في مشهدٍ معقّد خلّفته سنوات الحرب الطويلة في سوريا، لم تكن المرأة السورية مجرّد متلقية للألم أو شاهدة على الخراب، بل كانت فاعلة في ساحات متعددة، تخوض معركة الصمود اليومي، وتشارك في إعادة ترميم ما مزّقته الحرب، بدءاً من التعليم والإغاثة، وصولاً إلى ميادين العمل الخطرة، وأخطرها إزالة مخلفات الحرب والألغام.
ورغم توقّف المعارك العسكرية، فإن ما خلّفته من ذخائر غير منفجرة وألغام مزروعة يواصل حصد الأرواح وتشويه الأجساد، لا سيما مع عودة المدنيين إلى مناطقهم وقراهم بعد التحرير. هذه الذخائر، المنتشرة في الحقول، وبين الأنقاض، وفي المدارس والمخيمات، تحوّلت إلى أدوات قتل صامتة، تفتك بأطفال وسكان عادوا بحثاً عن الحياة.
في هذا السياق، تداول ناشطون على مواقع التواصل صورة للشابة هبة كدع (29 عامًا)، وهي إحدى المتطوعات في مجال إزالة مخلفات الحرب. وقد أثار عملها ردود فعل واسعة، لما يحمله من مخاطر جمّة في ساحة ميدانية غالبًا ما تقتصر على الرجال.
في لقاء لها مع الجزيرة نت، قالت كدع إنها اختارت هذا الطريق بعد أن شاهدت حجم المأساة التي خلفتها الألغام في المناطق المحررة، حيث فقد كثيرون أطرافهم أو أصيبوا بتشوهات، وبعضهم قضى نتيجة ملامسة أجسام مخفية لم يعرفوا أنها قاتلة.
بدأت كدع كمتطوعة في حملات التوعية، قبل أن تلتحق بدورات تدريبية في السلامة والتعامل مع الذخائر المشبوهة، مؤكدة أن هذه ليست مسؤولية ذكورية فقط، بل إن على الجميع، رجالاً ونساء، أن يشاركوا في حماية المجتمع.
وأضافت:"الحرب لا تنتهي بمجرد توقف القتال، بل تبقى آثارها تتربص بالمدنيين، والأخطر أن كثيرًا من هذه المخلفات مزروع بطرق تمويه معقدة، منها ما يبدو كلعبة، أو موضوع داخل أثاث المنازل كالثلاجات والغسالات".
وأكدت كدع أن بعض هذه المخلفات تم توثيقها في مناطق كانت تحت سيطرة النظام السابق، الذي استخدم أساليب متقدمة في إخفاء أدوات القتل، بهدف إطالة أمد الخطر حتى بعد انسحابه.
كما وجهت دعوة للمجتمع الدولي والمنظمات المختصة لتقديم الدعم اللوجستي والتقني لتطهير الأرض السورية من هذه القنابل المؤجلة، محذرة من أن أي تهاون في التعامل معها يعني المزيد من الضحايا.
وختمت حديثها بالتشديد على أهمية عدم لمس أي جسم مجهول، مهما بدا بسيطًا، وضرورة التواصل مع فرق الهندسة المختصة عند الاشتباه بأي مادة خطرة.
إن ما تواجهه سوريا اليوم لم يعد يقتصر على إعادة الإعمار المادي، بل يتطلب جهدًا وطنيًا وإنسانيًا لإزالة آثار الحرب الأشد فتكًا. وتثبت المرأة السورية مرة أخرى أنها ليست في الهامش، بل في قلب الفعل والنجاة والبناء.
إن دخول النساء إلى ميادين كانت حكرًا على الرجال، مثل تفكيك الألغام، يعبّر عن وعي جديد وشجاعة جماعية، تؤسس لمرحلة ما بعد الحرب، حيث تكون المرأة شريكة في القرار، والحماية، والإعمار، وتكمل دورها في معركة البقاء وإعادة الحياة.
في قلب مجتمع أنهكته الحرب، برزت ظاهرة تأخر الزواج كأحد الأوجاع الصامتة التي قلّما تجد من يصغي لها. لم تكن هذه الظاهرة حديثة الولادة، لكنها تضخّمت على وقع النزوح، والموت، والانهيار الاقتصادي، حتى باتت واحدة من أبرز التحديات التي تواجه المرأة السورية ما بعد 2011.
وجوه خلف الجدران
روعة، امرأة سورية تجاوزت الخامسة والثلاثين، تقول بمرارة: "كلما حضرت زفافًا، ورأيت السعادة في وجه العروس، شعرت بالحسرة. لم يكن لي نصيب بهذه الفرحة… الشباب اليوم يبحثون عن فتيات أصغر، والواقع لا يرحم".
تصريحات روعة تعكس همًّا مشتركًا تعيشه آلاف النساء السوريات، ممن تأخرت فرصهن في الزواج لا لعيب فيهن، بل لأن الحرب أغلقت أبوابًا كثيرة: فقدان المعيل، النزوح، الفقر، وأحكام اجتماعية قاسية.
أولويات الحرب... وآثارها الاجتماعية
الحرب لم تفتك بالجغرافيا فقط، بل طالت بنية الأسرة والمجتمع. آلاف الشباب السوريين قُتلوا، أو اختفوا في المعتقلات، أو هاجروا دون عودة. ومع تقلّص عدد الرجال القادرين على الزواج، وتفاقم الأزمة المعيشية، تحوّل الزواج إلى "رفاهية مؤجلة".
سلمى (43 عاماً) من ريف إدلب، تحكي: "كنت أؤجّل زواجي لرعاية والديّ المرضى... بعد وفاتهما، وجدت نفسي وحيدة في الأربعين. إخوتي عادوا لحياتهم، أما أنا فلا أعلم إن كان أحد سيطرق بابي بعد اليوم".
النزوح... حرمان من الخيارات
علا أبو أكرم (36 عاماً) عاشت عشر سنوات في مخيم أعزاز: "والدي رفض تزويجي طوال فترة النزوح… كان ينتظر العودة. اليوم عدنا، لكني أخشى أن تكون الفرصة قد ضاعت".
تعكس قصة علا وجهًا آخر من معاناة النساء في النزوح، حيث حُرمن من بناء حياة مستقرة بحجّة الظروف المؤقتة، ليتحول المؤقت إلى دائم، وينقضي العمر في الانتظار.
أعباء نفسية مضاعفة
وراء كل قصة عنوسة، حالة من القلق، الحزن، والخوف من المجهول. كثير من النساء تحدثن عن مشاعر عزلة، ومرارة، وغيرة مكتومة من صديقاتهن اللواتي يعشن حياة أسرية. وفي دراسة ميدانية بعنوان "الواقع النفسي للمرأة اللاجئة"، تبيّن أن غياب الدعم العاطفي، والضغوط العائلية والمادية، تركت آثارًا سلبية على الصحة النفسية للنساء، خاصة في المخيمات.
وصمة اجتماعية… وظلم مزدوج
رغم أن تأخر الزواج ليس خطأ فرديًا، إلا أن المرأة وحدها تُحمّل تبعاته في مجتمع تقليدي، لا يزال ينظر للزواج كمؤشر أساسي على النجاح والاستقرار.
تقول سلمى:"العنوسة ليست فقط حالة اجتماعية، بل شعور بالإقصاء. كأن القطار مضى عنك، ولن يعود".
نحو وعي اجتماعي جديد
الزواج لا يجب أن يكون معيارًا لاكتمال المرأة، لكن التعامل مع تأخره يتطلب تفكيكًا للوصمة، وإعادة تعريف لمفهوم الشراكة، بعيدًا عن العمر والجغرافيا، وقريبًا من القيم الإنسانية.
ما بين القصف، النزوح، والأحكام المسبقة، تقف آلاف النساء السوريات على مفترق طرق، وقد سرقت الحرب من أعمارهن ما لا يعوّض. إنهن لا يحتجن شفقة، بل فرصة عادلة للحياة، والحب، والاستقرار.
