بعد غيبة قصيرة، على إثر اندلاع ثورات الربيع العربي التي لم ينكر أحد أنها كانت تهدف إلى إحلال حكوماتٍ تمثيليةٍ ودستوريةٍ محل نظم مستبدة ظالمة ووحشية في تعاملها مع شعوبها ومجتمعاتها، يستعيد بعض الباحثين اليوم نظرية الاستثناء العربي القديمة. ولكن في حلة جديدة تبدو أكثر حيادية، هي نظرية الخصوصية العربية. وهم يحاولون تفسير فشل ثورات الربيع العربي الشعبية في إنجاز تحول ديمقراطي، مثلما حصل في شرق أوروبا، بعد انهيار الكتلة السوفييتية، بالطابع الخاص للمجتمعات العربية التي تبدو متشبثةً أكثر من غيرها بالإرث الثقافي والديني الذي لا تريد الانفصال عنه. ويأتي انتشار الحركات السلفية والإسلاموية الواسع، وانتزاعها القيادة في الثورات العربية، بمثابة التأكيد القاطع لفرضية الخصوصية هذه. ومن الطبيعي أن يلتهم أنصار الاستبدادين، الديني والسياسي، في العالم العربي، هذا التفسير، ليبرّروا حرمانهم مواطنيهم من حقهم في الولوج إلى هذا المكتسب المدني الإنساني والتاريخي الجوهري، والمفتاح لمكاسب أخرى معا.
بدايةً، ليست الثقافة مطابقةً للإرث الثقافي، فهي، بعكس الإرث الناجز والجاهز، عملية تفاعل حي مع الواقع والتاريخ معا، أي تثقف دائم ومثاقفة وانغماس للذات في الحدث والعصر. ولا يفكّر الأحفاد، مهما حاولوا واجتهدوا، وتوهموا، كما يفكر الأجداد. العرب، مثل جميع الشعوب والمجتمعات يعيدون تأويل الإرث الماضي، الديني والمدني، ويختارون منه، ويصوّرونه أيضا، على حسب حاجاتهم التاريخية، ومن خلال ذلك يقومون بتكوين ذاتيتهم/ ذاتهم في نشأتها الجديدة، التي تأخذ من العصر إشكالاته وقيمه وحوافزه وغاياته الانسانية، ومن الماضي مادتها وبعض رموزها.
(1)
من هنا، يشكل النزوع إلى استيعاب الحداثة وقيمها وغاياتها المحرّك الأول لبناء الثقافة التي ليست سوى بلورة الخيارات الجديدة، ونشدان الفعالية في كل ميادين النشاط المجتمعي. وكما كان استيعاب العلوم والتقنيات وأنماط العمران والإنتاج والاستهلاك هو الموجه لنشاط المجتمعات العربية وغيرها في القرنين الماضيين، كان بناء دول وطنية وتزويدها بقوانين ومدونات مكتوبة ومؤسسات دستورية متعدّدة، وتبني نمط التوزيع السائد للسلطات فيها، الرد الأول والطبيعي والمنطقي على الحاجة إلى إعادة تأسيس الدولة، بالنسبة للنخب العربية وغير العربية، الخارجة من عصور السلطنة المنتهية، ثم من بعدها عهد الوصاية الاستعمارية. هكذا، باستثناء حالاتٍ خاصة، تقاطعت فيها مصالح داخلية وخارجية قوية، نشأت أكثر الدول العربية المستقلة على نمط الدولة الديمقراطية التعدّدية المدنية، واستمرت معه خلال النصف الأول من القرن العشرين. تفسير ذلك سهل جدا، وفي متناول الجميع، لأنه سنة التاريخ وقانونه الذي يفيد بأنه لا يعيش اجتماع سياسي ومدني، ما لم يتمثل أسس قيام الاجتماع السياسي التاريخية، أي المتبعة في عصره، لأن العالم لا يتكون من مجتمعاتٍ مغلقةٍ، ومكتفيةٍ بنفسها، ومتكوّرة على ذاتها، لكنه يتشكل في الصدام والصراع والتنافس. والشعب أو القومية التي لا تنجح في تمثل قواعد العمل والصراع السائدة في عصرها تخرج من التاريخ، وتتهمش قبل أن تذوب في غيرها.
ما يبدو من مظاهر تشبث المجتمعات العربية بالإرث الثقافي والديني القديم ليس له علاقة بهذا الإرث نفسه، وإنما هو ثقافة جديدة أو جزء من ثقافة جديدة، هي ثقافة الرد على حالة التهميش والإقصاء والعنصرية التي تعيشها الأغلبية الساحقة من الكتل الشعبية المنتزعة من أي هويةٍ وثقافةٍ، وهي ثقافة مختلفة تماما تعبر عن ميولٍ وتوجهاتٍ ومخاوف وتناقضاتٍ وتطلعاتٍ واختناقاتٍ نشأت في ظل الأوضاع الداخلية والخارجية القائمة في حضن المجتمعات بعد، وبسبب إجهاض محاولاتها الرائدة للانعتاق منذ قرنين. وهي ما أسمّيها ثقافة الضد أو الثقافة المضادة أو مقلوب الثقافة.
وبالمثل، لم يكن الفكر الديمقراطي وليدا شرعيا لأي ثقافةٍ أو إرثٍ خاص. لقد نجم عن طفرات وانقطاعات فكرية وسياسية، طرأت على مسار بعض المجتمعات الأوروبية المتأزمة، بعد أن لم تكن موجودة من قبل. ولكنه أصبح في عصرنا، كالماء والهواء، جزءا من البيئة الثقافية والسياسية والنفسية المشتركة للبشرية، ويقف في مقدمة جدول العمل التاريخي لجميع الشعوب.
(2)
وكما أنه لا يوجد شعب منفصل اليوم عن تحولات الثقافة والسياسة والفكر العالمي، كذلك لا يوجد شعبٌ يفضّل العبودية، أو حكم السيد الإقطاعي، أو الملك المطلق السلطات، على نظم التعددية الديمقراطية والمشاركة وحكم القانون والمساواة الأخلاقية والقانونية.
أكيد أن تيارات رأي سياسيةٍ نشأت، منذ بضعة عقود، تعتقد أن القيم والمبادئ الدينية ينبغي أن تتقدم على مرجعية السيادة الشعبية أو الحكمة العقلية، وقد حققت بعض النجاح في الظروف الصعبة التي تمر بها المجتمعات الباحثة عن مخرجٍ من معاناتها، لكنها لم تلبث أن اصطدمت بالواقع الصلد، وخسرت رهاناتها، واقع أن القيم الرئيسية التي تحرّك الفرد، أي الأغلبية الساحقة من البشر، بما في ذلك جزء كبير من جمهور هذه الحركات، هي قيم المدنية الإنسانوية التي بدأت تنتشر منذ عهد النزعة الإنسانية والنهضة الأوروبية. وأن المجتمعات التي خدعتها وعود تطبيق "الشريعة" الدينية بدل الدستور، أي في الواقع الأخذ برأي الفقهاء والشرعيين، بدل رأي ممثلي الشعب المجسّد في حكم القانون، سرعان ما وجدت نفسها في صدامٍ مع هذه التيارات، وتخلت عنها لإدراكها تناقض أهدافها مع تحقيق قيم المدنية الإنسانية التي تتطلع إليها.
هذا ما حصل للحركات الاسلامية الإخوانية في السابق، ويحصل للسلفية التي تطفلت على بعض ثورات الربيع العربي البارحة، وما أدى إلى صدام عنيف في أكثر من مكان بين المدنيين وسلطة الأمر الواقع للمنظمات الجهادية الداعشية، أو القاعدية، والتي تحثها عقيدتها علنا ومباشرة على تكفير الجمهور الواسع، وإدانته والاعتداء المستمر عليه.
لا أريد أن أستنتج من ذلك أنه لا توجد خصوصية في التجارب العربية، إنما خصوصية من داخل الشرط الإنساني العام، لا ضده ولا من خارجه. وفي هذه الحالة، تتساوى جميع الشعوب والمجتمعات في سمة الخصوصية، ولا تتميز بها حالة بذاتها. فلا يوجد وضعان متماثلان لمجتمعين، حتى لو انتميا لتراث واحد.
ينجم عن ذلك أن بذور التحولات الديمقراطية موجودة اليوم في تربة المجتمعات كافة، الشرقية والغربية، المتقدّمة والمتأخرة. وأن الدافع المشترك لها جميعا هو التطلع إلى الانسجام والتناغم مع القيم الإنسانية الرئيسية التي نمت وانتشرت وسادت في القرنين الماضيين، وفي مقدمها قيم الحرية والعدالة والمساواة والقانون والمواطنة، لكن تفعيل هذه البذور، والانتقال بها من حالة الكمون إلى حالة التجسد العملي للقيم المرتبطة بها لا يتعلق فقط بإرث الشعوب الثقافي وعقائدها الدينية وتقاليدها، ولا حتى بإرادة نخبها وأحزابها، وإنما بخصوصية شروط تحقيقها واختلاف بعضها عن بعض، في نوع التربية الثقافية والسياسية التي تلقتها نخبها الاجتماعية، أو في موقعها في نظام العلاقات الدولية، ودوائر توزيع السلطة والثروة والقوة العالمية، وإزاء الاستراتيجيات الكبرى التي تتنازع فيما بينها على السيطرة الإقليمية والهيمنة العالمية. في المقابل، تبقى الثقافة الشعبية أكثر العوامل المؤثرة في هذا المسار مرونةً، فهي قابلة بسهولة وسرعة للتغيير عن طريق التفسير والتأويل والتجديد. وهذا ما أثبتته تجربة الشعوب العربية ذاتها في النصف الأول من القرن العشرين، حين انتشرت التأويلات الديمقراطية والليبرالية للثقافة التراثية والدين.
كما أن تجربة ثورات الربيع العربي أكبر برهانٍ على أن إعاقة التحول الديمقراطي لم تأت من الشعوب، وإنما من الصراعات الجيوسياسية الإقليمية والدولية التي أثارتها، والموقف الدولي العام الذي انحاز ضدها، وغض النظر عن عملية سحقها من النظم الاستبدادية، وقرّر دعم هذه النظم ضد شعوبها.
وبالمثل، ليس هناك أي أساس للزعم إن دعم الدول الديمقراطية المركزية أنظمة الاستبداد وتأييدها في الشرق جاء على أرضية الخوف من طابع الثورات الإسلاموي، واحتمال حلول نظم إسلامية محل النظم "العلمانية" القائمة. بالعكس، لم تحصل الأسلمة ذاتها ويتسع نطاقها إلا بسبب التخلي الفعلي عن دعم هذه الثورات، وتركها لمصيرها أمام طغاةٍ لم يتردّدوا في تحويلها إلى حروب إبادة جماعية. وفي الحالة الوحيدة التي حصل فيها التدخل العسكري الدولي، بمبادرة من الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي في ليبيا، كان الغرض منه السطو على مصير بلد، والتسابق بمنطق المافيات على وضع اليد على ثروته النفطية، وانتزاعها من فم معمر القذافي وأعوانه وتقاسمها فريسةً، من دون أي تفكير في مصير الليبيين وانتقالهم الديمقراطي أو مصير دولتهم. ولأغراضٍ لا تقل أنانية وسوءا عن التي دفعت إلى التدخل في ليبيا، قامت الولايات المتحدة في عهد الرئيس بوش الابن بحربها التدميرية ضد العراق، للقضاء على نظام صدام حسين. وتشكل هذه التدخلات التي غيرت مسار التطور السياسي لهذه المجتمعات وقوّضته، قبل اندلاع ثورات الربيع العربي وبعدها، امتدادا طبيعيا لسياسات الغرب، وهو الجار وصاحب النفوذ في الشرق، إزاء مشاريع التحديث العربية منذ نهاية القرن التاسع عشر، مرورا بالحقبة الليبرالية ثم الناصرية، ومحاولاته المستمرة لإجهاضها في جميع مستوياتها التقنية والعلمية والسياسية والاقتصادية.
