عقب انهيار نظام المجرم بشار الأسد، كان الجزء الأكبر من السوريين يحلمون في وطن واحد موحد، تندمج فيه كل الرايات وتتحد تحت سقف الوطن، لكن الواقع كان مؤلماً بعد تكشف بعض التوجهات التي كانت تنتظر الفرصة للخروج بمشروعها الانفصالي أو الطائفي أو حتى المطالب بالاحتلال.
لم تتوحد سوريا على حلم مشترك، بل تجزأت كل فئة في رؤية مختلفة لمستقبلها. في الساحل، حيث قيل إن أهل المنطقة كانوا مترابطين، ظهر انقسام واضح. البعض طالب بالعفو عن أبنائه الذين شاركوا في آلة القمع، بينما تحركت جماعات منهم هناك لتنظيم انقلاب للفلول، غدرت بعشرات من عناصر الأمن الذين حاولوا حماية المواقع الحيوية، مما زاد الفوضى وعدم الاستقرار في المنطقة.
في الجغرافيا السياسية الجديدة، رفع البعض مطالب غير تقليدية، كان أبرزها صوت قوي من قوى “قسد” التي طالبت بالحكم الذاتي، مركزة على بناء إدارة مستقلة تعترف بالهوية والثقافة واللغة، بعيداً عن هيمنة المركز.
وفي مناطق أخرى، طفت مطالب غريبة على السطح، حيث سمع العالم عن جماعات كانت كل همها أن تحظى بحرية اللباس والرقص والسهر في الكازينوهات، وخشيت أن تُحرم من الخمور، في تناقض صارخ مع أوجاع الناس الحقيقية، وفي بقعة أخرى خرج البعض يطالب بالاحتلال والحماية الدولية بزعم الأقلية.
أما على الجانب الآخر من المشهد، كانت هناك أمهات ونساء فقدن آخر أمل في العثور على أبنائهن بعد فتح السجون. أمهات يشهقن وجعًا أمام المعتقلات، يطرُقْنَ الأبواب التي لا تُفتح، ويُناديْنَ أسماءً ابتلعتها الزنازين يحدقون في كل زاوية، يصرخن بأسماء لم يعد هناك من يجيب. عيون متعبة، رموشها ذابت من كثرة البكاء، لم تعد تقوى على قراءة جداول المعتقلين المتوفيين التي رُفعت للعلن، يبحثن عن أي اسم يشير إلى فلذة كبدها.
كان الأهالي يقفون في طوابير أمام دوائر الأحوال المدنية، يعيدون قراءة قوائم الموتى مرة تلو الأخرى، يمسكون بأوراقهم المرتجفة، يبحثون عن ذرة أمل تمسّك بها خيط الحقيقة، بينما في داخلهم تنهار كل محاولة للثبات.
حين تم الإعلان عن فتح السجون وتكشف وفاة آلاف المختفين قسرياً، انطلقت حملات نعي غير مسبوقة على وسائل التواصل الاجتماعي، حملات لم تكن مجرد كلمات حزينة، بل كانت صيحات وجع بلسان آلاف العائلات. صور شهداء مجهولة الهوية مع تواريخ اعتقالهم وتاريخ الوفاة التي لم تُر، تُنشر بلا توقف، كل صورة تحكي قصة تعذيب، وفاة تحت التعذيب، اختفاء بلا أثر.
على أرض الواقع، عاد الكثير من الأهالي إلى قراهم التي وجدوها مدمرة بالكامل، بيوت محطمة، شوارع غير صالحة للسير، وفي كل زاوية ذخائر غير منفجرة تنتظر زائراً أو ضحية جديدة. بين الأنقاض، حاول الأهالي إعادة بناء ما تهدم، ولكن جراح الحرب لا تُشفى بسهولة.
ومن بين هؤلاء، كان كثير من أهالي المعتقلين يقطنون في خيم مؤقتة على أطراف القرى، يتنقلون بين عتمة الخوف وأمل اللقاء، يتعرضون للسمسرة والابتزاز من قبل بعض من يستغلون محنتهم، مقابل وعد واهٍ بوصول معلومة عن أبنائهم المفقودين.
وفقًا لتقارير "الشبكة السورية لحقوق الإنسان"، تجاوز عدد المختفين قسرياً في سوريا خلال سنوات الحرب تجاوز 112 ألفا. وفي وقت كان فيه البعض يصارع ليضمن مكاسبه السياسية والاجتماعية، كانت عائلات الضحايا تعيش في جحيم بحث دائم عن الحقيقة، تفتش في المقابر الجماعية، وتجرّب الحمض النووي، وتأمل أن تلتقط خبراً يريح قلوبها.
هكذا، تكشفت سوريا بعد سقوط الطاغية، وطنٌ لم يُفكك فقط بأنواع الطوائف أو الجماعات، بل بجرح عميق بين من يطالبون بالمكاسب ومن يطالبون بالدفن.
تطرق "فضل عبد الغني" مؤسس ومدير "الشبكة السورية لحقوق الإنسان"، في مقالين نشرا على موقع "الجزيرة نت" إلى رؤية "الشبكة السورية لحقوق الإنسان"، للعدالة الانتقالية في سوريا، تتميز هذه الرؤية التي صدرت عن الشبكة، بكونها نهجًا شاملًا يسعى لمعالجة جذور المشكلات التي عانت منها سوريا عبر عقود، وتحقيق تحوّل نوعي في بنية الدولة السورية ومؤسساتها.
أوضح "عبد الغني" أن يوم الأحد، 8 ديسمبر/ كانون الأول 2024، شهد منعطفًا تاريخيًا في المشهد السوري مع إعلان سقوط نظام بشار الأسد، وسيطرة إدارة العمليات العسكرية، متبوعًا بتعيين حكومة تسيير أعمال مؤقتة، هذا التحول جاء بعد أربعة عشر عامًا من النزاع المسلح الدموي الذي بدأ مع انطلاق الحراك الشعبي السلمي في مارس/ آذار 2011، عندما خرج السوريون مطالبين بالحرية والكرامة وبناء دولة ديمقراطية تقوم على انتخابات حرة ونزيهة.
وبين أنه مع نهاية حقبة حكم آل الأسد التي امتدت لأكثر من نصف قرن، تواجه سوريا تحديات هائلة تتطلب إرساء أسس جديدة للعدالة والسلم الأهلي. وفي هذا السياق، تبرز العدالة الانتقالية كنهج أساسي للانتقال من مرحلة النزاع إلى مرحلة الاستقرار وبناء الدولة.
لعبت الشبكة السورية لحقوق الإنسان دورًا محوريًا في توثيق الانتهاكات بشكل يومي منذ عام 2011. فقد عملت على بناء قاعدة بيانات شاملة تضم ملايين الحوادث، وأصدرت أكثر من 1800 تقرير وبيان، تضمنت تقارير يومية وشهرية تغطي سنوات النزاع. وقد شكلت هذه التوثيقات أساسًا متينًا يمكن الاستناد إليه في أي مسار للعدالة الانتقالية في سوريا.
وفقًا لتوثيق الشبكة السورية لحقوق الإنسان، فإن النزاع السوري خلّف حصيلة مروعة من الانتهاكات، تشمل:
مقتل ما لا يقل عن 234 ألف مدني، بينهم 202 ألف قتلوا على يد قوات نظام الأسد.
توثيق 181 ألف حالة اعتقال تعسفي وإخفاء قسري، بينهم 160 ألف مختفٍ قسريًا على يد النظام، بينهم 3.736 طفلًا و8.014 سيدة.
وفاة ما لا يقل عن 45.336 شخصًا تحت التعذيب، بينهم 45.031 شخصًا على يد قوات النظام.
استخدام أسلحة مدمرة على نطاق واسع، بما في ذلك إلقاء 81.916 برميلًا متفجرًا، وتنفيذ 217 هجومًا بأسلحة كيميائية، و252 هجومًا بذخائر عنقودية، و51 هجومًا بأسلحة حارقة.
نزوح وتشريد نحو 13.8 مليون سوري، بينهم 6.8 ملايين نازح داخليًا وقرابة 7 ملايين لاجئ خارج البلاد.
هذه الإحصاءات المروعة تعكس حجم المأساة السورية وتبرز الحاجة الملحة لتبنّي مسار شامل للعدالة الانتقالية يعالج هذا الإرث الثقيل من الانتهاكات، ويضمن عدم تكرارها، ويمهد الطريق نحو بناء سوريا جديدة قائمة على أسس العدالة والمساواة والكرامة الإنسانية.
وهذا ما تحاول رؤية الشبكة السورية لحقوق الإنسان للعدالة الانتقالية في سوريا تقديمه. تتميز هذه الرؤية التي صدرت قبل أيام، بكونها نهجًا شاملًا يسعى لمعالجة جذور المشكلات التي عانت منها سوريا عبر عقود، وتحقيق تحوّل نوعي في بنية الدولة السورية ومؤسساتها.
تقترح الشبكة في رؤيتها إنشاء هيئة وطنية للعدالة الانتقالية تشكل المحور الرئيسي لتنفيذ برامج العدالة الانتقالية، وتتسم بالاستقلالية والشمولية والشفافية.
كما تؤكد الرؤية على ضرورة تطبيق الأركان الأربعة للعدالة الانتقالية بشكل متزامن ومتكامل، بحيث تتضافر جهود المحاسبة الجنائية مع مساعي كشف الحقيقة وبرامج جبر الضرر وإصلاح المؤسسات.
وتولي الرؤية اهتمامًا خاصًا بالمشاركة المجتمعية الواسعة في مسار العدالة الانتقالية، مع التركيز على دور الضحايا ومنظمات المجتمع المدني، وأهمية التعاون الدولي كداعم أساسي للعملية، مع الحفاظ على الملكية الوطنية للمسار بأكمله.
في هذا المقال قام "فضل عبد الغني" برصد عدد من هذه الجوانب التي غطتها الرؤية
1- الإطار المفاهيمي للعدالة الانتقالية
العدالة الانتقالية في الحالة السورية هي مجموعة من الآليات القانونية وغير القانونية التي تهدف إلى معالجة الانتهاكات الفادحة لحقوق الإنسان التي حدثت أثناء النزاع، وخاصة تلك التي ارتكبها نظام الأسد، من أجل تحقيق العدالة للضحايا، ومحاسبة المسؤولين، وتعزيز المسار نحو سلام دائم يستند إلى القانون وحقوق الإنسان.
ترتكز العدالة الانتقالية في سوريا على أربعة أركان أساسية متكاملة: أولها؛ المحاسبة الجنائية، التي تشكل حجر الزاوية لتكريس سيادة القانون وتقويض سياسة الإفلات من العقاب، مع التركيز على محاسبة القيادات العليا المتورطة في جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
ثانيها؛ الحقيقة والمصالحة، التي تهدف إلى توثيق الانتهاكات، وتحديد مصير المفقودين والمختفين قسريًا (الذين يتجاوز عددهم 160 ألف شخص)، وتعزيز المصالحة المجتمعية.
ثالثها؛ جبر الضرر والتعويض، الذي يشمل التعويض المادي للضحايا وذويهم، وبرامج جبر الضرر المعنوي وتخليد الذكرى.
رابعها؛ إصلاح المؤسسات، خاصة القضائية والأمنية والعسكرية، لضمان عدم تكرار الانتهاكات واستعادة ثقة المواطنين بمؤسسات الدولة.
تُعد العدالة الانتقالية ركيزة أساسية لنجاح الانتقال السياسي في سوريا، إذ لا يمكن تحقيق استقرار مستدام دون التصدي للانتهاكات السابقة وضمان عدم تكرارها. فهي تهيئ الأرضية لنظام سياسي قائم على سيادة القانون والمساءلة، مما يعزز الثقة المتبادلة بين الدولة والمجتمع، ويفتح المجال لمرحلة جديدة قائمة على التعددية والديمقراطية.
كما أنها تسهم في معالجة الأسباب الجذرية للنزاع وتفكيك منظومات القمع والاستبداد التي سادت لعقود، مما يمنع انزلاق البلاد نحو دورات جديدة من العنف.
2- إنشاء هيئة وطنية للعدالة الانتقالية
يقوم الإطار الدستوري والقانوني لهذه الهيئة على ركائز محددة، حيث يتولى المجلس التشريعي المُشكل بعد صدور الإعلان الدستوري مسؤولية وضع قانون تأسيسي ينظم مسار العدالة الانتقالية.
يستند هذا القانون إلى القوانين الوطنية والدولية، ويتماشى مع المعايير الدولية لحقوق الإنسان، ويتضمن فصولًا رئيسة تشمل التعريفات والمبادئ العامة، وهيكلية الهيئة، وآليات العدالة الانتقالية، وإصلاح المؤسسات.
تتألف هيكلية الهيئة من مجلس إدارة يضم خبراء قانونيين وممثلين عن المجتمع المدني والضحايا، وأمانة عامة تعمل كجهاز تنفيذي، تشمل فرقًا إدارية وقانونية، ومالية، وإعلامية، وتقنية.
كما تضم الهيئة مكاتب محلية في كافة المحافظات السورية، وقسمًا للعلاقات الدولية يتولى التنسيق مع الجهات الدولية، وقسمًا للمراقبة والتقييم.
وتتمتع الهيئة بصلاحيات واسعة تشمل استدعاء الشهود، وجمع الأدلة، والاطّلاع على الوثائق الرسمية والخاصة، والتحقيق في الانتهاكات، والطلب من القضاء إصدار أوامر توقيف، مع إلزام جميع الكيانات الحكومية بالتعاون معها.
لضمان استقلالية الهيئة، ينصّ القانون التأسيسي بوضوح على استقلالها الكامل عن السلطة التنفيذية، حمايةً لها من التدخل السياسي. كما تُخصص للهيئة ميزانية مستقلة تُقرّ من قبل السلطة التشريعية، بما يضمن عدم تبعيتها ماليًا للسلطة التنفيذية.
وعلى الرغم من استقلالها عن وزارة العدل، تعمل الهيئة في ظل النظام القضائي السوري، متولية مهام الكشف عن الحقيقة وتوثيق الانتهاكات وتعويض الضحايا، والمساهمة مع السلطة القضائية في تشكيل محكمة خاصة لمحاسبة مرتكبي الجرائم الجسيمة.
فيما يتعلق بمعايير اختيار أعضاء الهيئة، تُعتمد الكفاءة والنزاهة أساسًا، حيث يجب أن يمتلك الأعضاء خبرة واسعة في مجالات حقوق الإنسان أو القانون، مع سجل نظيف من أي تورط في الفساد أو انتهاكات حقوق الإنسان.
كما يراعى التنوع والتمثيل، بحيث تعكس الهيئة تنوّع المجتمع السوري من حيث الجنس والعرق والدين والخلفية الجغرافية، مع ضرورة استقلال الأعضاء عن الأحزاب السياسية والفصائل المختلفة.
أما آلية التعيين، فتبدأ بتشكيل لجنة توصية تضم خبراء مستقلين وممثلين عن القضاء والمجتمع المدني والضحايا، لترشيح الأسماء المقترحة، ثم انتخاب عشرة منهم لتشكيل مجلس إدارة الهيئة، الذي يتولى بدوره تعيين واختيار فريق العمل وفق معايير الكفاءة والخبرة، مع مراعاة تمثيل الجهات المعنية بالعدالة الانتقالية وعلى رأسها الضحايا.
3- المحاسبة الجنائية
تشكل المحاسبة الجنائية حجر الزاوية في عملية العدالة الانتقالية، إذ تلعب دورًا محوريًا في تكريس سيادة القانون، وتقويض سياسة الإفلات من العقاب التي سادت خلال حكم الأسد.
وقد حدّدت الشبكة السورية لحقوق الإنسان نهجًا واضحًا لتحديد الأولويات في المحاسبة، يركّز على القيادات العليا من الصفَّين الأول والثاني في الجيش وأجهزة الأمن، باعتبارهم المسؤولين الرئيسين عن وضع خطط الانتهاكات والإشراف على تنفيذها.
ويمثل هذا النهج إستراتيجية واقعية للتعامل مع التحديات اللوجيستية والمالية التي تواجه عملية المحاسبة الشاملة، مع ضمان فتح المجال أمام الضحايا لرفع دعاوى قضائية ضد المسؤولين المباشرين عن معاناتهم، بغض النظر عن رتبهم أو مناصبهم.
يتطلب تحقيق المحاسبة الجنائية إطارًا قانونيًا خاصًا، نظرًا لعدم توافق القوانين المحلية السابقة مع المعايير الدولية، وافتقارها إلى أحكام واضحة لمعالجة الجرائم الكبرى.
لذا، تقترح الرؤية إنشاء لجان قانونية مختصة مؤلفة من خبراء محليين ودوليين لصياغة قوانين جنائية جديدة، تشمل تعديلات جوهرية مثل: إدراج تعريفات واضحة للجرائم الدولية كجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، إلغاء القوانين التي توفر الحصانة للمسؤولين، تطوير تشريعات تتيح محاكمة الجرائم بأثر رجعي، وضع قوانين تحدد صلاحيات المحاكم المكلفة بالنظر في الانتهاكات الجسيمة، وضمان الحماية القانونية للضحايا والشهود.
كما تدعو الرؤية إلى التصديق على نظام روما الأساسي أو قبول اختصاص المحكمة الجنائية الدولية بموجب المادة 12(3)، بما يسمح للمحكمة بالتحقيق في الجرائم المرتكبة منذ مارس/ آذار 2011.
تلعب لجان تقصي الحقائق دورًا محوريًا في جمع الأدلة الجنائية اللازمة للمحاسبة، من خلال الوصول إلى المؤسسات الأمنية والعسكرية والمدنية لجمع الملفات والوثائق التي تكشف عن هويات المعتقلين والمختفين قسريًا وضحايا التعذيب.
تشمل هذه المؤسسات الأفرع الأمنية والسجون، دوائر السجل المدني، المشافي العسكرية والمدنية، المحاكم والدوائر القضائية، ومراكز رعاية الأيتام، كما تقوم اللجان بتحليل البيانات، وإجراء تحقيقات ميدانية، وإعداد تقارير مفصلة تتضمن نتائج التحقيقات وتحديد المسؤولين المحتملين عن الانتهاكات، مع تقديم توصيات للإصلاح والمساءلة.
وتعتمد هذه اللجان على مبادئ الاستقلال والنزاهة والتعاون مع منظمات المجتمع المدني والشفافية والمشاركة العامة، مع الاستفادة من خبرات المنظمات الحقوقية المحلية والدولية التي وثّقت الانتهاكات.
نظرًا لفقدان القضاء السوري استقلاليته ومحدودية موارده، تقترح الرؤية تشكيل محاكم خاصة مختلطة متخصصة بجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، تتميز هذه المحاكم بكونها هيئات قضائية مؤقتة، تجمع بين العناصر الوطنية والدولية، مما يوازن بين الملكية المحلية والمعايير الدولية. يتم إنشاؤها على الأراضي السورية بواسطة النظام القضائي المحلي بالتعاون مع خبراء دوليين، وتتكون من قضاة ومحامين سوريين موثوقين وخبراء دوليين.
تعمل هذه المحاكم بشكل مستقل تمامًا عن السلطة التنفيذية، وتخضع للرقابة المدنية من قبل منظمات المجتمع المدني ووسائل الإعلام، مع العمل ضمن إطار قانوني محلي يحترم المعايير الدولية.
لملاحقة المسؤولين الفارين خارج البلاد، تقدم الرؤية مجموعة من الآليات الدولية، منها: طلب التعاون الدولي استنادًا إلى معاهدات دولية كاتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد أو اتفاقيات تسليم المجرمين، الاستفادة من مبدأ الولاية القضائية العالمية الذي تعتمده بعض الدول ويسمح لها بمحاكمة مرتكبي الجرائم الدولية حتى إذا ارتُكبت خارج أراضيها، واستخدام الاتفاقيات الثنائية والإقليمية لتسليم المطلوبين.
تواجه هذه الآليات تحديات متعددة، أبرزها احتمالية فرار المتهمين إلى دول ترفض تسليمهم، وغياب الالتزام القانوني للدول بالتسليم في حال عدم وجود اتفاقيات، وبطء الإجراءات الدولية.
لمواجهة هذه التحديات، توصي الرؤية بتعزيز الضغوط الدولية، التفاوض على اتفاقيات ثنائية جديدة للتسليم، ممارسة ضغوط اقتصادية ودبلوماسية على الدول المؤوية للمتهمين، وتقديم أدلة قوية تدينهم أمام المحاكم الدولية.
4- الحقيقة والمصالحة
يمثل كشف الحقيقة ركنًا أساسيًا في مسار العدالة الانتقالية، كونه يساهم في معالجة إرث الانتهاكات وبناء الثقة المجتمعية، مما يمهّد الطريق نحو المصالحة الوطنية.
توثيق الانتهاكات وتحديد مرتكبيها يكتسب أهمية بارزة في السياق السوري لعدة أسباب، أبرزها: الكشف عن حقيقة الانتهاكات وآثارها المجتمعية، تحديد المسؤولين سواء كانوا أفرادًا أو مؤسسات، رأب الصدوع المجتمعية، وبناء ذاكرة وطنية جامعة.
تتطلب هذه العملية جمع شهادات من جميع الأطراف، بمن في ذلك المتورطون في الانتهاكات، مما يساعد في فهم البنية التنظيمية للانتهاكات وبناء السرد التاريخي وتخفيف الضغط عن النظام القضائي، إضافة إلى دعم المصالحة والشفاء المجتمعي.
ولمواجهة التحديات في هذا المسار، تقترح الرؤية تطبيق نظام العفو المشروط للأفراد الذين يعترفون بمسؤوليتهم ويقدمون معلومات قيمة، وإتاحة خيارات السرية للشهادات، وتنظيم جلسات استماع عامة خاضعة لضوابط، واعتماد نهج يركز على الضحايا.
بعد سقوط النظام السابق وفتح مراكز الاحتجاز، تقدر الشبكة السورية لحقوق الإنسان أن أكثر من 160.123 شخصًا لا يزالون قيد الاختفاء القسري على يد النظام السابق، إضافة إلى ما لا يقل عن 16.898 مختفيًا قسريًا على يد بقية أطراف النزاع.
يشكل الكشف عن مصير هؤلاء المفقودين ركيزة أساسية في مسار الحقيقة، ويستلزم تشكيل لجان متخصصة تضم خبراء في التحقيقات الجنائية، الطب الشرعي، علماء الجينات والأنثروبولوجيا، إضافة إلى ممثلين عن المنظمات الدولية المختصة مثل المؤسسة المستقلة للمفقودين (IIMP) واللجنة الدولية لشؤون المفقودين (ICMP).
تعمل هذه اللجان بالتعاون مع السلطات الوطنية، المنظمات الحقوقية، الهيئات القضائية، وروابط الضحايا وذوي المختفين قسريًا، مما يضمن شمولية العملية وفاعليتها.
تشكل المقابر الجماعية نقطة انطلاق رئيسة لعمل لجان البحث عن المفقودين، إذ تم الكشف بعد سقوط النظام عن عشرات المواقع التي تحوي رفات المختفين قسريًا الذين قتلوا تحت التعذيب.
تتضمن خطوات التعامل مع هذه المواقع: حمايتها فورًا باعتبارها مسارح جريمة، إجراء البحث الميداني المنهجي وفق بروتوكولات دولية معتمدة، جمع الأدلة الجنائية لدعم التحقيقات، توثيق البيانات بدقة، إجراء تحقيقات شاملة تستند إلى المعايير الدولية، تحديد هويات الضحايا باستخدام تقنيات متطورة كتحليل الحمض النووي، والتواصل المستمر مع ذوي الضحايا ثم تسليمهم الرفات لدفنه بطريقة لائقة.
تلعب لجان الحقيقة دورًا محوريًا في تعزيز المصالحة المجتمعية، إذ تتجاوز المحاسبة الجنائية لتشمل آليات محلية تعالج المظالم وتبني الثقة. تشرف هذه اللجان على تشكيل مجالس عرفية ولجان مصالحة في المحافظات السورية، تضم وجهاء المجتمع وشخصيات قيادية ورجال دين، وتعمل على تسوية النزاعات المحلية، إعادة الحقوق إلى أصحابها، تعزيز المصالحة المجتمعية، ضمان الاعتذار والاعتراف بالمسؤولية، نشر ثقافة السلم الأهلي، وإعادة دمج المتضررين في المجتمع.
ويمكن الاستفادة من تجارب المجتمعات العشائرية في سوريا التي طورت آليات للصلح تشمل المسامحة ودفع الدية وتقديم الاعترافات العلنية.
تشكل هذه المحاسبة المحلية نهجًا رديفًا للمحاسبة الجنائية، يشجع الجناة الأقل تورطًا على الاعتراف والمشاركة في إصلاح الأضرار، مما يعزز العدالة التصالحية ويساهم في بناء آليات مستدامة لحل النزاعات ومنع دورات جديدة من العنف الانتقامي.
