واجهت نساء سوريا خلال سنوات الحرب التي امتدت لأربعة عشر عاماً، ظروفًا قاسية على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي، فضلًا عن التحديات الأمنية وغيرها من جوانب الحياة. واضطررن إلى القبول بإجراءات لم يتخيّلن يوماً أن يرضخن لها، في سبيل تربية الأبناء وتأمين معيشتهم، والحفاظ على استقرار العائلة قدر المستطاع.
ورغم قسوة الواقع، تغلبت العديد من النساء على تلك الظروف، وأثبتن قدرتهن على التحمل ومواجهة الصعاب، لأداء واجباتهن تجاه الأسرة، وعدم السماح للحرب بأن تُحطم سعادتهن أو تسرق منهن حياتهن الطبيعية. وقد رصدنا عدداً من هذه الظروف من خلال شهادات ميدانية جمعناها أثناء العمل على هذا التقرير.
يُعد العيش في مخيمات النزوح التي تفتقر لأدنى مقومات الحياة، من أصعب ما واجهته النساء في بداية رحلة التهجير. فمن كانت تسكن في منزل واسع يحفظ خصوصيتها وخصوصية أسرتها، وجدت نفسها في خيمة صغيرة، أو غرفة ذات سقف معزول، يحيط بها العديد من الخيام والغرف الأخرى، مما ضيّق حركتها وأثر على حياة أولادها وأفقدهم الشعور بالراحة.
تقول أم عبدو، 45 عاماً، وهي نازحة من ريف حماة: "أكثر ما آلمني هو انعدام الخصوصية، أشعر أن كل الأهالي في المخيم يروننا ويسمعوننا، التأقلم بالبداية كان صعباً على لأولاد، خاصة أنهم اعتادوا على العيش في منزل مكون من غرفتين، وساحة حوله، كانوا يلعبون فيها على راحتهم، وعندما نزحنا صرت أجبرهم اللعب على البقاء، فمنزلنا الجديد صغير ومحاط بعدة منازل أخرى لا تبعد عنه سوى مسافات قصيرة جداً، وأخاف أن يُزعجوا الجيران".
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل أُجبرت بعض النساء على غسل ملابس العائلة يدوياً، والطبخ على مواقد الحطب، لا سيما أن كثيرات لم يتمكنّ من إحضار أجهزتهن الكهربائية التي تركنها في قراهنّ ومدنهنّ، التي تعرضت للنهب بعد سيطرة قوات النظام. ومن كانت محظوظة بإخراج بعض الأجهزة، اضطرت لبيعها لتأمين احتياجات الأسرة الأساسية.
وتتابع أم مازن، 40 عاماً، وهي أم لستة أبناء:"كنت أملك غسالة وثلاجة وفرناً كهربائياً، لكنها لم تغادر منزلي في ريف حلب. وعندما لجأنا، كان عليّ أن أتعلم كيف أطبخ على الحطب، وأغسل بيدي. لم أتخيل يوماً أنني سأفعل ذلك، لكنني صبرت في سبيل التأقلم ومن أجل عائلتي".
كما اضطرت الكثير من النساء إلى تقليص احتياجات أسرهن، واختيار الأهم منها، سواء في الطبخ أو الاستهلاك اليومي. فاستبدلن وجبات تتطلب مكونات مكلفة بأخرى أبسط، أو حافظن على نفس الأطباق بتعديل كميات المكونات، كاستخدام كمية أقل من اللحوم، أو الاستغناء عنها تماماً.
وتوضح أم باسل، وهي عاشت تجربة النزوح من مدينة حمص واتجهت نحو مخيمات إدلب: كنت أعدّ الكبة مرة أسبوعياً، والآن بالكاد أحضرها مرة في الشهر، وإن فعلت، ليس بذات الطريقة التي كنت اعتمدها في السابق. وأتحايل بالمكونات كي لا يشعر أطفالي بالفرق".
ونزلت سيدات كثيرات إلى ميدان العمل، خاصة من فقدن المعيل، فقبلن بأعمال مرهقة وذات أجور زهيدة، مثل العمل في الأراضي الزراعية ضمن ورشات قطف المحاصيل، ما أدى لإصابتهن بمشاكل صحية في العمود الفقري واليدين والعيون بسبب طبيعة العمل القاسية.
تقول سعاد، 37 عاماً، نازحة من ريف إدلب، وهي عاملة في الأراضي الزراعية: "أعود إلى خيمتي كل يوم وأنا بالكاد أستطيع الوقوف. ظهري يؤلمني من الانحناء لساعات طويلة، وأصابعي متشققة. لكن لا خيار لدي، فأنا الوحيدة التي تعيل أطفالي بعد وفاة زوجي بالقصف، أحياناً أشعر بأنني تعبت من ثقل المسؤولية وأنني غير قادرة على الإكمال، لكن عندما أتذكر أن بناتي الثلاث ليس لهن غيري، أقاوم وأصبر".
كما عملت بعض النساء في جمع الحديد والبلاستيك من الشوارع والقمامة لبيعه أو استخدامه في المنزل، بينما لجأت أخريات إلى البيع المتنقل، كبيع مستحضرات التجميل أو العمل في معامل المخللات. ومنهن من حظيت بفرصة عمل في محال الألبسة، حيث كانت ظروف العمل أفضل وإن لم تكن الأجور كافية.
الآن، وبعد أن تحررت بعض المناطق من النظام البائد، عاد قسم من العائلات إلى قراهم ومدنهم، حاملين معهم حكايات تعب ومقاومة، وسنوات من الكفاح بصمت، في حين بقيت نساء أخريات لأن الفرصة لم تسنح لها بعد، وبناء على حدينا مع نساء لم يرجعن، ذكرن أن منازلهن مدمرة وغير صالحة للسكن ولا يملكن مال في الوقت الحالي ليقمن ببناءه مجدداً، لكن ذلك لا يعني أنهن لا يفكرن بالأمر، وإنما يخططن لترتيب الوضع.
