مقالات مقالات رأي بحوث ودراسات كتاب الثورة
١٩ يونيو ٢٠١٨
موسكو ودمشق.. العقدة الإيرانية

إذا كانت مرحلة الحرب هي مرحلة الوحدة والانسجام بين الحلفاء، فإن مرحلة السياسة هي مرحلة الخلافات والتباينات، هذه قاعدة أساسية في العلاقات الدولية. ومن هنا، يمكن فهم انتقال الخلافات الروسية ـ الإيرانية في سورية من القوة إلى الفعل، وانتقال روسيا وإيران من مرحلة الصمت والسكون إلى مرحلة العلن والتصرف. إذ تعلن موسكو صراحة ضرورة خروج إيران والقوات التابعة لها من سورية، على الرغم من المحاولات الروسية اللاحقة لتهذيب تصريحات الكرملين، وهكذا يرتفع منسوب الرد الإيراني.

قوبلت التصريحات الروسية الإيرانية أول مرة بخطوات عملية: بدأت موسكو مضايقة القوى التابعة لإيران (القصير)، وإيران تعيد ترتيب وجودها في درعا، عبر تغيير اللباس العسكري، ضمن مشهدٍ يحمل ما يكفي من السخرية تجاه روسيا. لكن هذا الشقاق يجب النظر إليه من داخل الوحدة التي تجمع المحور الروسي ـ الإيراني، لفهم مستلزمات العلاقة التي تجمع بينهما، وتمنع الآخرين من الانحدار وراء أوهام تربك التخطيط والفعل السياسيين لمواجهة إيران في سورية.

هناك خلافات بين الجانبين، بدأت أخيرا على المستوى السياسي، مع انعقاد مؤتمر سوتشي، والتباين الحاصل حيال ورقة المبعوث الأممي، ستيفان دي ميستورا، واللجنة الدستورية، ثم تجلت اقتصاديا مع العقود التي أبرمها النظام السوري مع روسيا، ثم استراتيجيا مع إلغاء موسكو اتفاقيات عسكرية واقتصادية كبيرة بين طهران ودمشق، منها إنشاء قاعدة عسكرية إيرانية في طرطوس، ومصفاة لتكرير النفط.

المشكلة التي تواجهها روسيا مع إيران في سورية تكمن في ثلاث مستويات: أن الحضور الإيراني في مرحلة "ما بعد المعارك الكبرى" ساهم في إدخال إسرائيل ضمن المعادلة السورية بقوة، بعدما كان حضورها مقتصرا على مستوى معين. الحضور الإيراني القوي في سورية أحد أهم الأسباب وراء انعدام التقارب الجدي بين موسكو وواشنطن. الحضور العسكري الإيراني والدعم المالي الذي تقدمه طهران لدمشق، والتماهي بين العاصمتين إزاء الحل السياسي، عوامل أضعفت قدرة روسيا على ممارسة ضغوط كبيرة على النظام.

ولمواجهة هذا الواقع، تحتاج روسيا إلى تعاون من الولايات المتحدة تحديدا، لن يجد سبيله إلى الأرض، من دون حصول تفاهمات واسعة في سورية. وتحتاج روسيا إلى تقديم إغراءات إلى الولايات المتحدة، لرسم مسار الحل في سورية. ولذلك يمكن القول إن تصريح الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، ومن ثم تفسيرات مبعوث الرئيس الروسي الخاص إلى سورية، ألكسندر لافرينتييف، تبدو موجهة إلى واشنطن، أكثر مما هي إلى طهران. والسبب أنه ليس لدى موسكو القدرة على إرغام إيران للخروج من سورية، ولا الحد من قوة إيران داخل الجغرافيا السورية.

ويفرض هذا الواقع على موسكو اتباع سياسة الخطوة خطوة، لتقليص الدور الإيراني في سورية، مع ما يتطلبه ذلك من ترتيب بعض الملفات بين القوى الإقليمية، بحيث تكون مقدمة لخطوات لاحقة.

لا تخرج عن ذلك التفاهمات المعلنة بين روسيا وإسرائيل حيال الجولان، وكذلك التفاهمات المضمرة بين روسيا والولايات المتحدة حيال درعا. ولا يخرج عن ذلك أيضا إلغاء موسكو تسليم دمشق منظومة صواريخ إس 300، وتصريح مستشار بوتين المكلف بالتعاون العسكري والتقني، فلاديمير كوجين: "بيع هذه المنظومة الصاروخية إلى سورية ليس من اهتمامات موسكو، ولدى الجيش السوري كل ما يحتاجه لمواجهة أعدائه". ويوحي هذا التصريح بأن التهديد الإسرائيلي لا يشمل النظام السوري، بقدر ما يشمل إيران.

وقد تنتهي الترتيبات التي تعمل عليها روسيا بانسحاب إيران من الجنوب السوري، وهذا ثمن بسيط قد تدفعه إيران، طالما ليس لديها وجود عسكري قوي في الجنوب، لكن الروس سيكتشفون مجدّدا حدود قوتهم في سورية، وأنهم غير قادرين على فرض أجندات كبيرة، من دون تعاون دولي، لا سيما من الولايات المتحدة التي تفتقد رؤية استراتيجية واضحة المعالم تجاه التعاطي مع إيران.

يعقد هذا الوضع جهود روسيا حيال إيران ويربكها، في ظل عدم استجابة النظام السوري للمطالب الروسية، وهو الذي بحاجة إلى روسيا أكثر من إيران سياسيا، لكنه بحاجة إلى إيران أكثر اقتصاديا. والأهم أن النظام يستفيد من بعض التباينات بين موسكو وطهران، فمثل هذه التباينات تعطيه هامشا من المناورة للاستفادة من الطرفين أكثر مما ينبغي، وهو يفضل وجود قوتين داعمتين له أكثر من قوة واحدة، لأنه عند ذلك سيصبح أسيرا لها.

قبل النظام المقاربة الروسية في الجنوب السوري إلى حد ما، خصوصا في ما يتعلق بوصوله إلى خط الاشتباك في الجولان، والوصول إلى الحدود الأردنية، لكنه يرفض مبدأ الانسحاب الإيراني من أية بقعة جغرافية لاعتبارات إقليمية. وقد يقبل النظام بضبط الحضور الإيراني وسلوكه، لكن مبدأ الانسحاب، وإنْ جزئيا، يجب أن يرتبط باعتبارات استراتيجية، والأهم أن يخضع لحاجة النظام، وليس لحاجة روسيا.

وكلام الأسد واضح، مع ما فيه من رسائل إلى روسيا "المعركة طويلة ومستمرة.. وهناك حاجة إلى هذا الحلف الثلاثي، أي السوري الإيراني الروسي..".

اقرأ المزيد
١٨ يونيو ٢٠١٨
مأزق مزدوج

لا يبدو واقع الكرد أفضل من حال بقية السوريين بأكثريتهم العربية، والأمر في هذا يبدو طبيعياً وسط البيئة السورية العامة المتدهورة، بخلاف ما يعتقد البعض أو ما يروج له من قبل شخصيات وجماعات ما زالت تسعى إلى تكريس اختلاف الكرد عن بقية مواطنيهم، سواء كان الاختلاف سلباً أو إيجاباً.

ففي المستوى الشعبي، أصاب الكرد ما أصاب غيرهم من قتل وجرح واعتقال وتهجير ولجوء وتدمير لقدراتهم المادية، وتعرضوا لاضطهاد النظام وحلفائه، ولم يفلتوا من هجمات وإجرام جماعات التطرف والإرهاب الديني والقومي من «داعش» والنصرة، وصولاً إلى قوات الحماية الشعبية، التي يقودها حزب الاتحاد الديمقراطي المحسوب بين تنظيماتهم، وقد تساوت حالتهم مع بقية السوريين.

ولم تكن الحال أفضل في المستوى السياسي. فواقع الانقسام والصراع الكردي حقيقة واقعة، تماثل حال غيرهم، والاصطفافات تكاد تكون متقاربة، وقد فشلت كل محاولات جمع الجماعات الكردية سواء في إطار تنظيمي واحد، أو في بناء جبهوي على نحو ما حدث في اتفاقية هوليير لعام 2012 التي وقعها الطرفان الكرديان الأساسيان؛ المجلس الوطني الكردي ومجلس شعب غرب كردستان برعاية من إقليم كردستان العراق، وبدل أن تتحسن العلاقات ساءت وتردت إلى الحد الأقصى، بحيث ذهب كل طرف في اتجاه مخالف أوصلهما إلى تناقض سياسي وعسكري، طوره حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يقود قوات الحماية الشعبية بحملات نفي واعتقال لقادة من المجلس الوطني الكردي ومصادرة ممتلكاتهم.

وبطبيعة الحال، فقد أدى ما أصاب الكتلة الشعبية الكردية إلى دمار المجموعة السكانية وتشتتها بين الداخل والخارج على نحو ما أصاب أكثرية السوريين، وصارت الأغلبية الكردية من اللاجئين موزعة في ثلاثة تجمعات رئيسية؛ القسم الأول منها في إقليم كردستان العراق، والثاني في تركيا، والقسم الثالث موزع في بلدان اللجوء الأوروبية وخصوصاً في ألمانيا، حيث الجالية الكردية الأكبر في أوروبا. فيما أكراد الداخل موزعون بين ثلاث مناطق؛ أولاها منطقة الجزيرة المحكومة بقوات سوريا الديمقراطية، التي يقودها حزب الاتحاد الديمقراطي وأرياف حلب الموزعة تحت سلطة قوات سوريا الديمقراطية في منطقة الشمال الشرقي، ومنطقة عفرين التي استولت عليها القوات التركية بعد حملة غصن الزيتون، التي هدف الأتراك من خلالها إلى طرد حزب الاتحاد الديمقراطي منها، والقسم الثالث من أكراد الداخل الموجودين في مناطق سيطرة نظام الأسد وأغلبيتهم موزعة بين حلب في الشمال ودمشق في الجنوب.

