
دعوة لتصحيح مسار الانتقال السياسي في سوريا عبر تعزيز الجبهة الداخلية
فضل عبد الغني
يمثّل الانتقال السياسي في أعقاب الصراعات المسلحة الداخلية منعطفاً حاسماً في مسار أي دولة نحو السلام المستدام والحكم الديمقراطي، وفي الحالة السورية، تكتسب هذه المرحلة الانتقالية أهمية استثنائية، نظراً لتزامنها مع تحديين مترابطين: إعادة بناء مؤسسات داخلية منهارة، وإدارة تهديدات خارجية معقدة ومتعددة الأوجه وفي مقدمتها الاحتلال والعدوان الإسرائيلي.
يجادل هذا المقال بأن نجاح سوريا في مواجهة هذه التهديدات الخارجية خلال المرحلة الانتقالية يتوقف على التعزيز المنهجي للبنى الداخلية، فالتحولات التي تُركّز على النهج التنازلي وتتجاهل العمليات التشاورية الشاملة، تقود بالضرورة إلى تفكك المؤسسات واستمرار حالة اللااستقرار.
في المقابل، تُظهر النماذج الناجحة أن المؤسسات الانتقالية التعددية، والمشاركة السياسية الواسعة، والحماية المتكاملة للحقوق، تشكّل الأسس الضرورية لتوافقات تأسيس الدولة وترسيخ ديمقراطية مستدامة، وأنّ التحوّل السياسي في سوريا لا يمكن أن يُختزل في عملية نقل للسلطة أو إصلاح مؤسسي سطحي، بل يجب أن يُفضي إلى إعادة صياغة جذرية للعلاقة بين الدولة والمجتمع.
ركائز التوحيد الداخلي
ينطلق الإطار النظري لفهم التحول السياسي في سوريا من النموذج المتكامل لترسيخ الديمقراطية الذي طوّره لينز وستيبان، والذي يُحدّد خمس مجالات مترابطة لتحقيق التنمية الديمقراطية المستدامة: (المجتمع المدني، المجتمع السياسي، سيادة القانون، البيروقراطية الحكومية، الاقتصاد المؤسسي)، لا تعمل هذه المجالات كوحدات منفصلة، بل كنظم متشابكة يحدد تفاعلها الجماعي نجاح عملية الانتقال بعد الصراع.
تبرز العلاقة بين التصميم المؤسسي ومنع تكرار النزاع المسلح كعامل أساسي في نجاح المرحلة الانتقالية في سوريا.
وتُظهر الدراسات المستقاة من تجارب دول ما بعد النزاع أن الهياكل المؤسسية المصممة بعناية تُشكّل أدوات فاعلة لإدارة التحديات الداخلية ومواجهة التهديدات الخارجية، كما تشير إلى أن المؤسسات القائمة على آليات صنع قرار توافقية، والمدعومة بأطر للمشاركة والمراقبة الأممية، تُسهم بشكل كبير في تقليص احتمالات تجدد الصراع، ويُعدّ هذا الاستنتاج بمنزلة نقد مباشر للنُهج التي تُغلب التغيير السريع على حساب التصميم التشاركي الشامل.
تلعب آليات اتخاذ القرار التوافقي دوراً محورياً في منع الانقسامات المجتمعية خلال الفترات الانتقالية، وتشير العديد من أدبيات الانتقال السياسي إلى أن ترتيبات تقاسم السلطة تُعزز فرص السلام عبر ثلاث آليات مترابطة:
تقديم ضمانات أمنية للفئات المتحاربة سابقاً.
تأكيد المشاركة السياسية المستقبلية لهذه الجماعات ضمن بنية الدولة.
إنشاء مؤسسات تُتيح معالجة مظالم الماضي بشكل بنّاء.
ويُسهم هذا التكامل في تحويل النزاع الصفري إلى منافسة ديمقراطية بنّاءة، مما يعزّز قدرة الجبهة الداخلية على مواجهة الضغوط الخارجية من دون اللجوء إلى استبداد جديد أو عنف متجدد.
المشاركة السياسية كبنية تحتية ديمقراطية
إن المشاركة السياسية لجميع مكوّنات المجتمع تمثل ركيزة محورية لتعزيز الجبهة الداخلية خلال المرحلة الانتقالية في سوريا، هذا النموذج التشاركي يجب أن يشمل المشاركة الفعّالة في بناء المؤسسات، وصياغة السياسات، وتشكيل هياكل الحوكمة، لأن المشاركة الواسعة تؤدي أدواراً متعددة: فهي تمنح المؤسسات شرعية مجتمعية، وتفتح قنوات سلمية للتعبير عن المظالم، وتُعزز التماسك الاجتماعي الضروري لترسيخ الديمقراطية.