في السابق حسب ما ذكرت النسوة، كان هناك مخاوف وقلق على مستقبل الأولاد خاصة أن المنطقة تشهد حرباً قاسية، لكن بعد سقوط المجرم بشار الأسد، صار هناك أمل بأن الحياة ستصبح أفضل، ويتمنين أن يعيش أبناؤهن أياماً أجمل من التي مرت.
في خضمّ أفراح النصر وعودة الحياة إلى وجه الوطن، وبين أصوات الفرح التي تعلو احتفالاً بانتهاء حقبة القمع وبداية مرحلة جديدة للسوريين بسقوط الطاغية بشار الأسد، تقف مشاهد أخرى، صامتة، لكنها أكثر وقعاً وعمقاً. فبينما ينشغل الناس برسم ملامح الغد، هناك أمهات تنحني قلوبهن بصمت، وتسكن ملامحهن حكاية فقد لا يندمل.
أمهات الشهداء، أولئك النسوة اللواتي حملن في قلوبهن جراحاً لا يراها سواهن، ولم تبرأ بمرور الأيام. في زوايا من المدن والبيوت السورية، يجلسن بصمت تام، يراقبن الحياة من خلف ستار الذكريات، يمضين في حياتهن اليومية ويقمن بواجباتهن الأسرية والاجتماعية من باب الواجب فقط، لا عن رغبة أو اندفاع، بل كي تستمر العائلة ولكي تسير أمور البيت كما يجب.
لا ينكرن فرحة التحرر ولا يتجاهلن بشائر الأمل، لكن داخل كل واحدة منهن حزن ثقيل لا تقدر على رفعه الأيام ولا يخفّفه تغير الحال. كل لحظة فرح تمرّ، تذكرهن بمن غاب. في كل مناسبة وطنية، في كل عيد، في كل خبر مفرح، هناك زاوية خالية في الذاكرة، في البيت، على المائدة، في الطريق. أبناؤهن الشهداء، الذين ارتقوا في ساحات القتال أو تحت أنقاض القصف، أو غابوا خلف القضبان دون عودة، ظلوا حضوراً دائماً في تفاصيل الحياة. الحنين لا يهدأ، والفقد لا يتضاءل.
مرت السنوات، وتغيّر الكثير، لكن شعور الألم بقي متجذراً في صدورهن. تتغير البلاد، تذوب الحدود القديمة، تُلغى العقوبات، تُفتح أبواب الحياة أمام الأجيال الجديدة، لكن في قلب الأم، الزمن متوقف عند لحظة الرحيل. لا تعيش الأمهات الماضي فقط، بل يحملنه معهن في كل يوم، في كل ركن من البيت، في كل صوت يشبه صوت من رحل.
كثيرات منهن أُنهكن، خارت قواهن، وذبلت ملامحهن من الحزن المكبوت، من المرض الذي استقر في الجسد نتيجة القهر، من الوحدة التي لا يملؤها أحد. حتى ابتساماتهن أصبحت ثقيلة، كأنها تؤدي مجاملة، لا شعوراً. ملامح الوجوه باتت شاهدة على وجعٍ لا يُنسى، وحركة الأجساد تثقلها ذاكرة لم تتعب من التذكير.
ورغم كل هذا، فإن ما تركه الشهداء في قلوب أمهاتهم، وفي ذاكرة الوطن، ليس مجرد غياب، بل حضور بطولي محفور في الضمير. هؤلاء الأمهات لم يخترن هذا الطريق، لكنهن سرن فيه بصلابة مؤلمة، بصمت يوازي البطولة. في زمن الحروب، لا تكون الجبهات فقط حيث يتساقط الرصاص، بل في بيوت تنتظر، وتبكي، وتفتقد.
إن تكريم الشهداء لا يكتمل دون تقدير أمهاتهم، فكل واحدة منهن هي ذاكرة وطن، ورمز لفقدٍ عظيم، وصبر نبيل لا يُنسى. أمهات الشهداء لسن مجرد شخصيات في خلفية المشهد، بل هنّ جزء أساسي من حكاية البلاد. ووسط كل تطور سياسي أو إنجاز وطني، يبقين شاهداً حيّاً على الثمن الباهظ الذي دُفع، وعلى وجعٍ لا يعالجه الزمن، بل يرافقهن حتى النهاية.
وسط الحديث عن العقوبة الصارمة التي صدرت بحق ما يُسمى الطبيب علاء بالسجن مدى الحياة في ألمانيا، التي أثلجتْ صدور أبناء الشعب السوري الحرّ، وخاصة من تضرروا بسببه وأُلحق بذويهم الأذى على يديه التي تفوح منهما رائحة دماء الأبرياء.
نشرت صحيفة زمان الوصل شهادة بعنوان بابا عمرو يشهد، والعدالة لا تموت، تتحدث عن أحد ضحايا الذين طالهم غدر من أسمى نفسه دكتوراً، والتي جاء فيها: "الآن فقط، يستطيع لورانس فجر الفريج أن يرتاح في قبره، بعد أن قال القضاء كلمته، وأُدين الطبيب علاء موسى بالسجن المؤبد في ألمانيا، بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية".
وذكرت الشهادة أن لورانس، ابن بابا عمرو، لم يكن إرهابياً ولا مقاتلاً، وإنما أبٌ لثلاثة أطفال، علاوة على ذلك كان يعاني من مرض الصرع، إلا أنه اعتُقل مع أخيه وابن عمّه، وحينها انهالت عليه ركلات الطبيب الذي تجرّد من مهنته وضميره وإنسانيته.
وأشارت إلى أن لورانس مات تحت التعذيب، وسُلّم جثمانه مشوهاً بعد أن دفع أهله رشوة للجلادين ليتسنى لهم وداعه الأخير، فيما بعد جاء شقيقه، مُهيد الفريج من الدنمارك، وابن عمه مروان من فرنسا، والذين عملا في المنفى على السعي للعدالة، وللمطالبة بحق فقيدهم.
فعبرا الحدود حسبما ورد في الشهادة، لليقولا الحقيقة في قلب المحكمة الألمانية فكانت شهادتهما ـ مع غيرهما ـ المفتاح الذي أودى بالجلاد إلى ما يستحق. أضافت الشهادة أنه من ظلمات فرع الأمن العسكري 261 في حمص، إلى قاعات العدالة في أوروبا، شقّت الذاكرة السورية طريقها بعناد الصادقين.