وترافق تشتت الكتلة السكانية الكردية مع تكريس انقسام سياسي كردي حاد. ففي الوقت الذي حافظت فيه أغلبية أحزاب المجلس الوطني الكردي على روابطها السياسية الهشة مع المعارضة المنضوية في الائتلاف الوطني السوري الوثيق العلاقة مع تركيا، سعى حزب الاتحاد الديمقراطي عبر تعبيرات سياسية - عسكرية إلى خط مختلف، يجمع تناقضات تحالفه مع الولايات المتحدة والعداء للسياسة التركية في سوريا، واستعداده للتفاهم والتسوية مع نظام الأسد.

ورغم ما يظهر من اتفاق سياسي كردي في الموقف من جماعات التطرف والإرهاب ولا سيما «داعش» والنصرة، فإن اختلافاً عميقاً، يظهر في الموقف السياسي من نظام الأسد. فطوال السنوات الماضية، تبنى المجلس الوطني الكردي موقف المعارضة من النظام وضرورة تحقيق حل سياسي في سوريا عبر جنيف، فيما أقام الاتحاد الديمقراطي علاقة قبول وتفاهم سياسي - عسكري مع النظام في منطقة الجزيرة، قبل أن يتحول بعد خسارته في معركة عفرين 2018 في مواجهة القوات التركية وحلفائها من تنظيمات المعارضة المسلحة إلى الإعلان عن قبوله حواراً غير مشروط مع نظام الأسد.

وكان من نتائج التشتت والصراع الكردي، خروج إجمالي تعبيراته السياسية/ العسكرية من خريطة الصراع في سوريا بعد تحوله إلى فاعلية وتأثيرات هامشية سواء بالنسبة للمجلس الوطني الذي فقد حاضنته الشعبية من جهة، وأصبح من جهة أخرى ملحقاً بالائتلاف الذي يعاني من ضعف ذاتي وتهميش من الفاعلين الأساسيين في القضية السورية أو لحزب الاتحاد الديمقراطي الذي ربط نفسه بالأجندة الأميركية، وصار أسير سياساتها السورية غير الواضحة، وأغرق نفسه في أتون صراع حاسم لتركيا، وأخذ يسعى لإيجاد مكان له في تسوية غير مشروطة مع نظام الأسد.

وكما هو واضح، فإن المسار السياسي للكرد السوريين، صار يعاني من مأزق مزدوج؛ جانبه الأول داخلي، يتعلق بالاختلافات والصراعات بين طرفيه الأساسيين، وذهب فيها إلى الحد الأقصى، وجانبه الثاني خارجي، ويتصل بجملة علاقاته مع الأطراف السورية والإقليمية والدولية المؤثرة بالقضية السورية، وفي الحالتين لا يتبين أفق واضح للخروج الكردي من هذا المأزق، ما يضيف مشكلات أخرى لمشكلات السوريين ودورهم في حل قضيتهم.

اقرأ المزيد
١٨ يونيو ٢٠١٨
عندما تغطي"حماس" النظام السوري

لم يكن ينقص رئيس المكتب السياسي لحركة “حماس” إسماعيل هنيّة سوى الطلب من أهالي مخيم اليرموك الاعتذار من النظام السوري بحجة أنّهم كانوا هم السبب في تدمير مخيّمهم.

يقع مخيّم اليرموك قرب دمشق وهو قام في العام 1957 على خلاف المخيمات الأخرى في سوريا ولبنان التي قامت مباشرة بعد نكبة 1948. مع الوقت، صار اليرموك أكبر تجمع للفلسطينيين في سوريا. ذهب فلسطينيو المخيّم الذي دمّر عن بكرة أبيه وعددهم عشرات الآلاف ضحية الحرب التي يشنّها النظام السوري على مواطنيه.

من سوء طالع أهل المخيّم أنّ سكانه ليسوا كلهم فلسطينيين. مع مرور السنين وانتشار الفقر في الجمهورية العربية السورية، جاء مواطنون فقراء وأقاموا في المخيّم وجواره. كان طبيعيا أن ينضمّ سوريون يبحثون عن بعض من كرامة إلى الثورة على النظام التي انطلقت في آذار – مارس من العام 2011. ما لم يكن طبيعيا أن يدخل تنظيم “داعش” المخيّم وينتشر فيه.

هل يدري السيد هنيّة الذي يقيم في غزّة ولا يعرف شيئا عمّا يدور في العالم أن “داعش” هو من ارتكابات النظام السوري، وأن دخوله مخيّم اليرموك يندرج في سياق سياسة اتبعها النظام منذ قيامه في العام 1970 وحتّى قبل ذلك، عندما كان حافظ الأسد لا يزال وزيرا للدفاع؟ تقوم هذه السياسة على المتاجرة بالفلسطينيين، خصوصا بأبناء المخيمات، فضلا عن استخدامهم في كل ما من شأنه استمرار حال اللاحرب واللاسلم في المنطقة. هذه الحال هي أفضل خدمة يستطيع النظام السوري تقديمها إلى إسرائيل، بل هي مبرّر وجوده.

يبدو أن رئيس المكتب السياسي لـ“حماس” من نوع الذين لا يستحون. لو لم يكن الأمر كذلك، ما هو تفسير قوله عن أن ما نسب إليه من كلام عن دعم الثورة السورية “غير صحيح”، مضيفا “أن النظام السوري وقف إلى جانب حماس في محطات مهمّة”. لم يحدّد هنيّة ما هي هذه المحطات المهمّة التي وقف فيها النظام السوري إلى جانب “حماس”، باستثناء أنّه شجع الحركة على تنفيذ عمليات انتحارية كي لا تقوم لعملية السلام قيامة في يوم من الأيّام وكي يتمكن أرييل شارون ثم بنيامين نتانياهو من القول إن “لا شريك فلسطينيا يمكن التفاوض معه”.

لدى “حماس”، كما لدى أي تنظيم ينتمي إلى الإخوان المسلمين، شبق ليس بعده شبق إلى السلطة. لذلك، لم يجد رئيس المكتب السياسي للحركة عيبا في الجمع بين التناقضات واللعب عليها متجاهلا أن قطاع غزّة في أزمة حقيقية لا تسمح بممارسة لعبة الضحك على الناس. على سبيل المثال وليس الحصر، قال هنية إنّه “في الوقت الذي تتجه حماس إلى علاقات قويّة مع مصر، تحافظ على علاقات قوية مع قطر وإيران”. رأى أن “إيران دولة محورية مهمة في المنطقة وعلاقة حماس معها تكتسب بعدا استراتيجيا”، مضيفا أن إيران “قدمت الكثير لمصلحة الشعب الفلسطيني ومقاومته الباسلة”.

ذهب رئيس المكتب السياسي لـ“حماس” إلى أبعد من ذلك إذ أكد أن الحركة “تتقاطع مع طهران في كلّ ما يتعلّق بالشأن الفلسطيني في الرؤية والوجهة”، وأن “العلاقة مع إيران اليوم في مرحلة مميّزة ومتقدّمة”.

عندما يتحدّث إسماعيل هنيّة بهذه الطريقة عن النظام السوري وإيران، لا يعود مستغربا ما حلّ بمخيّم اليرموك والفلسطينيين المقيمين فيه الذين صاروا مشرّدين مرّة أخرى. من لا يهمّه ما يحل بالفلسطينيين المقيمين في قطاع غزّة نفسه، لن يرفّ له جفن عندما يدمّر النظام السوري مخيّما بكامله على القاطنين فيه، بحجة أنّه يحارب “داعش” الذي هو من صنع هذا النظام نفسه.

هناك ممارسات لا مسؤولة تنمّ عن رغبة واضحة في اعتبار الشعب الفلسطيني مجرّد سلعة. أمس كان على “حماس” أن تختار بين قطر والنظام السوري. اختارت قطر. اليوم لم تعد في حاجة إلى أي خيار في هذا الشأن بعدما بدا أن قطر لم تعد معادية للنظام السوري. المهمّ بالنسبة إلى “حماس” الحصول على مساعدات ودعم ولا شيء آخر غير ذلك. كلّ الأمور تهون أمام الحصول على مساعدات توظّف في إبقاء الإمارة الإسلامية التي أنشأتها “حماس” في غزّة حيّة ترزق.

كلّ شيء يهون من أجل البقاء في السلطة، بما في ذلك توفير غطاء فلسطيني للنظام السوري الذي ورّط في الماضي الفلسطينيين في حرب لبنان عن سابق تصوّر وتصميم. هل تعرف “حماس” أنّها تغطي نظاما يستكمل في العام 2018، أي في الذكرى السبعين للنكبة، مهمّة إسرائيل التي قامت أصلا على تشريد الفلسطينيين وإبعادهم إلى خارج فلسطين.

من الصعب أن تعي “حماس” خطورة توفير غطاء لعملية تشريد أخرى للفلسطينيين يتولاها النظام السوري. ما هو أصعب من ذلك أن تعي ما هي المهمّة التي وجد النظام السوري الحالي من أجلها. تعتقد “حماس” أن موقف مصر من النظام السوري يسمح لها بالقيام بأعمال بهلوانية. نعم، هناك نوع من التفاهم بين النظام السوري والقاهرة. في أساس هذا التفاهم الموقف المصري من الإخوان المسلمين. ولكن إلى أي مدى يمكن لـ”حماس” أن تجمع بين تطوير العلاقات مع مصر من جهة، وكلّ من إيران وقطر من جهة أخرى؟

الثابت في ظلّ كلّ ما يحصل أن الضحية الأولى للنهج الذي تسير فيه “حماس” هو الشعب الفلسطيني. لا يمكن تجاهل أنّ “حماس” نفذت انقلابها في غزّة في مثل هذه الأيام قبل أحد عشر عاما. يتمثل كلّ ما فعلته “حماس” منذ ذلك التاريخ في جلب البؤس والفقر إلى غزّة. نشرت فوضى السلاح تمهيدا لانقلابها، ثم راحت تطلق صواريخ في اتجاه إسرائيل كي تبرّر لها حصارها للقطاع. تمثلت نتيجة كلّ ما حصل في تكريس لحال الانقسام الفلسطينية. هناك هوة بين الضفّة والقطاع، في ظلّ سلطة وطنية مقيمة في رام الله باتت مهمتها محصورة في التنسيق الأمني مع إسرائيل.