خامساً: برامج جبر الضرر والتعويض
تُشكل برامج جبر الضرر والتعويض عنصرًا حيويًا في مسار العدالة الانتقالية السورية، وذلك لمعالجة الأضرار الهائلة التي خلفها النزاع والتي وثقتها الشبكة السورية لحقوق الإنسان، بما فيها مقتل أكثر من 234 ألف مدني، واختفاء نحو 177 ألف شخص قسريًا، ووفاة أكثر من 45 ألف شخص تحت التعذيب، وتشريد نحو 13.8 مليون سوري.
تتنوع آليات التعويض المادي للضحايا وذويهم لتشمل: منح مادية مباشرة تُصرف دفعة واحدة أو على شكل رواتب طويلة الأجل للأرامل والأيتام، خدمات تفضيلية كالرعاية الصحية والتعليم المجاني، إعادة حقوق الملكية من خلال لجان محلية متخصصة لحل النزاعات على الممتلكات، تمويل مشاريع الإسكان عبر منح أو قروض بدون فوائد، دعم إعادة التأهيل الاقتصادي للأفراد، برامج تعويضات جماعية للمجتمعات المتضررة، تعويضات لخسائر الدخل، وتأهيل البنى التحتية في المناطق المتضررة.
إلى جانب التعويضات المادية، تُولي الرؤية اهتمامًا كبيرًا لبرامج جبر الضرر المعنوي وتخليد الذكرى، التي تساهم في تضميد جراح الضحايا والاعتراف بمعاناتهم واستعادة كرامتهم.
تشمل هذه البرامج: إعادة تأهيل الضحايا نفسيًا واجتماعيًا، تقديم الدعم القانوني لمساعدتهم في المطالبة بحقوقهم، إنشاء نصب تذكارية كبرى في المناطق الأكثر تضررًا ونصب محلية مصغرة، تخصيص أيام تذكارية وطنية مصحوبة بفعاليات عامة ومعارض، إنشاء متاحف ومراكز توثيق تعرض شهادات الضحايا والصور، تطوير أرشيفات رقمية، إطلاق أسماء الضحايا على الأماكن العامة، تنظيم فعاليات ثقافية تخلد ذكراهم، تشجيع الاعتذارات العلنية والاعتراف بالتضحيات، إدماج إرث الثورة في المناهج التعليمية، وتنظيم عمليات شاملة لإحياء الذكرى بمشاركة أسر الضحايا والمجتمع المدني.
لتنفيذ هذه البرامج، تقترح الرؤية تشكيل لجان متخصصة للتعويض وجبر الضرر، تضم ممثلين حكوميين وقضاة وحقوقيين، ممثلين عن المجتمع المدني، ممثلين عن الضحايا وذويهم، ومستشارين دوليين؛ لضمان تنفيذ العملية وفق المعايير الدولية.
تتولى هذه اللجان تحديد الفئات المستهدفة بالتعويضات، أنواع الأضرار القابلة للتعويض، وضع آليات لتقدير حجم الضرر والتعويض المناسب، تصميم هيكلية للتعويضات تشمل التعويضات الفردية والجماعية والخدماتية، وتحديد كيفية توزيع التعويضات ضمن إطار زمني محدد.
ولتحديد قيمة التعويضات بشكل عادل، يجب التعاون مع المحكمة الجنائية الخاصة والاستفادة من توصيات لجان الحقيقة، مع أهمية التشاور مع المجتمعات المتضررة، وضمان احترام كرامة الناجين، وفرض آليات رقابة صارمة تضمن نزاهة وشفافية العملية.
تواجه برامج التعويض تحديات كبرى، أبرزها نقص الموارد المالية في ظل الدمار الاقتصادي الشامل الذي خلفه النظام السابق. لمواجهة هذا التحدي، تقترح الرؤية عدة إستراتيجيات: إقامة شراكات دولية مع مؤسسات مثل الأمم المتحدة والبنك الدولي، اعتماد آليات تمويل مبتكرة كإنشاء صندوق ائتمان خاص، الاستفادة من الأصول والأموال المصادرة من مرتكبي الانتهاكات، الحجز على أموال رجال الأعمال المرتبطين بالنظام السابق، الربط بين التعويض ومشاريع إعادة الإعمار، وتشجيع المساهمات المحلية والدولية.
كما تواجه البرامج تحديات أخرى كالتفاوت في توزيع التعويضات، والتعقيدات القانونية، والخلافات المجتمعية. لمواجهة هذه التحديات، توصي الرؤية بوضع معايير واضحة وعادلة للتعويضات، إجراء مسح شامل للأضرار، تعزيز الشفافية وإشراك الضحايا، تنويع خيارات التعويض، تطبيق نهج تدريجي ومرن، إنشاء هيئات قانونية متخصصة، وتنفيذ برامج حوار مجتمعي لتعزيز قبول عملية التعويض.
3 تغييرات فورية يجب أن تقوم بها الإدارة السورية
في هذا المقال على "الجزيرة نت" تطرق "فضل عبد الغني" مدير "الشبكة السورية لحقوق الإنسان"، إلى الأُطر العامة لرؤية الشبكة السورية لحقوق الإنسان بشأن العدالة الانتقالية في سوريا، بما في ذلك الخلفية التاريخية والسياسية، وركائز العدالة الانتقالية الأربعة، وهي: المحاسبة، الحقيقة والمصالحة، جبر الضرر، وإصلاح المؤسسات، نتناول في هذا الجزء الثاني بتفصيل أوسع ما تبقى من محاور هذه الرؤية.
سلّط المقال الضوء في هذا الجزء المتطلبات العملية لإصلاح مؤسسات الدولة، وبحث في أهمية الدعم والتعاون الدولي، والتحديات المحتملة التي قد تواجه هذا المسار الحيوي نحو بناء سوريا الجديدة القائمة على العدالة والكرامة وحقوق الإنسان.
سابعاً: إصلاح المؤسسات
يُشكل إصلاح المؤسسات الركن الرابع والأساسي للعدالة الانتقالية في سوريا، وهو ضمان أساسي لعدم تكرار الانتهاكات مستقبلًا. خلال عقود حكم نظام الأسد، تحولت مؤسسات الدولة الرئيسة، لا سيما القضائية والأمنية والعسكرية، من أدوات لخدمة المواطنين إلى وسائل للقمع وانتهاك الحقوق. لذا، فإن إعادة بناء هذه المؤسسات على أسس سليمة تُعد شرطًا لازمًا لاستعادة ثقة المواطنين بالدولة، وتحقيق الاستقرار المستدام.
يُعتبر إصلاح السلطة القضائيّة حجر الأساس في مسار العدالة الانتقالية، ويتطلب إعادة هيكلة شاملة تبدأ بتحرير مجلس القضاء الأعلى من هيمنة السلطة التنفيذية، عبر فصل رئاسة المجلس عن المنصب الرئاسي، وإنشاء هيئة قضائية مستقلة تتمتع بصلاحيات كاملة في إدارة شؤون القضاء.
يتطلب ذلك إعادة صياغة قانون السلطة القضائية لحظر تدخل أي جهة تنفيذية في شؤون القضاء، وضمان الاستقلال المالي والإداري للجهاز القضائي، وتفعيل دور المحكمة الدستورية العليا. كما يجب إلغاء المحاكم الاستثنائية التي استُخدمت كأدوات للقمع، وإدماج اختصاصاتها في القضاء العادي، مع ضمان تطبيق معايير المحاكمة العادلة، وتعزيز حقوق الدفاع، وتطوير آليات الاستئناف والتمييز والرقابة القضائية على تنفيذ الأحكام.
ولضمان نزاهة القضاة وكفاءتهم، يجب وضع معايير موضوعية للتعيين والترقية تستند إلى الجدارة، وتحسين الأوضاع المادية للقضاة وموظفي المحاكم، وتعزيز برامج التدريب المستمر ورقمنة العمل القضائي. وينبغي تفعيل دور نقابة المحامين وجمعيات القضاة المستقلة، والتعاون مع المنظمات الحقوقية الدولية لتقديم تقارير دورية عن حالة القضاء وتدريب الكوادر ومراقبة المحاكمات.
تتطلب إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية تحولًا جذريًا في بنيتها وفلسفتها، إذ أوجد النظام السابق أجهزة أمنية متعددة ومتداخلة الصلاحيات خضعت مباشرة لرئيس الجمهورية وتورطت في انتهاكات جسيمة. يجب أولًا تقليص عدد الأجهزة الأمنية الموازية ودمج الأجهزة ذات المهام المتشابهة، وحل التشكيلات غير الرسمية، ووضع قوانين واضحة تحدد صلاحيات كل جهاز وتضمن خضوعه للمساءلة.
من الضروري إلغاء الصلاحيات القضائية للأجهزة الأمنية، وتفكيك شبكات المخبرين، وإنشاء هيئة رقابة مدنية مستقلة، وتعزيز دور البرلمان في الإشراف على أدائها. كما يجب تغيير العقيدة الأمنية بحيث تستند إلى حماية أمن الدولة والمواطنين لا النظام الحاكم، وإلغاء ثقافة العداء للمواطنين، وتطوير برامج تدريب مستمرة على حقوق الإنسان والمهارات التقنية.
وينبغي تجريم كافة أشكال التعذيب والانتهاكات، وإنشاء قنوات مستقلة للتحقيق في شكاوى المواطنين. وفيما يتعلق بالتوظيف، يجب اعتماد معايير الكفاءة والنزاهة في اختيار القيادات الأمنية، بعيدًا عن الولاءات السياسية أو الطائفية، مع تحسين الرواتب والمزايا للحد من الفساد.
يشكل دمج الفصائل المسلحة وبناء جيش وطني موحد تحديًا كبيرًا أمام الاستقرار وإعادة بناء الدولة. يجب وضع إطار سياسي وقانوني شامل يتضمن تشريعات واضحة لإعادة الهيكلة ودمج الفصائل وفق معايير مهنية، مع استبعاد المتورطين في جرائم حرب أو انتهاكات جسيمة، وضمان شمولية العملية من خلال قبول الأفراد غير المتورطين من كافة الأطراف.
ويتطلب الأمر إنشاء لجنة تقييم مستقلة لتدقيق السجلات وقاعدة بيانات مركزية للفصائل المسلحة وأفرادها، مع برامج لتسوية أوضاع العناصر غير المتورطين بانتهاكات جسيمة. وينبغي تطوير برامج للتسريح وإعادة الإدماج المدني تشمل التدريب المهني، وفرص العمل، والدعم النفسي، والاجتماعي.
كما يجب إعادة توزيع القوى البشرية بشكل عادل على المناطق، وتحقيق الحياد في التشكيل العسكري، مع تعزيز الوعي بحقوق الإنسان وتحديث المناهج العسكرية وتوحيد معايير التدريب. ومن الضروري إعادة تنظيم القيادات العسكرية لتمثل جميع مكونات الشعب السوري، وإنشاء آليات شفافة للترقيات، وترسيخ ثقافة الوحدة الوطنية، مع ضبط حيازة السلاح وتدمير الأسلحة المحظورة دوليًا. لضمان الرقابة والمساءلة، يجب إنشاء هيئة رقابة مستقلة ومحاكم عسكرية مختصة وتقييم دوري للإصلاحات، مع الاستفادة من المساعدة الفنية الدولية.
يتطلب نجاح إصلاح المؤسسات تعزيز الشفافية والمساءلة على كافّة المستويات، وذلك عبر تطوير منظومة متكاملة تشمل؛ إنشاء هيئات رقابية مستقلة لكل مؤسسة، تفعيل دور البرلمان في الرقابة على أداء المؤسسات العامة، وضع مدونات سلوك ملزمة للعاملين في القطاعات الحساسة، تطوير قوانين تحمي المبلغين عن الفساد والانتهاكات، وإنشاء آليات فعالة للشكاوى مع ضمان سرعة معالجتها.
كما ينبغي إلزام المؤسسات الرسمية بنشر تقارير دورية عن أدائها ومصروفاتها، وإتاحة المعلومات للعموم وفق قانون حرية الوصول للمعلومات، وتفعيل دور منظمات المجتمع المدني والإعلام في الرقابة على مؤسسات الدولة. إضافة إلى ذلك، يجب تطوير نظم تقييم أداء موضوعية ودورية للمسؤولين والموظفين، وربط التعيينات والترقيات بالكفاءة والنزاهة، والاستفادة من التكنولوجيا لتعزيز الشفافية والحدّ من الفساد. وعلى المستوى الثقافي، ينبغي نشر ثقافة مجتمعية تؤمن بدور الرقابة المدنية وتشجع المواطنين على المساهمة في محاسبة المؤسسات، مع تعزيز التعاون مع المنظمات الدولية المتخصصة في الحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد.
ثامناً: الدعم والتعاون الدولي
يلعب الدعم والتعاون الدولي دورًا محوريًا في تعزيز مسار العدالة الانتقالية في سوريا، حيث يوفر المساعدات التقنية، والدعم المالي، والآليات القانونية التي تضمن محاسبة المسؤولين عن الانتهاكات الجسيمة. يساهم هذا التعاون في دعم الضحايا وإعادة بناء المؤسسات وفق أسس عادلة، كما يمثل ضرورة ملحة نظرًا لتعقيد الحالة السورية وحجم الانتهاكات غير المسبوق وضعف الموارد المحلية. إضافة إلى ذلك، يضمن التنسيق الدولي تنفيذ آليات العدالة الانتقالية بفاعلية، ويعزز الالتزام بالمعايير الدولية لحقوق الإنسان، ويساعد في بناء قدرات المؤسسات الوطنية، مما يسهم في تحقيق مصالحة وطنية مستدامة تعيد الاستقرار إلى البلاد.
تشكل الآليات الدولية المتخصصة ركائز أساسية لدعم مسار العدالة الانتقالية في سوريا. تبرز من بينها الآلية الدولية المحايدة والمستقلة (IIIM) التي أنشأتها الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 2016، والمكلفة بجمع الأدلة على الانتهاكات الخطيرة للقانون الدولي في سوريا وتحليلها وحفظها.
يمكن للهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية التعاون معها من خلال تبادل الوثائق والبيانات، والاستفادة من ملفات القضايا التي أعدتها لدعم عمل المحكمة الخاصة المقترحة. كما يوفر مكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان (OHCHR) دعمًا فنيًا لبناء قدرات الفاعلين المحليين، مع إمكانية الاستفادة من خبراته في وضع أطر العدالة الانتقالية التي تركز على حقوق الضحايا.
أما اللجنة الدولية المستقلة للتحقيق في سوريا (COI)، التي أُنشئت في 2011، فتقدم توثيقًا وتحليلًا مستقلًا للانتهاكات، يمكن أن يدعم عمل لجان الحقيقة والمحكمة الخاصة. وتضطلع المؤسسة المستقلة للمفقودين (IIMP)، التي أُنشئت في 2023، بمعالجة قضية المفقودين في سوريا وتقديم الدعم لأسرهم، من خلال إنشاء قاعدة بيانات شاملة بالتعاون مع اللجان المحلية.
تقدم المنظمات الحقوقية الدولية دعمًا قيمًا لجهود العدالة الانتقالية في سوريا. فقد وثقت منظمات مثل هيومن رايتس ووتش (HRW) ومنظمة العفو الدولية، انتهاكات حقوق الإنسان في سوريا على مدار سنوات النزاع، مما يوفر أرشيفًا غنيًا يمكن استخدامه كأدلة لدعم عمل لجان الحقيقة والمحكمة الخاصة.
كما يمكن لهذه المنظمات مراقبة عمل هيئة العدالة الانتقالية، وتقديم النصح والتدريب لضمان التزامها بالمعايير الدولية. ومن جهتها، تتمتع اللجنة الدولية لشؤون المفقودين (ICMP) بخبرة واسعة في التعامل مع قضايا المفقودين والمقابر الجماعية في سياقات معقدة، ويمكن الاستفادة من هذه الخبرة في توسيع جهود جمع البيانات عن المفقودين، والمساهمة في الكشف عن مصيرهم باستخدام تقنيات متطورة كتحليل الحمض النووي، وتقديم الدعم النفسي لأسرهم.
يعتبر التعاون القضائي الدولي ضروريًا لتحقيق العدالة الشاملة، خاصة مع فرار العديد من المسؤولين عن الانتهاكات الجسيمة خارج سوريا.
تشمل آليات هذا التعاون؛ تبادل المعلومات والأدلة مع المحاكم الدولية والأجنبية التي تنظر في قضايا تتعلق بانتهاكات حقوق الإنسان في سوريا، الاستفادة من الولاية القضائية العالمية التي تتيح للدول محاكمة مرتكبي الجرائم الدولية بغض النظر عن مكان ارتكابها، التصديق على نظام روما الأساسي أو قبول اختصاص المحكمة الجنائية الدولية بموجب المادة 12(3)، إبرام اتفاقيات ثنائية ومتعددة الأطراف لتسليم المطلوبين، وتدريب الكوادر القضائية المحلية على معايير المحاكمات الدولية.
لضمان فاعلية هذا التعاون، يجب إنشاء وحدة متخصصة ضمن هيئة العدالة الانتقالية للتنسيق مع الآليات الدولية، والعمل على بناء قاعدة بيانات مشتركة للانتهاكات والمتهمين، والمشاركة في شبكات التعاون الدولي لمكافحة الإفلات من العقاب.
تاسعاً: التحديات المحتملة وسبل مواجهتها
يواجه مسار العدالة الانتقالية في سوريا تحديات متعددة الأبعاد تتطلب إستراتيجيات شاملة لمواجهتها. على المستوى السياسي والأمني، تبرز صعوبة تحقيق توافق وطني حول آليات العدالة الانتقالية في ظل الاستقطاب السياسي الحاد. كما يشكل استمرار وجود جهات مسلحة متعددة الولاءات تحديًا كبيرًا للاستقرار وتنفيذ برامج العدالة، إذ قد تقاوم هذه الجهات جهود المحاسبة الجنائية خوفًا من المساءلة.
وتُعتبر مقاومة بقايا أجهزة النظام السابق وأنصاره عائقًا أمام الإصلاح المؤسسي، خاصة في القطاعات الأمنية والقضائية. إضافة إلى ذلك، تمثل التدخلات الإقليمية والدولية المتضاربة عقبة أمام إحراز تقدم في مسار العدالة، حيث تسعى قوى خارجية لتأمين مصالحها على حساب استقلالية القرار السوري.
لمواجهة هذه التحديات، يمكن اعتماد إستراتيجيات تشمل؛ تعزيز الحوار الوطني الشامل، بناء الإجماع حول أولويات العدالة الانتقالية، تطبيق خطة متكاملة لنزع السلاح والتسريح وإعادة الدمج، بناء تحالفات دولية داعمة للعدالة الانتقالية، وتفعيل آليات الحماية للضحايا والشهود.
على الصعيد الاقتصادي والمالي، تعاني سوريا من انهيار اقتصادي شامل وبنية تحتية متهالكة، مما يحدّ من الموارد المتاحة لتنفيذ برامج العدالة الانتقالية. تتطلب عمليات التوثيق، المحاكمات، برامج التعويض، وإعادة الإعمار موارد مالية ضخمة قد تفوق قدرة الدولة. وتواجه سوريا صعوبة في تحديد أولويات الإنفاق بين متطلبات العدالة الانتقالية والاحتياجات الأساسية العاجلة للسكان.
كما تشكل العقوبات الدولية والقيود المفروضة على التحويلات المالية عقبات أمام تمويل مشاريع العدالة الانتقالية. لمعالجة هذه التحديات، يقترح إنشاء صندوق دولي لدعم برامج العدالة الانتقالية، إعطاء الأولوية للمشاريع ذات الأثر المزدوج في التعافي الاقتصادي وتحقيق العدالة، البحث عن مصادر تمويل بديلة كاسترداد الأصول المنهوبة ومصادرة أموال المتورطين في انتهاكات، وتطوير شراكات مع القطاع الخاص والمجتمع المدني لدعم برامج إعادة التأهيل وإعادة الدمج.
يشكل انعدام الثقة والانقسامات المجتمعية تحديًا جوهريًا أمام العدالة الانتقالية، حيث أدت سنوات النزاع إلى تعميق الانقسامات الطائفية والإثنية والسياسية، مما يعقد عملية المصالحة. وقد أدى فقدان الثقة بمؤسسات الدولة، خاصة الأمنية والقضائية، إلى صعوبة تقبل المواطنين أي إصلاحات تقودها هذه المؤسسات.
كما قد تسبب التباينات في فهم مفهوم العدالة بين المكونات المختلفة للمجتمع السوري صراعات حول أولويات ومسارات العدالة الانتقالية. ويساهم انتشار ثقافة الانتقام والثأر الفردي في عرقلة مساعي العدالة المؤسساتية، كما يتضح من ارتفاع وتيرة العمليات الانتقامية الفردية منذ سقوط النظام.
وتُعد التأثيرات النفسية لصدمات الحرب والانتهاكات عائقًا أمام الانخراط في مسارات المصالحة. لمواجهة هذه التحديات، تُقترح إستراتيجيات منها: تصميم حملات توعية شاملة حول أهمية العدالة الانتقالية كنهج بديل عن الانتقام، ضمان تمثيل جميع المكونات المجتمعية في مؤسسات العدالة الانتقالية، تعزيز الشفافية في جميع مراحل العملية، دعم المبادرات المجتمعية للمصالحة، وتطوير برامج التعافي النفسي والاجتماعي للضحايا والمتضررين.
لتجاوز التحديات المذكورة، يمكن اعتماد إستراتيجيات متكاملة تشمل؛ تبني نهج تدريجي ومرحلي في تطبيق العدالة الانتقالية، مع التركيز في المرحلة الأولى على تلبية احتياجات الضحايا الأكثر تضررًا وبناء الثقة؛ وضع خطة وطنية شاملة للعدالة الانتقالية بمشاركة جميع الأطراف المعنية، تحدد الأهداف والآليات والأطر الزمنية؛ تعزيز الملكية الوطنية لمسار العدالة الانتقالية مع الاستفادة من الخبرات الدولية، حيث يلعب السوريون الدور الرئيسي مع دعم وإشراف دولي؛ تطوير نظام مراقبة وتقييم فعال لرصد التقدم في تنفيذ برامج العدالة الانتقالية وإجراء التعديلات اللازمة؛ وبناء قدرات المؤسسات الوطنية والمجتمع المدني في مجال العدالة الانتقالية من خلال برامج تدريبية متخصصة.
إضافة إلى ذلك، يمكن استخلاص الدروس من تجارب الدول التي مرت بظروف مشابهة، مع مراعاة خصوصية السياق السوري، وإتاحة مساحات آمنة للحوار والنقاش حول قضايا العدالة الانتقالية بين مختلف مكونات المجتمع. ويبقى الدعم الدولي ركيزة أساسية، مع ضرورة تنسيق الجهود وتوحيد الرؤى بين الجهات الداعمة، وتخصيص موارد كافية لضمان استدامة برامج العدالة الانتقالية.
الخاتمة
تمثل العدالة الانتقالية ضرورة وطنية لسوريا التي تقف اليوم على مفترق طرق تاريخي بعد سقوط نظام استبدادي استمر لأكثر من نصف قرن. إنها ليست ترفًا أو خيارًا، بل هي شرط أساسي لمعالجة إرث الانتهاكات الجسيمة التي خلّفت ملايين الضحايا والنازحين، وأحدثت دمارًا هائلًا في البنية المادية والاجتماعية للبلاد.
تكمن أهمية العدالة الانتقالية في كونها النهج الأكثر فاعلية للتعافي الشامل من آثار النزاع، وإرساء أسس راسخة لدولة تقوم على سيادة القانون واحترام حقوق الإنسان. فعبر أركانها الأربعة – المحاسبة الجنائية، الحقيقة والمصالحة، جبر الضرر والتعويض، وإصلاح المؤسسات – يمكن للعدالة الانتقالية أن تسهم في تفكيك بنى الاستبداد والقمع، وإعادة بناء الثقة بين المواطنين والدولة، ومنع تكرار الانتهاكات، وتحقيق المصالحة الوطنية التي تمهد الطريق نحو الاستقرار المستدام.
إن نجاح مسار العدالة الانتقالية يتطلب التزامًا جماعيًا من جميع الأطراف المعنية بتحقيق عدالة غير انتقامية، تركز على الإصلاح والتعافي بدلًا من الانتقام والثأر. يجب إدراك أن العدالة الانتقالية ليست وسيلة للتشفي من الخصوم، بل هي إطار متكامل يهدف إلى معالجة جذور النزاع وترميم النسيج الاجتماعي. هذا يستلزم نهجًا متوازنًا يجمع بين المحاسبة الضرورية للمسؤولين الرئيسين عن الانتهاكات من جهة، وتوفير فرص المصالحة والإدماج للأفراد الأقل تورطًا من جهة أخرى.