(3)
ما حكم موقف الدول القوية، الإقليمية والعالمية، من ثورات الربيع العربي، هو الحفاظ على توازنات جيوسياسية واستراتيجية واقتصادية، لا علاقة لثقافة العرب ودينهم، ولا حتى للحركات المتطرفة الإسلامية وتوسعها به، وفي مقدمها توازنات القوة بين جنوب المتوسط وشرقه وأوروبا التي قرّرت الإبقاء على منطقة الشرق الأوسط تحت سيطرتها ووصايتها الدائمتين، وبالتالي تعزيز وسائل ضبط تحرّكات شعوبها وتقييد حريتهم. ولم تنشأ المنظمات المتطرّفة الجهادية بمعزل عن هذه الاستراتيجية، فقد ولدت في مستنقع الغل واليأس الذي أنتجه إجهاض مشاريع التحديت والتنمية العربية، وما نجم عن الشعور بانسداد الأفق وغياب الخيارات من روح التمرد والعنف الموجه نحو الذات قبل الآخر، لكنها تشكل اليوم ميدان استثمار مشترك للنظم الاستبدادية ولقوى الوصاية الدولية معا التي تستخدمها لتبرير سياسات الحرب، وتحييد الشعوب وإخضاعها وتشتيتها والتحكّم بمصيرها.
لا تساعد نظرية الخصوصية العربية على فهم أسباب انسداد طريق التحول الديمقراطي في البلاد العربية، لكنها تعمل بالعكس على طمسها، فبتركيزها النظر على إرث العرب وماضيهم، تريد في الواقع أن تغطي على الخصوصية الحقيقية لهذه المنطقة، وهي أنها كانت تعامل دائما بوصفها حقل صيدٍ مفتوحا لجميع القوى الدولية والإقليمية الكبرى المتنافسة، وملتقى جميع تدخلاتها الدينية والسياسية والعسكرية والاقتصادية، الدائمة والمتعدّدة المستويات. وهذا يعني خصوصية الإنكار على هذه الدول وشعوبها مفهوم السيادة، والادّعاء في المقابل الحق بفرض المراقبة على قراراتها وتحولات مجتمعاتها، بزعم الحفاظ على التوازنات الإقليمية، أو حماية الأمن والسلام العالمي، أو مكافحة الإرهاب وحركات التطرف الدينية والقومية. يساعدها في ذلك الوهم الذي غذّته منذ قرون، وهي تعود إليه من جديد حول البعبع الإسلامي الكامن، بعد بعبع الوحدة العربية التي جعلت منها فزاعةً، وشبهتها بالرايخ الألماني، كما شبهت جمال عبد الناصر بأدولف هتلر لتبرير سيطرتها على المنطقة.
من بين جميع هذه المساعي لسد طريق التحول الديمقراطي أمام المجتمعات العربية، يشكل المسعى الرامي إلى تأكيد وجود خصوصية عربية، والمقصود بها في الواقع عاهة ولادية، تمنع العرب من طرق باب التحولات الديمقراطية، وتحول ثوراتهم الشعبية التي قامت من أجلها إلى تمرّداتٍ طائفيةٍ ودينيةٍ وحروبٍ أهلية لا غير، أقول يشكل مسعى التأكيد على الخصوصية الاختراع الأشد فتكا بصورة الشعوب العربية في وعي العالم، ووعي العرب أنفسهم، بمقدار ما يسلبهم هويتهم الإنسانية المشتركة، ويخرجهم من تاريخهم، ويسلم بانعدام قدرتهم أو أهليتهم لتمثل القيم المدنية الحديثة، ورفضهم لها. ما يشكل إدانة قاطعة، أخلاقية وسياسية دائمة، لهذه الشعوب، والحكم عليها بالبقاء في قفص الاستبداد، والنظر إلى الحروب الأهلية والنزاعات المستمرة التي تجري على أراضيها جزءا من هويتها وثقافتها، وهي المسؤولة الأولى عنها لا ضحيتها. ولا تقف النتيجة المنطقية لهذه الافتراضات عند تبرير التخلي عن دعم شعوبها وتركها لمصيرها، فريسة النخب الكاسرة وحلفائها الخارجيين وشركائها من شبكات المافيا الدولية فحسب، وإنما تجعل منها خطرا على الإنسانية، وتبرر بالمناسبة ذاتها تحلل المجتمع الدولي من مسؤولياته السياسية والأخلاقية إزاء استمرار حروب الإبادة الجماعية وانتهاكاتها.
والخلاصة أن الخصوصية العربية الوحيدة في ميدان الانتقال الديمقراطي في البلاد العربية، إذا أردنا بالفعل الحديث عن خصوصيةٍ، تكمن في الإجهاض المنهجي لمشاريع الانعتاق والتحرّر والتحديث، السياسية وغير السياسية، وتفريغها من مضمونها، سواء حصل ذلك بالتدخل العسكري المباشر، أو بالامتناع عن دعم الحركات الديمقراطية والشعبية، أو بتشويه صورة ما يحصل منها وإدراجها جميعا في دائرة الهبات السلبية الطائفية أو الدينية أو القومية أو الإثنية، وفي سورية محو الصورة المدنية والسياسية تماما للثورة، وتمريرها على الرأي العام العالمي كحرب ضد الإرهاب من أجل تبرير إعادة تأهيل نظامٍ، وظيفته الوحيدة حصار السوريين، وإرهابهم وتركيعهم. وفي ما وراء ذلك، ما تهدف إليه نظرية الخصوصية لتبرير فشل التحولات الديمقراطية في العالم العربي هو إقناع الرأي العام العربي والعالمي معا بأنه لا يوجد أمام المجتمع الدولي خيار آخر تجاه تفجر أزمة المجتمعات العربية، والاحتراق ببراكينها سوى التعايش مع النظم الاستبدادية، بل التعاون معها، وتقديم يد العون لها، بصرف النظر عن سقوطها الأخلاقي وهمجيتها، والخراب الذي تقود إليه دولها، فهي السد المنيع الوحيد الذي يمكن الركون إليه لاتقاء شر شعوب،ٍ دينت مسبقا بالفشل والعجز، وانعدام الأهلية للوصول إلى الديمقراطية، وتمثل القيم الإنسانية الجامعة.
تراجعت إلى حد ما في الأشهر القليلة الماضية سرعة تغير المشهد العسكري في سورية، وترافق ذلك مع انخفاض في وتيرة الأعمال العسكرية، واللافت ما ذكرته تقارير إعلامية إسرائيلية قبل أيام من أن إسرائيل وافقت على نشر قوات النظام السوري عند المنطقة الحدودية جنوب سورية في حال سحب الميليشيات الإيرانية منها.
وأكد سفير إسرائيل لدى موسكو، هاري كورين، في حديث إلى وكالة «تاس»، أن بلاده راضية من موقف روسيا إزاء الوجود العسكري الإيراني على الحدود الإسرائيلية السورية، وأشار إلى أن إسرائيل وروسيا تخوضان مباحثات مكثفة حول هذه القضية، مشدداً على أن وجود القوات الإيرانية في المنطقة «يستهدف إسرائيل».
وقبل أيام صرح وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، بأن «الجيش السوري فقط ينبغي أن يحمي جنوب البلاد»، وكأنه يقول لإيران التي وقف معها إلى جانب النظام طوال سنوات، أن تغادر الجنوب، وفي أعقاب ذلك مباشرة، وردت أنباء عن اتفاق بين إسرائيل وروسيا، تنسحب بموجبه إيران من جنوب سورية، ويسيطر النظام على المنطقة.
في واقع الأمر لم تكن إيران حليفًا وثيقًا لموسكو أبدًا، عمل البلدان معًا على دعم النظام في سورية من أجل حماية مصالحهما في ذلك البلد، وهذا ما تحقق لروسيا إلى حد كبير، التي بدأ يبدو للبعض أنها تسعى الآن لمفارقة إيران.
لا يخفى أن إيران منافس إقليمي لروسيا، بالإضافة إلى أنها هدف رئيسي لواشنطن وتل أبيب، وموسكو لا يفوتها أن هذا التوتر سيتصاعد، طالما بقيت إيران في سورية، وهذا بحد ذاته تهديد كبير للمصالح الروسية.
ولا يمكن تجاهل موقف دول كبرى عديدة، والإقليمية الرافضة للنفوذ الإيراني في سورية والمنطقة، وهو ما يجعل روسيا في موقفٍ لا تحسد عليه، فهي تخشى على علاقاتها السياسية والاقتصادية القوية مع تلك الدول التي يثير التقارب الروسي الإيراني استياءها.
زيادة إسرائيل من وتيرة هجماتها على المواقع الإيرانية داخل الأراضي السورية، بالإضافة إلى ضغوط الرئيس الأميركي دونالد ترامب على إيران، تزيد من ارتباط الأخيرة بروسيا، وهذا يجعل موسكو في وضع أقوى مما كانت عليه في المرحلة السابقة في مواجهة طهران سورياً.
مع اقتراب تلاشي «داعش» نهائياً من الأراضي السورية، وهو ما يترافق مع انتهاء الحاجة لمعظم الميليشيات، سواء الإيرانية أو الامتداد السوري لحزب العمال الكردستاني، فإن استمرار وجود إيران في سورية، سيستدعي تدخلًا إسرائيلياً وأميركياً، بينما وجود الميليشيات الأخرى سيستدعي تدخلاً تركياً.
بالنسبة إلى تركيا، قد تبدو إيران حليفة في سورية من جهة، ولكن في الواقع هي منافسة إقليمية من جهة أكبر، وليس سرًّا انزعاج أنقرة من سياسات طهران التوسعية، ولهذا فإن أي تحجيم لإيران يصب في مصلحة تركيا، كما أن إقامة توازن بين الولايات المتحدة من جهة، و روسيا- النظام من جهة أخرى، سيعزز موقف تركيا في مكافحة الامتداد السوري لحزب العمال الكردستاني.
لا يمكن تجاهل ما ذهب إليه الكثير من المراقبين، من أن دعوة إيران إلى المشاركة في محادثات آستانة، كانت محاولة من أنقرة وموسكو لدفع طهران إلى الوفاء بالتزاماتها، وإلا فمن الصعب السيطرة على الجماعات التابعة لها.