لدى استعراض إنجازات “حماس” في أحد عشر عاما، لا يمكن إلا إضافة إنجاز جديد لما حققته. يُختزل هذا الإنجاز بالقدرة على الجمع، أقلّه نظريا، بين مصر من جهة، وقطر وإيران من جهة أخرى، مع الوقوف إلى جانب النظام السوري في حربه على شعبه وعلى الفلسطينيين المقيمين في سوريا.

عندما يلعب تنظيم فلسطيني اسمه “حماس” مثل هذا الدور لا يعود مجال للتساؤل لماذا تبدو إسرائيل في هذه الأيام مرتاحة كلّ هذا الارتياح. أين مشكلة إسرائيل عندما تدعم “حماس” نظاما في سوريا كرّس كلّ جهوده منذ ما يزيد على نصف قرن لمنع أي تسوية معقولة ومقبولة في فلسطين، وأخذ في الوقت ذاته على عاتقه زجّ الفلسطينيين في حروب داخلية تجعل منهم باحثين عن أماكن لجوء جديدة. إنّها أماكن لجوء أكثر بؤسا من المخيمات التي استضافتهم في السنوات التي تلت النكبة. من قال إن المخيمات ترمز إلى ذروة البؤس الذي بلغه الفلسطينيون؟

اقرأ المزيد
١٨ يونيو ٢٠١٨
مع الضحية في فلسطين مع الجلاد في سورية

في محاولةٍ لإيجاد صوت فلسطيني جديد، ومعالجة الوضع الفلسطيني بلغةٍ نقديةٍ، وصولاً إلى البحث الجدي في إمكانية التوافق على صيغ تقدّم رؤية جديدة فلسطينيا، أشهر مثقفون فلسطينيون "ملتقى فلسطين"، عبر إعلان سياسي إلى الرأي العام الفلسطيني، مذيّلٍ بقائمة الموقعين عليه. امتلك الإعلان لغة سياسية معقولة، وطموحا سياسيا لإحداث فرق، على الأقل في اللغة السياسية الفلسطينية السائدة، وإيجاد صيغ وأشكال كفاحية تحاول استعادة وحدة الشعب الفلسطيني في كل أماكن وجوده، بعد التشظي والانقسام الذي شهده في العقود الأخيرة. وهو ما تحتاجه الساحة الفلسطينية بشدة. وقد بذل الصديقان ماجد كيالي وأحمد برقاوي مع أسعد غانم وسعيد زيداني وغيرهم جهدا مشكورا لإخراج هذه المبادرة إلى حيز الوجود.

في أثناء النقاش الأولي للوصول إلى صياغة الإعلان، كانت المفارقة أنه يمكن إيجاد توافق بين طيف واسع من المثقفين والناشطين على ما تحتاج إليه الساحة الفلسطينية، لكن المتوافقين على الوضع الفلسطيني على طرفي نقيض في الوضع السوري. وعند أول احتكاكٍ بشأن المأساة السورية، أصبح وضع النقاش متوترا. لذلك تم الصمت عن الوضع السوري، على قاعدة أن الأولوية في النقاش للوضع الفلسطيني.

يطرح هذا الوضع سؤالا تقليديا في علم السياسة، أي تحت أي سقفٍ من الخلافات يمكن العمل معا في قضية سياسية؟ ومن ثم السؤال الأخلاقي، هل يمكن لضحيةٍ في صراع أن تقف مع الجلاد في صراع آخر وقريب جدا؟ وهل يمكن أن يكون المرء مدافعا عن الضحية، وعن قيم الحق والعدالة والإنسانية هنا، ويؤيد الجلاد في مواجهة الضحية على الجانب الآخر من الحدود؟ وإذا كان راضيا بهذا التناقض، أو لا يراه كذلك، هل أستطيع أن أعمل معه؟ وبالطبع ولد هذا سيلا من الأسئلة، هل يمكن أن نختلف بشأن القضية السورية ونتفق بشأن القضية الفلسطينية، هل يمكن أن أعمل مع مؤيدي مجرم الحرب في سورية للدفاع عن الحقوق الفلسطينية؟ وهل القيم تختلف بين القضيتين، الفلسطينية والسورية؟ وكيف لي أن أعمل مع شخصٍ يرى في القابع على رأس السلطة في سورية مدافعا عن الوطن، ويملك الحق في حماية الدولة السورية بذبح شعبه، وأن يكون مثل شخصٍ كهذا شريكي في صنع تصور مستقبل فلسطينيٍّ، مبني على العدالة والحق والقيم الإنسانية؟ هل العدالة والقيم يمكن أن تكال بمكيالين، فلسطينيا وسوريا؟

أعتقد أن المشكلة التي تبدو ثنائيةً واضحةً ومتصادمةً في الإطار النظري، تتخفى بأقنعةٍ كثيرةٍ في الواقع الموضوعي. وعندما يكون المرء خارج الدائرة المباشرة للصراع (وأحيانا كثيرة داخله)، يستطيع تزييف الحقائق والقناعات. وهناك في اللغة العربية كلمة "لكن" المفتاحية لمثل هؤلاء التي تجب كل ما قبلها. فقل ما شئت عن النظام السوري "لكن" هو يدافع عن سيادته الوطنية! هذا خطاب الـ"لكن" ليس تبريرا فحسب، بل هو خطاب ضد القيم والعدالة على طول الخط، في الوقت الذي يدّعي صاحبه أنه مدافع عن الحق، ليس في قضية أخرى، بل في القضية نفسها التي يؤيد فيها الجلاد في مواجهة الضحية.

التطابق الكبير بين الظلمين، الفلسطيني والسوري، يجعل القضيتين تنتميان إلى أقسى حالات الظلم التاريخي الذي يتعرض إليه شعب من الشعوب وأقصاها. وبالتأكيد لا تستمد القضية السورية عدالتها من تشابهها مع القضية الفلسطينية، فهي تستمد هذه العدالة من حجم الظلم الذي وقع على السوريين في العقود الأربعة الأخيرة، وخصوصا السنوات السبع المنصرمة من الذبح المعلن للسوريين. أي إن القضية السورية تتناقض مع القيم الإنسانية نفسها، وتتناقض مع العدالة والحق. أي أن القضيتين تنتميان إلى عالم الضحايا الذي يمارس فيه الظلم التاريخي على ضحايا، مطلق ضحايا.

العدالة والقيم الإنسانية التي لا تتجرأ على المستوى النظري، هي كذلك لا تتجزأ على المستوى العملي، فعلي عندما أريد تحديد موقف من صراع أن أرى أين موقع أطراف القضية بين موقعي الجلاد والضحية، من الظالم ومن المظلوم؟ هذا التحديد ضروري لأعرف مع من أتضامن، وهو لا يكون وفقا لمعايير شخصية، أنا أحدّدها، إنما وفقا لمعايير موضوعية. وبذلك يكون موقع الأطراف في هذه القضية أو تلك واضحا. قد يختار الشخص أن يقف مع الطاغية المجرم ضد شعبه الذي احتج عليه، لكن الغريب في مؤيدي النظام السوري خارج سورية أنهم يصرّون على أن النظام السوري هو الضحية. أي أنهم لا يكتفون بالوقوف مع الجلاد في مواجهة الضحية، بل ويزيفون الحقائق، ويتعاملون مع تزييفهم بوصفه الحقيقة المطلقة.

ولأن القيم لا تتجزأ، لا يمكن أن يكون من يقف مع الضحايا في قضية، يقف مع الجلاد في قضية أخرى، ولا أعتقد أن فلسطينيا عرف الظلم على مدار حياته، سواء عاش في الوطن أو في المنافي، يمكن أن يكون مؤيدا للنظام السوري في حربه على شعبه. ومن يدّعي الدفاع عن القيم في هذه القضية الفلسطينية، من دون أن يمدّها إلى القضية السورية أو غيرها من القضايا، يكون مدّعي قيم وليس حاملا حقيقيا لها. إن شخصا لا يرى سبع سنوات من القتل في سورية، ولا في مئات آلاف المعتقلين، ولا في تدمير بلد ومجتمع بالكامل ظلما تاريخيا يقع على شعب/ أخ يسكن في الجوار، وليس في أميركا اللاتينية. شخص من هذا النوع، أي مقياس للظلم يملك، وبأي عيون يرى، وبأي عقل يفكر؟!

في الحالتين، السورية والفلسطينية، القيم لا تتجزأ، ولا يمكن لمن يكون مع العدالة في فلسطين أن يكون مع الظلم في سورية. ولا يمكن الدفاع عن قتل السوريين بوصفه دفاعا عن القضية الفلسطينية، وهو أسوأ دفاع ممكن، لأنه ببساطة يسيء إلى القضيتين.
لكل هذه الأسباب ولغيرها، كما يقال في لغة المحاكم، لا يمكنني العمل فلسطينيا مع أي شخص يؤيد الجلاد، ولا يتضامن مع الضحية في سورية.