كما يتطلب الأمر مشاركة واسعة من الضحايا، المجتمع المدني، المؤسسات الوطنية، والمجتمع الدولي، في بناء رؤية مشتركة للعدالة تراعي احتياجات جميع السوريين وتطلعاتهم. فالعدالة الانتقالية ليست مسارًا يفرضه طرف على آخر، بل عملية تشاركية تستند إلى الحوار المفتوح والشفافية والشمولية، وتأخذ بعين الاعتبار خصوصية السياق السوري وتعقيداته.
إن الرؤية التي تقدمها الشبكة السورية لحقوق الإنسان للعدالة الانتقالية تمثل خارطة طريق نحو سوريا المستقبل: الوطن القائم على العدالة والكرامة وسيادة القانون. هذه سوريا الجديدة التي يتطلع إليها السوريون على اختلاف مشاربهم، دولة يعيش فيها المواطنون بكرامة وأمان، تصان حقوقهم وحرياتهم، وتُحترم خياراتهم.
سوريا التي تتجاوز ماضي الاستبداد والقمع لتبني مستقبلًا يقوم على المواطنة المتساوية، المشاركة السياسية، والتعددية الثقافية. ومع أن الطريق إلى سوريا هذه طويل وشاق ومليء بالتحديات، فإن وجود إرادة وطنية صلبة وإصرار على المضي قدمًا في مسار العدالة الانتقالية يجعل هذا الهدف قابلًا للتحقيق.
وفي نهاية المطاف، فإن العدالة الانتقالية ليست نهاية المسار، بل بداية عملية تحول طويلة نحو استعادة سوريا التي يستحقها أبناؤها: سوريا العدالة، والديمقراطية، والتنمية، والسلام.
المصدر: موقع الجزيرة نت
يحاول أيتام الأسد ومن لا يزالون أسرى خطيئة الولاء الأعمى له تشويه صورة الشعب السوري الحر، ذلك الشعب الذي سبق الجميع في الوقوف بوجه الظلم والطغيان، ورفض الخضوع للدكتاتور، وقدم في سبيل حريته وكرامته الغالي والنفيس. اليوم، يسعى هؤلاء إلى إلصاق تُهم التطبيل والتزمير بذات الشعب الذي لم يعرف الخنوع يوماً، وذلك لمجرد أنه يثني على بعض الخطوات الإيجابية التي تتخذها القيادة الجديدة.
لكن الحقيقة التي يُراد طمسها أن هذا الشعب لم يتغيّر. هو نفسه من هتف ضد الأسد المجرم في ساحات الحرية، وهو اليوم من يُشيد بالخطوة الصائبة، وينتقد الخطأ بلا خوف أو مجاملة. لا يُطبّل، بل يقول كلمة الحق. لا يُزمّر، بل يشارك في بناء وطنه، لأنه باختصار: اعتاد أن يعيش بكرامة، لا بشعارات جوفاء.
أما الفرق بين من ولد من رحم الحرية، وبين من تربى على طقوس التهليل للطغاة، فهو كالفرق بين المواطن الذي يرى الدولة مسؤولية مشتركة، فيشارك في نقدها وتطويرها، وبين التابع الذي لا يرى في الدولة إلا تمثالاً يُسبّح بحمده صباح مساء.
بين التطبيل والثناء الواعي
من المهم أن نوضح هنا: هناك فرق شاسع بين التطبيل الأعمى، وبين الثناء على المواقف الإيجابية. التطبيل هو تعطيل للعقل، وتصفيق لكل ما يُقال ويفعل دون نظر أو تحليل. أما الثناء الواعي، فهو دعم للخير، وتحفيز على الاستمرار فيه، وهو أيضاً لا يمنع النقد حين يستوجب الأمر ذلك. الشعب السوري الحر يفهم هذا الفرق جيداً، ولذلك تراه أول من ينتقد حين يخطئ المسؤول، وأول من يدعم حين يُحسن.
الشعب لا يُصفّق.. بل يراقب ويقيّم
الشعب السوري شعر بصدق نوايا الحكومة الجديدة، وبأن هناك فعلاً من يعمل لتحسين الواقع لا لبيع الأوهام. لكنه لم يرفع صور أحمد الشرع في الساحات، ولم يهتف له بالهتافات الرنانة، ولم يطبع صوره على السيارات والمحال كما اعتاد أتباع الأسد المخلوع أن يفعلوا عند كل مسؤول. بل تفاعل الشعب مع المواقف والسياسات الإيجابية، لا مع الأسماء أو الوجوه. واللافت أن هذا النهج العقلاني والواعي لم يأتِ من فراغ، بل من تجربة طويلة في رفض التقديس الأعمى لأي شخصية، مهما كانت.
ولم يكن هذا التفاعل محلياً فقط، بل حتى أحد أهم زعماء العالم من الناحية السياسية لم يتردد في الإشادة بالنهج الذي يمثّله أحمد الشرع، في مؤشر على أن هناك شيئاً جديداً ومختلفاً يُبنى في سوريا، وأن هذا النهج يُرى ويُقدّر على الساحة الدولية.
حكومة تواجه التحدي
الحكومة الحالية، رغم قصر الفترة منذ تسلمها زمام الدولة، أثبتت أنها قادرة على التعامل مع الصعوبات الكبيرة التي تعصف بالبلاد. إرادة واضحة في تحسين الوضع المعيشي، تحركات ملموسة لحل الأزمات المتراكمة التي خلفها نظام بشار الأسد المجرم على مدى عقود، ومحاولات جادة لاستعادة الدولة من براثن الخراب.
تشجيع لا تملق، دعم لا مديح
هذه الحكومة لا تحتاج التصفيق الأجوف، بل تحتاج أن تشعر بأن الشعب يقف معها عندما تسير الأمور بالاتجاه الصحيح. من حقها أن تُشكر عندما تُحسن، وأن يُعترف بإنجازاتها عندما تكون واقعية وملموسة. لكنها بحاجة إلى أكثر من ذلك: بحاجة إلى دعم حقيقي، بحاجة إلى كل عقل مبدع، وكل ذراع قادرة، وكل قلم صادق، وكل شخص يمكنه أن يُحدث فرقاً في الواقع الصعب. هي بحاجة لمن يقاتل معها لا من يهتف لها، لمن يصحح معها لا لمن يُزيّن الأخطاء، لمن يبني معها لا لمن يراقب من بعيد.
في سياقات ما بعد النزاع، يُعترف دوليًا بأن الحق في السكن والأرض والملكية يُشكّل ركيزة أساسية لتحقيق السلام، وترسيخ العدالة الانتقالية، وضمان عودة آمنة وكريمة للاجئين والنازحين.
وتُظهر تجارب النزاعات حول العالم أن غياب حقوق ملكية واضحة وقابلة للتنفيذ يُعطل مسارات المصالحة، ويُقوّض جهود التعافي المستدام. إذ تُعد الملكية، في جوهرها، مظلةً للأمن الشخصي والاقتصادي، كما ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالهوية المجتمعية، والتماسك الاجتماعي، والثقة المدنية في مجتمعات ما بعد الحرب.
في هذا السياق الحرج، أصدرت الشبكة السورية لحقوق الإنسان مؤخرًا تقريرًا موسّعًا يُوثّق انتهاكات ممنهجة لحقوق السكن والأرض والملكية، ارتكبها نظام بشار الأسد، تحديدًا في محافظة درعا جنوبي سوريا. وبحسب التقرير، انتهج النظام بشكل مدروس مزيجًا من التلاعب التشريعي، والتدمير المتعمد، والتشريد القسري، والاستيلاء على ممتلكات المدنيين، كوسيلة لمعاقبة كل من شارك في انتفاضة 2011 أو أبدى تعاطفًا معها.
نُفّذت هذه السياسات تحت غطاء قانوني زائف، عبر مراسيم وتشريعات مثل القانون رقم 10 لعام 2018، والمرسوم التشريعي 66 لعام 2012، والتي لم تكن سوى أدوات لإعادة رسم الخريطة الديمغرافية والاجتماعية لسوريا، ومعاقبة المجتمعات الخارجة عن سيطرة النظام. وقد أدت هذه الانتهاكات المنهجية إلى تمزيق نسيج مجتمعات درعا، مما شكّل عقبة حقيقية أمام أي إمكانية لتحقيق سلام مستدام أو عدالة انتقالية حقيقية. كما أنها باتت تمثّل حاجزًا صلبًا يحول دون عودة مئات الآلاف من اللاجئين والنازحين، ويُبقيهم أسرى المنفى والشتات القسري.
الخلفية والسياق
شكّلت محافظة درعا حجر الأساس في التاريخ الحديث لسوريا، باعتبارها حاضنة للثورة السورية في مارس/آذار 2011، حين تحوّلت إلى ساحة احتجاجات شعبية كبرى مناهضة للنظام. طالبت هذه المظاهرات بإصلاحات ديمقراطية، واحترام حقوق الإنسان، ووضع حد لعقود من الحكم الاستبدادي تحت سلطة نظام الأسد.
في 18 مارس/آذار من العام ذاته، انطلقت أول مظاهرة حاشدة في درعا، وقوبلت بقمع دموي وفوري من قبل أجهزة أمن النظام، أسفر عن سقوط قتلى وجرحى في صفوف المدنيين. إلا أن هذا الرد العنيف لم يُخمِد الحراك، بل غذّاه، فامتدت شرارة الاحتجاجات من درعا إلى محافظات أخرى، لتتخذ شكل حركة وطنية واسعة تطالب بالتغيير السياسي الجذري.
جاء رد النظام على هذه الانتفاضة منهجيًا ومدمرًا؛ إذ أطلق العنان لقواته العسكرية، وشنّ حملات اعتقال تعسفي، وإخفاء قسري، وتعذيب واسع النطاق. وقد وثّقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان سلسلة من الانتهاكات الجسيمة التي ارتكبت بحق المدنيين في درعا منذ عام 2011، من بينها ما لا يقل عن 22,443 حالة قتل خارج نطاق القانون، من ضمنها 3,869 طفلًا و2,140 امرأة، بالإضافة إلى 8,706 حالات اعتقال واختفاء قسري شملت 224 طفلًا و194 امرأة. كما تم تسجيل 2,500 حالة وفاة تحت التعذيب، بينهم 19 طفلًا و4 نساء، فضلًا عن 158 هجومًا على منشآت حيوية، شملت 25 مدرسة و35 منشأة طبية.
وفي خضم هذا السجل الحافل بانتهاكات حقوق الإنسان، برزت مصادرة حقوق الملكية كجزء من استراتيجية شاملة اتبعها النظام. وباستخدام أدوات تشريعية تُظهر ظاهرًا من المشروعية، أصدر الأسد سلسلة من القوانين والمراسيم التي شرعنت عمليًا الاستيلاء على ممتلكات المعارضين والنازحين، لتُستخدم هذه الأملاك لاحقًا في إعادة توزيع عقابية تخدم أهداف النظام السياسية والاجتماعية.
أقر النظام حزمة من القوانين والإجراءات التشريعية التي صُممت خصيصًا لتُضفي مظهرًا قانونيًا على عمليات نزع الملكية الجماعية، تحت ذرائع "إعادة الإعمار" و"التخطيط العمراني".
الطبيعة المنهجية لانتهاكات الملكية
منذ اندلاع الانتفاضة الشعبية في عام 2011، اتبع نظام الأسد سياسة منهجية لاستهداف ممتلكات المدنيين في مختلف أنحاء سوريا، مع تصاعد ملحوظ لهذه الممارسات في مناطق مثل محافظة درعا. وقد اتسم هذا النهج بالتدمير العمد، والمصادرة الواسعة، والاستيلاء المتكرر على منازل وأراضٍ وممتلكات، تعود بمعظمها إلى معارضين للنظام، أو مختفين قسريًا، أو نازحين، أو لاجئين، بل وحتى أولئك المشتبه في عدم ولائهم.
يعتمد هذا الأسلوب على سلسلة من الخطوات المنظّمة تبدأ عادةً بقصف متعمّد للأحياء السكنية باستخدام أسلحة عشوائية ومحظورة دوليًا، مثل البراميل المتفجرة، والصواريخ الموجّهة، والأسلحة الكيميائية. ونتيجةً لهذا التدمير، يُجبر السكان على النزوح القسري، ليعقب ذلك استيلاء النظام على الممتلكات المهجورة عبر المصادرة أو النهب، ما يُشكّل عقبة مباشرة أمام عودة السكان إلى ديارهم.
في صميم هذه الممارسات، أقر النظام حزمة من القوانين والإجراءات التشريعية التي صُممت خصيصًا لتُضفي مظهرًا قانونيًا على عمليات نزع الملكية الجماعية، تحت ذرائع "إعادة الإعمار" و"التخطيط العمراني". ومن أبرز هذه الأدوات القانونية:
المرسوم التشريعي رقم 66 لعام 2012: رُوّج له كمبادرة لإعادة التطوير الحضري في بعض أحياء دمشق، لكنه استُخدم فعليًا كوسيلة لحرمان المعارضين من ممتلكاتهم، وإعادة تخصيص العقارات ذات القيمة العالية لصالح الموالين والمستثمرين المقربين من النظام.
القانون رقم 23 لسنة 2015: منح الوحدات الإدارية صلاحية مصادرة ما يصل إلى 40% من أراضي القطاع الخاص، تحت مبررات فضفاضة تتعلق بـ"المصلحة العامة"، ما أدى إلى نزع ملكيات من دون تعويض عادل أو سُبل قانونية فعالة للطعن.
القانون رقم 10 لعام 2018: يُعد الأداة التشريعية الأخطر، وقد أثار إدانة واسعة من منظمات حقوق الإنسان. فرض هذا القانون إنشاء مناطق تطوير عمراني على مستوى البلاد، مستهدفًا بشكل خاص النازحين، من خلال مهَل زمنية تعجيزية لإثبات الملكية، وهي شروط يستحيل على كثير من الضحايا تلبيتها بسبب النزوح أو السجن، ما سهّل عمليات الاستيلاء الجماعي على ممتلكاتهم.
المرسوم رقم 140 لعام 2023: يمثل أحدث الإضافات في هذا المسار، حيث عزز من قبضة النظام على الملكيات الخاصة تحت ذريعة "إعادة الإعمار"، مما زاد من تعقيد فرص استعادة الممتلكات من قبل المجتمعات النازحة.
التأثير الإنساني: لماذا لا يستطيع اللاجئون العودة؟
لم تقتصر الانتهاكات المنهجية التي ارتكبها نظام الأسد في ملف السكن والأرض والملكية على الدمار المادي فحسب، بل أفضت إلى كارثة إنسانية معقّدة ألقت بظلالها الثقيلة على مستقبل ملايين السوريين. ويمكن رصد ثلاث وسائل رئيسية اتبعها النظام لعرقلة العودة:
التدمير المتعمد ومحو الأحياء:
استُهدفت أحياء وبلدات بأكملها في درعا بالتدمير الممنهج، من أبرزها: طريق السد، اللجين، حي النازحين، خربة غزالة، ونوى. وكما توثق صور الأقمار الصناعية وشهادات السكان، لم يكن الدمار عشوائيًا، بل طال عمدًا البنية التحتية السكنية، والمرافق التجارية، والخدمات الأساسية كالمدارس ومراكز الرعاية الصحية، مما حوّل هذه المناطق إلى بيئات غير صالحة للسكن، اقتصاديًا وماديًا، وجعل من العودة أمرًا شبه مستحيل.
العوائق القانونية والإدارية:
استغل النظام فوضى الحرب لتمرير قوانين تخدم أهدافه في الاستيلاء المنظم على الممتلكات. وبموجب هذه القوانين، مُنحت السلطات غطاءً قانونيًا لمصادرة أراضٍ ومنازل تعود لنازحين لا يملكون إمكانية تقديم وثائق ملكية، بسبب التهجير أو السجن أو اختفاء السجلات الرسمية.
الاحتلال وإعادة توزيع الممتلكات:
في مناطق واسعة، تولّت قوات النظام والميليشيات المتحالفة معه – سواء محلية أو إيرانية – احتلال الممتلكات المصادرة، أو إعادة توزيعها على موالين وشخصيات نافذة. وقد أُجريت مزادات علنية لهذه الممتلكات، في خطوة تعكس نية واضحة لإعادة تشكيل التركيبة السكانية بطريقة تحول دون عودة السكان الأصليين، وتُعقّد أي محاولة مستقبلية لاستعادة المجتمعات المُهجّرة.
يعاني النازحون من أزمات نفسية متفاقمة، ناجمة عن التهجير المتكرر، وفقدان الأمل، وانعدام الشعور بالأمان بشأن المستقبل.
التأثير على المجتمعات النازحة
لم تتوقف تداعيات انتهاكات حقوق السكن والأرض والملكية عند الأفراد فحسب، بل امتدت لتُخلّف آثارًا إنسانية مدمّرة على بنية المجتمعات النازحة ككل. ويمكن تلخيص أبرز هذه التأثيرات في ثلاث عواقب رئيسية:
• فقدان سبل العيش والاستقرار الاقتصادي
لم تقتصر الانتهاكات على مصادرة المنازل، بل طالت أيضًا الأراضي الزراعية والمنشآت التجارية، التي تُعد مصدر الرزق الأساسي للعديد من العائلات. فقد أدّى الاستيلاء على الأراضي الزراعية في ريف درعا، إلى جانب تدمير البنية التحتية التجارية، إلى تجريد آلاف الأسر من مصادر دخلها واستقلالها الاقتصادي. وفي ظل غياب التعويض أو بدائل اقتصادية حقيقية، وجد اللاجئون والنازحون أنفسهم عالقين في حلقة مفرغة من الفقر والتبعية، غير قادرين على بناء حياة اقتصادية مستقرة سواء داخل سوريا أو في أماكن اللجوء.
• تفكك المجتمع والنسيج الاجتماعي
أدى النزوح القسري إلى تمزيق عميق في النسيج الاجتماعي، فقد تشتّتت العائلات، وتقطّعت الروابط المجتمعية نتيجة للانفصال الجغرافي والاضطرار إلى الهروب من المناطق الأصلية. وأسهمت التغييرات الديمغرافية المفروضة قسرًا، الناتجة عن السيطرة على الممتلكات، في زعزعة البنى الاجتماعية التقليدية، لا سيما في درعا، التي عُرفت تاريخيًا بتماسكها القبلي والمجتمعي. هذا التفكك يزيد من الشعور بالاغتراب والانقسام، ويُضعف من فرص المصالحة الوطنية، ويجعل أي مشروع للعدالة الانتقالية أو التعافي المجتمعي أكثر تعقيدًا.
• استمرار انعدام الأمن والصدمة النفسية
يعاني النازحون من أزمات نفسية متفاقمة، ناجمة عن التهجير المتكرر، وفقدان الأمل، وانعدام الشعور بالأمان بشأن المستقبل. إن عدم القدرة على العودة، أو استعادة الممتلكات، أو إعادة بناء الحياة، يُبقي آلاف العائلات في حالة من القلق الوجودي المزمن، وصدمة ممتدة تهدد الصحة النفسية والاجتماعية للأفراد والمجتمعات على المدى الطويل.
رغم فداحة الانتهاكات التي طالت حقوق السكن والأرض والملكية في سوريا، لا سيما في محافظة درعا، فإن رد الفعل الدولي ظل متواضعًا ومجزّأ، ولم يرتقِ إلى مستوى التحدي الذي تفرضه هذه السياسات الممنهجة.
تحليل قانوني
بموجب القانون الإنساني الدولي والقانون الدولي لحقوق الإنسان، تُعد حماية حقوق السكن والأراضي والملكية عنصرًا جوهريًا في تأمين حماية المدنيين في أثناء النزاعات، وتسريع جهود التعافي وإعادة الإعمار في المراحل اللاحقة للنزاع. وتؤكد العديد من الاتفاقيات والمعاهدات الدولية عدم شرعية الاستيلاء التعسفي على الممتلكات الخاصة أو تدميرها، كما تُدين التهجير القسري بوصفه انتهاكًا جسيمًا لحقوق الإنسان.
وفي الحالة السورية، تُشكّل الممارسات التي انتهجها نظام الأسد — من تدمير ممنهج للممتلكات، ومصادرتها، وإعادة توزيعها، ولا سيما في محافظة درعا — خرقًا واضحًا لتلك المبادئ الدولية. ويقدّم توثيق الشبكة السورية لحقوق الإنسان دليلًا دقيقًا وشاملًا يُظهر أن هذه الانتهاكات لم تكن مجرد نتائج جانبية للحرب، بل سياسة متعمدة وواسعة النطاق تهدف إلى تفريغ المجتمعات من سكانها، في مخالفة صارخة للمعايير الأساسية للقانون الدولي الإنساني.
إن استهداف الأحياء السكنية، والأراضي الزراعية، والبنى التحتية المدنية الحيوية وتدميرها لا يمكن تبريره بأي ذريعة عسكرية، بل يُعد إجراءً عقابيًا غير مشروع، يرمي إلى تهجير السكان، ومعاقبة المعارضة، وإعادة تشكيل التركيبة السكانية للبلاد. وتتطابق هذه الأفعال مع التعريف القانوني لجرائم الحرب الوارد في المادة 8(2)(أ)(رابعًا) من نظام روما الأساسي، لكونها "واسعة النطاق"، و"غير قانونية"، و"تُنفّذ بشكل تعسفي".
إلى جانب ذلك، فإن إصدار النظام السوري سلسلة من القوانين التي أُشير إليها سابقًا يوضح وجود نية ممنهجة لاستخدام التشريع كأداة لتقنين المصادرة والتهجير. وتتناقض هذه القوانين بشكل مباشر مع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، كما تُخالف المبادئ الأساسية التي نصّت عليها مبادئ بينهيرو بشأن حماية حقوق الملكية في حالات النزاع والعودة.
علاوة على ذلك، يندرج التهجير القسري الناتج عن مصادرة وتدمير الممتلكات ضمن تعريف الجرائم ضد الإنسانية، كما ورد في المادة 7 من نظام روما الأساسي، خصوصًا عندما يُمارس بشكل ممنهج ضد جماعات يُنظر إليها كخصوم سياسيين للنظام. وتشير البيانات الميدانية بوضوح إلى أن معظم من تعرّضوا للمصادرة أو فقدان ممتلكاتهم، ينتمون إلى مجتمعات تم استهدافها على خلفية معارضتها للنظام، أو بسبب ما اعتُبر "عدم ولائها".
ردود الفعل والمسؤوليات الدولية
رغم فداحة الانتهاكات التي طالت حقوق السكن والأرض والملكية في سوريا، لا سيما في محافظة درعا، فإن رد الفعل الدولي ظل متواضعًا ومجزّأ، ولم يرتقِ إلى مستوى التحدي الذي تفرضه هذه السياسات الممنهجة. فبالرغم من إدانة العديد من وكالات الأمم المتحدة، ومنظمات حقوق الإنسان الدولية، وحكومات غربية، لسياسات التهجير القسري والمصادرة التعسفية، إلا أن هذه الإدانات لم تُترجم إلى خطوات سياسية أو قانونية فاعلة لمحاسبة المسؤولين عن هذه الانتهاكات.
وقد أصدر مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة عددًا من القرارات التي تُدين النزوح الجماعي وتدمير الممتلكات، كما سلطت لجنة التحقيق الدولية المستقلة بشأن سوريا الضوء مرارًا على التشريعات التي استخدمها النظام لترسيخ سياسات التهجير. إلا أن هذه التصريحات، على أهميتها من حيث التوثيق، بقيت من دون أثر ملموس، في ظل غياب آليات إنفاذ دولية فعالة أو أدوات ضغط حقيقية.
وتبقى جهود التوثيق والسعي إلى تحقيق العدالة الانتقالية رهينة للشلل الجيوسياسي، خاصة في ظل استخدام حلفاء النظام حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن الدولي، ما حال دون إحالة الوضع السوري إلى المحكمة الجنائية الدولية. وبهذا، حُرم آلاف الضحايا من حقهم في الانتصاف القضائي، وبقيت الانتهاكات بلا محاسبة.
لم يكن النزاع في سوريا مجرد حرب تقليدية، بل صراع متعدد الأبعاد استهدف الذاكرة والهوية والجغرافيا على حد سواء. وفي درعا، كما في مدن سورية أخرى، تحوّلت أدوات الدولة — من القانون إلى القوة العسكرية — إلى وسيلة للسيطرة والعقاب الجماعي.
ملف حقوق الملكية: أولوية ملحّة أمام الحكومة السورية الجديدة
في مرحلة ما بعد سقوط النظام، تواجه الحكومة السورية القادمة تحديًا كبيرًا يتمثل في معالجة ملف حقوق السكن والأرض والملكية، سواء في محافظة درعا أو في سائر المناطق المتضررة. وتُعد هذه القضية مدخلًا أساسيًا لأي مشروع للعدالة الانتقالية وإعادة بناء الثقة بين الدولة والمواطن.