في الوقت الذي عمّت فيه مشاعر الفرح أرجاء سوريا بعد إعلان الولايات المتحدة الأمريكية رفع بعض العقوبات عن البلاد، يواصل ناشطون ومنصات حقوقية نشر القصص وتوثيق الأدلة التي تدين المجرم بشار الأسد ووالده المقبور حافظ، بارتكاب جرائم ضد الإنسانية بحق الشعب السوري طوال أكثر من خمسين عاماً من القمع والاستبداد.
وفي سياق هذه الجرائم، نشرت صحيفة "زمان الوصل" في 15 أيار/مايو الجاري قصة الشاب خليل منلا موسى، سائق أجرة من مدينة اللاذقية، الذي اختفى عام 2013 في ظروف غامضة. يروي خاله أن خليل خرج بسيارته ولم يعد، فبدأت العائلة رحلة البحث عنه في قسم شرطة اللاذقية دون نتيجة.
لاحقًا، صُدمت العائلة برؤية اسمه في نشرات الأخبار الرسمية كأحد ضحايا تفجير إرهابي، حيث بثّ التلفزيون الرسمي مشاهد لتفجير سيارة، وزُعم أن خليل كان بداخلها. لكن الحقيقة كانت أبشع: خليل اختُطف على يد عناصر مخابرات الأسد، وتم تفجير السيارة لتلفيق التهمة وتبرير الجريمة ضمن رواية "الإرهاب" التي يُتقن النظام فبركتها.
وأضاف خاله أن العائلة توجهت إلى قرية "كلماخو" بحثاً عن أي معلومات، وسألت المختار، لكنه أجابهم باستهزاء: "اذهبوا وابحثوا عنه في النهر، هناك عشرات الجثث لإرهابيين، قد تجدونه بينهم." لم يجرؤ أحد على الذهاب.
قصة خليل، وقصة قزحيا، وآلاف غيرهم، ليست استثناءً بل جزء من نمط متكرر من الإجرام الممنهج. كل ذلك يثبت أن جرائم النظام لا تسقط بالتقادم، وأن الحقيقة، مهما طال الزمن، لا يمكن دفنها.
وتتوالى الشهادات حول المعتقلين الذين تمت تصفيتهم بطرق وحشية داخل أقبية النظام، حيث لجأ النظام إلى تبرير وفاتهم بحجج غير منطقية مثل: "ضيق نفس"، "أزمة قلبية"، "إعدام بتهمة الانتماء للإخوان"، "العمالة"، "الإرهاب"، وغيرها من التهم الجاهزة التي طالما استخدمها لتصفية المعارضين.
بعد تحرر بعض المناطق من قبضة النظام المجرم السابق، بدأت تتكشف الحقيقة المروعة، حيث عُثر على مقابر جماعية ووثائق رسمية تثبت أن آلاف المعتقلين تمّت تصفيتهم داخل المعتقلات بطرق بشعة، تتنوع بين التعذيب حتى الموت أو الإعدام الميداني دون محاكمات.
هذه الحقائق، التي لطالما شكك بها البعض في بدايات الثورة، أصبحت اليوم موثقة ومثبتة بالأسماء والصور. وعند تحرر البلاد من رجس الأسد في 8 كانون الأول/ديسمبر عام 2024، تم الوصول للسجون، إلا أن العديد من الأهالي صُدموا بعدم إيجاد أبنائهم ليتبين أنه تم إعدامهم.
وتعيد هذه الحقائق إلى الأذهان القصة التي أثارت ضجة واسعة، وهي قصة الشاب المسيحي قزحيا، المعتقل قبل 40 عاماً، والذي تم إعدامه تحت التعذيب في معتقلات النظام بتهمة "الانتماء إلى الإخوان المسلمين" – وهي تهمة تفضح عبثية أجهزة النظام، حيث لا يمكن لعاقل أن يصدق أن شاباً مسيحياً يمكن أن يكون عضواً في تنظيم إسلامي سلفي، لكنها كانت تهمة جاهزة تُساق لأي معتقل دون أي اعتبار للواقع أو المنطق أو الدين.
اعتادتْ مجتمعاتنا المحافظة تحميل المرأة أضعاف ما يُحمّل للرجل في المواقف الصعبة، إذ يُربط الشرف غالباً بالنساء دون غيرهن. كثير من النساء اشتكين من نظرة المجتمع القاسية، خاصة عند تعرضهن لتجارب كالتوقيف أو الغياب القسري، فواجهن أحكاماً جائرة وتأويلات مسيئة تمسّ سمعتهن وكرامتهن.
قصة "ميرا" والشائعات التي تُلاحق النساء
حين انتشرت قصة هروب "ميرا" من منزل والدها للزواج، استذكرت إحدى السيدات معاناتها بعد اعتقالها، إذ واجهت شائعات وتهماً كاذبة، أبرزها أنها هربت مع حبيبها، مما سبب ألماً بالغاً لعائلتها. علّقت قائلة: "لم يكن الأمر سياسياً بقدر ما كان نتيجة مجتمع فارغ يتلذذ بالخوض في أعراض الناس".
وأضافتْ أن آلاف التعليقات كانت تردد: "هربت لتتزوج"، أو "كانت مضطهدة في بيت أهلها"، بينما رفض البعض تصديق أنها معتقلة أصلاً، واعتبروا ما حدث لا علاقة له بالثورة. وأكدت أن أثر تلك التجربة لا يزال حاضراً في حياتها، قائلة: "حتى اليوم، لم أنم. عودة ميرا أعادتني إلى قصتي... أياً تكن حقيقتها، أفكر بها وبأهلها، وبخذلان هذا المجتمع".
الظلم الاجتماعي بعد الاعتقال: وصمة تلاحق الناجيات
وقد اشتكت العديد من الناجيات من الاعتقال من الظلم الاجتماعي الذي يلاحقهن بعد خروجهن، بسبب تداول أقاويل مسيئة بحقهن، يعود أصلها إلى اعتقاد سائد بأن كل معتقلة تعرضت حتماً للاغتصاب، وهو أمر غير مؤكد في جميع الحالات.
أسهمت بعض وسائل الإعلام، من خلال الإفراط في تسليط الضوء على قصص الاعتداء الجنسي داخل المعتقلات، في ترسيخ هذه الصورة النمطية. ونتيجة لذلك، ما إن يُعرف عن امرأة أنها كانت معتقلة، حتى تتشكل عنها تصورات مشوهة تؤثر سلباً على حياتها الشخصية ومكانة عائلتها الاجتماعية.
خوف الناجيات من الظهور الإعلامي: بسبب الوصمة الاجتماعية
هذه الوصمة دفعت العديد من الناجيات إلى العزوف عن الظهور الإعلامي أو المشاركة في جهود التوثيق. خلال عملنا على هذا الملف، تواصلنا مع إحدى الناجيات بهدف توثيق تجربتها ومشاركة قصتها، وقد أبدت في البداية استعداداً للحديث، لكنها بعد نحو عشر أيام، اعتذرت عن المتابعة بسبب خطوبتها، إذ طلب منها خطيبها عدم التواصل مع الصحفيين حفاظاً على خصوصيتهم وتجنباً للتعليقات التي من الممكن أن ترد. احترمنا رغبتها، باركنا لها الخطوبة، وقررنا الانسحاب.
وبالمثل، رحبت ناجيات أخريات بفكرة المشاركة، لكنهن وضعن شرطاً أساسياً، وهو استخدام أسماء مستعارة ضمن المادة الصحفية، مع تعديل بعض التفاصيل المتعلقة بمكان الإقامة أو الانحدار الجغرافي، خوفاً من أن يتعرف عليهن أحد، مما قد يتسبب لهن أو لعائلاتهن بوصمة اجتماعية أو مضايقات لا يرغبن بخوضها.
تجربة "رقية" والشائعات الملاحقة
تروي رقية، وهي شابة أُوقفت على حاجز لقوات النظام عام 2015، قائلة: "كنت أعود من مدينة حماة، التي كانت تحت سيطرة نظام المجرم بشار الأسد، إلى قريتي في ريف إدلب الجنوبي. كانت الحافلة تقلّ عددًا من أبناء القرية، ولم أكن وحدي. لم يُطلب من أي امرأة النزول، ولم يُجرِ العناصر حديثاً معنا، بل اقتصر الحديث على الرجال.