اقرأ المزيد
١٧ يونيو ٢٠١٨
ملابس عيد في درعا

بمعجزة ما استطاع الأب والأم في درعا تدبير ملابس العيد لطفلهما فالحياة تصر على أن تستمر رغم أن المدينة تحولت إلى انقاض بعد 7 سنوات من القصف. تلك الأنقاض وبقايا الأبنية الحجرية التي حولتها طائرات نظام بشار إلى ركام تتحول من وقت لآخر إلى مناطق لعب للأطفال ولكنها سرعان ما تعود لطبيعتها كأنقاض. محمد عزام القواريط طفل تشي ملامحه بأنه وليد الثورة، عمره لا يزيد عن خمس سنوات. ملامح طفولية جميلة تطل من الصورة التي وقف فيها مواجها الكاميرا وهو يرتدي ملابس العيد. ملامحه لا تخلو من لمسة نضج ظهرت على وجهه الطفولي ربما من تأثير التعود على أصوات القذائف والعيش في أجواء ثورة، ولا أحد على وجه التحديد يعرف ما عساه أن تحدثه تلك الظروف في نفوس الأطفال، لكن هذا يظهر على تلك الملامح التي جمعت مع براءة الطفولة إصراراً وصلابة ربما خلفتها أجواء الثورة. هذه نظرات طفل انضجه غبار المنازل المتهدمة وأصوات القذائف وصرخات الثكلى، طفل وُلد من 5 أو 6 سنوات لكن نفسه نضجت قبل أوانها. هذه ملامح طفل جرب أهوالاً تفوق ما يمكن ان يتحمله أترابه، لا ريب أنه جرب رحيل أطفال كان يلعب معهم. بعض رفاقه رحلوا ولن يعودوا. ذاك الطفل الذي كان يركض خلفه رحل، كانت طائرة عبرت قريباً منهم والقت شيئاً ما، فجأة سمع صوتاً هادراً وهبطت كميات مهولة من الغبار وانهارت بناية ما وتوقف رفيقه عن الركض وتوقف كل شيء من حوله ولم يعد بمقدوره أن يرى أو يسمع شيئاً، وحين عادت قدرته على السمع وهو بعده متسمر في مكانه علم ان رفيقه رحل، كانوا يرفعون حجارة من فوقه، وهناك من كان يبكي ثم حملوه إلى مكان ما. إلى حيث مكان ما. ذلك المكان الذي يحملون إليه رفاقه حيث لا يعودون.

لقد تعود على هذه المشاهد ومع الوقت فهم أن صوت هذه الطائرات يعني رحيل أحد رفاقه أو بعضهم أو يعني بناية مهدمة ما على احسن تقدير. هذه خبرات مروعة تتكون لدى الأطفال في سن مبكرة في سوريا. لكن مع كل ذلك لا ريب أن الطفل كان يمني نفسه بيوم حافل باللعب يقضيه مع أترابه فرحاً بملابسه الجديدة كأي طفل في العيد.

كان يعرف هذه التكبيرات ويحبها، اليوم سيلعب مع رفاقه وهذه الطائرات السيئة التي تخطف رفاقه لن تأتي. لن تجرؤ على المجيء في أول أيام العيد، اليوم سيلعب مع رفاقه دون أن يتوقف كل عدة دقائق ليتسمع صوت طائرة آتية من بعيد، اليوم لن يختبيء وسيظل يلعب حتى يصيبه التعب.

لم يكن يعرف أن هناك من قرر أن يمنحه ما هو اكثر من ملابس العيد. على الجانب الآخر، كان هناك من يجهز شيئاً ما سيسقط قريباً من محمد، قريباً من وقت صلاة العيد لم تكن طائرة هذه المرة، فالطائرة تمنحه على الأقل وقتاً ليركض، لم يكن لدى محمد متسع من الوقت ليتسمع صوت أزيز الطائرة ويركض هذه المرة. لم يكن هناك طيار ما يبتسم وهو يضغط زراً في طائرته ليهبط منها شيء ما.

لم يستطع محمد الركض هذه المرة. صوت هادر اصمّ أذنيه الصغيرتين في نفس اللحظة التي لحق فيها برفاقه الذين سبقوه ولن يعودوا.

اقرأ المزيد
١٧ يونيو ٢٠١٨
التفاوت الطبقي بين الاجئين

هل اللاجئون حقاً طبقات متفاوتة؟ أليسوا جميعاً مجرد لاجئين مساكين فروا من الحروب والاستبداد والبطش في بلدانهم، باحثين عن ملجأ وملاذ آمن في بلدان أخرى ومجتمعات جديدة؟ أليسوا متساوين في الصفة وفي الحقوق والواجبات أمام قوانين البلدان التي استقبلتهم، بغض النظر عن الحال التي كانوا عليها في أوطانهم؟ كيف يكونون إذاً طبقات متمايزة؟ نعم، هم طبقات متمايزة، وفي بعض الأحيان شديدة التمايز، ولا يجمع بين طبقاتهم في أحيان كثيرة سوى صفة اللجوء، بمعنى الانتقال قسراً من أمكنتهم الأصلية التي ألفوها إلى أمكنة أخرى جديدة وغريبة.

لندع جانباً التعميم ولنتحدث عن اللاجئين السوريين بالتحديد، ومن ضمنهم بطبيعة الحال الفلسطينيين السوريين. ذلك أن اللاجئين السوريين هم الأكثر عدداً ضمن موجة اللجوء الكبرى التي اندفعت بقوة نحو القارة الأوروبية في السنوات القليلة الماضية. والسوريون في معظمهم ثلاثة أصناف. الصنف الأول هم اللاجئون الآن في البلدان التي وصلوها كمحطة أخيرة في رحلة الفرار. والصنف الثاني هم اللاجئون العالقون في منتصف الطريق بين وطنهم الذي فروا منه والأوطان التي يريدون الوصول إليها. أما الصنف الثالث فهم اللاجئون المحتملون، أي أولئك الذين لا يزالون في وطنهم، راضين أو مرغمين، لكنهم قد يتحولون فجأة إلى لاجئين نشطين يسلكون دروب من سبقهم. قد تقتلعهم الحرب التي لا تزال نارها تستعر من جديد كلما خبت قليلاً. وهي حرب لا تبدو لها نهاية وشيكة. فالطرفان اللذان تسببا باندلاعها لا يزالان على حالهما من العناد. ما زال كلّ منهما متمسّك بموقفه.

الطرف الأول شعب عجيب استفاق بعد نصف قرن من السكينة والسبات ولم يتوان عن المطالبة بحقّ له ظنّ ولا يزال أنه حقّ طبيعي ولا يسقط بالتقادم. حقه في أن يمشي على وجه الأرض مشياً طبيعياً مستقيم الظهر كبقية الخلق بعد أن ظلّ يسير محني الظهر قليلاً، بصره منكبّ على الأرض كأنه سعيد أبي النحس المتشائل. كأنه كان يخشى أن يرفع رأسه ويجيل بصره في العالم من حوله فيدرك مدى بؤسه وانحطاط حاله. أما الطرف الآخر فهو «الرئيس» المفترض لذلك الشعب المنكوب، والذي لم يتأخر في الردّ فجمع «مجلس شعبه» وقال كلاماً كثيراً غير مفهوم في معظمه، باستثناء جملة واحدة شديدة الوضوح: إذا كانوا يريدون الحرب فأهلاً وسهلاً. بعد ذلك أطلق النار ولا يزال يطلقها هو والمرتزقة الذين استدعاهم لمساعدته في إطلاق النار وإلقاء البراميل والصواريخ على "شعبه". هذا هو مختصر الحكاية لمن لا يحب الإطالة. وكل إطالة بعدها زائدة عن أصل الحكاية.

وهكذا أصبح هناك لاجئون سوريون ضاقت بهم الأرض واكتظت بهم الطرقات. ضاق بهم الناس في دول الجوار، بعد ترحاب قصير، وضاقوا هم بأنفسهم. وحين وارب الأوروبيون أبوابهم قليلاً اندفعنا نحوهم ودخلنا عليهم من كل باب ونافذة، وعبر الفجوات في أسلاك الحدود الشائكة. عبرنا البحر فوصل معظمنا وغرق بعضنا. أخذنا صور «السيلفي» مبتسمين عند الشواطئ ومن خلفنا البحر وسترات النجاة البرتقالية المتناثرة والقوارب المطاطية المتهالكة فملأت صورنا شاشات العالم وأوراق صحفه. كسرنا الصورة النمطية. صورة اللاجئ الخائف والمكسور. استبدلناها بصورة اللاجئ الفرح بنجاته من مصيدة ومقبرة كان يسمّيها وطناً. قلنا بالصوت والصورة أننا نحبّ الحياة، ولا نريد سوى أن نعيش.

أما القسم الآخر منا، الطبقة الأخرى، فقد جاءوا بالطائرات والقوارب السياحية. وصلوا بثياب أنيقة وحقائب ثمينة. لم يسيروا في حقول البلقان الموحلة ولم تنهش وجوههم لفحات البرد القارس ولم ينهرهم حرس الحدود. اختاروا الدول التي يريدونها بعناية ووصلوها سالمين. لم يخالطوا الطبقة الأولى في بيوت الهجرة، ولم يزاحموهم على حصص الطعام. كأنما كل شيء كان معداً لاستقبالهم. فبعد المرور السريع على قسم الاستقبال في دائرة الهجرة، أقاموا في شقق ومنازل خاصة واقتنوا سيارات. اللهم لا حسد.

هاتان طبقتان في دولة اللجوء الواحدة، لكن اللاجئين طبقات أيضاً بحسب دول اللجوء المختلفة. فاللاجئ في السويد يختلف عن اللاجئ قسراً في اليونان. واللاجئ في الدانمارك يختلف «طبقياً» عن اللاجئ في هنغاريا. وهكذا دواليك. كلنا لاجئون. لكن قل لي أي طريق سلكت، أقل لك من أي طبقة أنت. كلنا لاجئون فارون من وطن نحبه ويكرهنا. عالقون هنا في شباكٍ لا فكاك منها. عالقون في مكابدة السؤال الذي لا ينام: هل نعود؟

اقرأ المزيد
١٧ يونيو ٢٠١٨
برّي وتحرير السوريين!

باغتنا رئيس مجلس النواب اللبناني، نبيه بري، بتصريح قال فيه إن إيران وحزب الله باقيان في سورية إلى أن يتم تحريرها. ومصدر المباغتة أننا كنا نتوقع صدور تصريح على هذا القدر من الخفّة عن طهران وحزب الله، وليس عن رجلٍ كنا نأمل أن لا يكون ضالعاً في خطط إيران ضد العرب ودولهم، ومغامرات حزب الله بما تحمله من تهديد لشعب لبنان، ولشيعته قبل غيرهم.