ينبغي أن تبدأ هذه المعالجة بإلغاء جميع القوانين والمراسيم التي شرعنت الاستيلاء على ممتلكات المواطنين، وعلى رأسها: القانون رقم 10 لعام 2018، والمرسوم التشريعي رقم 66 لعام 2012، والقانون رقم 23 لعام 2015، والمرسوم رقم 140 لعام 2023، وغيرها من الأدوات القانونية التي شكّلت الإطار التشريعي لسياسات المصادرة والتهجير.
ويجب أن يُستبدل هذا الإطار بمنظومة قانونية جديدة، تكفل استرداد الحقوق أو التعويض عنها من خلال آليات قضائية فعالة تتسم بالشفافية والاستقلالية، وتراعي شمول النازحين داخليًا واللاجئين في الخارج ممن فقدوا ملكياتهم في ظل النظام السابق.
كما ينبغي أن تتضمن خطة الحكومة إنشاء هيئة محلية مستقلة، تتولى مراجعة ملفات المصادرة، والتحقيق فيها، وتحديد المسؤولين عنها، تمهيدًا لإنصاف المتضررين ومحاسبة الجناة. ويمكن لتلك الهيئة التعاون مع منظمات دولية متخصصة، أو الاستفادة من تجارب دول مرّت بمسارات مشابهة، بهدف تطوير آليات ملائمة لتسوية النزاعات العقارية ما بعد الحرب، مع مراعاة التعقيدات القانونية والديمغرافية الخاصة بالسياق السوري.
وأخيرًا، يجب أن تُبدي الحكومة التزامًا وطنيًا يتجاوز الإصلاح القانوني، ليشمل العمل الجاد على ترميم النسيج الاجتماعي المفكك، وضمان التماسك المجتمعي، من خلال مبادرات محلية للعدالة المجتمعية، وتعزيز الثقة بين الدولة والمواطن، وتهيئة البيئة السياسية والإدارية اللازمة لعودة آمنة وكريمة للمهجّرين قسرًا إلى مدنهم وبلداتهم.
خاتمة
لم يكن النزاع في سوريا مجرد حرب تقليدية، بل صراع متعدد الأبعاد استهدف الذاكرة والهوية والجغرافيا على حد سواء. وفي درعا، كما في مدن سورية أخرى، تحوّلت أدوات الدولة — من القانون إلى القوة العسكرية — إلى وسيلة للسيطرة والعقاب الجماعي، عبر استخدام السكن والأرض والملكية كوسائل لاقتلاع من حلموا بالتغيير، وإبقائهم في دائرة النفي القسري.
وعليه، فإن هذه الوقائع تمثّل نداءً واضحًا للمجتمع الدولي، ولأي حكومة سورية قادمة، بضرورة الاعتراف بأن حق العودة لا يكتمل من دون استعادة الحق في الملكية. فلا عدالة ممكنة من دون محاسبة حقيقية واسترداد للحقوق. وحتى يتحقق ذلك، ستبقى عودة لاجئي ونازحي محافظة درعا حلمًا مؤجلًا، محفوفًا بالتعقيدات، في حين نأملها عودة كريمة وآمنة كما يستحقون.
المصدر: تلفزيون سوريا
ستة أشهر مضت على سقوط نظام بشار الأسد، ومنذ ذلك الحين، تبذل الأطراف السورية من رأس الهرم في السلطة الجديدة بقيادة الرئيس "الشرع" ووزير الخارجية "الشيباني" جهوداً جبارة، إضافة لمنظمات المجتمع المدني والمنظمات الحقوقية على رأسها "الشبكة السورية لحقوق الإنسان"، لإقناع الدول الغربية بأن أسباب العقوبات المفروضة على سوريا قد زالت بسقوط الديكتاتور، وأن الوقت حان لرفع تلك العقوبات.
هذه الجهود التي استطاعت خلال فترة زمنية قياسية، تحقيق تقدم كبير على مستويات عدة في عدة دول غربية اقتنعت بضرورة تخفيف العقوبات، واستقبلت الوفود السورية، وزارت دمشق، تكللت أخيراً بالوصول للعثرة الأكبر أمام إعادة بناء الدولة وهي "العقوبات الأمريكية" المفروضة على سوريا، ليس منذ 2011 فحسب، بل منذ عهد حافظ الأسد.
هذا الإنجاز خطوة تاريخية تُسجل لصالح السياسة المتزنة التي اتبعتها السلطة السورية الجديدة برئاسة "الشرع"، والعمل الدؤوب اليومي لوزير الخارجية "الشيباني" الذي طالما طالب برفع العقوبات في كل المحافل الدولية وأكد على ضرورة وأهمية هذه الخطوة، إضافة لمساعي الدول الصديقة ممثلة بـ "تركيا - قطر - السعودية" التي ساعدت في تذليل لكل العقبات الدولية للوصول لهذه المرحلة.
لاشك أن العقوبات الغربية "الأوربية والأمريكية" إضافة للعزلة العربية، كان لها الأثر الكبير والبالغ في تقويض سلطة نظام الأسد، وساهمت في إضعافه اقتصادياً وسياسياً وعلى مستويات عدة، رغم انعكاسها المباشر على الشعب السوري، بسبب تعنت الأسد في ممارسة القتل والاستبداد ورفضه كل الطروحات والحلول لوقف جرائمه وتهديده المنطقة بأسرها عبر تهريب المخدرات، علاوة عن إطلاق يد ميليشيات إيران التي شكلت تهديد لدول المنطقة.
ومع سقوط نظام بشار الأسد، ووقف تهريب المخدرات وإلزام انسحاب ميليشيات إيران وتقويض أذرعها، بات من الضروري إسقاط تلك العقوبات، كونها لم تكن يوماً موجهة ضد نهضة سوريا أو الشعب السوري، وإنما هي مرتبطة بنظام حكم استبد في سوريا لعقود طويلة، ومارس القتل والانتهاكات والجرائم الجسيمة، وهذا كان الهدف منذ اليوم الأول لسقوط الأسد، فكان بيان "الشبكة السورية لحقوق الإنسان" عقب سقوط نظام الأسد بأقل من أسبوع، يطالب صراحة برفع العقوبات الاقتصادية عن سوريا.
وقالت الشبكة في تقريرها إن العقوبات التي فرضت على نظام الأسد كانت بسبب الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب التي ارتكبها منذ آذار 2011، وبسبب فشل مجلس الأمن الدولي في وقفها فرضت الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي وعدد من الدول عقوبات اقتصادية وسياسية كتعويض عن هذا الفشل وكأداة لمحاسبة النظام، والضغط على نظام الأسد لتغيير سلوكه الإجرامي، ولدفعه للقبول بحل سياسي.
وأضافت الشَّبكة التي دعمت استخدام العقوبات كأداة ضد نظام الأسد، أن التحول الكبير في المشهد السوري مع سقوط نظام الأسد في 8 كانون الأول/ديسمبر 2024، فإنَّ العقوبات قد فقدت مبررها كوسيلة للردع والعقوبة، والتغيير السياسي، وأكدت حينها أن استمرار العقوبات، في ظل غياب النظام السابق، قد يؤدي إلى تحولها من أداة للمساءلة إلى عائق أمام جهود التعافي السوري.
وأكدت الشبكة الحقوقية أن الإبقاء على العقوبات الاقتصادية يهدد بتقويض الجهود الإنسانية، ويعيق تدفق الموارد الحيوية، مما يزيد من تعقيد مهام المنظمات المحلية والدولية في تقديم المساعدات وإعادة الإعمار. كما يمثل استمرار العقوبات عقبة رئيسة أمام عودة اللاجئين والنازحين، ويعرقل جهود الأمم المتحدة ومنظمات المجتمع المدني، والشركات الخاصة، وذلك بفعل القيود المفروضة على المعاملات المالية والتجارية، والتي تحول دون تأمين المواد الأساسية أو تحويل الأموال اللازمة لدعم المتضررين.
هذا الإنجاز التاريخي بالوصول لإسقاط العقوبات الأمريكية مع إعلان الرئيس "ترامب" رفعها وإشادته بالسلطة الجديدة في سوريا، ورغبته في بناء علاقات قوية مع دمشق عقب لقاء الرئيس "الشرع" يعتبر بداية النهضة في سوريا الحرة، وبداية المعركة الحقيقية للبناء، عقب معركة سياسية كانت مميزة وموضع إشادة كبيرة محلياً ودولياً، في وقت كان يسعى أذناب الأسد وبعض القوى الأخرى للإبقاء على تلك العقوبات واستخدامها كسلاح ضد إرادة الشعب السوري في التغيير وإسقاط الطغاة والمشاريع الانفصالية والطائفية.
منذ أن كنا أطفالاً، كنا نسمع كلمة "الترقيع" في سياق بسيط: عندما يتمزق جزء من قطعة لباس، يُصلَح برقعة ليبقى صالحاً للاستعمال، وإن كان لا يعود كما كان. ومع مرور الوقت، لم تعد الملابس المرقعة دليل فقر أو عوز، بل أصبحت في بعض الحالات موضة يتباهى بها البعض.
لكن مفهوم "الترقيع" لم يبقَ حبيس عالم الألبسة. لقد تسلل إلى المواقف والآراء، خاصة في القضايا المصيرية. ففي المعجم، يعني "الترقيع" إصلاح التمزق بإضافة رقعة، أي معالجة موضعية لا تُعيد الشيء إلى أصله. لكن الاستخدام المجازي للكلمة تطور، ليصف محاولات التراجع غير الكاملة، أو التبريرات المؤقتة لتفادي الإحراج أو المحاسبة. وغالباً ما يُستخدم لوصف من يبدّل رأيه بعد انكشاف الحقائق، دون اعتراف صريح بخطئه.
ترقيع المواقف في زمن الثورة
في سورية، منذ اندلاع الثورة ضد نظام بشار الأسد في آذار/مارس 2011، ظهرت هذه الظاهرة بأوضح صورها. فقد انقسم الناس إلى ثلاثة أصناف: من وإلى النظام وكرّس نفسه لتلميعه والدفاع عن جرائمه؛ من عارض ودفع الثمن غالياً من حريته وحياته وراحته؛ من اختار الصمت أو الحياد، ولو ظاهرياً.
الصنف الأول - من الموالين - ظل لسنوات يمجّد الأسد، باعتقاد أن بقاءه أبديّ، حتى فجّر الشعب السوري هذه "الأسطورة". عندها وجد كثير منهم أنفسهم في موقف محرج، فبدؤوا "الترقيع" لمواقفهم السابقة، بتبريرات من قبيل: "ما كنا نعرف بسجن صيدنايا". هذه العبارة تحديداً استخدمتها الممثلة سوزان نجم الدين، وشادي حلوة وغيرهم، كمحاولة لدرء اللوم عن أنفسهم.
وقد توالت التبريرات: "كنا خايفين"، "ما كان بإيدنا"، "ضللونا بالإعلام"… لكنها مبررات لا تكفي لمسح تاريخ من التواطؤ أو التبرير المباشر لجرائم لا يمكن تجاهلها. الخوف مفهوم في بعض السياقات، لكنه لا يجب أن يُستخدم ذريعة للصمت أمام القتل، أو لتبرير الاستبداد. ففي أحلك الظروف تُختبر المبادئ، وتُعرف معادن الناس.
التبديل لا الاعتراف
ما يلفت النظر أن كثيراً من هؤلاء "المرقعين" لم يتراجعوا بدافع ندم حقيقي، بل لأن اتجاه الرياح تغيّر. فاختاروا تبديل الموقف كما يُبدّل القميص، دون أي اعتراف بدورهم في نشر الوهم، أو اعتذار للضحايا الذين سقطوا بصمتهم أو مشاركتهم في بروباغندا النظام.
لقد أصبح الترقيع السياسي وسيلة لتبييض ماضٍ لا يُمحى بالكلمات، بل نوعاً من الكذب المقنّع، وتزويراً لذاكرة جماعية. حين يدّعي البعض أنهم كانوا مغيبين أو ضحايا تضليل، وهم في الحقيقة كانوا جزءاً من ماكينة التشويه، فإنهم لا يسعون للحق بقدر ما يهربون من المحاسبة.
حتى أن الترقيع ظهر ضمن وجهات النظر على المواضيع التي تُحظى بأهمي، فحين انتشرت قصة "خطف ميرا"، سارع كثيرون إلى تصديق الرواية وتبنّيها دون تحقق، فانهالت المنشورات الغاضبة التي تهاجم الحكومة وتدين وضع إدلب، معتبرين ما حدث دليلاً دامغاً على الفوضى والانهيار الأمني.
لكن ما إن كُشف لاحقاً أن القصة ليست سوى "هروب حب" لا علاقة لها بالاختطاف، حتى وجد أولئك أنفسهم في موقف محرج، فبدأ بعضهم بمحاولات ترقيع الموقف، تارة عبر التذرع بأن "النية كانت سليمة"، وتارة أخرى عبر تحويل اللوم على الإعلام أو على "الجهات التي لفّقت الرواية"، متناسين أنهم كانوا جزءاً من تضخيم الحدث دون تثبت. هذا المشهد يعكس أزمة في التعامل مع المعلومات، حيث تغلب العاطفة على التريث والعقل، وحيث يصبح "الترقيع" بديلاً عن الاعتراف بالخطأ.
لا مستقبل بلا مواجهة
مواجهة هذا "الترقيع" ليست بهدف الانتقام، بل بهدف تثبيت الحقائق، ومحاسبة أخلاقية لكل من ساهم، بصمته أو دعمه، في صناعة الألم السوري. لا يمكن بناء مستقبل سليم على رقعٍ وخيوط كاذبة، بل على الصدق، والاعتراف، والجرأة في مواجهة الذات، والاعتراف لا يُنقص من الكرامة، بل يمنحها. أما الترقيع، فمهما بدا أنيقاً، يبقى دليلاً على تمزقٍ لم يُعالج كما يجب.
لا يمكن فهم المشهد في السويداء اليوم بمعزل عن تناقضات الهوية السياسية للطائفة الدرزية التي تسيطر على المحافظة، وهي تناقضات تتجلى بوضوح في ممارساتها ومواقفها إزاء محيطها المحلي والوطني. فبينما يُطالب الدروز بحقهم كأغلبية في السويداء بفرض رؤيتهم وإدارتهم الكاملة للمحافظة، نراهم في الوقت نفسه يرفضون أن يخضعوا لحكم الأغلبية الوطنية السورية ذات الغالبية السنية، ويصرّون على خصوصية سياسية وأمنية تميزهم عن بقية المكونات السورية.
هذا التناقض، الذي برز أكثر بعد سقوط نظام بشار الأسد وولادة الحكومة الجديدة برئاسة أحمد الشرع، يطرح إشكالية حقيقية في بناء دولة سورية موحدة على أسس عادلة ومتكافئة.
تاريخيًا، كان جبل العرب (السويداء) يشكل معقلًا للطائفة الدرزية، وتحوّل مع الوقت إلى ما يشبه الكيان المغلق سياسيًا واجتماعيًا. ومع أن الدروز تعايشوا لسنوات مع المكونات الأخرى في المحافظة – بدو سنة ومسيحيين – إلا أن الخطاب السائد ظل يضع الدروز في موقع “الزعامة” الطبيعية للمحافظة.
هذا ظهر جليًا مؤخرًا في طريقة التفاوض مع حكومة دمشق الجديدة. فعندما جلس وفد من مشايخ العقل والقيادات العسكرية المحلية على طاولة الحوار مع مسؤولي الحكومة، لم يظهر أي تمثيل فعلي للمكونين الآخرين في المحافظة. وكأن مصير المحافظة برمتها محصور فقط بإرادة الطائفة الدرزية. لا بل الأكثر من ذلك، أن الدروز يعتبرون أن من حقهم وحدهم رسم مستقبل السويداء أمنيًا وسياسيًا واقتصاديًا، دون الالتفات إلى رأي البدو السنة أو المسيحيين الذين يشكلون أقل من 10% من سكان المحافظة.
يبرز هذا التفرد أيضًا في التعامل الأمني. عندما اندلعت الاشتباكات مساء أمس بين قريتي الدارة السنية والثعلة الدرزية، حيث تعرضت الأخيرة لقصف بقذائف الهاون مجهول المصدر، لتقوم بالرد باستهداف قرية الدارة بقذائف الهاون والرشاشات الثقيلة ما تسبب بحالة هلع بين السكان وحركة نزوح واسعة باتجاه محافظة درعا.
هذه المواجهة رفعت الستار عن طائفية الميليشيات التي كانت وما زالت ترى نفسها حامية السويداء بينما في الحقيقة أنها لا تحمي سوى مصالحها وليس حتى طائفتها، إذ أن الكثير من أبناء الطائفة الدرزية يقفون مع الدولة السورية.
ففي مثل الحالة التي وقعت يوم أمس في السويداء تظهر عقلية الطائفية لدى الميليشيات الدرزية التي تتبع بمعظمها الشيخ حكمت الهجري، التي ترى أن حكمها للسويداء حق حصري ومشروع، وتعتمد إقصاء البدو السنة والمسيحيين اللذَين هما مكونان أساسيان للمحافظة، وهو ما يكشف أيضًا أن قرار المواجهة أو التهدئة بيد القيادات الدرزية فقط، فيما لم تُؤخذ مصالح الأقلية بالاعتبار في أي قرار مصيري يتعلق بالمحافظة.
وفي خضم الاشتباكات ونزوح أهالي قرية الدارة، تعرض مقام ديني درزي في قرية الصورة الكبيرة للحرق والتخريب على يد مجهولين يعتقد أنهم عناصر غير منضبطة ضمن فصائل وزارة الدفاع التي سيطرت على القرية مؤخرًا، وهو فعل مدان بلا شك، أجّج غضب الدروز ودفع بعض المتطرفين إلى محاولة الرد بحرق مساجد والاعتداء على بدو السنة في السويداء. لكن العقلاء داخل الطائفة حالوا دون الانزلاق إلى هذه الكارثة، في موقف يحسب لهم رغم سخونة الموقف.
من جهة أخرى، لا يمكن إنكار أن مخاوف الدروز مشروعة جزئيًا، في ظل وجود عناصر متشددة داخل الفصائل التي تمثل الحكومة الجديدة. هؤلاء لا يخفون عداءهم الطائفي، بل يحملون خطابًا متشددًا حتى ضد مخالفيهم من السنة أنفسهم. ومع ذلك، فإن الرد الطائفي ليس هو الطريق الآمن، بل بوابة لمزيد من الانهيار.
في المقابل، حين ننتقل إلى المستوى الوطني، نلاحظ أن الدروز في السويداء يرفضون رفضًا قاطعًا أن تخضع مناطقهم لحكم الأغلبية السنية في سوريا. ويُنظر إلى أي محاولة لبسط سلطة الحكومة المركزية على السويداء كتهديد مباشر للهوية والخصوصية الدرزية.
هذا الموقف عبّر عنه بوضوح الزعيم الروحي الشيخ حكمت الهجري في تصريحاته الأخيرة التي وصف فيها حكومة أحمد الشرع بأنها “متطرفة ومطلوبة للعدالة الدولية”، رافضًا أي وفاق معها. كما تتكرر المطالبات بدرزية منفصلة إداريًا عن بقية الدولة، أو على الأقل بإطار لا مركزي يضمن للدروز سلطة ذاتية على مناطقهم.
اللافت هنا أن الطائفة الدرزية تطالب بتطبيق مبدأ الأغلبية حين تكون هي الأغلبية (في السويداء)، لكنها ترفض المبدأ نفسه حين تكون أقلية (في سوريا). وهذه إشكالية شائعة في الفكر الطائفي عبر التاريخ، حيث يتحول مبدأ الأغلبية إلى أداة ظرفية تُستخدم متى خدمت المصالح الطائفية، وتُرفض عندما تتعارض معها.
يمكن فهم هذا السلوك في ضوء مخاوف تاريخية للدروز، الذين كانوا دائمًا أقلية تعيش في قلق وجودي من محيطها الأكبر. ومع أن هذه المخاوف قد تبدو مبررة أحيانًا بفعل تجارب سابقة من القمع أو التهميش، إلا أن الإصرار على مبدأ “الخصوصية المطلقة” يعزز الانعزال ويقوض فكرة المواطنة المتساوية.
إذا استمر هذا التناقض في إدارة العلاقات داخل السويداء ومع الدولة السورية، فسيُعمق الشرخ بين مكونات المحافظة نفسها من جهة، وبين السويداء والدولة المركزية من جهة أخرى. ويعني هذا أن فرص الانفجار الطائفي ستظل قائمة، خصوصًا إذا استمرت الأطراف الإقليمية مثل إسرائيل وإيران في الاستثمار في هذه الفجوة لمصالحها.
إسرائيل التي دخلت على الخط بتوجيه ضربات قالت إنها لحماية الدروز، لكنها، كما دائمًا، تسعى لتعميق عزلة الطائفة وجعلها رهينة “حمايتها”، وهو رهان مكلف لن يجلب الأمن طويل الأمد.
الخلاصة أن ما يجري اليوم في السويداء يضع الطائفة كلها أمام مفترق مصيري: إما بناء شراكة حقيقية تعيد التوازن بين مكونات المحافظة وعموم سوريا وتجنبها الانفجار، أو الانجرار وراء أوهام الحماية الخارجية والخطابات الطائفية، التي لا تجلب سوى الدمار.
كما قلتَ بدقة: حتى لو وعدتهم إسرائيل بالحماية، فلن يجدوا الأمن ما دام محيطهم كله يشعر بالخذلان والطائفية. اللحظة حرجة، والطريق الآمن يبدأ من الداخل، لا الخارج.
الحل الوحيد يكمن في إعادة تعريف العقد الاجتماعي داخل السويداء أولًا، بحيث يتم الاعتراف بحقوق كل المكونات، وبناء إطار تمثيلي حقيقي لا يحتكر القرار. وفي الوقت نفسه، يجب على الطائفة الدرزية أن تعيد النظر في موقفها من الدولة، وتنتقل من موقع الرفض المطلق إلى موقع الشراكة المتكافئة، انطلاقًا من مبدأ أن لا أمن لأي طائفة من دون أمن كل السوريين.
في النهاية، قد يكون السؤال الأهم: هل السويداء مستعدة للتخلي عن هواجسها القديمة لصالح مستقبل سوري موحد؟ أم أنها ستظل عالقة في ازدواجية مواقفها، لتجد نفسها يومًا ما تدفع ثمن هذه الازدواجية وحدها؟
في لحظةٍ باتت فيها عيون آلاف الناجين من جرائم نظام الأسد ترنو إلى بارقة أملٍ في عهدٍ جديد، تُفاجئنا بعض المنصّات الإعلامية باستضافة شخصياتٍ عُرفت بولائها للنظام وتبريرها للانتهاكات التي أدمت قلوب الضحايا على مدار سنواتٍ طويلة. هذا المشهد يشكل استفزازًا لمشاعر المكلومين، ويحمل في طيّاته تهديدًا حقيقيًا للسلم الأهلي؛ إذ قد يدفع ببعض الضحايا نحو الانتقام في ظل غياب إجراءاتٍ عادلة تمنحهم الإنصاف المنشود.
ولعلّ القضية المحورية التي نستحضرها هنا هي ضرورة معالجة ظاهرة استضافة هؤلاء الداعمين والمبررين لجرائم النظام في البرامج الحوارية أو المنصّات الثقافية، خاصةً بعد انهيار سلطة نظام الأسد الاستبدادية وبدء مرحلةٍ جديدة يُفترض أن تُمهِّد الطريق للعدالة الانتقالية.
إنَّ التهاون مع تبرير الجرائم والعنف الذي طال شرائح واسعة من المجتمع، لا يؤدّي سوى إلى تعميق الانقسامات وإبطاء مسار العدالة المنشودة. لقد بات مطلوبًا أكثر من أي وقتٍ مضى توخّي الحذر في اختيار الضيوف، وتحمّل مسؤولية مهنية وأخلاقية تضمن احترام كرامة الضحايا، وترسم معالم مستقبلٍ أكثر عدلًا وتوازنًا.
على مدى سنواتٍ طوال، شهدت سوريا انتهاكاتٍ جسيمة لحقوق الإنسان على يد نظام الأسد، بما في ذلك الإخفاء القسري والتعذيب والقتل خارج نطاق القانون، وبحسب قاعدة بيانات الشبكة السورية لحقوق الإنسان كان نظام الأسد وحلفاؤه مسؤولين عما يقارب 90% من تلك الانتهاكات الموثّقة.
وفي ضوء هذا الواقع الأليم، تبرز أهمية العدالة الانتقالية التي تُعرَف بمجموعة من الآليات والتدابير الرامية إلى تحقيق المحاسبة، والكشف عن الحقيقة، وجبر الضرر والإصلاح المؤسسي، بما يضمن عدم تكرار هذه الفظائع.