ويُصرّ أبناء الشعب السوري الحرّ على أن هذه الخطوة ليست سوى بداية طريق طويل نحو العدالة، ولن يتراجعوا مهما كلّف الأمر عن المطالبة بمحاسبة كل من تورط في سفك دماء الأبرياء. فبشار الأسد لم يكن وحيداً في ساحة الإجرام، بل كان محاطًا بشخصيات متعددة، من ضباط وأطباء وقضاة وإعلاميين وغيرهم.
وكل أولئك ساعدوه على تنفيذ آلة القتل والتشريد والإرهاب، العدالة لن تكتمل ما لم تطل يدها كل الذين شاركوا وساهموا في معاناة السوريين، فالجريمة لم تكن فردية بل منظومة، والمحاسبة يجب أن تكون شاملة، كي لا يضيع حق الشهداء ولا ينجو المجرمون بفعلتهم.
في السنوات الأخيرة، بدأت خيوط واحدة من أفظع الجرائم، التي ارتكبها النظام البائد خلال احتلاله لسوريا، في الظهور إلى العلن، بعد العثور المتكرر على مقابر جماعية تضم جثث مدنيين خُطفوا وقتلوا بدم بارد.
لا نتحدث هنا عن عمليات قتل عشوائية وقعت في ظروف الحرب، بل عن جرائم منظمة بدأت بالاعتقال أو الخطف من بين عائلاتهم، مروراً بساعات طويلة من التعذيب والترهيب والتهديد، وانتهاءً بالتنفيذ الوحشي للقتل.
الضحايا لم يُقتلوا فقط، بل أُهينوا في حياتهم وبعد موتهم، تُركت جثثهم في آبار أو حفَر ضيقة، دون قبور فردية مع شواهد أو أسماء، دون جنازات، ودون وداع، تلك المقابر المكتشفة في مناطق مثل خربة السودا في حمص، حيث شوهدت أم تحتضن رفات ابنتها التي اختفت منذ سنوات، وفي الطليسية التي وُجدت فيها عدة جثث في بئر، تكشف حجم الجريمة ومدى تعمد النظام السابق في إهانة الضحايا حتى بعد موتهم.
هذا النمط من القتل لا يعكس فقط عنفاً مفرطاً، بل عقلية ترى أبناء الشعب كأنهم عبيد لا يستحقون الحياة، مخلوقون فقط لتمجيد الحاكم والقبول بجميع ممارساته وإن كانت على حساب حقوقهم، ومن يخرج عن هذا الدور تُنزع عنه إنسانيته، تُسلب منه حياته ويتم الانتقام منه ومن عائلته بطريقة لا تُنسى من شدة بشاعتها.
مأساة هذه المقابر لا تتوقف عند القتل، بل تمتد إلى الأثر النفسي والاجتماعي على ذوي الضحايا، الذين عاشوا سنوات في انتظار جواب، أمل كاذب، أو جثة يمكن دفنها بكرامة. حتى بعد الموت، سُلب الضحايا حقهم في الغُسل والتكفين والجنازة، وسُلبت عائلاتهم لحظة الوداع الأخيرة. ليمضوا حياتهم وهم يبحثون عن مفقوديهم وهم يقتاتون على الانتظار، ويعانون من التعذيب النفسي.
في كل مرة يُكتشف فيها قبر جديد، يُفتح جرح قديم، ويُضاف إلى ذاكرة السوريين مشهد جديد من مشاهد القهر التي لا تنتهي. هذه المقابر، التي تم اكتشافها سواء في إدلب أو حماة وغيرها من المدن والأرياف التي عارضت الحاكم الظالم، ليست مجرد أدلة على جرائم حرب، بل مرآة تعكس طريقة تفكير نظام المجرم بشار الأسد، الذي استخدم أدوات الدولة الأمنية لإخضاع الناس، وقتلهم، والتنكيل بهم حتى بعد الموت. ومن نجا من القتل أو الاعتقال، لم ينجُ من آثار ما حدث: النزوح، القصف، تدمير البيوت، وفقدان الأحبة وغيرها من الظروف التي سببتها الحرب.
إن ما حدث، وما زال يحدث، لا يجب أن يُطوى في صفحات التقارير الحقوقية فقط، بل يجب أن يُعامل كملف مفتوح أمام العدالة، تتطلب المحاسبة والمساءلة. هذه ليست مجرد وقائع محلية، بل جريمة ضد الإنسانية، وعلى العالم أن يتعامل معها على هذا الأساس. السكوت عنها هو شراكة غير مباشرة في استمرارها
تعرفت عائلة سورية على ابنها المفقود، موفق خالد قدور، بعد مرور أكثر من عقد على اختفائه، إثر ظهوره في صورة حملت الرقم 364، ضمن مجموعة ضخمة من صور المعتقلين نشرتها صحيفة "زمان الوصل"، الصور، التي وثّقت معتقلين اعتقلتهم ميليشيا الدفاع الوطني وصوّرتهم.
موفق، كما نقلت الصحيفة عن عائلته، كان في مقتبل العمر حين اعتقلته عناصر تابعة لقوات الدفاع الوطني من منزله. ومنذ ذلك الحين، غاب عن الأنظار كآلاف غيره، وأصبح رقماً في سجل المغيبين. قوات الدفاع الوطني، ميليشيا رديفة للجيش السوري، لعبت دوراً مركزياً في عمليات الخطف والاعتقال والانتهاكات التي رافقت سنوات الحرب، وكانت أداة من أدوات الرعب التي فتكت بالمجتمع السوري.
لحظة غدر مفاجئة لا تعرف الرحمة غيّرت مصير ذلك الشباب الذي كان يعيش حياته بشكل طبيعي، ولديه عائلة وأصدقاء ومحبين، بلحظة اختطفته قوات الأسد المجرم وزجت به في السجن وجعلته يعيش صوراً من الجحيم.