وتضيف: رغم ذلك، لاحقتني الشائعات، وتعرض والدي لكثير من الكلام الجارح، إذ بدأ الناس يلومونه لأنه سمح لي بالسفر لإكمال دراستي الجامعية في حماة. مرت نحو عشر سنوات على الحادثة، وما زال البعض يتحدث عنها، رغم أنني لم أُعتقل، ولم يُحقق معي، ولم أغادر الحافلة أصلاً"
وتابعت: "في إحدى المرات، كنت برفقة والدتي في زيارة إلى منزل أحد الأقارب. كانت الغرفة مكتظة بأشخاص أعرف بعضهم، وآخرين لا أعرفهم. فجأة، قالت لي إحدى الحاضرات أمام الجميع: (مو أنت اللي نزّلوكي العساكر على الحاجز؟) شعرت والدتي حينها بإحراج شديد، فغادرنا المكان فوراً".
التعليقات الجارحة بعد الخروج من السجن
تضيف إحدى الناجيات: "بعد خروجي من السجن، تفاجأت بكمّ التعليقات غير اللائقة التي كنت أسمعها من الناس، دون أي مراعاة لتأثير الكلام على من مرّ بتجربة قاسية. ما معنى أن يسأل أحدهم فتاة: هل حصل معك شيء؟ ثم يعلّق على إجاباتها بالتشكيك أو الاستغراب، وكأن الألم بحاجة لإثبات حتى يُصدق. لم أتعرض للاغتصاب، لكن نظرات الناس وأسئلتهم كانت كفيلة بأن تجعلني أشعر وكأني أُدان لمجرد أنني اعتُقلت."
دور الإعلام والمجتمع في التصحيح
لمواجهة هذا الظلم المجتمعي، يبرز دور الإعلام المسؤول في تفكيك الصورة النمطية المرتبطة بالمعتقلات، وتسليط الضوء على تجاربهن بكرامة واحترام. كما تُعد حملات التوعية المجتمعية والدعم النفسي للناجيات خطوات ضرورية، إلى جانب سنّ قوانين تجرّم التشهير وتحمي النساء من الوصمة الاجتماعية. إتاحة المجال للناجيات لرواية قصصهن بأمان قد يكون بداية تغيير حقيقي في نظرة المجتمع.
نحو مجتمع أكثر عدالة
يبقى التحدي الأكبر ليس في خروج النساء من المعتقل، بل في خروجهن من دائرة الشك والوصمة المجتمعية. فاستعادة الكرامة لا تكتمل إلا حين يتوقف المجتمع عن معاقبتهن مرتين: مرة على ما تعرضن له، ومرة على ما لم يفعلن. إن منح الناجيات مساحة آمنة للبوح، ومساندتهن بدل التشكيك بهن، هو الخطوة الأولى نحو عدالة اجتماعية طال انتظارها.
يُعتقد أن السجن هو أشد ما يمكن أن يواجهه الإنسان، لكن العديد من المعتقلين السابقين يكتشفون أن الخروج منه ليس نهاية الألم، بل بدايته. فالمعاناة لا تقتصر على جدران الزنزانة، بل تمتد لتغطي تفاصيل الحياة بعد استعادة الحرية.
قصة محمد: التغيير الذي لا يُحتمل
تجسد قصة محمد هذه الحقيقة المؤلمة. بعد ثلاث سنوات من الاعتقال والتعذيب الجسدي والنفسي، خرج من السجن ليجد نفسه محملاً بندوب لا تندمل بسهولة. كان يظن أن لحظة الخروج ستنهي معاناته، لكنه اكتشف أن العالم الذي تركه قد تغير بشكل جذري. فقد شقيقين خلال غيابه، وتحولت قريته إلى ساحة حرب. أصدقاؤه الذين شاركوه الحلم سقطوا شهداء، والوطن الذي كان يعرفه لم يعد كما كان. لا أمان، ولا عمل، ولا انتماء.
على الرغم من كل ذلك، لم يسمح محمد لليأس أن يسيطر عليه. قرر العودة إلى الأرض، حمل المعول، وبدأ من جديد. زواجه وإنجابه كانا نقطة تحوّل، لم يكن هروبًا من الواقع، بل مسؤولية جديدة منحته سببًا للتمسك بالحياة. أصبح يقاوم من أجل أبنائه، كي لا يعيشوا ما عاشه هو.
قصة قصي: من الألم إلى الأمل
أما قصي، الشاب الذي مر بتجربة اعتقال قاسية، فقد ذاق أنواعًا من التعذيب والترهيب، وخرج من السجن محملاً بجراح داخلية لا تُرى، لكنها لم تكسره. وجد نفسه أمام خيارين: أن يبقى أسير الذكريات، أو أن يبدأ حياة جديدة. فاختار الطريق الأصعب. التحق بدورات تدريبية، تعلّم مهارات جديدة، وبدأ العمل مع منظمات إنسانية. أعاد بناء نفسه، وبنى أسرة، وحوّل ألمه إلى طاقة تدفعه لخدمة الآخرين، ليصبح نموذجًا لقوة الإنسان على النهوض.
فاطمة: تحدّي المجتمع والظروف
وفي زاوية أخرى من هذا المشهد، تبرز قصة فاطمة، التي اعتُقلت لشهرين فقط أثناء مرورها بمناطق سيطرة النظام. ورغم ما عانته من عبء النظرة المجتمعية كامرأة معتقلة، رفضت أسرتها السماح لها بالانكسار، فاحتضنتها ودعمتها. وعندما فُتحت الجامعات في شمال غربي سوريا، التحقت بأحدها، وعملت في التعليم والتدريب، وتزوجت، وأنجبت ثلاثة أبناء. فاطمة تمثل المثال الحي على أن الدعم الأسري والمجتمعي قادر على صناعة الفارق في حياة الأفراد.
ما بعد الألم: الإرادة طريق النجاة
تُظهر هذه القصص، مثل العديد من الحكايات التي لا تصل إلى الأضواء، أن من يخرج من المعتقل لا يحتاج فقط إلى التهاني، بل إلى دعم نفسي، واحتواء اجتماعي، وفرص حياة كريمة. فآثار الاعتقال لا تختفي بمجرد الخروج من السجن؛ بل تحتاج إلى وقت وعناية لتتعافى النفس ويستعيد الإنسان توازنه.
إعادة بناء الثقة بالنفس وإحياء الأمل لا تكون مسؤولية الفرد فقط، بل هي مسؤولية المجتمع ككل. فحين يجد المعتقلون السابقون من يعينهم على النهوض، ويشجعهم على المضي قدمًا، تتحقق عملية التعافي بشكل أسرع وأكثر فاعلية. المجتمع الذي يقف إلى جانب ضحاياه لا يُعيد بناء أفراده فقط، بل يُعيد بناء ذاته أيضًا. لذا، فإن الاستثمار في دعم هؤلاء الأفراد ليس فقط في مصلحتهم الشخصية، بل في مصلحة المجتمع ككل، حيث يُسهم في إعادة بناء النسيج الاجتماعي وتعزيز التماسك المجتمعي.
الاحتضان المجتمعي: خطوة نحو إعادة الدمج
الاحتضان المجتمعي هو الخطوة الأولى نحو إعادة دمج الأفراد في المجتمع، وقد ثبت نجاحه في العديد من الحالات. من نجا من السجن ثم واجه الحياة مجددًا لا يُنظر إليه كضحية فقط، بل كصاحب تجربة نادرة، وإرادة حياة، وحق في العدالة.
عندما سقط الجلّاد: حلم العدالة الذي لم يتحقق بعد
وفي اللحظة التي سقط فيها الجلاد، بكى العديد من الناجين من الاعتقال. بكوا لأنهم شعروا أن شيئًا من كرامتهم قد عاد إليهم، لكن حلمهم بالعدالة لم يتحقق بعد. فالحريّة بلا محاسبة ناقصة، والانتصار بلا عدالة هو انتصار مؤقت.