ولأنّ الإعلام يشكّل أحد الأعمدة الرئيسة في مرحلتَي النزاع وما بعد النزاع، فإنّ دوره لا يقتصر على التغطية الإخبارية؛ بل يتعدّى ذلك إلى كونه أداةً محوريةً إما في تهدئة الرأي العام ورأب الصدع الاجتماعي، أو في إعادة إنتاج سردياتٍ تبرِّر الجرائم وتُهيّئ المناخ لبروز أحقادٍ جديدة.
من هنا، يصبح التعامل المسؤول من قبل المنصّات الإعلامية ركيزةً أساسيةً لإنصاف الضحايا، وتعزيز المسار الانتقالي نحو دولةٍ تحترم حقوق الإنسان وتوفّر ضماناتٍ حقيقيةً لعدم العودة إلى دائرة الانتهاكات.
تكمن الإشكالية المركزية في أنّ العملية الانتقالية لا ينبغي أن تقتصر على ملاحقة الجناة المباشرين الذين ارتكبوا أبشع الانتهاكات بحقّ المدنيين، بل يجب أن تمتدّ لتشمل أولئك الذين دعموا وشرعنوا هذه الانتهاكات، سواء كان ذلك دعمًا ماديًّا أو سياسيًّا أو إعلاميًّا.
إنّ تبرير الجرائم التي ارتكبها نظام الأسد ليس مجرّد "رأيٍ مخالف"، يمكن التعامل معه باستخفاف؛ فهو انخراطٌ فعليٌ في إعادة إنتاج السرديات التي تجرّد الضحايا من إنسانيتهم وتضفي شرعيةً وهميةً على مظالمهم.
من هذا المنطلق، يصبح السكوت عن هؤلاء أو دعوتهم للظهور الإعلامي دون محاسبةٍ واضحة إمعانًا في التغاضي عن الآلام التي عانى منها الملايين، ويرسل رسالةً خاطئة إلى المجتمع تفيد بأنّ مجرد تغيير قمة الهرم السلطوي كافٍ للوصول إلى العدالة، بينما تبقى الشبكات الداعمة في منأى عن المساءلة.
على الصعيد النفسي والاجتماعي، إنّ استضافة الشخصيات المبرِّرة للجرائم تشكّل استفزازًا مباشرًا لمشاعر ملايين الضحايا وذويهم، ما قد يولّد موجةً جديدة من الغضب وعدم الثقة في أي عملية انتقالية، ويفتح الباب أمام احتمالاتٍ خطيرة من العنف الانتقامي.
فحينما يرى الناجي أنّ من برّر قتله أو تعذيبه في السابق ما زال يُمنح منصّةً للترويج لخطابه، فإنّ ذلك يُضعف ثقته في صدقية مؤسسات الدولة ووسائل الإعلام على السواء، ويقوّض فرص إرساء بيئةٍ مُهيّأةٍ للمصالحة.
ذلك أنّ انتقال المجتمعات من حقبة الاستبداد إلى مرحلة العدالة لا ينحصر في معاقبة المتورطين المباشرين فقط، بل يستلزم تفكيك المنظومات الثقافية والفكرية التي سمحت بتمرير الانتهاكات وتبريرها أمام الرأي العام.
أما فيما يتصل بالسلم الأهلي، فإنّ غضّ الطرف عن هذه الشريحة، وتبرير وجودها في الفضاء العام دون أي اعتذارٍ فعلي أو إسهامٍ حقيقي في جبر الضرر، يرسّخ لدى الضحايا شعورًا بالظلم ويغذّي مشاعر الانتقام التي قد تهدّد بنسف التعايش المجتمعي برمّته.
فالعدالة الانتقالية، كما تستلزم كشفًا للحقيقة واعترافًا علنيًّا بالمسؤولية، تنشد أيضًا إعادة ترميم النسيج الاجتماعي عبر خطواتٍ ملموسة تمنح الناجين الإحساس بأنّ كرامتهم قد استُعيدت وأنّ المجتمع بأسره يقف في صفّ الحقيقة، لا في صفّ النافذين والمبرّرين الذين كانوا جزءًا لا يتجزأ من منظومة القمع.
وفي هذا الإطار، فإنّ تطبيق مبدأ عدم الإفلات من العقاب، بأبعاده القانونية والأخلاقية والاجتماعية، هو صمّام الأمان الذي يضمن احتواء شعور الضحايا بالمرارة والإحباط، ويمهّد الطريق أمام مرحلةٍ سياسية ومجتمعية تحترم حقوق الإنسان في العمق، بدل أن تكتفي بتغيير أسماء القادة أو رموزهم.
حدود حرية التعبير وجرائم التبرير: إنَّ الأصل في القانون الدولي لحقوق الإنسان أنَّ لكلِّ إنسان حقًّا في حرية الرأي والتعبير، وفق ما تنصّ عليه المادة (19) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية.
بيد أنّ هذه المادة نفسها تقرُّ بإمكان فرض قيودٍ محدّدة على هذا الحق، شريطة أن تكون تلك القيود ضروريةً ومتناسبة وتحمي المصالح العامة، لا سيّما في حالات التحريض على العنف أو تبرير الجرائم الدولية.
وبالتالي، فإنّ تبرير الجرائم ضد الإنسانية أو جرائم الحرب لا يمكن اعتباره يندرج ضمن الحريات المحميّة؛ بل هو انتهاكٌ يزيد من إيلام الضحايا ويهدّد السلم المجتمعي.
سوابق دولية في تجريم التمجيد أو الإنكار: شهدت بعض التجارب الأوروبية قوانين صارمة تجرّم إنكار الجرائم المرتبطة بالأنظمة الشمولية، وهذه الخطوات التشريعية تستند إلى قناعة مفادها أنّ عدم التصدي لإنكار أو تمجيد الجرائم الجسيمة يخلق بيئةً خصبة لإعادة إنتاج العنف والقمع. وعليه، قد تكون هذه النماذج القانونية مصدر إلهامٍ لحالةٍ سورية انتقالية، بهدف صوغ نصوصٍ تشريعية تُجرّم تمجيد أو تبرير الأعمال الوحشية التي ارتكبها نظام الأسد.
احترام كرامة الضحايا وحفظ السلم المجتمعي: تعدّ حماية كرامة الضحايا مبدأً أخلاقيًّا وإنسانيًّا لا يقبل التنازل، فضلًا عن كونها أداةً حاسمةً في استعادة الثقة داخل المجتمع. إذ يشعر الناجون أنَّ معاناتهم يتم الاعتراف بها وتقديرها، ما يساهم في تهدئة الغضب الداخلي لديهم ويمنع أي ميولٍ انتقامية. فعدم اتخاذ أي إجراءات قانونية أو أخلاقية ضدّ من يبرّرون الجرائم يعني، ضمنيًّا، إباحة الاعتداء على إنسانية الضحايا مجدّدًا.
أهمية جبر الضرر المعنوي مبكّرًا: قد يستغرق تأسيس محاكم العدالة الانتقالية أو لجان الحقيقة والتحقيق وقتًا طويلًا، بيد أنّ الضحايا لا يستطيعون الانتظار لسنوات وهم يشاهدون مجرمي الأمس وداعميهم يتجوّلون في الفضاء العام دون أدنى شعورٍ بالمسؤولية.
ولهذا، تصبح خطوات الاعتذار العلني والتعويض المادي والمعنوي، ورد الحقوق إلى أصحابها، إجراءاتٍ أساسيةً تُنفَّذ بشكلٍ مبكّر، بحيث تشكّل اعترافًا صريحًا بوقوع الجريمة وتحمّلًا للجزء الأكبر من أعبائها الأخلاقية.
إنّ هذه الخطوات هي ركيزة السلم الأهلي، وتُعبّد الطريق نحو مستقبلٍ أكثر استقرارًا، عبر بعث رسالةٍ واضحة بأنَّ زمن الإفلات من العقاب وتمجيد الانتهاكات قد ولّى.
يدّعي بعض الموالين لنظام الأسد أنّهم لم يكونوا على درايةٍ كاملةٍ بحجم الممارسات القمعية، أو أنّهم صدّقوا الدعاية الرسمية التي تنكر وقوع انتهاكاتٍ ممنهجة. غير أنّ هذا الادعاء بالجهل لا يعفي من المسؤولية الأخلاقية أو القانونية، خصوصًا بعد توافُر وثائق وشهادات وأدلة واسعة توثّق تلك الجرائم.
في إطار العدالة الانتقالية، يترتّب على الأفراد الذين دعموا النظام أو برّروا جرائمه واجب مراجعة الذات وتثقيفها، بدل الاستمرار في إنكار الحقائق. فمن غير المقبول أنّ تبرُز حجّة "عدم المعرفة" بعد سقوط نظام الأسد، في وقتٍ باتت المعلومات الموثوقة متاحةً للجميع. إنّ الاعتراف بالتقصير والجهل في السابق، إن أُرفق بتحمُّل العواقب والمسؤوليات الآن، قد يُشكّل خطوةً إيجابية على طريق استعادة ثقة المجتمع.
يمثّل الخوف من الانتقام أحد الهواجس المتكررة لدى الداعمين السابقين للنظام، كما قد يكون دافعًا للضحايا أنفسهم إذا ما استمر تجاهل مطالبهم. إلا أنّ التجربة التاريخية تُبيّن أنّ غياب المساءلة يؤدي في النهاية إلى تفاقم نزعة الثأر ويُغذّي دوراتٍ جديدةً من العنف.
على النقيض، فإنّ مساءلة المبرِّرين والجناة المباشرين، وما يصاحب ذلك من إجراءاتٍ تصالحية كالمصارحة والاعتذار والتعويض، يمكن أن تقطع الطريق على نزعة الانتقام، وتعزّز مناخ الثقة بين مختلف فئات المجتمع.
بهذا المعنى، يصبح التزام العدالة الانتقالية – بأبعادها القانونية والأخلاقية – الضامن الأهمّ لاستقرار مجتمعي يضع حدًّا لدوائر العنف، وينتقل بالشعب من مرحلة الصراع إلى طور التعافي وبناء الدولة على أسسٍ عادلةٍ وشاملة.
تشريعات واضحة وصارمة: من الضروري سنّ قوانين تُجرّم صراحةً إنكار أو تبرير جرائم نظام الأسد، بحيث توفّر تلك النصوص غطاءً قانونيًّا لمحاسبة كل من ينخرط في تبرير أعمالٍ ترقى إلى مستوى الجرائم ضد الإنسانية أو جرائم الحرب. قد يستفيد واضعو التشريعات من التجارب المقارنة، لتأطير النصوص بما يراعي الخصوصية السورية.
إدراج جرائم النظام في المناهج والبرامج الإعلامية: لا يكفي سنُّ القوانين دون توفير الوعي المجتمعي. لذا، ينبغي تضمين الجرائم والفظائع التي ارتكبها النظام في مناهج التعليم المدرسية والجامعية، وذلك لضمان ألا تتكرّر مآسي الماضي. كما يجدر بالبرامج الإعلامية الرسمية التركيز على توثيق تلك الانتهاكات، مع تسليط الضوء على شهادات الضحايا وذويهم حتى يكون الرأي العام على درايةٍ حقيقية بما حصل.
توفير آليات تنفيذية: لضمان ألا تبقى هذه التوصيات في حيّز النظريات، يجب إنشاء هيئة أو لجنة حكومية تُعنى بمراقبة تنفيذ القوانين المتعلقة بتجريم التبرير، وتتولّى تنسيق الجهود مع الجهاز القضائي لملاحقة المخالفين. فضلًا عن ذلك، يمكن لهذه الهيئة العمل على تطوير سياساتٍ تربوية وثقافية تساهم في نشر ثقافة حقوق الإنسان والمساءلة.
وضع معايير أخلاقية ومهنية: تُعتبَر وسائل الإعلام مرآة المجتمع وصانعة الرأي العام؛ وعليه، لا يجوز لها منح منبرٍ لمروجين لخطابٍ يشرعن العنف أو يهوّن من خطورة الجرائم الموثّقة.
يجب وضع ميثاق شرف إعلامي يرفض استضافة أي شخصيةٍ تبرّر الجرائم الدولية مثل التي ارتكبها نظام الأسد، ويُلزم المؤسسات بالتحقق المسبق من محتوى الضيف وأرشيفه وتصريحاته السابقة.
إنتاج محتوى توعوي وتثقيفي: الإعلام قادرٌ على إحداث فرقٍ ملموس في عملية بناء الذاكرة الجماعية. فمن واجب المؤسّسات الإعلامية توظيف تقارير توثيقية وأفلامٍ وثائقية وبرامج حوارية تشرح جذور الانتهاكات بحق الشعب السوري، وتبيّن آثارها المدمّرة على النسيج الاجتماعي. مثل هذا المحتوى يُسهم في ترسيخ ثقافة المحاسبة والتعاطف مع الضحايا.
عدم تحوّل حرية التعبير إلى بابٍ للإفلات من المحاسبة: ينبغي للمؤسسات الإعلامية إدراك الخط الفاصل بين حرية الرأي، وبين الدعاية المضللة التي تبرر الجريمة. إنّ الالتزام بالموضوعية في المعالجة الصحفية يقتضي إظهار الحقائق من مصادر موثوقة والتصدي لنشر الأكاذيب، أو أي تضليلٍ يستبيح معاناة الضحايا.
إعادة الممتلكات المنهوبة : إذا كانت هناك أملاكٌ أو مواردُ استولى عليها الداعمون أثناء حقبة نظام الأسد، فيجب أن تُعاد هذه الممتلكات إلى أصحابها الشرعيين فورًا، بما يشكّل بدايةً للاعتراف بأضرارٍ مادية واضحة.
الاعتذار والتعويض: من الضروري توجيه اعتذارٍ علني ومكتوب ومصوّر، يقرّ صراحةً بالمسؤولية الأخلاقية عن دعم نظامٍ مارس الجرائم بحق مواطنيه، على أن يتضمّن خطةً لتعويض الضحايا ماليًّا ومعنويًّا. ويُعدّ هذا التعويض جزءًا من جبر الضرر المبكّر الذي يعزز الشعور بالإنصاف قبل انتظار المسارات القضائية المطوّلة.
عدم تكرار الفعل والابتعاد عن المناصب العامة: إنّ تحمُّل المسؤولية لا يتوقف عند الاعتراف العلني، بل يستلزم الالتزام العملي بعدم شغل أي مناصب قيادية في المستقبل، فلا يمكن لشخصٍ برّر القتل أو التصفية أن يتولى شأنًا عامًا دون المرور بمحاسبةٍ حقيقية.
الامتناع عن الظهور الإعلامي: قبل القيام بهذه الخطوات البنّاءة من الاعتذار وإعادة الممتلكات وتعويض الضحايا، يجب الامتناع تمامًا عن الظهور الإعلامي، إذ لا يعقل أن يُمنح المبرّرون منصةً جديدةً لتعزيز سردياتهم المؤذية من دون أي إشارةٍ إلى الندم أو تحمّل مسؤولياتهم الأدبية والقانونية.
في ضوء ما سبق، يتبيّن أنَّ إقصاء الخطاب الذي يبرِّر جرائم نظام الأسد ليس مجرّد مطلبٍ عاطفيٍّ يحاكي آلام الضحايا، بل هو عنصرٌ جوهري في أي عملية عدالة انتقالية تهدف إلى ضمان عدم تكرار المآسي الماضية وبناء مستقبلٍ أكثر استقرارًا.
فكلّما سُمح للأصوات المبرِّرة بالظهور وتوظيف المنصات الإعلامية لتبرئة الجلاد أو الاستخفاف بجرائمه، زاد خطر إحياء مناخ القمع، وتعميق مشاعر الانتقام لدى من عانوا وذاقوا ويلات النظام.
ولهذا، فإنّني أدعو القرّاء وشرائح الرأي العام إلى تكثيف الضغط على المؤسسات الحكومية والإعلامية المستقلة العربية والأجنبية كي تتبنّى هذه الإجراءات والتوصيات على نحوٍ جاد؛ فإصدار تشريعاتٍ رادعة واستحداث ضوابطٍ مهنيةٍ صارمة في المشهد الإعلامي، تدابير لا بدّ منها لإرساء ثقافة المساءلة، واسترداد ثقة الجمهور بدور وقدرة الإعلام في مناصرة حقوقهم والدفاع عنها.
إنّ تفعيل هذه الخطوات يضمن بناء أرضيةٍ حقوقية لدور الإعلام المحوري في تحقيق العدالة والمحاسبة، حيث تُمحى ثقافة إفلات المجرمين والداعمين من العقاب، وتُزرع بديلًا منها ثقافة الانفتاح على الحقيقة والمصالحة عبر خطواتٍ عملية، ويصبح مبدأ العدالة حجر الزاوية في إدارة الشأن العام، وينمو وعيٌ مجتمعي راسخٌ بقيم حقوق الإنسان.
وفي مثل هذه الأجواء فقط يمكن للسوريين أن يخطوا بثباتٍ نحو طيّ صفحة الاستبداد وتأمين مستقبلٍ أفضل للأجيال القادمة.
تنقّل أحمد الشرع، الذي صعد اسمه عقب قيادته معركة إسقاط الأسد، بين تنظيماتٍ جهاديةٍ وتحوّلاتٍ فكريةٍ وجدت لها مساحة جغرافية تطبيقية في الشمال السوري.
أمامَ أريكةٍ خشبيّةٍ موشّاةٍ بالصَّدَف العتيق في قصر الشعب بدمشق، وقف قائد الإدارة السورية الجديدة أحمد الشرع ببدلةٍ رسميةٍ فضفاضةٍ – ربّما لتخفي تحتها مسدّساً أو سترةً واقية – مصافحاً رئيس المخابرات العراقية حميد الشطري بعد حديثهما عن ضرورة التعاون لمنع عودة نشاط خلايا تنظيم الدولة الإسلامية، وحماية السجون التي زُجّ بها مقاتلو التنظيم في الأراضي السورية. حديثٌ بانت فيه لكنةُ الشرع الدمشقيّةُ بلا ريب. قد يبدو مشهداً عادياً في بلدٍ شبّ عن طوق آل الأسد أخيراً على يدِ شابٍّ جامحِ الطموح تتهافت الوفود العربية والغربية إلى القصر لرؤيته، ويتخبّط بعض روّاد فندق الشيراتون قربَ ساحة الأمويين في دمشق، يذمّونه ورجالَه سرّاً ويتماوتون أمام أعضاء هيئته في سبيل رؤيته، علّهم ينالون سبقاً بصورةٍ ينفردون بها على وسائل التواصل الاجتماعي – أو للتاريخ – أو بتصريحٍ جديد.
لكنّ اجتماع هذين الشتيتَيْن ليس مشهداً عاديّاً بل فتحاً يشتهيه الشعراء، إذ قلّما يجود الزمان بفرصةٍ لتقف منتصراً بعدَ معركةٍ تاريخية أمامَ خصمٍ خَدَعْتَه، أو خَدَعْتَ أسلافَه الإداريين يومَ اعتقلوك في مطلع الألفية. يومها جلس شابٌّ سوريٌّ عشرينيٌّ زحف من دمشق ليجاهد في العراق، حاملاً هويّةً عراقيةً مزيّفةً أمام المحققين الأمريكان والعراقيين، وخاطبهم بلهجةٍ لا شائبة فيها حتى ظنّوه عراقيّاً فسجنوه خمسةَ أعوام. ثمّ دار الزمن دورته وأتى العراقيّون ليصافحوا ذلك الشابَّ على أرضه وفي القصر الرئاسي ويطلبوا منه مساعدتهم في القضاء على حليفِه الأقدمِ تنظيم الدولة، في رحلةٍ ضاربة الجذور والفصول خاضها رجلٌ، غُيِّرت أسماؤه وألقابه وصفاته مراراً، وغُيِّر معها تنظيمه وهيئته والآن حكومته.
أحمد الشرع، بأحدث أسمائه، أو قائد الإدارة السورية الجديدة بآخِر أوصافه، سليلُ آل الشرع من وجهاء الجولان السوريّ، وبها تكنّى بِاسمِه الجهاديِّ ذائعِ الصيت: الفاتح أبو محمد الجولاني. يتطابق اسمُه مع أحدِ أعلام آل الشرع الذين قادوا ثورة الزويّة السورية "المنسيّة" على الفرنسيين، وربّما يُشابِه سَمِيَّه كذلك في أنّه "المتَّكَأ لآل الشرع، والمُحدِّث اللبق" كما وصفه حسين، والد أحمد الشرع، في كتابه "ثورة الزويّة السورية المنسية 1920 – 1927"، الصادر سنةَ 2022.
أحمد، الذي قاد معركةً أسقطت في أيّامٍ معدودةٍ وعلى نحوٍ مفاجئٍ بشار الأسد وأنهت تسلّط عائلته نحو ستّة عقودٍ على رقاب السوريين، بدا لغير المتبصّرين بالشأن السوريّ شخصاً مجهولاً، أو ربما داهيةً ينتمي إلى تنظيمٍ جهاديٍّ مسلّحٍ يهدّد بإغراق المنطقة في دوامةٍ جديدةٍ من التشدّد والعنف. لكن ما يحمله أحمد الشرع من إرثٍ عائليٍّ، وما تحمله سيرته من تحوّلاتٍ في الخطاب والأفكار والعمل، يَشِيان بصورةٍ أعمق. فمِن عائلةٍ ذات جذورٍ سوريّةٍ أصيلةٍ، وعُمرٍ قضاه متنقّلاً بين التنظيمات المسلّحة، وعينيه المسلّطتين على حُكم آل الأسد، وصولاً إلى إطاحته ببشار وإنهاء حُكمه، تتكشّف ملامح صورةٍ شديدة التعقيد لمَن سَمَّى نفسَه أخيراً أحمد الشرع.
يبرز لنا كتاب "ثورة الزويّة السورية المنسية 1920 – 1927"، الذي كتبه الدكتور حسين الشرع والدُ أحمد الشرع، وثيقةً نادرةً عن تاريخ العائلة ومسقط رأسها. يحدّثنا حسين، الاقتصاديّ المختصّ بالنفط، أن عائلة الشرع بالأصل من قرية جيبين التابعة لمدينة فيق عاصمة منطقة الزويّة، جنوبَ محافظة القنيطرة في الجولان السوريّ المحتلّ. وهُم من العوائل الأصيلة في المنطقة، ويدّعون أنهم من سلالةٍ تتّصل بآل البيت. ويمتلكون نحوَ 85 بالمئة من أراضي مدينة فيق، وزيتوناً في وادي مسعود على تخوم المدينة، ولهم فيها بيوتٌ تسمّى "بيوت الشرع"، طال أذى الفرنسيين سكّانَها نكايةً بآل الشرع الثائرين الذين ارتحلوا إلى الأردن عقبَ قتلِهم مديرَ ناحية المنطقة في عشرينيات القرن الماضي، وكلَّ القوى الجديدة التي جاءت لإدارة المنطقة تحت راية الفرنسيين. وقد كان آل الشرع من أصحاب الحلّ والعَقد في المنطقة حتى سُمّيت قرية جبين سابقاً "عاصمة القرار" لأهميّتهم فيها.
بعدَ أيّامٍ قليلةٍ من سقوط نظام الأسد كان وليد جنبلاط، رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي بمسمّاه الرسميّ وزعيمُ الطائفة الدرزية في لبنان بمسمّاه الأهمّ غير الرسميّ، من أوائل الشخصيّات التي التقاها أحمد الشرع في قصر الشعب بدمشق. تطرّق الشرع في لقائه إلى الحديث عن أسلافه، وتحديداً طالب الشرع وقاسم الشرع أصدقاء سلطان باشا الأطرش القائد العامّ للثورة السورية الكبرى سنة 1925 وأحد رؤوس الطائفة الدرزية. وتحدّث الشرع عن دورهما في مواجهة الفرنسيين وفي "ثورة الزويّة المنسية التي لم يعرفها التاريخ"، كما وصفها والده. انتهز الشرع الفرصةَ ليطرح تناصّاً تاريخياً بين الثورة المنسيّة على الفرنسيين والثورة السورية على نظام الأسد، مشيداً بدور أهل السويداء من الدروز الذين شاركوا بالثورة و"ساعدوا بتحرير منطقتهم وعملوا تحت إدارة العمليات العسكرية"، التي تزعّمها الشرع نفسه.
بسط حسين علي الشرع، والدُ أحمد، ذو التوجّه العروبيّ الناصريّ الحديثَ عن سيرته الذاتية في مؤلّفاته، ومنها نتعرّف على العوامل التي شكّلت أحمد الشرع نفسه في طفولته وصباه، إذ قضى أباه حياته كولده، جوّالاً بين مدنٍ عربيةٍ عدّةٍ يتلمّس طريقه ويحصد خبرةً غذَّت طموحه السياسي.
