لم تكن محافظة دير الزور وريفها في يوم من الأيام لقمة سائغة لكل المحتلين والطغاة في تاريخها الحديث، ولم يكن المحتلون الإنكليز والفرنسيون مطلع القرن الماضي سعداء ومرتاحين في استعمارهم لتلك المنطقة، ويشهد التاريخ أن دير الزور كانت كابوساً لكل من أراد فرض هيمنته عليها، ولهذا كانت السباقة في التحرر والتحرير من غزاتها السابقين ولن تشذ عن القاعدة مع غزاتها اللاحقين.
فقد شهدت الأيام القليلة الماضية محافظة دير الزور وريفها وباديتها الواسعة، تصعيداً غير مسبوق بحرب العصابات من قبل تنظيم الدولة "داعش" على قوات النظام وحلفائه الإيرانيين والروس، وتناقلت وسائل الإعلام الموالية لحزب الله أخبار تشييع العديد من قتلى الحزب في مناطق ريف دير الزور.
وقام تنظيم الدولة بتصعيد حرب العصابات التي تعتمد على الهجمات المفاجئة، واستراتيجية الكرّ والفرّ وعدم مسك الأرض، وإلحاق أكبر قدر ممكن من الخسائر في صفوف ميليشيات النظام وحلفائه الإيرانيين والروس، وليست هذه المرة الأولى ولن تكون الأخيرة، وهذا ما سيُحدث الفارق وقد يؤدي لتحولات مفاجئة قد تضطر ميليشيات النظام للانسحاب وإعادة التجميع في نقاط محصنة، كما فعلت في بداية الثورة في دير الزور وريفها حين استطاع الثوار تكبيد النظام وميليشياته خسائر غير مسبوقة في جنوده وعتاده، وتحرير أول وأكبر مساحة جغرافية في سورية واستطاعوا حصار قوات النظام في مساحة محدودة، وقد أدرك النظام حينها أنّ الحل الوحيد لكبح جماح خسائره هو الانسحاب وتجميع قواته في مطار دير الزور والمربع الأمني في ثلاثة أحياء في المدينة، وكانت هذه الخطوة من أذكى قرارات النظام الذي بدا حينها متخبطاً بقراراته الغبية والتي أوصلته لمرحلة اللاعودة، وأدخلت سورية في نفق مظلم لن تخرج منه في المدى المنظور.
وقد أخطأ كل من قال بأن النظام لم يبدأ بإعادة السيطرة على دير الزور قبل المحافظات الأخرى لأنها أقل أهمية، بل على العكس فدير الزور تقع في قلب الشرق الأوسط، وهي حجر عثرة أمام امتداد المشروع الإيراني الطائفي، ولن يمر الحلم الإيراني الطائفي من خلالها نحو البحر المتوسط مرور الكرام، وطبيعة سكانها متمردة غير منضبطة، وهي أكبر خزان بشري صافي العرق والمذهب، ناهيكم عن ثرواتها الزراعية والباطنية من نفط وغاز مُستَثمر وغير مُستثمر، وتستحوذ دير الزور على أكثر من 60% من ثروات سورية الباطنية ولهذا فإن أهميتها لا تقل عن العاصمة السياسية دمشق، والعاصمة الاقتصادية حلب، وقلب سورية وصلة الوصل بين الشمال والجنوب حمص، ولهذا فإن ما أَجّل عمليات النظام العسكرية في دير الزور، هو صعوبتها وتداخلها مع الحسابات والمصالح الدولية التي اتضحت لاحقاً لكل من غفل عنها.
و قد أثبتت التجارب غير البعيدة أنه لا توجد قوة في العالم يمكنها أن تفرض سيطرتها على البادية ومساحتها الواسعة، والتي لا تُعرف حقيقة ولاء ساكنيها وميولهم وطريقة تفكيرهم، والمستنقع الأفغاني خير شاهد على هذه النظرية.
وتتميز محافظة دير الزور بتماسك نسيجها العشائري والإثني و المذهبي، فهي عربية الدم سُنّية المذهب ولهذا يسميها العارفون و الخبراء بالكتلة الصلبة، كما أن لدى سكانها كمية سلاح هائلة وقد لعبت دوراً كبيراً بداية الثورة في تصدير الأسلحة للمحافظات الأخرى، كما صدرت مقاتلين روت دماؤهم تراب سورية من أقصاها إلى أقصاها.
كما كانت دير الزور رأس حربة في ما سُمّي بمشروع (بنغازي) سورية، لتكون بذرة لتشكيل الجيش الوطني السوري الحر، الذي كان مخططاً له أن ينطلق من الشرق لتحرير كل سورية بتمويل ذاتي (اقتصادياً وبشرياً) دون الاعتماد على أي أجندة خارجية، وتدخل دولي في القرار الوطني الحر، ولكن هذا المشروع أُجهض وبقي في أدراج مكاتب الائتلاف والحكومة المؤقتة بفعل فاعل على الرغم من أنه كان مشروعاً واعداً وناجحاً بكل المقاييس.