في إحدى اللحظات التي لا تُنسى، ظهر زوجان مسنّان من داريا في لقاء تلفزيوني مع قناة الجزيرة، يرويان بحرقة واحدة من أبشع مآسي الحرب السورية. فقدا عشرة من أبنائهما دفعة واحدة في الحرب التي هزّت بلادهم. على شاشة التلفزيون، ظهرت الأم بعيون دامعة وصوت متهدّج، بينما تحكي عن ابنها "أحمد"، الذي كان عريساً جديداً لم يمضِ على زواجه سوى 15 يوماً، عندما تم اعتقاله وقتله أمام ناظريها.
قصتهما ليست حالة فردية، بل هي مرآة لمئات الآلاف من القصص التي عاشها السوريون خلال سنوات الحرب. فكلما استمعنا إلى هذه الشهادات المؤلمة، كلما بدأنا نرى مدى عمق الفقد الذي لا يمكن وصفه، ذلك الفقد الذي يبتلع الأمهات والآباء في موجة من الحزن والدمار لا يمكنهم الهروب منها.
تسبّب نظام بشار الأسد في خلق مئات الآلاف من القصص المشابهة، في معظم المحافظات السورية، حتى بات الفقد طقساً مألوفاً في كل بيت. لم تسلم عائلة من وجع الخسارة، وامتلأت الذاكرة السورية بمشاهد مؤلمة من وداعات مفاجئة ومقابر جماعية ومنازل خالية من أصحابها.
عائلات بأكملها فقدت أبناءها بسبب القصف، أو الاعتقال، أو الإخفاء القسري، أو التعذيب داخل المعتقلات. هذه الانتهاكات، التي ارتُكبت بحق المدنيين، لم تكن مجرد أحداث عابرة، بل تحوّلت إلى جزء من التاريخ الشخصي والجمعي لشعب لم يعرف الأمان لسنوات.
وفي إدلب، لم تكن الحاجة أم عبدو استثناءً. فقد خسرت ستة من أبنائها في مراحل مختلفة من الحرب. كان الأول قد قُنص في الأيام الأولى لدخول قوات النظام إلى المدينة، ليُحمل جثمانه إلى المنزل جثة هامدة.
وبعد ذلك، استُشهد اثنان آخران أثناء معركة تحرير مدينة حارم، فدفنتهما في مقبرة معرة مصرين. أما الرابع، فقد شارك في معركة تحرير إدلب، لكنه قُتل ولم تتمكن من رؤية جثته أو توديعه أو حتى دفنه. ورغم هذا الكمّ من الفقد، أصرّ ابناها المتبقيان على مواصلة القتال، فلحقا بإخوتهما، واحداً تلو الآخر.
وكم شاهدنا من أمهات وآباء يعانقون جثامين أبنائهم الذين ارتقوا تحت قصف النظام السوري، حتى بات هذا المشهد المؤلم يتكرّر في تفاصيل حياتنا اليومية؛ على منصات التواصل الاجتماعي، وفي أروقة الواقع السوري، من إدلب إلى حماة، مروراً بحلب ومناطق أخرى مزّقتها الحرب. صور الحزن صارت مألوفة، والألم أصبح جزءاً من الذاكرة الجمعية.
وفي ريف إدلب، كانت "أم عمر" مثالاً آخر على هذه الفاجعة المتكررة. فقدت اثنين من أبنائها؛ أولهما كان من بين الشباب الذين حملوا السلاح ضمن الفصائل المعارضة بعد أن ضاقت بهم انتهاكات الأسد، والثاني اعتُقل في بدايات الثورة، ولم تعرف مصيره إلا بعد سنوات، حين عثرت العائلة على اسمه ضمن قوائم المتوفّين في المعتقلات بعد تحرير المنطقة.
أما "أم محمد" من ريف حماة، فقد خسرت ثلاثة من أبنائها. الابن الأكبر قُتل عام 2016 أثناء مشاركته في معركة ضد قوات النظام. أما ابنها الآخر، فاستُشهد في أواخر نيسان عام 2019 إثر قصف عنيف خلال الحملة العسكرية على ريفي إدلب وحماة. وفي عام 2021، فقدت ابنتها بانفجار لغم أرضي أثناء عودتها من مدينة حماة إلى قريتهم.
قصة الزوجين المسنين اللذين فقدا عشرة من أبنائهما تجسد فقط جزءًا من المأساة التي يعيشها ملايين السوريين الذين فقدوا أبناءهم في الحرب. قصصهم، التي انتشرت عبر منصات التواصل الاجتماعي، أصبحت شهادات حية على الألم الذي عايشه السوريون. من قصف وغارات، إلى اعتقالات وقتل عشوائي، الحرب السورية تركت عائلات بأكملها في حالة من التشتت والفقد، ولم تترك لهم سوى الذكريات المدمرة والصور التي تُعبر عن حزنهم العميق.
في سوريا، غرقت أمهات في وجع مستمر رافقه انتظار امتدَ لسنوات عدة، وجوههن تحمل تجاعيد الصبر لا الزمن، وعيونهن تلمع كلما سُمع صوت باب يُفتح أو هاتف يرن، لعلّه يحمل خبراً عن فلذات أكبادهن المعتقلين أو المفقودين. تلك النساء لسن مجرد أمهات، بل شهيدات أحياء للوجع السوري. في صمت كل واحدة منهن قصة، وفي صبرهن مقاومة، وفي عيونهن سؤال لا إجابة له: أين أبناؤنا؟
"أريد ابني"
من بينهن، تقف أم محمود، الحاجة السبعينية من ريف إدلب، شاهدةً على ألم ممتد أحد عشر عاماً، بعد أن اعتُقل ابنها "محمود" في دمشق عام 2013. قبل اعتقاله، دار بينهما حديث بسيط، مثل آلاف الأحاديث التي تحصل بين أم وابنها، عتب خفيف، قلق عادي، لكنها الآن تتذكر كل كلمة، وتتمنى لو أن الزمن عاد. قال لها محمود: "شغلة يومين وبرجع". لكن تلك "اليومين" تمددت إلى أحد عشر عاماً من الترقب، والخوف، والانتظار، واللا يقين.
سعت العائلة في كل اتجاه، دفعت أموالاً، وناشدت وسطاء، وسمعت عشرات الروايات المرعبة: "مريض"، "في فرع لا يدخله الجن الأزرق"، "انتقل إلى سجن سري". ولم يكن هناك أي جواب مؤكد، فقط غياب طويل، وقلق لا يهدأ. أم محمود صارت أماً لأحفاده الثلاثة، صارت حائط الأمان لهم، وصار قلبها موزعاً بين رعايتهم وخوفها عليهم من أن يصيبهم ما أصاب والدهم. كانت تعدهم أن والدهم سيعود، وتعد نفسها. "يمكن بكرا..."، هذا ما كانت تهمس به كل ليلة، قبل أن تطفئ النور وتترك الباب موارباً، فقط قليلاً، ربما…
كسرت القضبان ولم يعد
وفي عام 2024، حين بدأت تُفتح بعض السجون، بعد هبوط المجرم الأسد إلى الهاوية، عادت شرارة الأمل، وتجمّع الناس حول بوابات صيدنايا، وراقبوا الصفحات والمجموعات. حتى جاء ذلك اليوم... يوم صرخت ابنة شقيقه، فصمتت الجدة، لأنها علمت. كان اسم محمود بين قوائم الموتى. بلا جسد، بلا قبر، بلا وداع. هذا المشهد الذي عاشته أم محمود، هو مشهد متكرر في البيوت السورية، من إدلب إلى الزبداني، ومن درعا إلى دير الزور.
مشهد مكرر في كل أرجاء سوريا
في الزبداني، ما زالت أم وسيم تفتح النافذة كل مساء. لا تضع ضوءاً، ولا تترك علامة، لكنها تجلس هناك طويلاً، تتخيله عائداً دون موعد، يمشي وحده في الطريق الصامت، ويصل إلى الباب كما كان يفعل. أكثر من عشر سنوات مرّت، وما زالت تنتظر. وفي حماة، كانت أم نزار تتلقى أخباراً متضاربة عن ابنها، تصدق التي تشير إلى أنه حي، وتكذب ما يتنافى مع ما تتمناه، وذهبت سنة وتبعتها أخرى، وهي تذبل لتسقط كأوراق الشجر في فصل الخريف، عند فتح السجون وعدم العثور إليه، لتعلم أنه فارق عالمها دون أن تراه أو تودعه فلا يكون لحظة أخيرة بينهما.
