تحاول هيئة تحرير الشام عبر منابرها الإعلامية الرسمية منها "وكالة إباء" والمناصرة من حسابات وهمية وغرف تلغرام، تسوق صورة سيئة لفصائل الجيش السورية الحر، لم تكن البداية في عفرين، بل منذ بداية تشكيل "جبهة النصرة" وعبر الماكينات الإعلامية المتعددة لها، حتى أوصلت الفكرة وزرعتها في عقول المدنيين تحت شعار "الجيش الحر حرامي".
وكالة "إباء" وفي تقرير اليوم سلطت الضوء على حالة الخلل الأمني في منطقة عفرين التي تدار من قبل فصائل الجيش الوطني، والتي حررت مؤخراً قبل عدة أشهر، محاولة إبراز عمليات السرقة التي حصلت إبان تحرير المدينة، وكذلك تبيان عجز الفصائل عن إدارة المنطقة.
وجاء في تقرير "إباء" إنه و "بعد انتشار صور السرقة على مواقع التواصل وُضعت الفصائل في موقف محرج أمام الأهالي في عفرين وأمام تركيا بعد تقديمهم نموذج متدني في معاملة أهل المنطقة، ما اضطر قادة هذه الفصائل لإيقاف ظاهرة السرقة تجنبا للسخط الداخلي والخارجي عليهم، وانتشرت صوتيات لقائد “فرقة السلطان مراد” مخاطبًا عناصره: “أنتم أغبياء!!، لاتنشروا الصور”".
كما سلطت الضوء على التفجيرات والاغتيالات والخطف التي طالت المنطقة، وعمليات الابتزاز على الحواجز وطلب الأموال منهم ووصلت لحد الحديث عما أسمته "مضايقة النساء" هناك.
وحللت "إباء" أن أبرز أسباب الفوضى والفساد في عفرين هو النزاع الفصائلي على مقدرات المنطقة أو على النفوذ، مستشهدة بتدوينة للصحفي “أحمد زيدان” كان قد أشار فيها أن ما يجري في عفرين ومدينة الباب يفرض على الفصائل أن تساهم كلها بحكومة الإنقاذ، إذ يبقى انموذج إدارة إدلب الأفضل حتى الآن.
هذه القضايا التي سلطت عليها "إباء" الضوء هي غيض من فيض لما تعانيه محافظة إدلب في ظل حكم وإدارة الهيئة والذي أهملت ذكره وتناولت حالة الخلل الأمني حسب وصفها في منطقة لم يمر على تحريرها بضع أشهر، لم تسجل فيها الممارسات المذكرة واحداً بالمئة مما مارسته تحرير الشام وكوادرها في إدلب خلال أربع سنوات من التحرير.
ولعل كل حالة الخلل الأمني وتردي الأوضاع الأمنية وسلسلة التفجيرات والاغتيالات والخطف وضعف الإدارة والاستغلال والتضييق والاعتقال والمضايقات والاقتحامات والتعدي على الأملاك في إدلب والتي تقوم بها هيئة تحرير الشام لم تعلم بها "إباء" ولا الصحفي "أحمد زيدان" الذي غفل في تدوينته لما مارسته حكومة الإنقاذ ولاتزال من إنهاء المؤسسات المدنية، وماتقوم به من فرض أتاوات وتضييق كذراع مدني للهيئة، في وقت غابت أي خدمات للمناطق المحررة.
وتحاول "إباء" والماكينة الإعلامية لهيئة تحرير الشام بشكل دائم على تصوير مناطق ريف حلب الشمالي الخاضعة لسيطرة فصائل الجيش السوري الحر وأخرها منطقة عفرين المحررة مؤخراً بأنها مناطق غير أمنة تحكمها النزاعات وأنها غير منظمة إدارياً مقدمة نفسها كصورة رائدة في هذه المجالات وكيف والتفجيرات أمام مقراتها شاهدة على قدرتها الأمنية وأكوام القمامة في شوارع مدينة إدلب شاهدة على خدمات حكومتها الإنقاذ وحسن إدارتها ....
لم يدخل النازحون السوريون إلى لبنان حباً بأرضه واختيار السكن في خيم تفتقر إلى الحد الأدنى من مقومات الحياة، ولا تليق بالبشر، بل أجبرهم نظام دمشق على الهجرة وإذلالهم في المنافي، سواء أكان في لبنان أم في الأردن وتركيا أو سائر أقطار الأرض. افتخر النظام أكثر من مرة بأن هذا التهجير كان ضرورياً لخلق تجانس اجتماعي في سورية، وتغيير ديموغرافي يحتاجه النظام للإمساك بالبلد على قاعدة من الهوية المذهبية الصافية. لذا كان الرئيس السوري صريحاً بأن عودة هذه الكتل البشرية، ذات الهوية الطائفية المحددة، غير مرغوب فيها. لم يكتف النظام بالتهجير القسري، بل تعاون مع قوى لبنانية لا تزال تدين بالولاء له على خطف عناصر يعتبرها معادية له وإرسالها إلى السجون السورية. لذا، إذا كان لا بد من نقاش موضوع النازحين السوريين الحامي الوطيس لبنانياً، فإن مدخل النقاش يبدأ من سورية وسياسة نظامها تجاه هذه العودة.
لم تكن المرة الأولى التي يثار فيها موضوع النازحين وضرورة عودتهم إلى بلادهم. ولم يكن النقاش اللبناني يتسم بالموضوعية والمصلحة الوطنية، بل كان دوماً خاضعاً لمصالح سياسية محلية وأغراض يمكن القول عنها إنها «دنيئة». في التاريخ اللبناني، وقبل هذا التهجير الذي ترافق مع الانتفاضة السورية وحربها الأهلية، كان الوجود السوري، على شكل عمالة متعددة الاتجاهات، يتواجد بكثافة. وعلى رغم أن هذه العمالة السورية مسؤولة، في شكل كبير، عن نهوض قطاعات أساسية في الاقتصاد اللبناني، مثل البناء والزراعة، إلا أن النظرة العنصرية اللبنانية كانت دوماً ترتفع في وجه هذه العمالة. والأمر نفسه ينطبق على الوجود الفلسطيني الذي استخدم دوماً فزاعة في وجه مجموعات لبنانية، وكان أحد شعارات الحرب الأهلية طرد الغرباء من لبنان، والمعني بهم كل عربي، بل وكل لبناني لا يقول بخطاب التيارات اليمينية بمنطق ذلك الزمان.
في المعركة المفتوحة اليوم على لسان رئيس التيار الوطني الحر مع الأمم المتحدة حول النازحين السوريين، تختلط فيها البروباغندا الإعلامية مع الصراعات السياسية الداخلية، ومع التغطية على فضائح وملفات داخلية. وكما يُقال كلام حق يراد به باطل. لا شك أن العدد الكبير من النازحين على الأرض اللبنانية يشكل عبئاً متعدد المستويات، اقتصادياً وبيئياً وصحياً واجتماعياً... وهو أمر لا ينكره أحد. كما أن ضرورة عودة النازحين إلى سورية نقطة لا خلاف عليها داخلياً وخارجياً. فلماذا وجد البلد نفسه أمام حملة مسعورة ضد النزوح السوري، وإثارة التحريض العنصري ضدهم، واستثارة الغرائز الطائفية من أن وجودهم سيغير المعادلات الديموغرافية في البلد، وبالتالي لا حل إلا بإعادتهم فوراً. استند العنصريون اللبنانيون على تحذيرات المفوضية العامة من العودة إذا لم يكن الأمان السياسي متوفرا لهم، وهو أمر طبيعي يصدر عن منظمة دولية تتولى رعايتهم.
فجأة انتفض وزير الخارجية اللبناني ضد المفوضية واتخذ إجراءات بحق موظفيها، وأثار حملة ديماغوجية وشعبوية تحت عنوان أن الأمم المتحدة تريد توطين النازحين. جيّش جبران باسيل الغرائز، وأجبر قوى مسيحية على الالتحاق بخطابه، في مزايدة ذات أهداف واضحة. تجاوز باسيل صلاحياته في هذا الشان، وتصرف كأنه الآمر الناهي في البلد، وأنه رئيس الجمهورية بالوكالة قبل أن ينال هذا الموقع مستقبلاً، في وقت بدا رئيس الحكومة مشلول القرار، على الرغم من أن قرارات باسيل تقع ضمن صلاحية الحكومة وليس وزير الخارجية. يطرح ذلك أكثر من علامة استفهام حول الاتفاقات والصفقات المتابدلة التي أتت بالتسوية التي كرّست ميشال عون رئيساً وسعد الحريري رئيساً للوزراء.