تاريخياً لم يستطع الطاغية الراحل "حافظ أسد" السيطرة عليها وكسب ولاء أبنائها، وعُرف عنها كراهية أبنائها لنظام "حافظ أسد" وكذا وريثه الطاغية "بشار أسد" لم ينجح فيما فشل فيه أبوه.
ولهذا سعى النظام لتشييع سكانها منذ ثمانينيات القرن الماضي، لصناعة سكان موالين للنظام مذهبياً، ولكنه لم ينجح في تغيير مذهب ودين السكان في الحرب وهو لم يفلح بذلك في أوقات السلم، ولا سبيل أمام النظام وحلفائه إلا اتباع سياسة الأرض المحروقة وتصعيد القصف الجوي لدفع سكان المنطقة للهجرة أو الموت تحت ركام منازلهم تأسياً بالموصل، وقد عمل النظام على هذا، ولم تتوقف مجازره وقصفه الوحشي، ولكن ما ظلم دير الزور إعلامياً أنها كانت في وقت سابق تحت سيطرة تنظيم الدولة المُحارب عالمياً وإعلامياً، وما زالت حاليا بعض مناطقها شرقاً في حوزة التنظيم.
وبعيداً عن نظرية المؤامرة من الواضح انخفاض وتيرة قصف التحالف الغربي لمناطق سيطرة تنظيم الدولة عما سبق، وتسعى أمريكا لاستثمار التنظيم في استنزاف خصومها الإيرانيين والروس في دير الزور، والتقاء المصالح لا يعني توافقاً واتفاقاً بين تنظيم الدولة وأمريكا، وكلا الخصمين يلائمهما ويسرهما هذا الوضع طالما أن المصلحة المؤقتة تتطلب ذلك، تنظيم الدولة يثخن في النظام وحلفائه الإيرانيين والروس وبالتالي ستُخفف أمريكا الضغط على التنظيم، وتنظيم الدولة يُدرك هذه المعادلة وسيستثمر التناقضات ما استطاع، والحكمة السياسية وطبيعة المرحلة تتطلب ذلك.
وسيستمر تنظيم الدولة في استراتيجية حرب العصابات، والظهور والاختفاء كالأشباح، ولن تفاجئنا (مستقبلاً) هجمات التنظيم على قوات النظام وحلفائه في قلب البادية وقد حدث بعضها في شرق حمص مؤخراً، ولن نستغرب عودة غارات التنظيم الواسعة والمؤثرة على مدينتي السخنة وتدمر مستقبلاً، ولكن ما سيبعثر الحسابات والتوقعات هو عودة التنظيم لسياسة مسك الأرض، وإعادة سيطرته على دير الزور والسخنة وتدمر، ولا ثوابت في السياسة والتكتيكات العسكرية، فلكل مقام مقال والبراغماتية والتحولات المفاجئة هي الثابت الوحيد، وفي كل الأحوال ستبقى البادية مطحنة لقوات النظام ولن تتخلى دير الزور عن لعب دور (الثقب الأسود) الذي يبتلع كل غزاته، وستكون قادمات الأيام حبلى بمفاجآتها، فلا تستكينوا واربطوا الأحزمة!!
ثمة مبالغة فاضحة في التركيز على محورية الوجود العسكري الإيراني وملحقاته في الجنوب السوري في هذه اللحظة السياسية الحاسمة من عمر الانتفاضة السورية في وجه نظام الاستبداد، فما الذي يضير طهران في تخفيض حجم تواجدها العسكري والأمني هناك، أو التمويه عليه بأشكال وصياغات معروفة، إذا كانت تستحوذ على المفاصل الرئيسية في العاصمة دمشق وريفها، مثلما تستحوذ على صناعة قرارها السياسي، مستبيحة مرتكزات السيادة السورية طولا وعرضا، وتهندس الخطوط العريضة والرفيعة لخريطة سوريا الديموغرافية في أكثر المناطق كثافة بالسكان، بعد أن رسمت حدودها الجغرافية بقوة الحديد والنار.
الأمر الذي يشعل فتيل العديد من التساؤلات المحورية حول مدى كثافة التحشيد السياسي والإعلامي، وتسليط الأضواء على هذا الجانب «الثانوي» في الملف الداخلي السوري، وامتداداته الاقليمية والدولية، التي تشهد حالة غير مسبوقة من التكثيف المعلن لمشاريع عدوانية عابرة للحدود، جميعها يقصي مصلحة أبناء البلد ويدوس على معاناتهم.