لم يفهم السوريون ما قصده الرئيس بري بـ"التحرير". إذا كان يقصد تحريرها من شعبها فقد قطع بشار الأسد وحسن نصر الله شوطاً طويلاً على هذه الطريق، وهما ليسا بحاجة إلى دعمه، بعدما استقدما إلى حربهما ضد سورية أعداداً كبيرة من مجرمي العالم السفلي في بلدان مجاورة وبعيدة، موّلها وسلّحها ودرّبها ملالي يرتكبون جرائم لم يسبق أن عرف تاريخ منطقتنا العربي/ الإسلامي ما يضاهيها في الفظاعة، بدعم من عسكر روسيا الذي غزا سورية لإنقاذ سفاحٍ أوهم نفسه أن باستطاعة قلة إخضاع كثرة، على الرغم من إرادتها وإلى الأبد، ولم يفهم أن عاقبة القمع والتخويف ستكون وخيمة عليه، وعلى مواطني سورية إناثاً وذكوراً، وأن هذا الشرق الذي ننتمي إليه، شرق السلطات التي لا تعترف بالمواطن والإنسان أو بحقوقهما، ولا تستند سلطاتها إلى عقد سياسي أو ميثاق مع مجتمعاتها، ولا تعرف القانون ودولة المؤسسات، وغيَّب حكامه رحمانية دين حوله فقهاؤهم إلى أيديولوجية سلطة مستبدة وغاشمة... إلخ، عرف على امتداد تاريخه تمرّداتٍ وانتفاضاتٍ وهبّات مظلومين ضد عالمهم الظالم، وضعوا خلالها دماءهم على أكفّهم ومضوا إلى نهاية شوط التمرّد، على الرغم مما تكبدوه دوماً من خسائر علي يد جلاديهم، كما يفعل شعب سورية اليوم، وسيظل يفعل إلى أن ينهار عالم البطش والفساد الأسدي الذي يقتل السوريين، ويدمر مقومات وجودهم المادي وعمرانهم. أعتقد أنك، أستاذ بري، تعلم أنه لم يعد لدى السوريين كثير مما يخسرونه. وفي المقابل، لم يعد لدى الأسد ونظامه فرصة حقيقية للبقاء، بعد أن غدا مجرد "شخشوخة" في يد من باعهم سورية، وأدت سياساته إلى إبادة من كان يحكم بهم، وأن من استجلبهم لقتل السوريين لن يختلفوا عن "وصيف وبغا"، قتلة الخلفاء اللذين سيلتهمان لحمه نيئاً، مثلما كانا يلتهمان من سبقوه، كلما جاعا إلى سلطتهم.

لا أعرف لماذا أحسست أنك ستصدر تكذيباً لما نُسب إليك، لاعتقادي، الذي أتمنى أن يكون صحيحاً، أنك ترى الأمور من منظور فيه بعض رحابة الحس الإنساني الذي يجعلك لا تصدّق أن شعباً معروفاً باعتداله الديني وحسّه المدني وعيشه المشترك، وخرج ينادي بالحرية لجميع السوريين، بمن فيهم الذين كانوا يطلقون النار عليه، صار إرهابياً بين ليلة وضحاها، وأن قتلته يحرّرونه من تطرف يهدد ايران المسالمة المسكينة، التي أرسلت آلاف القناصة إلى سورية قبل أسابيع من ثورتها، ثم أرسلت حزب الله إليها، وفي يدي مقاتليه قوائم بأسماء إرهابيين يهدّدون العتبات والمراقد المقدسة، فقتل بمحض الخطأ نيفاً وألف سورية وسوري غيرهم، وطرد ثمانين ألفاً من القصيريّين من بيوتهم ومواطنهم، قبل أن يلحق بهم إلى عرسال، ليحرّض جيش لبنان عليهم، كإرهابيين/ تكفيريين، على الرغم من أنهم عزل وجياع ويعصف بخيامهم حقد حزبٍ لم يجد أحداً ينسب نفسه إليه غير الله!.

دولة الرئيس بري: ينتظر السوريون أن تقوم بما ليس لديك اليوم ما هو أكثر أهمية منه: نفي أنك تنطق باسم إيران، وتؤيد حزباً يقتلهم ليحرّرهم مما يستحيل انتزاعه منهم: تصميمهم على حريتهم وحقهم فيها.

اقرأ المزيد
١٧ يونيو ٢٠١٨
"اللثام" من يقتل أمن "إدلب" فاقتلوه ....

تتعقد طبيعة المرحلة في محافظة إدلب التي تخطوا باتفاق الضامنين "روسيا وتركيا وإيران" باتجاه وقف شامل لإطلاق النار، لتبدأ مرحلة تحريك الخلايا الأمنية النائمة في المحافظة مؤخراً لتحل مكان القذائف والصواريخ في قتل المدنيين والعسكريين، زاد ذلك عمليات الخطف وضياع الأمن في كثير من المناطق.

هذه الحالة الأمنية المتردية في المحافظة باتت سمة بارزة ومصدر خوف وقلق للمدنيين، تديرها جهات خفية تحرك جل الخلايا الأمنية سواء كانت مرتبطة بتنظيم الدولة أو النظام أو روسيا أو ضمن مكونات الفصائل، تتشارك جميعها في خلق حالة عدم استقرار وتخوف، وصل لمرحلة اختطاف كوادر طبية وصاغة وتجار ومبادلتهم على فديات كبيرة بألاف الدولارات.

تقود هذه العمليات جميعاً عناصر ملثمة مجهولة تتخفى وراء قطعة قماش وتعرف نفسها باسم فصيل ما لتضمن التحرك بحرية في المناطق المحررة وتنفذ عملياتها، ليغدو هذا اللثام هو القاتل وهو المجرم الذي لابد من قتله ومنعه لكشف وجوه المجرمين المتسترين ورائه.

وبات اللثام سلاح للتخفي وراءه وتنفيذ العمليات الأمنية إضافة للعسكرية، بعد أن تخفت ورائه قطاع الطرق ومنفذي عمليات الاغتيال والتصفية والسرقة والتشليح، يستخدم للقتل والسلب والسرقة، في الوقت الذي بات مصدر رعب وهلع للمدنيين بشكل كبير، باتوا يخافون من أي ملثم لمجرد التقائه في طريق أو أي مكان.

لطالما تصاعدت الدعوات من قبل نشطاء الثورة والفعاليات المدنية، تطالب الفصائل بضرورة وضع حد لاستخدام اللثام، ووقف التعامل به من قبل الجميع، لكشف المجرمين وقطاع الطرق، ممن باتوا يختبئون خلف لثامهم ويقومون بعملياتهم دون أي رقيب أو محاسب، كما أنه بات باباً للخصوم بين الفصائل، ولكم من اقتتال سببه ملثم وكم من حادثة جرت سببها ملثم وكم من اعتقال تم من قبل ملثمين لم تعرف هوياتهم حتى اليوم ضاعت معها الحقوق وبات اللثام مصدر الرعب الأكبر في المحرر.

اقرأ المزيد
١٦ يونيو ٢٠١٨
ما لم يفعله رفعت الأسد

في بداية عام 2011، وبدايات حالات التململ لدى الشعب السوري التي لم تكن قد ظهرت إلى العلن، قرأت أجهزة الأمن السورية هذه التململات بعمقٍ، وشمَّت روائحها ككلب بوليسي، وراحت تستنفر كل ما لديها من إمكانات، فالسلطة منتهى الغاية والهدف. ومن ذلك أنها توجهت إلى زعماء العشائر وتجار المخدرات والممنوعات كافة (لديها من سقطة المجتمع ونفاياته ما يكفي لتدمير أمة بأكملها)، طالبةً دعمهم ضد "المؤامرة الكونية" على "النظام الوطني" في سورية. كان جواب أحد زعماء آل برّي إلى رئيس فرع الأمن السياسي في حلب: "لسنا بحاجة لمن ينبهنا إلى واجبنا، فهذا النظام نظامنا، وحمايته حق علينا". (وصل اثنان من آل برّي إلى مجلس الشعب السوري في الدور التشريعي السادس 1999/ 2003 مقابل أربعة عشر مليون ليرة سورية، ما يعادل آنذاك 300 ألف دولار).

وبالفعل، كانت أولى مساهمة هؤلاء، (قبل معركتهم مع الجيش الحر ومقتل رأس حربتهم زينو بري عام 2012 على يد جيش التوحيد)، مداهمتهم اعتصاماً سلمياً، قام به سبعة وعشرون طالب دراسات عليا من كلية الطب في حي العزيزية أمام نقابة الأطباء، إذ كان نصيب الطلاب ضرباً بالعصي والسكاكين. ولولا احتماؤهم بالنقابة، لذهب بعضهم ضحية وعيه السياسي وتفوقه العلمي.

أتيت بالمثال القريب هذا لأشير إلى أنَّ ظاهرة "التعفيش" هي الابن الشرعي للنظام السوري، فهي ملازمة له على مدى تاريخه. وإذا كانت هذه الظاهرة قديمةً، ترتبط بما كان يُعرف في المجتمعات القبلية القديمة بالغزو، فردياً كان أم جماعياً، وجوهرها الحصول على الغنائم، فإن جيوش الإمبراطوريات الغابرة قد أوجدت له أنظمة وقوانين تأخذ بالحسبان قدرات المقاتل ومكانته في ترتيبات تلك الجيوش، حتى إن المقاتل كان يرتقي بناءً على كفاءته القتالية وبلائه في المعارك. لكن هذا الشكل انتفى في العصور الحديثة، إذ ارتقت الدولة بوظائفها، وصارت لها مؤسساتٌ تقوم على أسسٍ من الحقوق والواجبات، ترتب على كل من ينضوي تحت لوائها قواعد يتقيد بها تحقيقاً لمفهوم المواطنة المعاصر. وما عاد لأفراد الجيش من وظيفةٍ غير حماية الدولة في مقابل رواتب مجزية، ومكانة مرموقة، وثمّة خدمة وطنية طوعية هي مجال اعتزاز المواطن وفخره.

