زيارة إلى العدو.. لماذا أغضبت زيارة الشرع لموسكو السوريين؟
زيارة إلى العدو.. لماذا أغضبت زيارة الشرع لموسكو السوريين؟
● مقالات رأي ١٦ أكتوبر ٢٠٢٥

زيارة إلى العدو.. لماذا أغضبت زيارة الشرع لموسكو السوريين؟

زيارة الرئيس السوري أحمد الشرع إلى موسكو لم تمرّ كحدث بروتوكولي عادي، بل أشعلت موجة من الغضب الشعبي والرفض العميق في أوساط واسعة من السوريين، خصوصًا أولئك الذين ذاقوا ويلات القصف الروسي، أو فقدوا أحبّاءهم تحت أنقاض منازلهم التي سوّاها الطيران الروسي بالأرض.

لكن، ما الذي يجعل هذه الزيارة تحديدًا تثير كل هذا الكمّ من الألم والغضب والجدل؟ ولماذا لا يكفي التبرير السياسي أو الضرورة الواقعية لطمس الذاكرة؟

حين تُصافح اليد التي قتلتك

ما جرح كثيرين لم يكن فقط مضمون الزيارة، بل طريقتها: الابتسامات، والمزاح العلني بين الشرع وبوتين. هذا المشهد بحد ذاته كان كافيًا لإثارة الغضب، كما كتب أحد النشطاء، لأن من كان على الطرف الآخر من تلك المصافحة هو الرجل الذي أمر طيرانه لعقدٍ من الزمن أن يمطر سماء سوريا بنيران الموت.

من يرى في بوتين “قاتل أطفالنا ومجرم حرب” لن يقبل أن تُعامل يداه وكأنها يد صديق أو شريك في السلام. حتى لو كانت هناك مصلحة سياسية مرجوّة من هذه العلاقة، فكان يجب أن تكون الزيارة مدروسة بمقدار الألم، ومشحونة بنبرة تليق بضحايا المجازر، هكذا وصف العديد من السوريين مشاعرهم.

سياسة؟ أم محو للذاكرة؟

يستطيع السوريون فهم الواقعية السياسية، وأن لا عدو ولا صديق أبدي، بل المصالح المتبادلة هي ما تحكم العالم، ولكن الكثير منهم ما زال إلى هذه الساعة يلملم ركام بيته الذي دمره الروس، ويجد في زواياه آثار دماء أحبابه وأهله. يقول الكثير منهم إنّه عتاب المحب لحبيبه، وكذلك هم عاتبون على الرئيس الشرع، حيث كان يجب أن تكون كلماته مدروسة وتعابير وجهه تُظهر الغضب.

بعض المبرّرين للزيارة يستندون إلى مفهوم “الواقعية السياسية”، وإلى أن الدولة السورية الجديدة مضطرة لبناء تحالفات مع قوى فاعلة في الإقليم، تمامًا كما فعلت قوى وجهات أخرى (مثل حماس) حين لجأت إلى إيران.
لكن ما لم يفهمه هؤلاء، أن الدم لا يُمحى بالابتسامات، وأن الذاكرة الوطنية لا تُمسَح باسم البراغماتية. وكما كتب أحد السوريين:

“إن كنتَ قد شتمت حماس حين صافحت قاتلًا في طهران، فلا تمدح الشرع ومصافحته مع قاتل آخر في موسكو.”

ومرة أخرى يتفهم السوريون حاجة الوطن لفتح صفحة مع الجميع، لكن هذا لن يكون على حساب ذاكرتهم وآلامهم، وليس مطلوبًا منهم أن ينسوا الموت الذي أذاقتهم إياه موسكو وطائراتها، وإن ثمن الدم السوري يجب أن يكون أثقل من كل حسابات المصالح، أو على الأقل يجب ألا يُمنح القاتل براءة مجانية على الهواء مباشرة.

واحدة من أصدق العبارات التي انتشرت على وسائل التواصل كانت: “لا تفرح ولا تهلل، الزيارة سياسة دولة، لكن واجب الشعوب أن تُبقي الوعي حيًا احترامًا لعشرات آلاف الضحايا.”

النائبة في مجلس الشعب الجديد، نور الخطيب، نشرت يوم أمس إحصائية للشبكة السورية لحقوق الإنسان حول الجرائم التي نفذتها روسيا في سوريا، وقالت:
“قتلت القوات الروسية منذ تدخلها العسكري في 30 أيلول 2015 وحتى سقوط النظام في 8 كانون الأول 2024 ما لا يقل عن 6993 مدنيًا، بينهم 2061 طفلًا و984 سيدة، إضافة إلى 363 مجزرة، واعتداءات على 1262 مركزًا حيويًا مدنيًا، منها 224 مدرسة و217 منشأة طبية.”