تشكّل قنوات التعبير عن المظالم بُعداً أساسياً من بنية المشاركة السياسية، فوجود آليات مؤسسية لتسوية النزاعات -سواء من خلال البرلمانات أو منظمات المجتمع المدني أو القضاء- يوفر بدائل سلمية للعنف في معالجة التوترات السياسية..
تتجلى فعالية المشاركة السياسية في قدرتها على تحويل المؤسسات من هياكل مفروضة إلى تعبيرات أصيلة عن الإرادة العامة، فعندما تُهيئ المؤسسات الانتقالية بيئة شاملة للمشاركة، فإنها تولّد ما يُعرف بـ"شرعية المدخلات"، أي الشعور بأن بنية الحكم تعكس القيم والتفضيلات الجمعية، وتُعد هذه الشرعية ضرورية لضمان الالتزام بالمعايير الديمقراطية الجديدة ومنع عودة البُنى الموازية التي قد تُقوّض الدولة في مواجهة التحديات الخارجية.
كذلك، تشكّل قنوات التعبير عن المظالم بُعداً أساسياً من بنية المشاركة السياسية، فوجود آليات مؤسسية لتسوية النزاعات -سواء من خلال البرلمانات أو منظمات المجتمع المدني أو القضاء- يوفر بدائل سلمية للعنف في معالجة التوترات السياسية، ويجب أن تُصمَّم هذه القنوات بحيث تكون متاحة لجميع فئات المجتمع، لا سيما الفئات المهمشة تاريخياً أو المتضررة من النزاع، وهنا تتبدى العلاقة التكاملية بين الشمولية المؤسسية والمشاركة الشعبية: فكل منهما يُعزّز الآخر، ويُسهم في بناء منظومة ديمقراطية مرنة قادرة على التكيّف مع الأزمات من دون الانهيار.
إطار الحقوق وحماية الأقليات
تبرز حماية حقوق الأقليات كركيزة لمنع اندلاع الصراعات وتعزيز الاستقرار خلال المرحلة الانتقالية في سوريا، وتشير أدبيات الانتقال السياسي إلى أربع فئات أساسية من هذه الحقوق ينبغي معالجتها بشكل مباشر: الحق في الوجود، الذي يحمي الجماعات من التهجير القسري أو الإقصاء الجسدي؛ والحق في الهوية، الذي يضمن حرية التعبير الثقافي واللغوي والديني؛ والحق في عدم التمييز، الذي يُكفل المساواة أمام القانون؛ وأخيرًا، الحق في المشاركة السياسية والاقتصادية، الذي يُتيح الانخراط الفعّال في عمليات الحوكمة والتنمية.
يتجاوز تكريس هذه الحقوق في الدستور مجرد الالتزام الرمزي، إذ يُشكّل قاعدة قانونية صلبة للوقاية من تجدد الصراع.
وتبيّن التعديد من التجارب أنه عندما تُحمى حقوق الأقليات دستورياً وتُفعّل عبر النظم الانتخابية، والمؤسسات القضائية، والهياكل التعليمية قبل تصاعد التوترات، فإن احتمالية اندلاع نزاعات عنيفة تتراجع بدرجة ملحوظة.
وتكتسب هذه الوظيفة الوقائية أهمية مضاعفة في السياق السوري، حيث يُعد التعايش بين جماعات متنوعة ضمن بنية ديمقراطية موحّدة ضرورةً لا مفر منها، شرط الحفاظ في الوقت نفسه على الهويات الخاصة لهذه الجماعات.
ولا تقتصر الإمكانات التحويلية للنهج القائم على الحقوق على منع الصراعات، بل تمتد لتشمل إعادة صياغة العلاقة بين الدولة والمجتمع من جذورها، وتُشدد أدبيات العدالة الانتقالية على أن تكون الأطر الحقوقية متمحورة حول الضحايا، وأن تعزّز ملكية المجتمع لعملية التحول.
يعمل هذا النهج على مستويات متعدّدة: فهو يُحوّل الضحايا من متلقين سلبيين إلى فاعلين يملكون حقوقًا؛ ويُسهِم في المصالحة عبر الاعتراف بالانتهاكات الماضية؛ ويُعيد بناء مؤسسات الدولة التي كانت سببًا أو أداة في استمرار انتهاكات الحقوق.