وقد أخذ الجيش مكانة خاصة بين مفردات الوطن تصل إلى مرحلة القداسة، فهو حامي حياض الوطن، وموفر الأمن والسلام لمواطنيه.. وذلك كله حين تكون الدولة قائمة بمفهومها المعاصر. أما حين تكون سلطة لجماعة ما، فالمعايير تختل، وتغيب القيم وأهمها القيم الوطنية والإنسانية على غير صعيد، ويفقد الجيش مكانته الرفيعة، فهو ليس جيشاً للشعب، وإنْ سمي بذلك، (معروفة تسمية الجيش السوري جيش الشعب منذ استيلاء حزب البعث على السلطة أوائل ستينيات القرن الماضي)، فما إن تحين فرصةٌ ما حتى تبرز هذه العداوة بأبشع صورها؟! فما عرف بـ "ظاهرة التعفيش" التي مارسها الجيش وأعوانه في معظم المدن السورية حلقة في سلسلة طويلة صدئة، تمتد إلى عام 1984، حين نوى رفعت الأسد تعفيش مدينة دمشق عاصمة بني أمية.

يورد وزير دفاع حافظ الأسد، العماد مصطفى طلاس، في مذكراته التي أخذت اسم "مرآة حياتي" شيئاً عن تهديد دمشق بالدمار والاستباحة خلال فترة الصراع الذي دار حول السلطة بين رفعت الأسد وأخيه حافظ لدى مرض الأخير عام 1984، وما شابَهُ من حوادث لها دلالاتٌ تشير إلى عقلية الضابط المعفِّش أملاك الشعب، والمعفَّش ضميراً وطنياً وأخلاقاً إنسانية، فيقول: "تقوم كتائب المدفعية (ب م ـ 21) بقصف دمشق عشوائياً لإرهاب السكان، وقطع أنفاس الناس، حتى يصبح أهل الشام مثل أهل بغداد أيام الحجّاج سابقاً، وأيام صدّام لاحقاً. (ما حدث في سورية تجاوز الاثنين معاً). بعد ذلك، تقوم مفارز المشاة من سرايا الدفاع (كتائب خاصة برفعت الأسد) بعملية نهب وسلب للمدينة المنكوبة، وقد أبلغ العميد رفعت الأسد ضبّاطه وجنوده أنّ المدينة ستكون لهم حلالاً زلالاً مدّة ثلاثة أيام بلياليها.. وبعدها لا يجوز أبداً أن يظلَّ فقير واحد في سرايا الدفاع، وإذا طلب أي جندي بعدها مساعدة أو إكرامية ستقطع يده..".

وهنا لا بدَّ من التذكير بأنَّ صراع حافظ ورفعت جاء بعد إغراق مدينة حماة بالدم، واستباحتها بالكامل، وكذلك بعد الأفعال "التعفيشية" المشينة للجيش السوري فيها، وفي لبنان أيام كان مطلق اليد هناك (يحصد اليوم اللاجئون السوريون "عفش" تلك الأيام) ناهيكم بالمجازر التي حصلت بوجوده ضد الشعب الفلسطيني، وأدت إلى إخراج منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت، وكان خروجها بدايةً للخراب الذي عمَّ ديار العرب والعروبة بعد عام 1967.

وفي متابعة رواية "مرآة حياتي" التي طبعت في بيروت، ومنعت في سورية طباعة وتوزيعاً، على الرغم من أنَّ مؤلفها يملك دار نشر مرموقة في دمشق، وعلى الرغم من أنَّ المذكرات تكيل المديح لحافظ الأسد في كل صفحةٍ من صفحاتها، لكنَّ الملاحظ أنَّ منع نشرها جاء من نثرياتها التي تكشف شيئاً عن شخصية الأسد، وجوهر سلطته القائمة على الولاء والفساد! يقول طلاس: "وفي حديثٍ هامسٍ لأبي دريد (رفعت الأسد) مع مستشاره السياسي محمد حيدر، وكانا يمشيان في ضوء القمر بمعسكرات القابون: "مو حرام، واأسفاه أن تهدم هذه المدينة الجميلة"، فيجيبه محمد حيدر: "والله صحيح حرام... وا أسفاه، ولكن شو طالع بأيدينا غير هيك".

وواضحٌ أنَّ هذا الحديث بين الاثنين ما هو إلا نوع من المراوغة والكذب المضلل للعقل، وهو محاولةٌ لإيجاد نوعٍ من الوهم النفسي، يبرّر للمجرم ما سيأتي به من أفعالٍ يقوم بها جيش مهزوم أمام عدو بلاده الحقيقي.

وتذكر "مرآة حياتي" حادثةً أخرى، تشير إلى جذر ما قامت به أجهزة بشار الأسد الأمنية، منذ الأيام الأولى للاحتجاجات الشعبية من تهيئةٍ لما جرى، فيما بعد، من حالات التعفيش المخزية لأملاك المواطنين السوريين في مدن حمص وحلب وداريا والقصير، وكان جديدها ومثالها الفاقع مخيم اليرموك وبلدة دوما، إذ يقول العماد طلاس: "في أوائل نيسان من العام 1984 وحوالي الساعة الرابعة بعد الظهر، تلقيت اتصالاً هاتفياً من قائد قواتنا في طرابلس، العميد سليمان حسن، أعلمني أنَّ علي عيد جهز مفرزة من اللصوص، قوامها حوالي مئتي عنصر مع عشرين سيارة متنوعة، وهم مسلحون ببنادق كلاشينكوف ومدافع مضادة للدروع (آر. ب. ج.7) وقنابل يدوية ومسدسات. وهناك اتفاقٌ ضمنيٌّ مع "أبو دريد"، يعني العميد رفعت الأسد، بأن هذه المجموعة سوف تشارك في نهب محلات المجوهرات، خاصة في دمشق، عندما تحين ساعة الصفر لاستباحة المدينة، ثم يهربون بالمسروقات إلى لبنان (طرابلس الشام)، وهناك تتم عملية الاقتسام".

بالطبع، لم تكتمل العملية، إذ جرى تسفير رفعت الأسد وصحبه، ودفع معمر القذافي "الثوري الآخر" ملايين الدولارات التي جرى اقتسامها ما بينه وبين البنك المركزي السوري الذي كان مصفِّراً حتى من الفئران، على حدِّ تعبير العماد طلاس نفسه.

ما يُراد الوصول إليه هنا أنَّ عملية التعفيش المخزية ليست ظاهرة جديدة، بل قديمة ترتبط ببنية السلطة الفردية المطلقة وفسادها، وبأخلاقيتها وجبنها وهزائمها المتلاحقة التي أوصلت المواطن السوري إلى ما لا يُحسد عليه، إذ أخذ يفاضل اليوم بين سلطة "بلاده الوطنية" وسلطة المحتل الروسي التي تتظاهر بتوفير الأمن له، وكأنَّ لسان حال السوري اليوم هو قول الشاعر المتنبي: ومن نكد الدنيا على الحرِّ أن يرى/ عدواً له ما من صداقته بدُّ.

اقرأ المزيد
١٦ يونيو ٢٠١٨
اليرموك.. الرقص على جثة المخيم!

أيها اللاجئ الفلسطيني في سورية، إنه مخيم اليرموك الذي كنت كلما فَرَغَتْ قربتك تزودت من معينه. كلما ضعفت أو تعبت، أسندت ظهرك إليه. كلما جار عليك الزمان، رميت رأسك على صدره. كلما ضاقت بك الدنيا وعبست بوجهك المدن، التجأت إلى فضاءه الرحب. كلما انتابك خوف أو جزع وجدت الطمأنينة فيه، ولا تبالي إن فاتتك الدنيا خارجه. صادمة هي الصور الآتية اليوم من المخيم، الحيز الجغرافي الذي شكل على مدار عقود، التجمع الأكبر للاجئين الفلسطينيين خارج فلسطين. المخيم المدرسة، النهضة الاقتصادية والثقافية والسياسية، ساحة العمل الوطني الأهم خارج البلاد. المخيم الذي يضم في تربته عشرات القادة الشهداء الذين ارتقوا على طول سنوات الصراع مع الاحتلال.

بينما كان يعيش مخيم اليرموك، بكل ما يمثله من رمزية للشعب الفلسطيني، خرابه الأخير، كان هناك على المقلب الآخر، فلسطينيون، لديهم ما يكفي من الترف وفائض الوقت للحديث عن الزفاف الملكي البريطاني. آخرون انشغلوا بمتابعة الشائعات المتعلقة بصحة الرئيس الفلسطيني، وكأن هذا المخيم ينتمي لجزر الأرخبيل الإندونيسي، فيما عم الصمت الجهات الرسمية والفصائلية الفلسطينية، باستثناء تلك المحسوبة على النظام، حيث انشغلت بالحديث عن الانتصار والتحرير وطرد الإرهاب ودعاوى "إعادة الإعمار"!

في العودة إلى البدايات فإنه بعد مجزرة شارع الجاعونة الشهيرة منتصف تموز 2012، خرج المحلل السياسي "طالب إبراهيم" متحدثاً بلسان النظام، وقال بالحرف: "هذا المثلث الأخضر (يقصد المخيم) سيتحول إلى مثلث أحمر إن لم تكف "العصابات المسلحة" عن استخدامه ضد "الدولة السورية". بدا الحديث مفاجئاً ومستهجناً، إذ لم يكن ثمة "عصابات" حينئذ، ولا مسلحين، وكان المخيم يخضع بالكامل لما سمي حينها "اللجان الشعبية" التابعة للفصائل الفلسطينية المحسوبة على النظام (الجبهة الشعبية- قيادة عامة، فتح انتفاضة، جبهة النضال الشعبي، تنظيم الصاعقة). كل ما هنالك أن أهالي المخيم قرروا فتح المدارس والمساجد وتحويلها إلى مراكز ايواء للنازحين الذين قدموا من حي الميدان والعسالي وحي القدم والحجر الاسود وحي التضامن، وجادوا بالغالي والنفيس لإغاثتهم والتخفيف من معاناتهم.