وفي درعا، تعيش أم عمار على أملٍ لا يخفت. لم ترَ ابنها منذ سنين، ولا تعرف إن كان في الحياة أم تحت التراب. وكل ما سنحت لها الفرصة كانت توزّع طعاماً على الجيران والغرباء، وتقول: 'إذا كان عايش، يمكن دعوة توصل، وإذا مات، فهي صدقة على روحه
الانتظار كسلاح
النظام السوري لم يكتفِ بالسجن والتعذيب. بل جعل من الانتظار ذاته أداة تعذيب نفسي للأمهات والعائلات. سنوات من الغموض، من الشائعات، من صفقات الابتزاز والاحتيال، من الأكاذيب الرسمية. يُستخدم الإخفاء القسري كورقة ضغط وسلاح ضد أهالي المعتقلين، حتى تتحوّل الأم إلى كائن معلق، لا تعرف إن كانت تبكي أم تأمل. لكن رغم كل هذا، بقيت الأمهات شامخات. يبنين البيوت على أمل عودة الغائبين، ويربين أحفاداً على أسماء آبائهم الذين لم يعودوا. في كل بيت صورة معلّقة، ورسالة لم تُكمل.
أم محمود ليست وحدها... لكنها أيضاً وحدها
قصة أم محمود ليست قصة خاصة. هي واحدة من آلاف، لكنها تكثّف الوجع السوري كله. وجهها المتجعد، صمتها الطويل، وصورتها وهي تضم صورة ابنها وتهمس: "سامحني يا ابني"، تختصر كل ما لا تستطيع السياسة قوله، وكل ما تتجاهله العدالة، وكل ما لم يُكتب بعد. في كل صلاة، تهمس الأمهات بأسماء أبنائهن، ثم ترفع أيديهن بالدعاء على من كان السبب. يسمين بشار الأسد باسمه، ويصفنه بـ'المجرم' دون تردد. تقول إحداهن: 'ما في سجدة إلا وبدعي عليه، هو وكل مين شارك بخطف ولادنا'. وسط الحزن الطويل، لا ينسين أن العدالة حق، وأن من ارتكب الجرائم سيُحاسب، ولو بعد حين، ولو ظنّ أن الوقت نسي.
لم تكن السجون السورية في السنوات الماضية حكراً على الرجال، ففي خضم الثورة، كانت النساء أيضاً هناك في الزنازين المظلمة، تحت رحمة الجلادين، يتقاسمن الألم والعزلة والظلم، لكن المفاجئ – أو ربما المعجزة – أن بعض هؤلاء النسوة، ممن خضن تجربة الاعتقال السياسي بأقسى أشكاله، لم يُكسرن، بل خرجن من خلف القضبان محمّلات بشيء أثمن من الحرية: الحقيقة.
داخل جدران السجون، لم تكن المعاناة فقط في فقدان الحرية أو التعذيب الجسدي، بل في تلك التفاصيل الصغيرة التي لا يراها أحد: أم تضع مولودها، فتاة في مقتبل العمر تُحرَم من حلمها بالدراسة، امرأة مسنّة تُسأل عن ذنب ابنها. في الزنازين السورية، كانت النساء يعشن تجربة مركّبة من القهر، لا تنتهي بخروجهن، بل تبدأ بعدها رحلة أخرى: الترميم، الشهادة، والتوثيق.
عدد من الناجيات قرّرن كسر الصمت، وتحويل تجربتهن إلى شهادة حية على ما جرى خلف القضبان. بين هؤلاء كانت سحر زعتور، التي وثّقت لاحقاً مشاهد من الانتهاكات ضد النساء في المعتقلات، منها وجود أمهات مع أطفالهن، ونساء مسنات، وحتى حالات ولادة جرت داخل الزنازين. شهادتها، كسواها من شهادات معتقلات سابقات، تضع الضوء على واقع ما تزال كثيرات يعشنه في الظل.
كما سعت الفنانة سمر كوكش، وهي واحدة من الناجيات، إلى فضح ممارسات المجرم بشار الأسد، وقالت بإحدى اللقاءات الإعلامية أن قواته التي تجردت من الإنسانية والضمير، كانوا يودعون المعتقلات بمشافي الأمراض النفسية، مشيرة إلى أنها جلست مع واحدة من بينهن ولم يبدو عليها أنها تعاني من تلك الأمراض.
العمل الإعلامي كان أحد المسارات التي لجأت إليها بعض الناجيات، لا لمجرد نقل ما جرى معهن، بل للتعبير عن وجع جماعي ومُغيب. شاركن في توثيق قصص الاعتقال، التهجير، والتهميش، وساهمن في إنتاج تقارير وأفلام ومواد مكتوبة أعادت للذاكرة جزءًا مما حاول النظام دفنه في الأقبية.
بعض الناجيات لم تسنح لهن الفرصة بأن يعملن في ذلك المجال، لكن سعين لروي قصصهن عبر وسائل الإعلام لتقديم المزيد من الأدلة على إجرام الأسد، وفضحه أكثر على رؤوس الأسد، لعل الصوت يصل إلى الجهات المعنية وكل متورط ينكشف وينال ما يستحقه من العقاب.
هذه التجارب تؤكد أن الحكاية النسوية في الثورة السورية لا تقتصر على التضحيات فحسب، بل تمتد إلى الفعل، والمشاركة، وصناعة الرواية البديلة. من بين الركام، خرجت أصوات نسائية صلبة، تقول إن الذاكرة لا تُكتب بالحبر فقط، بل بالدموع، والصبر، والإصرار على أن يُروى ما كان مخطّطاً له أن يُمحى.
في النهاية، تبقى شهادة واحدة صادقة، كفيلة بفضح جريمة صمت عنها كثيرون. ومن بين ظلمة الزنازين، وُلدت عدسة الحقيقة.
قبل ثمانية سنوات، في قريتنا الصغيرة، كان هناك شاب مختلف. لم يكن بيني وبينه حديث، لكن حضوره كان واضحاً. كان محترماً، متديّناً، خلوقاً. ومع الوقت، بدأت أُعجب به بصمت، دون أن أُخبر أحداً. وفي يوم، جاء وتقدّم لخطبتي بشكل رسمي. شعرت أنني محظوظة؛ ففيه من صفات الرجولة والصدق ما يطمئن القلب. وافق أهلي، وتمت قراءة الفاتحة.
كانت المناسبة بسيطة، بلا احتفال ولا زينة، احتراماً لأهالي القرية الذين لا يزالون يدفنون أبناءهم، وبسبب واقع الحرب التي جعلت الفرح يبدو شيئاً غريباً. مرت عشرة أيام فقط بعد قراءة الفاتحة، وكنا نعيش أجمل لحظات الأمل، نتحدث عن البيت، عن تفاصيل الزواج، عن كيف سنبدأ وسط هذه الفوضى... ثم وقعت الغارة.
طائرة حربية قصفت منتصف القرية. لم تكن هناك اشتباكات، ولا مواقع عسكرية، فقط بيوت ومارة ومحالّ. كان في محلّه الصغير، حين سقط الصاروخ. استُشهد في مكانه.
وصلني الخبر وأنا مع صديقاتي في مدينة إدلب كنا ندرس في الجامعة حينها، لم أبكِ كثيراً. لم أصرخ. فقط شعرت أن شيئًا داخلي توقف عن الحياة. بالبداية لم أستوعب فقبلها بيوم واحد كنت أتحدث معه عن طريق الواتساب ونخطط لحفلة عقد القران، عدت فوراً إلى قريتنا.