تزداد الوقاحة اللبنانية الرسمية عندما ترتفع أصوات على أعلى المستويات تحمّل النازحين السوريين مسؤولية الأزمة الاقتصادية المستفحلة، والانهيار الاقتصادي المتوقع، ويذهب كثيرون إلى تحميلهم مسؤولية ارتفاع الدين العام. في بلد مثل لبنان، لا تخفى الأسباب الحقيقية لكل أزمة معلنة، وتبيان الحقيقي منها والمزيف. في الأزمة الراهنة والتي افتتحها العهد بوزرائه، يكمن الحقيقي فيها في السعي إلى التغطية على الفضائح التي يغرق بها العهد منذ مجيئه. من فضائح بواخر الكهرباء، إلى معالجة المشكلات الاجتماعية والحد من أزماتها، إلى المشكلات البيئية، إلى فضائح التهريب والرشى، وصولاً إلى فضيحة الفضائح المتعلقة بمرسوم التجنيس الذي تفوح منه روائح الرشى الضخمة التي دفعت لتجنيس أشخاص ملوثون بالملفات القضائية والسرقة والنهب. يضاف إلى ذلك تخبط الحكم، رئاسة وحكومة في الصراعات على المحاصصات الطائفية وعلى اقتسام كعكة السلطة.
كل ذلك يفسر إغراق اللبنانيين بموضوع خارج عن إرادتهم ويتصل بالنظام السوري الذي يضع العقبات أمام أي عودة للنازحين إلى ديارهم. ولا يخفى في هذا المجال التواطؤ الرسمي السوري– اللبناني لإعادة علاقات سمتها الأساسية عودة الوصاية السورية إلى البلد. والقوى اللبنانية الجاهزة لهذه الوصاية متعددة وعلى استعداد لوضع خدماتها، ويأتي في رأس هذه القوى العهد ووزراؤه ونوابه.
* في مثل هذه الأيام، قبل ثماني عشرة سنة، وقف "ابن العم"، المناضل السوري الكبير، رياض الترك، أمام شاشة قناة الجزيرة، مسجلاً ريادةً صعبةً إلى درجة الاستحالة، إذ قال، بكل وضوح: مات الديكتاتور حافظ الأسد.
* كان صديقي الإدلبي، الراحل أبو زياد مَشْلَح رجلاً هَجَّاء وساخراً من الطراز الرفيع، وهو من أوائل الرجال الذين تجرأوا على نقد الوحدة التي قامت في سنة 1958 بين مصر وسورية.. في تلك الأيام البعيدة، بدأ الناس يسمعون بـ "المكتب الثاني"، وبشيء اسمه الاعتقال، فكنتَ لا تَعْدَمُ رجلاً يسأل جاره في الحارة باستغراب: جاري، أيش يعني اعتقال؟ فيشرح له الجار أن عناصر المكتب الثاني يأخذون رجلاً ما من بيته، أو من دكانه، أو في أثناء سفره من بلدٍ إلى بلد، ويعملون له دولاب و.. فيقاطعه الأول قائلاً: دولاب؟ تقصد دولاب سيارة، أم ماذا؟
كان أبو زياد قادراً على إضحاك امرأةٍ تَلَقَّتْ خبر موت ولدها للتو، فهو يمتلك مخيلةً فكاهية استثنائية، تُمَكِّنُه من تحويل الحدث الواقعي إلى طُرفة، ففي حين لم يكن أحد يجرؤ على ذكر المكتب الثاني، ورئيسه العقيد عبد الحميد السرّاج الذي اكتسب لقب "رجل الرعب"، كان أبو زياد يقول لصديقٍ يلتقيه في القهوة: أيش بك؟ ليش قالب خلقتك ومرعوب متل اللي رايح على التحقيق عند جماعة السرّاج؟ ويقول لآخر، ممازحاً: ليش هيك مجحش، ورافع مناخيرك لفوق، متل عناصر الشعبة السياسية؟
وفي مرةٍ، اشترى أبو زياد كندرةً من دكان صديقه أبو سمير.. واكتشف أنها ضيقة، وصار يمشي، كما وصف نفسه لاحقاً، مثل طائر "الحاج لَكْلَكْ".. وبعد دورتين في المدينة، رجع إلى دكان أبي سمير في "سوق الكندرجية"، وقال له: الكندرة ضيقة، يا ريت تعطيني بدلاً عنها واحدة أكثر اتساعاً. لم يرد أبو سمير، وأشار بيده نحو كرتونة متسخةٍ كُتِبَتْ عليها عبارة (البضاعة التي تُباع لا تُرَدّ ولا تُبَدَّل).. خرج أبو زياد من الدكان، وصار يقف في الأسواق والمقاهي والأزقة مع مَن يلتقيهم من أهل البلد، ويقول: إنه لا يوجد أغبى، ولا أجحش، من جماعة السرّاج، يضعون الرجل في الدولاب، ويضربونه مئة عصا، مئتين.. ليعترف بأنه شيوعي، ثم يسوقونه، بعدها، إلى سجن المزة. لو أنهم أذكياء لكانوا اشتروا لكل متهم كندرةً من دكان أبي سمير، وأجبروه على ارتدائها، فيعترف بأنه عميل للاتحاد السوفييتي وللأميركان معاً.. عميل مزدوج يعني.
* أمضى صديقي الأديب الراحل، عبد الكريم أبا زيد، عمره في هجاء قانون الطوارئ الذي حكم حافظ الأسد ووريثُه سورية بموجبه منذ انقلاب 1970. وقد بلغ نشاطُه الأوجَ في عهد بشار الأسد، حتى إن صحيفة النور، صحيفة الحزب الشيوعي الذي ينتمي إليه، ما عادت قادرةً على تحمل جرأته، فصارت توقفه عن الكتابة بين حين وآخر.
تحدث أبا زيد، في أحد أعمدته الصحفية، عن مرضٍ مؤلم ذي منشأ عصبي، أصابه، تَمَثَّلَ بظهور فقاعاتٍ في أحد جوانب بطنه، ووصف الألم الناجم عنها بأنه لا يطاق. وكتب إن سبب هذا المرض، كما أخبره الطبيب، هو القلق النفسي، وعدم الشعور بالأمان والاستقرار في الحياة. ثم شرح للقراء، بلهجةٍ حياديةٍ، علميةٍ، باردة، مُخاتلة، أن الناس الذين عاشوا في ظل قانون الطوارئ نوعان، الأول تتبلد أحاسيسه ويعتاد "التطنيش"، ولا يهمه شيء مهما كان فظيعاً، والثاني هو الإنسان الحساس الذي يُصاب بالأمراض ذات المنشأ العصبي النفسي. ثم تَوَصَّلَ، بالمحاكمة العقلية، إلى نتيجةٍ مهمة، أشار فيها إلى أن الأجهزة الأمنية تستطيع أن تعتمد على هذه النتيجة، لمعرفة مَنْ هم أعداء الوطن (يعني أعداء النظام!) وهي: أن كل إنسان يصاب بمرضٍ ذي منشأ عصبي هو معادٍ للنظام، أو بصيغة ألطف: معارض.. أي: عميل.
إذا كانت مرحلة الحرب هي مرحلة الوحدة والانسجام بين الحلفاء، فإن مرحلة السياسة هي مرحلة الخلافات والتباينات، هذه قاعدة أساسية في العلاقات الدولية. ومن هنا، يمكن فهم انتقال الخلافات الروسية ـ الإيرانية في سورية من القوة إلى الفعل، وانتقال روسيا وإيران من مرحلة الصمت والسكون إلى مرحلة العلن والتصرف. إذ تعلن موسكو صراحة ضرورة خروج إيران والقوات التابعة لها من سورية، على الرغم من المحاولات الروسية اللاحقة لتهذيب تصريحات الكرملين، وهكذا يرتفع منسوب الرد الإيراني.
قوبلت التصريحات الروسية الإيرانية أول مرة بخطوات عملية: بدأت موسكو مضايقة القوى التابعة لإيران (القصير)، وإيران تعيد ترتيب وجودها في درعا، عبر تغيير اللباس العسكري، ضمن مشهدٍ يحمل ما يكفي من السخرية تجاه روسيا. لكن هذا الشقاق يجب النظر إليه من داخل الوحدة التي تجمع المحور الروسي ـ الإيراني، لفهم مستلزمات العلاقة التي تجمع بينهما، وتمنع الآخرين من الانحدار وراء أوهام تربك التخطيط والفعل السياسيين لمواجهة إيران في سورية.
هناك خلافات بين الجانبين، بدأت أخيرا على المستوى السياسي، مع انعقاد مؤتمر سوتشي، والتباين الحاصل حيال ورقة المبعوث الأممي، ستيفان دي ميستورا، واللجنة الدستورية، ثم تجلت اقتصاديا مع العقود التي أبرمها النظام السوري مع روسيا، ثم استراتيجيا مع إلغاء موسكو اتفاقيات عسكرية واقتصادية كبيرة بين طهران ودمشق، منها إنشاء قاعدة عسكرية إيرانية في طرطوس، ومصفاة لتكرير النفط.