عشرات الآلاف من الشباب لاقوا مصير موفق في بلد مزّقته حرب لا ترحم، وحكمت عليهم بأن يعيشوا لعنة المعتقل، وأن تختفي حياتهم فجأة، من دون مقدمات، فقط لأنهم كانوا في المكان الخطأ أو قالوا الكلمة الخطأ أو لأن اسمهم ورد على ورقة في يد عنصر لا يعرف الرحمة.
ضاعت السبل بعائلات السورية وهي تبحث عن مصير أبنائها. ما من إجراء إلا وقامت به في محاولات يائسة لالتقاط أثر. سنوات مرّت ولا شيء سوى الانتظار والوجع والرجاء. ثم تأتي صورة، أو فيديو، أو وثيقة مسرّبة، فتسقط العائلة بين وجعين: هل تفرح لأنها عرفت مصير فقيدها؟ أم تحزن لأنها فقدت معه آخر خيط أمل بأنه حي؟
لا توجد كلمات تصف حجم هذه الفاجعة. ليست مجرد حالات فردية. إنها جريمة ممنهجة. إنها سياسة اقتلاع كاملة لجيل كامل من السوريين، شباباً كانوا في مقتبل أحلامهم، اقتيدوا قسراً إلى السجون، حيث عاشوا صنوف العذاب، وربما ماتوا دون أن يلفظوا وداعهم الأخير.
ولم تكن لعنة المعتقل مقتصرة على من دخله. بل امتدت كجنازات مؤجلة لعائلات بأكملها. جراح لا تندمل، أسئلة لا تنتهي، ونهايات لا تُكتب بكرامة. في سوريا، حيث كل شيء تغيّر، يبقى المعتقلون هم الحقيقة الثابتة التي لا يمكن أن ينساها الشعب، مهما صمت العالم.
في بلدٍ تحوّلت فيه المقابر الجماعية إلى محطات للأمل واليأس، وفي وطنٍ صار الوداع فيه ترفاً لا يُمنح، تقف آلاف الأمهات السوريات على عتبة الانتظار، معلّقات بين الشك واليقين، بين الألم والرجاء، بين الموت والحياة.
تحكي إحدى الناشطات قصة والدتها التي، رغم مرور اثني عشر عاماً على استشهاد ابنها أحمد في ريف حمص، لا تزال تبحث عنه، حيّاً كان أم ميتاً. ورغم وجود مقطع فيديو يُظهره بعد استشهاده، محاطاً برفاقه الذين مزّقت أجسادهم آلة الحرب، لم تقتنع الأم حتى اليوم أن ابنها قد مات فعلاً. وعندما أُعلن عن تحرير سجن صيدنايا، سارعت تطلب من أحد الأقرباء الذهاب إلى هناك، علّه يكون من بين الناجين. ذلك رغم يقين الجميع أن أحمد قد استُشهد منذ زمن طويل.
تقول الناشطة: "من يستطيع إقناع أمّ أن ابنها قد مات، إن لم تتمكن من توديعه، ولم تمشط شعره بيديها قبل أن تدفنه؟ وتضيف: "حين رأيتُ صورة لمقبرة جماعية اكتُشفت في ريف حماة، وجدت نفسي أبحث بين الأحذية، لعلّي أجد حذاء أحمد بينها. عندها فقط أدركت أن ما كانت تفكر أمي لم يكن إلا وجعاً لم أختبره بعد. أدركت أن القصة لا تتعلق بالعقل، بل بالقهر الذي استوطن قلوبنا منذ أن فقدنا أبناءنا دون أن ندفنهم".
هذا الشعور ليس فردياً. إنه وجعٌ جماعي تعيشه كل أم فقدت ابنها في المعتقلات أو على جبهات القتال أو في القصف أو تحت التعذيب. أمهات لم يُسلَّم لهن جثمان، ولم يُسمح لهن بوداع، ولم يُكتب لهن أن يدفنّ أبناءهن في قبر معروف. كل مقبرة مكتشفة تعيد فتح الجرح. كل صورة، كل خبر عن "معتقل سابق أُفرج عنه" يُعيد لهن الأمل، رغم أنهن يعرفن في أعماقهن أن من رحل قد رحل، لكن القلوب تأبى أن تُسلّم.
لا يمكن لعقل أن يستوعب كمّ الألم الذي يعيشه ذوو المفقودين والمغيبين. إنهم يعيشون في حلقة مفرغة من الحزن غير المكتمل. لا بكاءهم يهدأ، ولا دموعهم تجف، لأن الحكاية بلا نهاية. لأن الحزن بلا قبر. لأن الموت بلا جنازة.
والأدهى من ذلك، أن هذا الألم لا يُقدَّر سياسياً، ولا يُعترف به قانونياً، وكأن معاناة الأمهات ليست جزءاً من القضية. في حين أن العدالة الحقيقية لا تكتمل إلا عندما تُفتح ملفات المغيبين والمختفين قسراً، عندما يُعثر على قبورهم، ويُسلّم رفاتهم لذويهم، وتُعطى الأمهات حقهن في الحزن والوداع والدفن والصلاة.
أحمد ليس حالة فردية، بل رمز لعشرات الآلاف من الشهداء والمغيبين الذين لم يُعرف لهم قبر، ولم تُذكر لهم جنازة. وأمه هي صورة مصغّرة لآلاف الأمهات اللواتي يعيشن على حافة الانهيار، تُنهكهن أسئلة بلا أجوبة، وذكريات بلا جسد.
في سوريا، لا يُطلب من الأمهات أن يتجاوزن الحزن، بل يُطلب منهن أن يتجاوزن غياب الحقيقة، أن يسلّمن بفقد دون جثمان، أن يبكين دون قبر، وهذا ما لا يُحتمل.
مع اقتراب المواسم الصيفية، تتأهب النسوة في الأرياف السورية للعمل في مختلف الأنشطة الزراعية التي تزداد كثافتها في هذا الوقت من السنة، من قطاف الفواكه والخضار إلى تنقية الأعشاب والحصاد، وسط هؤلاء العاملات، تبرز مشاهد لفتيات صغيرات، تتراوح أعمارهن ما بين 13 و18 عاماً، يشاركن في هذا العمل الشاق، في ظاهرة أصبحت مألوفة في العديد من المناطق الريفية السورية.