في كتابه "قراءة في القيامة الثورية" الصادر عن دار نقش للطباعة بإدلب – مقرّ نفوذ ولده وقت صدور الكتاب – سنة 2022، يتوقّف حسين الشرع عند انقلاب الثامن من آذار 1963 الذي أنهى أيّ نفوذٍ لمؤيّدي الوحدة بين سوريا والعراق ومصر، بعد انفصامِ عُراها قبل ذلك بعامين. عقب الانقلاب بشهرٍ، اندلعت بمسقط رأس حسين الشرع في فيق مظاهراتٌ طالَبَت بالوحدة مرّةً أُخرى، واحتجَّت على استئثار ضبّاط البعث بالسلطة. أجّج الطّلابُ ومنهم حسين الشرع هذا الحَراك، الذي جابهه الجيشُ يومئذٍ بالرصّاص. اعتُقل حسين ولمّا يبلغ تسعة عشر عاماً بعد احتجاجه على خطبة مدير المدرسة، وهرب لاحقاً من السجن وذهب إلى الأردن، حيث سُجن مرّةً أُخرى وخُيّر بين الذهابِ إلى السعودية أو العراق، فاختار العراق. هناك استقرَّ في بغداد وأكمل دراسة الثانوية فيها ثم التحق بالجامعة ودرس الاقتصاد والعلوم السياسية مع التخصّص في النفط، وتخرّج سنة 1969. وفي أثناء دراسته، مُنِيَ العربُ بالهزيمة التي راجت تسميتها بالنكسة في الخامس من يونيو سنةَ 1967، فرجع إلى الأردن وعمل مع الفدائيين الفلسطينيين زمناً قبل أن يعود لإنهاء دراسته.
في سنةِ 1971 عاد والدُ الجولاني إلى سوريا، وسُجن مرّةً ثالثة. آنذاك خرج من سجنه بتسويةٍ مع شعبة الأمن السياسيّ بالمخابرات، وعمل مدرّساً للغة الإنجليزية في درعا. كان والد الشرع أيضاً ذا طموحٍ سياسيٍّ، إذ ترشّح لمجلس النُوّاب لكنّه لم يفُز. وترشّح لعضوية مجلس محافظة القنيطرة ونجح سنة 1972. وعُرف عن حسين الشرع وَلَعُه في تأليف الكتب. فقد انبرى حينَها لتأليف عددٍ من الدراسات عن قطاع النفط في سوريا. فكتب عن النفط العربي كتابين، أوّلُهما "البترول العربي بين الإمبريالية والتنمية (الامتيازات التقليدية)" الصادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت سنة 1973، والثاني "البترول والمال العربي في معركة التحرير والتنمية" الصادر عن الدار ذاتها سنة 1974. وأهمّ ما كتب كانت أطروحته "تخطيط الصناعات البتروكيميائية في سوريا" سنةَ 1975.
مكث والد أحمد الشرع في السعودية منذ سنة 1979 حتى سنة 1988 حيث وُلِد ابنُه أحمد سنة 1982. عمل حسين في وزارة النفط (وزارة الصناعة والثروة المعدنية) باحثاً اقتصادياً عشر سنوات تقريباً وأصبح مديراً للشؤون الاقتصادية ومستشاراً في الوزارة. آنذاك كتب ستّة كتبٍ عن النفط والاقتصاد السعوديّ نُشرت ما بين دمشق والرياض. وكان له عشرات المقالات السياسية والاقتصادية المنشورة في صحيفتَي الرياض والجزيرة.
وفي سنة 1989 عاد والدُ الشرع مع أسرته إلى دمشق، وعمل مستشاراً لرئاسة مجلس الوزراء، ومديراً للعمليات في مكتب تسويق النفط التابع لرئيس المجلس وقتئذ محمود الزعبي. واستناداً إلى بعض المقابلات التي أجراها الباحثان حمزة المصطفى وحسام جزماتي وضمّناها تقريراً صحفياً نشرته "ميدل إيست آي" في يونيو 2021، انتهى المطاف بحسين الشرع ضحيّةً للظلم الإداريّ بعد رفضِه توقيعَ تحويلاتٍ اقتصاديةٍ غير قانونيةٍ طلبها مسؤولون في النظام السوري.
في دمشق حطّت عائلة حسين الشرع رحالَها جوارَ مسجد الشافعي في حيّ المَزّة، أحد الأحياء الراقية في العاصمة بمنطقة الفيلّات الشرقية. هناك عمل أحمد الشرع أثناء مراهقته في متجرٍ افتتحه والده للبقالة في دمشق بعد إنهاء عمله الحكومي، كما يَذكر في مقابلةٍ مطوّلةٍ أَجرَتها معه مجلة فرونتلاين ونُشرت في فبراير 2021. على أن هذه البيئة المكانية الأوسع التي نشأ بها الشرع، في حيّ المَزّة "غير المحافظ" – كما يصفُه في المقابلة – لم تدفعه نحو التيار الإسلامي. دفعته الانتفاضة الفلسطينية الثانية وهو في التاسعة عشرة من العمر ليفكّر "كيف يحقق واجب الدفاع عن الأمّة المضطهدة من المحتلّين والغزاة"، إلى أن نصحه أحدهم بالذهاب إلى المسجد والصلاة هناك، حيث وجد "معنىً آخَر مختلفاً عن المعنى الدنيويّ" دفعه للبحث عن الحقيقة التي وجدها بالقرآن، إذ درس تفسيرَه على يد شيخٍ فاضلٍ، فضّل عدمَ ذِكر اسمِه.
آنذاك كان حسين الشرع من الناشطين السياسيين المدنيين المطالِبين بالتغيير الديمقراطي. فقد كان حاضراً في المحاضرة الافتتاحية لمنتدى الحوار الوطني في الثالث عشر من سبتمبر سنة 2000، في أثناء ما يُسمّى "ربيع دمشق"، وهو اسمٌ أُطلق على الشهور الأولى لبشار الأسد في السلطة، لِما شهدت سوريا من انفتاحٍ سياسيٍّ وفكريٍّ واجتماعيٍّ امتدَّ نحو سنة. ثمَّ كان من وجهاء المجتمع المدني الذين وقّعوا على "إعلان دمشق" سنة 2005، وهو إعلانٌ يدعو إلى إنهاء ما يزيد على ثلاثة عقودٍ من حكم آل الأسد والانتقال إلى نظامٍ ديموقراطيّ. ومنذ سنة 2020 عاد حسين إلى التأليف بغزارةٍ مرّةً أُخرى. لم تتوقف كتاباته هذه المرّة عند الاقتصاد والنفط، بل امتدّت لموضوعاتٍ أُخرى اقتصاديةٍ وأدبيةٍ واجتماعيةٍ، صدر أغلبها عن دار نقش للطباعة والنشر، مثل كتابه "القيامة السورية (في كيفية إعادة إعمار سوريا)" المنشور سنة 2022، وكتابه "الأحزاب السياسية في البلاد العربية" المنشور سنة 2023، عدا كتاب "ثورة الزويّة السورية المنسية" المذكور آنفاً.
على التباين الفكريّ بين الأب والابن، أَقَرَّ أحمد في مقابلةٍ صحفيةٍ مبكرةٍ مع الصحفي الأمريكي مارتن سميث سنة 2021 أن تأثير والده عليه كبيرٌ، شخصياً وفكرياً في آن. إذ يقول إنَّ "القومية العربية تدفع الإنسان ليقاتل لحقوق المضطهَدين، وذاتُ طبيعةٍ ثورية". وأشار في المقابلة ذاتها إلى دور جَدّه الثوريّ ضدّ الفرنسيين، وإن كان "تركيزهما على الأمم العربية، بينما نوسّع نحن، كحركةٍ إسلاميةٍ، تركيزنا على كلّ الأمّة المسلمة"، إذ تختلف الأفكار بينما تتلاقى التأثيرات، كما في "الرغبة بالدفاع عن فلسطين والفلسطينيين المزروع في بيتنا طيلة الوقت" حسب قوله.
في أوائل سنوات الألفية، توالَت أحداثُ الانتفاضة الثانية ثم هجمات الحادي عشر من سبتمبر وما أعقبها من "حرب أمريكية على الإرهاب" بلغت ذروتها بغزو العراق، لتضرب آلاف الشباب في صميمهم، فاختار بعضُهم التظاهراتِ الواسعةَ بينما بحث آخَرون عن مساراتٍ أخشن. كان أحمد الشرع من الشقّ الثاني، فتوجّه إلى بغداد قبل أسبوعين أو ثلاثةٍ من بدء حرب العراق، ثمّ ذهب إلى الرمادي، ومنها رجع إلى بغداد التي كان فيها حين اشتعلت الحرب. ثمّ عاد إلى سوريا زمناً قبل أن يرجع في رحلته الثانية الحاسمة بعد أعوامٍ قليلةٍ إلى الموصل ويقضي معظم وقته هناك، كما يفصّل شخصياً في مقابلته مع مارتن سميث لفرونتلاين.
وعدا تأكيده الشخصي في المقابلات الصحفية التي أجريت معه، تتضارب روايات الباحثين والكتّاب المتابعين لمرحلة العراق الغامضة، وأثرها في حياة الشرع. لكن تعاضد الروايات يخبرنا أنَّ رحلة الجولاني الثانية إلى العراق كانت صوب الموصل سنةَ 2005 تقريباً. ولم يُعرف كيف صار عضواً في "تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين" ولا الدور الذي لعبه الجولاني آنذاك في التنظيم، وما إذا كان التحاقُه بالقاعدة قد سبق على تلك الرحلة الثانية. لكن عند تلك النقطة صار الجولاني جزءاً من "مجلس شورى المجاهدين" المنبثق عن تنظيم القاعدة في العراق، والذي ضمّ غالبيّةَ فصائل المقاومة السُنّية حينَها. تقول محلّلة الاستخبارات المركزية الأمريكية ندى باكوس في الفيلم الوثائقي "الجهادي" الذي أخرجه مارتن سميث سنةَ 2021، إن الجولاني كان يترأس خليّةً فاعلةً هناك تحت إمرة أبو مصعب الزرقاوي، أمير تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين الذي سينبثق عنه تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام، والذي حافظ الشرع على عضويّته به. ومع ذلك، ينفي الشرع تماماً في مقابلته مع سميث أنه قد التقى الزرقاوي لتَباعُد الأماكن بينهما، ناهيك عن "البروتوكول الأمنيّ المشدّد" الذي أحاط به الزرقاوي نفسه والذي حال دون إتمام اللقاء.
على أيّ حالٍ، ومهما كان دور أحمد الشرع حينها، فقد قبضت القوّات الأمريكية سنةَ 2005 تقريباً على شابٍّ يحمل هويةً عراقيةً ويتحدث بلهجةٍ عراقيةٍ أقنعت المحقّقين وعملاءهم المحلّيين بأنّه عراقيّ. يقول باحثون مختصّون بشؤون الجماعات الإسلامية، منهم تشارلز ليستر في كتابه "الجهادية السورية" المنشور سنة 2015، إنه كان يُعرف بِاسم أوس الموصلي، ويقول الباحث الأردني المختص في شؤون الجماعات الإسلامية حسن أبو هنية في تصريحٍ صحفيٍ نشره موقع درج في ديسمبر 2024 إنه عُرف باسم عدنان علي الحاج. ولكن في النهاية، لم يكن هذا الشخص سوى أحمد الشرع نفسه، مؤكِّداً أن قلّةً قليلةً فعلاً كانت تعرف أنه سوريٌّ عند اعتقاله أولاً في سجن أبو غريب، ثم معسكر بوكا، وهو معتقلٌ مخصّصٌ لسجناء الحرب العراقيين أنشأه البريطانيون سنةَ 2003 ثم سجن كروبر في مطار بغداد. بعد ذلك سلّمته القوّات الأمريكية إلى العراقيين الذين وضعوه في سجن التاجي حتى إطلاق سراحه بعد خمسة أعوامٍ من الترحّل بين السجون.
كان في سجن بوكا نحو عشرة آلاف معتقلٍ، منهم تسعةٌ من قادة القاعدة في العراق ومؤسّسي تنظيم الدولة لاحقاً. يقول أحمد الشرع في مقابلته مع فرونتلاين سنة 2021 إن دوره في السجن كان "إيصال الإيديولوجيا الصحيحة لمن حوله، فقد أدرك أن العديد حوله يحملون أفكاراً مغلوطةً حول الإسلام والدفاع والجهاد"، بلا صِدامٍ ولا خلافٍ وبمنهجيةٍ مختلفةٍ عن الآخَرين "الذين كان الكثير منهم ضبّاط شرطةٍ سابقين [يشير إلى الجذور البعثية العراقية لداعش] وحاول بعضهم جعل السجن إمارةً إسلاميةً حصل بها العديد من التجاوزات التي رفضتُها، ودفعت الكثيرين للانتقال إلى مهجعي من مهاجع أولئك القياديين"، كما يقول.
كان من بين هؤلاء قياديٌّ مهمٌّ تأثر بمواقف الجولاني في السجن. خرج قبله بأربعة شهورٍ وتولّى تنظيم "الولاية الشمالية للدولة الإسلامية في العراق"، أي نينوى غالباً وتشمل الموصلَ وما حولها، وتحدّث مع زعيم التنظيم حينها أبو بكر البغدادي عنه. لذا عند خروجه، كان البغدادي أوّلَ شخصٍ التقاه الشرع وأخبره عن نيّته العملَ في سوريا، إذ كان من القلّة القليلة التي تعلم أن الشرع من سوريا ولم يكن عراقياً. قبل توجّهه هناك، استفاد الجولاني من تجربة العراق والسجن، وبين عامَيْ 2010 و2011 كتب وثيقةً من خمسين صفحةً بعنوان "جبهة النصرة لأهل الشام من مجاهدي الشام في ساحات الجهاد"، سرد بها تاريخ سوريا وجغرافيّتها وتنوّعها الطائفيّ وكيفية وصول عائلة الأسد إلى السلطة والفروق بين العراق وسوريا من حيث الأحزاب والإخوان والطائفية وغيرها، والعمل على تجنّب الأخطاء التي حصلت في العراق. إلّا أن نسختها ضاعت في دمشق.
أرسل الجولاني تلك الوثيقة مع والي الشمال إلى أبي بكر البغدادي، وطلبَ لقاءه للحديث عن ضرورة الذهاب إلى سوريا. يقول الجولاني، في لقائه مع مارتن سميث، إنه فوجئ بتهلهل كفاءة البغدادي التحليلية في قراءة الموقف، وبشخصيّته الضعيفة، وببُعده عن المشهد. ويزعم الشرع أن البغدادي – عقب خروجه من بوكا – قضى أعواماً في سوريا بعيداً عن المشهد العراقيّ، قبل أن يرجع حين التَقَيَا، ولذا لم يكن حتى معروفاً بين قياديّي تنظيم القاعدة والدولة الإسلامية.
وافق البغدادي فوراً، ومن هناك طلب الجولاني مئةَ مقاتلٍ لكن لم يرافقه إلّا ستّة مقاتلين، وطلبَ دعماً مادّياً فأعطاه البغدادي نحو خمسين إلى ستين ألف دولارٍ شهرياً لما يقارب سبعة أشهر، أنفقها في شراء عشرات البنادق، لم يستخدم معظمها بعد أن دُفنَت وصَدأَت، في رحلة عودة الشرع من العراق إلى سوريا أواخر 2011. رحلةٌ سيتغيّر معها الجولاني والبغدادي ويتغيّر انتماؤهما، وستُغيّر معهما الشرقَ الأوسطَ بأكمله موصلةً الشرع، بعد ثلاثة عشر عاماً حافلةً بالأحداث، إلى القصر الجمهوري السوري.
يوم الثلاثاء 10 ديسمبر 2024 بعد سقوط نظام الأسد، ومحاطاً بعناصر الأمن العامّ ومشايخ المسجد وطلّابه، دخل أحمد الشرع مسجدَ الشافعيّ في المَزّة – الحيِّ الذي نشأ فيه – مبتسماً حبوراً تلاحقه كاميرات الشبّان المذهولة من هذا الشابّ السوريّ الذي يبدو مثل أيّ سوريٍّ عائدٍ إلى حيّه وبيته. غير أنّه عاد منتصراً بعد أن قاد معركةً حقّقت أضخم إنجازٍ حلم به السوريّون طيلة 54 عاماً من حُكم عائلة الأسد، وهو إسقاط هذه العائلة.
متربّعاً في حارته ومسجده بين جيرانه وشيوخه، شرح الجولانيّ أهمّية المعركة، معركة تحرير سوريا من الأسد بأدواتٍ محلّيةٍ وداخليةٍ من غير دعمٍ خارجيٍّ. معركة لَم تُعِدْه إلى بيته فحسب، وإنما حالت دون تفكيك العربِ السنّةِ في سوريا، كما أشار إليهم في تلميحٍ واضحٍ إلى طائفية النظام السابق.
ما بيْن خطابِ الجولاني الأوّل المسجّل صوتيّاً من غير وجهٍ أو اسمٍ صريحٍ، الصادر عن "مؤسسة المنارة البيضاء" في الرابع والعشرين من يناير سنة 2012، وبيْن جلستِه شاهراً اسمَ أحمد الشرع متربّعاً على الأرض في مسجد طفولته وبين جيران حارته في الحادي عشر من ديسمبر سنةَ 2024، مرّ الرجل الذي يتصدّر واجهة سوريا وأخبارها الآن بتحوّلاتٍ وصراعاتٍ كثيرةٍ لم تقتصر رحلته فيها على دوائر الحرب والانتقال بين تنظيماتٍ عدّةٍ فقط، ولكنها كانت رحلة تجريبٍ وتعلُّمٍ طويلٍ. من أميرٍ في الظلّ داخل تنظيمٍ سلفيٍّ جهاديٍّ في بلدٍ مجاورٍ، إلى قائدٍ سياسيٍّ في العلن لا يُخفي طموحَه برئاسة سوريا القادمة.
يمكن رصد رحلة صعود الجولاني بدءاً من نهاية 2011 حين تأسيس تنظيم "جبهة النصرة لأهل الشام"، بعد أن قدّم مشروع الجبهة إيّاه إلى زعيم "دولة العراق الإسلامية" أبي بكر البغدادي، الذي كما أسلفنا وافق على رعاية المشروع وتمويله، وإضفاء الشرعية عليه بين الجهاديين السلفيين.
في سوريا أسّس الجولانيّ تنظيمَه مبتدياً بدائرةٍ ضيّقةٍ من الستّة الذين أتوا معه من العراق، مضيفاً إليهم الرفاقَ الذين عرفهم سابقاً وآخَرين انتقاهم وبايَعوه في سوريا، وهؤلاء أسّسوا مجموعاتٍ حولهم في شمال سوريا وجنوبها وشرقها عبر دائرة الثقة والانتقاء نفسها. وفي الرابع والعشرين من يناير سنةَ 2012، أعلن الجولاني عن التنظيم في خطابٍ نموذجيٍّ في انتمائه إلى السلفية الجهادية العالمية، تلقّفته المنتديات الجهادية ووسائل الإعلام، وزَخَرَ بمفردات الجهاد والشريعة والكفّار. هاجم الجولاني في خطابه العلمانيةَ وما أسماه "مشاريع الدول" بشأن سوريا، وخصّ بالذكر دولاً بينها تركيا، وحذّر من الانخداع بها. وقتئذٍ لم يعرف أحدٌ أن صاحب الصوت هو أحمد حسين الشرع، ابنُ حيِّ المَزّة في دمشق. وكلّ ما عرفه الناس أنه يلقِّب نفسَه "الفاتح" و"الجولاني". ولعلّ الجولاني عرف وقتها أنه يريد فتح دمشق بالذات، وليس روما أو كابل شأنَ الأدبيّات الجهادية.
حينئذٍ اختار معظمُ ناشطي الثورة السورية وسياسيّيها تكذيبَ هذا البيان واتّخاذَه صنيعةَ مخابرات الأسد، لنفي وجود جهاديين أو إرهابيين في صفوف الثورة السورية. واستمرّ هذا النفي وسردية المؤامرة واتهام النظام بالمسؤولية عن عمليات الجبهة اللاحقة للبيان، وخاصّةً التفجيرات الانتحارية التي راح مدنيّون بين ضحاياها كما في تفجير ساحة سعد الله الجابري بحلب في الثالث من أكتوبر عام 2012، وعملياتٍ أخرى قُتل فيها مدنيّون كثرٌ وتبنّتها الجبهة رسمياً، إلى أن اقتنع الجميع بأن الجبهة حقيقةٌ قائمةٌ وذهبوا باتجاه نفي صفة الإرهاب عنها حين صنّفتها الولايات المتحدة على لوائح الإرهاب في الحادي عشر من ديسمبر 2012. وكان احتجاجهم مَرَدُّه إلى عدم تصنيف النظام في القائمة نفسها، أكثر ممّا هو حماسة للجبهة.
يرصد الباحث حمزة المصطفى في دراسته "جبهة النصرة لأهل الشام من التأسيس إلى الانقسام" الصادرة في نوفمبر 2013 عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، تجنّب الجولانيّ في تلك المرحلة تقديمَ جبهة النُصرة مشروعاً للحكم في سوريا، مخالفاً في ذلك الحركات الجهادية الشبيهة التي ظهرت في العراق ومالي، مكتفياً بترويجها جبهةً معنيّةً بالدفاع عن "أهل الشام". استخدم الجولاني في ذلك خطاباً استقطب به آلافَ السلفيّين الجهاديّين العرب والسوريين الذين يبحثون عن خطابٍ وتنظيمٍ أكثر صلابةً، مقارنةً بالشكل الشعبيّ وغير المؤدلَج أو البعيد عن الصلابة التنظيمية الذي وَسَمَ مجموعات الجيش الحُرّ. ولكن حتى في هذه المرحلة كان الجولاني يشعر بأهمّية عدم استعداء المجتمع أو ترهيبه، فقلّصت الجبهةُ عمليّاتِها الانتحاريةَ، وأكّدت في بعض البيانات أنها تحرّت خلوّ المدنيين قبل تنفيذها. ولكن استمرّ اتهام الجبهة بالمسؤولية عن عملياتٍ مثل تفجير مسجد الإيمان في مارس 2013 الذي قُتل فيه الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي، وهو من مشايخ سوريا المشهورين خارجها وصاحب المواقف العلنية المؤيدة لنظام بشار الأسد، إلا أن الجبهة نفت مسؤوليتها بسبب عدد المدنيين الكبير بين الضحايا.
كان الجولاني يرى نفسَه صاحبَ مشروعٍ كبيرٍ، وكان يتنقل داخل مناطق سيطرة النظام، ويعقد اجتماعاتٍ سرّيةً، مع قادة فصائل جهاديةٍ أخرى يسألُهم مبايَعتَه. وقتئذٍ كان نمط عمليات الجبهة أشبهَ بتدخلٍ جراحيٍّ مقصودٍ تجاه أهدافٍ محدّدةٍ، بينما كان النشاط العسكري في الثورة السورية في معظمه من عمل مجموعات الجيش الحرّ المحلّية، والتي يعود إليها الفضل بسيطرة الثوّار على مساحاتٍ واسعةٍ من سوريا في سنة 2012 وبدايات 2013.
كانت هذه المجموعات أكثر انتشاراً ومغامرةً، ولو كلّفها ذلك خسائرَ بشريّةً واستنزافاً عسكرياً طويلاً. وحتى في السنوات اللاحقة من تطوّر جبهة النصرة، ظَلَّ الجولاني مقتنعاً بعدم دخول حروب استنزافٍ أو تكليف نفسه بأعمال "الرباط"، أي حراسة جبهات التماسّ الطويلة التي تستلزم عدداً كبيراً من المقاتلين، أو الانتشار على مسافاتٍ واسعةٍ لحفظ حدود السيطرة، ونَدَرَ أن اختارت الجبهة البقاءَ في مناطق محاصَرة. ركّز الجولاني مذ ذاك على بناء قوّات نخبةٍ هجوميةٍ مضمونةِ الولاء والفاعلية قادرةٍ على التدخّل لتغيير واقع السيطرة على الأرض.
في أبريل 2013 دخل الجولاني في صراعه الأكبر حين قرّرت دولة العراق الإسلامية التوسّعَ استغلالاً لانهيار الدولة المركزية في سوريا وتمدّد النقمة الطائفية في العراق. علم البغدادي أن الجولاني أخذ مالَ العراق وبنى تنظيمَه وحدَه في الشام، فأعلن البغدادي دولته في العراق والشام وحَلَّ جبهة النصرة، ولكن الجولاني رفض ذلك وأعلن البيعة لتنظيم القاعدة الذي أقرّ الجولانيَّ أميراً لفرعه في الشام. غادَرَ حينها كثيرٌ من الجهاديين العرب والأجانب جبهةَ النصرة إلى تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام التي عُرفت اختصاراً بِاسم "داعش"، بينما احتمى الجولاني بمظلّة تنظيم القاعدة في مواجهة تنظيم الدولة، وأصبح تابعاً رسمياً للظواهري بعدما كان محسوباً عليه بتأويل خطابه وسلوكه.
