مأزق مزدوج
لا يبدو واقع الكرد أفضل من حال بقية السوريين بأكثريتهم العربية، والأمر في هذا يبدو طبيعياً وسط البيئة السورية العامة المتدهورة، بخلاف ما يعتقد البعض أو ما يروج له من قبل شخصيات وجماعات ما زالت تسعى إلى تكريس اختلاف الكرد عن بقية مواطنيهم، سواء كان الاختلاف سلباً أو إيجاباً.
ففي المستوى الشعبي، أصاب الكرد ما أصاب غيرهم من قتل وجرح واعتقال وتهجير ولجوء وتدمير لقدراتهم المادية، وتعرضوا لاضطهاد النظام وحلفائه، ولم يفلتوا من هجمات وإجرام جماعات التطرف والإرهاب الديني والقومي من «داعش» والنصرة، وصولاً إلى قوات الحماية الشعبية، التي يقودها حزب الاتحاد الديمقراطي المحسوب بين تنظيماتهم، وقد تساوت حالتهم مع بقية السوريين.
ولم تكن الحال أفضل في المستوى السياسي. فواقع الانقسام والصراع الكردي حقيقة واقعة، تماثل حال غيرهم، والاصطفافات تكاد تكون متقاربة، وقد فشلت كل محاولات جمع الجماعات الكردية سواء في إطار تنظيمي واحد، أو في بناء جبهوي على نحو ما حدث في اتفاقية هوليير لعام 2012 التي وقعها الطرفان الكرديان الأساسيان؛ المجلس الوطني الكردي ومجلس شعب غرب كردستان برعاية من إقليم كردستان العراق، وبدل أن تتحسن العلاقات ساءت وتردت إلى الحد الأقصى، بحيث ذهب كل طرف في اتجاه مخالف أوصلهما إلى تناقض سياسي وعسكري، طوره حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يقود قوات الحماية الشعبية بحملات نفي واعتقال لقادة من المجلس الوطني الكردي ومصادرة ممتلكاتهم.
وبطبيعة الحال، فقد أدى ما أصاب الكتلة الشعبية الكردية إلى دمار المجموعة السكانية وتشتتها بين الداخل والخارج على نحو ما أصاب أكثرية السوريين، وصارت الأغلبية الكردية من اللاجئين موزعة في ثلاثة تجمعات رئيسية؛ القسم الأول منها في إقليم كردستان العراق، والثاني في تركيا، والقسم الثالث موزع في بلدان اللجوء الأوروبية وخصوصاً في ألمانيا، حيث الجالية الكردية الأكبر في أوروبا. فيما أكراد الداخل موزعون بين ثلاث مناطق؛ أولاها منطقة الجزيرة المحكومة بقوات سوريا الديمقراطية، التي يقودها حزب الاتحاد الديمقراطي وأرياف حلب الموزعة تحت سلطة قوات سوريا الديمقراطية في منطقة الشمال الشرقي، ومنطقة عفرين التي استولت عليها القوات التركية بعد حملة غصن الزيتون، التي هدف الأتراك من خلالها إلى طرد حزب الاتحاد الديمقراطي منها، والقسم الثالث من أكراد الداخل الموجودين في مناطق سيطرة نظام الأسد وأغلبيتهم موزعة بين حلب في الشمال ودمشق في الجنوب.
وترافق تشتت الكتلة السكانية الكردية مع تكريس انقسام سياسي كردي حاد. ففي الوقت الذي حافظت فيه أغلبية أحزاب المجلس الوطني الكردي على روابطها السياسية الهشة مع المعارضة المنضوية في الائتلاف الوطني السوري الوثيق العلاقة مع تركيا، سعى حزب الاتحاد الديمقراطي عبر تعبيرات سياسية - عسكرية إلى خط مختلف، يجمع تناقضات تحالفه مع الولايات المتحدة والعداء للسياسة التركية في سوريا، واستعداده للتفاهم والتسوية مع نظام الأسد.
ورغم ما يظهر من اتفاق سياسي كردي في الموقف من جماعات التطرف والإرهاب ولا سيما «داعش» والنصرة، فإن اختلافاً عميقاً، يظهر في الموقف السياسي من نظام الأسد. فطوال السنوات الماضية، تبنى المجلس الوطني الكردي موقف المعارضة من النظام وضرورة تحقيق حل سياسي في سوريا عبر جنيف، فيما أقام الاتحاد الديمقراطي علاقة قبول وتفاهم سياسي - عسكري مع النظام في منطقة الجزيرة، قبل أن يتحول بعد خسارته في معركة عفرين 2018 في مواجهة القوات التركية وحلفائها من تنظيمات المعارضة المسلحة إلى الإعلان عن قبوله حواراً غير مشروط مع نظام الأسد.
وكان من نتائج التشتت والصراع الكردي، خروج إجمالي تعبيراته السياسية/ العسكرية من خريطة الصراع في سوريا بعد تحوله إلى فاعلية وتأثيرات هامشية سواء بالنسبة للمجلس الوطني الذي فقد حاضنته الشعبية من جهة، وأصبح من جهة أخرى ملحقاً بالائتلاف الذي يعاني من ضعف ذاتي وتهميش من الفاعلين الأساسيين في القضية السورية أو لحزب الاتحاد الديمقراطي الذي ربط نفسه بالأجندة الأميركية، وصار أسير سياساتها السورية غير الواضحة، وأغرق نفسه في أتون صراع حاسم لتركيا، وأخذ يسعى لإيجاد مكان له في تسوية غير مشروطة مع نظام الأسد.
وكما هو واضح، فإن المسار السياسي للكرد السوريين، صار يعاني من مأزق مزدوج؛ جانبه الأول داخلي، يتعلق بالاختلافات والصراعات بين طرفيه الأساسيين، وذهب فيها إلى الحد الأقصى، وجانبه الثاني خارجي، ويتصل بجملة علاقاته مع الأطراف السورية والإقليمية والدولية المؤثرة بالقضية السورية، وفي الحالتين لا يتبين أفق واضح للخروج الكردي من هذا المأزق، ما يضيف مشكلات أخرى لمشكلات السوريين ودورهم في حل قضيتهم.