وظهر الاختلاف (الذي لم يصل حتى اليوم إلى مستوى خلاف) بين الجانبين الروسي والإيراني في سورية، من خلال ثلاثة مواقف في السنوات القليلة الماضية، الأول خلال بداية التدخل الروسي في سورية بشكلٍ مباشر قبل قرابة عامين، والذي جعل إيران تتراجع إلى الصف الثاني كحليف صامت للنظام، في حين أخذت موسكو زمام المبادرة، بعد أن فشلت إيران في ترجيح كفة النظام خلال سنوات تدخّلها.
أما الاختلاف الثاني بين موسكو وطهران فظهرَ بعد اتفاق إجلاء المدنيين والمقاتلين من الأحياء الشرقية المحاصرة في مدينة حلب الذي تمَّ أواخر العام الماضي بين الأتراك والروس، لأن إيران كانت ترفض في شكلٍ قطعي أي اتفاق في هذه المنطقة، وتصرّ على عدم السماح لأي أحد بالمغادرة، لأنها كانت تريد أن تنفّذ حلّاً عسكرياً في حلب، وهنا لا بد من الإشارة إلى أن اتفاق حلب (الروسي- التركي)، هو الاتفاق الوحيد خلال ست سنوات من الحرب السورية الذي نجح وصمد (سواء اتفقنا أو اختلفنا معه).
الاختلاف الثالث هو الذي ظهر أخيراً خلال انطلاق مفاوضات آستانة، إذ كانت إيران تريد أن تنتقم وتُبعد واشنطن عن المحادثات، بينما دعت روسيا إلى اشتراك واشنطن، التي اكتفت بصفة مراقب.
يبقى القول إن الحرب في سورية تكاليفها باهظة من جميع النواحي، وتعرض طهران لخسائر لا يمكن إغفالها في الهجمات الإسرائيلية الأخيرة، هل يدفعها للخروج، مع مرور الوقت من بعض المناطق من سورية، بعد سنوات من استثمارها في هذا البلد ؟!!... الجواب قد يتضح في حقيقة ما قيل عن إبرامها اتفاقًا مع إسرائيل.
يثير (اتفاق) منبج بين تركيا وأميركا الكثير من الأسئلة والاستفهامات فيما إذا كان سيشكل بداية لمرحلة جديدة من العلاقات بين البلدين أم أن كل طرف سعى ويسعى إلى تحقيق جملة من الأهداف الآنية، ولعل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان كان أكثر الفرحين بهذا الاتفاق، فهو لا يتوانى عن محاولة وضع أي حدث أو تصريح في خدمة حملته الانتخابية، والتطلع إلى الفوز من الجولة الأولى بالانتخابات المبكرة المقررة في الرابع والعشرين من الشهر الجاري، وعليه سارع الإعلام والدبلوماسية التركيين إلى تصوير الاتفاق على أنه نصر سياسي ودبلوماسي، بل أن وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو سارع إلى نشر بنود (الاتفاق) ومراحله حتى قبل إعلانه رسمياً، في حين مارس الجانب الأميركي سياسة تراوحت بين الصمت والغموض وأحياناً الرد على التصريحات التركية عندما كان يجدها خارج سياق التفاهمات التي جرت، كحديث البنتاغون عن أن الاتفاق يخص منبج فقط ولا يشمل مناطق أخرى، بعد أن تحدث مسؤولون أتراك طويلاً عن أن الاتفاق سيشكل نموذجاً لباقي المناطق الواقعة تحت سيطرة قوات سورية الديموقراطية، وهي المناطق التي تعدها الإدارة الأميركية مناطق نفوذ لها وتعهدت مراراً بالدفاع عنها وعن حلفائها هناك.
أمام إصرار أنقرة على أن سيطرة قوات سورية الديموقراطية على منبج تشكل خطراً على أمنها، والتهديد بشن عملية عسكرية ضدها، تقول واشنطن إن الاتفاق يشكل مدخلاً لتحقيق الاستقرار في المنطقة ويجنب الصدام بين حليفيها التركي والكردي، لكن في الحقيقية لا يمكن فهم هذا الاتفاق بعيداً من المصالح الأميركية العليا لجهة العلاقة مع الحليف التاريخي تركيا، والإحساس الأميركي بأن تركيا أردوغان ذهبت بعيداً عن ثوابت العلاقات بين البلدين منذ انضمام تركيا إلى الحلف الأطلسي عام 1952، إذ أن التقارب التركي مع روسيا تجاوز هذه الثوابت وباتت تركيا الأطلسية تشتري أسلحة استراتيجية من روسيا كما هو حال صفقة المنظومة الصاورخية أس 400، بل أن تركيا بدت أكبر دولة أو جهة تخرق العقوبات المفروضة على إيران، وهو ما فاقم من الخلافات بين البلدين، وعليه ربما وجدت واشنطن في هذا الاتفاق محاولة لتدوير الخلافات مع أنقرة، وجلبها إلى حضن السياسة الأميركية من جديد، وهذه لعبة يجيدها أردوغان الذي بدا خلال السنوات الماضية وكأنه يقلب بوصلة خيارات السياسة الخارجية التركية بين موسكو وواشنطن حسب الظروف والفائدة.
ربما شعر الطرف الكردي (بخيانة) الحليف الأميركي، لا سيما أن فاجعة عفرين ما زالت حاضرة أمامه في ظل اعتقاده بأن ما جرى لعفرين لم يكن بالإمكان لولا أن صفقة روسية– تركية جرت تحت ستار اتفاقات آستانة، لكن تدريجاً بدا أن هذا الإحساس الكردي يتراجع، خاصة بعد إن اتضح أن بنود الاتفاق يتيح بقاء المؤسسات التي تمت إقامتها في منبج بعد طرد داعش منها، وأن الاتفاق لا يتيح سيطرة تركية مباشرة على المدينة بقدر ما يعطي لها حق المراقبة والإشراف والمتابعة والتنسيق مع الجانب الأميركي على الأرض، فضلاً عن قناعة الطرف الكردي بأن الاتفاق قد يجنب المدينة فعلاً غزوا تركيا على غرار ما جرى لعفرين، خصوصاً أن أردوغان قد يجد في عملية عسكرية جديدة وسيلة لزيادة شعبيته قبيل أسابيع قليلة من الانتخابات الرئاسية والبرلمانية.
في الواقع، بغض النظر عن الحسابات المختلفة للأطراف المعنية باتفاق منبج ومستقبلها، من الواضح أن الامتحان الحقيقي يكمن في التنفيذ، إذ أن حجم التعقيدات والصعوبات واضحة وكثيرة، لا سيما في ظل الإصرار التركي على أن ما جرى في منبج سيشكل نموذجاً لباقي المناطق الواقعة تحت سيطرة قوات سورية الديموقراطية، إصرار ربما يثير أسئلة حول فيما كانت هناك جوانب غير معلنة في الاتفاق، لا سيما أن سياسة الصمت الأميركي تثير استفهامات أكثر.
لا شك في أن جبران باسيل، وزير الخارجية اللبناني وصهر رئيس الجمهورية ميشال عون، ظاهرة تتعدى السياسة. فالرجل يحرص على أن يستيقظ اللبنانيون في معظم أيامهم على ما يذهلهم من خطواته. هذا دأبه منذ سنوات. وهذا الأسبوع قرر، بصفته وزيراً للخارجية، وقف تجديد إقامات موظفي المفوضية العليا للاجئين في لبنان، الهيئة التابعة للأمم المتحدة، والتي تتولى رعاية وتمويل إقامة اللاجئين السوريين في لبنان.
سبق أن فجر الوزير قنبلة الشريط الذي يظهر فيه شاتماً رئيس المجلس النيابي نبيه بري، وسبق له أيضاً أن أطلق تصريحات مشحونة بالكراهية حيال اللاجئين. ولا يمر أسبوع من دون مفاجآت تحفّ بهذه الظاهرة التي اسمها جبران باسيل. وهو بهذا المعنى ظاهرة تتعدى السياسة، ذاك أنه حل في وجدانات اللبنانيين في مكان شعوري ينطوي على قدر من الانفعالات الشخصية. قرر اليوم، وهو الوزير في حكومة تصريف الأعمال، أن على لبنان أن يصطدم بأعلى هيئة دولية في العالم. قرر ذلك وحده ومن دون أن يستشير رئيس الحكومة سعد الحريري! قال إن الهيئة تعيق قرار الدولة اللبنانية بإعادة اللاجئين السوريين إلى بلادهم! ولا يبعث على الذهول فقط أن الوزير قرر عدم تجديد إقامات الموظفين، بل أيضاً ادعاؤه بأن الدولة اللبنانية «قررت» إعادة اللاجئين إلى بلادهم.
إنها ضربة الوزير الأخيرة. سبقتها ضربات لا تقل عنها في بعثها للذهول، فالوزير يرغب في تعويض الفراغ الكبير الناجم عن العجز المطلق عبر صدمات يعتقد أنها ستملأ الفراغ الكبير الذي خلفه تصدره المشهد العام في لبنان. يريد أن يقول لجمهوره «المسيحي» أنه قوي إلى حد يمكنه من مواجهة الأمم المتحدة. هذه هي السياسة في عرف الوزير. السياسة هي قفزات صوتية في الفراغ. صوت مرتفع يطلقه عاجز غير كفء. ولبنان المنتهكة سيادته، والمُهدد اقتصاده، والغارق بفساد طبقته السياسية، والعاجز عن ضبط مسلحين يعبثون في مدنه وأريافه، والمختنق بفضيحة التجنيس المافيوية، لبنان هذا قرر أن يخوض مواجهة مع الأمم المتحدة! مواجهة وظيفتها الوحيدة أن يعرض الوزير أمام جمهوره «المسيحي» كم هو قوي وكم هو مُستجابٌ له.
المسألة طبعاً لن تتعدى مفعولها الصوتي. الوزير سيمنح موظفي الهيئة الدولية إقاماتهم في الأسبوع المقبل. سيبقى منها ارتداداتها السلبية على سمعة الديبلوماسية اللبنانية. لكن ذلك لا يهم، ولا يهم أيضاً ما إذا كان الوزير مقتنعاً فعلاً بأن عودة اللاجئين متوقفة على قراره بعودتهم، لا على تسوية كبرى لم تنعقد بعد في دمشق. الوزير جزء من تحالف «الأقليات» الذي قرر أن تفريغ ريف دمشق من نحو ثلاثة ملايين سني هو ضرورة، ويعرف أن لا حول له ولا قوة تمكنانه من تغيير القرار، لكن لا بأس بأداء رقصة على ضفاف هذا العجز. الكلفة سيتوزعها الجميع، ووحده الوزير سيكون نجمها.
إنها «السيادة» على ما يقول، وهي سيادة شديدة الحساسية حيال الفقراء السوريين وضعيفتها حيال أغنيائهم. وهذه المعادلة لا تعني الحرص على الاقتصاد اللبناني، فهذا آخر هم لدى أطراف هذه المعادلة. فالأغنياء المجنسون، أصدقاء الوزراء والرؤساء، وليسوا أصدقاء الاقتصاد اللبناني، بينما الفقراء اللاجئون تُمول الأمم المتحدة، التي أوقف الوزير تجديد إقامات موظفيها، إقامتهم البائسة في ربوع وطننا.
