قال "فضل عبد الغني" مدير "الشبكة السورية لحقوق الإنسان"، إن دبوس العلم الوطني يمثّل أكثر بكثير من مجرد قطعة زخرفية في سياق البروتوكول الحكومي والعلاقات الدبلوماسية، فبحسب الأدبيات الدبلوماسية المعاصرة، تُعدّ هذه الرموز الصغيرة أحد أهم تجليات الهوية الوطنية وأدوات البروتوكول في تفاعلات الدولة الحديثة.
وأكد الحقوقي السوري في مقال نشره موقع "تلفزيون سوريا" أن ارتداء دبوس العلم هو فعل دلالي يختزن معاني الوطنية والوحدة واحترام السيادة، وفي بنية البروتوكول الدبلوماسي المعقّدة، تطوّر دبوس العلم إلى ما يصحّ وصفه بـ«الرمز» الذي يجسّد الأمة وتاريخها وتطلعاتها، وتكتسب هذه الحمولة الرمزية أهمية خاصة في اللقاءات الثنائية، حيث يبعث العرض الدقيق للرموز الوطنية رسائل مدروسة حول طبيعة العلاقات بين الدول، مع الحفاظ على توازن دقيق بين الاحترام المتبادل وتأكيد الهوية السيادية.
وفق "عبد الغني" يعكس انتقال شارات العلم من إكسسوار اختياري إلى عنصر أصيل في البروتوكول الحكومي تحوّلاً أوسع في تمثّل الدولة لرمزية الانتماء الوطني، ويُبرز المسار التاريخي لهذه الممارسة كيف تتبلور الأعراف السياسية في متطلبات دبلوماسية مُلزمة؛ إذ تزايدت توقعات المواطنين من المسؤولين إظهار الولاء الوطني عبر رموز مرئية، خصوصاً عقب محطات وطنية مفصلية تنطوي على تهديدات للأمن أو الوحدة، أو في الدول الخارجة من نزاعات مسلحة كما هو الحال في سوريا، ما ارتقى بشارة العلم من خيار شخصي إلى ضرورة وحدة وطنية.
وفي هذا الأفق، يتجاوز توصيف دبوس العلم كـ«رمز وطني» حدود العرض الاحتفالي إلى تمثيل الثقل السيادي للدولة، بالنظر إلى كون العلم ذروة التعبير عن الهوية الوطنية وسلطة الدولة، وهي منزلة تمتدّ بطبيعتها إلى صورته المصغّرة على ياقة السترة.
وتؤكد الممارسات البروتوكولية الحديثة أسبقية العلم على سائر الشعارات والرموز، وهو مبدأ ينسحب بالتساوي على دبابيس العلم في المناسبات الرسمية؛ أسبقيةٌ ليست اعتباطية، بل تعكس مكانة العلم كأسمى رمز للدولة في النظام الدولي.
إضافة لما سبق، يجسّد إضفاء الطابع المؤسسي على استخدام الشارات تقاطعاً بين التواصل الرمزي والرسائل السياسية؛ فهذه الرموز أدوات فعّالة للتواصل قادرة على إيصال مضامين مركّبة حول الهوية الوطنية والتوافق السياسي والعلاقات الدبلوماسية. وتُظهر آثارها على الإدراك العام أنّها تعزّز المواقف السياسية وتساعد القادة على التماهي مع شرائح اجتماعية محورية.
وبذلك تؤدي الشارة وظيفة مزدوجة داخلياً وخارجياً: ترصين الوحدة الوطنية في الداخل، وتمثيل الدولة والقيم التي تنهض عليها في الخارج، ما يرسّخ مكانتها كعنصر لا غنى عنه في إدارة الشأن العام وصناعة الدولة.
البروتوكول الدبلوماسي والمعايير الدولية لاستخدام شارات العلم
ينضبط إدماج شارات العلم في البروتوكول الدبلوماسي بقواعد آداب دقيقة تُجسِّد احترام السيادة الوطنية وتنظّم التفاعل بين الدول، وفي سياق اللقاءات الدولية، يخضع وضع الشارات وعرضها لمعايير راسخة تعكس مبادئ العمل الدبلوماسي الأوسع. ويُعدّ ارتداء الشارة على طيّة صدر السترة اليسرى، قرب القلب، إيماءة رمزية إلى الولاء الوطني، مع الالتزام بالأعراف الدولية المرعية في عرض الرموز الوطنية.
توفّر اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية الإطار الناظم الذي تتحرّك ضمنه رمزية الأعلام في المحافل الدولية؛ فهي تُقرّ للبعثات الدبلوماسية بحق إظهار رموزها الوطنية، ولا سيما العلم والشعار، على المباني ووسائل النقل الرسمية، وهو منطق امتدّ عرفاً إلى الشارات الشخصية التي يرتديها الدبلوماسيون أثناء المهام الرسمية.
كما ترسي قواعد استخدام الأعلام في المنظمات الدولية، وفي مقدّمها الأمم المتحدة، إرشادات تُشدد على صون الكرامة واللياقة البروتوكولية عند العرض. وتؤثر هذه المعايير في سلوك الممثلين الوطنيين في البيئات متعددة الأطراف، مُنشئةً لغة تواصل رمزية عابرة للحواجز اللغوية والثقافية.
وفي بروتوكولات الاجتماعات الثنائية، يسود مبدأ البروز المتساوي في عرض الرموز الوطنية، بما في ذلك الشارات الشخصية التي يعتمدها المسؤولون. ويجسّد هذا المبدأ احتراماً متبادلاً بين الدول، مع إبراز واضح لولاء كل ممثل لدولته.
وتُيسّر هذه الممارسة التعرف البصري الفوري إلى الممثلين الوطنيين، بما يعزّز الكفاءة والوضوح الدبلوماسيين. كما أنّ شارات «العلمين المتقاطعَين»، المقدَّمة كهدايا بروتوكولية، تُظهر كيف تطورت الرمزية من تمثيل الدولة المنفردة إلى استحضار الصداقة والتعاون الثنائي.
وقد أسهم تدوين بروتوكولات الشارات لدى عدد متزايد من الدول في تكوين نسقٍ شبه موحّد للتعبير الدبلوماسي قابل للتطبيق على نطاق واسع، فأدرجت البعثات والهيئات الحكومية والمنظمات الدولية شارات العلم ضمن قواعد اللباس المعتمدة لديها، في دلالة على أهميتها المعاصرة في الممارسة الدبلوماسية. وبلغ هذا الترسّخ حدّاً أصبح معه غياب الشارة لافتاً للنظر أكثر من حضورها، بما يعكس مدى اندماجها في متطلبات العمل الدبلوماسي اليومي.
خاتمة
شهدت شارات العلم تحوّلاً ملحوظاً من مجرّد تعبير عن المشاعر الوطنية إلى عنصر مركزي في البروتوكول الحكومي والدبلوماسي، ويعكس هذا التحوّل اتساع طرائق تعبير الدول عن الهوية والسيادة والاحترام المتبادل في عالم شديد الترابط.
وإن توصيف شارات العلم بوصفها «الرمز الوطني الأرفع» تتقدّم على سائر الشعارات يؤكد مكانتها في تمثيل الهوية الوطنية وبشكل خاص الدول الخارجة من نزاعات مسلحة. وفي تمثل سلطة الدولة، ولا سيما في الاجتماعات الثنائية حيث ينقل العرض المنضبط للرموز رسائل جوهرية حول طبيعة العلاقات، مع صون كرامة الدول وسيادتها.
ويبيّن الإطار النظري الناظم لبروتوكول الشارات أنّ تفاصيل تبدو ثانوية في ظاهرها تحمل أثقالاً رمزية عميقة، وقد أفضى تلاقي التقاليد التاريخية والقانون الدولي والأعراف الدبلوماسية إلى تشكّل نسق عالمي للتواصل الرمزي يتجاوز الحدود الثقافية والسياسية.
وتمثّل الشارات تعبيراً بصرياً عن الولاء الوطني متخطّياً عوائق اللغة، بما يُيسّر المشاركة الدبلوماسية ويعزّز الهوية الوطنية. ومع استمرار المسؤولين في مختلف المستويات في اعتماد هذه الرموز في حضورهم المهني، تظلّ شارات العلم ركناً ثابتاً في فن الحكم الحديث، وشاهداً على فعالية التواصل الرمزي في العلاقات الدولية.
أوضح مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان السيد "فضل عبد الغني"، أن العلاقة بين السلام والعدالة في تسويات ما بعد الصراع تُمثّل أحد أكثر مباحث بناء السلام المعاصر إشكاليةً؛ ففي حين قد يقتضي الوقف الفوري للأعمال العدائية تنازلاتٍ عملية، منها استبعاد آليات المساءلة، تُظهر الأدلة المتنامية أن هذا الإقصاء ينطوي على مخاطر جسيمة تهدد إمكانية ترسيخ سلامٍ مستدام.
وبين عبد الغني في مقال نشره موقع "تلفزيون سوريا" أن التوتر بين تقليص النزاع في الأمد القصير وتحقيق الاستقرار في الأمد الطويل يتجلّى على نحوٍ أوضح عندما تُبرم اتفاقيات السلام من دون تضمينٍ مؤسسيٍّ واضحٍ لآليات العدالة.
وأكد أن استبعاد آليات العدالة من اتفاقيات السلام يُضعف بصورة جوهرية البنية المؤسسية اللازمة لاستدامة الحكم في مرحلة ما بعد الصراع. فعندما يُدمَج الجناة في مناصب الدولة من دون مساءلة؛ تتعرض شرعية النظام السياسي لخللٍ بنيوي يتجلى في مستوياتٍ متعددة؛ إذ تنشأ مفارقة يصبح فيها من قوّضوا المنظومة القانونية والسياسية أوصياء عليها.
ولا تقف العواقب عند الرمزية، بل يمتد أثرها إلى تكريس انتهاكاتٍ سابقة وانفلاتٍ قانونيٍّ دائم، يحول دون بناء مؤسسات حوكمةٍ ذات مصداقية، ويُعدّ تقويض أسس سيادة القانون من أخطر هذه النتائج؛ فحين تُوحي تسويات السلام بأن القواعد قابلةٌ للتجاوز وأن الفاعلين الأقوياء بمنأى عن المحاسبة، تتشكل بيئة معيارية يُقبل فيها العنف كآليةٍ مشروعةٍ لحلّ النزاعات.
ووفق كاتب المقال يتجسد هذا التحول عبر تآكل أبعاد العدالة الثلاثة: القانوني، حيث يفقد القانون وظيفته الرادعة وقدرته التنظيمية؛ والإصلاحي، عندما لا يُعتَرَف بحقوق الضحايا ولا يُعوَّضون؛ والتوزيعي، عندما تُترك الاختلالات الهيكلية التي غذّت الصراع من دون معالجة.
الإفلات من العقاب وديناميات العنف المتوارث
يُنتج الإفلات من العقاب دوراتِ عنفٍ متوارثةً تجعل فترات وقف الاقتتال مجرد هوامش زمنية بين جولات نزاعٍ جديدة. وتشير بياناتٌ إحصائيةٌ إلى أن لجان الحقيقة، حين تُنشأ فور انتهاء النزاع، تُحقق فعاليةً أعلى بنسبة 75% في منع تجدّد العنف؛ غير أن تغييبها عن اتفاقيات السلام يُفقد العملية هذه الأداة الوقائية المحورية.
ويجري تطبيع العنف كوسيلةٍ سياسية عبر تكرار الأنماط وتصعيدها، إذ يُنتج نجاح العنف من دون تبعاتٍ نماذجَ إرشاديةً لفاعلين سياسيين لاحقين. وتفسر هذه الديناميكية إخفاق العفو الشامل المتكرر في تحقيق نتائج السلام المرجوّة، لأن غياب الردع يُبقي السلوك غير القانوني خياراً مُتاحاً بلا كلفة.
عوائق التعافي الاجتماعي وتحديات الشرعية الدولية
يقول "عبد الغني" إن حرمان الضحايا من حقوقهم عبر استبعاد آليات العدالة يُنتج مظالم موازية يستثمرها مُحرّكو الصراعات لإعادة إشعال العنف؛ فحقوق الضحايا الأساسية في الحقيقة والعدالة وجبر الضرر وضمانات عدم التكرار شروطٌ عملية لإعادة بناء المجتمع.
وعندما تتجاهل اتفاقيات السلام هذه الحقوق، فإنها تُعيق تكوين ذاكرة جماعية لازمة للتعافي المجتمعي؛ إذ يفتح غياب السرديات المشتركة حول الماضي الباب أمام التلاعب السياسي بالروايات التاريخية المتنافسة، فتستبقي الجماعاتُ قراءاتٍ متناقضة لأسباب الصراع ومسؤولياته.
إن تعطيل تشكّل الذاكرة الجماعية بفعل غياب عمليات البحث عن الحقيقة يُجهض فرص تشخيص الأسباب الجذرية للنزاع ومتطلبات الإصلاح المؤسسي؛ وتوفّر لجان الحقيقة ونظيراتها منصّاتٍ مُنظّمةً لشهادات الضحايا تسهم في شفاء الأفراد وبناء الاعتراف الجمعي.
غير أن تغييبها عن اتفاقيات السلام يُقصي هذه المساحات الحيوية لمعالجة الصدمات الاجتماعية ويحول دون صياغة توصيات للتحول المؤسسي. وعلى المنوال ذاته، فإن عدم إرساء أطرٍ فعّالةٍ للتعويضات يُكرّس تهميش الضحايا وهشاشتهم، ويُبقي قضايا العدالة التوزيعية بلا معالجة، ما يحافظ على الشروط الهيكلية التي غذّت النزاع ابتداءً.
كما يتصاعد خطرُ تآكل الشرعية الدولية في نظامٍ عالميٍّ مترابط تتطلب فيه عمليات السلام دعماً خارجيّاً واسعاً؛ فسياسات الأمم المتحدة المؤسسية المناهضة للعفو تُقيّد تقديم المساعدات التقنية والمالية لعمليات تُكرّس الإفلات من العقاب، في حين يواجه العديد من المانحين الثنائيين قيوداً قانونية تحول دون دعم اتفاقيات تستبعد آليات المساءلة.