إن تمكين الأفراد والمجتمعات من التعبير عن ذواتهم كأصحاب حقوق يُعيد الاعتبار للكرامة الإنسانية، ويُعزز بالتوازي شرعية النظام الديمقراطي والتماسك المجتمعي.
آليات التحول المستدام – التماسك الاجتماعي والمواطنة التعددية
يُعرَّف التماسك الاجتماعي بأنه قدرة المجتمع على ضمان رفاه جميع أفراده، مع الحد من أوجه عدم المساواة وتفادي الاستقطاب، ويتجاوز هذا المفهوم مجرد الانسجام المجتمعي السطحي، ليُشكل الركيزة الضرورية التي تُرسّخ المؤسسات الديمقراطية وتُتيح لها الازدهار.
وفي السياق السوري الانتقالي، يبرز التماسك الاجتماعي كضرورة ملحّة لإعادة بناء مجتمع ممزّق وتحويله إلى كيان سياسي موحّد قادر على الحكم الذاتي الديمقراطي.
تتطلب آليات الحد من عدم المساواة ومعالجة الاستقطاب مقاربات تشمل الجوانب الهيكلية والإجرائية للحوكمة، وتُشير الدراسات إلى أن الحد من التفاوتات يتم عبر مسارات متعددة:
أولها السياسات المعتمدة على إعادة التوزيع التي تُعالج الفجوات الاقتصادية.
ثانيها التصميمات المؤسسية الشاملة التي تضمن التمثيل العادل.
ثالثها الرمزية السياسية التي تعترف بالمظالم التاريخية وتُعزز آفاق المصالحة المستقبلية.
ينبغي أن تعمل هذه الآليات بتوازٍ لمنع تحوّل الانقسامات التي أفرزها الصراع إلى انقسامات سياسية دائمة، كما يتطلّب تفادي الاستقطاب تركيزاً على قنوات التواصل الفعالة، والتربية المدنية، وتوسيع شبكات اجتماعية عابرة للهويات الطائفية أو الأيديولوجية.
وفي هذا السياق، يبرز ترسيخ المواطنة التعددية كهدف أساسي لسياسات التماسك الاجتماعي، ويُشكّل هذا النموذج المتقدّم للانتماء السياسي صيغةً تُزاوج بين الحقوق والمسؤوليات في إطار يدمج مختلف الجماعات الهوياتية ضمن نسيج مدني موحّد.
وتتجاوز المواطنة التعددية مفهوم "التسامح" إلى الاعتراف الفعّال بالهويات المتنوعة ضمن إطار قانوني ومؤسسي جامع، وتُظهر الأدبيات أن كلًّا من الديمقراطية والتماسك الاجتماعي يعزّزان هذا النمط من المواطنة عبر آليات متداخلة تُقرّ بالتنوع، وتُبني في آنٍ واحد مشروعاً سياسياً مشتركاً.
وتفرض هذه الصيغة المؤسسية للمواطنة التعددية نفسها كضرورة خاصة في الحالة السورية، إذ تُتيح إدارة التنوع، مما يُنشئ ما يُطلق عليه المُنظرون السياسيون "الوحدة في التنوع".
التصميم الدستوري (في الحالة السورية: الإعلان الدستوري الذي يحكم سوريا لخمس سنوات)
يُعدّ تصميم الدستور في مجتمعات ما بعد النزاع فرصة نادرة لبناء رؤى مشتركة حول مستقبل الدولة، ووضع خرائط طريق ملموسة لترسيخ الديمقراطية.
وتُجمع الدراسات على أن عملية إعداد الدستور، وكذلك مضمونه، يؤثران تأثيراً جوهرياً في نتائج المرحلة الانتقالية، إذ تؤسس العمليات التشاركية لأسس أكثر متانة للحكم مقارنةً بالمسارات الفوقية أو الإقصائية، وفي السياق السوري، لا ينبغي النظر إلى وضع الدستور كمجرد إجراء قانوني، بل كفعل سياسي تخييلي يُعيد تعريف أسس التعايش في الدولة الجديدة.
تتجلّى العلاقة بين صياغة الدستور والممارسة الديمقراطية من خلال آليات متعددة، فعمليات وضع الدساتير التشاركية تعمل كـ"مدارس للديمقراطية"، تُكسب المواطنين والنخب مهارات الحوار، والتفاوض، والتسوية، والاختلاف المنتج، وهي مهارات أساسية لبناء الحكم الرشيد.