المشكلة التي تواجهها روسيا مع إيران في سورية تكمن في ثلاث مستويات: أن الحضور الإيراني في مرحلة "ما بعد المعارك الكبرى" ساهم في إدخال إسرائيل ضمن المعادلة السورية بقوة، بعدما كان حضورها مقتصرا على مستوى معين. الحضور الإيراني القوي في سورية أحد أهم الأسباب وراء انعدام التقارب الجدي بين موسكو وواشنطن. الحضور العسكري الإيراني والدعم المالي الذي تقدمه طهران لدمشق، والتماهي بين العاصمتين إزاء الحل السياسي، عوامل أضعفت قدرة روسيا على ممارسة ضغوط كبيرة على النظام.
ولمواجهة هذا الواقع، تحتاج روسيا إلى تعاون من الولايات المتحدة تحديدا، لن يجد سبيله إلى الأرض، من دون حصول تفاهمات واسعة في سورية. وتحتاج روسيا إلى تقديم إغراءات إلى الولايات المتحدة، لرسم مسار الحل في سورية. ولذلك يمكن القول إن تصريح الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، ومن ثم تفسيرات مبعوث الرئيس الروسي الخاص إلى سورية، ألكسندر لافرينتييف، تبدو موجهة إلى واشنطن، أكثر مما هي إلى طهران. والسبب أنه ليس لدى موسكو القدرة على إرغام إيران للخروج من سورية، ولا الحد من قوة إيران داخل الجغرافيا السورية.
ويفرض هذا الواقع على موسكو اتباع سياسة الخطوة خطوة، لتقليص الدور الإيراني في سورية، مع ما يتطلبه ذلك من ترتيب بعض الملفات بين القوى الإقليمية، بحيث تكون مقدمة لخطوات لاحقة.
لا تخرج عن ذلك التفاهمات المعلنة بين روسيا وإسرائيل حيال الجولان، وكذلك التفاهمات المضمرة بين روسيا والولايات المتحدة حيال درعا. ولا يخرج عن ذلك أيضا إلغاء موسكو تسليم دمشق منظومة صواريخ إس 300، وتصريح مستشار بوتين المكلف بالتعاون العسكري والتقني، فلاديمير كوجين: "بيع هذه المنظومة الصاروخية إلى سورية ليس من اهتمامات موسكو، ولدى الجيش السوري كل ما يحتاجه لمواجهة أعدائه". ويوحي هذا التصريح بأن التهديد الإسرائيلي لا يشمل النظام السوري، بقدر ما يشمل إيران.
وقد تنتهي الترتيبات التي تعمل عليها روسيا بانسحاب إيران من الجنوب السوري، وهذا ثمن بسيط قد تدفعه إيران، طالما ليس لديها وجود عسكري قوي في الجنوب، لكن الروس سيكتشفون مجدّدا حدود قوتهم في سورية، وأنهم غير قادرين على فرض أجندات كبيرة، من دون تعاون دولي، لا سيما من الولايات المتحدة التي تفتقد رؤية استراتيجية واضحة المعالم تجاه التعاطي مع إيران.
يعقد هذا الوضع جهود روسيا حيال إيران ويربكها، في ظل عدم استجابة النظام السوري للمطالب الروسية، وهو الذي بحاجة إلى روسيا أكثر من إيران سياسيا، لكنه بحاجة إلى إيران أكثر اقتصاديا. والأهم أن النظام يستفيد من بعض التباينات بين موسكو وطهران، فمثل هذه التباينات تعطيه هامشا من المناورة للاستفادة من الطرفين أكثر مما ينبغي، وهو يفضل وجود قوتين داعمتين له أكثر من قوة واحدة، لأنه عند ذلك سيصبح أسيرا لها.
قبل النظام المقاربة الروسية في الجنوب السوري إلى حد ما، خصوصا في ما يتعلق بوصوله إلى خط الاشتباك في الجولان، والوصول إلى الحدود الأردنية، لكنه يرفض مبدأ الانسحاب الإيراني من أية بقعة جغرافية لاعتبارات إقليمية. وقد يقبل النظام بضبط الحضور الإيراني وسلوكه، لكن مبدأ الانسحاب، وإنْ جزئيا، يجب أن يرتبط باعتبارات استراتيجية، والأهم أن يخضع لحاجة النظام، وليس لحاجة روسيا.
وكلام الأسد واضح، مع ما فيه من رسائل إلى روسيا "المعركة طويلة ومستمرة.. وهناك حاجة إلى هذا الحلف الثلاثي، أي السوري الإيراني الروسي..".
لا يبدو واقع الكرد أفضل من حال بقية السوريين بأكثريتهم العربية، والأمر في هذا يبدو طبيعياً وسط البيئة السورية العامة المتدهورة، بخلاف ما يعتقد البعض أو ما يروج له من قبل شخصيات وجماعات ما زالت تسعى إلى تكريس اختلاف الكرد عن بقية مواطنيهم، سواء كان الاختلاف سلباً أو إيجاباً.
ففي المستوى الشعبي، أصاب الكرد ما أصاب غيرهم من قتل وجرح واعتقال وتهجير ولجوء وتدمير لقدراتهم المادية، وتعرضوا لاضطهاد النظام وحلفائه، ولم يفلتوا من هجمات وإجرام جماعات التطرف والإرهاب الديني والقومي من «داعش» والنصرة، وصولاً إلى قوات الحماية الشعبية، التي يقودها حزب الاتحاد الديمقراطي المحسوب بين تنظيماتهم، وقد تساوت حالتهم مع بقية السوريين.
ولم تكن الحال أفضل في المستوى السياسي. فواقع الانقسام والصراع الكردي حقيقة واقعة، تماثل حال غيرهم، والاصطفافات تكاد تكون متقاربة، وقد فشلت كل محاولات جمع الجماعات الكردية سواء في إطار تنظيمي واحد، أو في بناء جبهوي على نحو ما حدث في اتفاقية هوليير لعام 2012 التي وقعها الطرفان الكرديان الأساسيان؛ المجلس الوطني الكردي ومجلس شعب غرب كردستان برعاية من إقليم كردستان العراق، وبدل أن تتحسن العلاقات ساءت وتردت إلى الحد الأقصى، بحيث ذهب كل طرف في اتجاه مخالف أوصلهما إلى تناقض سياسي وعسكري، طوره حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يقود قوات الحماية الشعبية بحملات نفي واعتقال لقادة من المجلس الوطني الكردي ومصادرة ممتلكاتهم.
وبطبيعة الحال، فقد أدى ما أصاب الكتلة الشعبية الكردية إلى دمار المجموعة السكانية وتشتتها بين الداخل والخارج على نحو ما أصاب أكثرية السوريين، وصارت الأغلبية الكردية من اللاجئين موزعة في ثلاثة تجمعات رئيسية؛ القسم الأول منها في إقليم كردستان العراق، والثاني في تركيا، والقسم الثالث موزع في بلدان اللجوء الأوروبية وخصوصاً في ألمانيا، حيث الجالية الكردية الأكبر في أوروبا. فيما أكراد الداخل موزعون بين ثلاث مناطق؛ أولاها منطقة الجزيرة المحكومة بقوات سوريا الديمقراطية، التي يقودها حزب الاتحاد الديمقراطي وأرياف حلب الموزعة تحت سلطة قوات سوريا الديمقراطية في منطقة الشمال الشرقي، ومنطقة عفرين التي استولت عليها القوات التركية بعد حملة غصن الزيتون، التي هدف الأتراك من خلالها إلى طرد حزب الاتحاد الديمقراطي منها، والقسم الثالث من أكراد الداخل الموجودين في مناطق سيطرة نظام الأسد وأغلبيتهم موزعة بين حلب في الشمال ودمشق في الجنوب.
وترافق تشتت الكتلة السكانية الكردية مع تكريس انقسام سياسي كردي حاد. ففي الوقت الذي حافظت فيه أغلبية أحزاب المجلس الوطني الكردي على روابطها السياسية الهشة مع المعارضة المنضوية في الائتلاف الوطني السوري الوثيق العلاقة مع تركيا، سعى حزب الاتحاد الديمقراطي عبر تعبيرات سياسية - عسكرية إلى خط مختلف، يجمع تناقضات تحالفه مع الولايات المتحدة والعداء للسياسة التركية في سوريا، واستعداده للتفاهم والتسوية مع نظام الأسد.
ورغم ما يظهر من اتفاق سياسي كردي في الموقف من جماعات التطرف والإرهاب ولا سيما «داعش» والنصرة، فإن اختلافاً عميقاً، يظهر في الموقف السياسي من نظام الأسد. فطوال السنوات الماضية، تبنى المجلس الوطني الكردي موقف المعارضة من النظام وضرورة تحقيق حل سياسي في سوريا عبر جنيف، فيما أقام الاتحاد الديمقراطي علاقة قبول وتفاهم سياسي - عسكري مع النظام في منطقة الجزيرة، قبل أن يتحول بعد خسارته في معركة عفرين 2018 في مواجهة القوات التركية وحلفائها من تنظيمات المعارضة المسلحة إلى الإعلان عن قبوله حواراً غير مشروط مع نظام الأسد.