ويتجاوز هذا البعد الدولي نطاق الدعم المادي ليُرسّخ سوابق معيارية؛ فكل اتفاق سلام يتجاهل العدالة يُسهم في تقويض معايير المساءلة عالمياً ويُشجّع الجناة على مواصلة الانتهاكات عبر الحدود. إن إضعاف قواعد القانون الدولي بفعل التنازلات المتتالية بشأن العدالة يخلق بيئةً مُواتيةً لوقوع انتهاكات مستقبلية، ويُضعف البنية الكاملة للقانون الإنساني الدولي وقانون حقوق الإنسان.
خاتمة
يُظهر تحليل المخاطر الناجمة عن تغييب آليات العدالة في اتفاقيات السلام أن التوتر المُتصوَّر بين السلام والعدالة ينطوي على سوء فهمٍ جوهري لمتطلبات التسوية المستدامة للنزاعات؛ فالأدلة تُبيّن أن الاتفاقيات الخالية من أحكام العدالة لا تُنهي النزاعات على نحوٍ دائم، بل تُفضي إلى أوضاعٍ هشّة تتسم بإبقاء المظالم بلا معالجة، واهتزاز شرعية المؤسسات، وتطبيع العنف السياسي. ويُقدّم معدّلُ تكرار النزاعات البالغ نحو 57% في الاتفاقيات التي تفتقر إلى آليات العدالة، مقارنةً بمعدلاتٍ أدنى بكثير عند تضمين المساءلة، برهاناً عملياً على ترابط السلام والعدالة.
وتكشف المخاطرُ المتعددة الأبعاد، من شرعية الحكم وسيادة القانون إلى حقوق الضحايا وتشكيل الذاكرة الجماعية والدعم الدولي، تكشف أن السلام المستدام يقتضي آلياتِ عدالةٍ هادفةً رغم تعقيدات التفاوض. وتقدّم المقارباتُ الإبداعية التي تُوازن بين متطلبات التهدئة الفورية وضرورات العدالة طويلة الأمد، مثل المساءلة المؤجّلة، والعفو المشروط المقيَّد، والنماذج الهجينة التي تجمع بين العناصر التصالحية والجزاءية، مساراتٍ تتجاوز الثنائية الزائفة بين السلام والعدالة. وتتمثل الفكرة المحورية في أن الوصول إلى سلامٍ حقيقيٍّ مستدام في سوريا وسواها يتطلب اقتران وقف الأعمال العدائية بمعالجة إرث العنف عبر آليات عدالةٍ مُصمَّمةٍ بعناية.
في خطوة تحمل أبعادًا سياسية وقانونية، أصدر الرئيس الأميركي دونالد ترامب في الثلاثين من أيلول/سبتمبر 2025 قرارًا بتمديد حالة الطوارئ الوطنية المتعلقة بالوضع في سوريا لمدة عام إضافي، مستندًا إلى قانون الطوارئ الوطنية وقانون السلطات الاقتصادية الطارئة الدولية.
القرار نُشر رسميًا في السجل الفيدرالي الأميركي في الثاني من تشرين الأول/أكتوبر، ويُعد امتدادًا لحالة الطوارئ التي أعلنها ترامب للمرة الأولى عام 2019، والتي تم توسيعها في حزيران/يونيو الماضي بعد أن ألغيت حالة الطوارئ القديمة التي تعود إلى عام 2004.
البيان الرسمي للبيت الأبيض أوضح أن الوضع في سوريا ما زال يشكل تهديدًا غير عادي واستثنائيًا للأمن القومي والسياسة الخارجية للولايات المتحدة، وأن مرتكبي جرائم الحرب وانتهاكات حقوق الإنسان وشبكات تهريب المخدرات التي نشأت خلال حقبة النظام السابق لا تزال تمثل خطرًا حقيقيًا على السلم والاستقرار الإقليمي.
هذه الصياغة القانونية التي تبدو جافة من الخارج، تخفي وراءها إشارات سياسية واضحة تجاه مجموعة من الفاعلين على الساحة السورية، سواء من بقايا النظام السابق أو القوى المسلحة غير المنضبطة أو شبكات الجريمة المنظمة التي ازدهرت في فترة حكم الأسد.
في النظام القانوني الأميركي، لا يملك الرئيس صلاحيات فرض أو تعديل العقوبات خارج إطار إعلان حالة الطوارئ الوطنية. هذا يعني أن التمديد ليس مجرد إجراء بروتوكولي، بل هو في جوهره إبقاء للأداة القانونية الأساسية التي تسمح لواشنطن بالتحرك ضد أطراف تعتبرها مهددة للاستقرار، من دون الحاجة إلى تشريعات جديدة.
القرار يضمن استمرار قدرة الإدارة الأميركية على تجميد أصول وملاحقة شخصيات وفرض قيود اقتصادية وسياسية بمرونة عالية، وهو ما يمنحها مجالًا واسعًا لإدارة ملفات سوريا بما يتناسب مع تطورات الداخل والإقليم.
الجزء الأكثر وضوحًا في هذا القرار يتعلق بفلول النظام السابق. النص الأميركي يربط بشكل مباشر حالة الطوارئ بالجرائم التي ارتُكبت خلال فترة حكم بشار الأسد ومن ارتبط به.
هذا الربط ليس عابرًا، بل هو تأكيد على أن واشنطن تحتفظ بحقها القانوني والسياسي في الاستمرار بملاحقة المسؤولين السابقين ورجال الأعمال الممولين وشبكات التهريب والفساد التي تشكلت في ظل النظام القديم.
بعض الموالين لرئيس النظام السابق بشار الأسد والمعارضين للدولة السورية الجديدة من بينهم قسد وميليشيات الهجري والايرانيين، سارعوا إلى الاحتفال بالقرار باعتباره خطوة ضد “الثورة” أو “سوريا الجديدة”، لكن هذا الاحتفال يعكس جهلًا عميقًا بطبيعة القرار، لأنه في الحقيقة موجه ضدهم، لا لصالحهم. الرسالة إليهم واضحة: لم يعد هناك غطاء، ولا حصانة، ولا نسيان لملفات الجرائم التي ارتكبوها.
القرار لا يقتصر على النظام السابق فحسب، بل يفتح الباب أيضًا أمام مقاربة جديدة تجاه قسد. فالولايات المتحدة لا تمنح هذه الميليشيات تفويضًا مطلقًا ولا حصانة سياسية دائمة، بل تبقي لنفسها هامش المناورة القانوني للتحرك ضدها إذا رأت أنها باتت تشكل تهديدًا للاستقرار أو تنتهك القوانين الدولية.
وجود حالة الطوارئ يمنح الإدارة الأميركية القدرة على إعادة تعريف علاقتها بقسد في أي لحظة، وهو ما يضع هذه القوة أمام واقع مختلف، خالٍ من الضمانات غير المشروطة التي اعتادت عليها خلال السنوات الماضية.
إحدى أكثر الفقرات دلالة في القرار هي تلك التي تتحدث عن شبكات تهريب المخدرات التي ازدهرت خلال حقبة النظام السابق، فهذه الشبكات لم تعد مجرد ملف أمني داخلي، بل تحوّلت إلى عامل تهديد إقليمي ودولي.
وتمديد حالة الطوارئ يمنح واشنطن إمكانية ملاحقة هذه الشبكات وأموالها وتحالفاتها داخل سوريا وخارجها، بما يشمل الشركاء الإقليميين الذين يوفرون لها الغطاء أو التسهيلات.
من زاوية سوريا الجديدة، يحمل هذا القرار أهمية استراتيجية لا يمكن التقليل من شأنها. فهو يميّز بوضوح بين الماضي والحاضر، ويستهدف حقبة النظام السابق دون أن يوجّه عقوباته إلى الدولة الحالية، كما يفتح الباب أمام إمكانية صياغة علاقة جديدة مستقبلًا إذا واصلت المؤسسات السورية الجديدة مسارها في إعادة بناء الدولة وترسيخ الاستقرار.
إبقاء العصا القانونية بيد واشنطن لا يعني بالضرورة عداءً لسوريا الجديدة، بل يمكن أن يُقرأ باعتباره عامل ضغط على القوى المعرقلة للتغيير، وفرصة للدولة الجديدة لتثبيت موقعها في المشهد الدولي كطرف شرعي يسعى إلى محاسبة الماضي وبناء المستقبل.
وتمديد حالة الطوارئ الأميركية ليس مجرد خبر أو حدث عابر، بل هو رسالة سياسية مشفّرة موجهة إلى عدة أطراف في آن واحد. إلى فلول النظام مفادها أنكم مستهدفون، وإلى قسد أن الغطاء الأميركي لم يعد مضمونًا، وإلى شبكات المخدرات أنكم ستبقون تحت الملاحقة والعقاب، وإلى سوريا الجديدة أن هناك فرصة حقيقية لبناء علاقة مختلفة إذا استمر مسار التغيير السياسي.
القرار يضع الجميع أمام واقع تتحكم فيه الولايات المتحدة بأدواتها، ولا يوجد أحد حتى الحكومة السورية الجديدة خارج حدودها، ويضع بشكل واضح العراقيل أمام الجميع إلا أنه بشكل أو بأخر يعبد الطريق امام سوريا الجديدة ولكن بأدوات وموافقة أمريكية.
لم تكن مشاركة الرئيس أحمد الشرع في قمة «كونكورديا» بنيويورك حدثاً بروتوكولياً عادياً، بل بدت وكأنها لحظة سياسية فارقة يطل فيها وجه سوريا الجديد على العالم، فمن على طاولة واحدة مع كبار المستثمرين والخبراء الاقتصاديين، وفي مقابلة مباشرة مع مدير الـCIA السابق ديفيد بترايوس، رسم الشرع خطوط رؤيته لسوريا ما بعد الحرب، واضعاً نفسه وقضية بلاده في قلب النقاش الدولي.
ما لفتني في خطاب الرئيس أنه جمع بين اعتراف صريح بالمآسي التي عاشها السوريون تحت نظام الأسد البائد، وبين تقديم إنجاز «تحرير سوريا بأقل الخسائر» كعنوان لفصل جديد، هذه الصراحة لم تكن مألوفة في خطابات سابقة، وهي تحمل إشارة إلى أن دمشق الجديدة تحاول بناء شرعية على أساس الشفافية والتدرج، لا على أساس الشعارات.
الشرع لم يكتفِ بتوصيف الداخل، بل أرسل رسائل مدروسة للخارج: إشادة بقرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب إزالة العقوبات، ودعوة الكونغرس لاستكمالها، وتأكيد على أن المصالح اليوم متطابقة بين سوريا والغرب، كما بدا وكأنه يقول إن بوابة دمشق إلى العالم لن تمر عبر السياسة فقط، بل عبر الاستثمار والاقتصاد والتعاون الدولي، وأن على المجتمع الدولي أن يمنح سوريا «فرصة حياة» ثانية.
في الداخل، ركّز الرئيس على عناصر الأمن والعدالة: حصر السلاح بيد الدولة، لجان لتقصي الحقائق في الساحل والسويداء، والسماح بدخول لجان تحقيق دولية، هذه إشارات طمأنة ضرورية لبلد أنهكته النزاعات وأرهقته الانتهاكات، ورسالة إلى المراقبين بأن صفحة الإفلات من العقاب قد تُطوى فعلاً إذا تحوّل الكلام إلى أفعال.
حتى الملف الكردي، أحد أعقد ملفات ما بعد الحرب، حضر في الخطاب بلهجة واقعية: عرض دمج قوات سوريا الديمقراطية في الجيش السوري مع ضمان الحقوق، إقرار ببطء التنفيذ، ودعوة إلى حلول سلمية سريعة، وهذه اللغة أقل حدة وأكثر براغماتية مما اعتدنا سماعه، وتعكس فهماً بأن نجاح سوريا الجديدة يمر عبر إدارة تنوعها بعيداً عن المحاصصة التي رفضها الشرع علناً لصالح حكومة كفاءات.
أما في ملف إسرائيل، فقد بدا الرئيس وكأنه يختبر ردود الأفعال: تذكير بالاعتداءات واحتلال الجولان والتوغل في الأراضي السورية، مقابل تأكيد السعي إلى تجنب الحرب والتمسك بالتهدئة لإعطاء البلاد فرصة للنهوض، ثم وضع الشرط الواضح: انسحاب إسرائيل من الأراضي السورية ومعالجة المخاوف الأمنية بالمفاوضات، مع التساؤل العلني ما إذا كانت تلك المخاوف حقيقية أم مجرد أطماع توسعية. هذا الخطاب يفتح باب المفاوضات دون أن يقدم تنازلات مسبقة.
الشق الاقتصادي من التصريحات لا يقل أهمية عن السياسي، فالرئيس يراهن على قدرات وطنية لإعادة بناء الاقتصاد، لكنه يشير بوضوح إلى أن رفع العقوبات هو الشرط الأساسي للانطلاق. هنا يظهر رهان دمشق على المستثمرين والمؤسسات المالية الدولية التي تحضر القمة، ورسالتها أن سوريا لم تعد مصدر تهديد بل سوقاً ناشئة تستحق الدعم.
خلاصة ما خرجتُ به من متابعة تصريحات الشرع في قمة «كونكورديا» أن سوريا تحاول إعادة تقديم نفسها للعالم: دولة تسعى للتهدئة لا للتصعيد، للعدالة لا للانتقام، وللتنمية لا للانعزال. هذه ليست مجرد شعارات؛ إنها خريطة طريق إذا ما تحققت يمكن أن تعيد رسم موقع سوريا في المنطقة والعالم. لكن التحدي الأكبر ليس في صياغة الخطط أو إلقاء الخطابات، بل في القدرة على تحويل هذه الرؤية إلى واقع ملموس يلمسه السوريون أولاً قبل غيرهم.
