اليرموك.. الرقص على جثة المخيم!
أيها اللاجئ الفلسطيني في سورية، إنه مخيم اليرموك الذي كنت كلما فَرَغَتْ قربتك تزودت من معينه. كلما ضعفت أو تعبت، أسندت ظهرك إليه. كلما جار عليك الزمان، رميت رأسك على صدره. كلما ضاقت بك الدنيا وعبست بوجهك المدن، التجأت إلى فضاءه الرحب. كلما انتابك خوف أو جزع وجدت الطمأنينة فيه، ولا تبالي إن فاتتك الدنيا خارجه. صادمة هي الصور الآتية اليوم من المخيم، الحيز الجغرافي الذي شكل على مدار عقود، التجمع الأكبر للاجئين الفلسطينيين خارج فلسطين. المخيم المدرسة، النهضة الاقتصادية والثقافية والسياسية، ساحة العمل الوطني الأهم خارج البلاد. المخيم الذي يضم في تربته عشرات القادة الشهداء الذين ارتقوا على طول سنوات الصراع مع الاحتلال.
بينما كان يعيش مخيم اليرموك، بكل ما يمثله من رمزية للشعب الفلسطيني، خرابه الأخير، كان هناك على المقلب الآخر، فلسطينيون، لديهم ما يكفي من الترف وفائض الوقت للحديث عن الزفاف الملكي البريطاني. آخرون انشغلوا بمتابعة الشائعات المتعلقة بصحة الرئيس الفلسطيني، وكأن هذا المخيم ينتمي لجزر الأرخبيل الإندونيسي، فيما عم الصمت الجهات الرسمية والفصائلية الفلسطينية، باستثناء تلك المحسوبة على النظام، حيث انشغلت بالحديث عن الانتصار والتحرير وطرد الإرهاب ودعاوى "إعادة الإعمار"!
في العودة إلى البدايات فإنه بعد مجزرة شارع الجاعونة الشهيرة منتصف تموز 2012، خرج المحلل السياسي "طالب إبراهيم" متحدثاً بلسان النظام، وقال بالحرف: "هذا المثلث الأخضر (يقصد المخيم) سيتحول إلى مثلث أحمر إن لم تكف "العصابات المسلحة" عن استخدامه ضد "الدولة السورية". بدا الحديث مفاجئاً ومستهجناً، إذ لم يكن ثمة "عصابات" حينئذ، ولا مسلحين، وكان المخيم يخضع بالكامل لما سمي حينها "اللجان الشعبية" التابعة للفصائل الفلسطينية المحسوبة على النظام (الجبهة الشعبية- قيادة عامة، فتح انتفاضة، جبهة النضال الشعبي، تنظيم الصاعقة). كل ما هنالك أن أهالي المخيم قرروا فتح المدارس والمساجد وتحويلها إلى مراكز ايواء للنازحين الذين قدموا من حي الميدان والعسالي وحي القدم والحجر الاسود وحي التضامن، وجادوا بالغالي والنفيس لإغاثتهم والتخفيف من معاناتهم.
الذي حصل أن إرادة الصهاينة المتمثلة بإزالة مخيم اليرموك والتخلص منه، لما هو عنصر تهديد ظل قائماً منذ النكبة، شاهداً عليها، حاضنة لكل ما يتصل بمعركة التحرير المنشودة، يرفد العمل الوطني بالكادر البشري، يحفظ الذاكرة الفلسطينية، ويبقيها حية، وحاضرة مهما تقادمت عليها السنوات، وجدت أخيراً هذه الإرادة من ينفذها. من نافل القول أن ما نزل بمخيم اليرموك يُعبر عن عقيدة النظام السوري تجاه أي منطقة أو مدينة، تشق عصا الطاعة، أو يصعب اخضاعها. الأدلة في هذا الباب أكثر من أن تحصى. بيد أن المختلف في قضية المخيم، هو خصوصيته، ورمزيته، وتاريخه، ودوره في معادلة الصراع مع الاحتلال منذ النكبة. كل هذا لم يشفع لمخيم اليرموك بالرغم من خطاب الممانعة الذي يتغنى به النظام دائماً.