مبالغة لا بد أن تذكّر بحمى صناعة الفزاعات في المنطقة والعالم، مثلما تستحضر سلسلة لا متناهية من الأهداف المحققة قولا وفعلا عن طريق استثمار الفزاعة الإيرانية تحديدا، بدءا من عبثية الحرب العراقية – الايرانية وما ألحقته من كوارث بالشعبين العراقي والإيراني وشعوب المنطقة عموما وقضاياها الحيوية، وليس انتهاء بسياسة الابتزاز التي تمارسها الإدارات الأمريكية المتعاقبة لدول الخليج العربية من خلال التلويح بوهم التهديد الايراني، الذي بات بمثابة الدجاجة التي تبيض ذهبا، كلما اقتضت الحاجة إلى بناء ما يلزم من ذرائع زائفة الغرض منها تمرير أهداف غير زائفة، تتحول مع مرور الوقت إلى حقائق دامغة ليس في ملفات الشرق الأوسط الشائكة فحسب، وإنما في ملفات دولية أيضا، حيث لا يمكن المرور مرور الكرام على مظاهر بداية تشكل ذلك الصدع بين الموقف الأوروبي من جهة، والموقف الأمريكي من جهة أخرى، حيال الملف النووي الايراني، إثر إعلان ادارة ترامب انسحابها من الاتفاق النووي الايراني مؤخرا.
بعيدا عن الجدل الدائر حول صوابية الخطوة الأوروبية الرافضة لتقويض ذلك الاتفاق الدولي من عدمها، ربما تشكل هذه الخطوة سابقة غاية في الأهمية على مستوى لفظ هذا الطعم أو ذاك، عندما تخلو عملية ابتلاعه من فائدة أو جدوى، أو تنطوي على مخاطر وكوارث لا تحمد عقباها، مثلما تشكل نموذجا يحتذى، خاصة بالنسبة لتلك القوى والأنظمة والشعوب، التي طالتها مرارة طعمه غير مرة، ما يستدعي، بالضرورة، قراءة متأنية لأي حراك سياسي أو عسكري من منظور المصالح الوطنية الحقيقية، بعيدا عن الأوهام والتوهمات التي تزرع في الدروب لغايات غير مرئية، كما هو الحال مع ضرب اسفين الفزاعة الإيرانية في طريق تسوية مسألة سياسية معقدة، مثل مسألة الجنوب السوري، التي تتخطى بحكم الأمر الواقع والمعطيات الجيوسياسية والتاريخية، مسألة تحديد خطوط العرض والطول لوجود القوات الإيرانية فيها، كما تعيد كشف ملمح جوهري من ملامح تشكيل خرائط دول المنطقة وبناء أنظمتها السياسية انسجاما مع غايات صانعي تلك الخرائط والأنظمة السياسية فيها على حد سواء. مساران شهدا تلازما لا انفكاك في عراه منذ بداية تشكل الدولة القطرية في الشرق الأوسط.
إذن، في حال ابتعدت الخطى عن مطب الوقوع في ظلال الفزاعة الإيرانية، أو غيرها في حالة الملف السوري عموما، وفي ملف الجنوب السوري تحديدا، تعود ركائز تشكيل النظام السياسي العربي بالتزامن والتساوق مع تجسيد مشروع الحركة الصهيونية العالمية على أرض فلسطين، وتتجلى بحلة جديدة متجددة، قوامها ركيزتان لا تتبدلان، تولدتا من رحم المشروع العدواني عينه، وباتتا محور سائر التطورات السياسية والعسكرية اللاحقة، في سائر ملفات المنطقة، حيث أصبح من الممكن اعتبار قرار دولة الاحتلال، ضم مرتفعات الجولان المحتلة وابتلاعها، إحدى مسلمات الماضي، مع تمدد إضافي آخر في عمق الأراضي السورية، حتى لو لم يأخذ ذلك التمدد شكل الاحتلال التقليدي المباشر، بينما يعيد النظام السوري تقديم أوراق اعتماده للدوائر الصهيونية والاحتكارية الدولية، المتكفلة بإعادة تأهيله ضمن منظومة العلاقات الدولية العرجاء، في ضربة مزدوجة تقضي على الأخضر واليابس، في ما تبقى من حطام أحلام الشعوب العربية في الحرية والكرامة والتحرير.
لم تتكشف بعد حقيقة ابتلاع الفزاعة الايرانية في سائر تجلياتها وهي كثيرة ومتنوعة بطبيعة الحال، لكن أخطر ما فيها يتمثل في مطب آخر لا يقل فتكا عن الأول، متجسدا هذه المرة في الوقوع في مطب المفاضلة بين ثنائيات قاتلة لقضايا حيوية، مثل القضية الفلسطينية، وقضية احتلال أراض عربية من قبل دولة الاحتلال وقضية التطبيع معها وإعطائها حق العضوية في نادي دول المنطقة، كعضو طبيعي، لم يحتل أرضا، ولم يقتل شعبا، ولم ينتهك حرمات، ولم يستول على حقوق الغير، وذلك بعد أن تمكنت مع مريديها في المنطقة والعالم من استخدام لعبة الفزاعات على خير وجه، عن طريق إقناع لفيف من القوى والأنظمة والشخصيات العربية، بما فيها شخصيات معارضة لأنظمة الاستبداد في بلدانها، بأن مستقبل المنطقة تحدده المفاضلة بين مشروعين لا ثالث لهما، المشروع الاحتلالي الاستطياني التوسعي الصهيوني من جهة، والمشروع الإيراني الاحتلالي الاستيطاني التوسعي من الجهة الأخرى، فوقع الاختيار على الأول وأصبح العالم العربي يتلظى على صفيح احتلالين وأكثر، في ظل غياب مشروع عربي مشترك، سواء على المستوى الجمعي أو على المستوى القطري.