أثار الإعلان الرسمي عن لقاء وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني مع وفد إسرائيلي في باريس بوساطة أميركية، موجة من النقاش والجدل حول طبيعة الموقف السوري من إسرائيل. غير أن قراءة دقيقة في سياق هذا اللقاء توضح أن الحديث عن المفاوضات لا يعني تحولاً في الثوابت السورية، بل انعكاساً لتبدل قواعد الاشتباك التي فرضها العدوان الإسرائيلي خلال الأشهر الأخيرة.
الاستهداف الإسرائيلي المتكرر لمواقع عسكرية وحيوية داخل الأراضي السورية كسر المعادلة التقليدية التي حكمت الوضع منذ توقيع اتفاق فصل القوات عام 1974. ومع استمرار الغارات وتوسعها لتشمل بنى تحتية حساسة، وجدت دمشق نفسها أمام ضرورة البحث عن أدوات جديدة لاحتواء التصعيد، فالتفاوض عبر قنوات رسمية ووسطاء دوليين يأتي هنا كخيار دفاعي، هدفه تثبيت خطوط التهدئة القديمة، لا فتح مسار سياسي جديد.
تركيز المحادثات في باريس على إعادة تفعيل اتفاق 1974 يثبت أن دمشق لا تسعى لتغيير الواقع السياسي أو الدخول في صفقة تطبيع، بل لإحياء الإطار القانوني الذي يشكل أساس وقف إطلاق النار. لكن اللافت أن المباحثات لم تقتصر على هذا الجانب، إذ تطرقت أيضاً إلى ملف محافظة السويداء حيث تصاعدت التوترات في الأونة الأخيرة، وهنا برزت الوساطة الأميركية في طرح فكرة إنشاء ممر إنساني يسمح بوصول المساعدات إلى المجتمع الدرزي في السويداء، وعلى الرغم من صعوبة تنفيذ هذا الممر الذي سيمر عبر درعا بالتأكيد، ومن غير المعلوم كيف كان رد دمشق على هذه النقطة.
ويرى محللون أنه لقطع الطريق على فتح أي ممرات اسرائيلية للسويداء قد تستخدم لإيصال السلاح والمال لميلشيات الهجري، فإن الحل الوحيد أمام دمشق، هو إعادة فتح جميع الطرقات الى السويداء وحماية المحافظة من أي محاولات انتقامية من خارجها، وتشديد عمليات التفتيش، والتأكيد على حماية الخارجين من السويداء، والسماح لجميع أشكال التبادل التجاري مع المحافظة وخارجها، وهذا هو الحل الوحيد الذي قد يقطع الطريق على المحاولات الإسرائيلي لفتح ممرات أمنية للسويداء.
هذه المفاوضات المباشرة والإعلان الرسمي عنها، يُقرأ كمحاولة مزدوجة: من جهة تثبيت اتفاق 1974، ومن جهة أخرى معالجة البعد الإنساني والأمني المرتبط بالسويداء، بما يمنع انزلاق الوضع نحو مواجهة عسكرية أوسع قد تعصف باستقرار الجنوب السوري بأكمله.
في إسرائيل نفسها، برزت انتقادات لاذعة للسياسة العسكرية تجاه سوريا. فقد وصف مسؤولون في المعارضة المعارضة الاسرائيلية، استهداف وزارة الدفاع في دمشق بأنه تصعيد متهور. هذا الانتقاد، إلى جانب انقسام داخلي بين من يروّج لاستمرار الضغط العسكري ومن يحذّر من مخاطره.
ولم يقتصر الجدل داخلياً على الانقسام بين من يدعم التصعيد العسكري ومن يحذّره، حيث ضمّ ردود فعل صارخة من داخل المؤسسات الإسرائيلية. فقد وصف زعيم المعارضة يائير لابيد الغارات الأخيرة على دمشق بأنها “غير ضرورية ومتهورة”، منتقداً حكومة نتنياهو لغياب استراتيجية إقليمية واضحة:
“أعني كأننا كنا ثملين من القوة، نضرب في أي مكان في الشرق الأوسط بدون سياسة واضحة” .
وكان البيت الأبيض قد صرح حينها ان الرئيس الأمريكي ترامب تفاجأ بالقصف الإسرائيلي على سوريا وأن وزير الخارجية الأميركي، ماركو روبيو، لعب دورا في خفض التصعيد، كما انتقد المبعوث الأميركي إلى سوريا توم باراك التدخل الإسرائيلي في سوريا قائلا إنه أتى في توقيت سيء جدا.
من جهة أخرى، نبه مراقبون أميركيون متخصصون في الأمن إلى أن استهداف وزارة الدفاع في دمشق يعرض فرص التهدئة إلى خطر الانهيار، ويُعد ضربة لمساعي التهدئة الجارية. فقد أكد دانييل شابيرو من مجلس الأطلسي أن:
“الضربات على مقر وزارة الدفاع في دمشق تمثّل انتكاسة للمفاوضات غير الرسمية بين سوريا وإسرائيل” .
سوريا لن تخرج عن العباءة العربية فيما يخص أي مسار يتعلق بالسلام مع إسرائيل، خاصة في ظل تحسن علاقاتها مع دول الخليج وعلى رأسها السعودية. هذا التوجه يؤكد أن دمشق لن تتحرك نحو أي تسوية شاملة بمعزل عن أشقائها العرب، وأنها تلتزم بالموقف السعودي الواضح الذي يربط أي سلام بإقامة دولة فلسطينية وفق حل الدولتين باعتباره الطريق الوحيد لتحقيق تسوية عادلة مع إسرائيل.
القادة السعوديون – وغيرهم من المحيط العربي – جددوا التمسك بموقف ثابت: لا تطبيع إلا بشرط تأسيس دولة فلسطينية مستقلة وحل الدولتين، وهذا يؤكد أن سوريا لن تخوض مفاوضات سلام منفردة، بل في إطار توافق عربي واسع.
المفاوضات في السياق السوري الحالي ليست خيار ضعف ولا تمهيداً لتطبيع، بل أداة لإدارة التوازن ومنع الانفجار، وهي محاولة لتقليص هامش المناورة الإسرائيلي، وتثبيت قواعد اشتباك واضحة تعيد الملف إلى مرجعيته القانونية، بدل تركه مفتوحاً على احتمالات التصعيد.
اللقاء العلني بين دمشق وتل أبيب بوساطة أميركية لا ينبغي قراءته كتبدل استراتيجي او تنازل عن المبادئ والمسلمات، بل كتحرك تكتيكي دفاعي تفرضه التحديات الميدانية، فدمشق ما زالت تتمسك بالثوابت الوطنية، وتستخدم أدوات التفاوض ليس للتقارب مع إسرائيل، بل لتقليص مخاطر العدوان ومنع واقع عسكري أكثر خطورة.
أثار فيديو إعدام أحد الأشخاص داخل مستشفى السويداء الوطني، قبل أيام، موجة واسعة من الغضب والإدانة، اجتاحت المنصات الإعلامية والحقوقية على السواء. وانهالت المواقف من شخصيات عامة، ومسؤولين رسميين، ومؤسسات حقوقية، معتبرة أن ما حدث يمثل انتهاكًا صارخًا للقانون، وضربًا لقيم الدولة والمؤسسات، وإهانة للعدالة.
وهذا الغضب، على فظاعته، كان مفهومًا تمامًا، رغم عدم وضوح ملابسات الحادثة بشكل كامل حتى اللحظة. ومع ذلك، فإن ما لا خلاف عليه هو أن إذلال أفراد الطواقم الطبية أو استهدافهم، سواء ميدانيًا أو معنويًا، أمر مرفوض بالمطلق.
لكن يفترض أن تكون معايير الأخلاق والعدالة واحدة. فعندما تقع انتهاكات هنا أو هناك، يجب إدانتها جميعًا دون تمييز، وعدم الانحياز لطرف ضد آخر لمجرد القرب الفكري أو الطائفي. فالانتهاك يبقى انتهاكًا، سواء صدر من صديق أو من خصم.
اليوم، وفي مشهد لا يقل خطورة، انتشر مقطع مصور يُظهر مجموعة مسلحة تتبع لميليشيات حكمت الهجري، وهي تطلق النار مباشرة على المسجد الكبير في مدينة السويداء، ما أدى إلى تدمير أجزاء من بنائه وتخريب محتوياته، وسط شعارات طائفية فجّة. مشهد يُنذر بموجة غضب طائفي، وقد يجر وراءه تداعيات لا تُحمد عقباها.
اللافت في هذه الحادثة لم يكن فقط الاعتداء على أحد دور العبادة، بل الصمت شبه الكامل من ذات الجهات والشخصيات التي كانت الأعلى صوتًا في إدانة مشهد القتل داخل المستشفى. تلك الأصوات غابت أو تجاهلت، وكأن استباحة مسجد لا تستحق موقفًا أو إدانة، فقط لأن الفاعل هذه المرة من “جماعتها”، أو لأن الضحية لا يتوافق مع الامتداد السياسي أو الطائفي لها.
هذا الصمت الانتقائي، الذي تحكمه الهوية والانتماء والمزاج، لا يقل خطرًا عن الانتهاك ذاته. بل إنه يكرّس ثقافة أخطر، تقوم على تصنيف الضحايا وشرعنة الظلم متى ما وافق هوى البعض، وتحوّل العدالة إلى أداة انتقائية، لا قيمة لها إلا حين تناسب الانحيازات.
الاعتداء على المسجد لا يمكن فصله عن سياق التوترات الطائفية المتصاعدة في السويداء، في ظل تنامي سلطة الفصائل المسلحة، وتزايد الخطاب التحريضي والطائفي، لا سيما من شخصيات ذات تأثير واسع داخل الطائفة الدرزية، أمثال ماهر شرف الدين، الذي لم يتوقف منذ أسابيع عن ضخ خطاب عدائي صريح ضد المسلمين السنة.
وفي ظل غياب القانون، وعدم القدرة على محاسبة أي طرف متورط بانتهاكات — سواء داخل الفصائل المسلحة أو خارجها — تستمر بعض الجهات في تحميل الدولة كامل المسؤولية عن كل ما يجري، بينما تتغاضى تمامًا عن مسؤولية ميليشيات الهجري، التي ارتكبت انتهاكات موثقة ضد أبناء العشائر البدوية، من قتل وتهجير وتدمير للممتلكات.
ما يجري في السويداء هو اختبار حقيقي للنخب والمثقفين والناشطين، الذين لطالما تحدثوا عن العدالة والحياد الأخلاقي، لكن كثيرًا منهم يتراجعون عن هذه القيم عندما يكون الطرف المخطئ هو ذاته الذي يدعمونه. بل يسارع بعضهم إلى اختلاق مبررات سخيفة لأفعال لا يمكن الدفاع عنها بأي معيار أخلاقي أو قانوني.
فهل تُرفع الأصوات هذه المرة دفاعًا عن حرمة المسجد كما رُفعت سابقًا دفاعًا عن المقتول في المستشفى؟ أم أن المعايير ستبقى مزدوجة، والإدانات انتقائية، تُقاس بميزان الطائفة والانتماء لا بميزان العدالة؟
العدالة لا تتجزأ. من يرفض القتل، يجب أن يرفض أيضًا تدنيس دور العبادة. ومن يندد بغياب القانون في المستشفى، يجب أن يرفضه أيضًا حين يغيب في المسجد. أما من يختار الصمت حين لا تناسبه هوية الضحية، فلا يمكنه بعد اليوم التحدث باسم الإنسانية أو الأخلاق.
في لحظة كهذه، تبدو سوريا بأمسّ الحاجة إلى خطاب وطني نزيه، لا يستند إلى الخلفيات المذهبية ولا الاعتبارات الفصائلية، بل إلى القيم التي تُبقي المجتمعات موحدة وتحول دون سقوطها في مستنقع الكراهية والدمار.
لم يكن يوم 8 ديسمبر 2024 مجرد لحظة سياسية عابرة في تاريخ سوريا، بل شكّل لحظة مفصلية أنهت عهدًا امتد لأكثر من عقد من الحرب والقمع بقيادة الإرهابي الفار بشار الأسد، وفتحت الطريق أمام إعادة تشكيل الدولة السورية على أسس جديدة قوامها السيادة والكرامة والعدالة، ومع هذا التغير التاريخي، برز سؤال جوهري: كيف ستتعامل سوريا الجديدة مع التحالفات القديمة، وعلى رأسها العلاقة المعقدة مع روسيا؟
لقد اتسمت علاقة نظام الأسد البائد مع موسكو بقدر كبير من التبعية السياسية والعسكرية، بل والاقتصادية، فالدعم الروسي العسكري في وجه الثورة السورية، وعمليات القصف التي طالت المدنيين، تركت جراحًا غائرة في ذاكرة السوريين.
لكن، مع مجيء الحكومة السورية الجديدة بقيادة الرئيس أحمد الشرع، تغيّرت معادلة التعامل مع روسيا: لم تعد دمشق تتلقى الإملاءات، بل باتت تصوغ أولوياتها الوطنية بوعي واستقلال، وتسعى إلى بناء علاقات متوازنة تحفظ مصالح الشعب السوري.
وفي هذا السياق، تحمل زيارة وزير الخارجية أسعد الشيباني إلى موسكو رمزية واضحة، فهي ليست امتدادًا لاتفاقات أُبرمت في عهد النظام البائد، بل بداية مراجعة شاملة لتلك الاتفاقات، فالمطلوب اليوم ليس مجرد تعديلات شكلية، بل إعادة تعريف العلاقة على أساس الاحترام الكامل للسيادة السورية، ورفض أي تبعية تُعيد إنتاج الهيمنة السابقة.
ما ورّثه الأسد لحكومته الجديدة لم يكن فقط خرابًا سياسيًا ومؤسساتيًا، بل شبكة من الالتزامات الاقتصادية الجائرة، أبرزها ديون وصفقات مشبوهة مع شركات روسية في مجالات النفط والقمح والطاقة، وفي ظل أزمة اقتصادية خانقة، لا بد من إعادة التفاوض على هذه الملفات بما يضمن العدالة والشفافية والمصلحة الوطنية، ويضع حدًا لاستغلال سوريا كـ"سوق تصريف" لمصالح أطراف خارجية.