في هذا التقرير، نسلط الضوء على الأسباب التي تدفع الفتيات في سن مبكرة إلى الانخراط في أعمال زراعية شاقة، مستندين في ذلك إلى شهادات جمعناها خلال بحثنا الميداني، كما نتناول التداعيات النفسية والتعليمية والصحية التي تتركها هذه التجربة على حياتهن.
سوء الظروف الاقتصادية
تندرج أغلب أسباب الفتيات تحت إطار الفقر والحاجة الماسة للمال، فالعديد من الأسر الريفية في سوريا عانت من ظروف اقتصادية قاسية، تفاقمت نتيجة سنوات الحرب، وتردي الوضع المعيشي، وغياب المعيل في بعض الحالات بسبب النزوح، الاعتقال، أو الوفاة.
هذه الضغوط تجبر العائلات إلى الدفع ببناتهن إلى سوق العمل الزراعي كوسيلة للبقاء. في كثير من الأحيان، لا يكون أمام الفتيات خيار سوى الانخراط في العمل لمساعدة الأسرة في تأمين لقمة العيش.
طبيعة الأعمال والأجور
تتنوع المهام التي تؤديها الفتيات بحسب الموسم، حيث يعملن في قطاف المشمش، الكرز، التين، والعنب، الفستق الحلبي، وغيرها من المواسم التي تُزرع في سوريا، أو في تنظيف الأراضي الزراعية من الأعشاب، أو الحصاد كحصا الحمص والعدس والكزبرة والكمون وغيرها.
وهذه الأعمال تتطلب مجهوداً بدنياً كبيراً تحت أشعة الشمس الحارقة ولساعات طويلة. وموسم الأعمال الزراعية ليس مرتبطاً بالصيف فقط، هناك أنشطة زراعية في فصول أخرى مثل قطاف الزيتون وجمع ثماره في الفترة ما بين تشرين الأول وكانون الثاني، وغيرها.
أما الأجور، فهي متدنية مقارنة بحجم الجهد والتعب الذي تبذله الفتيات، كما تختلف من منطقة إلى أخرى، بل ومن مزرعة لأخرى أحياناً. ففي شمال غربي سوريا، تُدفع الأجور غالباً بالليرة التركية، بينما تُدفع في الأرياف الأخرى بالليرة السورية.
وغالباً ما يتم استغلال حاجة الفتيات الماسّة للمال لفرض ساعات عمل طويلة، دون أي شكل من أشكال التأمين الصحي أو الضمانات القانونية. وفي حال تعرضت إحداهن لإصابة أو مرض ناتج عن العمل، لا تحصل على أي تعويض، لأن العمل يتم عادة لدى أصحاب أراضٍ خاصين، وليس ضمن إطار رسمي أو حكومي يوفر الحماية أو الحقوق.
تداعيات نفسية وصحية وتعليمية
أثر هذا العمل المبكر على الفتيات يتعدى الجسد ليطال النفس والعقل. من الناحية الصحية، يسبب العمل الزراعي المستمر في هذا السن مشاكل صحية مثل آلاماً في الظهر والمفاصل، فضلاً عن تعرضهن لأمراض جلدية أو ضربات شمس بسبب طول التعرض للعوامل الجوية. أما نفسياً، فالكثير منهن يشعرن بالإرهاق، الانعزال، وفقدان الأمل، إذ يُجبرن على تحمل أعباء تفوق أعمارهن.
تعليمياً، يتسبب العمل المتواصل خلال الصيف وأحياناً خلال العام الدراسي بانقطاع الكثير من الفتيات عن المدرسة. بعضهن يغادرن مقاعد الدراسة بشكل نهائي، ما يحد من مستقبلهن وفرص تمكينهن لاحقاً. التعليم، بالنسبة لهؤلاء، يتحول إلى رفاهية يصعب الوصول إليها وسط متطلبات البقاء اليومي.
قضية عمل الفتيات القاصرات في الزراعة ليست فقط مسألة اقتصادية، بل هي أزمة حقوقية وتنموية. هي انعكاس مباشر لتردي الأوضاع العامة، وغياب سياسات الحماية الاجتماعية، والتوعية بأهمية التعليم. لا بد من جهود مشتركة، من منظمات المجتمع المدني والسلطات المحلية والدولية، للحد من هذه الظاهرة، عبر تقديم بدائل اقتصادية للأسر، وبرامج دعم تعليمية ونفسية للفتيات، لأن أي مجتمع لا يحمي طفولته، إنما يهدد مستقبله بأكمله.
وسط معاناة أسر المفقودين، وأصواتهم التي لا تهدأ مطالبةً بكشف مصير أبنائهم، تبرز قصة أب سوري انقطعت أخباره عن ابنته بعد أن اعتُقلت على حاجز الكابلات. في مقطع فيديو نُشر على مواقع التواصل الاجتماعي، يقول الأب: "لا أبحث عن تعويض... أريد فقط أن أعرف مصير ابنتي."
ابنته، التي لم تتجاوز الثامنة عشرة، كانت تحمل طفلتها الصغيرة عندما اعتُقلت على حاجز الكابلات. ومنذ ذلك اليوم، انقطعت أخبارها كلياً. وكل ما تبقى للعائلة هو الانتظار القاتل، والصور الباهتة، وذكريات لا تنطفئ. لم تتوقف معاناته عند هذا الحد. فبعد الاعتقال، لا سيما أنه تعرض لـ الابتزاز على يد السماسرة، الذين تاجروا بآلامه مدّعين القدرة على تحرير ابنته.
وأشار الأب بحزم إلى أن معرفة مصير المفقودين يجب أن تبدأ من رؤساء الأفرع الأمنية، والأشخاص الذين خدموا على الحواجز خلال فترة حكم النظام البائد.
مرّت ستة أشهر على سقوط المجرم بشار الأسد، ورغم ذلك لا تزال معاناة أهالي المفقودين مستمرة. في البداية، ظن الكثير من الأهالي أن الأسد نفسه هو العقبة الوحيدة أمام معرفة مصير أبنائهم، لكنهم فوجئوا بعد فراره في 8 كانون الأول/ديسمبر 2024، بأن عشرات الآلاف من المعتقلين ما زالوا في عداد المفقودين، ولم يُعثر لهم على أثر حتى بعد فتح السجون.