وكان من نتائج التشتت والصراع الكردي، خروج إجمالي تعبيراته السياسية/ العسكرية من خريطة الصراع في سوريا بعد تحوله إلى فاعلية وتأثيرات هامشية سواء بالنسبة للمجلس الوطني الذي فقد حاضنته الشعبية من جهة، وأصبح من جهة أخرى ملحقاً بالائتلاف الذي يعاني من ضعف ذاتي وتهميش من الفاعلين الأساسيين في القضية السورية أو لحزب الاتحاد الديمقراطي الذي ربط نفسه بالأجندة الأميركية، وصار أسير سياساتها السورية غير الواضحة، وأغرق نفسه في أتون صراع حاسم لتركيا، وأخذ يسعى لإيجاد مكان له في تسوية غير مشروطة مع نظام الأسد.
وكما هو واضح، فإن المسار السياسي للكرد السوريين، صار يعاني من مأزق مزدوج؛ جانبه الأول داخلي، يتعلق بالاختلافات والصراعات بين طرفيه الأساسيين، وذهب فيها إلى الحد الأقصى، وجانبه الثاني خارجي، ويتصل بجملة علاقاته مع الأطراف السورية والإقليمية والدولية المؤثرة بالقضية السورية، وفي الحالتين لا يتبين أفق واضح للخروج الكردي من هذا المأزق، ما يضيف مشكلات أخرى لمشكلات السوريين ودورهم في حل قضيتهم.
لم يكن ينقص رئيس المكتب السياسي لحركة “حماس” إسماعيل هنيّة سوى الطلب من أهالي مخيم اليرموك الاعتذار من النظام السوري بحجة أنّهم كانوا هم السبب في تدمير مخيّمهم.
يقع مخيّم اليرموك قرب دمشق وهو قام في العام 1957 على خلاف المخيمات الأخرى في سوريا ولبنان التي قامت مباشرة بعد نكبة 1948. مع الوقت، صار اليرموك أكبر تجمع للفلسطينيين في سوريا. ذهب فلسطينيو المخيّم الذي دمّر عن بكرة أبيه وعددهم عشرات الآلاف ضحية الحرب التي يشنّها النظام السوري على مواطنيه.
من سوء طالع أهل المخيّم أنّ سكانه ليسوا كلهم فلسطينيين. مع مرور السنين وانتشار الفقر في الجمهورية العربية السورية، جاء مواطنون فقراء وأقاموا في المخيّم وجواره. كان طبيعيا أن ينضمّ سوريون يبحثون عن بعض من كرامة إلى الثورة على النظام التي انطلقت في آذار – مارس من العام 2011. ما لم يكن طبيعيا أن يدخل تنظيم “داعش” المخيّم وينتشر فيه.
هل يدري السيد هنيّة الذي يقيم في غزّة ولا يعرف شيئا عمّا يدور في العالم أن “داعش” هو من ارتكابات النظام السوري، وأن دخوله مخيّم اليرموك يندرج في سياق سياسة اتبعها النظام منذ قيامه في العام 1970 وحتّى قبل ذلك، عندما كان حافظ الأسد لا يزال وزيرا للدفاع؟ تقوم هذه السياسة على المتاجرة بالفلسطينيين، خصوصا بأبناء المخيمات، فضلا عن استخدامهم في كل ما من شأنه استمرار حال اللاحرب واللاسلم في المنطقة. هذه الحال هي أفضل خدمة يستطيع النظام السوري تقديمها إلى إسرائيل، بل هي مبرّر وجوده.
يبدو أن رئيس المكتب السياسي لـ“حماس” من نوع الذين لا يستحون. لو لم يكن الأمر كذلك، ما هو تفسير قوله عن أن ما نسب إليه من كلام عن دعم الثورة السورية “غير صحيح”، مضيفا “أن النظام السوري وقف إلى جانب حماس في محطات مهمّة”. لم يحدّد هنيّة ما هي هذه المحطات المهمّة التي وقف فيها النظام السوري إلى جانب “حماس”، باستثناء أنّه شجع الحركة على تنفيذ عمليات انتحارية كي لا تقوم لعملية السلام قيامة في يوم من الأيّام وكي يتمكن أرييل شارون ثم بنيامين نتانياهو من القول إن “لا شريك فلسطينيا يمكن التفاوض معه”.
لدى “حماس”، كما لدى أي تنظيم ينتمي إلى الإخوان المسلمين، شبق ليس بعده شبق إلى السلطة. لذلك، لم يجد رئيس المكتب السياسي للحركة عيبا في الجمع بين التناقضات واللعب عليها متجاهلا أن قطاع غزّة في أزمة حقيقية لا تسمح بممارسة لعبة الضحك على الناس. على سبيل المثال وليس الحصر، قال هنية إنّه “في الوقت الذي تتجه حماس إلى علاقات قويّة مع مصر، تحافظ على علاقات قوية مع قطر وإيران”. رأى أن “إيران دولة محورية مهمة في المنطقة وعلاقة حماس معها تكتسب بعدا استراتيجيا”، مضيفا أن إيران “قدمت الكثير لمصلحة الشعب الفلسطيني ومقاومته الباسلة”.
ذهب رئيس المكتب السياسي لـ“حماس” إلى أبعد من ذلك إذ أكد أن الحركة “تتقاطع مع طهران في كلّ ما يتعلّق بالشأن الفلسطيني في الرؤية والوجهة”، وأن “العلاقة مع إيران اليوم في مرحلة مميّزة ومتقدّمة”.
عندما يتحدّث إسماعيل هنيّة بهذه الطريقة عن النظام السوري وإيران، لا يعود مستغربا ما حلّ بمخيّم اليرموك والفلسطينيين المقيمين فيه الذين صاروا مشرّدين مرّة أخرى. من لا يهمّه ما يحل بالفلسطينيين المقيمين في قطاع غزّة نفسه، لن يرفّ له جفن عندما يدمّر النظام السوري مخيّما بكامله على القاطنين فيه، بحجة أنّه يحارب “داعش” الذي هو من صنع هذا النظام نفسه.
هناك ممارسات لا مسؤولة تنمّ عن رغبة واضحة في اعتبار الشعب الفلسطيني مجرّد سلعة. أمس كان على “حماس” أن تختار بين قطر والنظام السوري. اختارت قطر. اليوم لم تعد في حاجة إلى أي خيار في هذا الشأن بعدما بدا أن قطر لم تعد معادية للنظام السوري. المهمّ بالنسبة إلى “حماس” الحصول على مساعدات ودعم ولا شيء آخر غير ذلك. كلّ الأمور تهون أمام الحصول على مساعدات توظّف في إبقاء الإمارة الإسلامية التي أنشأتها “حماس” في غزّة حيّة ترزق.
كلّ شيء يهون من أجل البقاء في السلطة، بما في ذلك توفير غطاء فلسطيني للنظام السوري الذي ورّط في الماضي الفلسطينيين في حرب لبنان عن سابق تصوّر وتصميم. هل تعرف “حماس” أنّها تغطي نظاما يستكمل في العام 2018، أي في الذكرى السبعين للنكبة، مهمّة إسرائيل التي قامت أصلا على تشريد الفلسطينيين وإبعادهم إلى خارج فلسطين.
من الصعب أن تعي “حماس” خطورة توفير غطاء لعملية تشريد أخرى للفلسطينيين يتولاها النظام السوري. ما هو أصعب من ذلك أن تعي ما هي المهمّة التي وجد النظام السوري الحالي من أجلها. تعتقد “حماس” أن موقف مصر من النظام السوري يسمح لها بالقيام بأعمال بهلوانية. نعم، هناك نوع من التفاهم بين النظام السوري والقاهرة. في أساس هذا التفاهم الموقف المصري من الإخوان المسلمين. ولكن إلى أي مدى يمكن لـ”حماس” أن تجمع بين تطوير العلاقات مع مصر من جهة، وكلّ من إيران وقطر من جهة أخرى؟
الثابت في ظلّ كلّ ما يحصل أن الضحية الأولى للنهج الذي تسير فيه “حماس” هو الشعب الفلسطيني. لا يمكن تجاهل أنّ “حماس” نفذت انقلابها في غزّة في مثل هذه الأيام قبل أحد عشر عاما. يتمثل كلّ ما فعلته “حماس” منذ ذلك التاريخ في جلب البؤس والفقر إلى غزّة. نشرت فوضى السلاح تمهيدا لانقلابها، ثم راحت تطلق صواريخ في اتجاه إسرائيل كي تبرّر لها حصارها للقطاع. تمثلت نتيجة كلّ ما حصل في تكريس لحال الانقسام الفلسطينية. هناك هوة بين الضفّة والقطاع، في ظلّ سلطة وطنية مقيمة في رام الله باتت مهمتها محصورة في التنسيق الأمني مع إسرائيل.
لدى استعراض إنجازات “حماس” في أحد عشر عاما، لا يمكن إلا إضافة إنجاز جديد لما حققته. يُختزل هذا الإنجاز بالقدرة على الجمع، أقلّه نظريا، بين مصر من جهة، وقطر وإيران من جهة أخرى، مع الوقوف إلى جانب النظام السوري في حربه على شعبه وعلى الفلسطينيين المقيمين في سوريا.