إن إصرار الحكومة السورية على فتح هذه الملفات مع موسكو لا يُمثّل عداءً أو قطيعة، بل تعبيرًا عن نضج سياسي يعيد تعريف العلاقة وفق أسس الشراكة لا الوصاية. وهذا التوجه لا يقتصر على العلاقة مع روسيا فحسب، بل يشمل كافة التحالفات والعلاقات الدولية التي تنسجم مع الرؤية السورية الجديدة.
تسعى سوريا اليوم إلى الخروج من أسر "الاصطفافات الجغرافية" التي طالما كبّلتها، فليست دمشق في وارد العودة إلى محور سياسي ضد آخر، بل تعمل لبناء موقع مستقل يضع المصلحة السورية فوق كل اعتبار، إنها فرصة تاريخية لسوريا لأن تعود إلى المجتمع الدولي من موقع القوة الأخلاقية، بوصفها بلدًا خرج من تحت أنقاض الاستبداد ليبني نموذجًا جديدًا لدولة ديمقراطية مستقلة.
إعادة الإعمار في سوريا ليست مجرد مشروع عمراني أو بنية تحتية، بل اختبار سياسي لمدى قدرة الحكومة السورية على الدفاع عن استقلال قرارها. وفي هذا السياق، لن يكون هناك مكان لأي شراكة لا تعترف بسيادة الدولة السورية، فالمطلوب من الحلفاء - الروس وغيرهم - هو احترام هذه السيادة وتقديم الدعم بشروط نزيهة وعادلة، لا تنتقص من القرار الوطني.
إن سوريا الجديدة، كما تتطلع إليها غالبية السوريين، هي دولة المواطن لا دولة الحاكم، وهي سوريا التي تنتمي للعالم لا لمحور، وتبني علاقاتها وفق قواعد الاحترام المتبادل لا التبعية، وإذا كان الاجتماع في موسكو اليوم يرمز إلى شيء، فهو أن صفحة جديدة تُكتب بعقول السوريين لا بأوامر الخارج، وبيد حكومة تُعيد الاعتبار للسيادة وتعيد الشعب إلى موقع القرار.
ومما لاشك فيه فإن التحولات الجارية في سوريا ليست مجرد تغييرات في السلطة، بل هي تحوّل في البوصلة الوطنية، من حكم الفرد إلى حكم المؤسسات، ومن الاستبداد إلى سيادة القانون، ومن الانغلاق إلى الانفتاح المسؤول، وهذا هو الاختبار الحقيقي لسوريا بعد الأسد: هل تملك الإرادة لتكون دولة حرة، قادرة على ترميم جراحها، وبناء مستقبلها بيد أبنائها؟ كل المؤشرات تقول: نعم، الطريق بدأ.
فضل عبد الغني
يمثّل الانتقال السياسي في أعقاب الصراعات المسلحة الداخلية منعطفاً حاسماً في مسار أي دولة نحو السلام المستدام والحكم الديمقراطي، وفي الحالة السورية، تكتسب هذه المرحلة الانتقالية أهمية استثنائية، نظراً لتزامنها مع تحديين مترابطين: إعادة بناء مؤسسات داخلية منهارة، وإدارة تهديدات خارجية معقدة ومتعددة الأوجه وفي مقدمتها الاحتلال والعدوان الإسرائيلي.
يجادل هذا المقال بأن نجاح سوريا في مواجهة هذه التهديدات الخارجية خلال المرحلة الانتقالية يتوقف على التعزيز المنهجي للبنى الداخلية، فالتحولات التي تُركّز على النهج التنازلي وتتجاهل العمليات التشاورية الشاملة، تقود بالضرورة إلى تفكك المؤسسات واستمرار حالة اللااستقرار.
في المقابل، تُظهر النماذج الناجحة أن المؤسسات الانتقالية التعددية، والمشاركة السياسية الواسعة، والحماية المتكاملة للحقوق، تشكّل الأسس الضرورية لتوافقات تأسيس الدولة وترسيخ ديمقراطية مستدامة، وأنّ التحوّل السياسي في سوريا لا يمكن أن يُختزل في عملية نقل للسلطة أو إصلاح مؤسسي سطحي، بل يجب أن يُفضي إلى إعادة صياغة جذرية للعلاقة بين الدولة والمجتمع.
ركائز التوحيد الداخلي
ينطلق الإطار النظري لفهم التحول السياسي في سوريا من النموذج المتكامل لترسيخ الديمقراطية الذي طوّره لينز وستيبان، والذي يُحدّد خمس مجالات مترابطة لتحقيق التنمية الديمقراطية المستدامة: (المجتمع المدني، المجتمع السياسي، سيادة القانون، البيروقراطية الحكومية، الاقتصاد المؤسسي)، لا تعمل هذه المجالات كوحدات منفصلة، بل كنظم متشابكة يحدد تفاعلها الجماعي نجاح عملية الانتقال بعد الصراع.
تبرز العلاقة بين التصميم المؤسسي ومنع تكرار النزاع المسلح كعامل أساسي في نجاح المرحلة الانتقالية في سوريا.
وتُظهر الدراسات المستقاة من تجارب دول ما بعد النزاع أن الهياكل المؤسسية المصممة بعناية تُشكّل أدوات فاعلة لإدارة التحديات الداخلية ومواجهة التهديدات الخارجية، كما تشير إلى أن المؤسسات القائمة على آليات صنع قرار توافقية، والمدعومة بأطر للمشاركة والمراقبة الأممية، تُسهم بشكل كبير في تقليص احتمالات تجدد الصراع، ويُعدّ هذا الاستنتاج بمنزلة نقد مباشر للنُهج التي تُغلب التغيير السريع على حساب التصميم التشاركي الشامل.
تلعب آليات اتخاذ القرار التوافقي دوراً محورياً في منع الانقسامات المجتمعية خلال الفترات الانتقالية، وتشير العديد من أدبيات الانتقال السياسي إلى أن ترتيبات تقاسم السلطة تُعزز فرص السلام عبر ثلاث آليات مترابطة:
تقديم ضمانات أمنية للفئات المتحاربة سابقاً.
تأكيد المشاركة السياسية المستقبلية لهذه الجماعات ضمن بنية الدولة.
إنشاء مؤسسات تُتيح معالجة مظالم الماضي بشكل بنّاء.
ويُسهم هذا التكامل في تحويل النزاع الصفري إلى منافسة ديمقراطية بنّاءة، مما يعزّز قدرة الجبهة الداخلية على مواجهة الضغوط الخارجية من دون اللجوء إلى استبداد جديد أو عنف متجدد.
المشاركة السياسية كبنية تحتية ديمقراطية
إن المشاركة السياسية لجميع مكوّنات المجتمع تمثل ركيزة محورية لتعزيز الجبهة الداخلية خلال المرحلة الانتقالية في سوريا، هذا النموذج التشاركي يجب أن يشمل المشاركة الفعّالة في بناء المؤسسات، وصياغة السياسات، وتشكيل هياكل الحوكمة، لأن المشاركة الواسعة تؤدي أدواراً متعددة: فهي تمنح المؤسسات شرعية مجتمعية، وتفتح قنوات سلمية للتعبير عن المظالم، وتُعزز التماسك الاجتماعي الضروري لترسيخ الديمقراطية.
تشكّل قنوات التعبير عن المظالم بُعداً أساسياً من بنية المشاركة السياسية، فوجود آليات مؤسسية لتسوية النزاعات -سواء من خلال البرلمانات أو منظمات المجتمع المدني أو القضاء- يوفر بدائل سلمية للعنف في معالجة التوترات السياسية..
تتجلى فعالية المشاركة السياسية في قدرتها على تحويل المؤسسات من هياكل مفروضة إلى تعبيرات أصيلة عن الإرادة العامة، فعندما تُهيئ المؤسسات الانتقالية بيئة شاملة للمشاركة، فإنها تولّد ما يُعرف بـ"شرعية المدخلات"، أي الشعور بأن بنية الحكم تعكس القيم والتفضيلات الجمعية، وتُعد هذه الشرعية ضرورية لضمان الالتزام بالمعايير الديمقراطية الجديدة ومنع عودة البُنى الموازية التي قد تُقوّض الدولة في مواجهة التحديات الخارجية.
كذلك، تشكّل قنوات التعبير عن المظالم بُعداً أساسياً من بنية المشاركة السياسية، فوجود آليات مؤسسية لتسوية النزاعات -سواء من خلال البرلمانات أو منظمات المجتمع المدني أو القضاء- يوفر بدائل سلمية للعنف في معالجة التوترات السياسية، ويجب أن تُصمَّم هذه القنوات بحيث تكون متاحة لجميع فئات المجتمع، لا سيما الفئات المهمشة تاريخياً أو المتضررة من النزاع، وهنا تتبدى العلاقة التكاملية بين الشمولية المؤسسية والمشاركة الشعبية: فكل منهما يُعزّز الآخر، ويُسهم في بناء منظومة ديمقراطية مرنة قادرة على التكيّف مع الأزمات من دون الانهيار.
إطار الحقوق وحماية الأقليات
تبرز حماية حقوق الأقليات كركيزة لمنع اندلاع الصراعات وتعزيز الاستقرار خلال المرحلة الانتقالية في سوريا، وتشير أدبيات الانتقال السياسي إلى أربع فئات أساسية من هذه الحقوق ينبغي معالجتها بشكل مباشر: الحق في الوجود، الذي يحمي الجماعات من التهجير القسري أو الإقصاء الجسدي؛ والحق في الهوية، الذي يضمن حرية التعبير الثقافي واللغوي والديني؛ والحق في عدم التمييز، الذي يُكفل المساواة أمام القانون؛ وأخيرًا، الحق في المشاركة السياسية والاقتصادية، الذي يُتيح الانخراط الفعّال في عمليات الحوكمة والتنمية.
يتجاوز تكريس هذه الحقوق في الدستور مجرد الالتزام الرمزي، إذ يُشكّل قاعدة قانونية صلبة للوقاية من تجدد الصراع.
وتبيّن التعديد من التجارب أنه عندما تُحمى حقوق الأقليات دستورياً وتُفعّل عبر النظم الانتخابية، والمؤسسات القضائية، والهياكل التعليمية قبل تصاعد التوترات، فإن احتمالية اندلاع نزاعات عنيفة تتراجع بدرجة ملحوظة.
وتكتسب هذه الوظيفة الوقائية أهمية مضاعفة في السياق السوري، حيث يُعد التعايش بين جماعات متنوعة ضمن بنية ديمقراطية موحّدة ضرورةً لا مفر منها، شرط الحفاظ في الوقت نفسه على الهويات الخاصة لهذه الجماعات.
ولا تقتصر الإمكانات التحويلية للنهج القائم على الحقوق على منع الصراعات، بل تمتد لتشمل إعادة صياغة العلاقة بين الدولة والمجتمع من جذورها، وتُشدد أدبيات العدالة الانتقالية على أن تكون الأطر الحقوقية متمحورة حول الضحايا، وأن تعزّز ملكية المجتمع لعملية التحول.
يعمل هذا النهج على مستويات متعدّدة: فهو يُحوّل الضحايا من متلقين سلبيين إلى فاعلين يملكون حقوقًا؛ ويُسهِم في المصالحة عبر الاعتراف بالانتهاكات الماضية؛ ويُعيد بناء مؤسسات الدولة التي كانت سببًا أو أداة في استمرار انتهاكات الحقوق.
إن تمكين الأفراد والمجتمعات من التعبير عن ذواتهم كأصحاب حقوق يُعيد الاعتبار للكرامة الإنسانية، ويُعزز بالتوازي شرعية النظام الديمقراطي والتماسك المجتمعي.
آليات التحول المستدام – التماسك الاجتماعي والمواطنة التعددية
يُعرَّف التماسك الاجتماعي بأنه قدرة المجتمع على ضمان رفاه جميع أفراده، مع الحد من أوجه عدم المساواة وتفادي الاستقطاب، ويتجاوز هذا المفهوم مجرد الانسجام المجتمعي السطحي، ليُشكل الركيزة الضرورية التي تُرسّخ المؤسسات الديمقراطية وتُتيح لها الازدهار.
وفي السياق السوري الانتقالي، يبرز التماسك الاجتماعي كضرورة ملحّة لإعادة بناء مجتمع ممزّق وتحويله إلى كيان سياسي موحّد قادر على الحكم الذاتي الديمقراطي.
تتطلب آليات الحد من عدم المساواة ومعالجة الاستقطاب مقاربات تشمل الجوانب الهيكلية والإجرائية للحوكمة، وتُشير الدراسات إلى أن الحد من التفاوتات يتم عبر مسارات متعددة:
أولها السياسات المعتمدة على إعادة التوزيع التي تُعالج الفجوات الاقتصادية.
ثانيها التصميمات المؤسسية الشاملة التي تضمن التمثيل العادل.
ثالثها الرمزية السياسية التي تعترف بالمظالم التاريخية وتُعزز آفاق المصالحة المستقبلية.
ينبغي أن تعمل هذه الآليات بتوازٍ لمنع تحوّل الانقسامات التي أفرزها الصراع إلى انقسامات سياسية دائمة، كما يتطلّب تفادي الاستقطاب تركيزاً على قنوات التواصل الفعالة، والتربية المدنية، وتوسيع شبكات اجتماعية عابرة للهويات الطائفية أو الأيديولوجية.
وفي هذا السياق، يبرز ترسيخ المواطنة التعددية كهدف أساسي لسياسات التماسك الاجتماعي، ويُشكّل هذا النموذج المتقدّم للانتماء السياسي صيغةً تُزاوج بين الحقوق والمسؤوليات في إطار يدمج مختلف الجماعات الهوياتية ضمن نسيج مدني موحّد.
وتتجاوز المواطنة التعددية مفهوم "التسامح" إلى الاعتراف الفعّال بالهويات المتنوعة ضمن إطار قانوني ومؤسسي جامع، وتُظهر الأدبيات أن كلًّا من الديمقراطية والتماسك الاجتماعي يعزّزان هذا النمط من المواطنة عبر آليات متداخلة تُقرّ بالتنوع، وتُبني في آنٍ واحد مشروعاً سياسياً مشتركاً.