في المشهد الأخير جاء "التعفيش" والنهب، والشماتة، والرقص على أنقاض مساكن اللاجئين الفلسطينيين المهدمة، والقهقهة أمام مشاهد الدمار، كبند أخير من بنود العقاب_ المؤامرة، على مخيم اليرموك وأهله. ومن جهة أخرى، فإن الصور التذكارية وتصريحات قادة الفصائل والشخصيات الفلسطينية التابعة للنظام، على أبواب المخيم، وفي شوارعه وساحاته، جاءت لذر الرماد في العيون، وفي سياق عملية تضليل وقلب للحقائق، مستمرة منذ قصف المخيم بطائرات الميغ عام 2012، ولتأكيد رواية النظام لما حل بالمخيم، وصولا إلى الترويج لما يسمى حاليا بعملية إعادة الإعمار.
الدمار الهائل الذي بدأ يتكشف مع خروج الصور والفيديوهات من مخيم اليرموك، يثبت صدقية هواجس الناس تجاه عملية اسقاط المخيم وظهور داعش كالفطر في جنوب دمشق، من ثم عملية "تحرير" المخيم وطرد التنظيم. اختصر المشهد السيد أنور عبد الهادي رئيس الدائرة السياسية في منظمة التحرير من دمشق عندما أكد أن العودة غير ممكنة ولن تكون قريبة بسبب الدمار الكبير، وطالب الأونروا والمنظمة بالاستعداد لعملية إعادة الإعمار. وأكد ذلك أيضاً الناطق باسم وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الأونروا عندما قال أن الدمار طال أكثر من ثمانين بالمئة من مباني المخيم وما بقي واقفاً فهو متهالك وغير صالح للسكن.
الوضع الحالي للمخيم لا يسمح بإعادة إعمار دون إزالة الكتل المدمرة والتي تشكل أكثر من ثمانين بالمئة من المباني السكنية، ما يعني إزالة أحياء وشوارع أساسية. بمعنى آخر، سيتم تجريف المخيم بعد الانتهاء من عمليات النهب و "التعفيش" الجارية على قدم وساق، من ثم عليكم أن تنتظروا مثل بقية سكان المناطق المهجرة، عملية إعادة الإعمار المرتبطة بالحل السياسي وتعقيداتها.
المحصلة الأكيدة أن المخيم انتهى إلى غير رجعة، إذ حتى لو صدق السيد أنور عبد الهادي الذي أمنت منظمته الغطاء السياسي للنظام في كل إجراءاته المتخذة ضد المخيمات، فإن التركيبة الديموغرافية أو البنية السكانية والتي شكلت هدفاً أساسياً لمن قرر تجريف المخيم، يستحيل أن تعود. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا، هل ستتم عملية اعادة اعمار الموعودة وفق المخطط والواقع التنظيمي السابق، بطريقة تحفظ خارطة المخيم وكينونته ورمزيته، وتضمن عودة السكان وفق التركيبة الديموغرافية السابقة، أم أنه سيعاد تنظيمه وهندسته وفق مخططات جديدة، تنهي وجود المخيم إلى الأبد، وتثبت عملية التجريف التي تعرض لها المجتمع الفلسطيني في مخيم اليرموك؟
وإذا ما أخذنا بالحسبان الأوضاع الاقتصادية والسياسية التي تمر بها دول الاقليم، لاسيما تلك التي تساهم بدعم الأونروا والسلطة الفلسطينية، في ظل الحديث عن صفقة القرن وشطب ما يسمى بقضايا الحل النهائي ومن ضمنها قضية اللاجئين وحق العودة، فهل ستقبل تلك الدول دعم عملية إعادة الإعمار في هذه الظروف، هذا فضلاً عن الأزمات التي تتعرض لها الاونروا على الصعيد المالي وهي بالكاد تستطيع تأمين متطلبات التعليم والصحة لهذا العام.
خلاصة القول، هناك تجارب مريرة لشعبنا الفلسطيني لا تزال ماثلة أمامه لمخيمات تم تدميرها وإزالتها وانتهت من الوجود، وأخرى تلقى أهلها وعوداً بالعودة إليها وإعادة الإعمار كمخيم نهر البارد الذي لم تنته عملية اعماره منذ أحد عشر عاماً، بيد أن الحقيقة المرة والمؤسفة، والثابت الوحيد الذي يُجمع عليه سكان مخيم اليرموك اليوم بمختلف مشاربهم وتوجهاتهم، هو أن المخيم انتهى إلى غير رجعة.