تنتظرنا في لبنان حقبة اسمها جبران باسيل. فالرجل صهر الرئيس، والمسيحي «القوي» الذي سيكون ثابتاً في كل الحكومات. شاب في مقتبل العمر، وطامح لملء الفراغ الهائل، بفراغ موازٍ مشحونٍ بالضجيج، والرجل غير عابئ بالصداع الذي يخلفه.
بخلاف ما هو شائع ومعروف، فإن الدخول الروسي الواسع من بوابة القوة العسكرية إلى القضية السورية في أواخر عام 2015، لم يتم بموافقة نظام الأسد فقط، إنما أيضاً بموافقة إيرانية. ففي ذلك الوقت، كانت إيران قد أحكمت قبضتها على نظام الأسد، وصارت القوة المقررة في سياساتها وعلاقاته، وصاحبة النفوذ الأكبر في قصر المهاجرين وفي قلب المؤسستين الأمنية - العسكرية للنظام، وفي الواقع الميداني، كان الإيرانيون بقواتهم والميليشيات التابعة لهم، التي استقدموها من لبنان والعراق وأفغانستان وغيرها، قوة السيطرة الرئيسية، وقوة الدفاع عن النظام، وخصوصاً في دمشق ومحيطها، حيث كان جيش النظام وأجهزته الأمنية منهكين بالانشقاقات والتشتت وضعف الموارد البشرية والمادية، وقد ترددت عشرات التصريحات الصادرة عن مسؤولين إيرانيين وقادة ميليشياتها، وخصوصاً من حزب الله، بأنهم منعوا سقوط نظام بشار الأسد في مواجهة الحراك الشعبي والقوة المسلحة، لكنهم ومع قرب نهاية عام 2015، وجدوا أنفسهم في حالة عجز عن الحفاظ على مناطق سيطرة النظام وحمايته من السقوط، فقرروا بالتفاهم مع النظام استدعاء الروس إلى سوريا، وبقية التفاصيل معروفة.
إن حاجة الإيرانيين لدخول روسيا العسكري إلى سوريا، كانت حاجة عاجلة وضرورية، وكلتاهما جعل طهران تتجاوز أخطار تمكن روسيا في سوريا من مصالحها، وربما كان ذلك جزءاً من رؤية إيرانية، خلاصتها أن موسكو لا تستطيع منافستها في ضوء الاشتغال الإيراني العميق والطويل النفس، والذي أنتج تسللاً إيرانياً إلى بنية الدولة والمجتمع في سوريا، وبناء وجود لها في الفضاءات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وكان من نتائجها موجة من التشييع ومؤسسات ثقافية وخدمية ذات طابع طائفي، وعلاقات مصلحية مع نخبة النظام في المؤسسات المختلفة.
غير أن تطورات القضية السورية في الجانبين السياسي والميداني، والوزن السياسي والعسكري لروسيا، دفع موسكو نحو تعميق حضورها في سوريا شعبياً ورسمياً وسط عوامل مساعدة بينها الإرث الإيجابي للعلاقات السوفياتية - السورية، ووجود روسيا خارج إطار الصراع الشيعي - السني الذي تذكيه طهران في البلاد وبين سكانها، وتجنب روسيا الدخول في التفاصيل اليومية لحياة السوريين سواء أكانوا من مؤيدي النظام أو المحسوبين على المعارضة إلى جانب استعداد الروس - ولو نظرياً - للانفتاح والتواصل مع المعارضة السورية.
لقد عكس حليفا نظام الأسد الروس والإيرانيون، رغم تقارب موقفهما في الدفاع عن الأسد ونظامه، نمطين مختلفين من التوجهات والسياسيات والممارسات في الواقع، وفي العلاقة مع السوريين، مما تسبب في حساسيات متبادلة، واحتكاكات أدّت في بعض الأحيان إلى تصادمات، سعى الطرفان ألا يذهبا إلى نهاياتها بحكم المصالح المباشرة والتحديات المشتركة القائمة.
وقد ساهمت المتغيرات السياسية والميدانية في العامين الأخيرين في زيادة الشق بين إيران وروسيا في سوريا، بالتزامن مع تنامي العداء الإقليمي والدولي للدور الإيراني في المنطقة، إذ كرست إيران تدخلات عنيفة ومعلنة ومباشرة كما في اليمن والعراق، إضافة إلى تدخلاتها عبر صنائعها من الميليشيات في لبنان والعراق وحلفائها من حماس والجهاد الإسلامي في فلسطين، مما أثار ردة عربية، ولا سيما في الخليج ضدها قبل أن تنضم الولايات المتحدة وإسرائيل إلى معارضة التمدد الإيراني وأدواته، وصار من الصعب على روسيا تغطية السياسات الإيرانية وحماية أدواتها، وخصوصاً وقواعدها في سوريا بمواجهة هجمات حليف روسيا الإسرائيلي وفي الحملة الإعلامية - الدعائية للولايات المتحدة، الدولة الأقوى في العالم ضد إيران وميليشياتها.
ومما زاد في أهمية متغيرات العامين الأخيرين في التباعد الروسي - الإيراني، رغبة موسكو في الوصول إلى حل في سوريا يحقق مصالحها، وهو أمر صار أكثر قرباً من وجهة النظر الروسية في ضوء جملة حقائق من بينها قبول أميركي بدور روسي محوري في الحل السوري، وسكوت أوروبي - إقليمي، وتفاهم تركي - روسي، وكله شجع الروس على إعلان ضرورة خروج كل القوى الأجنبية بما فيها إيران وميليشياتها، إذا كان ذلك يساعد في الحل السوري، مما استدعى إعلان إيران رفضها المغادرة بحجة وجودها بناء على موافقة نظام الأسد.
وكان من الممكن تجاوز هذا التطور في الخلافات الإيرانية - الروسية، واعتباره تطوراً عارضاً لولا ثلاثة أمور وثيقة الصلة، أولها رفع الحماية الروسية عن قواعد إيران ومعسكرات ميليشياتها، مما كان يحميها ولو نسبياً من الهجمات الأميركية - الإسرائيلية، والثاني استبعاد إيران وميليشياتها من المنطقة الجنوبية بناء على إصرار إسرائيلي في ألا يكونا في المنطقة ضمن اتفاق حولها، والثالث إجبار ميليشيات حزب الله على الانسحاب من منطقة القصير، حيث أكبر قواعد حزب الله في سوريا وأهمها، مما دفع حسن نصر الله زعيم حزب الله لإعلان رفض ميليشياته الخروج من سوريا، وهو بمثابة إعلان انفجار في علاقات إيران وروسيا.
تصاعد الحديث، في الآونة الأخيرة، عن صدامات بين القوات الروسية المتمركزة في أكثر من منطقة في سورية، وبين الميليشيات التابعة لإيران. تبعها حديث عن انسحابات لهذه الميليشيات، خصوصاً قوات «حزب الله» اللبناني، من الأراضي السورية. وجرى الإعلان عن تمركز قوات النظام السوري في المناطق التي يجري منها الانسحاب. كما ترافق الحديث مع إنذارات روسية لإيران بضرورة سحب قواتها من سورية، باعتبار أن القوة الوحيدة التي يفترض أن تبقى هي القوات الروسية، ومعها بالطبع القوات السورية. هذه الإنذارات لإيران جرى تطعيمها بإنذارات من إسرائيل الرافضة أي وجود إيراني، والمتمتعة بتغطية روسية وبضوء أخضر لضرب المراكز الإيرانية. ما الذي تغير في الأشهر الأخيرة ليتحول «شهر العسل» الإيراني- الروسي الى ساحة صدام قابلة للانفجار، وهل الأمر مستغرب؟ أم أن سياقه طبيعي بحكم تصادم مصالح قوتي احتلال لسورية؟
خلال السنوات السابقة، ولأشهر خلت، كانت روسيا، الراعي الأول لنظام الأسد والمدافع عن وجوده، منخرطة في معركة ما يسمى بالإرهاب، سواء على يد «داعش» أم غيره من التنظيمات. وكانت موسكو تدرك أن دخول جيشها مباشرة في حرب ضد التنظيمات الإرهابية، بما يشبه حرب العصابات، سيكلفها الكثير من الضحايا. فدور موسكو يتمحور حول القصف وتدمير المدن وتهجير السكان. أما التلاحم المباشر مع الإرهاب فهو على عاتق الميليشيات التابعة لإيران أو لنظام دمشق. كانت هذه الميليشيات حاجة روسية، وأداة توظيف ثمينة في المعركة ضد «داعش»، لذا لم يكن غريباً أن تتولى روسيا الدفاع عن هذه الميليشيات، وتراها شرعية، خصوصاً أن النظام السوري يرعاها ويشدد على بقائها. لا شك في أن هذه الميليشيات اضطلعت بدور مهم في محاربة التنظيمات الإرهابية، وفي تنفيذ مخططات تهجير السكان السوريين وإعادة رسم الديمغرافيا السورية، بما يؤدي الى تركيبة سورية مختلفة عن تلك التي كانت قائمة قبل الحرب. وهي مهمة أُنجزت الى حد كبير.
في الأشهر الأخيرة، باتت سورية عملياً في عهدة الكبار من الدول، خصوصاً الولايات المتحدة وروسيا. فانحصر النقاش حول مستقبل الأزمة السورية بما تقرره هاتان الدولتان، فتعطي ما تراه مناسباً وتحجب ما لا تريده عن سائر القوى الإقليمية الموجودة على الأرض السورية. يتركز النقاش، السري منه والعلني، على الدور الإيراني بشكل خاص. فإيران، خلافاً لتركيا أو إسرائيل، تتمركز ومعها ميليشياتها في الداخل السوري، وفي الساحل، وعلى الحدود اللبنانية- السورية، وتسعى لتمد أذرعها الى الحدود الإسرائيلية- السورية. في نقاش يدور عالمياً حول بدء إعمار سورية والشروط الموضوعة لذلك، وعلى رأسها انسحاب جميع القوى الأجنبية من سورية، ما عدا قوات موسكو، يصبح من الطبيعي التركيز على إيران وميليشياتها.
في هذه المحطة، لم تعد روسيا ترى في إيران حاجة سورية، بل ترى فيها قوة احتلال منافسة لها وتريد مقاسمتها السلطة والمنافع السورية. حددت روسيا هدفاً أولياً يتصل بطلب انسحاب الميليشيات الإيرانية، وترجمت ذلك بدخول قوات روسية الى مناطق وجود هذه الميليشيات، وصولاً الى الحدود اللبنانية. كما جرى الحديث في وسائل الإعلام عن مصادمات مسلحة وسقوط قتلى بين هذه الميليشيات. تعرف روسيا أن إيران صاحبة أطماع في سورية لا تقل عن أطماعها نفسها، وأن التعايش السلمي واقتسام مناطق النفوذ على الأرض أو في السلطة، أمر قد يكون من المستحيل الوصول اليه. وبما أن روسيا تعتبر نفسها القوة الأكبر، وصاحبة النفوذ الأساسي في السلطة السياسية والعسكرية، وبما ان الوظيفة الإيرانية قد استنفد دورها، فإن الأوان حان لتنفرد بالهيمنة على سورية، سياسياً وعسكرياً.