وتفرض هذه الصيغة المؤسسية للمواطنة التعددية نفسها كضرورة خاصة في الحالة السورية، إذ تُتيح إدارة التنوع، مما يُنشئ ما يُطلق عليه المُنظرون السياسيون "الوحدة في التنوع".
التصميم الدستوري (في الحالة السورية: الإعلان الدستوري الذي يحكم سوريا لخمس سنوات)
يُعدّ تصميم الدستور في مجتمعات ما بعد النزاع فرصة نادرة لبناء رؤى مشتركة حول مستقبل الدولة، ووضع خرائط طريق ملموسة لترسيخ الديمقراطية.
وتُجمع الدراسات على أن عملية إعداد الدستور، وكذلك مضمونه، يؤثران تأثيراً جوهرياً في نتائج المرحلة الانتقالية، إذ تؤسس العمليات التشاركية لأسس أكثر متانة للحكم مقارنةً بالمسارات الفوقية أو الإقصائية، وفي السياق السوري، لا ينبغي النظر إلى وضع الدستور كمجرد إجراء قانوني، بل كفعل سياسي تخييلي يُعيد تعريف أسس التعايش في الدولة الجديدة.
تتجلّى العلاقة بين صياغة الدستور والممارسة الديمقراطية من خلال آليات متعددة، فعمليات وضع الدساتير التشاركية تعمل كـ"مدارس للديمقراطية"، تُكسب المواطنين والنخب مهارات الحوار، والتفاوض، والتسوية، والاختلاف المنتج، وهي مهارات أساسية لبناء الحكم الرشيد.
وتشير الأدبيات إلى أن فترات الانتقال غالباً ما تشهد مراجعة أو إعادة صياغة للدساتير الوطنية بما يعكس القيم الجديدة، ما يُثبت أن الصياغة التعددية للدستور تُؤثر بعمق على فرص نجاح المرحلة الانتقالية، فعندما تتضمن العملية الدستورية أصواتاً متعددة ووجهات نظر متنوعة، فإن النص الناتج يُجسّد تعقيد النسيج المجتمعي ويوفر إطاراً لإدارته سلمياً.
ويظهر دور الأطر الدستورية الشاملة في تعزيز قدرة الدولة على الاستجابة للتهديدات الخارجية من خلال بناء هياكل حوكمة موحّدة ومرنة، فالدساتير التي تُوازن بين الوحدة والتنوع، والمركزية واللامركزية، والثبات والقدرة على التكيف، تُوفر للدولة الأدوات المؤسسية اللازمة لمواجهة التحديات الخارجية من دون المساس بالمبادئ الديمقراطية.
يبرز الترابط البنيوي بين المشاركة السياسية، وحماية الحقوق، والتماسك الاجتماعي كعنصر أساسي في نجاح التحولات ما بعد الصراع، فهذه العناصر تتفاعل كمكونات متكاملة ضمن استراتيجية تحوّل شاملة..
وتبرز أهمية هذا التوازن في الحالة السورية، حيث تصبح الحاجة ملحّة لصياغة أحكام دستورية واضحة تتعلّق بحوكمة الطوارئ، والرقابة على قطاع الأمن والجيش، والفصل بين السلطات، بما يضمن حماية المؤسسات الديمقراطية ويُمكّن من استجابات فعالة للمخاوف الأمنية الحقيقية.
خاتمة
يُظهر استعراض الأدبيات النظرية والتجريبية دعمًا للفرضية التي تؤكد أن قدرة سوريا على التصدي للتهديدات الخارجية خلال المرحلة الانتقالية تعتمد، في جوهرها، على التعزيز المنهجي للجبهة الداخلية، وذلك من خلال مشاركة سياسية شاملة، وحماية قوية للحقوق.
فالتحولات الديمقراطية المستدامة لا تُختزل في وقف الصراع أو نقل السلطة، بل تتطلب إعادة بناء جذرية في العلاقة بين الدولة والمجتمع، تقوم على إصلاح مؤسسي، وتجديد اجتماعي، وإدماج سياسي متكامل.
ويبرز الترابط البنيوي بين المشاركة السياسية، وحماية الحقوق، والتماسك الاجتماعي كعنصر أساسي في نجاح التحولات ما بعد الصراع، فهذه العناصر تتفاعل كمكونات متكاملة ضمن استراتيجية تحوّل شاملة: تمنح المشاركة السياسية شرعية للمؤسسات الجديدة، وتُمهّد لحلول سلمية للنزاعات، وتُحصّن حماية الحقوق مسار التحول من عودة المظالم، ويُؤسس التماسك الاجتماعي قاعدة مجتمعية صلبة لترسيخ الديمقراطية.
ويُظهر هذا التفاعل الثلاثي أن أي محاولة لترجيح عنصر على حساب آخر من شأنها إضعاف العملية برمتها، وإعادة إنتاج الهشاشة المؤسساتية والانقسامات الداخلية.
وتُعبّر الدعوة إلى تعزيز الداخل لمواجهة الخارج عن فهم متقدم لمفهوم الأمن في سياقات ما بعد النزاع. فالنماذج الأمنية التقليدية التي تُركّز على القدرات العسكرية أو السيطرة الاستبدادية أثبتت عدم جدواها في إدارة التعقيدات التي تواجه المجتمعات الانتقالية.
وتُظهر الدراسات الحديثة أن المؤسسات الديمقراطية الشاملة والمرنة تُوفّر الآليات الأنجع لمواجهة التهديدات الخارجية من دون تقويض الأسس الديمقراطية أو إثارة مقاومة داخلية، وتتحدى هذه النتيجة الافتراض الشائع بأن الديمقراطية والأمن هدفان متعارضان، كاشفةً عن تداخلهما الحيوي في مسار بناء السلام.
في السياق السوري، يعني هذا أن السبيل الأكثر فاعلية لمواجهة التهديدات الخارجية يبدأ من الداخل: ببناء مرونة ديمقراطية من خلال عمليات قد تكون شائكة لكنها ضرورية، تُؤسس لسلام مستدام وأمن طويل الأمد وكرامة إنسانية حقيقية.
ويُعدّ نجاح هذا المسار حجر الزاوية في مستقبل سوريا كدولة ديمقراطية ذات سيادة، قادرة على التعامل مع تعقيدات الإقليم، وضامنة لحقوق ورفاهية مواطنيها كافة.
لطالما عانت نساء سوريات من تداعيات قانون الجنسية المُتبع منذ عهد النظام البائد قبل عقود، والذي ينصُّ على منح الجنسية السورية فقط عن طريق الأب، ولا يتيح لهن حق إعطائها لأبنائهن في حال الزواج من غير سوري.
ازدادت أعداد النساء المتأثرات بذلك القانون خلال سنوات الحرب التي اندلعت في سوريا بعد ثورة آذار/مارس 2011، لا سيما مع تزايد حالات زواج السوريات من غير السوريين نتيجة ظروف النزوح واللجوء، بالإضافة إلى دخول مغتربين وأجانب إلى البلاد وزواج بعضهم من سوريات وإنجاب أطفال منهم، مما أدى إلى اتساع شريحة الأطفال المحرومين من الجنسية السورية.
ورغم المحاولات المتكررة لتعديل المرسوم التشريعي رقم 276 الصادر عام 1969، المُتعلق بمسائل الجنسية في سوريا، وطرح المشروع مراراً في مجلس الشعب على مدار العقدين الماضيين، لم تتحقق النتائج المرجوة لصالح النساء، فقد رفض النظام البائد هذه التعديلات بحجة مخاوف التغيير الديموغرافي، ثم تذرع لاحقاً بمبرر محاربة الإرهاب عقب اندلاع الثورة السورية.
مع تصاعد أعداد الحالات وتزايد المطالبات النسائية بتعديل قانون الجنسية، انطلقت خلال سنوات الحرب مبادرات داعمة، من بينها حملة "جنسيتي من حقي"، التي أطلقها فريق ورشة للمناصرة والتوثيق عام 2017. جاءت هذه المبادرة بعد توثيق الفريق لحالات متعددة لأمهات سوريات لم تتمكن من تسجيل أطفالهن، مما حرم هؤلاء الأطفال من حقوقهم الأساسية في التعليم والتنقل والسفر والإغاثة وغيرها.
تقول مرام المصطفى، 35 عاماً، سورية تقيم في تركيا: "تزوجت من شاب تركي بعد هجرتي من مدينة إدلب، وأنجبت طفلين يحملان الجنسية التركية. كثيراً ما أفكر، بيني وبين نفسي، أنه لو عاد أطفالي معي إلى سوريا، فسيُحرمون من العديد من الحقوق لكونهم لا يحملون الجنسية السورية، وسيشعرون بالغربة في بلد والدتهم".
ورغم صعوبة وضع مرام، إلا أن حالها يبقى أيسر مقارنة بأم جورية، التي تزوجت من مغترب سعودي لا تعرف عنه سوى اسمه، وقد توفي في منطقة الباغوز قبل سنوات، بعد أن أنجبت منه طفلتين.
تمكّنت من تسجيل الطفلتين في محكمة إدلب بغرض الحصول على أوراق ثبوتية، إلا أنهما لم تُمنحا الجنسية السورية، ولا حتى جنسية والدهما. واليوم، تواجه الطفلتان خطر انعدام الجنسية، ما يهدد مستقبلهما القانوني والاجتماعي.
وبحسب حملة "مين زوجك" التي انطلقت في شهر كانون الثاني/يناير عام 2018، فإن أعداد النساء المتزوجات من مقاتلين أجانب في محافظة إدلب تحديداً 1735 حالة زواج، أنجبت منهن 1124امرأة أكثر من 1826طفلاً.
تُرجّح مصادر محلية أن عدد الأطفال عديمي الجنسية قد ازداد في سوريا خلال السنوات الأخيرة، لا سيما مع دخول أعداد كبيرة من المقاتلين الأجانب إلى البلاد خلال فترة الحرب، ما ينذر بكارثة إنسانية تتمثل في وجود آلاف الأطفال بلا جنسية.
وفي أعقاب سقوط نظام بشار الأسد، أعادت ناشطات وأمهات سوريات فتح ملف القانون الذي يمنع النساء من منح الجنسية لأبنائهن، موجّهات نداءً إلى الحكومة السورية بضرورة إنصاف المرأة، وتعديل القانون بما يكفل المساواة، ويعترف بحق الأم في نقل جنسيتها لأبنائها تماماً كما هو الحال بالنسبة للأب.
وقد عبّرت عدد من السيدات السوريات اللواتي قابلناهن عن شعورهن بالعجز والدونية القانونية بسبب عدم قدرتهن على منح الجنسية لأطفالهن، إضافة إلى القلق العميق على مستقبل هؤلاء الأطفال، لا سيما أبناء المهجّرين الذين لا يُعرف عنهم سوى أسمائهم وألقابهم. كما أشرن إلى إحساس بالذنب، إذ يشعرن أن أبناءهن يدفعون ثمن "خيارهن الشخصي" في الزواج من أجانب.
وتأمل الأمهات أن تُمنح الفرصة لأبنائهن لحمل جنسيتهن، ليكون لهم انتماء وجذور واضحة لا تنفصل عن أصولهم السورية، وحتى لا يُعاملوا كغرباء أو لاجئين في حال قرروا الاستقرار في وطن أمهاتهم. فبحصولهم على الجنسية، يصبحون مواطنين سوريين كغيرهم، يفتخرون بالانتماء إلى سوريا ويعتزون بها.
في الوقت ذاته، ترى ناشطات أن حرمان الأمهات من حق منح الجنسية لأبنائهن يُعد شكلاً من أشكال التمييز، ويستدعي تعديل القانون لتحقيق مبدأ المساواة. خاصة أن المرحلة الأخيرة شهدت خطوات إيجابية لصالح النساء، من أبرزها إسناد مناصب مهمة لقيادات نسائية بارزة في البلاد.
تبقى النساء السوريات هن المتضررات الوحيدات من قرار اتخذه النظام السابق، متذرعاً بحجج واهية ومتجاهلاً المعاناة والتضييقات التي ستنجم عنه، بالإضافة إلى الأعباء الثقيلة التي ستقع على عاتقهن. وها هي النسوة اليوم يعلقن آمالهن على الحكومة الجديدة، على أن تتخذ خطوات منصفة تضمن لهن ولأبنائهن الحق الكامل في الحصول على الجنسية السورية، وتحقيق العدالة والمساواة.
تُعدّ إدانةُ الطبيب السوري علاء م. من قبل المحكمة الإقليمية العليا في فرانكفورت أكثر من مجرد حالة استثنائية للمساءلة عن جرائم فظيعة؛ فهي تمثل إنجازًا قضائيًا بالغ الأهمية يتجاوز حدود القضية الفردية.
فبعد ثلاثِ سنوات ونصفٍ من الإجراءات، اختُتمت بالحكم عليه بالسجن المؤبد لارتكابه جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، باتت هذه المحاكمة علامة فارقة في مسار العدالة، لا من حيث عقوبتها فقط، بل لِما تتيحه من إمكانات لتشكيل بنية العدالة الانتقالية في سوريا بعد زوال نظام الأسد.
يُوفر التزامن بين هذا الحكم والتحولات السياسية المتوقعة في سوريا فرصة فريدة لنقل الخبرات القانونية وتوطينها. فرغم أن محاكمات الولاية القضائية العالمية كانت، حتى وقت قريب، السبيلَ الوحيد لمحاسبة المتورطين في الجرائم التي ارتكبها نظام الأسد، فإنها باتت اليوم تُشكّل نماذج يمكن الاسترشاد بها لبناء آليات محلية للمساءلة.
لقد أرست محكمة فرانكفورت من خلال بنائها ملفات عن التعذيب المنهجي في المستشفيات العسكرية، وإنشائها هياكل القيادة، وتحديدها الجرائم ضد الإنسانية في السياق السوري، أسسًا فقهية مهمة للمحاكم السورية المستقبلية.