لقد تعمّد الأسد المخلوع إذلال معارضيه بأبشع الوسائل، فلم يكتفِ باعتقالهم وتعذيبهم تحت ظروف صحية ونفسية وإنسانية مأساوية، بل أخفى مصيرهم عن ذويهم، كنوع من الانتقام المستمر.
واليوم، تعيش آلاف العائلات السورية على قيد الانتظار، تتشبث بأمل معرفة مصير أبنائها:هل هم أحياء؟ وإن ماتوا، أين دُفنوا؟ وما مصير الأطفال الذين اعتُقلوا معهم؟ وغيرها من الأسئلة الموجعة التي تُثقل قلوب الأمهات والآباء، ولا جواب.
في مواجهة هذا الصمت القاتل، انطلقت مبادرات كثيرة تطالب بكشف مصير المعتقلين، مثل خيمة الحقيقة وبعض المؤتمرات والوقفات الاحتجاجية. رُفعت صور المختفيين في الشوارع، وعلت أصوات أهاليهم بلافتات ومناشدات، وما تزال القصص الجديدة تُروى كل يوم، ومناشدات أخرى تُطلق، في رحلة البحث المستمرة عن الحقيقة والعدالة.
بعد سنوات طويلة من التهجير القسري والنزوح، بدأ عدد من السوريين بالعودة إلى قراهم ومدنهم، حاملين آمالاً في استعادة حياتهم وإعادة بناء ما دمرته سنوات الحرب. لكن الواقع الذي واجههم كان أقسى من توقعاتهم، فغالبية المنازل والمباني السكنية تعرضت للدمار الكامل جراء القصف المستمر وعمليات التخريب التي قامت بها قوات النظام البائد، مما دفعهم إلى اتخاذ خيار العيش في خيام مؤقتة فوق الأنقاض.
الظروف الاقتصادية والمعيشية: عبء يفوق الطاقات
العودة إلى قراهم لم تكن بداية حياة جديدة كما حلموا، بل كانت بداية معاناة جديدة بسبب الواقع الاقتصادي المرير. العائلات التي قضت سنوات النزوح في ظروف قاسية، فقدت مصادر دخلها تماماً، وعادت منهكة مالياً، بلا عمل أو مصدر دخل ثابت. ووسط غياب فرص العمل وارتفاع أسعار المواد الأساسية، بات توفير أبسط مستلزمات الحياة تحدياً كبيراً.
إعادة بناء المنازل في ظل هذا الواقع المادي الصعب أصبح حلماً بعيد المنال. فالترميم يحتاج إلى تأمين مواد البناء مثل الأسمنت والحديد والأحجار، وكذلك تكاليف أجور العمالة، وكل ذلك يتطلب مالاً لا يملكه معظم السكان. لذلك، اضطر الكثير منهم إلى البقاء في خيام مؤقتة توفر لهم الحماية الحد الأدنى فقط، بعيداً عن الأمان والراحة التي توفرها المنازل السليمة.
القطاع الزراعي: من مصدر رزق إلى كابوس مستمر
الأمل الوحيد لأغلب العائدون هو الزراعة، بأن يزرعوا أراضيهم ويبنون بيوتهم من ثمن المحاصيل التي سوف يجنونها، فالأراضي الزراعية ومختلف أنواع الأشجار من زيتون وتين وفستق حلبي وغيره، كان المصدر الأساسي لرزق كثير من العائلات. وكانوا يعتمدون عليها كجزء من دخلها اليومي، إلا أنها تعرضت للقطع أو التلف خلال سنوات النزوح. كما أن سنوات الحرب والمناخ غير المستقر، ونقص الموارد المائية والزراعية، أدت إلى تراجع الإنتاج الزراعي بشكل حاد لهذا العام.
وذلك سوف يؤثّر سلبًا على الدخل المادي ويساهم في عدم الاستقرار الاقتصادي، مما يجعل من الصعب عليهم استثمار أراضيهم أو الاعتماد على الزراعة كمصدر أساسي للعيش، مما يزيد من تعقيد أزمة إعادة الإعمار والعودة إلى الحياة الطبيعية.
المبادرات والدعم: جهود قليلة وسط دمار واسع
رغم هذه التحديات الكبيرة، حاولت بعض المنظمات المحلية والدولية إطلاق مبادرات لدعم الأهالي في إعادة بناء منازلهم وتحسين ظروفهم المعيشية. فمثلاً، أطلقت منظمة "شفق" مشاريع لترميم المئات من المنازل في مناطق أخرى مثل عنجارة بريف حلب وتل مرديخ في ريف إدلب، لكنها جهود لا تكفي أمام حجم الدمار الهائل في مناطق كثيرة مثل قرية الحويجة.
الحاجة إلى دعم أكبر وأشمل من المنظمات والجهات المانحة باتت ملحة، لأن التحديات الاقتصادية، وضعف البنية التحتية، وغياب الخدمات الأساسية، تضع السكان في مواجهة مستمرة مع الواقع القاسي. عودة النازحين إلى منازلهم تحتاج إلى دعم مادي وتقني شامل يمكنهم من بناء حياة مستقرة وكريمة.
يعاني ناجون من الاعتقال من ذكريات مؤلمة لما حصل معهم خلال سجنهم، تجعلهم يصرون على طلب حقهم بمحاسبة كل من تسبب بمأساتهم، ومنهم السيدة ندى، ناجية سورية تعرضت للتعذيب في أقبية النظام البائد عام 2011، بتهمة "التعاطف مع العدو". في حين أنها كانت تساعد للأهالي خلال بداية الثورة السورية، من خلال تقديم الطعام، والدواء، والملابس، كما ورد في صحيفة Fædrelandsvennen.