الذي حصل أن إرادة الصهاينة المتمثلة بإزالة مخيم اليرموك والتخلص منه، لما هو عنصر تهديد ظل قائماً منذ النكبة، شاهداً عليها، حاضنة لكل ما يتصل بمعركة التحرير المنشودة، يرفد العمل الوطني بالكادر البشري، يحفظ الذاكرة الفلسطينية، ويبقيها حية، وحاضرة مهما تقادمت عليها السنوات، وجدت أخيراً هذه الإرادة من ينفذها. من نافل القول أن ما نزل بمخيم اليرموك يُعبر عن عقيدة النظام السوري تجاه أي منطقة أو مدينة، تشق عصا الطاعة، أو يصعب اخضاعها. الأدلة في هذا الباب أكثر من أن تحصى. بيد أن المختلف في قضية المخيم، هو خصوصيته، ورمزيته، وتاريخه، ودوره في معادلة الصراع مع الاحتلال منذ النكبة. كل هذا لم يشفع لمخيم اليرموك بالرغم من خطاب الممانعة الذي يتغنى به النظام دائماً.

في المشهد الأخير جاء "التعفيش" والنهب، والشماتة، والرقص على أنقاض مساكن اللاجئين الفلسطينيين المهدمة، والقهقهة أمام مشاهد الدمار، كبند أخير من بنود العقاب_ المؤامرة، على مخيم اليرموك وأهله. ومن جهة أخرى، فإن الصور التذكارية وتصريحات قادة الفصائل والشخصيات الفلسطينية التابعة للنظام، على أبواب المخيم، وفي شوارعه وساحاته، جاءت لذر الرماد في العيون، وفي سياق عملية تضليل وقلب للحقائق، مستمرة منذ قصف المخيم بطائرات الميغ عام 2012، ولتأكيد رواية النظام لما حل بالمخيم، وصولا إلى الترويج لما يسمى حاليا بعملية إعادة الإعمار.

الدمار الهائل الذي بدأ يتكشف مع خروج الصور والفيديوهات من مخيم اليرموك، يثبت صدقية هواجس الناس تجاه عملية اسقاط المخيم وظهور داعش كالفطر في جنوب دمشق، من ثم عملية "تحرير" المخيم وطرد التنظيم. اختصر المشهد السيد أنور عبد الهادي رئيس الدائرة السياسية في منظمة التحرير من دمشق عندما أكد أن العودة غير ممكنة ولن تكون قريبة بسبب الدمار الكبير، وطالب الأونروا والمنظمة بالاستعداد لعملية إعادة الإعمار. وأكد ذلك أيضاً الناطق باسم وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الأونروا عندما قال أن الدمار طال أكثر من ثمانين بالمئة من مباني المخيم وما بقي واقفاً فهو متهالك وغير صالح للسكن.

الوضع الحالي للمخيم لا يسمح بإعادة إعمار دون إزالة الكتل المدمرة والتي تشكل أكثر من ثمانين بالمئة من المباني السكنية، ما يعني إزالة أحياء وشوارع أساسية. بمعنى آخر، سيتم تجريف المخيم بعد الانتهاء من عمليات النهب و "التعفيش" الجارية على قدم وساق، من ثم عليكم أن تنتظروا مثل بقية سكان المناطق المهجرة، عملية إعادة الإعمار المرتبطة بالحل السياسي وتعقيداتها.

المحصلة الأكيدة أن المخيم انتهى إلى غير رجعة، إذ حتى لو صدق السيد أنور عبد الهادي الذي أمنت منظمته الغطاء السياسي للنظام في كل إجراءاته المتخذة ضد المخيمات، فإن التركيبة الديموغرافية أو البنية السكانية والتي شكلت هدفاً أساسياً لمن قرر تجريف المخيم، يستحيل أن تعود. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا، هل ستتم عملية اعادة اعمار الموعودة وفق المخطط والواقع التنظيمي السابق، بطريقة تحفظ خارطة المخيم وكينونته ورمزيته، وتضمن عودة السكان وفق التركيبة الديموغرافية السابقة، أم أنه سيعاد تنظيمه وهندسته وفق مخططات جديدة، تنهي وجود المخيم إلى الأبد، وتثبت عملية التجريف التي تعرض لها المجتمع الفلسطيني في مخيم اليرموك؟

وإذا ما أخذنا بالحسبان الأوضاع الاقتصادية والسياسية التي تمر بها دول الاقليم، لاسيما تلك التي تساهم بدعم الأونروا والسلطة الفلسطينية، في ظل الحديث عن صفقة القرن وشطب ما يسمى بقضايا الحل النهائي ومن ضمنها قضية اللاجئين وحق العودة، فهل ستقبل تلك الدول دعم عملية إعادة الإعمار في هذه الظروف، هذا فضلاً عن الأزمات التي تتعرض لها الاونروا على الصعيد المالي وهي بالكاد تستطيع تأمين متطلبات التعليم والصحة لهذا العام.

خلاصة القول، هناك تجارب مريرة لشعبنا الفلسطيني لا تزال ماثلة أمامه لمخيمات تم تدميرها وإزالتها وانتهت من الوجود، وأخرى تلقى أهلها وعوداً بالعودة إليها وإعادة الإعمار كمخيم نهر البارد الذي لم تنته عملية اعماره منذ أحد عشر عاماً، بيد أن الحقيقة المرة والمؤسفة، والثابت الوحيد الذي يُجمع عليه سكان مخيم اليرموك اليوم بمختلف مشاربهم وتوجهاتهم، هو أن المخيم انتهى إلى غير رجعة.

اقرأ المزيد
١٦ يونيو ٢٠١٨
"تخلص".. عندما تتحرّر سورية من الاستبداد

عرْضُ ساحة الأمويين في دمشق والمباني المحيطة بها، ونافورة الماء فيها، والحافلات تملأها، والمذيعة العفيَة بصحتها، المزيَنة بثيابها الأنيقة، وضيفها الفيلسوف على شاشة تلفزيون نظام الأسد، ذلك كله وغيره، لا يلغي الساحات والمباني المدمًرة في معظم سورية، ولا شتم الأمويين أو اللطم الإيراني في مسجدهم، ولا انقطاع الماء في سورية وغرق السوريين هرباً في المياه الدولية، ولا حافلات "داعش" التي كانت تحميها مليشيات قاسم سليماني وحسن نصر الله في أثناء عبورها سورية من غربها إلى شرقها، ولا صورة المذيع المليشياوي الذي يبشَر مناطق الحصار والتجويع بالباصات الخضر، ولا صحة المعتقلين الذين تحولوا إلى ركام من العظام في معتقلات الأسد، ولا ما تبقى من ثياب رثة عند الأسر السورية المعوزة المغصوصة، ولا فلسفة الضيف تمتُ إلى أي سرديةٍ سوريةٍ لها علاقة بواقع الحال السوري البائس.

بعد بضعة أسابيع على انتفاضة أهل سورية على الاستبداد، أشاع نظام الأسد مفردة "خلصت". مرَ عام بعد عام على ثورة السوريين، وبقيت المنظومة الاستبدادية منفصمةً عن الواقع، متجاهلة، في خطابها وسياساتها، ما يحصل في سورية. والآن، تعود الأسطوانة المزيّفة ذاتها، ولكن على نطاق أوسع. تتصوّر أنها أوصلت السوريين إلى درجةٍ من اليأس والإحباط، لكي يسلموا بما تسميه "الأمر الواقع"، وما يسميها أبواقها "الواقعية السياسية". إنها ترى الأمور جغرافيا، لا نفساً وروحاً وإرادةً وموقفاً وقراراً بالخلاص مما كان قائماً. خرجت ثلاثة أرباع سورية من ربقة الاستبداد في وقت من الأوقات. كان الفاعل بالنسبة لمنظومة الاستبداد الإرهاب والمؤامرة الكونية، ولم تعترف يوماً بأنها روح شعب سورية، ونفسه وإرادته، وموقفه الرافض لاستبدادها والخلاص منه. استدعت له إيران، وبعدها روسيا لـ "تحرّر" أرض سورية من أهلها. استلزم "التحرير" حصاراً لم تقم به النازية، ودماراً لا يشبه إلا ما حدث في غروزني.

شرّد فِعْلُ منظومة الاستبداد نصف سكان سورية داخلاً وخارجا، هدّم نصفها، أفقر معظمها، خرّب النسيج الاجتماعي، حوّل الدولة إلى وقيع تتقاذف سيادته، وتستبيحها أكثر من عشر قوى. ولا يتوقف قادة منظومة الاستبداد عن التشدّق بالسيادة المتهتكة. قالها الإيرانيون والروس إنه لولاهم لسقطت تلك المنظومة. ذلك لا يهمهم؛ وتابِعوهم يشترون سرديتهم بكل وضاعة، وينعتون الروس والإيرانيين بالأصدقاء والحلفاء الذين يحاربون معهم الإرهاب.

عادةً، يختلف اللصوص؛ وها هم "الأصدقاء والحلفاء" يختلفون. منظومة الاستبداد بين المطرقة والسندان؛ إذا بقوا، لا سيادة ولا قيمة لهم، وإن خرجوا، السقوط المحتّم مصيرهم. إن خرج أحدهم، وإيران المرشح الأوفر حظاَ، زاد استعباد الروس لهم، وانفضحت كذبة السيادة أبدياً، والسقوط الحتمي هو المصير. هذا في السندان، أما في المطرقة، فأميركا تضع يدها على سورية المفيدة فعلياً، وتركيا على حدود الشمال؛ وحدود الجنوب والشرق لا تنفع معها بروباغندا التحشيد أو الاستسلام عن طريق "المصالحات".

تستمر مكابرة منظومة الاستبداد؛ فبعد التعنت وعرقلة أي فرصةٍ لحل سياسي، وبعد اضطرار روسيا لنوعٍ من الحصاد السياسي بعد ثلاثة أشهر من التدخل (تحولت إلى ثلاث سنوات)، وبعد تحايل روسيا على القرارات الدولية، وسعيها إلى تفصيل حل بمقاسها ومقاس المنظومة، تراها أخيرا مأزومةً على حل عبر تكوين لجنة دستورية تجاوبت معها منظومة الأسد مرغمة بعد سحبها القبول من فم الأسد أمام كاميرا بوتين في سوتشي... بعد كل ذلك الانسحاق، تشيع منظومة الاستبداد مفردة "خلصت" للمرة المئة.