هل ستستجيب إيران الى الطلبات بانسحابها من سورية؟ الأجوبة الصادرة عن القيادات الإيرانية ترفض أي انسحاب من سورية، وتعتبر وجودها شرعياً، وأنها استثمرت بمئات البلايين في الأراضي السورية، ودفعت آلاف القتلى دفاعاً عن النظام. لم ترد روسيا حتى الآن بأي موقف عملي على الرفض الإيراني، فيما تعلن الميليشيات أنها تنسحب فقط بناء لطلبات النظام، وهو موقف عملي يشي بقرب هذا الانسحاب، لأن النظام السوري يصعب عليه رد الطلب الروسي له بإعطاء قرار الانسحاب لهذه الميليشيات الإيرانية. فما الذي يمكن أن يحصل لتنسحب إيران؟ لا شك في أن دخول القوات الروسية في صدام مسلح مع قوات الحرس الثوري الإيراني هو أمر مستبعد. فالبديل الروسي جاهز من خلال الاتفاقات المعقودة بين روسيا وإسرائيل حول السماح للقوات الإسرائيلية بقصف المراكز الإيرانية في سورية، مع تجنب قصف مواقع النظام السوري.
هذا السيناريو ليس احتمالا، فتنفيذه جارٍ منذ عدة أشهر، من دون أن يرد نظام طهران على الانتهاكات المتوالية لمراكزه. فإذا كانت الحرب الروسية- الإيرانية المباشرة مستبعدة، فإن حرباً أخرى إسرائيلية إيرانية مندلعة بشكل فعلي، والاحتملات في شأن تطورها تبقى طي المستقبل.
فيما الاتصالات الروسية الإسرائيلية لا تزال ناشطة لترتيب أرضية الاتفاق في الجنوب السوري، برز مؤشر جديد يتصل بالحدود اللبنانية مع فلسطين المحتلة، إذ كشف رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه برّي عن اقتراح أميركي لترتيب مفاوضات بين لبنان وإسرائيل على الحدود بينهما. الجديد في هذه الاتصالات ليس مبدأ التفاوض مع إسرائيل حول الحدود البحرية التي نشب نزاع بين البلدين منذ سنوات وتصاعد إعلاميا مع بدء استعداد لبنان لتلزيم عملية استخراج النفط من البحر وخاصة البلوكات الواقعة على الحدود، والتي هي محل نزاع مع إسرائيل، لكن الجديد أنّ إسرائيل اقترحت أن يتم ترسيم كامل الحدود البرية والبحرية ومن ضمنها تلك المتصلة بمزارع شبعا، التي بقيت معلقة بعد انسحاب إسرائيل من لبنان عام 2000 وظلّت تحت سلطة الاحتلال التي اشترطت للانسحاب منها أن يتفق لبنان وسوريا على هوية هذه المزارع، فإذا كانت سورية فهي ترتبط بالقرار 242، وإذا كانت لبنانية فهي تقع ضمن مندرجات القرار 425 التي ادعت إسرائيل تنفيذه.
لم يقم لبنان ولا الحكومة السورية بحسم هذا الجدل حول هوية المزارع طيلة السنوات الماضية، وبقي مصير هذه المزارع معلقا لغايات تتصل بمصالح إستراتيجية تتصل بوجود سلاح حزب الله، فسوريا كما إيران كانت لهما مصلحة في إبقاء هوية المزارع معلقة، لغاية تبرير عدم تنفيذ كامل القرارات الدولية المتعلقة بنزع السلاح غير الشرعي والمقصود حسب القرارين 1559 و1701 سلاح حزب الله.
اليوم ثمّة اتصالات جارية وعلى مستوى عال لحل مشكلة ترسيم الحدود بين لبنان وإسرائيل انطلاقا من مزارع شبعا، وتشير مصادر دبلوماسية غربية في بيروت إلى أنّ إسرائيل وجهت رسائل إلى لبنان عبر أكثر من جهة بأنها مستعدة لعملية ترسيم الحدود وحل نقاط الخلاف مع لبنان، إذ تؤكد هذه المصادر أن تل أبيب تعمل على خطين غير متعارضين واحد عبر واشنطن وآخر عبر موسكو. فالأخيرة مهتمة بالمشاركة الفعلية باستخراج الغاز من البحر وبالتالي رعاية اتفاق بين إسرائيل ولبنان لترسيم الحدود البحرية بينهما، وخط ثان عبر واشنطن الذي يقوم فريق من وزارة الخارجية الأميركية منذ أشهر باتصالات بين الدولتين عنوانها ترتيب اتفاق حول ترسيم الحدود.
إعلان رئيس مجلس النواب اللبناني الأخير حول الربط بين الحدود البرية والبحرية، أُرفق بشرط أن تجري المفاوضات تحت إشراف الأمم المتحدة، وما يمكن ملاحظته في هذا التزامن بين ما يجري في مناطق الجنوب السوري وما يتحرك دبلوماسيا على الحدود الجنوبية للبنان، هو أن ثمة مساع إسرائيلية لعدم الفصل في عقد التفاهمات بإشراف روسي مع لبنان وسوريا، فكما أنّ إسرائيل تطمح إلى العودة إلى تثبيت اتفاق وقف إطلاق النار الذي كان قائما مع سوريا بعد حرب عام 1973 والذي أتاح لها السيطرة الهادئة على الجولان، فإن روسيا في المقابل تطمح إلى تثبيت هذا الاتفاق من خلال عودة الجيش السوري لإمساك المناطق السورية المحاذية للجولان، ومن دون أي وجود إيراني، وهذه نقطة تقاطع روسية إسرائيلية، وتستجيب لمسار إعادة تأهيل النظام السوري إقليميا ودوليا.
في المقابل تبدو إيران في موقع لا تحسد عليه، كما أنّ حزب الله يتحسس مخاطر وتداعيات خطوة الانسحاب من سوريا على سيطرته وتحكمه بإدارة ملف الحدود مع إسرائيل، لذا هو يدرك أنّه بات أمام خيارات حاسمة ستفرض عليه في المستقبل القريب. فالتحصن في لبنان كإستراتيجية معتمدة من قبله اليوم، باتت مشروطة بالمحافظة على قدر مهم من الثقة مع الجانب الروسي، فإسرائيل التي نجحت إلى حدّ بعيد في بناء الثقة مع روسيا في الشأن السوري المتصل بأمنها، تبدو اليوم أكثر اطمئنانا على هذا الصعيد لمستقبل ترسيم الحدود مع لبنان، لا سيما أنّ التقاطع الروسي الأميركي يرتكز في ملف حدود إسرائيل وأمنها، على المطلب الإسرائيلي، وهذا ما يجعل لبنان أمام خطر أن يبقى خارج أي حماية دولية فيما لو بدا الموقف اللبناني غير مهتم بترتيب ملف حدوده مع إسرائيل، وغير متجاوب مع العرض الإسرائيلي الذي يبدو قويا طالما أنه يبدي استعدادا لحسم هذا الخلاف الحدودي مع لبنان وانطلاقا من مزارع شبعا بعد حسم هويتها بين لبنان وسوريا.
لا يمكن النظر إلى هذا الحراك الممتد على طول الحدود الشمالية لإسرائيل، على أنه مشهد مكرر، بل تتقاطع مصادر سياسية لبنانية وأخرى دبلوماسية غربية، على أن الاتفاق في الجنوب السوري الذي يُصاغ اليوم بإشراف روسيا، لن يكون منفصلا عن الاتفاق على ترسيم الحدود بين لبنان وإسرائيل، وبالتالي هو ليس منفصلا عن تحجيم النفوذ الإيراني في سوريا أولا وفي لبنان تاليا. وإيران لن تقبل بأن يتم الاستفراد بها في هذين البلدين بسهولة، لذا لا يمكن الحديث عن الوصول إلى ما يؤشر على أن الطموحات الإسرائيلية بشأن الترتيبات الأمنية على حدودها الشمالية تسير بخطى ثابتة وراسخة، وإن كان الإطار العام قد جرى رسمه دوليا وبرعاية أميركية-روسية، فأمين عام حزب الله، حسن نصرالله، الذي يتحسس مخاطر انسحاب حزبه والميليشيات الإيرانية من سوريا بعدما دفع الغالي والنفيس من أجل بقاء النظام السوري، أعلن في خطابه الأخير بمناسبة يوم القدس، أن أحدا لا يستطيع فرض الانسحاب عليه من سوريا إلا الرئيس بشار الأسد، وهذا الموقف جاء إثر مناوشات وقعت بين حزب الله والقوات الروسية في مناطق سورية في القلمون القريبة من الحدود مع لبنان، وفي ظل مسار روسي يتضح يوما بعد يوم، يدعو إلى سحب الميليشيات الإيرانية من سوريا.
الخيارات تضيق أمام إيران وحزب الله، وهي تتركز اليوم بين خيار الهروب إلى الأمام عبر فتح مواجهة عسكرية مع إسرائيل، يدرك الجميع أنها لن تكون محصورة في سوريا بل ستشمل لبنان، أو خيار تقديم التنازلات بما يضمن تنفيذ معظم الشروط الإسرائيلية وهذا أيضا دونه مصاعب على حزب الله وإيران فيما لو سلما بضرورة الالتزام بموجبات إستراتيجية تتصل بالإقرار الرسمي بأمن إسرائيل على حدودها الشمالية.
الرئيس نبيه بري الذي نجح في فترات سابقة في أن ينقل على طريقته وجهة النظر الإيرانية في لبنان إلى من يعنيهم الأمر دوليا، حرص على أن يؤكد قبل أيام وفي موقف غير مسبوق، أن انسحاب حزب الله وإيران من سوريا لن يتم قبل تحرير سوريا، وهو موقف قرأه بعض المراقبين على أنّه يعكس حالة الضيق الإيراني من الضغوط الدولية والإقليمية في سوريا، لكن من جانب آخر فإنّ بري الذي يحمل رسالة إيرانية في هذا الموقف ولحزب الله بطبيعة الحال، يسعى إلى عدم الربط بين أي اتفاق بين جنوب سوريا وجنوب لبنان، حتى لو أدى ذلك إلى إبقاء ملف الحدود مع إسرائيل معلقا مع مشروع استخراج الغاز الذي علّق الرئيس بري عليه الآمال لمستقبل لبنان الاقتصادي.
عاد ملف اللاجئين السوريين في لبنان إلى الواجهة، من بوابة موقف وزير الخارجية في حكومة تصريف الأعمال، جبران باسيل، حيث اتخذ إجراءات ضد مفوضية اللاجئين في الأمم المتحدة، على خلفية ما قال إنه تدخّل المفوضية لإقناع اللاجئين السوريين بعدم العودة إلى المناطق التي يعتبرها باتت آمنة في بلدهم. وكشف هذا الموقف الجديد القديم للوزير، مجدّدا، حجم ما يكنّه بعض اللبنانيين من مشاعر دفينة قد ترقى إلى العنصرية، فضلاً عن الموقف السياسي بدعم النظام، بغض النظر عن ارتكاباته بحق مواطنيه. كما كشف، مرّة أخرى، حجم التباين والخلاف داخل لبنان، على المستويات، الرسمي والسياسي والشعبي، حيال قضية اللاجئين، مع وجود نقطة تقاطع بين الجميع تقريباً على ضرورة عدم توطين اللاجئين في لبنان، ومدى العبء الكبير الذي يتحمّله لبنان تجاههم في ظل أزمته الاقتصادية والحياتية. وقد أكدت مواقف بعض القوى رفضها موقف باسيل، واعتبرته شخصياً، وهو ما عبّر عنه وزير شؤون النازحين، معين المعربي، الذي ذهب إلى حد الطلب من الأمم المتحدة فرض عقوبات على باسيل، واتهمه بنوع من الانفصام، كما عبّر عنه مستشار رئيس الحكومة، سعد الحريري، الذي قال إن موقف باسيل لا يعكس موقف الحكومة اللبنانية. كما شنّ بعض زملاء باسيل في الحكومة هجوماً عليه على خلفية الإجراءات التي اتخذها بحق مفوضية اللاجئين في وزارة الخارجية، بعرقلة تجديد إقاماتهم في لبنان، وخصوصا هجوم وزير التربية مروان حمادة.