تلك المفاضلة لم تفتك بالعقل السياسي العربي على مستوى أنظمته السياسية فقط، بل طالت شخصيات وأحزاب لطالما أعربت عن غيرتها على مصالح الشعوب العربية، وفي مقدمتها الشعبين الفلسطيني والسوري، ما أفضى، على سبيل المثال، إلى دعوة إحداها لقوى المعارضة المسلحة في الجنوب السوري، إلى منازعة النظام السوري على كسب ود الدولة العبرية، من خلال توحيد توجهاتها وفصائلها بطريقة تقنع القيادة الاسرائيلية بأن تلك القوى أقدر من النظام على ضمان استقرار الشريط الحدودي الفاصل بين الأراضي السورية وأراضي هضبة الجولان المحتلة، وربما الحدود السورية – الأردنية أيضا، في مشهد تنافسي يتكرر بشكل رتيب منذ أن بدأت تتعاقب اتفاقيات السلام والهدن والتسويات بين الدولة العبرية وعدد من الدول والحركات والأحزاب العربية، التي تتشدق بشعارات مقاومة وممانعة لمشاريعها تماما مثلما يفعل النظام السوري وحليفه الايراني وملحقاتهما في شرق أوسط باتت أنظمته السياسية تستطيب مذاق مرارة الطعوم السامة، وتبتلعها من دون عناء.
تحتاج موسكو إلى معجزة دبلوماسية، لكي تجتاز أصعب اختبار استراتيجي تواجهه منذ دخولها المباشر في الصراع على سوريا إلى جانب نظام الأسد وطهران في سبتمبر (أيلول) 2015. فموسكو التي نجحت خلال سنتين في المواءمة بين المصالح الإيرانية في سوريا وبين متطلبات الأمن القومي الإسرائيلي، تبذل جهداً سياسياً مكثفاً، لكي تتمكن من تجاوز امتحان الجنوب السوري، وتحصل على نتيجة ميدانية مقبولة نسبياً من طهران وتل أبيب تُجنب سوريا والمنطقة حرباً إيرانية إسرائيلية على الأراضي السورية، يتخوف الجميع من أن تنتقل نيرانها إلى دول أخرى، وذلك بعد أن وضعهما التقدم العسكري لقوات الأسد - بفضل الدعم الروسي - بعد احتلال الغوطة في تماسٍ مباشر على طول خط وقف إطلاق النار الموقع بين إسرائيل وسوريا سنة 1974. فمنذ سقوط الغوطة تصاعدت الضغوط الإسرائيلية على موسكو التي تطالبها بمنع اقتراب الميليشيات الإيرانية من حدود الجولان المحتل ومحافظة درعا، وارتفعت حدة التوتر الإسرائيلي بعدما أعلنت موسكو ودمشق عن استعدادهما لشن عملية عسكرية في تلك المناطق من أجل إعادة السيطرة عليها، ما أثار قلق تل أبيب من مشاركة الميليشيات الإيرانية في هذه العملية العسكرية، الأمر الذي يتيح لها الاقتراب من حدودها مستفيدة من الغطاء السياسي والعسكري الذي ستؤمنه موسكو لهذه العملية العسكرية التي تنوي دمشق القيام بها، فسارعت تل أبيب إلى إعلانها القبول بإعادة انتشار قوات الأسد في الجنوب السوري شريطة منع الميليشيات الإيرانية من المشاركة، وذلك ضمن صفقة أمنية مع موسكو تقوم من خلالها بإقناع طهران بالابتعاد ما بين 25 إلى 40 كلم عن حدود الجولان، مقابل أن توافق تل أبيب على انتشار قوات الأسد شرق خط الهدنة، مع مراعاة حاجة نظام الأسد إلى زيادة في عدده وعتاده في المناطق القريبة من خط فك الاشتباك، التي كانت تفرض عليه سابقاً إبعاد آلياته العسكرية 7 كلم عن شرق خط الفصل (باء)، والسماح فقط ببندقية آلية واحدة لكل 3 جنود سوريين الذين لم يكن يتجاوز عددهم المئات، ينتشرون على طول هذا الخط الذي يشكل حدود الجهة الشرقية للمنطقة العازلة، التي يحدها من الغرب خط الفصل (ألف)، حيث تنتشر قوات الاحتلال الإسرائيلي.