لا أيتها المنظومة؛ ما خلصت؛ وكي تخلص لا بد من رسم دستور جديد، ينهي تحكم فردٍ بالبلاد والعباد، يخلق البيئة الطبيعية المحايدة المناسبة، ليختار شعب سورية مَن يريد أن يتعاقد معه لحمل مسؤولية الحكم الخالي من الاستبداد والظلم والإجرام.

منظر الشاشة الباهر، وخطاب المحبَطين والمحبِطين واليائسين والميأسين، وهراء إعادة الإعمار عن طريق دول السلاح والفقر، والقانون رقم عشرة، والمجتمع المتجانس، و"أنصاف الرجال"، والخطف، وأخذ الرهائن والأتاوات ممن تبقى من "جيش حماة الديار"، وتحكّم الشرطة العسكرية الروسية بمليشيات "الدفاع الوطني" وحلها، واستدعاء رئيس المنظومة إلى سوتشي، وهذر وليد المعلم، والشبيحة الذين تسللوا إلى أوروبا، وإسرائيل التي تريد أن تثبِت ضمها الجولان واستهدافها عصابات إيران في سورية، ومضافة امتحانات الثانوية، وحال "داعش" المتلاشي وجبهة النصرة المكشوف؛.... لا يشي ذلك كله بأنها خلصت. تخلص فقط عندما تخلصون؛ وستخلصون. ملفات الإجرام تنتظركم في لاهاي. صور التعذيب حتى الموت التي نقلها سيزر (القيصر) حاضرة. بيوت سورية ومشافيها وأسواقها المدمرة حاضرة جداَ. لا يزال مفعول السلاح الكيميائي حاضراَ جداَ جداَ، حتى عند أرواح من استخدمه.

الأهم من ذلك كله أن هناك من لا يزال مصمما على الخلاص، طالما عقله ونفسه يعملان. سـ"تخلص" وستعود سورية إلى سكة الحياة؛ ولكن حرة من الاستبداد والاستعباد والتزييف والبيع الرخيص من أجل بقاء الطغمة. هذا ليس تفكيراً رغبوياً؛ إنه المسار الطبيعي للتاريخ؛ حتمي، حتى ولو طال الزمن.

اقرأ المزيد
١٦ يونيو ٢٠١٨
هل تحوّلت قوات إيران في سورية عبئاً؟

بغض النظر عما قاله بشار الأسد، في مقابلته أخيرا مع صحيفة بريطانية، عن خلافات مع حليفه الروسي، ونفيه أن تكون روسيا تملي عليه قرارته؛ وبغض النظر عن كلام الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، في ذكرى يوم القدس، إنه مستعد لإخراج قواته من سورية، إذا طلبت منه القيادة السورية ذلك؛ فالأكيد أن الأسد لا يقدر على رفض مطالبة الروس بخروج القوات الأجنبية من سورية، بما فيها الإيرانية ومقاتلي حزب الله. والأكيد أيضاً أن قرار خروج مقاتلي حزب الله في يد القيادة الإيرانية أولاً.

واضح اليوم أن مفاوضات الروس حالياً مع جميع الأطراف، لتحقيق استعادة جيش نظام الأسد على المنطقة الحدودية الجنوبية، شكلت تحولاً في العلاقات بين أعضاء التحالف المؤيد للنظام، وأظهرت إلى العلن التضارب بين المصالح الروسية والمصالح الإيرانية في سورية. كما أبرزت دور إسرائيل في رسم الخطوط الحمراء وبلورة الوقائع على الحدود في هضبة الجولان.

ضمن هذا السياق، تبرز خمس حقائق: الأولى التي ليس في وسع نظام الأسد إنكارها أنه لولا القوات الإيرانية ومقاتلي حزب الله والمليشيات الشيعية، لما استطاع الأسد الصمود في الحرب الأهلية السورية الدموية، لكن الروس هم من حققوا انتصاره في هذه الحرب، ورجّحوا الكفة لصالحه.
الحقيقة الثانية التي يعيها ضمناً نظام الأسد أن مصلحته الآن تتلاقى مع المصلحة الروسية، الرامية إلى تعزيز نظامه واستعادته السيطرة على كامل أراضي سورية. وهي تتعارض حالياً مع مصلحة إيران التي تهدف إلى تعزيز وجودها العسكري في سورية، الأمر الذي قد يعوق سيطرة الجيش السوري على هضبة الجولان، في ظل التهديدات الإسرائيلية ضد الوجود العسكري الإيراني.

الحقيقة الثالثة، أوضحت إسرائيل، في مفاوضاتها مع الروس، أنها ليست ضد عودة الأمور إلى ما كانت عليه قبيل اندلاع الثورة في سورية. وفي الواقع الدعم الذي يقدمه بنيامين نتنياهو إلى الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، بمثابة موافقة علنية على سياسة الأخير في سورية، أي قبول إسرائيل بعودة جيش الأسد إلى الحدود، لكنها تشترط حدوث ذلك بإبعاد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني ومليشيا حزب الله عن الحدود، ولن تقبل التنازل عن هذا الشرط.

الحقيقة الرابعة، حتى سقوط مدينة حلب في 2016، نجحت العقيدة العسكرية التي طبقتها إيران في سورية باستخدام مليشيات شيعية تقاتل على الأرض، وتأتمر بأوامرها. وبحسب دراسةٍ نشرها معهد واشنطن للدراسات الاستراتيجية، انتقلت إيران، بعد ذلك، إلى مرحلة جديدة، تميزت بترسيخ وجودها العسكري في سورية، واستأجرت لهذه الغاية أكثر من 20 منشأة عسكرية سورية لتخزين المدافع والصواريخ الباليستية للحرس الثوري، بالإضافة إلى منصات صواريخ والطائرات من دون طيار، والعمل على استكمال بناء ممر برّي يربط طهران بسورية. ما تفعله إيران اليوم هو دفاعٌ عن مصالحها البعيدة المدى من خلال وجود عسكري دائم في سورية. والسؤال الآن: هل مع قرب انتهاء القتال في سورية تحولت القوات الإيرانية من رصيد إلى عبء؟

الحقيقة الخامسة، على الرغم من التحالف القوي اليوم بين روسيا وإيران الذي يستند إلى مصالح مشتركة في سورية، وإلى سياسةٍ معادية للغرب إجمالاً، والولايات المتحدة خصوصاً، فإن لروسيا علاقات جيدة وقديمة مع تل أبيب، تعود إلى عدة أسباب، منها وجود أكثر من مليون مهاجر من أصل روسي في إسرائيل، وكون تل أبيب جسرا بين موسكو وواشنطن. وهذا يفسر التواصل الدائم والعلاقات الجيدة بين بوتين ونتنياهو. وقد كان الأخير من القادة البارزين القلائل الذين شاركوا بوتين في موسكو الاحتفالات بالانتصار على النازية. قد تكون روسيا بحاجة إلى إيران على المدى القصير. ولكن لا شيء يضمن استمرار ذلك بعد التسوية السياسية في سورية، خصوصاً إذا كان الوجود العسكري الإيراني هناك سيعرّض للخطر هذه التسوية، أو سيزعزع استقرار نظام الأسد مستقبلاً، في ظل التهديدات الإسرائيلية المعارضة لهذا الوجود.

يسعى الروس إلى تسويةٍ تضمن، بالدرجة الأولى، مصالحهم على المدى البعيد، وتعزّز استقرار نظام الأسد، ولا تغضب الإيرانيين، وتهدّئ من مخاوف الإسرائيليين. والسؤال: ما الذي ينتظره فعلا الإسرائيليون من الروس؟ برأي خبراء عسكريين إسرائيليين، الرعاية الروسية لإخراج المعارضة من جنوب سورية، وإبعاد الإيرانيين وحزب الله مسافةً معينة عن الحدود، يمكن أن تؤدي إلى نتائج تكتيكية قد تخدم إسرائيل في المرحلة الحاضرة. لكن مشكلة الوجود العسكري الإيراني لن ترى طريقها إلى الحل في رأي هؤلاء، ما لم يجر التوصل إلى حل لمشكلة المواقع العسكرية التي يشغلها الإيرانيون في أماكن متفرقة من سورية، وتفكيك منشآتٍ أقامتها لتطوير سلاح نوعي لحزب الله. وحل هذه المسألة سيكون على الأرجح على عاتق إسرائيل نفسها.

اقرأ المزيد

مقالات

عرض المزيد >
● مقالات رأي
٣١ يوليو ٢٠٢٥
تغير موازين القوى في سوريا: ما بعد الأسد وبداية مرحلة السيادة الوطنية
ربيع الشاطر
● مقالات رأي
١٨ يوليو ٢٠٢٥
دعوة لتصحيح مسار الانتقال السياسي في سوريا عبر تعزيز الجبهة الداخلية
فضل عبد الغني مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان
● مقالات رأي
٣٠ يونيو ٢٠٢٥
أبناء بلا وطن: متى تعترف سوريا بحق الأم في نقل الجنسية..؟
سيرين المصطفى
● مقالات رأي
٢٥ يونيو ٢٠٢٥
محاسبة مجرمي سوريا ودرس من فرانكفورت
فضل عبد الغني
● مقالات رأي
٢٥ يونيو ٢٠٢٥
استهداف دور العبادة في الحرب السورية: الأثر العميق في الذاكرة والوجدان
سيرين المصطفى
● مقالات رأي
١٧ يونيو ٢٠٢٥
فادي صقر وإفلات المجرمين من العقاب في سوريا
فضل عبد الغني
● مقالات رأي
١٣ يونيو ٢٠٢٥
موقع سوريا في مواجهة إقليمية محتملة بين إسرائيل وإيران: حسابات دمشق الجديدة
فريق العمل