استقبلت العزاء بوجه هادئ، لكن قلبي كان محطماً، كم تمنيت أن يكون كابوساً وسوف أصحي منه بأي لحظة، لكنها كانت حقيقة مرة. بقيت أيام العزاء كما هي، ثم انتظرت حتى انتهت الفترة، وجمعت كل شيء: الخاتم، الهدايا، المصوغات. ثم أعدت الأغراض لأمه، لأنها لم تعد من حقي، كي لا يزيد ألمي عندما أراها.
حين سلّمتها لها، انهارت. لم تبكِ كثيراً في العزاء، لكنها حين رأت أغراضه، انفجرت. لم تتحمّل أن تلمس شيئًا من بقاياه. كانت تردّد: "كان حلم عمري شوفه عريس"، غادرت على الفور قبل أن أنهار أنا الأخرى، ثم عشت بعده سنتين في فراغ صامت. كنت أدرّس الأطفال، أساعد أمي، أُشغل نفسي بدراستي، وأهرب من الليل حين يبدأ كل شيء في داخلي بالضجيج.
ثم جاء شاب آخر، طيب ومحترم، وتزوجته. لم أُظهر له أي تفاصيل من الماضي، احتراماً له. لم أُخبره، وهو لم يسأل لأنه كان يعلم أنني كنت مخطوبة سابقاً. صمت متبادل فيه كثير من التقدير. لم يكن بديلاً، لكنه كان بداية جديدة.
الحرب لم تسرق فقط بيوتاً أو أحلاماً. لقد سرقت قلوباً ذاقت الألم، وانكسرت ولم تعد كما كانت. كل واحد خسر شيئاً. البعض عوّض، والبعض تجاوز، لكن بعض الخسارات تبقى كظلّ لا يغادر. بعد ثماني سنوات، اسمه ما زال في قلبي. ليس كجرح، بل كأثر. لم يعد وجعاً حياً، لكنه صار ذكرى صامتة، لا تزول.
كم أتمنى أنا وغيري رؤية المجرم بشار الأسد على أعواد المشانق، وتنتفض من وجهه ملامح الرعب والخوف، ذلك الكأس الذي لطالما شرب منه السوريين بسببه، ربما أشعر بالرضى بأن حق خطيبي السابق لم يذهب سدى.
فرحنا جميعاً بخروج المعتقلين من السجون بعد تحرير سوريا من قبضة الأسد في الثامن من كانون الأول/ديسمبر عام 2024. إلا أن سلسلة من العقبات تنتظرهم في طريق بناء حياة جديدة بعد زوال القضبان. وغالباً ما تكون هذه الصعوبات أشد وطأة على النساء مقارنةً بالرجال، خصوصاً في مجتمع تحكمه عادات وتقاليد قد تكون مجحفة بحق المرأة. في هذا التقرير، سنسلّط الضوء على بعض هذه العقبات، استناداً إلى قصص واقعية عايشناها، وأخرى رصدناها عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
الوصمة الاجتماعية
تأتي الوصمة الاجتماعية في مقدمة المشاكل التي تواجهها الناجية، إذ ينظر إليها البعض كمصدر 'عار' أو 'عيب'، خاصة في المجتمعات المحافظة. وقد تتعرض للنبذ من قِبل العائلة أو المجتمع، حيث اشتكت بعض المعتقلات من هجر أزواجهن لهن بعد الخروج من السجن. كما تُوضَع النساء في مواقف محرجة وتُوجَّه إليهن أسئلة مزعجة، مثل: 'هل حدث لك شيء في السجن؟'، 'هل تعرّضتِ للاغتصاب؟'، وغيرها من العبارات الجارحة التي تُسبّب إحراجاً وألماً نفسياً للناجية.
يشكّل خطف الفتيات أو دخولهن السجن، أو حتى التحقيق معهن، مشكلة كبيرة لدى العائلات، تجعلهم عرضةً للشائعات التي قد تسيء إلى سمعتهم وتعكر صفو حياتهم. تحكي مرام (اسم مستعار)، وهي سيدة في الأربعين من عمرها، عن تجربتها، قائلة: "دخلت السجن وأنا في الخامسة عشرة من عمري بسبب قضية، وخرجت منه ولم أكن متزوجة آنذاك، ولم أتعرض للاغتصاب أو لأي انتهاك جنسي. لاحقًا تزوجت وأنجبت أربعة أولاد، أصبحوا اليوم بطولي. مرّ على تلك الحادثة أكثر من عشر سنوات، ومع ذلك لا يزال الناس يتحدثون عني بسوء. كان الله في عون النساء"
ويلازم المعتقلات اللواتي تعرّضن للتعذيب أو العنف الجنسي شعورٌ دائم بالذنب أو العار. بعضهن تجرأن وكشفن عن تلك الانتهاكات، وتحدثن عنها على الهواء مباشرةً لفضح الأسد وقواته وتسليط الضوء على جرائمهم، بينما لجأت أخريات إلى الصمت خوفًا من كلام الناس ونظراتهم القاسية التي لا ترحم.
الفقر والأثر النفسي
عانت ناجيات أيضاً من الفقر وسوء الأوضاع المادية، إذ لا يملكن مصدرًا ثابتاً للدخل، في ظل معاناة أسرهن من مشاكل اقتصادية متفاقمة. ويُضاف إلى ذلك صعوبة إيجاد فرص عمل، نتيجة الغياب الطويل عن سوق العمل، وضعف الإلمام بمتطلبات التوظيف والإجراءات اللازمة. علاوةً على ذلك، تواجه سوريا عمومًا أزمات اقتصادية حادّة، تسعى الحكومة السورية الجديدة إلى معالجتها.
الأسد كان يودع معتقلات في مشافي للأمراض النفسية
وإلى جانب هذه التحديات، تلاحق المعتقلات ذكريات مؤلمة تبقى حاضرة في أذهانهن، مسببةً لهن حالات من القلق والتوتر، تُعرف بالصدمة النفسية (PTSD). فقد تعاني الناجية من كوابيس، أو نوبات هلع، أو فقدان الثقة بالآخرين، خاصةً إذا كان سبب اعتقالها تقريراً كتبه أحد المعارف أو الأقارب، كما حصل مع العديد من المعتقلين.
خرجت بعض الناجيات من المعتقل بوضع صحي صعب نتيجة ظروف الاحتجاز السيئة والإهمال الطبي المتعمَّد من قِبل نظام الأسد، كعقوبة على اتخاذهن مواقف مناهضة لرئيس النظام المجرم بشار الأسد. وفي لقاء إعلامي، كشفت الفنانة السورية سمر كوكش، التي ذاقت مرارة الاعتقال في سجون الأسد، عن تفاصيل صادمة شاهدتها خلال فترة احتجازها؛ إذ كان النظام يخفي النساء في أماكن احتجاز غير مصنّفة رسمياً كسجون، ثم يُنقلن لاحقاً إلى مستشفيات للأمراض النفسية.
قالت كوكش خلال ذلك اللقاء إنها كانت معتقلة في سجن عدرا، وشاهدت السجّانين يجلبون فتيات ويدّعون أنهن مصابات باضطرابات عقلية، فيتم إيداعهن في السجن مؤقتًا قبل نقلهن إلى مستشفيات الصحة النفسية. وأشارت إلى أنها جلست مع إحدى هؤلاء الفتيات، وكانت تبدو بصحة عقلية جيدة، لكنها تعرضت للتعذيب.
فقدان للذاكرة والهوية
كما شاهدنا مقاطع مصوّرة توثق لحظات خروج معتقلين ومعتقلات من السجون، وظهرت في بعضها حالات صادمة؛ إذ بدا بعض الأشخاص فاقدين للذاكرة نتيجة ما عانوه خلال فترة الاعتقال، فيما بدا آخرون غير قادرين على الاستيعاب، أو على التواصل بشكل سليم مع من حولهم. لذلك، لجأ ناشطون إلى تصويرهم ونشر الصور والمقاطع أملاً في أن تصل إلى أهاليهم ويتم التعرف عليهم
وتبقى الناجيات في وضع يستدعي دعماً نفسياً ومادياً مستمراً، بالإضافة إلى الاحتواء من قِبل العائلة والأصدقاء، كي يتمكنّ من تجاوز التجربة القاسية التي مررن بها. فمن حق كل سيدة أن تعود إلى حياتها الطبيعية، وتمارس حقوقها كاملة دون خوف أو خجل، بعيدًا عن الظلم، والانتقادات، والمظاهر السلبية التي يفرضها المجتمع. إن المعتقلين والمعتقلات ضحايا واجهوا الاعتقال بسبب مواقفهم السياسية ومشاركتهم في انتفاضة شعبية ضد نظام الأسد، وهم يستحقون الدعم لا الوصمة.