عندما يلعب تنظيم فلسطيني اسمه “حماس” مثل هذا الدور لا يعود مجال للتساؤل لماذا تبدو إسرائيل في هذه الأيام مرتاحة كلّ هذا الارتياح. أين مشكلة إسرائيل عندما تدعم “حماس” نظاما في سوريا كرّس كلّ جهوده منذ ما يزيد على نصف قرن لمنع أي تسوية معقولة ومقبولة في فلسطين، وأخذ في الوقت ذاته على عاتقه زجّ الفلسطينيين في حروب داخلية تجعل منهم باحثين عن أماكن لجوء جديدة. إنّها أماكن لجوء أكثر بؤسا من المخيمات التي استضافتهم في السنوات التي تلت النكبة. من قال إن المخيمات ترمز إلى ذروة البؤس الذي بلغه الفلسطينيون؟
في محاولةٍ لإيجاد صوت فلسطيني جديد، ومعالجة الوضع الفلسطيني بلغةٍ نقديةٍ، وصولاً إلى البحث الجدي في إمكانية التوافق على صيغ تقدّم رؤية جديدة فلسطينيا، أشهر مثقفون فلسطينيون "ملتقى فلسطين"، عبر إعلان سياسي إلى الرأي العام الفلسطيني، مذيّلٍ بقائمة الموقعين عليه. امتلك الإعلان لغة سياسية معقولة، وطموحا سياسيا لإحداث فرق، على الأقل في اللغة السياسية الفلسطينية السائدة، وإيجاد صيغ وأشكال كفاحية تحاول استعادة وحدة الشعب الفلسطيني في كل أماكن وجوده، بعد التشظي والانقسام الذي شهده في العقود الأخيرة. وهو ما تحتاجه الساحة الفلسطينية بشدة. وقد بذل الصديقان ماجد كيالي وأحمد برقاوي مع أسعد غانم وسعيد زيداني وغيرهم جهدا مشكورا لإخراج هذه المبادرة إلى حيز الوجود.
في أثناء النقاش الأولي للوصول إلى صياغة الإعلان، كانت المفارقة أنه يمكن إيجاد توافق بين طيف واسع من المثقفين والناشطين على ما تحتاج إليه الساحة الفلسطينية، لكن المتوافقين على الوضع الفلسطيني على طرفي نقيض في الوضع السوري. وعند أول احتكاكٍ بشأن المأساة السورية، أصبح وضع النقاش متوترا. لذلك تم الصمت عن الوضع السوري، على قاعدة أن الأولوية في النقاش للوضع الفلسطيني.
يطرح هذا الوضع سؤالا تقليديا في علم السياسة، أي تحت أي سقفٍ من الخلافات يمكن العمل معا في قضية سياسية؟ ومن ثم السؤال الأخلاقي، هل يمكن لضحيةٍ في صراع أن تقف مع الجلاد في صراع آخر وقريب جدا؟ وهل يمكن أن يكون المرء مدافعا عن الضحية، وعن قيم الحق والعدالة والإنسانية هنا، ويؤيد الجلاد في مواجهة الضحية على الجانب الآخر من الحدود؟ وإذا كان راضيا بهذا التناقض، أو لا يراه كذلك، هل أستطيع أن أعمل معه؟ وبالطبع ولد هذا سيلا من الأسئلة، هل يمكن أن نختلف بشأن القضية السورية ونتفق بشأن القضية الفلسطينية، هل يمكن أن أعمل مع مؤيدي مجرم الحرب في سورية للدفاع عن الحقوق الفلسطينية؟ وهل القيم تختلف بين القضيتين، الفلسطينية والسورية؟ وكيف لي أن أعمل مع شخصٍ يرى في القابع على رأس السلطة في سورية مدافعا عن الوطن، ويملك الحق في حماية الدولة السورية بذبح شعبه، وأن يكون مثل شخصٍ كهذا شريكي في صنع تصور مستقبل فلسطينيٍّ، مبني على العدالة والحق والقيم الإنسانية؟ هل العدالة والقيم يمكن أن تكال بمكيالين، فلسطينيا وسوريا؟
أعتقد أن المشكلة التي تبدو ثنائيةً واضحةً ومتصادمةً في الإطار النظري، تتخفى بأقنعةٍ كثيرةٍ في الواقع الموضوعي. وعندما يكون المرء خارج الدائرة المباشرة للصراع (وأحيانا كثيرة داخله)، يستطيع تزييف الحقائق والقناعات. وهناك في اللغة العربية كلمة "لكن" المفتاحية لمثل هؤلاء التي تجب كل ما قبلها. فقل ما شئت عن النظام السوري "لكن" هو يدافع عن سيادته الوطنية! هذا خطاب الـ"لكن" ليس تبريرا فحسب، بل هو خطاب ضد القيم والعدالة على طول الخط، في الوقت الذي يدّعي صاحبه أنه مدافع عن الحق، ليس في قضية أخرى، بل في القضية نفسها التي يؤيد فيها الجلاد في مواجهة الضحية.
التطابق الكبير بين الظلمين، الفلسطيني والسوري، يجعل القضيتين تنتميان إلى أقسى حالات الظلم التاريخي الذي يتعرض إليه شعب من الشعوب وأقصاها. وبالتأكيد لا تستمد القضية السورية عدالتها من تشابهها مع القضية الفلسطينية، فهي تستمد هذه العدالة من حجم الظلم الذي وقع على السوريين في العقود الأربعة الأخيرة، وخصوصا السنوات السبع المنصرمة من الذبح المعلن للسوريين. أي إن القضية السورية تتناقض مع القيم الإنسانية نفسها، وتتناقض مع العدالة والحق. أي أن القضيتين تنتميان إلى عالم الضحايا الذي يمارس فيه الظلم التاريخي على ضحايا، مطلق ضحايا.
العدالة والقيم الإنسانية التي لا تتجرأ على المستوى النظري، هي كذلك لا تتجزأ على المستوى العملي، فعلي عندما أريد تحديد موقف من صراع أن أرى أين موقع أطراف القضية بين موقعي الجلاد والضحية، من الظالم ومن المظلوم؟ هذا التحديد ضروري لأعرف مع من أتضامن، وهو لا يكون وفقا لمعايير شخصية، أنا أحدّدها، إنما وفقا لمعايير موضوعية. وبذلك يكون موقع الأطراف في هذه القضية أو تلك واضحا. قد يختار الشخص أن يقف مع الطاغية المجرم ضد شعبه الذي احتج عليه، لكن الغريب في مؤيدي النظام السوري خارج سورية أنهم يصرّون على أن النظام السوري هو الضحية. أي أنهم لا يكتفون بالوقوف مع الجلاد في مواجهة الضحية، بل ويزيفون الحقائق، ويتعاملون مع تزييفهم بوصفه الحقيقة المطلقة.
ولأن القيم لا تتجزأ، لا يمكن أن يكون من يقف مع الضحايا في قضية، يقف مع الجلاد في قضية أخرى، ولا أعتقد أن فلسطينيا عرف الظلم على مدار حياته، سواء عاش في الوطن أو في المنافي، يمكن أن يكون مؤيدا للنظام السوري في حربه على شعبه. ومن يدّعي الدفاع عن القيم في هذه القضية الفلسطينية، من دون أن يمدّها إلى القضية السورية أو غيرها من القضايا، يكون مدّعي قيم وليس حاملا حقيقيا لها. إن شخصا لا يرى سبع سنوات من القتل في سورية، ولا في مئات آلاف المعتقلين، ولا في تدمير بلد ومجتمع بالكامل ظلما تاريخيا يقع على شعب/ أخ يسكن في الجوار، وليس في أميركا اللاتينية. شخص من هذا النوع، أي مقياس للظلم يملك، وبأي عيون يرى، وبأي عقل يفكر؟!
في الحالتين، السورية والفلسطينية، القيم لا تتجزأ، ولا يمكن لمن يكون مع العدالة في فلسطين أن يكون مع الظلم في سورية. ولا يمكن الدفاع عن قتل السوريين بوصفه دفاعا عن القضية الفلسطينية، وهو أسوأ دفاع ممكن، لأنه ببساطة يسيء إلى القضيتين.
لكل هذه الأسباب ولغيرها، كما يقال في لغة المحاكم، لا يمكنني العمل فلسطينيا مع أي شخص يؤيد الجلاد، ولا يتضامن مع الضحية في سورية.