اختبار الجنوب السوري يضع العلاقات الروسية - الإسرائيلية والروسية - الإيرانية على المحك، وسيكشف قريباً عن الحجم الفعلي لقوة النفوذ الروسي، وعن قدرة الكرملين في إدارة أصعب أزمة بين حلفائه الأعداء، فموسكو العالقة بين خيارين أحلاهما مرّ، باتت تبحث عن مخرج صعب لمعضلتها جنوب سوريا، مخرج يسمح لطهران بالإبقاء على وجودها العسكري في جزء من سوريا، هدفه فقط حماية نظام الأسد، وهو الهدف الذي يشكل القاسم المشترك الأكبر بينها وبين تل أبيب، بعيداً عن حدود فلسطين المحتلة والأردن، وهو مطلب تل أبيب القلقة على أمنها القومي، وتأمل موسكو، في حال نجاحها، التوصل إلى حل يرضي الطرفين، ويساعد على وضع حدّ للضربات الجوية التي تقوم بها إسرائيل ضد القواعد الإيرانية في سوريا، التي تسببت بانتقادات إيرانية حادة لها، وأثارت ريبة الإعلام الإيراني الذي أثار المخاوف من أن تتخلى موسكو عن تحالفها مع طهران في سوريا لصالح واشنطن وتل أبيب، مع العلم أن أغلب التصريحات الرسمية الإيرانية ركزت على أهمية الوجود الإيراني في سوريا، دون التطرق مباشرة إلى مناطق الجنوب والجولان.
رغم تناقض التصريحات الروسية في الفترة الأخيرة وضبابيتها حول انسحاب جميع القوات الأجنبية من سوريا، والتفسيرات الروسية المختلفة والمتعددة، التي أشارت في بعضها إلى الوجود الأميركي أولاً قبل الإيراني، ويضاف إليها تصريحات وزير خارجية بشار الأسد وليد المعلم الذي اعتبر أن الوجود الإيراني في سوريا شرعي، وبطلب رسمي من النظام، تعاملت طهران مع هذه التصريحات بحنكة وحكمة، ورمت الكرة إلى الملعب الروسي، وهي تدرك حجم الحاجة الروسية الميدانية لها في سوريا، خصوصاً أن بقاءها في سوريا يجنب موسكو الوقوع في الفخ الأميركي الذي يخطط لاستنزافها في سوريا، وإرغامها على نشر جنودها على الأرض من أجل ملء الفراغ الإيراني في حال أجبرت طهران على الانسحاب.
تراهن موسكو على البراغماتية الإيرانية التي قد توافق على إعادة انتشار لقواتها بعيداً عن حدود سوريا الجنوبية، وعلى إيجابية إسرائيلية اعتبرت «أن النهج الروسي فيما يتعلق بإبعاد القوات الإيرانية، أكثر إيجابية مما كان عليه في الماضي»، وفي حال نجحت موسكو، تكون قد صنعت معجزتها عبر «إيران غيت» جديدة، إلا إذا كان في طهران من يرى في الهجوم خير وسيلة للدفاع.
يبدو الحديث عن السّيادة الوطنيّة ترفاً في ظل التّهديد القائم لوجود الدّولة السّورية وفق حدودها الدّوليّة المُعترف بها قبل عام 2011م، فلا معنى للسّيادة التي يتحدث عنها وزير الخارجية السّوري المعلم (سوريا دولة ذات سيادة وستقوم بالتعاون مع من تشاء في سبيل محاربة الإرهاب)، في ظل تشظي الوطن الواحد إلى كيانات أو تعرضه لاحتلالات من قبل دول عظمى، أيّاً كانت الذّرائع (الاستجابة للحكومة الشرعيّة، مكافحة الإرهاب.. إلخ). ولا يغدو الوطن وطناً إذا كان نصفُ أبنائه مهجّرين قسراً، في الوقت الذي تعمل حكومة البلد "الشّرعية"، وفق القوانين الدّوليّة، على منح شذّاذ الآفاق الجنسيّة السّورية لإسهاماتهم "الجليلة" في قتل وتعذيب وتهجير السّوريين!
لقد فضّل بشار الأسد تدمير سوريا وتهجير أهلها واستدعاء احتلالات الدنيا على الاستجابة لمطالب الشّعب السّوري بالحريّة والكرامة، ولو أدى هذا الاستدعاء لتقسيم سوريا وفق مصالح دول إقليميّة ودوليّة.
ويبدو بشار الأسد في تصريحه للقناة الروسية مؤخراً "سنسيطر على كل جزء من سوريا بما فيها المناطق التي تسيطر عليها قوّات سوريا الدّيمقراطيّة بوجود الأميركيين أو بعدمه"؛ منفصلاً عن الواقع البائس الذي صنعَه قمعُه الدّموي لثورة الشّعب السّوري. فالأسد أضعف من أن يشنّ حرباً، ولا سيما ضد الولايات المتّحدة، كما أنّه آخر من يحق له المطالبة بوحدة الأرض السورية وسيادتها، ولا سيما بعد أن غدا مندوباً سامياً لروسيا في سوريا. فقد أهدر الأسد السّيادة الوطنيّة لسوريا مبكراً عندما قمع شعبه بالحديد والنار، مستعيناً بقوًى أجنبيّة، ولم يتوان عن استخدام السّلاح الكيماوي الذي سلّمه للفرار من المحاسبة، بصفقة خيانة، مُجرّداً سوريا من سلاح ردع استراتيجي يُفترض أنه أُعد لمواجهة النووي الإسرائيلي.