تقف أم عبده أمام منزلها المدمَّر، تحدِّق في تفاصيله، ثم تتنقّل بين أرجائه وهي تسترجع صورته الجميلة كما كان قبل أن يصبح ضحيةً لقصف الطيران قبل سنوات، ثم فريسةً لجيش "التعفيش" الأسدي. تتمنى لو أنها مخطئة، وأن هذا ليس منزلها، لكن الموقع والتفاصيل المتقاطعة بين شكله القديم والحالي، يثبتان الحقيقة المرّة. تتحوْقَل، وتُلقي بنظراتها على منازل الجيران والأقارب المحيطة، التي لم تكن أوفر حظاً.
تقول أم عبده (55 عامًا) من ريف حماة: "دمار المنازل كسَر ظهورنا، لكن هذا يمكن تجاوزه مع الوقت، ويمكننا إعادة بنائها، ربما بشكل أفضل مما كانت عليه. لكن ماذا عن الأبناء والأحبة الذين خطفتهم الحرب منا؟ لقد فقدت ثلاثة من أولادي؛ أحدهم قُتل خلال اشتباكات اندلعت بين فصائل قبل أحد عشر عاماً، وآخر قضى في حادث سير في بدايات النزوح من القرية قبل خمس سنوات وسبعة أشهر، ولحق به شقيقه بعد واحد وعشرين يوماً فقط. ثم تُوفي زوجي بعدهم، وكأن قلبي لا يزال يُنتزع قطعةً قطعة".
وتتابع بصوت يغلبه الحزن: "قبل أن أعود، كان مجرّد التفكير بالرجوع إلى الحارة والمنزل من دونهم يضيق صدري، وتُظلم الدنيا في عيني. سأراهم في كل تفصيل، في كل لحظة تمرّ بي. في ساحة الحارة حيث اعتادوا أن يتجمعوا مع أصدقائهم، في الأرض عندما كنا نعمل معًا وتملأ ضحكاتهم المكان، على"على مائدة الطعام التي باتت تفتقد وجودهم، وأصبحت أماكنهم الفارغة تذكّرني دومًا بأن شيئًا كبيرًا ينقص هذا البيت."
ليست أم عبده وحدها من تعيش شعور الفقد واللوعة بسبب ما خلّفته الحرب من ظروف قاسية، فكل سوري أصابته خسارة ما، باختلاف أشكالها. عدد الضحايا يُقدَّر بالآلاف، سواء في السجون أو تحت القصف أو خلال محاولات الهجرة غير الشرعية، ناهيك عن وقائع الاعتقال، والدمار، والسرقة، والتخريب، وعمليات "التعفيش".
لم يكن التخلّص من حكم آل الأسد أمراً سهلاً، خصوصًا أن هذا الحكم امتد لعقود طويلة وتحالف مع الروس والإيرانيين. ومع ذلك، سقط في 8 كانون الأول/ديسمبر من عام 2024. لكن جراح السوريين لم تندمل بعد، فذاكرتهم ما زالت مثقلة بالآلام والأحداث المروّعة التي يصعب نسيانها، وقد فُتحت تلك الجراح مجددًا مع العودة إلى الديار، حيث الغياب الواضح لأفراد العائلة يُعيد المأساة إلى الواجهة.
تخشى أم محمد العودة إلى منزلها في ريف إدلب الجنوبي، إذ تحاول قدر الإمكان الهروب من ذكرى وفاة ابنها الذي قُتل في قصف جوي قبل نحو سبع سنوات، حين بدأت الحملة العسكرية على مناطق ريفي حماة الشمالي وإدلب الجنوبي، وبدأ جيش النظام بالتقدّم.
تقول السيدة الخمسينية: "نزحنا من القرية في الأيام الأولى للحملة، بينما أصرّ أولادنا الشباب على البقاء لحماية المنازل من السرقة، ودعم المقاتلين على الجبهات. لم نتمكن من إجبارهم على المغادرة. مع تصاعد القصف، كان الشبان يختبئون في كهوف قمنا بحفرها تحت الأرض لتوفير الحد الأدنى من الأمان".
وتتابع أم محمد: "كان ابني في منزل أحد الجيران يسهر مع اثنين من أصدقائه عندما استهدفت الطائرات الحي بالغارات. سقط صاروخ على المنزل فقُتل ابني على الفور، وأُصيب أحد أصدقائه إصابة بالغة في العمود الفقري أفقدته القدرة على الحركة، أما الثالث فقد نجا بإصابات طفيفة لأنه كان في المطبخ يعدّ الشاي وقت الضربة".
تغيّرت حياة تلك المرأة بشكل كبير بعد فقدان ابنها، حتى أن أبناءها الآخرين باتوا يتجنّبون ذكر اسمه أمامها، كي لا تنفجر بالبكاء. بل أصبحوا يبتعدون عن كل ما يرتبط به: طعام كان يفضّله، ملابس كان يرتديها، ذكريات تجمعهم به، وحتى المناسبات التي كان يشاركهم فيها. فمجرد أن يخطر على بالها، تنخرط في نوبة بكاء حادة، وقد ترفض تناول الطعام لساعات طويلة. "كيف يمكن أن تنسى ما حدث، وهي تمرّ يومياً أمام المنزل الذي فقدته فيه؟"، تقول منار، ابنتها، التي كانت حاضرة معنا أثناء اللقاء مع والدتها.
ولدى مناقشة الآثار النفسية والاجتماعية لتلك الذكريات على الأمهات، تحدثنا مع براء الجمعة مختص في الصحة النفسية والدعم النفسي الاجتماعي، وقال: "في السياق السوري، لا يمكن اختزال الذاكرة بمجرد اضطراب نفسي ناجم عن الصراع؛ بل إنها تمثل شاهداً حيّاً على انتهاك القيم الإنسانية، وجمراً تحت الرماد يُهدّد بالاشتعال كلما اصطدم خطاب النسيان القسري بجرحٍ لم يُعترف به.
بالنسبة للأمهات السوريات، تتداخل الذكريات مع غياب العدالة لتشكّل "ألماً مركّباً": ألم الفقد ذاته، وألم الغياب التام للاعتراف المجتمعي والدولي بضحاياهن. ومع استمرار غياب آليات المساءلة الفعلية، تتحوّل الذكريات إلى شكل من أشكال المقاومة الرمزية ضد الإقصاء، وتُعزز شعوراً بالاغتراب، خاصة في البيئات التي يُفرض فيها خطاب "المصالحة" قسراً دون محاسبة.
وأضاف: "التأثيرات اليومية لا تنفصل عن بنية المعاناة المستمرة، حيث تظل مظاهر الفقر والتهميش والعنف البنيوي متجذرة في تفاصيل الحياة، ففي العلاقات الأسرية: يظهر توتر دائم في ديناميكيات الأمومة، يتجسد في حساسية مفرطة تجاه الأبناء الناجين، كرد فعل على فقدان السيطرة خلال فترات الحرب، ما يضع الأمهات في صراع داخلي بين الحماية والخوف من التكرار.وفي الجسد: تتجلّى آثار الظلم في صيغ جسدية؛ آلام مزمنة، اضطرابات في النوم، وشكاوى صحية متكررة لا تجد تفسيراً طبياً واضحًا، ما يشير إلى وجود علاقة عميقة بين المعاناة النفسية والتجسيد الجسدي للصدمات".