بمعجزة ما استطاع الأب والأم في درعا تدبير ملابس العيد لطفلهما فالحياة تصر على أن تستمر رغم أن المدينة تحولت إلى انقاض بعد 7 سنوات من القصف. تلك الأنقاض وبقايا الأبنية الحجرية التي حولتها طائرات نظام بشار إلى ركام تتحول من وقت لآخر إلى مناطق لعب للأطفال ولكنها سرعان ما تعود لطبيعتها كأنقاض. محمد عزام القواريط طفل تشي ملامحه بأنه وليد الثورة، عمره لا يزيد عن خمس سنوات. ملامح طفولية جميلة تطل من الصورة التي وقف فيها مواجها الكاميرا وهو يرتدي ملابس العيد. ملامحه لا تخلو من لمسة نضج ظهرت على وجهه الطفولي ربما من تأثير التعود على أصوات القذائف والعيش في أجواء ثورة، ولا أحد على وجه التحديد يعرف ما عساه أن تحدثه تلك الظروف في نفوس الأطفال، لكن هذا يظهر على تلك الملامح التي جمعت مع براءة الطفولة إصراراً وصلابة ربما خلفتها أجواء الثورة. هذه نظرات طفل انضجه غبار المنازل المتهدمة وأصوات القذائف وصرخات الثكلى، طفل وُلد من 5 أو 6 سنوات لكن نفسه نضجت قبل أوانها. هذه ملامح طفل جرب أهوالاً تفوق ما يمكن ان يتحمله أترابه، لا ريب أنه جرب رحيل أطفال كان يلعب معهم. بعض رفاقه رحلوا ولن يعودوا. ذاك الطفل الذي كان يركض خلفه رحل، كانت طائرة عبرت قريباً منهم والقت شيئاً ما، فجأة سمع صوتاً هادراً وهبطت كميات مهولة من الغبار وانهارت بناية ما وتوقف رفيقه عن الركض وتوقف كل شيء من حوله ولم يعد بمقدوره أن يرى أو يسمع شيئاً، وحين عادت قدرته على السمع وهو بعده متسمر في مكانه علم ان رفيقه رحل، كانوا يرفعون حجارة من فوقه، وهناك من كان يبكي ثم حملوه إلى مكان ما. إلى حيث مكان ما. ذلك المكان الذي يحملون إليه رفاقه حيث لا يعودون.
لقد تعود على هذه المشاهد ومع الوقت فهم أن صوت هذه الطائرات يعني رحيل أحد رفاقه أو بعضهم أو يعني بناية مهدمة ما على احسن تقدير. هذه خبرات مروعة تتكون لدى الأطفال في سن مبكرة في سوريا. لكن مع كل ذلك لا ريب أن الطفل كان يمني نفسه بيوم حافل باللعب يقضيه مع أترابه فرحاً بملابسه الجديدة كأي طفل في العيد.
كان يعرف هذه التكبيرات ويحبها، اليوم سيلعب مع رفاقه وهذه الطائرات السيئة التي تخطف رفاقه لن تأتي. لن تجرؤ على المجيء في أول أيام العيد، اليوم سيلعب مع رفاقه دون أن يتوقف كل عدة دقائق ليتسمع صوت طائرة آتية من بعيد، اليوم لن يختبيء وسيظل يلعب حتى يصيبه التعب.
لم يكن يعرف أن هناك من قرر أن يمنحه ما هو اكثر من ملابس العيد. على الجانب الآخر، كان هناك من يجهز شيئاً ما سيسقط قريباً من محمد، قريباً من وقت صلاة العيد لم تكن طائرة هذه المرة، فالطائرة تمنحه على الأقل وقتاً ليركض، لم يكن لدى محمد متسع من الوقت ليتسمع صوت أزيز الطائرة ويركض هذه المرة. لم يكن هناك طيار ما يبتسم وهو يضغط زراً في طائرته ليهبط منها شيء ما.
لم يستطع محمد الركض هذه المرة. صوت هادر اصمّ أذنيه الصغيرتين في نفس اللحظة التي لحق فيها برفاقه الذين سبقوه ولن يعودوا.
هل اللاجئون حقاً طبقات متفاوتة؟ أليسوا جميعاً مجرد لاجئين مساكين فروا من الحروب والاستبداد والبطش في بلدانهم، باحثين عن ملجأ وملاذ آمن في بلدان أخرى ومجتمعات جديدة؟ أليسوا متساوين في الصفة وفي الحقوق والواجبات أمام قوانين البلدان التي استقبلتهم، بغض النظر عن الحال التي كانوا عليها في أوطانهم؟ كيف يكونون إذاً طبقات متمايزة؟ نعم، هم طبقات متمايزة، وفي بعض الأحيان شديدة التمايز، ولا يجمع بين طبقاتهم في أحيان كثيرة سوى صفة اللجوء، بمعنى الانتقال قسراً من أمكنتهم الأصلية التي ألفوها إلى أمكنة أخرى جديدة وغريبة.
لندع جانباً التعميم ولنتحدث عن اللاجئين السوريين بالتحديد، ومن ضمنهم بطبيعة الحال الفلسطينيين السوريين. ذلك أن اللاجئين السوريين هم الأكثر عدداً ضمن موجة اللجوء الكبرى التي اندفعت بقوة نحو القارة الأوروبية في السنوات القليلة الماضية. والسوريون في معظمهم ثلاثة أصناف. الصنف الأول هم اللاجئون الآن في البلدان التي وصلوها كمحطة أخيرة في رحلة الفرار. والصنف الثاني هم اللاجئون العالقون في منتصف الطريق بين وطنهم الذي فروا منه والأوطان التي يريدون الوصول إليها. أما الصنف الثالث فهم اللاجئون المحتملون، أي أولئك الذين لا يزالون في وطنهم، راضين أو مرغمين، لكنهم قد يتحولون فجأة إلى لاجئين نشطين يسلكون دروب من سبقهم. قد تقتلعهم الحرب التي لا تزال نارها تستعر من جديد كلما خبت قليلاً. وهي حرب لا تبدو لها نهاية وشيكة. فالطرفان اللذان تسببا باندلاعها لا يزالان على حالهما من العناد. ما زال كلّ منهما متمسّك بموقفه.
الطرف الأول شعب عجيب استفاق بعد نصف قرن من السكينة والسبات ولم يتوان عن المطالبة بحقّ له ظنّ ولا يزال أنه حقّ طبيعي ولا يسقط بالتقادم. حقه في أن يمشي على وجه الأرض مشياً طبيعياً مستقيم الظهر كبقية الخلق بعد أن ظلّ يسير محني الظهر قليلاً، بصره منكبّ على الأرض كأنه سعيد أبي النحس المتشائل. كأنه كان يخشى أن يرفع رأسه ويجيل بصره في العالم من حوله فيدرك مدى بؤسه وانحطاط حاله. أما الطرف الآخر فهو «الرئيس» المفترض لذلك الشعب المنكوب، والذي لم يتأخر في الردّ فجمع «مجلس شعبه» وقال كلاماً كثيراً غير مفهوم في معظمه، باستثناء جملة واحدة شديدة الوضوح: إذا كانوا يريدون الحرب فأهلاً وسهلاً. بعد ذلك أطلق النار ولا يزال يطلقها هو والمرتزقة الذين استدعاهم لمساعدته في إطلاق النار وإلقاء البراميل والصواريخ على "شعبه". هذا هو مختصر الحكاية لمن لا يحب الإطالة. وكل إطالة بعدها زائدة عن أصل الحكاية.
وهكذا أصبح هناك لاجئون سوريون ضاقت بهم الأرض واكتظت بهم الطرقات. ضاق بهم الناس في دول الجوار، بعد ترحاب قصير، وضاقوا هم بأنفسهم. وحين وارب الأوروبيون أبوابهم قليلاً اندفعنا نحوهم ودخلنا عليهم من كل باب ونافذة، وعبر الفجوات في أسلاك الحدود الشائكة. عبرنا البحر فوصل معظمنا وغرق بعضنا. أخذنا صور «السيلفي» مبتسمين عند الشواطئ ومن خلفنا البحر وسترات النجاة البرتقالية المتناثرة والقوارب المطاطية المتهالكة فملأت صورنا شاشات العالم وأوراق صحفه. كسرنا الصورة النمطية. صورة اللاجئ الخائف والمكسور. استبدلناها بصورة اللاجئ الفرح بنجاته من مصيدة ومقبرة كان يسمّيها وطناً. قلنا بالصوت والصورة أننا نحبّ الحياة، ولا نريد سوى أن نعيش.
أما القسم الآخر منا، الطبقة الأخرى، فقد جاءوا بالطائرات والقوارب السياحية. وصلوا بثياب أنيقة وحقائب ثمينة. لم يسيروا في حقول البلقان الموحلة ولم تنهش وجوههم لفحات البرد القارس ولم ينهرهم حرس الحدود. اختاروا الدول التي يريدونها بعناية ووصلوها سالمين. لم يخالطوا الطبقة الأولى في بيوت الهجرة، ولم يزاحموهم على حصص الطعام. كأنما كل شيء كان معداً لاستقبالهم. فبعد المرور السريع على قسم الاستقبال في دائرة الهجرة، أقاموا في شقق ومنازل خاصة واقتنوا سيارات. اللهم لا حسد.
