي، عقب استخدام النظام السلاح الكيميائي في الغوطة 2013، وأدى إلى انتزاع السلاح من دون محاسبة مستخدمه. وهذا طبعاً ليس من باب المواجهة الروسية مع إيران التي يأملها الشارع العربي، ولكن تحت عنوان إعلان فشلها في حماية الأمن المجتمعي في سورية، لتمهيد الأجواء أمام انسحاباتها سراً من المساحات التي اعتبرتها إسرائيل خطوطاً حمراء غير مسموح لها الوجود عليها.
وليس من قبيل المصادفة أن تتسابق المنابر المحسوبة على روسيا في الكشف عن انتهاكات قوات النظام وأجهزته الأمنية، وما هو في سياقها من مليشيات شعبية، والإعلان عبر قاعدة حميميم عن إجراءاتٍ تطمينيةٍ للسوريين، وعقابية لهذه الأجهزة، بما يتعارض تماماً مع تصريحات موسكو عن سيادة سورية واستقلالها، واستعادة النظام السوري هيمنته على المناطق والمدن، ما يعني أن وراء هذه التهويلات الإعلامية لإجراءات شكلية "رسائل" حول طبيعة الحلول التي تعد سيناريوهاتها موسكو، بالاتفاق سراً وعلناً مع الإدارة الأميركية وحلفائها، ومنها إنشاء مجلس عسكري، يضبط إيقاع فروع الأمن المتنافسة مع بعضها على إذلال السوريين واستعبادهم، ويقود مرحلة الانتقال السياسي إلى حكمٍ، ليس بعيداً عن واقع النظام السوري الحالي، وليس قريباً من مطالب المعارضة التي تتحدّث عن نظام جديد، ينهي نظام الاستبداد القائم، ويؤسس لإقامة جمهورية سورية ثالثة، تلتزم قوانين حقوق الإنسان الدولية، وتوفر فرص حياة كريمة وحرة لكل السوريين. وعلى الرغم من أن هذا المشروع لا تجمع عليه قوى المعارضة "المتناصّة" في اتجاهات مختلفة، والتي تتبلور رغباتها، حسب أيديولوجياتها التي تحرّكها، والجهات الداعمة لها، أي بين المشاريع الإسلامية والمتأسلمة ومستوياتها المتأرجحة بين المتشددة حيناً والمعتدلة أحياناً، والمشروع الديمقراطي المغيب، والمساحات الشاسعة بينهما، إلا أنها تبقى هي مطالب الحراك الثوري الأساسية، قبل أن ترهن المعارضة أدوارها للدول الممولة لحركاتها وفصائلها وكياناتها، أي أن الحل الذي يروج دولياً ينطلق من مبدأ لا غالب ولا مغلوب بين السوريين، أطرافا وأدوات مرتهنة لمصالح الغير، وفي غير المصلحة الوطنية، وهو ما سيجعله حلاً مؤقتاً إلى حين.
نعم، تكاد صورة الأسدين اللذين التهما حصاناً أصيلاً في القفص تختصر صورة الواقع السوري عبر خمسين عاماً، كما أن التلويح بعقد محكمة لإدانة المجرم هي اختصار لما يمكن أن يكون عليه الحل في سورية تحت طائلة التأجيل أو التعجيل، وفقاً لما يمكن أن يسمح به الوقت، لإعادة تفكيك النظام القائم وملاءمته، مع زرع شتول الدولة الجديدة، بما تحمله من انفتاح على ثورة مجتمعية جديدة، ستكون أشد وجعاً وأكثر قرباً من سورية السورية.