استفاد الجولاني من داعش في صورة التمويل والدعم الأوّلي من الزرقاوي، ثمّ انقلب عليها، وخسر مجموعاتٍ جهاديةً كثيرةً انفصلت عنه بعد أن استفاد منها أيضاً. ومن أبريل 2013 حتى يوليو 2014 تقريباً، اختار الجولانيُّ الكُمونَ وتعميقَ صِلاتِه بالفصائل السورية لتدعيم الولاءات محلّياً، مع تأكيد شرعيّته الجهادية المستمَدّة من تنظيم القاعدة والترويجَ لنفسِه بديلاً أكثرَ "اعتدالاً" في نظر الجهاديين الرافضين لداعش، مكثّفاً نشاطَه العسكريَّ ضدّ نظام الأسدِ فقط، دون طرح نفسِه مشروعَ حكمٍ أو منافسةٍ للفصائل الأخرى. أفرزت تحرّكاته حمايةَ تنظيمه في إدلب مستفيداً من تدخّل جبهة أحرار الشام لحمايته من تكرار انقضاض مقاتلي الدولة الإسلامية على مقارّ جبهة النصرة في الرقة وحلب، والتي آلَت إلى القضاء على وجود جبهة النصرة في المنطقتين، كما يرصد حمزة المصطفى في دراسته.
لاحقاً، التزم الجولاني الحيادَ حين قرّر الجيش الحُرُّ شَنَّ حربٍ واسعةٍ على تنظيم داعش في بداية 2014، واختار عدمَ التورّط في الحرب الدموية الطويلة في دير الزور التي خاضها فرع جبهة النصرة هناك بقيادة ميسر الجبوري (أبو مارية القحطاني) مع الفصائل الأخرى، من دون وصول مؤازراتٍ من الجولاني. وعلى عتابِ أتباع جبهته في الشرق لتخلّيه عنهم، كان الجولانيّ يدرك أنه لا يريد أن يستنزف تنظيمه ولو كلّفه ذلك موارد النفط التي كان يجنيها من المنطقة الشرقية.
بعد فترة الكُمون هذه واسترداد عافية الجبهة على مستوى المال والكوادر وإبعاد تهديد داعش، بدأ الجولاني بتقديم نفسه مشروعاً للحكم بثوبٍ جهاديٍّ سلفيٍّ. فانتشرت في 11 يوليو 2014 خطبةٌ نُسِبَت له، حملت تأكيد نيّة الجبهة إقامةَ "إمارة إسلامية" وتطبيقَ الشريعة الإسلامية عبر محاكم شرعية. عقب تسرّب الخطبة صدر بيانٌ عن الجبهة في اليوم التالي نفى إعلانَ إمارةٍ إسلاميةٍ، لكنّه أكّد السعيَ لإقامتها وإقامة محاكم شرعيةٍ. وبدأ الجولاني على الفور سلسلة معارك ضدّ فصائل الجيش الحُرّ وحتى الفصائل الإسلامية الأقرب فكرياً له، ومنها جبهة أحرار الشام التي انقلب عليها بعد أن سبق لها الدفاع عنه ودعمه في مواجهة تنظيم الدولة الإسلامية في إدلب، وذلك في معرض "حملة ردع المفسدين" التي أعلنتها جبهة النصرة في 21 يوليو 2014، وبدأها الجولاني بمعركةٍ ضدّ "جبهة ثوار سوريا" مستهدفاً إنشاء مناطق خاضعةٍ لحكم جبهة النصرة، والخلاص من المنافسين بالتدريج.
بدأ الجولاني تموضعَه المحلّي في جبل الزاوية في ريف إدلب بالقضاء على جبهة ثوّار سوريا التابعة للجيش السوري الحُرّ بقيادة جمال معروف. وخلال عامَيْ 2014 و2016 قضى تباعاً على فصائل أخرى من الجيش الحُرّ في ريف حلب وإدلب وحماة، بينما خاضت فروع الجبهة في درعا والغوطة الشرقية وريف حمص حروباً أمنيّةً حافلةً بالصدامات والاعتقالات والاغتيالات. كثّف التنظيم نشاطه القضائيّ عبر دور القضاء الشرعي، ولكن مركز التنظيم الأهمّ بقي في الشمال السوري، حيث يقيم الجولاني نفسه.
بعد وضع نواة سلطته الأولى في إدلب، أراد الجولاني الانتقال خطوةً أخرى نحو المحلّية ومشروعه الخاصّ غير التابع لتنظيمٍ أكبر، واستغلّ غيابَ الظواهري الطويلَ وعدمَ رَدِّه على الرسائل في سنة 2016، فأعلن فكَّ الارتباط عن تنظيم القاعدة وتأسيسَ "جبهة فتح الشام" في الثامن والعشرين من يوليو 2016، وظهر أوّلَ مرّةٍ بصورته ووجهه في إعلانها بعد تخفّيه الطويل.
بالطبع لم يكن هذا التحوّل مُرضياً للظواهري الذي شعر بالغدر عند عودته للتواصل مع جنوده وأتباعه، كما قال في رسالته "فلنقاتلهم بنياناً مرصوصاً" المنشورة في نوفمبر 2017. أدّى هذا التحوّل إلى انفصال القسم الموالي لتنظيم القاعدة عن الجولاني وتأسيسهم تنظيم حرّاس الدين في الثامن والعشرين من فبراير 2018، والذي ضمّ الشرعيّ العامّ السابق سامي العريدي والقائد العام السابق قسام الأردني وقائد فرع النصرة في الجنوب أبو جليبيب الأردني، وغيرهم.
بعد هذا الإعلان بأشهرٍ وتحت قصف الطيران الروسي خسر الثوّارُ الأحياءَ الشرقيةَ من مدينة حلب في نهاية 2016. لم يلبث الجولاني أن قام بتحوّلٍ آخَر نحو تثبيت المحلّية والاعتدال، فأعلن تأسيس "هيئة تحرير الشام" في الثامن والعشرين من يناير 2017 التي كانت عند تأسيسها اندماجاً بين عدّة فصائل، منها "جبهة فتح الشام"، ولم يكن الجولاني قائدَها الرسميَّ، ولكن بقي تنظيمه الكيان الحقيقي فيها. وأدرك الجولاني أن التنظيم الصلب هو الأهمّ، وهو ما يمكنه الهيمنة على أيّ تحالفٍ أوسع، ولو لم يكن قائدَه الرسميّ.
لم تلبث أن تفكّكت الفصائل التي انضمّت إلى الهيئة تباعاً، وحارَبَها الجولاني حتى قضى على معظمها، بالتزامن مع الحملات الإيرانية الروسية التي تسبّبت حتى نهاية 2018 بخسارة الثوّار كلَّ جيوبِهم خارج الشمال السوري، وهو ما زاد من جاذبية إدلب وريف حلب مركزاً للحكم بالنسبة للجولاني.
خاضت الجبهة صراعاتٍ ضدّ فصائل الثوّار في كلّ هذه الجيوب سابقاً في إطار صراعات السيطرة. تسبّبت هذه الصراعات في زيادة الهشاشة الدفاعية التي عجّلت سقوطَ فصائل الثوّار غير الجهاديين المعارضين للأسد. فقد سبق الاقتتالُ الداخليُّ سقوطَ الحيِّ الشرقيِّ في حلب في ديسمبر 2016 وسقوطَ الغوطة الشرقية في مارس 2018 وسقوطَ ريف إدلب الجنوبي وريفَ حماة الشمالي في الحملة الروسية 2019 - 2020، حيث شاركت الجبهة (ثمّ الهيئة) في الهجوم على تجمّع ألوية "فاستقم كما أُمرْت" – وهو فصيلٌ في الجيش الحُرّ في مدينة حلب – وسهّلت دخولَ داعش إلى مخيّم اليرموك في أبريل 2015 ما قالت ورقةٌ صادرةٌ عن معهد كارنيغي في الشهر نفسه أنه تحرّكٌ أفاد نظامَ الأسد لمَيلِ تنظيم الدولة الإسلامية لتجنّب محاربته. لاحقاً قالت مصادر بالجبهة لصحيفة الشرق الأوسط في تقريرٍ نُشر في أبريل 2016 أن الانسحاب كان تدعيماً لجبهة الشمال، ثمّ سحبت جبهة الجولاني قوّتها الرئيسة من الجنوب في نهاية 2015 عندما رأت أن المعركة ضد "الجبهة الجنوبية" ستكون محسومةً لصالح الأخيرة.
كان الصراع الرئيس للجولاني مع المنافس العسكري والشرعي الأكبر في إدلب، حركة أحرار الشام، التي خاضت تحوّلاتٍ حرجةً وخجولةً ومتردّدةً لحسم تموضعها إما مع قوى الثورة والجيش الحرّ أو مع القوى الجهادية. وحين حسمت الحركة في يوليو 2017 قرارها ورفعت علم الثورة وأعلنت تحالفها مع فصائل الجيش الحرّ في مشروع إدارة المناطق المحرّرة، شعر الجولاني بتهديد مشروعه فهاجم الحركة التي انهارت أمامه، حتى سيطر على معبر باب الهوى في الثالث والعشرين من يوليو 2017، موطّداً بذلك بداية حكمه في إدلب حيث أسّس بعدها حكومة الإنقاذ في الثاني من نوفمبر 2017.
استمرّت الصراعات بين الجولاني والفصائل الأخرى طويلاً خلال الأعوام ما بين 2017 و2019، وأعادت الفصائلُ مرّةً بعد مرّةٍ تشكيلَ نفسها في تحالفاتٍ جديدةٍ وخوض صراعات ضدّ الجولاني الذي عَدَّتْ مشروعَه غيرَ ثوريٍّ، بل معادياً للثورة وعَلَمِها وأهدافها. كما ظهر في بياناتٍ عديدةٍ للمجلس الإسلامي السوري وناشطين ثوريين، وفي هتافات المظاهرات ضدّ هيئة تحرير الشام في ريفي حلب وإدلب منذ عام 2017 حتى ما قبل معركة ردع العدوان في 27 نوفمبر 2024، وبادَرَ هو في أحيانٍ كثيرةٍ لهذه الصدامات لحسم سيطرته واستئصال المنافسين واغتنام أسلحتهم.
سنةَ 2018 خاضت "هيئة تحرير الشام" معاركها الأخيرة مع بقية الفصائل. أوّلاً مع "جبهة تحرير سوريا" التي جمعت حركة أحرار الشام وحركة نور الدين الزنكي، ثمّ معركتها الأخيرة ضد "الجبهة الوطنية للتحرير" التي جمعت الفصائل الثورية في إدلب. ودارت رحى المعارك شهوراً بين الهيئة وحركة الزنكي في ريف حلب الغربي، فكانت أكثرَ المعارك حصداً للأرواح من الجانبين. وتمكّن الجولاني عند حسم هذه المعركة في يناير 2019 من بسط سيطرته على إدلب، وتأكيد مرجعية حكومته "حكومة الإنقاذ" في حكم هذه المناطق.
إلّا أن حكم الجولاني لم يستقرّ طويلاً قبل أن تبدأ الحملة الروسية الإيرانية على إدلب وأرياف حلب وحماة، والتي خسرت فيها الفصائل نحو نصف مساحة سيطرتها، حتى جرى تثبيت خطوط وقف إطلاق النار باتفاق سوتشي بين الرئيسين أردوغان وبوتين في مارس 2020.
عقب اتفاق سوتشي، بدأ وعي أحمد الشرع بفكرة بناء الدولة، متّخذاً من إدلب نموذجاً مصغّراً أو معمل اختبارٍ لتطوير مهارات الحكم لديه. هذا التحوّل الذي يمكن أن نسميه "الطَوْر الحَوْكَمِيّ" تشبه فيه هيئةُ تحرير الشام بقيادة الجولاني منظمةَ التحرير الفلسطينية في سعيها إلى إقامة الدولة الفلسطينية، كما شرحه يزيد صايغ في كتابه "الكفاح المسلّح والبحث عن الدولة" المنشورِ سنة 1997. تصرّفت الهيئة حينها بمنطق بناء دولةٍ مصغّرةٍ في إدلب، ونموذجٍ لحكم الدولة في سوريا. وكما يقول صايغ فإن "السعي إلى الدولة يحدد عملية صوغ الأهداف ووضع الاستراتيجيات واختيار البنى التنظيمية وكيفية إدارة السياسة الداخلية في أثناء القسم الأعظم من النضال الذي يسبق إقامة الدولة. بدأت منظمة التحرير الفلسطينية بتقديم نفسها مؤسسةً 'دولانية' قبل أن تحوز على أرض". لكن كان للهيئة أرضٌ وقوّاتٌ مسلّحةٌ فعلاً، وبدا أن الشرع عَدَّ إدلب مرحلةَ تجريبٍ للانتقال من التنظيم إلى الدولة.
في هذا التحوّل الحَوْكَمِيّ والهدنة النسبية في إدلب، خرج الجولاني بين الناس وأصبح يظهر أكثر في الأسواق والاجتماعات مع الوجهاء المحلّيين والناشطين. كان الغطاء الشرعيّ للحكومة هو اختيارها من "المؤتمر السوري العام لتشكيل إدارة مدنية في المناطق المحررة"، الذي عُقد في سبتمبر 2017 بعد شهرين من هزيمة حركة أحرار الشام، وشارك فيه ناشطون وأكاديميون ووجهاء. اختار المؤتمر لجنة تأسيسية سمّت محمد الشيخ أول رئيس لحكومة الإنقاذ في نوفمبر 2017، مع أن نفوذ الجولاني بَقِيَ المتحكِّم بالحكومة.
كان ثمّة تحوّلٌ اجتماعيٌّ قاده أحمد الشرع لتدعيم صورة الهيئة وصورته. فقد أسّس شبكات علاقاتٍ بين الهيئة والمجتمع المحلّي، وترك الباب مفتوحاً لتأثير المجتمع المحلّي في تعديل سلوك الهيئة وخطابها نحو حالةٍ أكثر اعتدالاً ومحلّية. في هذه المرحلة ظهر طموحه السياسي والسعي إلى الاعتراف والشرعية الخارجية، ومحاولة توحيد الصفّ الداخليّ. فكان إقصاء الأجنحة الأكثر تشدّداً عمليةً مستمرّةً، مع تخفيف مظاهر "الحسبة" والرقابة على المجتمع دون إلغائها. وما عدا قمع مظاهرات حزب التحرير وأنصار تنظيم حرّاس الدين خلال الفترة ما بين 2020 و2024، فإنّ الهيئة تعاملت بنعومةٍ نسبيةٍ مع المظاهرات الشعبية التي سبقت معركةَ "ردع العدوان" التي قضت خلال أيّامٍ على حكم الأسد، وإن تخلّلت الفترةَ نفسَها حالاتُ قمعٍ أيضاً. وبلا شكٍّ فإن إغراء الاعتدال والاعتراف المحلّي والخارجيّ كان أكثر تأثيراً في تحوّل الجولاني إلى القائد أحمد الشرع، وهو ما لم يكن ليتحقق لو ظلّ خاضعاً لإغراء الشرعية السلفية الجهادية.
كثيراً ما واجَهَت تحوّلاتُ الخطاب لدى جبهة النصرة ثم جبهة فتح الشام ثم هيئة تحرير الشام حالةً من الهجوم السلفيّ الجهاديّ. مع قدرةٍ عاليةٍ على تماسك الصفّ الداخليّ، سَبَقَ الجولانيُّ أيَّ تحوّلٍ في سياسة تنظيمه ببناء التحوّل الخطابيّ لدى القواعد، ثم التحوّل الخطابيّ المعلَن، ثم التحول على مستوى السلوك والممارسة. وقد سمح هذا بإمكانية الضبط العالية للعناصر في كلّ مرحلةٍ، والذي ظهر جليّاً في مرحلة التحوّل نحو الحكم الوطني بعد سقوط النظام والتعامل مع تنوّع المجتمع السوريّ في المناطق الجديدة.
على مستوى إدارة الأزمات والصراعات، يمكن من تتبّع أسلوب الجولاني في قتال الفصائل وتفكيكها، ثمّ التعامل مع المظاهرات الشعبية ضدّه، معرفة الكثير عن استراتيجية إدارة الصراعات التي طوّرها لاحقاً في معركته الأخيرة الكبرى ضدّ النظام.
لم يكن الجولاني دمويّاً ضدّ خصومه عادةً، وكان يفضّل دائماً حسم معاركه بتفاهماتٍ مع أطرافٍ وتحييد أطرافٍ أخرى، واستعمال التهديد بالقوّة أكثر من القوّة نفسها، إلا حين يشعر بتهديد سيطرته. كما فعل مع حركة الزنكي في ريف حلب الغربي، أو صقور الشام في جبل الزاوية، أو ضدّ المتظاهرين في مدينة معرّة النعمان. واستعمل الجولاني أسلوباً مشابهاً في معركة ردع العدوان التي بدأت في 27 نوفمبر 2024 وانتهت بسقوط نظام الأسد في 8 ديسمبر، باستعمال القوّة المركَّز، وكسر صفوف النظام الأُولى والتسبّب بحالة صدمةٍ وشعورٍ بالعجز، ما أتاح سلسلةً من الصفقات والتحييد والتفاهمات التي أطاحت بالنظام بأقلّ قدرٍ من الدماء.
كذلك تمكّن الجولاني من إجراء تحوّلاتٍ كبيرةٍ، وببراغماتيةٍ عاليةٍ، دون خسارة صفّه الداخلي أو القسم الأكبر منه على الأقلّ. حتّى وإن حصلت انشقاقاتٌ كثيرةٌ إزاءه، كان أبرزها انشقاق النواة الصلبة لمؤيّدي تنظيم القاعدة الأجانب وتشكيلهم تنظيم حرّاس الدين، إلّا أنه تمكّن من حسمها دائماً. ومع ذلك فهذه البراغماتية واعتدال الخطاب السياسيّ الموجّه للآخَر الأبعد، تقابله نزعة الحسم ضدّ الأطراف الأقرب، والتي تُخشى منافستُها على الشرعية والكوادر.
وفي مرحلة التحوّل نحو الخطاب الثوريّ الوطنيّ يواجه الشرع اختبارَ السيطرة على نزوعِه نحو إقصاء الأطراف التي تتبنّى الخطابَ نفسَه الذي يتبنّاه في هذه المرحلة، وهي الآن الفصائل والمجموعات الثورية المدنية أو العسكرية الأُخرى التي تحاول منافستَه على الشرعية الثورية التي تبنّتها قَبْلَه وضِدَّه سابقاً، وإن كان الشرع يمتلك رصيداً لا يمكن إغفاله بقيادته معركة "ردع العدوان" التي قصمت ظهرَ نظام الأسد.
المصدر: مجلّة الفِراتْس
طيلة ثلاثة عشر عاماً ونيف، نعمل كنشطاء من أبناء الحراك الثوري السوري، على نقل صوت السوريين وصرخاتهم في مواجهة آلة القتل الأسدية، لم تمنعنا ضعف الخبرات أو الاستهداف الممنهج للنظام والملاحقات الأمنية من إغلاق عدسات كمراتنا أو كسر أقلامنا التي تحررت من قيود النظام البائد بعد عقود من كم الأفواه ومصادر الرأي، فكانت ثورة السوريين، بداية بزوغ فجر حرية القلم والعدسة التي فضحت جرائم النظام وواجهت تضليله.
سنوات طويلة، استطاع فيها (الناشط الإعلامي) تقديم ضروب في التضحية والفداء، فقدم المئات من النشطاء أرواحهم رخيصة لنقل الصورة الحقيقية، منهم قضوا في معتقلات النظام، وآخرون في القصف وخلال تغطياتهم الميدانية، ومنهم بعمليات الاغتيال، تاركين خلفهم حملاً ثقيلاً على زملائهم لمواصلة الكفاح والتغطية، ومواجهة تضليل إعلام النظام الذي لم يدخر جهداً في تكريس الإعلام لشيطنة الثورة ومحاربتها وتشويه صورتها.
في الطرف المقابل، إعلاميون وصحفيون للنظام، لمعوا في "تشبيحهم" والرقص على جثث الضحايا، فكلما زاد التشبيح والدعوة للقتل وسفك الدم والتحريض والرقص على جثث الموتى، كلما ارتقى وظهر ولمع وبات من المقربين لضباط النظام وأزلامه، الذين منحوهم امتيازات كبيرة في مواقعهم وحياتهم، فبرز من هؤلاء كثر يصعب المقام لذكر أسمائهم، ارتبطت أسمائهم وصورهم بمشاهد الموت والدعس على الجثث، ودعوات القتل والتجييش لقتل السوريين.
واليوم، وبعد ثلاثة عشر عاماً ونيف، ومع انتصار ثورة السوريين، وفرار رأس النظام وأزلامه، تاركين خلفهم من كان لوقت قريب "يُشبح ويُحرض على القتل"، بدأت مرحلة الهروب للأمام، محاولين إظهار كرههم للنظام وإجبارهم على مساندته في مصطلح بات يعرف محلياً بـ "التكويع"، رغم أن الكثير من هؤلاء له تاريخ دموي طويل بأدلة مثبتة ودامغة عليهم روجوها بأنفسهم عبر حساباتهم ومواقع التواصل التي تداولت وتفاخرت طويلاً بدعسهم على جثث شهدائنا، يحاول هؤلاء أن يكون لهم دور في سوريا الجديدة، دون محاكمة، بل يتعالون وينافسون لإثبات دورهم على حساب أبناء الثورة الإعلاميين الذين ضحوا بالغالي والنفيس للوصول لهذا النصر.
يخرج إلينا البعض اليوم، ويُهاجم فكرة (الناشط الإعلامي) فهو بنظرهم لايملك شهادة صحفية، أو ثقافة وافية ليكون في صدارة الإعلام السوري، يتفاخر هؤلاء وجلهم من شبيحة النظام والمتسلقين بشهاداتهم التي نالوها في عهد النظام البائد، في محاولة لجني مكتسبات الثورة، وتصدر المشهد الإعلامي بحكم خبراتهم التي درسوها في مناهج النظام، مقللين من دور (الناشط) ومتفاخرين عليه بنظرة استعلائية بشهادات ورقية تؤهلهم للوظائف وتملك إعلام سوريا الجديدة.
(الناشط الإعلامي الثوري) ولادة بعد سنين من كم الأفواه والتضييق
عانت سوريا لعقود طويلة من التضييق الإعلامي وكم أفواه الكتاب وملاحقة الأقلام الحرة المنتقدة لسياسات نظام الأسد الحاكم "الأب والأبن" وزجهم في المعتقلات، إلا من نجا منهم واستطاع الخروج من سوريا لاجئاً في دول العالم.
واعتمد النظام طيلة العقود الماضية على الصوت الواحد عبر قنوات رئيسية وصحف ومجلات تتبع لأجهزة المخابرات مباشرة، وتنفذ تعليماتها، علاوة عن تضييق خدمات الإنترنت لمستويات كبيرة، ومراقبة أجهزة الاتصال والخوادم وملاحقة أي تحركات تعتبرها ضدها.
عام 2011 كان تحولاً كبيراً لعقود طويلة من الاحتكار الإعلامي والشاشة والصوت الواحد، مع انطلاق شرارة الاحتجاجات الشعبية للحراك الشعبي السوري المناهضة لنظام الحكم، فكان لابد من صوت ينقل صحيات الثائرين على النظام القمعي، ولعدم امتلاك الجرأة لدى جل العاملين في الحقل الإعلامي إلا من هو خارج الحدود، برزت فكرة (الناشط الإعلامي)، الذي أوجدته طبيعة المرحلة والحراك، ليحمل المسؤولية الأكبر في نقل صورة الاحتجاجات والانتهاكات بحقها للعالم، ويوصل صوت الثائرين.
كانت البدايات عبر تقنيات بسيطة، تعتمد على تصوير الموبايلات الحديثة، خلسة بعيداً عن أعين أجهزة الأمن وملاحقاتهم، واستطاع حاملي هذه المهمة من الثوار المتظاهرين، نقل جانب ولو يسيير من صورة الاحتجاجات، سرعان ماتعممت فكرة (الناشط) وغدت سمة عامة في جميع المناطق الثائرة، وبات (الناشط الإعلامي) الهدف الأول لأجهزة المخابرات، كونه استطاع بخبرات محدودة وتقنيات بسيطة، نقل الصورة، وتسليط الضوء على حراك الشعب السوري، فواجه الملاحقة الأمنية واعتقل العشرات بل المئات منهم، وبات "الناشط" أمام تحدي كبير في الاستمرار في نقل الصورة أو العيش ملاحقاً مطلوباً من أجهزة المخابرات والنظام وأعين العملاء والوشاة.