هاتان طبقتان في دولة اللجوء الواحدة، لكن اللاجئين طبقات أيضاً بحسب دول اللجوء المختلفة. فاللاجئ في السويد يختلف عن اللاجئ قسراً في اليونان. واللاجئ في الدانمارك يختلف «طبقياً» عن اللاجئ في هنغاريا. وهكذا دواليك. كلنا لاجئون. لكن قل لي أي طريق سلكت، أقل لك من أي طبقة أنت. كلنا لاجئون فارون من وطن نحبه ويكرهنا. عالقون هنا في شباكٍ لا فكاك منها. عالقون في مكابدة السؤال الذي لا ينام: هل نعود؟
باغتنا رئيس مجلس النواب اللبناني، نبيه بري، بتصريح قال فيه إن إيران وحزب الله باقيان في سورية إلى أن يتم تحريرها. ومصدر المباغتة أننا كنا نتوقع صدور تصريح على هذا القدر من الخفّة عن طهران وحزب الله، وليس عن رجلٍ كنا نأمل أن لا يكون ضالعاً في خطط إيران ضد العرب ودولهم، ومغامرات حزب الله بما تحمله من تهديد لشعب لبنان، ولشيعته قبل غيرهم.
لم يفهم السوريون ما قصده الرئيس بري بـ"التحرير". إذا كان يقصد تحريرها من شعبها فقد قطع بشار الأسد وحسن نصر الله شوطاً طويلاً على هذه الطريق، وهما ليسا بحاجة إلى دعمه، بعدما استقدما إلى حربهما ضد سورية أعداداً كبيرة من مجرمي العالم السفلي في بلدان مجاورة وبعيدة، موّلها وسلّحها ودرّبها ملالي يرتكبون جرائم لم يسبق أن عرف تاريخ منطقتنا العربي/ الإسلامي ما يضاهيها في الفظاعة، بدعم من عسكر روسيا الذي غزا سورية لإنقاذ سفاحٍ أوهم نفسه أن باستطاعة قلة إخضاع كثرة، على الرغم من إرادتها وإلى الأبد، ولم يفهم أن عاقبة القمع والتخويف ستكون وخيمة عليه، وعلى مواطني سورية إناثاً وذكوراً، وأن هذا الشرق الذي ننتمي إليه، شرق السلطات التي لا تعترف بالمواطن والإنسان أو بحقوقهما، ولا تستند سلطاتها إلى عقد سياسي أو ميثاق مع مجتمعاتها، ولا تعرف القانون ودولة المؤسسات، وغيَّب حكامه رحمانية دين حوله فقهاؤهم إلى أيديولوجية سلطة مستبدة وغاشمة... إلخ، عرف على امتداد تاريخه تمرّداتٍ وانتفاضاتٍ وهبّات مظلومين ضد عالمهم الظالم، وضعوا خلالها دماءهم على أكفّهم ومضوا إلى نهاية شوط التمرّد، على الرغم مما تكبدوه دوماً من خسائر علي يد جلاديهم، كما يفعل شعب سورية اليوم، وسيظل يفعل إلى أن ينهار عالم البطش والفساد الأسدي الذي يقتل السوريين، ويدمر مقومات وجودهم المادي وعمرانهم. أعتقد أنك، أستاذ بري، تعلم أنه لم يعد لدى السوريين كثير مما يخسرونه. وفي المقابل، لم يعد لدى الأسد ونظامه فرصة حقيقية للبقاء، بعد أن غدا مجرد "شخشوخة" في يد من باعهم سورية، وأدت سياساته إلى إبادة من كان يحكم بهم، وأن من استجلبهم لقتل السوريين لن يختلفوا عن "وصيف وبغا"، قتلة الخلفاء اللذين سيلتهمان لحمه نيئاً، مثلما كانا يلتهمان من سبقوه، كلما جاعا إلى سلطتهم.
لا أعرف لماذا أحسست أنك ستصدر تكذيباً لما نُسب إليك، لاعتقادي، الذي أتمنى أن يكون صحيحاً، أنك ترى الأمور من منظور فيه بعض رحابة الحس الإنساني الذي يجعلك لا تصدّق أن شعباً معروفاً باعتداله الديني وحسّه المدني وعيشه المشترك، وخرج ينادي بالحرية لجميع السوريين، بمن فيهم الذين كانوا يطلقون النار عليه، صار إرهابياً بين ليلة وضحاها، وأن قتلته يحرّرونه من تطرف يهدد ايران المسالمة المسكينة، التي أرسلت آلاف القناصة إلى سورية قبل أسابيع من ثورتها، ثم أرسلت حزب الله إليها، وفي يدي مقاتليه قوائم بأسماء إرهابيين يهدّدون العتبات والمراقد المقدسة، فقتل بمحض الخطأ نيفاً وألف سورية وسوري غيرهم، وطرد ثمانين ألفاً من القصيريّين من بيوتهم ومواطنهم، قبل أن يلحق بهم إلى عرسال، ليحرّض جيش لبنان عليهم، كإرهابيين/ تكفيريين، على الرغم من أنهم عزل وجياع ويعصف بخيامهم حقد حزبٍ لم يجد أحداً ينسب نفسه إليه غير الله!.
دولة الرئيس بري: ينتظر السوريون أن تقوم بما ليس لديك اليوم ما هو أكثر أهمية منه: نفي أنك تنطق باسم إيران، وتؤيد حزباً يقتلهم ليحرّرهم مما يستحيل انتزاعه منهم: تصميمهم على حريتهم وحقهم فيها.
تتعقد طبيعة المرحلة في محافظة إدلب التي تخطوا باتفاق الضامنين "روسيا وتركيا وإيران" باتجاه وقف شامل لإطلاق النار، لتبدأ مرحلة تحريك الخلايا الأمنية النائمة في المحافظة مؤخراً لتحل مكان القذائف والصواريخ في قتل المدنيين والعسكريين، زاد ذلك عمليات الخطف وضياع الأمن في كثير من المناطق.
هذه الحالة الأمنية المتردية في المحافظة باتت سمة بارزة ومصدر خوف وقلق للمدنيين، تديرها جهات خفية تحرك جل الخلايا الأمنية سواء كانت مرتبطة بتنظيم الدولة أو النظام أو روسيا أو ضمن مكونات الفصائل، تتشارك جميعها في خلق حالة عدم استقرار وتخوف، وصل لمرحلة اختطاف كوادر طبية وصاغة وتجار ومبادلتهم على فديات كبيرة بألاف الدولارات.
تقود هذه العمليات جميعاً عناصر ملثمة مجهولة تتخفى وراء قطعة قماش وتعرف نفسها باسم فصيل ما لتضمن التحرك بحرية في المناطق المحررة وتنفذ عملياتها، ليغدو هذا اللثام هو القاتل وهو المجرم الذي لابد من قتله ومنعه لكشف وجوه المجرمين المتسترين ورائه.
وبات اللثام سلاح للتخفي وراءه وتنفيذ العمليات الأمنية إضافة للعسكرية، بعد أن تخفت ورائه قطاع الطرق ومنفذي عمليات الاغتيال والتصفية والسرقة والتشليح، يستخدم للقتل والسلب والسرقة، في الوقت الذي بات مصدر رعب وهلع للمدنيين بشكل كبير، باتوا يخافون من أي ملثم لمجرد التقائه في طريق أو أي مكان.
لطالما تصاعدت الدعوات من قبل نشطاء الثورة والفعاليات المدنية، تطالب الفصائل بضرورة وضع حد لاستخدام اللثام، ووقف التعامل به من قبل الجميع، لكشف المجرمين وقطاع الطرق، ممن باتوا يختبئون خلف لثامهم ويقومون بعملياتهم دون أي رقيب أو محاسب، كما أنه بات باباً للخصوم بين الفصائل، ولكم من اقتتال سببه ملثم وكم من حادثة جرت سببها ملثم وكم من اعتقال تم من قبل ملثمين لم تعرف هوياتهم حتى اليوم ضاعت معها الحقوق وبات اللثام مصدر الرعب الأكبر في المحرر.
في بداية عام 2011، وبدايات حالات التململ لدى الشعب السوري التي لم تكن قد ظهرت إلى العلن، قرأت أجهزة الأمن السورية هذه التململات بعمقٍ، وشمَّت روائحها ككلب بوليسي، وراحت تستنفر كل ما لديها من إمكانات، فالسلطة منتهى الغاية والهدف. ومن ذلك أنها توجهت إلى زعماء العشائر وتجار المخدرات والممنوعات كافة (لديها من سقطة المجتمع ونفاياته ما يكفي لتدمير أمة بأكملها)، طالبةً دعمهم ضد "المؤامرة الكونية" على "النظام الوطني" في سورية. كان جواب أحد زعماء آل برّي إلى رئيس فرع الأمن السياسي في حلب: "لسنا بحاجة لمن ينبهنا إلى واجبنا، فهذا النظام نظامنا، وحمايته حق علينا". (وصل اثنان من آل برّي إلى مجلس الشعب السوري في الدور التشريعي السادس 1999/ 2003 مقابل أربعة عشر مليون ليرة سورية، ما يعادل آنذاك 300 ألف دولار).
