شخصيات تجرأت على الديكتاتور
* في مثل هذه الأيام، قبل ثماني عشرة سنة، وقف "ابن العم"، المناضل السوري الكبير، رياض الترك، أمام شاشة قناة الجزيرة، مسجلاً ريادةً صعبةً إلى درجة الاستحالة، إذ قال، بكل وضوح: مات الديكتاتور حافظ الأسد.
* كان صديقي الإدلبي، الراحل أبو زياد مَشْلَح رجلاً هَجَّاء وساخراً من الطراز الرفيع، وهو من أوائل الرجال الذين تجرأوا على نقد الوحدة التي قامت في سنة 1958 بين مصر وسورية.. في تلك الأيام البعيدة، بدأ الناس يسمعون بـ "المكتب الثاني"، وبشيء اسمه الاعتقال، فكنتَ لا تَعْدَمُ رجلاً يسأل جاره في الحارة باستغراب: جاري، أيش يعني اعتقال؟ فيشرح له الجار أن عناصر المكتب الثاني يأخذون رجلاً ما من بيته، أو من دكانه، أو في أثناء سفره من بلدٍ إلى بلد، ويعملون له دولاب و.. فيقاطعه الأول قائلاً: دولاب؟ تقصد دولاب سيارة، أم ماذا؟
كان أبو زياد قادراً على إضحاك امرأةٍ تَلَقَّتْ خبر موت ولدها للتو، فهو يمتلك مخيلةً فكاهية استثنائية، تُمَكِّنُه من تحويل الحدث الواقعي إلى طُرفة، ففي حين لم يكن أحد يجرؤ على ذكر المكتب الثاني، ورئيسه العقيد عبد الحميد السرّاج الذي اكتسب لقب "رجل الرعب"، كان أبو زياد يقول لصديقٍ يلتقيه في القهوة: أيش بك؟ ليش قالب خلقتك ومرعوب متل اللي رايح على التحقيق عند جماعة السرّاج؟ ويقول لآخر، ممازحاً: ليش هيك مجحش، ورافع مناخيرك لفوق، متل عناصر الشعبة السياسية؟
وفي مرةٍ، اشترى أبو زياد كندرةً من دكان صديقه أبو سمير.. واكتشف أنها ضيقة، وصار يمشي، كما وصف نفسه لاحقاً، مثل طائر "الحاج لَكْلَكْ".. وبعد دورتين في المدينة، رجع إلى دكان أبي سمير في "سوق الكندرجية"، وقال له: الكندرة ضيقة، يا ريت تعطيني بدلاً عنها واحدة أكثر اتساعاً. لم يرد أبو سمير، وأشار بيده نحو كرتونة متسخةٍ كُتِبَتْ عليها عبارة (البضاعة التي تُباع لا تُرَدّ ولا تُبَدَّل).. خرج أبو زياد من الدكان، وصار يقف في الأسواق والمقاهي والأزقة مع مَن يلتقيهم من أهل البلد، ويقول: إنه لا يوجد أغبى، ولا أجحش، من جماعة السرّاج، يضعون الرجل في الدولاب، ويضربونه مئة عصا، مئتين.. ليعترف بأنه شيوعي، ثم يسوقونه، بعدها، إلى سجن المزة. لو أنهم أذكياء لكانوا اشتروا لكل متهم كندرةً من دكان أبي سمير، وأجبروه على ارتدائها، فيعترف بأنه عميل للاتحاد السوفييتي وللأميركان معاً.. عميل مزدوج يعني.
* أمضى صديقي الأديب الراحل، عبد الكريم أبا زيد، عمره في هجاء قانون الطوارئ الذي حكم حافظ الأسد ووريثُه سورية بموجبه منذ انقلاب 1970. وقد بلغ نشاطُه الأوجَ في عهد بشار الأسد، حتى إن صحيفة النور، صحيفة الحزب الشيوعي الذي ينتمي إليه، ما عادت قادرةً على تحمل جرأته، فصارت توقفه عن الكتابة بين حين وآخر.
تحدث أبا زيد، في أحد أعمدته الصحفية، عن مرضٍ مؤلم ذي منشأ عصبي، أصابه، تَمَثَّلَ بظهور فقاعاتٍ في أحد جوانب بطنه، ووصف الألم الناجم عنها بأنه لا يطاق. وكتب إن سبب هذا المرض، كما أخبره الطبيب، هو القلق النفسي، وعدم الشعور بالأمان والاستقرار في الحياة. ثم شرح للقراء، بلهجةٍ حياديةٍ، علميةٍ، باردة، مُخاتلة، أن الناس الذين عاشوا في ظل قانون الطوارئ نوعان، الأول تتبلد أحاسيسه ويعتاد "التطنيش"، ولا يهمه شيء مهما كان فظيعاً، والثاني هو الإنسان الحساس الذي يُصاب بالأمراض ذات المنشأ العصبي النفسي. ثم تَوَصَّلَ، بالمحاكمة العقلية، إلى نتيجةٍ مهمة، أشار فيها إلى أن الأجهزة الأمنية تستطيع أن تعتمد على هذه النتيجة، لمعرفة مَنْ هم أعداء الوطن (يعني أعداء النظام!) وهي: أن كل إنسان يصاب بمرضٍ ذي منشأ عصبي هو معادٍ للنظام، أو بصيغة ألطف: معارض.. أي: عميل.