وتتالت صفقات التّنازل التي أجاد الروسُ حبكها لشرعنة وتكريس احتلالهم لسوريا، وبدا واضحاً أن سوريا انتقلت من طور الحليف لروسيا إلى طور البلد المُحتَل من قبل روسيا. فالأسد يُستدعى لروسيا كجندي روسي وتُملى عليه الأوامر لينفذها دون نقاش، فيرسل سريعاً أسماء اللجنة الدّستورية بعد أن كرّر مراراً أنّ الدّستور السّوري يمثل السّيادة الوطنيّة ويُصاغ على الأرض السّورية من قبل السّوريين وحدهم، دون إملاءات خارجيّة.
ولعل اعتراف حكومة بشار الأسد باستقلال منطقتي أوسيتيا وأبخازيا عن جورجيا لا يدع مجالاً للشك بأنّ السّياستين الدّاخليّة والخارجيّة خاضعتان للاحتلال الرّوسي، ويظهر الأمر جليّاً في لقاء وزيري الدّفاع الرّوسي والإسرائيلي، فهما يقرران مصير الجنوب السّوري القريب من العاصمة دمشق، في الوقت الذي يتبجّح فيه الأسد بأنّه سيُحرّر كل سوريا، بما فيها الخاضعة للنفوذ الأمريكي. وما يثير السّخرية في تصريح الأسد أنّ قوّاته في شمال حلب تتعاون مع القوّات الكردية التي يتهمها بالخيانة والعمالة للولايات المتّحدة.
ثمّة معطيات كثيرة تثبت أنّ السّيادة السّورية مهدورة، وأنّ الاحتلال الروسي يتجذّر يوماً بعد آخر على الجغرافية السّورية. ومن المُؤلم أنّ الخيارات المُتاحة أمام السّوريين لاسترداد السّيادة وإزالة الاحتلال مُرّة ومحدودة، فالمقاومة العسكرية للمحتل الرّوسي بطريقة الجيوش النّظامية محكوم عليها بالفشل في ظل غياب كافة أنواع الدّعم إقليميّاً ودوليّاً لهذا الخيار، كما لا تسمح حالة الإنهاك التي وصل إليها السّوريون - على الأقل حالياً - بإيجاد مقاومة ناجعة، فالسّوريون يحتاجون فترة يلتقطون فيها أنفاسهم لتنظيم الصّفوف، تمهيداً لحراك عسكري مُقاوم.
ومن الخيارات المُرَّة التّعاون مع الأمريكان للحيلولة دون التغول الروسي الذي يسعى جاهداً لتكريس حكم الاستبداد "الأسد"؛ باعتباره الضّامن لاحتلاله.
وفي هذا السياق، يبقى خيار الفيدرالية أو الأقاليم خياراً سياسياً متاحاً من جملة الخيارات المحدودة المتاحة للحفاظ على سوريا دولة واحدة، وإن كان خياراً لا يُعيد السّيادة الوطنية في المدى المنظور؛ لأنّ هذه الفيدراليات - شئنا أم أبينا - ستكون خاضعةً لنفوذ القوى الإقليميّة والدّولية، وربما تحتاج سوريا فترةً لاستعادة عافيتها لتتخلص من الاحتلالات التي ستبقى ما بقي الأسد، وهذا ما جعل الأسد يمتنع قبل الأوامر الرّوسيّة من إرسال اللجنة الدّستورية؛ لأن صياغة نظام فيدرالي أو "نظام الأقاليم" محكم، على غرار بعض الدّول الغربية (إسبانيا)، يُفضي حتماً إلى إزالة الاستبداد القائم على الحكم الشّمولي، وتستطيع المعارضة استثمار التّجاذبات الإقليميّة والدّوليّة للخروج بدستور يحقّق الحد الأدنى من مطالب السّوريين.
إذا ثبت أنه سيُسمح للروس بأن يتعاملوا مع حلول الجبهة السورية الجنوبية كما تعاملوا مع الحلول التي تمت في الغوطة الشرقية وبعض المناطق الأخرى وترحيل «مسلحي» هذه المنطقة وسكانها إلى إدلب، فإن هذا سيعني بالنتيجة أن هناك مؤامرة لتمرير ما وصفه بشار الأسد بـ«سوريا المفيدة»، وأن عمليات «التغيير الديموغرافي» المتواصلة و«على قدم وساق» ستأخذ أبعادها الحقيقية، وأن هذا البلد العربي سيصبح بلداً مذهبياً يغْلب عليه اللون الواحد، وكما تريد إيران أن يشمل هذه المنطقة، وتحقيق هدف إقامة «الهلال» المذهبي الذي تحدثت عنه، والذي - إذا أردنا قول الحقيقة - قد نجحت في تحقيق بعض أجزائه الرئيسية حتى الآن... حتى هذه اللحظة!