وبالفعل، كانت أولى مساهمة هؤلاء، (قبل معركتهم مع الجيش الحر ومقتل رأس حربتهم زينو بري عام 2012 على يد جيش التوحيد)، مداهمتهم اعتصاماً سلمياً، قام به سبعة وعشرون طالب دراسات عليا من كلية الطب في حي العزيزية أمام نقابة الأطباء، إذ كان نصيب الطلاب ضرباً بالعصي والسكاكين. ولولا احتماؤهم بالنقابة، لذهب بعضهم ضحية وعيه السياسي وتفوقه العلمي.
أتيت بالمثال القريب هذا لأشير إلى أنَّ ظاهرة "التعفيش" هي الابن الشرعي للنظام السوري، فهي ملازمة له على مدى تاريخه. وإذا كانت هذه الظاهرة قديمةً، ترتبط بما كان يُعرف في المجتمعات القبلية القديمة بالغزو، فردياً كان أم جماعياً، وجوهرها الحصول على الغنائم، فإن جيوش الإمبراطوريات الغابرة قد أوجدت له أنظمة وقوانين تأخذ بالحسبان قدرات المقاتل ومكانته في ترتيبات تلك الجيوش، حتى إن المقاتل كان يرتقي بناءً على كفاءته القتالية وبلائه في المعارك. لكن هذا الشكل انتفى في العصور الحديثة، إذ ارتقت الدولة بوظائفها، وصارت لها مؤسساتٌ تقوم على أسسٍ من الحقوق والواجبات، ترتب على كل من ينضوي تحت لوائها قواعد يتقيد بها تحقيقاً لمفهوم المواطنة المعاصر. وما عاد لأفراد الجيش من وظيفةٍ غير حماية الدولة في مقابل رواتب مجزية، ومكانة مرموقة، وثمّة خدمة وطنية طوعية هي مجال اعتزاز المواطن وفخره.
وقد أخذ الجيش مكانة خاصة بين مفردات الوطن تصل إلى مرحلة القداسة، فهو حامي حياض الوطن، وموفر الأمن والسلام لمواطنيه.. وذلك كله حين تكون الدولة قائمة بمفهومها المعاصر. أما حين تكون سلطة لجماعة ما، فالمعايير تختل، وتغيب القيم وأهمها القيم الوطنية والإنسانية على غير صعيد، ويفقد الجيش مكانته الرفيعة، فهو ليس جيشاً للشعب، وإنْ سمي بذلك، (معروفة تسمية الجيش السوري جيش الشعب منذ استيلاء حزب البعث على السلطة أوائل ستينيات القرن الماضي)، فما إن تحين فرصةٌ ما حتى تبرز هذه العداوة بأبشع صورها؟! فما عرف بـ "ظاهرة التعفيش" التي مارسها الجيش وأعوانه في معظم المدن السورية حلقة في سلسلة طويلة صدئة، تمتد إلى عام 1984، حين نوى رفعت الأسد تعفيش مدينة دمشق عاصمة بني أمية.
يورد وزير دفاع حافظ الأسد، العماد مصطفى طلاس، في مذكراته التي أخذت اسم "مرآة حياتي" شيئاً عن تهديد دمشق بالدمار والاستباحة خلال فترة الصراع الذي دار حول السلطة بين رفعت الأسد وأخيه حافظ لدى مرض الأخير عام 1984، وما شابَهُ من حوادث لها دلالاتٌ تشير إلى عقلية الضابط المعفِّش أملاك الشعب، والمعفَّش ضميراً وطنياً وأخلاقاً إنسانية، فيقول: "تقوم كتائب المدفعية (ب م ـ 21) بقصف دمشق عشوائياً لإرهاب السكان، وقطع أنفاس الناس، حتى يصبح أهل الشام مثل أهل بغداد أيام الحجّاج سابقاً، وأيام صدّام لاحقاً. (ما حدث في سورية تجاوز الاثنين معاً). بعد ذلك، تقوم مفارز المشاة من سرايا الدفاع (كتائب خاصة برفعت الأسد) بعملية نهب وسلب للمدينة المنكوبة، وقد أبلغ العميد رفعت الأسد ضبّاطه وجنوده أنّ المدينة ستكون لهم حلالاً زلالاً مدّة ثلاثة أيام بلياليها.. وبعدها لا يجوز أبداً أن يظلَّ فقير واحد في سرايا الدفاع، وإذا طلب أي جندي بعدها مساعدة أو إكرامية ستقطع يده..".
وهنا لا بدَّ من التذكير بأنَّ صراع حافظ ورفعت جاء بعد إغراق مدينة حماة بالدم، واستباحتها بالكامل، وكذلك بعد الأفعال "التعفيشية" المشينة للجيش السوري فيها، وفي لبنان أيام كان مطلق اليد هناك (يحصد اليوم اللاجئون السوريون "عفش" تلك الأيام) ناهيكم بالمجازر التي حصلت بوجوده ضد الشعب الفلسطيني، وأدت إلى إخراج منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت، وكان خروجها بدايةً للخراب الذي عمَّ ديار العرب والعروبة بعد عام 1967.
وفي متابعة رواية "مرآة حياتي" التي طبعت في بيروت، ومنعت في سورية طباعة وتوزيعاً، على الرغم من أنَّ مؤلفها يملك دار نشر مرموقة في دمشق، وعلى الرغم من أنَّ المذكرات تكيل المديح لحافظ الأسد في كل صفحةٍ من صفحاتها، لكنَّ الملاحظ أنَّ منع نشرها جاء من نثرياتها التي تكشف شيئاً عن شخصية الأسد، وجوهر سلطته القائمة على الولاء والفساد! يقول طلاس: "وفي حديثٍ هامسٍ لأبي دريد (رفعت الأسد) مع مستشاره السياسي محمد حيدر، وكانا يمشيان في ضوء القمر بمعسكرات القابون: "مو حرام، واأسفاه أن تهدم هذه المدينة الجميلة"، فيجيبه محمد حيدر: "والله صحيح حرام... وا أسفاه، ولكن شو طالع بأيدينا غير هيك".
وواضحٌ أنَّ هذا الحديث بين الاثنين ما هو إلا نوع من المراوغة والكذب المضلل للعقل، وهو محاولةٌ لإيجاد نوعٍ من الوهم النفسي، يبرّر للمجرم ما سيأتي به من أفعالٍ يقوم بها جيش مهزوم أمام عدو بلاده الحقيقي.
وتذكر "مرآة حياتي" حادثةً أخرى، تشير إلى جذر ما قامت به أجهزة بشار الأسد الأمنية، منذ الأيام الأولى للاحتجاجات الشعبية من تهيئةٍ لما جرى، فيما بعد، من حالات التعفيش المخزية لأملاك المواطنين السوريين في مدن حمص وحلب وداريا والقصير، وكان جديدها ومثالها الفاقع مخيم اليرموك وبلدة دوما، إذ يقول العماد طلاس: "في أوائل نيسان من العام 1984 وحوالي الساعة الرابعة بعد الظهر، تلقيت اتصالاً هاتفياً من قائد قواتنا في طرابلس، العميد سليمان حسن، أعلمني أنَّ علي عيد جهز مفرزة من اللصوص، قوامها حوالي مئتي عنصر مع عشرين سيارة متنوعة، وهم مسلحون ببنادق كلاشينكوف ومدافع مضادة للدروع (آر. ب. ج.7) وقنابل يدوية ومسدسات. وهناك اتفاقٌ ضمنيٌّ مع "أبو دريد"، يعني العميد رفعت الأسد، بأن هذه المجموعة سوف تشارك في نهب محلات المجوهرات، خاصة في دمشق، عندما تحين ساعة الصفر لاستباحة المدينة، ثم يهربون بالمسروقات إلى لبنان (طرابلس الشام)، وهناك تتم عملية الاقتسام".
بالطبع، لم تكتمل العملية، إذ جرى تسفير رفعت الأسد وصحبه، ودفع معمر القذافي "الثوري الآخر" ملايين الدولارات التي جرى اقتسامها ما بينه وبين البنك المركزي السوري الذي كان مصفِّراً حتى من الفئران، على حدِّ تعبير العماد طلاس نفسه.
ما يُراد الوصول إليه هنا أنَّ عملية التعفيش المخزية ليست ظاهرة جديدة، بل قديمة ترتبط ببنية السلطة الفردية المطلقة وفسادها، وبأخلاقيتها وجبنها وهزائمها المتلاحقة التي أوصلت المواطن السوري إلى ما لا يُحسد عليه، إذ أخذ يفاضل اليوم بين سلطة "بلاده الوطنية" وسلطة المحتل الروسي التي تتظاهر بتوفير الأمن له، وكأنَّ لسان حال السوري اليوم هو قول الشاعر المتنبي: ومن نكد الدنيا على الحرِّ أن يرى/ عدواً له ما من صداقته بدُّ.