ليس موقف الوزير باسيل جديداً، ولن يكون الأخير، فهذه نظرته هو وحزبه (التيار الوطني الحر) إلى مسألة اللجوء السوري منذ اليوم الأول لوصول دفعات لاجئين إلى لبنان، وقد رفض الوزير وحزبه في حينه إقامة مخيمات لهم على الحدود، بإدارة الأجهزة الأمنية اللبنانية وإشرافها، متذرّعين في حينه، بالخوف من تحوّل تلك المخيمات إلى معسكرات للجيش السوري الحر، فكانت النتيجة تسرّب مئات آلاف اللاجئين السوريين إلى الداخل اللبناني، والإقامة في مناطق مختلفة ومتفرقة، ومن دون ضوابط، ثم جاء اليوم الذي بدأ الحديث فيه عن عبء اللجوء السوري على لبنان، وعلى بنيته التحتية، وعن كونه عنصرا منافسا في مجالات الحياة المختلفة. وهي المشكلة التي تسببت بها مواقف القوى السياسية التي رفضت في حينه إقامة مخيمات اللجوء عند الحدود.
جعل هذا الواقع أطرافا سياسية، تتناول مسألة اللجوء السوري إلى لبنان من زاوية غير إنسانية، بل من زاوية المصلحة السياسية والانتخابية، فتمّ شن الحملات الإعلامية على اللجوء السوري عند كل استحقاق انتخابي أو غير انتخابي. وراحت وسائل إعلامية ومواقف سياسية تسوّق مسألة إرهاق اللجوء السوري كاهل المواطن اللبناني، ثم راحت تطلق صيحات التخويف من مسألة توطين السوريين في لبنان، مقدمة لاتخاذ إجراءات قاسية وصعبة بحق اللاجئين، منها فرض مبالغ كبيرة على الإقامات، ومنعهم من العمل، وعدم السماح لأي منهم بالعودة إلى لبنان في حال مغادرته لأي سبب، فضلاً عن الملاحقات الأمنية، وفبركة الاتهامات والتضييق عليهم في مختلف المجالات والميادين، للضغط عليهم للعودة إلى المناطق التي تخضع لسيطرة النظام في سورية، على الرغم من وجود مخاطر تحدق بكثيرين منهم.
عاش اللاجئون السوريون تحدّيات كثيرة في لبنان، وهم باتوا عرضة لضغوط مباشرة وغير مباشرة كثيرة لدفعهم للعودة، وبعضها يهدف إلى إجبارهم على عقد "مصالحات" مع النظام، كجزء من التسليم بانتصاره وهزيمة المعارضة، لأن أغلب اللاجئين السوريين في لبنان محسوبون، بإرادتهم أو من دون إرادتهم، على المعارضة. وهكذا ينتقل هؤلاء الناس في لبنان من تحدّ إلى آخر، وهكذا تعود لعنة اللجوء تطاردهم في ظل صمت من المجتمع الدولي حيال ما يجري بحقهم، وصولاً إلى تجرؤ وزير الخارجية في حكومة تصريف الأعمال، جبران باسيل، على مواجهة مفوضية اللاجئين في الأمم المتحدة، واتخاذ إجراءاتٍ بحق أفرادها، وليس فقط اتخاذ إجراءات بحق اللاجئين، وإذا ظهرت هذه المفوضية عاجزةً عن حماية أفرادها، فكيف بها ستكون قادرةً على توفير الحماية للاجئين؟ وإذا كان هذا اللاجئ عرضة لكل هذه الإجراءات في بلد اللجوء المفترض أن يؤمّن له الحد الأدنى من الحقوق المشروعة، فكيف سيكون مصيره أمام نظام يتوعده ويعتبره خائناً وخارقاً للقوانين؟
مؤسفٌ أن حالة الانقسام التي يعيشها لبنان، وحجم التنازلات التي قدّمها الفريق الذي كان يعلن نفسه متضامناً وحامياً لحقوق اللاجئين، تركتهم من دون سند حقيقي، ولذلك هم اليوم يواجهون تحدّياً جديداً قد يشكّل خطراً فعلياً محدقاً على حياتهم وأمنهم، إذا ما استمرت الإجراءات التي تهدف إلى إعادتهم كرهاً إلى حيث فرّوا من الموت المحتوم.
يمكننا تلخيص أهمية الاتفاق الذي توصلت إليه تركيا والولايات المتحدة بخصوص مدينة منبج السورية في ثلاث نقاط على النحو التالي:
1- مع مغادرة وحدات حماية الشعب هذه المدينة الاستراتيجية وتركها أسلحتها، ينتهي وجود هذا التنظيم الذي يعتبر ذراعًا لحزب العمال الكردستاني في شمال سوريا، في منطقة غربي الفرات.
وبذلك يتلاشى حلم قادة وحدات حماية الشعب في تأسيس "حزام كردي" يصل إلى البحر الأبيض المتوسط.
2- بعد فترة طويلة من التردد، وافقت الولايات المتحدة على الطلب الملح لتركيا، وفضلت واشنطن في الخيار ما بين تركيا ووحات حماية الشعب، حليفتها القديمة.
وهذا أظهر أن واشنطن قادرة على اتخاذ موقف تصالحي أكثر إزاء المشاكل الأخرى، التي تثير أزمات بين الولايات المتحدة وتركيا.
فعقب التوصل إلى اتفاق بخصوص مدينة منبج مباشرة فتح مكتب التحقيقات الفيدرالي تحقيقًا حول تنظيم "فتح الله غولن" في الولايات المتحدة.
وتنتظر أنقرة الآن أن تتصرف واشنطن بشكل أكثر تفهمًا في القضايا الحساسة الاخرى (وفي مسألة تسليم مقاتلات إف-35 إلى تركيا).
3- بدأ تطبيق خطة تركيا بخصوص مدينة منبج في نهاية المطاف، وإن جاء ذلك متأخرًا. مع أنه إلى ماقبل بضعة أسابيع فقط كادت القوات التركية والأمريكية تصل حد الاشتباك في منبج.
وهذا ما يؤكد أن أصعب وأعقد المسائل يمكن وضعها في مسارها الصحيح عن طريق الدبلوماسية والحوار..
لكن اتفاق منبج هو بداية طريق جديد. هناك الكثير من الأسئلة تنتظر إجابة عنها.. هل ستتجه وحدات حماية الشعب بعد انسحابها من منبج إلى "الكانتونات" في شرقي الفرات؟ ماذا عن مستقبل المقاتلين في شرقي الفرات (تشير تقديرات إلى أن عددهم ما بين 50 ألف و60 ألف)؟ كيف سيُحدد مصير تلك المنطقة؟
ولهذا فإن الشكوك وعدم الثقة بالجانب الأمريكي لم تتلاشَ بعد. لكن الآن لدى الطرفين إرادة البحث عن حل عبر التوصل إلى اتفاق، وهذا بحد ذاته تطور هام..
نظرة الشارع التركي
أجرت جامعة "قادر خاص" استطلاعًا في تركيا، أظهر سلبية نظرة الشارع في البلاد إلى الولايات المتحدة.
فقد بلغت نسبة من يعتبرون الولايات المتحدة في طليعة "البلدان التي تشكل تهديدًا على تركيا" 60%.
وبحسب الاستطلاع يعتبر 38.9% من الشارع التركي الولايات المتحدة "بلد لا يؤمن جانبه"، و16.2% "عدوًّا". في حين أن 11.4% فقط يعتبرون الولايات المتحدة "شريكًا استراتيجيًّأ" و3% "حليفًا"، و1.1% "صديقًا".
فكيف سيكون تأثير المصالحة الجديدة التي يؤمل أن تبدأ مع اتفاق منبج، على آراء الشارع التركي بخصوص الولايات المتحدة؟
حصلت انتخابات في العراق في الثاني عشر من أيّار – مايو الماضي. بعد شهر على الانتخابات لا يزال الخلاف كبيرا في شأن نتائجها. ليس معروفا من فاز، على الرغم من أن قائمة “سائرون” لمقتدى الصدر حلّت في الطليعة. هناك مبررات مختلفة تساق لمنع الصدر من قطف ثمار النتائج التي حققتها “سائرون”.
كل ما في الأمر أنّ مقتدى الصدر، على الرغم من كل الأخذ والردّ في شأن تصرفاته منذ الاحتلال الأميركي للعراق في 2003، ولعبه أدوارا مختلفة لمصلحة إيران في الماضي، أظهر أخيرا نوعا من الوطنية العراقية. كشف الرجل عن رغبة واضحة في التخلص من اليد الإيرانية الثقيلة التي تسعى إلى تحويل العراق مجرّد مستعمرة تدار من طهران.
ربّما أنّها المرّة الأولى في العالم، التي يشكك مجلس للنواب منتهية ولايته، في المجلس الجديد وبشرعيته بعد حصول انتخابات وفق القوانين المرعية. استغل المجلس القديم الوضع القائم، نظرا إلى أنّ ولايته تنتهي في الثلاثين من حزيران – يونيو الجاري، لإلغاء النتائج المعلنة للانتخابات الأخيرة.
يريد إعادة فرز لكل الصناديق في كل البلاد وعدّا يدويا للأصوات. هناك ضرب لفكرة الانتخابات من أساسها. بالنسبة إلى إيران، لا تعني الانتخابات العراقية شيئا ما دام المجلس الجديد خارج سيطرتها. هذه فضيحة مدوية تعبر عمليا عن الإفلاس الإيراني وعن عجز عن إدارة العراق، بما في ذلك عملية الانتخابات فيه.
هناك بكل بساطة عجز عن متابعة سياسة تقوم على التحكّم بالبلد وبكلّ مفاصل الحياة السياسية فيه. هناك فشل إيراني ليس بعده فشل لا يظهر في العراق فقط. يظهر هذا الفشل في كلّ مكان تدخّلت فيه إيران مباشرة أو عبر ميليشياتها المذهبية. بل يظهر في إيران نفسها، حيث يعاني شعب بكامله من نظام ليس لديه ما يقدّمه له باستثناء الهرب المستمر إلى خارج حدود البلد… والوعد بالجنّة.