ولعل ما يشير إلى أن هناك ولو بعض الصحة في هذا الذي يقال أن «ورقة» نائب مساعد وزير الخارجية الأميركي ديفيد سترفيلد، التي أطلع عليها كل الأطراف المعنية، قد نصت على نقل مقاتلي المعارضة وأسرهم إلى إدلب في الشمال السوري بعد تسليم أسلحتهم الثقيلة، وكما حصل في ريف حمص ومناطق أخرى، وعودة القوات الحكومية إلى خطوط التماسّ مع الحدود الأردنية، وعودة مؤسسات دولة بشار الأسد إلى درعا وفتح معبر «نصيب» الحدودي، وكما كان عليه الوضع في السابق.
وهنا فإن الواضح أنَّ هذه العملية كلها قد جاءت كاستجابة لشروط الإسرائيليين الذين هددوا بحرب جديدة في هذه المنطقة إن لم يتم إخراج الإيرانيين من سوريا، وإنْ لم يتم إبعادهم ومعهم مقاتلو «حزب الله» كخطوة أولى عن «حدودها» وبمقدار سبعين كيلومتراً، فالروس كما هو معروف لا يمكنهم إلا الانسجام مع الرغبات والتوجهات الإسرائيلية وحتى على حساب علاقاتهم مع إيران وعلاقاتهم «المصلحية» مع نظام بشار الأسد.
وبالطبع فإن المعروف أن نظام بشار الأسد بلسان وزير خارجيته وليد المعلم، الذي قبل كل هذه التطورات كان قد غاب أو غُيِّب عن هذا المسرح لفترة طويلة، قد بادر ومن قبيل السعي لإظهار أنه في موقع قوة إلى القول إنه لن يوافق على هذه «الصفقة» خصوصاً إبعاد الإيرانيين عن الجبهة الجنوبية إلا بتفكيك قاعدة «التنف» الأميركية، وحيث كان رد قاعدة «حميميم» أن الاتفاق المبرم قد نص «بشكل واضح» على انسحاب القوات الإيرانية المساندة للقوات الحكومية في هذه المنطقة وانتقالها إلى العمق السوري بعيداً عن الحدود الجنوبية... والمتوقع تنفيذ هذا خلال أيام معدودات.
وحقيقةً، إن الأهم من هذا كله، على أهميته، هو أن الأردن لا يمكن أن يقبل بقوات سورية على حدوده الشمالية، ما لم ينته الوجود الإيراني في هذه المنطقة وبصورة نهائية وبضمانة روسيا والولايات المتحدة، وهو أيضاً أن المعارضة السورية لا يمكن أن تقبل بعملية «الترحيل» هذه إلى إدلب المقترحة آنفة الذكر، وأنها لن تقبل أيضاً بأن يتحول مقاتلوها إلى قوات محلية تابعة إلى الفرقة الرابعة التي يقودها ماهر الأسد والتي يديرها ضباط إيرانيون بألبسة عسكرية سورية.
إنه لا يمكن الاطمئنان إلى الروس إطلاقاً، فهم المسؤولون، عسكرياً وسياسياً وأمنياً، عن كل هذا الذي جرى في سوريا منذ سبتمبر (أيلول) عام 2015 حتى الآن، وأن كل هذه الانتصارات التي حققها نظام بشار الأسد هي انتصاراتهم، ويقيناً أنهم لولا «الإملاءات» الإسرائيلية لن يقدموا على هذه الخطوة الأخيرة وعلى الإطلاق، ولكن ومع ذلك فإنهم سيستغلون هذا «الاتفاق»، إنْ هو تم بالفعل، وسيواصلون عمليات التفريغ الطائفي السابقة وسينقلون المزيد من السوريين «السنة» إلى «مستودع» إدلب البشري هذا الذي قال رئيس النظام السوري إن وضعيته ستسهل عليه التعاطي معه وبالقوة العسكرية.
وهنا فإنه لا بد من تأكيد أن الإسرائيليين لا يزعجهم وجود قوات سورية نظامية على «حدودهم»، حتى في الجولان المحتل، لكن من دون أي وجود لا لإيران ولا لـ«حزب الله»، فهذه «القوات» كانت قد حالت دون وصول مقاتلي المقاومة الفلسطينية إلى فلسطين المحتلة إنْ سابقاً قبل احتلال عام 1967 وإنْ لاحقاً بعد هذا الاحتلال، وأيضاً إنْ حتى الآن، إذْ إن ما كان مسموحاً به عبر حدود عربية أخرى لم يكن مسموحاً به عبر حدود سوريا وهذه مسألة معروفة ولا تحتاج لا إلى أدلة ولا إلى براهين.
والمهم أن هذا الاتفاق الذي يجري الحديث عنه بالنسبة إلى الجبهة الجنوبية هو في حقيقة الأمر اتفاق مع الإسرائيليين وما عدا ذلك فإنه مجرد رتوش تجميلية، والدليل الذي يؤكد هذه الحقيقة هو أن هذا الاتفاق قد جرى التفاهم عليه مع كبار المسؤولين الروس خلال زيارة أفيغدور ليبرمان وزير الدفاع الإسرائيلي الأخيرة إلى روسيا التي قال فيها إنه قد تمت خلالها تفاهمات بشأن إبعاد القوات الإيرانية والميليشيات الشيعية عن الحدود الإسرائيلية.