مع اتساع رقعة الحراك الشعبي في عموم المناطق السورية، بدأ التوجه من قبل أبناء سوريا من المغتربين عبر مبادرات شخصية وتجمعات كجمعيات أو هيئات تم تشكيلها في دول الاغتراب، لمساعدة الثوار السوريين في الجانب الإعلامي، فبدأت تدخل أجهزة الاتصال الحديثة كـ " استرا وثريا وإنمارسات" والتي كان يتم رصدها من قبل اجهزة المراقبة التابعة للنظام.
ولاحقاً بدأت تدخل أجهزة الأنترنت الفضائي أواخر عام 2011 وبدايات عام 2012، والتي يتم من خلالها الدخول لعالم الإنترنت ورفع الفيديوهات وإجراء الاتصالات دون تمكن النظام من التأثير عليها أو حتى مراقبتها منها "إسترا - أي دايركت - تووي"، وكانت هذه الأجهزة أحد أبرز دعائم استمرار التغطية والتي وصلت لجميع المناطق الثائرة بشكل كبير، وكان يتم تعبئة رصيدها من الخارج عبر أكواد مأجورة لشركات تشرف على هذه الأجهزة.
ورغم اتساع دائرة الحراك الشعبي، إلا أن أصحاب الخبرة من الإعلاميين بقي دورهم محدود وفي الظل، خوفاً من الاعتقال والملاحقة، شكل هذا تحدي جديد أمام (الناشط الإعلامي) الذي لايملك أي خبرة إعلامية، ليكون الناطق باسم الثوار، علاوة عن عدم قدرة الوكالات العالمية إرسال مراسليها للمناطق السورية، فكان صوت الحراك هو الناشط، وبدأ يخرج يومياً النشطاء عبر أثير الوكالات الإعلامية العربية والعالمية يومياً وبالصوت والصورة ومن جميع المناطق، ينقلون ببث حي ومباشر صوت الجماهير الشعبية، ويصورون الانتهاكات وعمليات القصف والقتل والاعتقال والتضييق على المدنيين، والتي أحرجت النظام دولياً وعرته أمام المجتمع الدولي بعد عجزه عن إخفاء هذه الصورة.
اتسع دور (الناشط الإعلامي) وبات هو صلة الوصل بين الداخل والخارج، فكان إضافة لنقله الصورة والواقع والمظاهرات، مسجلاً لانتهاكات النظام، يسجل بعدسته بخبرته المتواضعة كل مقطع بالتاريخ واليوم ويشرح فيه تفاصيل الحدث، والتي كانت وثائق كبيرة استندت إليها الجهات الحقوقية العالمية منها، لرصد انتهاكات النظام.
كما لعب النشطاء دوراً إنسانياً كبيراً، إذ بات الناشط صلة الوصل بين المناطق الثائرة، والمنظم لحملات الإغاثة من منطقة لأخرى، كذلك ايصال اي مبالغ مالية أو مساعدات تصل من المغتربين للمدنيين، هذا إضافة لتحول الناشط لمراسل حربي، بات يصور المعارك بين فصائل الثورة والنظام، وينقل بالصوت والصورة وقائع المعارك اليومية والقصف ويعرض نفسه وحياته للخطر لنقل أشد المعارك والحملات العسكرية.
وبرزت المئات من الوجوه الإعلامية لنشطاء الحراك الشعبي، ومنهم من وصل للعالمية، وشاع اسم (الناشط الإعلامي) بشكل كبير، قبل أن تبدأ كثير من الجهات إرسال صحفييها لمناطق يمكن التحرك فيها عبر الحدود، ولكن هذا لم يؤثر على عمل الناشط الإعلامي المحلي وبقي هو مصدر الأخبار الأول، لاسيما بعد تعرض الكثير من الصحفيين الأجانب للاستهداف من قبل النظام، وكذلك للخطف في أعوام 2013 و 2014 على أيدي الأطراف العسكرية المسيطرة لاسيما الأجانب، لمبادلتهم على مبالغ مالية كبيرة، وسجل اختطاف العشرات منهم، الأمر الذي حد من حركتهم وتراجع الكثير من الجهات عن إرسال مراسلين لهم، أثر سلباً على وصول صوت الثورة للوكالات والشعوب الغربية، ليبقى دور (الناشط الإعلامي السوري) هو الرائج، لتبدأ جل المؤسسات المهتمة بالشأن السوري بالاعتماد على هؤلاء النشطاء كمراسلين لها بشكل رسمي.
مابعد عام 2015 ومع اتساع المناطق المحررة، شهدت المرحلة طفرة كبيرة في العاملين في المجال الإعلامي، بعد أن تحول العمل هذا لدى الكثيرين، لمهنة أكثر من كونها قضية لنقل صوت الناس، فكان التوجه بشكل كبير لدى فئة ليست بقليلة للخضوع لدورات تدريبية لأقل من شهر، للتعلم على أساسيات استخدام الكمرة ووسائل التواصل، وامتهان العمل بالمجال الإعلامي، وهذا كان له تبعيات سلبية كبيرة على التغطية الإعلامية الثورة وصورة الناشط الإعلامي التي بدأت تتشوه لحد ما.
ولعل أبرز الصعوبات التي واجهت الناشط الإعلامي في سوريا، تمثلت في الملاحقة الأمنية للناشط من النظام ولاحقاً كل الأطراف، وعدم القدرة تأمين معدات العمل للتغطية الإعلامية في بدايات الحراك الشعبي، إضافة لصعوبة تأمين التواصل مع المؤسسات الإعلامية العربية والدولية لإيصال الصورة.
منها أيضاَ صعوبة التنقل بين المناطق بسبب حواجز النظام وبالتالي عدم القدرة على التغطية في مناطق ثائرة وكذلك عدم القدرة على إيصال التغطيات لوسائل الإعلام بسبب عدم توفر الانترنت والحاجة للتنقل لمناطق معينة لرفع التغطيات.
لاننسى نظرة المجتمع في بدايات الحراك الشعبي للناشط واعتباره مصدر البلاء وسبب القصف في حال صور في أي منطقة وعرضها على مواقع التواصل والقنوات الإعلامية، كانت من التحديات ولاحقاً خلال السنوات الماضية النظرة المادية للناشط واعتبار أن عمله في نقل صورة الواقع والتغطية الإنسانية والميدانية هدفها جني المال "الدولار" وفق تعبير الأهالي، وبالتالي بات الناشط مقيد بنظرة المجتمع وأمام تحدي كبير في تغيير نظرة الأهالي له للوثوق به في نقل الصورة الحقيقية.
أيضاَ ضعف الخبرات في المجال الإعلامي واقتصار العمل في البدايات على نشطاء متطوعين لايملكون أدنى خبرة صحفية أو تقنية لاستخدام معدات العمل، وعدم استقلالية الناشط وتحكم سياسات الجهات الإعلامية بترويج مواده واضطراره للعمل كمراسل أو كفري لانس ربما مع جهة لا يتوافق مع سياستها في كثير من المواقع
كذلك من الصعوبات عدم وجود أي كيان إعلامي جامع يجمع نشطاء الحراك الثوري ويحدد أطر عملهم ويدافع عنهم في وجه أي انتهاك أو عمليات استغلال، مع الولاء للسلطة القائمة في المنطقة التي يتواجد فيها الناشط، إذ بات العمل مستقلاً أمراً صعباً ويتطلب أن تكون على ارتباط بجهة ما أو تتمتع بعلاقة جيدة لتستطيع تسيير أمورك وعملك وإلا فأنت معرض لكثير من المشاكل.
تغير الأطراف المسيطرة على الأرض، واضطرار الكثير من النشطاء لترك مناطق نشأتهم وعملهم لمناطق أخرى خوفاً من الملاحقة والاعتقال من قبل الفصائل المسيطرة على منطقته حديثاً لتوجه ما أو أي أسباب أخرى
وتحكم وسائل الإعلام المحدثة سواء كانت سورية أو أجنبية، واضطرار الناشط للعمل في ظروف صعبة وضغط عمل كبير لقاء الحفاظ على عمله وتحمل سياسيات غير موائمة لمواقفه وتوجهاته وربما انتقاد زملائه له لعمله مع الجهة الفلانية لمواقف من سياستها.
ومنها أيضاَ استغلال تعب النشطاء وعملهم من قبل وسائل الإعلام، وعدم وجود عقود وضمانات وتعويضات لهم في حال تركهم العمل او أي خلاف مع إدارة المؤسسة، بالتالي ضياع حقوقيهم وتعبهم ربما لسنوات.
وليس أخيراً، تسييس الدعم للمؤسسات الإعلامية المحلية الناشئة سواء القديمة أو الحديثة، وارتباطه بأحزاب وتيارات ودول وتوجهات وحتى كيانات عسكرية، جعل من الإعلام المستقل ضحية لهذه السياسات وسبب انقطاع للدعم وأجبر الكثير من المؤسسات لاسيما الأولى في نقل الحراك الشعبي على العمل التطوعي لسنوات أثر على نتاجها واستمراريتها بذات الوتيرة، في وقت صعدت مؤسسات إعلامية ناشئة بفضل الدعم واستقطبت نشطاء جدد ليس لهم أي خلفية ثورية أو ناشئين جدد غير واعين لأهمية الحراك الثوري وأولوياته.
وألقى التهجير من مناطق لأخرى، بثقله على الناشط الإعلامي، كونه بدأ حياة جديدة في منطقة جديدة قد يجد صعوبة في التأقلم مع الحياة فيها وتأمين منزل ومايخلفه التهجير من فقدان العمل مع الجهة التي يعمل بها، كون جل الوكالات الإعلامية لها مراسلين في المنطقة التي هجر إليها الناشط وبالتالي التخلي عنه.
وأخيراً، الحصار في المناطق التي واجهت حملات عسكرية وحصار لأشهر وسنوات كالغوطة الشرقية وريف دمشق الجنوبي والغربي ومناطق أخرى بريف حمص، وماخلفه من تبعيات نفسية ومالية وتحديات أمام الناشط لمواصلة العمل في وقت كان لديه عائلة من زوجة وأولاد أو أهل يبحث لهم عن قوت يومهم، وصعوبة تأمين مستلزمات العمل.
واليوم، بات لزاماً على إعلام الثورة، أن يثبت حضوره الفاعل في المرحلة الجديدة من عمر سوريا، وأن ينظم نفسه ويعزز خبراته، ولاينسى فضح وتجريد هؤلاء الشركاء في دماء السوريين، والدفع لاقتيادهم للمحاكم لمحاسبتهم وفق القانون، فلم يكونوا يوماً دعاة سلام أو مغصوبين على التغطية، بل كانوا يتفاخرون بتشبيحهم ودعواتهم للتحريض والرقص والدعس على جثث الضحايا الأبرياء.
فالثورة لم تنته بسقوط الطاغية، بل بدأت منذ لحظة فراره وإنهاء حكمه الاستبدادي، ليسود القانون على الجميع، وبدأ الحراك الحقيقي لحفظ مكتسبات الثورة ومنع تسلق المتسلقين أي كانوا، وبات دور الإعلام الثوري أساسي ولكن يحتاج لتأطير وتنظيم ليكون صوتا حقيقياً ومؤثراً وفاعلاً سواء لدى أصحاب القرار أو المتسلقين، ولامشكلة مع من لم تتلطخ عدساتهم وأقلامهم بالدماء، ويريدون المشاركة في بناء الوطن.
كتبه: Ahmed Elreslan (أحمد نور)
تُعَدّ الشرعية مفهوماً أساسياً في علوم السياسة والقانون، إذ تعكس مدى قبول الشعب أو المجتمع لنظام الحُكم أو القرارات التي تصدر عنه. وبينما تُعتبَر الشرعية الدستورية ركيزة أساسية للنُظُم الديمقراطية المستقرة، تظهر الشرعية الثورية في لحظات التحوّل الجذري، عندما يتجاوز الشعب الأنظمة القائمة استجابةً لمطالب التغيير العميق. وفي مرحلة التحول السياسي التاريخي في سوريا، يبرز مفهوم الشرعية كعنصر أساسي لتعريف وتقييم النُظُم السياسية الناشئة وتحقيق الاستقرار. ويكتسب النقاش حول الشرعية الثورية والشرعية الدستورية أهمية كبرى، خصوصاً في سياق ما بعد سقوط نظام بشار الأسد.
بعد سقوط النظام السوري في 8 كانون الأول (ديسمبر) الماضي، ظهرت إدارة العمليات العسكرية كقوة مركزية تولّت مسؤولية الحكم، مستندة إلى دورها الحاسم في إنهاء حكم بشار الأسد بعد سنوات طويلة من النضال الشعبي منذ انطلاق الثورة في العام 2011. ورغم نجاحها في فرض السيطرة على معظم الأراضي السورية، وتشكيل حكومة مؤقتة لتصريف الأعمال، فإن شرعية هذه الإدارة في قيادة المرحلة الانتقالية تبقى مَحلَّ جدل بين مختلف الفاعلين في الثورة السورية، وذلك في ظل الطابع الديناميكي والتحولي للوضع السوري في هذه المرحلة، وفي ظلّ السياق المعقد والمتغير الذي يثير مخاوف بشأن احتمالية تَفرُّدها بالسلطة. ذلك إلى جانب أن نهجها البراغماتي المُتقلّب يطرح تساؤلات بشأن مدى قدرتها على، أو رغبتها في، تحقيق انتقال سياسي يضمن المشاركة السياسية التعددية.
الشرعية الثورية؛ طبيعتها وحدودها
تُبنى الثورات في جوهرها على تجاوز القوانين القائمة وتعطيل الهياكل الدستورية التي تسندُ الأنظمة المستبدة، فليس هناك ثورة في التاريخ تُطيع القانون. ومن صُلب هذه الحقيقة يأتي مفهوم الشرعية الثورية، التي من خلالها يكتسب الشعب الحق في مقاومة السلطة المستبدة، والتي تستمد شرعيتها بالتالي من نفسها وليس من القانون. في هذا السياق ينشأ مفهوم الشرعية الثورية؛ من القوة الاجتماعية أو الشعبية والسياسية التي تدفع باتجاه تغيير جذري في النظام القائم، الذي يرى الشعبُ فيه نظاماً فاقداً للشرعية الأخلاقية أو السياسية. وتقوم الشرعية الثورية على أُسس ترتكز إلى الإرادة الشعبية، وإلى التغيير الجذري عبر إحداث قطيعة مع الماضي، على نحو ما تعكسه فلسفة هيغل في إفناء القديم بتحويله -على نحو جذري- إلى ضده. وتحملُ الشرعية الثورية مفهوما تكيفياً يعتبر الثورة وسيلة مشروعة لتحقيق الغايات السياسية والاجتماعية، وتُبرِّر تحطيم قانون الدولة في حالة الظلم والقمع، على أن تكون الثورة وفق الشرعية الثورية داعمة للعدالة وضمان الحقوق، وإحداث تغيير فعّال ودائم في النظام السياسي.
وفي الحالة السورية، شكّلَ الشعبُ الشرعية الثورية من خلال الثورة الشعبية التي بدأت عام 2011 ضد نظام بشار الأسد، لكن هذه الشرعية تبقى مؤقتة، إذ تنتهي بمجرد تحقيق أهداف الثورة الأساسية، المتمثلة في إسقاط النظام القديم وإلغاء إطاره الدستوري، ووضع الأسس اللازمة لبناء نظام جديد يُعبّر عن تطلعات الشعب ويؤسس لمرحلة دستورية مستقرة. وربما هنا يظهر مفهوم المشروعية كمعيار يعتمد على مدى قبول الشعب، وعلى استمرارية هذا القبول، للقرارات والأنظمة التي تُتَّخذ خلال المرحلة الانتقالية.
رغم أن مفهوم المشروعية إشكالي، نظراً لصعوبة تحديد معيار موضوعي واحد لتعريفه، فإنه يمكن القول إن الحكومة التي تنشأ عقب ثورة شعبية قد تُعتبر غير شرعية من منظور قانوني جامد، لكنها تحظى بالمشروعية لأنها تستمد قبولها من الشعب، كونها تُعبِّرُ عن إرادة عامة تتطلّع للتغيير بما يمنحها التفويضَ اللازم لقيادة المرحلة الانتقالية.
الشرعية الدستورية: إطار الاستقرار
على النقيض من الشرعية الثورية، تأتي الشرعية الدستورية بوصفها شرعية النظام السياسي المُستمدة من الالتزام بالدستور، الذي يُعتبر العقدَ الاجتماعي الأعلى بين الدولة والمواطنين. وتقوم هذه الشرعية على مبادئ سيادة القانون واحترام الحقوق والحريات الأساسية من حيث المبدأ، وكذلك الفصل بين السلطات لضمان عدم تركيز السلطة في يد جهة واحدة. وينبغي أن يتم تأسيس الشرعية الدستورية من خلال انتخابات حرة ونزيهة، بمشاركة شعبية واسعة، وفي ظلّ إطار قانوني يحكم العلاقة بين الحاكم والمحكوم.
مع ذلك، تُواجه الشرعية الدستورية تحدياتها الخاصة، إذ يمكن أن تُقوَّضَ سيادة القانون إذا تم التحايل على الدستور من قبل السلطات الحاكمة. ويبرز هذا الخطر بشكل خاص في مراحل التحول السياسي، حينما تكون المؤسسات ضعيفة والثقة الشعبية هشَّة أو قابلة للانعكاس. في سوريا ما بعد الأسد، يبقى السؤال الأبرز حول كيفية بناء نظام دستوري تمثيلي يُحقّق تطلعات الشعب، في ظل تَعدُّد القوى السياسية والعسكرية التي قد تتنافس على السلطة، وفي ظلّ تبايُنها من حيث القوة والتأثير وحتى الاتجاهات.
التبايُن والتكامُل
ثمة تحديات مختلفة تواجه الشرعية بنوعيها (الثورية والدستورية)، إذ قد تنحرف الشرعية الثورية نحو الفوضى أو تُنتِجُ نظاماً استبدادياً جديداً إذا غاب الإطار القانوني الواضح والرؤية السياسية المستقبلية. أما الشرعية الدستورية، فقد تفقد فعاليتها إذا لم تَستند إلى إرادة شعبية حقيقية، أو إذا تحايلت السلطات على أُسسها. ويُضاف إلى هذه التحديات صعوبة الانتقال بين الشرعيتين، الأمر الذي التي يُشكِّلُ تحدياً في حد ذاته.
على الرغم من التباين الواضح بين الشرعية الدستورية والشرعية الثورية، فإن التكامل بينهما يصبح ضرورة في ظل التحولات السياسية الكبرى. إذ يمكن للشرعية الثورية أن تُمهِّدَ الطريق لإنشاء شرعية دستورية جديدة عبر انتقال مدروس ومخطط، وتُجسِّد الثورة الفرنسية (1789) مثالًا كلاسيكياً على الشرعية الثورية التي أطاحت بالنظام الملكي، وأرسَت شرعية دستورية جديدة. إن هذا التكامل خلال مرحلة الانتقال يُعَدُّ أمراً حيوياًِ لتحقيق العدالة والاستقرار، بما أنه يجسد العدالة السياسية والاجتماعية التي تمثل جوهر كلٍّ من الشرعية الثورية والدستورية.
بينما يخوض الشعب السوري أولى تجاربه في التحول السياسي منذ نصف قرن، يبرز الانتقال من الشرعية الثورية إلى الشرعية الدستورية كخطوة محورية تتطلب إدارة واعية ومنظمة. ويستدعي هذا الانتقالُ وضعَ خطوات واضحة ومدروسة لصياغة خارطة شاملة للانتقال السياسي، تُشرِكُ جميعَ شرائح المجتمع السوري في حوار وطني جامع وشامل يغيب عنه الإقصاء، لتحويل النضال الثوري إلى عملية دستورية متكاملة تضمن تحقيق الأهداف المنشودة للثورة ضمن إطار قانوني يحمي الحقوق ويوفر الاستقرار السياسي والاجتماعي.
يُشكِّلُ المؤتمرُ الوطني خطوة تأسيسية محورية في بداية مسار طويل لبناء الدولة السورية الجديدة، دولة ترتكز على العدالة والحرية والكرامة لجميع مواطنيها. إن هذا المؤتمر، الذي يُطرَح كنواة لميلاد سياسي جديد، لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال تحضيرات دقيقة تبدأ بتشكيل لجنة تنظيمية شاملة. هذه اللجنة، التي تضمُّ ممثلين عن الأطياف السياسية والوجاهية والمجتمع المدني والخبراء، تتولى وضع جدول أعمال واضح ومحدد. يقوم المؤتمر على مبادئ أساسية لا يمكن التنازل عنها، أبرزها الالتزام بحقوق الإنسان، وسيادة القانون، والوحدة الوطنية، كخطوة ضرورية لتجاوز إرث الانقسام والاستبداد. ومع اتّساع وتعقيد القضايا المطروحة للنقاش، يأخذ المؤتمر ما يتطلبه من وقت لتناول قضايا المرحلة الانتقالية بشكل شامل ومدروس. يُتوَّجُ المؤتمر بإعلان وثيقة وطنية تشكل خارطة طريق للمرحلة الانتقالية، تتضمن تشكيل حكومة انتقالية جامعة تمثل مختلف المكونات السياسية والاجتماعية، وتكليف لجان تأسيسية لصياغة دستور دائم يُطرَح للاستفتاء الشعبي، وتنظيم انتخابات حرة تُشرف عليها جهات مستقلة لضمان النزاهة والشفافية.
يشكل المؤتمر الوطني بمعناه الحقيقي حجر الزاوية في بناء سوريا المستقبل، ويُعَدّ بداية مرحلة انتقالية شاقة، لكنها حاسمة في تحقيق الحرية والعدالة والمواطنة لجميع المواطنين. من شأن إطلاق هذا المؤتمر أن يضمن نقل سوريا من مرحلة الشرعية الثورية إلى الشرعية الدستورية، مع الحفاظ على توازن القوى وتحقيق العدالة السياسية والاجتماعية.
المصدر: موقع الجمهورية
لم يكن حلماً بل هدفاً راسخاً دفعنا لأجله الدماء الغالية، سقوط إمبراطورية عائلة الأسد تحت اٌقدام الثوار في الثامن من شهر كانون الأول لعام 2024، سيكون عيداً وطنياً لسوريا الحرة، سوريا التي نطمح لبنائها بقدرات شبابنا وأبناء ثورتنا، نتشارك فيها فرحة النصر اليوم مع كل أطياف الشعب السوري، لتكون سوريا لكل السوريين، ليست حكراً لأحد سواء شارك في هذه الثورة أم كان صامتاً إلا المجرمين ومن تورطت أيديهم بالدماء.
ثورتنا لم تنته، وواهم من يظن أننا حققنا الحلم، نحن بدأئنا في بناء أول لبنة في سوريا التي نطمح لها، سوريا التي يسود فيها العدل، وتتوزع فيها الخيرات، وتكون وطناً للجميع، لا لفئة أو طائفة تحتكرها، فالأسد كان حجرة عثرة كبيرة في الوصول لسوريا الحرة، وسقوطه يعني بداية المعركة الثورية، لصون المكتسبات التي ناضلنا لأجلها قرابة 14 عاماً، وقدمنا فيها الغالي والنفيس لنصل لهذا اليوم.
من هنا نبدأ في وضع حجر الأساس، والنضال لصون ماحققناه من نصر على طاغية العصر، لتكون ثورة السوريين مثلاً تدرسها الأجيال لعقود طويلة، تتعلم من شعبها معنى الصمود والصبر وتحمل كل الخطوب والعثرات للوصول للهدف، بدون تراجع أو انكسار، رغم تآمر كل قوى الشر ومساندة الطاغية، لكن صبر السوريين وتحملهم كان أكبر عائق أمام إعادة تعويم الأسد، فنال السوريون ما أرادو وكسرو شوكة أعتى نظام حارب شعبه بالنار والبارود.
هروب الأسد لايعني الفلات من العقاب، معركتنا الحقوقية مستمرة، في تسجيل كل جرائم الأسد، وإعادة طرحها أمام المحافل الدولية، وستكشف جرائم المعتقلات الكثير الكثير من الجرائم، التي ستلاحق ضباط وقيادات النظام وتقود بهم إلى السجون لنيل العقاب الذي يستحقون، فهؤلاء لامكان لهم في سوريا المستقبل، ولن نسامح ولن نقبل بأنصاف الحلول.
أبناء ثورتنا الحرة، صغاراً وكباراً، شيباً وشباباً، كلاً في مكانه وموقعه وخبراته، من الفلاح إلى الطبيب، لازال الطريق أمامنا طويلاً لنواصل مسيرة ثورتنا، ونحقق مرادنا، ونضمن حقوق أطفالنا في بلدة يسوده العدل، ويكون مثالاً يحتذى به للأجيال والشعوب، فلا تركنوا ولاتستكينو ولا تسلمو للأمر الواقع الذي يفرض خارجياً، حتى لايعود حكم الأسد بوجه جديد، فتضيع دماء شهدائنا، وعذابات معتقلينا.
كتبه: Ahmed Elreslan (أحمد نور)