عمليا، ألغت إيران الانتخابات العراقية. تريد انتخابات على مقاسها أو لا انتخابات. في غيـاب القدرة الإيرانية على التحكم بالناخب العراقي وتوجهاته، وعلى الرغم من كلّ النفوذ التي تمتلكه ميليشيات الأحزاب المذهبية المنضوية تحت تسمية “الحشد الشعبي”، لم تستطع إيران تحقيق النتائج التي كانت ترغب فيها. هناك عوامل عدّة لعبت ضدها بما في ذلك الانقسامات داخل “الحشد الشعبي” نفسه حيث بدأ طعم السلطة يروق لقياديين فيه.
إذا كان صعود نجم مقتدى الصدر في العراق يعبّر عن بداية وعي لدى العراقيين بأن بلدهم يجب أن يقاوم الهيمنة الإيرانية والابتعاد عن فخ لعبة إثارة الغرائز المذهبية، فإنّ الهجمة الإيرانية على الانتخابات العراقية تعكس ضعفا. في أساس هذا الضعف الإيراني أن ليس لدى النظام في طهران ما يقدّمه للعراق والعراقيين. إذا كان هناك من أمل ما في استعادة العراق وحدته يوما، أو لنقل نوعا من الوحدة في ظلّ دستور وقوانين على علاقة بما هو حضاري في هذا العالم، فان هذا الأمل محصور في الرغبة في الابتعاد عن إيران الحالية بكلّ ما تمثّله على كلّ صعيد.
لا يظهر الضعف الإيراني في العراق فقط حيث طهران مضطرة إلى إبطال نتائج الانتخابات من منطلق أنّها لم تناسب مرشّحيها لتولي موقع رئيس الوزراء، على رأسهم نوري المالكي. هناك سوريا حيث لم تعد إيران تدري ما الذي عليها عمله. عاجلا أم آجلا، سيترتب على إيران الخروج من سوريا. الأكيد أنّها لا تستطيع ذلك على الرغم من تأكدها من أن لروسيا حسابات خاصة بها. ترتبط الحسابات الروسية في سوريا بما تريده إسرائيل من جهة، وبالحاجة إلى إيجاد تفاهم مع إدارة دونالد ترامب من جهة أخرى.
ما أدت إليه السياسة الإيرانية في سوريا إفلاس ليس بعده إفلاس. لم يعد أمام إيران من خيار آخر غير الكلام الكبير للتغطية عن حال من العجز. في الواقع، لم يعد أمام إيران سوى الانسحاب من سوريا أو الذهاب إلى تفجير المنطقة كلّها. تسعى إيران إلى فتح ثلاث جبهات هي جنوب لبنان وغزّة والجولان، فضلا عن ممارسة ضغوط على الأردن. وهذا ما تنبّه إليه الخليج لحسن الحظ.
تريد إيران، بكل وقاحة، التسبب بكارثة أخرى في غزّة التي ما زالت فيها بيوت مدمّرة منذ حرب أواخر 2008 وبداية 2009. من الواضح أن هناك في غزّة من لا يريد أن يتعلّم من تجارب الماضي القريب، وأن لا يقتنع بأن كل ما تفعله إيران هو متاجرة بالقضية الفلسطينية والفلسطينيين.
من يريد مثلا حيّا على ذلك في إمكانه استعادة الخطاب الأخير للأمين العام لـ“حزب الله” حسن نصرالله في مناسبة “يوم القدس”، وهو اليوم الذي تبلغ فيه المتاجرة الإيرانية بالقضية الفلسطينية ذروتها. حرص نصرالله، الذي بات قائد “فيلق القدس” في “الحرس الثوري” الإيراني قاسم سليماني يطلق عليه لقب “آية الله” على التوجه إلى الإسرائيليين بقوله “إلى الصهاينة الغزاة المحتلّين، اركبوا سفنكم وطائراتكم وعودوا من حيث جئتم… يوم الحرب الكبرى قادم وهو اليوم الذي سنصلي فيه جميعا في القدس”.
يكمن الخوف، كل الخوف، في أن وراء إسباغ سليماني لقب “آية الله” على نصرالله، على الرغم من اعترافه بأنّ ذلك لا يحق له، يستهدف زجّه في الحرب التي تنوي إيران شنّها تفاديا للخروج من سوريا. سيكون ضحايا هذه الحرب، في معظمهم، من اللبنانيين والسوريين والعراقيين.
كيف يمكن لحزب، هو في نهاية المطاف مجرد ميليشيا مذهبية تشكل لواء في “الحرس الثوري” الإيراني، تحرير القدس التي لا يوجد من يقاوم المحتل الإسرائيلي فيها غير أهلها والعرب الشرفاء من أهل الخليج والأردن الذين يرسلون إليهم المساعدات كي يتمكّنوا من البقاء في أرضهم؟ كيف يمكن لحزب يشارك في الحرب على الشعب السوري من منطلق مذهبي، ويلعب كل الأدوار المطلوبة منه في مجال تدمير المدن السورية، من حلب إلى حمص وحماة، لعب دور في تحرير القدس؟
من يدعو إلى تحرير القدس عبر حلب وحمص وحماة ودمشق والقصير، إنّما يضحك على الفلسطينيين والعرب. إنّه بيع للأوهام من أجل تغطية الإفلاس الإيراني الذي تظل الانتخابات العراقية أفضل تعبير عنه. في النهاية لم تمتد يد إيران أو أدواتها إلى مكان إلّا وساد فيه الخراب. المؤسف في الأمر أنّ الهرب من الواقع إلى الشعارات صار سمة من سمات السياسة الإيرانية.
الأخطر أنّه لا يزال هناك بين العرب من يصدّق. صحيح أن عدد المصدّقين قل كثيرا، لكنّ الصحيح أيضا أنّ عصر الميليشيات الإيرانية لم ينته بعد، بدليل ما يعاني منه العراق وسوريا ولبنان واليمن. متى ينتهي هذا العصر الذي لا مفرّ من نهاية له؟ من الأفضل طرح السؤال بطريقة مختلفة: ما الثمن الذي سيدفعه العراق وسوريا ولبنان واليمن قبل الوصول إلى ذلك؟
طاف بنيامين نتنياهو على عواصم دول أوروبا رافعاً شعار «لا لإيران في سوريا»، مهدداً بشار الاسد بأنه «لم يعد في مأمن، ونظامه أيضاً ليس في مأمن، وسندمر قواته في حال إقدامه على فتح النار علينا».
يشعر نتنياهو بفائض قوة سياسية يدفعه إلى رفع شعارات ومطالب لا جمهور ولا آذان صاغية لها في عواصم حلفائه القدامى في أوروبا. هؤلاء ليسوا منشغلين بوجود إيران في سوريا، بقدر انشغالهم وحرصهم على استمرار وجودها في الاتفاق النووي الذي أحرجهم، بل خذلهم حليفهم الأكبر دونالد ترامب بخروجه منه. لذا، ليس من تفسير لطرح نتنياهو شعاره ذاك إلا لتبرير بقاء إسرائيل في سوريا.
حتى داخل إسرائيل ثمة من يأخذ على نتنياهو انشغاله بإيران، عمّا يجري في قطاع غزة، والمستعمرات الصهيونية في غلافها. صحيفة «يديعوت أحرونوت» (2018/6/6) كشفت «أن سلطة الطبيعة والحدائق (في الكيان الصهيوني) أكدت أن اطلاق مئات الطائرات الورقية وبالونات الهيليوم المحملة بزجاجات حارقة إلى داخل إسرائيل، تسببت في القضاء على اكثر من 10000 دونم، وأن النيران قضت على اكثر من 17500 دونم من المحميات الطبيعية والحدائق».
في الصحيفة نفسها (2018/6/5) دعا كاتب اسرائيلي مرموق، شمعون شيفر، رئيس الحكومة الإسرائيلية إلى أن «يحذو حذو سلفه أرييل شارون الذي اعتاد أن يقول «إنه عندما تواجه مشكلتين في الوقت عينه، فليس امامك سوى أن تعمل اولاً على مواجهة المشكلة الاكثر إلحاحاً التي تتطلب حلاً فورياً « (اي مشكلة غزة).
نائب رئيس جامعة تل أبيب أيال زيسر جادل نتنياهو في صحيفة «يسرائيل هيوم» (2018/6/5) قائلاً: «إيران لم تستثمر في سوريا مئات الملايين، وربما مليارات الدولارات، ولم تخسر في المعارك على أرضها آلاف المقاتلين من الحرس الثوري ومن الجيش الإيراني النظامي، ولم تنشر فيها عشرات آلاف المجنّدين الشيعة في ميليشيات تابعة لها تدربها وتمولها، فقط كي تغادر فجأة سوريا، لأن بوتين أو الاسد يطلبان منها ذلك بتهذيب».
هذا إذا كانا بصدد أن يطلبا ذلك اصلاً. وكيف يُعقل أن يطلب بوتين والأسد من إيران إخراج قواتها من سوريا، وقد شاهدا على التلفزيون ملايين الإيرانيين يتظاهرون في 900 مدينة وبلدة، ومئات آلاف الفلسطينيين واللبنانيين والعراقيين يفعلون مثلهم أو يصلّون في مناسبة «يوم القدس» (الجمعة الماضي)؟
إذا كان الشعور بفائض القوة السياسية هو ما يدفع نتنياهو إلى التصلّب، وإطلاق مواقف وشعارات مغالية ومتطرفة، فإن الشعور بفائض القوة الشعبية هو بالضبط ما يدفع القادة الفلسطينيين إلى التمسّك بقضيتهم، بما هي قضية تحرير وطن وعودة شعب إلى دياره، ويدفع القادة الإيرانيين إلى رفض المسّ بالاتفاق النووي والتهديد باتخاذ قرارات سياسية و»نووية» وعسكرية قاسية، اذا ما فكّر ترامب باعتداء على البلاد أو مصالحها الحيوية.
من الواضح أن نتنياهو يركّز جهوده وضغوطه على إيران لظنّه أن إضعافها بإخراجها من سوريا، ينعكس إيجاباً على موقفه المتصلب من منظمة التحرير الفلسطينية عموماً، ومن «حماس» و»الجهاد الإسلامي» في غزة خصوصاً. ولعله يراهن ايضاً على أن حملة ترامب السياسية، وعقوباته على إيران، ستحمل دول اوروبا وغيرها على مجاراته في هذا السبيل، الأمر الذي يُضعف إيران اقتصادياً ويفاقم ازمتها الداخلية، ويضطرها إلى تقليص التزاماتها الخارجية وفي مقدمها دعمها لسوريا ولقوى المقاومة العربية.
الى ذلك، ضاعف نتنياهو من تهديداته لسوريا وللاسد شخصياً، ظنّاً منه أن موسكو ستحسب حساباً لـِ»جنونه» وتنفيذه لتهديداته، فتضغط على إيران من أجل سحب قواتها من سوريا، وبذلك تحمي روسيا مصالحها واستثماراتها طويلة الأمد فيها.
لكن، من المفترض أن يدرك نتنياهو أيضاً أن إيران ليست مستهدَفة من روسيا، لأن موسكو لا ترى فيها، حاليا، خصماً أو حتى منافساً لها. بالعكس، إيران حليف مفيد لروسيا في المرحلة الراهنة، لأنهما يواجهان التحدي نفسه، الولايات المتحدة وسياسة ترامب العدوانية وقد أكد ذلك بوتين وروحاني في قمة شنغهاي الأخيرة،. لذا من المستبعد أن تتجاوب موسكو مع أي ضغوط امريكية أو اوروبية لحمل إيران على إنهاء وجودها في سوريا.