يتناول هذا المقال الكيفية التي يمكن من خلالها توظيف الأبعاد الإجرائية والإثباتية والموضوعية لمحاكمة علاء م. في دعم الانتقال السوري من آليات العدالة الخارجية إلى مسارات عدالة داخلية.
ثانيًا: الولاية القضائية العالمية كجسر نحو المساءلة الوطنية
يشكّل مبدأ الولاية القضائية العالمية، الذي استندت إليه محكمة فرانكفورت في محاكمة علاء م.، أداة وقتية للعدالة لا تنفي السيادة السورية، فوفق مبدأ التكامل، الذي يُعد حجر الزاوية في القانون الجنائي الدولي، تُمنح المحاكم الوطنية الأولوية في الملاحقات القضائية، ولا تتدخل الآليات الدولية أو خارج الإقليم إلا عند عجز الدول أو امتناعها عن القيام بذلك.
وفي الحالة السورية، حال الطابع المنهجي للعنف الذي مارسه نظام الأسد دون تحقيق أي عدالة داخلية، مما استوجب اللجوء إلى الآليات القضائية العالمية.
لكن هذه المحاكمات العابرة للحدود لا تُعنى فقط بالمساءلة المباشرة، بل تؤدي دورًا مهمًا في حفظ الأدلة وبناء الأطر القانونية للمستقبل. فقد وثّقت محكمة فرانكفورت، من خلال شهادات أكثر من خمسين شاهدًا وتحليلات خبراء في منهجيات التعذيب وهياكل القيادة، أرشيفًا دقيقًا كان يمكن أن يتعرض للفقد أو الإتلاف في بيئة غير مستقرة.
كما أن خلاصاتها بشأن تحويل المستشفيات العسكرية إلى مواقع تعذيب، والطابع المنظم للهجمات على المدنيين، ودور الأجهزة الأمنية، تُعدّ بمثابة روايات قضائية يمكن اعتمادها لاحقًا من قبل القضاء السوري عبر الإشعارات أو المراجع القانونية.
إن الانتقال من نظامٍ استبدادي يتعذّر معه تحقيق العدالة إلى سياق ما بعد النزاع، يتطلّب تحوّلًا ممنهجًا من الاعتماد على العدالة الخارجية نحو تأسيس مسارات وطنية قائمة على سيادة القانون.
ولا ينبغي النظر إلى أحكام الولاية القضائية العالمية كفرضٍ قانوني خارجي، بل كسوابق تأسيسية يمكن الاستفادة منها في صوغ منهجيات محلية للمقاضاة، وتحديد معايير الإثبات، وتطوير فهم قانوني متخصص لجرائم الفظائع. وتُشكّل محاكمة فرانكفورت نموذجًا لتحليل الجرائم الجماعية وتفكيكها إلى أفعال فردية قابلة للتقاضي، بما يحافظ على تميّزها المنهجي.
هذا التحول لا يعني نقل الأحكام الأجنبية بحَرفيتها، بل يتطلب دمجها في إطار سيادي يعكس الخصوصيات القانونية السورية ويُراعي المعايير الدولية.
وبهذا المعنى، فإن قضايا الولاية القضائية العالمية تؤدي وظيفة الجسر المؤقت، الذي يربط بين واقع العجز المؤسسي ومآل السيادة القضائية، مانحةً سوريا أدوات ومناهج لإعادة العدالة إلى الداخل.
ثالثًا: معايير الإثبات ومنهجيات التوثيق القضائي
تُجسّد محاكمة فرانكفورت، التي امتدت على مدار 186 يومًا، مستوًى عاليًا من الدقة في التوثيق المطلوب لمقاضاة جرائم الفظائع الجماعية، واضعةً بذلك معايير إثبات تتجاوز الممارسات الجنائية التقليدية.
أتاح هذا الإطار الزمني الممتد تجميعًا منهجيًا لمصادر أدلة متنوعة، ما أدى إلى تكوين مصفوفة وقائعية تُوثّق الأفعال الإجرامية الفردية في سياقها النظامي. ولا تُعبّر مدة الإجراءات عن بطء بيروقراطي، بل عن تعقيد المهمة المتمثلة في إثبات المسؤولية الجنائية ضمن نمط منظم من العنف ترعاه الدولة، يتطلب مواءمة الوقائع الفردية مع الهجمات الواسعة ضد المدنيين.
عكس استخدام المحكمة أساليبَ إثبات متعددة الطبيعةَ المركبة لملاحقة مرتكبي الجرائم الفظيعة. فقد أدلى أكثر من خمسين شاهدًا بروايات مباشرة عن التعذيب، والعنف الجنسي، والقتل في المستشفيات العسكرية، بينما وضع الخبراء هذه الشهادات في سياقها ضمن منظومة الاستخبارات والقيادة العسكرية السورية.
أسهم دمج شهادات الناجين مع التحليل الجنائي والوثائق المكتوبة في صياغة أنماط قانونية متماسكة من تجارب فردية متناثرة. وتزداد أهمية هذا التثليث المنهجي في مواجهة جرائم صُممت لتمحى آثارها، حيث يتعمد الجناة إتلاف الوثائق وترهيب الشهود.
تطلّب الكشف عن سلاسل القيادة في هياكل أمنية مغلقة، اعتمادَ مناهج مبتكرة للتعامل مع الأدلة الظرفية، والتعرف على الأنماط المتكررة.
وقد أظهرت المحكمة قدرة على الربط بين أفعال علاء م. والسياسات المؤسسية الأشمل، ما أتاح إثبات مسؤوليته ضمن إطار عنف منظم. ومن خلال رسم خرائط للهياكل التشغيلية للمستشفيين العسكريين 601 و608، والقسم 261 التابع لمديرية الاستخبارات العسكرية، كشفت المحاكمة كيف أعيد توظيف المؤسسات الطبية بشكل منهجي كمراكز للتعذيب، محوّلةً بذلك أماكن الاستشفاء إلى أدوات عنف ممنهج.
لعبت الشبكة السورية لحقوق الإنسان، والمركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان دورًا مهمًا في ربط مسارح الجريمة بقاعات المحاكم.
وقد تجسّدت مساهماتهما في تقديم الوثائق، وتحديد الشهود، وتوفير تحليلات سياقية دعمت عمل الادعاء العام، مؤكدةً الدور المحوري لمنظمات المجتمع المدني كوسطاء في عمليات المحاسبة.
ساهم التوثيق المنتظم الذي أجرته الشبكة على مدى أربعة عشر عامًا في توفير استمرارية زمنية لحفظ الأدلة، بينما حوّلت خبرة المركز الأوروبي الوثائق الخام إلى ملفات قابلة للتقاضي.
ويُقدّم هذا النموذج التعاوني، الذي تعمل فيه منظمات حقوق الإنسان كأمناء على الأدلة وميسّرين قانونيين، نموذجًا قابلًا للتكرار يمكن اعتماده في الإجراءات القضائية السورية المستقبلية.
رابعًا: الإصلاح المؤسسي استنادًا إلى السوابق القانونية
يمثّل إدماج الجرائم الدولية في القانون المحلي السوري تحديًا عميقًا يتجاوز مجرد التعديل التشريعي. وقد وفّرت محكمة فرانكفورت، من خلال تعريفها الدقيق للجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب في قضية علاء م.، نموذجًا فقهيًا يُمكن البناء عليه، غير أن إصلاح المنظومة القانونية السورية يتطلّب تجاوز الفجوة القائمة بين التعريفات الدولية والتقاليد القضائية الوطنية.
ويُظهر قصور قانون العقوبات السوري الحالي في التعامل مع العنف المنهجي الذي ترعاه الدولة الحاجة إلى مراجعة شاملة، تعتمد إما صياغة تشريعات جديدة أو تطوير أطر قانونية انتقالية تُجرّم صراحةً الجرائم الدولية، وَفقًا للمعايير العرفية المعتمدة دوليًا.
ويتصدّر استقلال القضاء الشروط الأساسية لإجراء محاكمات ذات مصداقية لمن ارتكبوا الجرائم الجسيمة، وهو ما يستدعي إصلاحات بنيوية تتجاوز المظاهر الشكلية للمؤسسات القضائية.
فالإصلاح القضائي السوري يجب أن يعالج بُعدين متكاملين: الاستقلال الشكلي عبر الضمانات الدستورية، واستقرار الوظيفة القضائية، وتوفير الموارد، إلى جانب الاستقلال الجوهري من خلال تعزيز ثقافة قضائية تقاوم التدخلات السياسية وتتمسك بالنزاهة القانونية.
ولا يُمكن تصور محاسبة فعلية لمجرمي الدولة دون قضاء حر قادر على مساءلة البنى الأمنية والعسكرية التي طالما تمتعت بالحصانة في عهد الأسد.
كما يُعدّ إصلاح القطاع الأمني، المُرتكز إلى مبادئ المساءلة، خطوة جوهرية في هندسة العدالة الانتقالية. ولا ينبغي أن يُنظر إلى الأجهزة الأمنية كأدوات لإعادة الهيكلة فقط، بل كمواقع يجب إخضاعها للمحاسبة والمشاركة في كشف الحقيقة.
ويُبرز ما كشفته قضية علاء م. من تحويل المستشفيات العسكرية إلى مراكز للتعذيب، الحاجة إلى تفكيك الثقافة المؤسسية التي شرعنت العنف. فالإصلاح يجب ألا يقتصر على تبديل الأفراد أو إعادة رسم الهياكل، بل يتطلّب ترسيخ أطر عقائدية جديدة تدمج مبادئ حقوق الإنسان ضمن الممارسات التشغيلية اليومية.
ويتجسّد هذا النهج العملي في إنشاء آليات داخلية فعّالة للمساءلة، مثل مكاتب المفتش العام المزودة بصلاحيات تحقيق حقيقية، والتدريب الإلزامي على حقوق الإنسان ضمن برامج التطوير المهني، واعتماد معايير واضحة لمساءلة القادة عن الانتهاكات التي تقع ضمن نطاق سلطتهم.
ويُدرك هذا النموذج أن الإصلاح الجذري لا يتحقق فقط من خلال الرقابة الخارجية، بل من خلال غرس ثقافة المساءلة داخل المؤسسات التي تأسست على منطق القمع.
وتُرسّخ محاسبة المهنيين الطبيين على انتهاك واجباتهم الأخلاقية مبدأً مفصليًا: أن الالتزامات المهنية لا يمكن إخضاعها لضرورات الدولة الأمنية، وهو ما يجب أن يسري على كافة القطاعات المنخرطة في منظومة العنف المنهجي.
خامسًا: تأسيس بنية للعدالة الانتقالية
تتطلب العدالة الانتقالية في السياق السوري تحولًا من المقاربات الارتجالية للمحاسبة إلى بناء منظومة متكاملة تعالج البنى التي أنتجت الفظائع، لا مجرد معاقبة الجناة الأفراد.
فنتائج محكمة فرانكفورت، التي كشفت عن التحويل المنهجي للمرافق الطبية إلى مراكز للتعذيب، تُظهر مدى تورط أطر مؤسسية كاملة في ممارسة العنف، مما يستوجب آليات مساءلة تعالج هذه البنى الهيكلية، مع الحفاظ على دقة المسؤولية الجنائية الفردية.
ومن هنا، ينبغي أن تطوّر العدالة الانتقالية السورية إستراتيجيات تربط بين القضايا الفردية والأنماط الجماعية، بما يرسّخ سرديات قانونية تعكس الطابع المنهجي للجريمة دون أن تُفرغ المسؤولية الفردية من معناها.
وتُعدّ آليات تقصي الحقائق ركيزة أساسية مكملة للمحاكمات الجنائية، إذ تسمح بفهم الأبعاد الاجتماعية والسياسية التي مهّدت لوقوع الجرائم. وبينما تركّز الإجراءات القضائية على تحديد المسؤوليات الفردية ضمن إطار قانوني، تتيح لجان الحقيقة استكشاف السياقات الأوسع، بما في ذلك الأطر الأيديولوجية التي شرّعت العنف، والبنى البيروقراطية التي مأسسته.
ويؤدي هذا التكامل بين المسارين وظائف متمايزة، ولكن متكاملة: فالقضاء يُرسي المساءلة القانونية، فيما تعيد تقصي الحقائق بناء السرديات التاريخية وتُمهّد الطريق للإصلاح المؤسسي طويل الأمد.
ومن جهة أخرى، تتطلب العدالة الانتقالية مقاربة تتمحور حول الضحايا، تتجاوز النماذج الانتقامية التقليدية نحو نموذج يُقرّ بحقوق الضحايا كمشاركين فعليين في تصميم العدالة.
وقد أبرزت تجربة المدعين المشتركين في قضية علاء م.- ممثلين عبر الآليات القضائية الأوروبية- إمكانات مشاركة الضحايا وتحدياتها. ولضمان شمولية هذه المشاركة، يجب الاعتراف بالضحايا كأصحاب حقوق، يطالبون بالتعويض، والمشاركة، وتخليد الذاكرة، لا كشهود فقط.
ويستدعي ذلك تأسيس بنى مؤسسية تُتيح للضحايا التعبير عن مطالبهم، والمساهمة في تصميم آليات المساءلة، ووضع برامج تعويض تُعالج الأضرار المادية والمعنوية على حد سواء.
كما ينبغي أن تُسهم إجراءات العدالة في إعادة تأهيل الناجين، لا في إعادة تفعيل صدماتهم. ويبقى التحدي في تحقيق توازن دقيق بين الاستجابات الفردية للاعتداءات، والاعتراف بالجراح الجماعية التي خلّفها العنف المنهجي.
ولتحقيق ذلك، لا بد من تبنّي ابتكارات مؤسسية مثل وحدات دعم الضحايا داخل النيابات العامة، وبرامج الدعم النفسي والاجتماعي المرافقة للمسارات القانونية، وآليات تشاركية تمكّن الضحايا من صياغة أجندة العدالة الانتقالية، متجاوزين دورهم كمقدّمي أدلة فقط.