وذكر الجمعة أن الدعم الفعّال للنسوة لا يُختزل في جلسات علاج فردية، بل يتطلّب مقاربة شاملة تعترف بالذاكرة كحق إنساني، وبالمعاناة كقضية نظامية لا كخلل في الدماغ أو العاطفة.على مستوى السياسات: يجب تعزيز المبادرات المجتمعية التي تُمكِّن النساء من إعادة تشكيل سردياتهن بأنفسهن. التوثيق المحلي، والأرشيفات المجتمعية، ومشاريع التمكين التي تدمج بين سبل العيش ومساحات الحكي، تساهم في ترميم الكرامة قبل استهداف "الصحة النفسية".
وتابع: "على مستوى الممارسة النفسية الاجتماعية: من الضروري تبنّي أدوات تُعيد تعريف الهوية بعيدًا عن دور "الضحية"، مثل تقنيات السرد الجماعي والتدخلات القائمة على استعادة المعنى. كما يُعدّ الدمج بين الدعم النفسي والتحرك المجتمعي وسيلة فعّالة لتحويل الألم الفردي إلى طاقة جماعية للضغط والتغيير.
وعلى مستوى الخطاب الإعلامي والأكاديمي: ينبغي استبدال مفردات مثل "الضحايا" بـ"الناجيات" أو بدائل أخرى ملائمة، مع الالتفات إلى توثيق قصص الصمود اليومي، بما يعكس القوة والتكيّف، لا الألم فقط.
تقفُ نورا في المطبخ تُعدّ السندويشات لأطفالها الثلاثة، تنظر إلى ساعتها وتحاول الإسراع كي تلبسهم ملابسهم قبل الذهاب إلى المدرسة، وسط جو يعجّ بالطلبات:"أمي، مشطي لي شعري"، "أنا جائع"، "لا أريد الذهاب اليوم!". ليقاطعهم صوت زوجها: "أين قهوتي؟ هل كويتِ البنطال؟ أريد الذهاب إلى العمل".
تحاولُ نورا إنجاز المهام بسرعة، وبعد الانتهاء منها ترتدي ملابس عملها، تتناول قطعة خبز مع الجبن على عجل، ثم تنطلق.
اعتادتْ نورا، وهي سيدة في منتصف الثلاثينات، وتعملُ في مهنة التدريس، على هذا النمط من الحياة منذ أن قررت العمل لمساعدة زوجها في تغطية نفقات المنزل. لكن رغم ذلك، تمضي يومها تركض بين المجلى والغسالة، والتنظيف وإطعام الأطفال، بالإضافة إلى واجباتها الزوجية. كثيراً ما تفكر بترك العمل لتخفيف العبء عن نفسها، لكن الظروف المادية الصعبة التي تمرُّ بها الأسرة وحاجتهم إلى دخلها يجعلها تتراجع عن القرار.
عشرات السوريات معيلات لأسرهن
نورا واحدة من عشرات النساء في سوريا اللواتي يحملن على عاتقهن مسؤوليات مضاعفة، في العمل داخل المنزل كأمهات وزوجات وربّات بيوت، وخارجه في وظائف متعددة سواء في المنظمات، أو المشافي، أو المدارس، أو الأعمال الزراعية، أو المصانع، أو البيع المتنقل، وغيرها من فرص العمل المتاحة للنساء.
لكن ثقل هذه المسؤوليات، وقساوة الظروف التي تحاول النساء التوفيق بينها، يجعلهن عرضة لصعوبات نفسية، صحية، واجتماعية، سنتناول بعضها استناداً إلى شهادات جمعناها خلال إعداد هذا التقرير.
غياب عن الجمعات العائلية
تشتكي بعض النساء من عدم تمكنهن من حضور التجمعات العائلية المحببة، فغالباً ما يكون لديهن التزامات مثل تحضير طعام اليوم التالي، أو إنهاء مهام العمل المتراكمة في المنزل. كما أن بعضهن يتعرضن للاتهام بالتقصير في الواجبات الاجتماعية كزيارة الأقارب أو الجيران، بينما تحاول كثيرات استغلال أوقات الفراغ أو العطل في العناية بالمنزل أو الأطفال، أو على الأقل نيل قسط من الراحة.
تقول فاطمة (30 عامًا)، مقيمة في ريف إدلب الشمالي وتعمل في إحدى المنظمات الإنسانية في مجال المراقبة والتقييم: "في البداية كنت أنزعج من عتاب الجارات والأخوات والصديقات بسبب تقصيري في زيارتهن، لكنني اعتدت الأمر لاحقًا. فأنا أعمل من لحظة استيقاظي حتى المساء، وأسعى لإنجاز المهام المترتبة عليّ.
حتى يوم العطلة أخصصه للحالات الطارئة كزيارة مريض أو تهنئة بمناسبة لا يمكن تجاهلها. وإن لم توجد مناسبة، أقضيه في ترتيب المنزل. فالعمر ينتهي، لكن عمل البيت لا ينتهي".
تعب جسدي وإرهاق
وتعرضتْ نساء أخريات لتعب جسدي شديد نتيجة كثرة الأعمال اليومية الملقاة على عاتقهن. ووفقاً لسيدات تحدثنا معهن، تجلّى هذا التعب في آلام بالظهر، والركبتين، واليدين، والرقبة، خصوصًا لدى من يعملن في الزراعة، مثل الحصاد، وتنظيف الأراضي من الأعشاب الضارة، وقطاف الثمار، واقتلاع البطاطا، وجمعها في أكياس.
ولا تقتصر الآلام على العاملات في الزراعة، فالمعلمات أيضاً يعانين من الوقوف لساعات طويلة أثناء الشرح والتنقل بين الطلاب. وبشكل عام، لكل مهنة نوعها الخاص من الإرهاق الجسدي، والذي يتضاعف عند الجمع بين العمل داخل المنزل وخارجه.
تعلق أم محمود (45 عامًا) من ريف حماة، وأم لخمسة أبناء:"خلال العمل في الأرض، نضطر للاستيقاظ قبل بزوغ الفجر. أشعر أحياناً وكأن ظهري سينكسر، لكن لا خيار أمامي، فلا يكفي دخل زوجي من عمله في مكبس الحجارة لتلبية متطلبات الأسرة. أتعب كثيراً، وأشعر بآلام في أنحاء مختلفة من جسدي، وعندما أعجز عن التحمل، أضطر للبقاء في المنزل حتى أتحسن، ثم أعود للعمل من جديد".
ضرورات العمل
وتعيش كثير من النساء تحت ضغط نفسي ناتج عن تراكُم المهام والمسؤوليات، مما يؤدي إلى شعور دائم بالقلق والتوتر والتفكير الزائد، وقد يصل الأمر إلى اضطرابات في النوم. ومع ذلك، لا يستطعن التخلي عن أحد العملين، فالمنزل واجب مفروض عليهن حسب العادات والتقاليد، والعمل الخارجي أصبح ضرورة ملحّة في ظل تدهور الأوضاع الاقتصادية وصعوبة تأمين أبسط مقومات المعيشة.
بل إن بعض النساء اضطررن لتحمّل مسؤولية الأسرة كاملة، خاصة في ظل ظروف الحرب، التي أودت بحياة بعض الأزواج، وأدت إلى اعتقال البعض الآخر، مما أجبر النساء على لعب دوري الأب والأم في آنٍ واحد.
تحكي سلمى (42 عامًا) من ريف دمشق:"اعتُقل زوجي في بدايات الثورة، ثم انقطعت أخباره كلياً. قررت ألا أستسلم، وأن أقوم بواجباتي تجاه الأسرة بالكامل. ساعدتني عائلتي قليلاً، لكن ذلك لم يكن كافياً، فاضطررت للعمل. وبعد تهجيرنا إلى إدلب، التحقت بدورات تدريبية في الدعم النفسي، وتمكنت من الحصول على وظيفة براتب جيد. وبعد تحرير السجون، لم نعثر على زوجي، ويُرجّح أنه استُشهد".
وتواصل سيدات سوريات على متابعة مهامهن يومياً، صابرات على التحديات الجسدية والنفسية التي يواجهنها بصبر وقوة لا توصف، لأنهن العمود الفقري لأسرهن، مجسدات مثالاً حقيقياً للصمود في وجه الظروف القاسية.