وأضافت نور: “هذه الأرقام لا يمكن تجاوزها في أي مقاربة للعلاقات بين الدولتين، لأنها تمثل ذاكرة الضحايا وحقوقهم التي لا تسقط بالتحولات السياسية، فالانفتاح الدبلوماسي لا يلغي مسؤولية التعامل الجاد مع مآسي الماضي، بل يفترض أن يكون خطوة باتجاه احترام حقوق الضحايا وضمان كرامتهم كأولوية في أي مسار سياسي جديد.”

الإعلامية السورية، صِبا ياسر مدور، عبرت استغرابها من حالة الاحتفاء المفرط والمشوه وغير المبرر التي انفجرت بين بعض السوريين حول زيارة الرئيس إلى موسكو، ونوهت أن هذه الزيارة ليست انتصاراً ولا فتحاً مبيناً وليس تسليماً منهم للأسد، هي جزء من الفروضات السياسية القاهرة في الوقت الراهن، وشعرت بالأسف أن العديد من السوريين أثبتوا افتقادهم للحساسية الإنسانية تجاه عائلات الشهداء الذين سقطوا في القصف الروسي على مدى 9 سنوات.

في الجهة الأخرى

في المقابل، ثمّة تيار آخر يطرح بمنتهى الصراحة "لم يعد لدينا رفاهية المقاطعة، وسوريا اليوم بحاجة إلى علاقات وابتسامات ومصافحات وعناق مع القوى الكبرى كي تنهض من ركام الانهيار".

هذا الخطاب لا يُنكر الجريمة، بل يضع “مصلحة البلد” و”حسابات المستقبل” أولًا. وأصحاب هذا الرأي لا يبررون جرائم بوتين، لكنهم يعتبرون أن سياسة النَفَس الطويل تتطلب مرونة وانفتاحًا، بل وربما تحالفًا مع من كانوا بالأمس خصومًا.

بلغة مغايرة، ويراها البعض واقعية، عبّر آخرون بقولهم: “روسيا عدو، نعم. لكنك لن تعيد بناء وطن من الحقد والغضب فقط. فسوريا تحتاج كل شيء ولا تملك شيئًا، لذلك يسعى الشرع لرسم شكل سياسي جديد مع روسيا مبني على تجاهل الماضي والعمل على المستقبل”.

يضيف آخرون: “ربما في عالم مثالي، لا نصافح القتلة. لكن في هذا العالم ستتعامل مع الذئاب بشكل مباشر، وأحيانًا يكون طريق الخلاص مليئًا بالمصافحات التي نكرهها.”

ويرى بعض من يبرر الزيارة أنها جاءت في مرحلة دقيقة من مسار الدولة السورية الجديدة، التي تسعى لإعادة صياغة علاقاتها الخارجية بعد عقدٍ من العزلة والصراع. فروسيا، رغم مسؤوليتها عن جزء كبير من المأساة السورية خلال حقبة النظام السابق، ما تزال لاعبًا دوليًا ذا ثقل في ملفات الإعمار والطاقة والأمن الإقليمي.

وتعتبر دمشق أن الانفتاح على موسكو خطوة ضرورية لضمان توازن في علاقاتها مع القوى الغربية والإقليمية، خصوصًا في ظل التنافس المتصاعد بين الولايات المتحدة والصين في المنطقة.

كما يرى مراقبون أن الزيارة تحمل رسالة مزدوجة: الأولى موجهة إلى الداخل السوري لتأكيد قدرة الدولة على الانفتاح دون ارتهان، والثانية إلى الخارج لإعادة تموضع سوريا كدولة مستقلة لا تدور في فلك أي محور.

من يملك الحق في الغضب؟

هذا المسار الذي سلكته الدولة الجديدة يظل محفوفًا بالتحديات الأخلاقية والسياسية، إذ يتعين على القيادة السورية أن توازن بين مصالح الدولة وواجبها تجاه العدالة وحقوق الضحايا، حتى لا تتحول السياسة الواقعية إلى شكل جديد من التطبيع مع القتلة.

كل طرف في هذا الجدل له منطقه، لكن لا أحد يملك أن ينزع عن الناس حقهم في الغضب. من فقدَ ابنه وأحبابه في قصفٍ روسي له الحق في أن يصرخ حين يرى الابتسامات. ومن يعيش تحت خط الفقر له الحق في أن يطالب بعلاقات تُخرج البلد من مأساتها.

وهنا يطالب السوريون أن يعرف الرئيس أحمد الشرع والدولة الجديدة كيف يوازنون بين كرامة وآلام ضحايا القصف الروسي، وبين ضرورات المرحلة، ويجب ألا يُمحى من الذاكرة، وأن تُكتب للأجيال القادمة والتي بعدها وبعدها أن روسيا ستبقى عدوًا إلى يوم القيامة.

الكاتب: أحمد ابازيد - رئيس تحرير شبكة شام
مشاركة: 

اقرأ أيضاً:

ـــــــ ــ