سادسًا: التكامل القانوني الدولي وبناء القدرات القضائية
تُعد عضوية سوريا في نظام روما الأساسي بعد المرحلة الانتقالية خطوة إستراتيجية نحو ترسيخ الشرعية القضائية وبناء القدرات المؤسسية. إذ يُتيح هذا الانضمام الوصول إلى فقه المحكمة الجنائية الدولية، والمبادئ التوجيهية الإجرائية، وبرامج التدريب وبناء القدرات، إلى جانب ترسيخ الالتزام بالمعايير القانونية الدولية.
وقد أرست محاكمة فرانكفورت ضد علاء م. معايير إثبات وإجراءات تُعد مرجعية لما ينبغي أن تبلغه المحاكم السورية من مستوى لتلبية متطلبات التكامل، بما يمنع تدخل المحكمة الجنائية الدولية، مع الاستفادة من خبراتها المؤسسية.
لكن تفعيل الفقه الدولي يتطلب ترجمة مدروسة بين الأطر القانونية والسياقات السياسية والاجتماعية المحلية. ويوفّر الحكم في قضية علاء م.، إلى جانب قضايا أخرى نُظرت بموجب الولاية القضائية العالمية، سوابق فقهية يمكن الاستناد إليها لتفسير الجرائم ضد الإنسانية في السياق السوري.
غير أن الاعتماد غير النقدي على الأحكام الأجنبية قد يؤدي إلى تناقضات قانونية أو رفض شعبي وسياسي. ولهذا، ينبغي للفقهاء السوريين أن يطوّروا منهجيات انتقائية تستند إلى القيمة الإقناعية للسوابق الدولية، مع استخلاص المبادئ التي يمكن تكييفها محليًا.
ويتطلب ذلك دراسة كيفية تعامل المحاكم الدولية مع قضايا مشابهة، مثل إثبات الطابع المنهجي للهجمات على المدنيين، أو مسؤولية القيادة في أجهزة أمنية مغلقة، أو التمييز بين العمليات العسكرية المشروعة وأفعال العنف الإجرامي.
ويفرض بناء الخبرات القضائية والادعائية الحاجةَ إلى آليات منظمة لنقل المعرفة، تتجاوز النماذج التدريبية التقليدية. فقد كشفت محاكمة فرانكفورت عن تعقيد الملاحقات القضائية للفظائع، ومن ثم، ينبغي أن يشمل بناء القدرات محاور متعددة: فقه الجرائم الدولية، إدارة المحاكمات المعقدة، حماية الشهود، والمهارات الجنائية والطب الشرعي.
ويمكن لبرامج التبادل التي تتيح للمهنيين السوريين مراقبة المحاكمات الدولية، والعلاقات الإرشادية مع خبراء الادعاء الدوليين، وتمارين بناء القضايا المشتركة، أن تُسرّع وتيرة تطوير الكفاءة القضائية.
وتبرهن تجربة الشبكة السورية لحقوق الإنسان، والمركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان في قضية علاء م. على إمكانية عمل منظمات المجتمع المدني كجسور معرفية، تربط بين المعايير الدولية والسياق السوري، وتُقدّم منهجيات يمكن استيعابها وتوطينها ضمن المؤسسات السورية.
خاتمة
يُمثل الحكم الصادر ضد علاء م. ثمرةً لجهود متواصلة بذلها الناجون ومنظمات حقوق الإنسان والآليات القانونية الدولية، لكسر جدار الإفلات من العقاب الذي طالما رافق العنف الذي مارسه نظام الأسد.
كما يُشكّل هذا الحكم أرضية قانونية صلبة يمكن لسوريا البناء عليها لتأسيس منظومة مساءلة وطنية، تُحوّل الاعتماد على المحاكم الأجنبية إلى قدرة ذاتية قائمة على السيادة والعدالة.
لكن هذا الانتقال من آليات العدالة الخارجية إلى آليات داخلية لا يتحقق بإعادة هيكلة المؤسسات فحسب، بل يتطلّب إعادة تعريف العلاقة بين سلطة الدولة وحكم القانون.
وقد أظهرت محاكمة فرانكفورت أن العنف الممنهج قابل للتفكيك إلى أفعال قابلة للمحاسبة، وأن الأطباء وغيرهم من الفاعلين لا يمكنهم التذرع بالأوامر العليا لتبرير انتهاكهم الواجبات المهنية، وأن توثيق الأدلة يمكن أن يصمد أمام محاولات المحو المتعمدة.
إن المعايير الإثباتية والإجرائية التي أرستها محكمة فرانكفورت، والشراكات التي تشكّلت بين المجتمع المدني والمؤسسات القضائية، والمقاربات التي تتمحور حول الضحايا، توفر جميعها أدوات مجرّبة يُمكن تكييفها في السياق السوري، ولتُصاغ داخل المؤسسات السورية، وبأيادي قانونييها، ومن أجل تعافي مجتمعها.
المصدر: الجزيرة نت
لم تسلم دور العبادة في سوريا من ويلات الحرب، إذ شكّل استهداف المساجد والكنائس واحداً من أكثر أوجه المأساة قسوةً في ذاكرة السوريين، لا سيما مع تكرار مشاهد القصف والتدمير التي طالت أماكن طالما ارتادوها بحثاً عن السكينة والطمأنينة، ولأداء واجباتهم الدينية.
ومنذ اندلاع الثورة السورية في آذار/مارس 2011، أصبحت المساجد هدفاً مباشراً لقوات النظام، لا سيما تلك التي انطلقت منها المظاهرات السلمية بعد صلاة الجمعة، وبدلاً من أن تكون بيوت الله ملاذاً آمناً، تحولت إلى نقاط استهداف مباشر، سقط فيها شهداء وهم يؤدون صلاتهم، دون أي اعتبار لحرمة المكان أو الدم.
ولم يكن ذلك وليد اللحظة، إذ سبقه استهداف مماثل خلال مجزرة حماة عام 1982، حيث وثّقت التقارير تدمير 79 مسجداً وثلاث كنائس على يد قوات النظام آنذاك، في محاولة لإخضاع المدينة وكسر إرادة سكانها.
ومع تصاعد العمليات العسكرية بعد عام 2011، باتت دور العبادة هدفاً متكرراً للقصف، سواء لتصفية الحراك الشعبي، أو لإفراغ المدن من سكانها، حتى بعد التهجير، استُكمل تدمير المساجد ونهب محتوياتها، وبحسب إحصائيات صادرة عن الشبكة السورية لحقوق الإنسان، فإن أكثر من 1453 استهداف سجل على أماكن عبادة، بفعل القصف المباشر أو الهدم المتعمد من قبل قوات النظام.
كما طالت الاعتداءات الكنائس أيضاً، فقد وثّقت تقارير حقوقية، قصف كنيسة السيدة العذراء في حي بستان الديوان بمدينة حمص، وتضرر كنيسة القديس جاورجيوس في إدلب، إضافة إلى تعرض كنيسة أم الزنار للنهب على يد عناصر تابعة للنظام.
وترافقت هذه الانتهاكات مع محاولات سياسية لتحويل مسار الثورة إلى نزاع طائفي، في محاولة من النظام السابق لضمان ولاء الأقليات الدينية.،ومؤخراً، حاول بعض الموالين له تحميل الحكومة الانتقالية والأجهزة الأمنية مسؤولية تفجير كنيسة مار إلياس في دمشق، في محاولة لإعادة إحياء الخطاب الطائفي، إلا أن هذه المحاولة قوبلت برفض شعبي واسع وفشلت في تأجيج الانقسامات.
الأثر النفسي والاجتماعي
لم يكن استهداف دور العبادة مجرّد دمار مادي، بل خلّف أثراً نفسياً واجتماعياً عميقاً، فالمساجد والكنائس لطالما كانت فضاءات جامعة، تعزز الهوية الروحية والاجتماعية للمجتمع المحلي، وتشكل نقطة التقاء يومي وروحي بين أبناء الحي أو القرية، ولذلك، فإن تدميرها شكّل انتهاكاً جماعياً طال الذاكرة الجمعية للسوريين.
أطفال فقدوا إحساسهم بالأمان في حضرة أماكن العبادة، ومصلون قُطعت صلاتهم تحت الركام، وشيوخ بكوا مآذن مهدّمة وكنائس محترقة، كلّهم يحملون صدمةً سيبقى أثرها ممتداً لسنوات. وقد شكّل ذلك جزءاً من صدمة جماعية، جعلت حتى أماكن الطمأنينة جزءاً من مشهد الرعب المستمر.
ورغم هذا الدمار، أصرّ كثير من السوريين على التمسك بالأمل، فمع أولى فرص العودة إلى مناطقهم، سارعوا إلى ترميم المساجد والكنائس، بأيديهم أو بدعم من مجتمعاتهم المحلية، وعادوا إليها للصلاة والتعبد، في رسالة رمزية بأن إعادة بناء الإنسان تبدأ من إعادة بناء القيم، وأن إعادة إعمار الحجر جزء لا يتجزأ من شفاء الوجدان.
ظهر قبل أيام فادي صقر، القيادي في مليشيات الدفاع الوطني التابعة لنظام الأسد، في تسجيل مصوّر يظهر فيه كوسيط للإفراج عن متورطين في ارتكاب انتهاكات. وفي الرابع من شباط/ فبراير 2025، شهدت دمشق مشهدًا لافتًا تمثّل في خروج اللواء محمد الشعار، وزير الداخلية السوري السابق ومهندس القمع المنهجي، من مخبئه ليُعلن تسليم نفسه طوعًا لمديرية الأمن العام.
ثم ظهر في مقابلة تلفزيونية أعلن فيها عدم مسؤوليته عن أيّ من الانتهاكات التي مارسها نظام الأسد. مثّل هذا الظهور الإعلامي ظاهرة مقلقة في السياق الانتقالي السوري، إذ أثار هذا الإنكار الوقح تساؤلات عميقة حول مظاهر الإفلات من العقاب في خضم التحولات السياسية. فما هي البُنى التي تُمكّن المسؤولين عن الجرائم ضد الإنسانية من التفاوض على استسلامهم بدلًا من مواجهة المحاسبة الفورية؟
فهم الإفلات من العقاب وتطور مبدأ مسؤولية القيادة
يُعد مبدأ مسؤولية القيادة من أبرز إسهامات القانون الجنائي الدولي في التصدي للإفلات من العقاب، وقد تطوّر هذا المفهوم من الإطار العسكري إلى الإطار المدني، مُشكلًا الأساس القانوني لمساءلة الوزراء وكبار المسؤولين عن الجرائم الممنهجة.
نظّم نظام روما الأساسي هذا التطور، موضحًا الفروقات بين مسؤوليات القيادة العسكرية والمدنية، حيث نصّت المادة 28 (ب) على تحميل القادة المدنيين المسؤولية في حال كانوا على علم، أو تجاهلوا عمدًا معلومات تشير بوضوح إلى ارتكاب مرؤوسيهم جرائم.
ورغم أن هذا المعيار يبدو أكثر تقييدًا مقارنةً بما يُفرض على القيادة العسكرية، فإنه يعكس واقع تدفق المعلومات في البيروقراطيات المدنية. وتبرز أهمية معيار "التجاهل الواعي" في المناصب الوزارية تحديدًا، حيث يمكن للمسؤولين أن يعزلوا أنفسهم عمدًا عن تفاصيل التنفيذ، مع احتفاظهم بالسيطرة على السياسات العامة.
ويُقدّم مفهوم العنف الهيكلي، كما طوّره يوهان غالتونغ، إطارًا نظريًا لفهم كيفية تغلغل الإفلات من العقاب داخل مؤسسات الدولة، ففي مقابل العنف المباشر، الذي يتمثل في أفعال الإيذاء الجسدي الواضحة، يعمل العنف الهيكلي من خلال البُنى الاجتماعية التي تعيق الأفراد عن تلبية احتياجاتهم الأساسية.
وعند تطبيق هذا المفهوم على أجهزة الأمن، يتضح أن الإفلات من العقاب لا يعكس غياب العدالة فحسب، بل هو نظام فعّال لإدامة العنف عبر آليات بيروقراطية.
تُنتج أجهزة الأمن، وفقًا لغالتونغ، ما يُسمى بـ "السلام السلبي"؛ أي غياب العنف المباشر عبر القمع المنهجي لا عبر معالجة أسباب النزاع. يقوم هذا النظام على توقع عدم معاقبة موظفي الدولة الذين يرتكبون الانتهاكات، مما يُنتج بيئة تحفيزية تُكافئ الوحشية وتعاقب ضبط النفس.
وقد تجسّدت هذه الديناميكية بوضوح في عهد الشعار، إذ حظي الضباط الذين مارسوا التعذيب أو أطلقوا النار على المتظاهرين بالحصانة، في حين تعرّض من أبدى تساهلًا لمخاطر الاتهام بالولاء للمعارضة.
ويُعتبر تطبيع الفظائع عبر الممارسات البيروقراطية آلية مركزية داعمة للعنف الهيكلي. تُحوّل النماذج الرسمية، والبروتوكولات الإدارية، وإجراءات التشغيل إلى أدوات تنفيذ لجرائم القتل والتعذيب والإخفاء القسري، على نحو يجعلها تبدو كمهام إدارية روتينية.
وتُظهر الممارسات الموثقة لوزارة الداخلية السورية- مثل تسجيل المختفين قسرًا كمتوفَين، أو تنفيذ مصادرة الممتلكات عبر المحاكم المدنية، أو فرض حظر السفر من خلال مكاتب الجوازات – كيف يُعاد تسويق الفظائع من خلال طابع إداري بيروقراطي، يضفي عليها مظهرًا من الشرعية المضلِّلة.
العدالة الانتقالية والسلم الأهلي – نموذج فادي صقر
برز مجال العدالة الانتقالية كمسار مستقل بعد التحولات الديمقراطية في أميركا اللاتينية وأوروبا الشرقية، حيث قدّم أطرًا للتعامل مع إرث الأنظمة الاستبدادية أو النزاعات المسلحة، وتزداد حدة التوترات النظرية في هذا المجال؛ بين السلم الأهلي والعدالة الانتقالية، وبين النهج المتمحور حول الضحية والنهج المتمحور حول الجاني.