وتشير الأدبيات إلى أن فترات الانتقال غالباً ما تشهد مراجعة أو إعادة صياغة للدساتير الوطنية بما يعكس القيم الجديدة، ما يُثبت أن الصياغة التعددية للدستور تُؤثر بعمق على فرص نجاح المرحلة الانتقالية، فعندما تتضمن العملية الدستورية أصواتاً متعددة ووجهات نظر متنوعة، فإن النص الناتج يُجسّد تعقيد النسيج المجتمعي ويوفر إطاراً لإدارته سلمياً.
ويظهر دور الأطر الدستورية الشاملة في تعزيز قدرة الدولة على الاستجابة للتهديدات الخارجية من خلال بناء هياكل حوكمة موحّدة ومرنة، فالدساتير التي تُوازن بين الوحدة والتنوع، والمركزية واللامركزية، والثبات والقدرة على التكيف، تُوفر للدولة الأدوات المؤسسية اللازمة لمواجهة التحديات الخارجية من دون المساس بالمبادئ الديمقراطية.
يبرز الترابط البنيوي بين المشاركة السياسية، وحماية الحقوق، والتماسك الاجتماعي كعنصر أساسي في نجاح التحولات ما بعد الصراع، فهذه العناصر تتفاعل كمكونات متكاملة ضمن استراتيجية تحوّل شاملة..
وتبرز أهمية هذا التوازن في الحالة السورية، حيث تصبح الحاجة ملحّة لصياغة أحكام دستورية واضحة تتعلّق بحوكمة الطوارئ، والرقابة على قطاع الأمن والجيش، والفصل بين السلطات، بما يضمن حماية المؤسسات الديمقراطية ويُمكّن من استجابات فعالة للمخاوف الأمنية الحقيقية.
خاتمة
يُظهر استعراض الأدبيات النظرية والتجريبية دعمًا للفرضية التي تؤكد أن قدرة سوريا على التصدي للتهديدات الخارجية خلال المرحلة الانتقالية تعتمد، في جوهرها، على التعزيز المنهجي للجبهة الداخلية، وذلك من خلال مشاركة سياسية شاملة، وحماية قوية للحقوق.
فالتحولات الديمقراطية المستدامة لا تُختزل في وقف الصراع أو نقل السلطة، بل تتطلب إعادة بناء جذرية في العلاقة بين الدولة والمجتمع، تقوم على إصلاح مؤسسي، وتجديد اجتماعي، وإدماج سياسي متكامل.
ويبرز الترابط البنيوي بين المشاركة السياسية، وحماية الحقوق، والتماسك الاجتماعي كعنصر أساسي في نجاح التحولات ما بعد الصراع، فهذه العناصر تتفاعل كمكونات متكاملة ضمن استراتيجية تحوّل شاملة: تمنح المشاركة السياسية شرعية للمؤسسات الجديدة، وتُمهّد لحلول سلمية للنزاعات، وتُحصّن حماية الحقوق مسار التحول من عودة المظالم، ويُؤسس التماسك الاجتماعي قاعدة مجتمعية صلبة لترسيخ الديمقراطية.
ويُظهر هذا التفاعل الثلاثي أن أي محاولة لترجيح عنصر على حساب آخر من شأنها إضعاف العملية برمتها، وإعادة إنتاج الهشاشة المؤسساتية والانقسامات الداخلية.
وتُعبّر الدعوة إلى تعزيز الداخل لمواجهة الخارج عن فهم متقدم لمفهوم الأمن في سياقات ما بعد النزاع. فالنماذج الأمنية التقليدية التي تُركّز على القدرات العسكرية أو السيطرة الاستبدادية أثبتت عدم جدواها في إدارة التعقيدات التي تواجه المجتمعات الانتقالية.
وتُظهر الدراسات الحديثة أن المؤسسات الديمقراطية الشاملة والمرنة تُوفّر الآليات الأنجع لمواجهة التهديدات الخارجية من دون تقويض الأسس الديمقراطية أو إثارة مقاومة داخلية، وتتحدى هذه النتيجة الافتراض الشائع بأن الديمقراطية والأمن هدفان متعارضان، كاشفةً عن تداخلهما الحيوي في مسار بناء السلام.
في السياق السوري، يعني هذا أن السبيل الأكثر فاعلية لمواجهة التهديدات الخارجية يبدأ من الداخل: ببناء مرونة ديمقراطية من خلال عمليات قد تكون شائكة لكنها ضرورية، تُؤسس لسلام مستدام وأمن طويل الأمد وكرامة إنسانية حقيقية.
ويُعدّ نجاح هذا المسار حجر الزاوية في مستقبل سوريا كدولة ديمقراطية ذات سيادة، قادرة على التعامل مع تعقيدات الإقليم، وضامنة لحقوق ورفاهية مواطنيها كافة.