وذكرت الصحيفة أن ندى كانت تقيم مع 14 امرأة أخرى داخل زنزانة لا تتجاوز 6 أمتار، والتي فيها بدأت رحلتها مع التعذيب الوحشي والذي تمثل بـ اقتلاع الأظافر، الصعق بالكهرباء، الضرب، الاغتصاب، والإذلال. ولا تنسى ندى صرخات النساء في الزنازين المجاورة وهن يتعرضن للتعذيب، جثث المعتقلات المرمية على الأرض لأيام، وغيرها من الصور المرعبة والمؤلمة.
استخدم نظام المجرم بشار الأسد أشد أنواع التعذيب مع المعتقلين والمعتقلات انتقاماً من مواقفهم المعارضة التي اتخذوها ضده مع انطلاق الثورة السورية في شهر آذار /مارس عام 2011. وذلك ما أكدته شهادات ناجييين من السجن في حين لم يحالف الحظ لعشرات الآلاف من المعتقلين ومات أغلبهم تحت التعذيب. وهذه الحقيقة التي اصطدم بها ذويهم عند فتح السجون وعدم العثور عليهم.
ندى كانت من بين الذين نجوا، فهربت إلى تركيا، ثم إلى النرويج أواخر عام 2015، لكن لم تفارقها ذكريات الاحتجاز القسري وسوء ظروفه. ثم قررت أن تتحدث عن تجربتها من خلال فيلم وثائقي حمل عنوان "الناجون"، والذي تضمنَّ أيضاً شهادات مرعبة عاشها لاجئون نجوا من أبشع الانتهاكات.
وقررت ندى إخفاء هويتها وحمل اسم مستعار "ميرا". لكن بعد انتهاء التصوير، تغيرت الأوضاع كلياً في سوريا. ولم يعد هناك سبباً يجعلها خائفة من إظهار وجهها، ولا من الكلام، ولا حتى من الاتهام. خرجت اليوم ندى بوجهها واسمها الحقيقي لتقول:"لا أسامح. ولو رأيت من عذبني، لقتلته. حتى لو عوقبت، لا بأس... سأبقى أروي، لأننا إن صمتنا، سيحدث هذا من جديد".
لم تستسلم ندى، مثلها مثل غيرها من الناجيات، لما حصل معها في المعتقل، بل أصرت على إكمال حياتها بشكل طبيعي وتجاوز ماحصل. والآن، تريد ندى أن تساعد أخريات من السوريات اللواتي فقدن أزواجهن وأطفالهن، عبر مشاريع صغيرة مثل شراء آلات خياطة تمنحهن فرصة للحياة.
ويصرُّ الشعب السوري بما فيه الناجون من الاعتقال، ذوي المعتقلين والشهداء وكل من تضرر بفعل جرائم النظام المخلوع على محاسبة الأسد الجلاد وكل من ساعده ودعمه خلال ممارسات الإجرام التي ارتكبها ضدهم لمجرد المطالبة بالحرية وحقوقهم التي يستحقونها كمواطنين في البلاد.
اضطرت العديد من النساء في مناطق سورية خلال سنوات الحرب إلى دخول سوق العمل بطرق غير تقليدية، منها بيع البضائع عبر التجول بين المنازل والمباني السكنية. فرضت ظروف الحرب القاسية واقعاً صعباً على العائلات، وأجبرت الكثير من النساء على الاعتماد على أنفسهن لتحقيق دخل مادي يساعد في تأمين الاحتياجات الأساسية، والسعي نحو الاستقلال الاقتصادي.
يُعرف هذا النوع من العاملات باسم "مندوبات مبيعات" أو ببساطة "بائعات متجولات"، ويأخذ عملهن أشكالًا متعددة؛ فبعضهن يعملن ضمن شركات أو محلات تجارية، مقابل نسبة من الأرباح أو راتب شهري ثابت، في حين تعمل أخريات بشكل مستقل، فيتحملن وحدهن الأرباح أو الخسائر، وقد يكتفين بالحفاظ على رأس المال فقط.
المنتجات التي تُباع عادة تشمل مستحضرات التجميل، العطور، المكياج، الملابس النسائية، الإكسسوارات، المستلزمات المنزلية، وأحياناً أدوات المطبخ، وهي سلع يكثر الطلب عليها من قبل الأسر. وتفضل العديد من الزبونات الشراء من البائعات المتجولات لأنه يوفر عليهن عناء الذهاب إلى الأسواق، خصوصاً في ظل الانشغالات التي من الممكن أن تواجهها السيدة.
هذا النوع من العمل يتطلب مهارات خاصة، أبرزها القدرة على الإقناع واللباقة في الحديث، حيث تسعى المندوبة إلى شرح مزايا المنتجات وإقناع الزبونة بشراء المزيد من القطع، مستخدمة كلمات مجاملة ولطيفة، تساهم في كسب ود الزبونة وتحفيزها على الشراء.
الحاجة أولاً... ثم تأتي الصعوبات
الدافع الرئيسي لمعظم النساء للعمل كبائعات متجولات هو الحاجة، إذ تُعد الظروف الاقتصادية الصعبة، وغياب المعيل، وقلة فرص العمل، أبرز الأسباب التي تدفعهن لهذا النوع من المهن. كثير من النساء أكدن في شهادات جمعناها أنهن لا يجدن بديلاً يوفر دخلاً ثابتاً، وبعضهن لم يحصلن على فرص تعليم تؤهلهن لوظائف أخرى.
رغم صعوبة العمل، إلا أن بعض النساء يجدن فيه جانباً من المتعة، خاصة عندما يكنّ برفقة صديقات أو قريبات، مما يخفف من وطأة الروتين اليومي ويجعل من التجول تجربة أقل ثقلاً وأكثر حيوية.
تحديات العمل الميداني
يواجه هذا العمل اليومي العديد من التحديات، أبرزها الإرهاق الجسدي الناتج عن التنقل المستمر من مكان إلى آخر، وحمل البضائع الثقيلة. كما تعاني بعض البائعات من مواقف محرجة عند رفض سيدات لاستقبالهن بطريقة غير لبقة، بسبب الحذر أو عدم الثقة أو حتى اعتراض الأزواج على وجودهن في المنزل.