وتُعد معضلة "السلام مقابل العدالة" جوهر هذا الجدل. فبينما يرى باحثون، مثل جاك سنايدر وليزلي فينجاموري، أن الملاحقات القضائية المبكرة قد تُزعزع استقرار التحولات الهشة وتُعيد إشعال الصراع، ويدعون إلى تبني نهج "السلام أولًا"، الذي يُفضي إلى تحقيق الاستقرار قبل المضي نحو المساءلة، فبالمقابل، تحاجج كاثرين سيكينك بأن تأجيل العدالة يمنح الجناة فرصة لتدمير الأدلة، وترهيب الشهود، وترسيخ الإفلات من العقاب.
وتُشير نظرية "تسلسل العدالة" إلى أن المساءلة القضائية المبكرة قد تُحدث أثرًا رادعًا وتُعزز سيادة القانون. ويأخذ السياق السوري هذه المعضلة إلى أقصى مداها: فهل يمكن تحقيق استقرار حقيقي في ظل بقاء شخصيات مثل فادي صقر خارج دائرة المحاسبة، أم إن هذا الإفلات بحد ذاته يُقوّض فرص السلام المستدام؟
يُسلط التباين بين النهجين المتمحورين حول الضحية والجاني، الضوء على تناقض نظري إضافي. إذ تمنح العدالة الانتقالية المتمحورة حول الضحية الأولوية لكشف الحقيقة، والاعتراف، والتعويض، كما يتجلى في عمل لجان الحقيقة التي تُقدم العفو مقابل الشهادات. وينطلق هذا النهج من فرضية أن الضحايا يسعون للحصول على الاعتراف، ومنع تكرار الجرائم أكثر من سعيهم للانتقام.
أما النهج المتمحور حول الجناة، فيُركّز على المساءلة الجنائية بوصفها وسيلة لتحقيق العدالة ومنع الإفلات من العقاب. وتتجلى محدودية النهج الأول عند التعامل مع كبار المسؤولين، إذ بينما يمكن استقطاب الجنود للمشاركة مقابل عفو، فإن شخصيات مثل الشعار تمتلك معرفة تُدين النظام بأكمله، ما يجعل انخراطهم غير مرجح ما لم يواجهوا ضغوطًا جدية بالملاحقة القضائية.
المسؤولية القانونية للشعار
تتجلّى أوضح مؤشرات مسؤولية محمد الشعار المباشرة في عضويته ضمن "خلية الأزمة"، التي أُنشئت في مارس/ آذار 2011 كأعلى هيئة لاتخاذ القرار الأمني في سوريا.
تكشف شهادات منشقين ووثائق موثّقة أن هذه الخلية كانت تعقد اجتماعات منتظمة لتنسيق الرد الأمني على الاحتجاجات، برئاسة بشار الأسد شخصيًا. وبصفته وزيرًا للداخلية وعضوًا فاعلًا في هذه الخلية، ساهم الشعار في صياغة سياسات تُجيز بوضوح استخدام القوة المميتة ضد المتظاهرين.
وتظهر محاضر الاجتماعات التي حصلت عليها الشبكة السورية لحقوق الإنسان إشارات صريحة إلى "حلول أمنية حاسمة" و"القضاء على التجمعات الإرهابية"- وهما تعبيران مستتران عن أوامر تنفيذ مجازر، وإن حضور الشعار هذه الاجتماعات، وتزامنها مع تنفيذ وزارة الداخلية لاحقًا عمليات قتل جماعي، يُثبت وجود علاقة سببية واضحة بين تخطيط السياسات وتنفيذ الجرائم.
ويُعزز هذا الترابط الزمن بين قرارات خلية الأزمة وتصاعد أنماط العنف من قِبل وزارة الداخلية. تُظهر بيانات الشبكة السورية لحقوق الإنسان ارتفاعًا ملحوظًا في أعداد الضحايا المدنيين بعد اجتماعات بعينها، خاصة تلك التي ناقشت مظاهرات الجمعة.
كما يُشير التوزيع الجغرافي المنسّق لعمليات القتل عبر محافظات متعددة إلى وجود تخطيط مركزي ممنهج، لا إلى عنف عشوائي. وقد مكّن الموقع المزدوج للشعار، كوزير للداخلية وعضو في خلية الأزمة، من تحويل الخطط الأمنية إلى أوامر تنفيذية مباشرة.
وتتضمن الوثائق المسربة من وزارة الداخلية خلال عامي 2011 و2012 تعليمات موقّعة باسم الشعار، أو تُشير إلى أوامره الشفهية، موجّهة إلى فروع الأمن السياسي، وإدارات الهجرة والجوازات، والسجلات المدنية. تشمل هذه التوجيهات تحديد "حصص اعتقال"، ومتابعة مؤيدي المعارضة، وتوفّية المختفين قسريًا.
وتُظهر هذه الوثائق – من خلال الترويسات الرسمية والأختام وقوائم التوزيع- الطابع البيروقراطي المنهجي لتطبيق السياسات، لا مجرد أوامر فردية أو عشوائية. وتبرز خطورة هذه الوثائق في التعميمات التي تُجيز "الضغط الأقصى" على المتظاهرين وأسرهم، في إشارة ضمنية إلى التعذيب والعقاب الجماعي.
تسليح وظائف وزارة الداخلية
يُعد تحوّل وزارة الداخلية السورية من جهاز إداري مدني إلى أداة للقمع الممنهج نموذجًا صارخًا على ظاهرة "تسليح المؤسسات"، ففي عهد محمد الشعار، بين أبريل/ نيسان 2011 وأكتوبر/ تشرين الأول 2018، شهدت الوزارة انتقالًا من أداء وظائفها التقليدية إلى أداء دور أمني شامل يخدم سلطة استبدادية.
وقد شكّل دمج الوظائف الإدارية والأمنية تحت قيادة الشعار تحوّلًا نوعيًا في ممارسات الحكم الأسدي. ففي الوقت الذي تُبقي فيه الأنظمة الاستبدادية التقليدية على فصل رمزي بين الشرطة السرية والإدارات المدنية، أحرزت سوريا الأسد تكاملًا بين الجانبين.
تحوّلت إدارة الهجرة والجوازات، المكلفة نظريًا بإصدار الوثائق، إلى جهاز أمني اعتقل 1608 مدنيين؛ من بينهم 73 حصلوا على "تسويات أمنية" رسمية، وفقًا لتوثيقات الشبكة السورية لحقوق الإنسان.
كما تورّطت مكاتب السجل المدني، المفترض أنها مختصة بتسجيل المواليد والوفيات، في تزوير السجلات لإخفاء المعتقلين قسرًا. وقد أدى هذا الاندماج بين الإداري والأمني إلى تقويض أي شعور بالأمان داخل بيروقراطية الدولة، وأصبح من الصعب على المواطنين التمييز بين الإجراءات الإدارية والفخاخ الأمنية.
واتسع نطاق عمل مديرية الأمن السياسي، المسؤولة اسميًا عن مراقبة الأنشطة السياسية، حتى أصبحت حاضرة في كافة الدوائر الحكومية. كما مُنحت فروع الأمن الجنائي، التي كانت تقليديًا تُعنى بالجرائم العادية، صلاحيات جديدة للتحقيق في "الإرهاب"، وهو توصيف يُستخدم غالبًا لوصم أي نشاط معارض.
والأكثر خطورة أن تدفقات المعلومات أُعيد تنظيمها بحيث طُلب من جميع الوزارات تزويد وزارة الداخلية ببيانات المواطنين، ما أنشأ بنية مراقبة واسعة تُتيح الاعتقال بناءً على مؤشرات إدارية حول تعاطف مفترض مع المعارضة.
وقد وثقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان ما مجموعه 256 ألفًا و364 انتهاكًا نُسبت مباشرة إلى أجهزة وزارة الداخلية- وهو رقم مرجّح أن يكون أقل من الواقع نظرًا لصعوبات التوثيق تحت الحكم الاستبدادي.
ويعكس عدد القتلى المدنيين في المظاهرات- 10 آلاف و542 قتيلًا- تبنّي سياسات إطلاق نار بقصد القتل، لا مجرد فشل في السيطرة على الحشود. أما الانتشار الجغرافي لهذه العمليات- الذي لم يقتصر على معاقل المعارضة- فيُشير إلى تخطيط مركزي، لا إلى انحرافات محلية.
وقد شكّل "الاضطهاد الإداري" إسهامًا ابتكاريًا من وزارة الداخلية في منهجية القمع، إذ مارست عنفًا مؤسسيًا مقننًا من خلال أدوات قانونية. فعمليات مصادرة الممتلكات، التي بلغت 11 ألفًا و267 حالة، جرت بإجراءات قضائية صورية، محوّلةً المحاكم إلى أدوات للاضطهاد.
أما قرارات حظر السفر، التي طالت 115 ألفًا و836 شخصًا، فمكّنت من الاعتقال على المعابر الحدودية. كما أُصدرت 112 ألف مذكرة تفتيش، سُخّرت لتنفيذ مداهمات منهجية تحت غطاء قانوني. وقد أثبت هذا الشكل من العنف الإداري استدامته وفاعليته، إذ واجه إدانة دولية محدودة، بينما أسهم في إحكام السيطرة على السكان.
الشعار كحالة اختبار للعدالة الانتقالية السورية
يكشف ظهور الشعار من مخبئه- بادّعاء "الاستسلام" دون أي اعتقال فوري، ثم ظهوره الإعلامي نافيًا مسؤوليته- عن الطريقة التي يستغل بها الجناة حالة الغموض والفراغ في المرحلة الانتقالية. إن السماح له بتسليم نفسه دون محاسبة فورية يُرسل رسائل بالغة الخطورة:
أولًا، يُظهر أن مصالح الجاني قد تُقدَّم على حقوق الضحايا، إذ اختار توقيت ظهوره، وصاغ روايته الخاصة، وتجنّب الإهانة التي واجهها ضحاياه أثناء اعتقالهم القسري.
وهذا السلوك يتعارض تمامًا مع مبادئ العدالة الانتقالية التي تُعلي من كرامة الضحايا.
ثانيًا، يُشير إلى إمكانية التفاوض مع الجناة الممنهجين، سواء عبر تبادل المعلومات أو الأصول مقابل المعاملة المُيسّرة. مثل هذه السوابق تُشجّع على سلوك إستراتيجي خطير: حيث يمتنع الجناة عن التعاون إلا بشروطهم.
وسيُشكّل ردّ السلطات السورية على قضيتي الشعار وفادي صقر سابقة لها تبعات بعيدة المدى في مسار العدالة الانتقالية. فالتوازن بين ضرورات الاستقرار ومتطلبات المحاسبة يستلزم تحليلًا دقيقًا يتجاوز ثنائية "العدالة أو السلم". إن الاستقرار الحقيقي لا يتحقق من دون محاسبة تُؤسس للشرعية.
ويُطرح الآن السؤال عن التوقيت والتدرّج: هل ينبغي محاكمة الشعار على الفور استنادًا إلى الأدلة الموثقة، بالتوازي مع استمرارية التحقيقات؟ وكيف يمكن استخلاص المعرفة المؤسسية منه دون منحه حصانة؟ تتطلب هذه المقاربات وجود مؤسسات راسخة تتمكن من إنجاز المهمة ببراعة.
الخاتمة: ثمن الإفلات من العقاب
يُقوّض إفلات كبار المسؤولين من المحاسبة البنية الأخلاقية التي تُعد شرطًا أساسيًا لترسيخ السلم الأهلي والاستقرار. وتُظهر دراسات العدالة الانتقالية أن المجتمعات الخارجة من سياقات عنف ممنهج تحتاج إلى "اعتراف سردي"؛ أي اتفاق جمعي حول ما حدث، ومن يتحمّل المسؤولية، ولماذا يجب ألّا يتكرر.
عندما ينجح مدبّرو الجرائم، كالشعار، في التلاعب بالسردية العامة والتنصّل من أدوارهم عبر الإعلام، فإنهم يعوقون هذا الاعتراف الضروري. ويُملأ الفراغ السردي الناتج بخطابات إنكار وأساطير متنافسة، تُقوّض فرص المصالحة وتُسمّم النقاش الديمقراطي.
وتضم سوريا آلاف المتورطين في الانتهاكات من المؤسسات العسكرية والأمنية والقضائية والإدارية، الذين يتابعون بدقة مسار قضية الشعار. نجاح محاكمته سيُثبت عزم الحكومة الانتقالية على كسر حلقة الإفلات من العقاب. أما فشله، فسيُرسل رسالة بأن التوافق السياسي يمكن أن يُستخدم كدرع للحماية من المساءلة، مما سيُعزز مناعة الجناة ويُشجع على التحصّن والمقاومة.
إن كسر حلقة الإفلات من العقاب ضرورة إستراتيجية لضمان استقرار طويل الأمد. فالمجتمعات التي تتجاهل محاسبة الجرائم الممنهجة تُواجه احتمالات حقيقية لتجدد العنف.
وتُهدد شبكات الجناة، التي لا تزال تملك النفوذ والموارد، استقرار الدولة ومؤسساتها الناشئة. أما الضحايا، المحرومون من الاعتراف الرسمي، فيميلون نحو أشكال عدالة بديلة، بما فيها الانتقام. ويُفضي هذا المناخ إلى هشاشة قد تؤدي إلى عودة الاستبداد أو تجدّد النزاع.
إن قضية الشعار تتجاوز المحاسبة الفردية. فهو، بصفته وزيرًا للداخلية في الفترة الأكثر دموية من تاريخ سوريا الحديث، يُجسّد الإجرام المؤسسي. ومواجهة هذا الإرث تتطلب أكثر من محاكمات رمزية؛ بل تتطلب مقاربات شاملة تُعالج الثقافة المؤسسية، والذاكرة الجمعية، والعنف الهيكلي. وهذا ما تحتاجه سوريا – الآن، وبإلحاح.