لنفترض جدلاً أن تهديدات نتنياهو للأسد ونظامه، وإعلانه عن اعتزامه «تدمير قواته في حال إقدامه على فتح النار علينا» جديّة وقابلة للتنفيذ، فماذا تراه يكون موقف إيران وروسيا؟
ارى أن هذه التهديدات، حتى لو كانت جدّية، ستؤدي إلى نتائج عكسية:
*الأسد سيضطر، ازاء انهماكه بتحرير ما تبقّى من مناطق في بلاده ما زالت تحتلها «داعش» و»النصرة»، إلى مطالبة إيران بزيادة دعمها المالي والعسكري لبلاده، حتى ،لو اقتضى ذلك إقامة قواعد عسكرية اضافية لمواجهة العدوان الإسرائيلي.
*ايران نفسها، حتى قبل أن يطالبها الاسد، ستجد نفسها مضطرة إلى حماية وجودها ونفوذها في سوريا، بمضاعفة دعمها لها. وهي تدرك ايضا أن صون أمنها القومي يستوجب دعم سوريا بما هي خط الدفاع الأول عن كيانها الوطني ومصالحها الحيوية.
*روسيا الملتزمة الدفاع عن وحدة سوريا وسيادتها ستجد نفسها هي الأخرى محرجة جداً بتهديدات نتنياهو، وبالتالي مضطرة إلى تزويد سوريا منظومةَ دفاعٍ جوي من طراز S-300 وربما S-400 بغية إحباط اي مغامرة قد تُقدم عليها إسرائيل ضد سوريا أو ضد إيران في سوريا.
يتحصّل من هذه الواقعات والاحتمالات، أن تهديدات نتنياهو لن تجديه نفعاً ولن تثني سوريا وإيران عن المضي في تحالفهما والوفاء بمتطلبات هذا التحالف، بما في ذلك إقامة قواعد عسكرية ايرانية في سوريا اذا ما اقتضت الحاجة.
اكثر من ذلك، صمود سوريا، ومن ورائها إيران وروسيا، سيعزز صمود الفلسطينيين عموماً ولاسيما صمودهم في جبهة قطاع غزة.
انطلقت الثورة السورية في مارس (آذار) 2011 ثورة شعبية شارك فيها أكثر من نصف الشعب السوري بكل أطيافه وطبقاته وأديانه وطوائفه وقومياته. وهي كانت في بدايتها هَبّة شعبية سلمية علنية شفافة رائعة، عبّر من خلالها الشعب السوري كله عن رغبته في الخلاص من الاستبداد، ورغبته في دولة مدنية ديمقراطية تحترم حقوق الإنسان وحريته وكرامته.
مع الوقت تصدرت المشهد السياسي رموز معارضة دفعت أثماناً كبيرة سابقاً في السجون لمعارضتها النظام الديكتاتوري، ونقلت مطالب الشعب السوري إلى المجتمع الدولي على أمل أن يساعد في تحققها كما ساعد شعوب أخرى، لكن في الوضع السوري ما حصل هو العكس تماماً؛ إذ وقفت دول في المجتمع الدولي كله ضد رغبة الشعب السوري، وعملت كل ما بوسعها لدعم الديكتاتورية وترسيخها. ولتصبح سوريا مسرح صراع دولي على حساب دماء السوريين، وخرجت مطالب الشعب السوري من حسابات اللاعبين الدوليين وهي لم تكن أصلاً موجودة لديهم، ويتم تقاسم سوريا كمناطق نفوذ بين اللاعبين.
وليصبح: «أين هي الثورة السورية ومن يمثلها»، السؤال المستحيل الذي عمل الجميع على طمس وتغييب الإجابة عنه، وجعل الجواب الوحيد الممكن هو: «إن الثورة انتهت ولا يوجد من يمثلها».
هل هي حقاً كذلك؟
لا أعتقد ذلك أبداً، بل ربما على العكس؛ أن الثورة السورية تجذرت في نفوس السوريين مع كل الثمن الهائل من الألم والموت والتدمير الذي لحقهم. وأعتقد أن الثورة السورية تتحول يوماً تلو آخر لتصبح مطلباً لدى كل السوريين وبكل المناطق وليس معظمهم. حتى كثر ممن كانوا لا يؤمنون بها من قبل أصبحت الآن حاجة ملحة لهم، ومن كان يتوهم أنه مع الاستبداد كونه ضد احتلال، يجد نفسه تحت نير احتلالات عدة الآن؛ فحرب الدول على الثورة السورية أنتج واقعاً مختلفاً، فلم تعد سوريا تحت سيطرة نظام ديكتاتوري مجرم يمسك بها وإنما أصبحت تحت نير احتلالات أجنبية مكشوفة وعلنية تستعين بأدوات محلية، وبالتالي تغيرت مواقع السوريين فجزء ممن كان مع الثورة ببدايتها أصبح أداة محلية لمحتل من جهة ما، وهناك من كان ضد الثورة بالبداية أصبح الآن ضد الاحتلال وأدواته المحلية. وأنا مؤمن تماماً أن السوري الذي تذوق طعم الحرية لن يقبل أبداً أن تسلب منه مرة أخرى، هذه حتمية التاريخ، وسوريا هي التي صنعت للعالم تاريخه من آلاف السنين.
ومع تغير الأوضاع على الأرض وفي السياسة، وانكشاف كل الأوراق وثبوت فشل الأدوات التي مثلت الثورة السورية في وقت ما، وفشل الأساليب التي اتبعت سابقاً لتصل الثورة السورية لنصرها، يجب أن نفكر في أدوات جديدة وأساليب جديدة تتماشى مع الوضع الآن. نفكر في كيف نعيد صوت الثورة السورية وإرادتها إلى الساحة؟ كيف يخرج السوريون من الاصطفافات الإجبارية التي اضطروا إلى الوقوف بها؟ كيف نعيد لم شمل السوريين التواقين لسوريا الجديدة، سوريا الديمقراطية المدنية؟
إن الجواب في تراث حركات التحرر الوطني، وفيما يمكن لحركة تحرر وطنية سورية أن تبدعه. حركة تحرر وطني عابرة للطوائف والقوميات تخرج السوريين من كل الاصطفافات التي تم إجبارهم على الدخول فيها قسراً، هي الأداة الأفضل لتحرير سوريا من الاستبداد والاحتلالات، وإعادة سوريا للسوريين، وإعادة السوريين إلى سوريا
فمقاومة الاحتلال وحق تقرير المصير، هما من حقوق الإنسان، ومن حقوق الشعوب التي نصت عليها الشرائع والاتفاقيات الدولية. وتكتسب شرعيتها من وجود الاحتلال والأدوات المحلية والمنفذة لمخططات دولة الاحتلال، ومن حق الشعوب بالخلاص من الاحتلال الأجنبي والتخلص من أدواته.
ولنا في التاريخ نماذج ناصعة عن حركات تحرير أنجزت تحرير بلدانها ووحدتها واكتسبت شرعية وجودها تحت هذا المبدأ، كالمقاومة الفرنسية ضد النازية التي احتلت فرنسا ونصبت حكومة موالية لها، والمقاومة الإسبانية ضد الديكتاتور فرانكو، وغيرها كثير من الأمثلة الناصعة في التاريخ.
كيف يبني السوريون حركة تحررهم؟ وما هي وسائل العمل؟
أولاً، يجب أن تبنى حركة التحرر بشكل ينسجم مع هدفها وهو بناء سوريا لكل السوريين دون أي تمييز على أساس العرق أو الدين أو المذهب.. دولة مدنية ديمقراطية موحدة تحترم حقوق الإنسان ومبادئه، ويجب أن تعلن أهدافها بكل وضوح، وتتبنى برنامجاً كاملاً لبناء هذه الدولة على أسس احترام حقوق الإنسان والديمقراطية.
ثانياً، يجب أن تتخذ أقصى درجات السرية والثقة في بناء هيكليتها، وألا يتم الاعتماد إلا على الأشخاص المؤمنين بمبادئها لمنع الاختراقات. وأن تضع هيكلية تنظيمية تعتمد مبدأي الثقة والانتخابات والانتشار بكل المناطق في سوريا.
أن تعتمد على هيكلية تعمل في المناطق المدنية لحشد الجهود لمقاومة الاحتلال وأدواته المحلية بكل أشكال المقاومة، مع الالتزام بتطبيق القواعد القانونية الإنسانية في حالات الحرب واتفاقيات جنيف وتجنيب المدنيين الأذى.
ألا تسعى للسيطرة على المناطق الجغرافية وبذلك يخرج المدنيون السوريون من معادلة القوة المسلحة والحرب والدمار، وإنما هي حالة مقاومة متحركة سرية هدفها طرد الاحتلال وإسقاط أدواته المحلية وعلى رأسهم وبأولهم نظام القتل والإجرام في دمشق.
أن تكون عابرة للطوائف والقوميات، ولا تكون مرجعيتها أي آيديولوجيا سياسية أو دينية أو قومية، وأن يكون هدفها تحرير سوريا من الاستبداد والاحتلالات وإعادتها للسوريين الأحرار لبنائها دولة حديثة مدنية ديمقراطية، وأن يكون شعارها وممارساتها منسجماً مع ذلك.
ألا يكون ظاهراً للعلن إلا الممثل والناطق الرسمي للحفاظ على حيوات السوريين المشاركين في الحركة، ومنع الضغط والتلاعب بإرادات السوريين بالتهديد أو الترغيب كما حصل مع الهيئات السياسية السابقة.
ألا يتم الاعتماد في بناء الحركة على التمويل الأجنبي، بل تعتمد الموارد الذاتية والداخلية؛ حتى لا يتم التحكم بها بالمال أو السلاح.
هذه خطة طريق أضعها الآن أمام السوريين لإعادة إطلاق صرخة الحرية والكرامة بشكل جديد وإجبار كل اللاعبين على إعادة حساباتهم ووضع رغبات وآمال الشعب السوري ببناء بلده في أول الاعتبارات.
لن ننسى أن الشعب السوري عندما قام بثورته كانت كل سوريا تحت سيطرة النظام المجرم بشكل عام وقوي، وأن الانتصارات التي يحققها بواسطة الميليشيات والجيوش الخارجية لم تكن على الثورة السورية وإنما على مجموعات تم تسليحها لتدعي تمثيلها للثورة وبقصد هزيمة الثورة بهزيمتها. وإعادة سيطرته العسكرية على بعض المناطق لا تعني الثورة بشيء.
لم ولن تنكسر ثورة شعب. لم ولن ينكسر الشعب السوري ولم ولن تنهزم ثورته. سبق أن قلت منذ عام 2011 إن ثورة الشعب السوري ستغير العالم كله وهي قد قامت بذلك وسنستمر حتى يكون العالم كله مكاناً أفضل للإنسان.
ستسقط أدوات الاحتلال المحلية وعلى رأسهم نظام الأسد المجرم وسنطرد الاحتلالات حتى آخر أجنبي منح الجنسية لسلب حقوق السوريين. سنحاسب ونحاكم كل المجرمين والقتلة ومغتصبي الحقوق. وسنعيد بناء سوريا كما يتمناها السوريون.