العمل تحت درجات حرارة مرتفعة في الصيف أو برد قارس في الشتاء يسبب مشاكل صحية للبائعات، ويزيد من صعوبة دوامهن على المهنة. وإلى جانب الظروف المناخية، هناك أيضاً نظرة دونية من بعض أفراد المجتمع، حيث تتعرض البائعات لتعليقات جارحة وانتقادات قاسية، متجاهلة دوافعهن الحقيقية للعمل.
واحدة من أخطر التحديات التي تواجه البائعات هي احتمالية التعرض للسرقة، إذ تقع مسؤولية تعويض البضائع المسروقة على البائعة نفسها، ما يزيد من العبء المالي ويجعل المهمة محفوفة بالمخاطر.
واليوم، بعد أن تحررت البلاد من حكم المجرم بشار الأسد، يأمل الأهالي أن تبدأ مرحلة جديدة تعطيهم حقوقهم التي يستحقونها. تتطلع النساء، كما الرجال، إلى واقع أفضل يضمن فرص عمل كريمة للشباب والشابات، ويمنح الجميع حق العيش بكرامة دون اضطرار للبحث عن لقمة العيش في ظروف قاسية ومهينة.
في الثامن من كانون الأول/ديسمبر عام 2024، طُويت صفحة مظلمة من تاريخ سوريا بهروب بشار الأسد وعائلته إلى موسكو، بعد سنوات من القمع والدمار والقتل، ومع هذا الحدث المفصلي، بدأ السوريون بالعودة إلى مدنهم وقراهم التي هُجّروا منها قسراً، هرباً من الموت والاعتقال، وعادت الحياة إلى الطرقات، لكنها لم تعد كما كانت، بل وسط ركام وأنقاض تروي فصولاً دامية من القهر والتدمير الممنهج.
فما إن وطئت أقدام الأهالي أرضهم حتى اصطدموا بواقع موجع: بيوت مهدّمة، شوارع خاوية، وممتلكات منهوبة أو محترقة. كان المشهد صادماً، لا يمتّ بصلة إلى ما احتفظت به الذاكرة من صور وذكريات. تلك البلدات والقرى التي كانت تنبض بالحياة والطمأنينة تحوّلت إلى رماد.
"عدتُ إلى بيتي بعد ست سنوات من النزوح، فلم أجد سوى الركام... حتى الباب سُرق، لكنني قلت في نفسي: من هنا سأبدأ من جديد"، يقول أبو حسام عندما كان يجلس قرب خيمة نصبها فوق أنقاض منزله في ريف حماة.
قبل الحرب، كانت هذه القرى والمدن عامرة بالأهل والأحبة، مليئة بالحركة والمواسم والاحتفالات. لكل منزل قصة، ولكل زاوية ذكرى. يتذكّر الأهالي الأسواق في الأعياد، أصوات المآذن وقت الغروب، وروائح الخبز الطازج التي تعبق في الصباح. لم يتخيّل أحد أن طلب الحرية سيقود إلى كل هذا الخراب.
تسرد سلمى، من ريف إدلب، وهي تتفقد بقايا منزلها الذي دُمّر كليا: "كان في بيتنا شجرة تين زرعها والدي بيده، وكنت أتنافس مع أختي لقطف أولى الثمار في كل موسم... عدت اليوم فلم أجد لا الشجرة ولا البيت، ولكن رائحة الأرض لا تزال كما هي".
إلى جانب هذه الذكريات الجميلة، لا تغيب عن الذاكرة صور الرعب التي عاشها الناس خلال الحرب. القصف العشوائي، البراميل المتفجّرة، الليالي الطويلة في الأقبية، الخوف من الاعتقال، وانقطاع الأخبار عن الأحبة. كل ذلك ترك أثراً عميقاً في النفوس.
تقول أم باسل، عادت مؤخراً إلى قريتها في ريف حلب، والتي فقدت زوجها وأحد أبنائها تحت القصف: "في إحدى الليالي كنا مختبئين في القبو، وأنا أضم أولادي الأربعة إلى صدري. وقع الانفجار قريباً جداً، حتى شعرنا أن الموت قد حلّ علينا. لا أستطيع أن أنسى تلك اللحظة ما حييت".
ورغم فداحة الفاجعة، لم يستسلم الأهالي. بل شرع كل منهم في محاولة ترتيب حياته من جديد، وفق الإمكانات المتاحة. البعض أقام خياماً على أنقاض منزله، وآخرون بدأوا بترميم غرفة صغيرة أو حائط قائم، والبعض الآخر أعاد فتح محله وسط الخراب، كأنما يقول للحياة: نحن هنا باقون.
"لن يعيد إعمار بلادنا أحدٌ سوانا، وإن بقينا ننتظر فسوف يضيع كل شيء. بدأت مع شقيقي بتنظيف الحي، ونحاول إعادة المياه، شيئاً فشيئاً سنعود إلى الحياة" هكذا علق سامي، شاب عاد من لبنان إلى كفرنبل مدينته.
الدمار لم يلغِ انتمائهم، ولم تُضعفهم سنوات النزوح والتشريد. ومع توافر الأدلة والوثائق التي تثبت حجم الجرائم والانتهاكات التي ارتكبها النظام البائد، يصرّ الأهالي على أن المحاسبة أمر لا بد منه، ليس انتقاماً، بل إحقاقاً للحق، ومنعا لتكرار المأساة. تقول أم مازن، التي فقدت زوجها وابنها تحت القصف، وعادت لتسكن خيمة فوق منزلها المهدّم: "ما حدث لنا لا يمكن السكوت عنه... نريد أن نعرف من دمّر، ومن قتل، ومن يجب أن يُحاسب".
إن عودة السوريين اليوم ليست مجرد حركة سكانية، بل فعل صمود ومقاومة. إنهم يعيدون بناء ذاكرتهم من بين الأنقاض، ويسترجعون أرضهم التي وُلدوا وعاشوا فيها. سوريا لم تُخلق لتبقى تحت الركام، وشعبها لم يُقدّر له أن يُنسى أو يُقصى. من قلب المحنة تولد الإرادة، ومن وسط الركام ينهض الأمل. وسوريا، أخيراً، بدأت تخطو طريق العودة، خطوة خطوة.