ثم وبالعودة إلى موقف الأردن من وجود قوات سورية على حدوده الشمالية في مثل هذه الأوضاع التي تعيشها سوريا وتمر بها المنطقة كلها فإن ما تجدر الإشارة إليه هو أن الأردنيين أصحاب خبرة طويلة في هذا المجال وأنهم ما زالوا يضعون في حسبانهم أنه عندما اجتاحت الدبابات السورية حدودهم في عام 1970 كانت مموهة بـ«إشارات» جيش التحرير الفلسطيني، وأنه ليس مستبعداً فقط، بل مؤكد، أن أي قوات سورية سترابط على حدود منطقة درعا ستكون «مطعمة» بقوات وميليشيات إيرانية وبمجموعات من «حزب الله» ستكون كلها مموهة بألبسة وشعارات جيش النظام السوري.
ولذلك فإن الأردن لا يمكن أن يقبل بقوات سورية في المناطق المتاخمة لحدوده الشمالية من دون ضمانات أميركية وروسية ومن دون أن تكون هناك «مراقبة» فعلية على هذه القوات من هاتين الدولتين الضامنتين، وهذا بالإضافة إلى إدراكه أنه من دون حلٍّ سياسي لهذه الأزمة الطاحنة فعلاً وعلى أساس «جنيف1» والقرار الدولي رقم 2254، فإن الأوضاع في هذا البلد ستبقى بمثابة قنابل موقوتة قد تنفجر مجدداً وفي أي لحظة وبخاصة إنْ اتخذت عمليات التفريغ الديموغرافي صورتها النهائية الرسمية.
وعليه فإنه لا بد من تأكيد أن ما تحدث عنه سترفيلد وما يروّج له الروس، بفرح غامر، هو مجرد تهدئة للمخاوف الإسرائيلية، وأن كل ما تبقى هو مجرد «رتوش» آنيّة، وأن تضارب المصالح بين الأميركيين والروس لا يزال في بداياته، وأنه لا تزال بين بدايات الواقع الحالي ونهاياته مسافات طويلة.
ويبقى أنه لا يمكن تصديق ما يروجه الإيرانيون من أن هناك استهدافاً لهم ولوجودهم في سوريا من قبل بشار الأسد والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، فهذا الكلام مقصود به تمرير هذه «الصفقة» مع الإبقاء على الوجود الإيراني على ما هو عليه، والواضح أن ما نشرته «سازندكي» الإيرانية المقربة من الرئيس حسن روحاني هو مجرد مناورة من غير المستبعد أن يكون الروس متورطين فيها، فهم دأبوا على مثل هذه الألاعيب والمناورات منذ بدايات انفجار الأزمة السورية في عام 2011 حتى الآن... وهم لا يمكن أن يتخلوا عن علاقاتهم مع طهران وهم في ذروة صراعهم مع الولايات المتحدة.
ثم في النهاية، ما يجعل هذا الاحتمال مستبعداً، إنْ الآن وإنْ على المدى الأبعد، هو أن بشار الأسد لا يمكن أن يغامر بالإقدام على مثل هذه الخطوة وهو يدرك أنه لولا وقوف إيران إلى جانبه وبكل ثقلها، عسكرياً وسياسياً ومالياً وبكل شيء، فلكان الآن... إما في إحدى زنازين أحد السجون السورية ينتظر محاكمته وإما في أحد القبور الدارسة... أو لاجئاً سياسياً في إحدى الدول التي من الممكن أن تقبل به بكل ما ارتكبه من جرائم ومذابح ضد شعب من المفترض أنه شعبه وضد دول مجاورة من بينها لبنان والأردن والعراق... وأيضاً تركيا!
لطالما سعى شباب الرقّة الحُرّ بعد تقهقر النظام من مدينتهم لجعلها أيقونة الثورة، ونموذجاً لسوريا المستقبل، عملوا بكلّ جهدهم كي يسدّوا الفراغ الحاصل بانسحاب مؤسسات الدولة السوريّة، فعملوا في مجالات الإعلام، والخدمات الطبيّة، والإغاثيّة، واصلين اللّيل بالنهار كي تكون مدينتهم عاصمة التحرير عن جدارة، ونواة لسوريا الجديدة، لكن سرعان ما تلاشى وتدهور كلّ ذلك الأمل مع ظهور تنظيم “داعش”، الذي عمد إلى سرقة حقيقة الحلم، فراح يلاحق الناشطين المدنيين السلميين، والإعلاميين، يتخطّفهم غدراً، ويغتال الأمل فيهم، ممّا دفعهم لمغادرة الرقّة، بعد أن وقع كثير من شبابها في قبضة التنظيم، ولاقوا منهم أشدّ أنواع العذاب، وإخفائهم في غيابات السجون.
فمنذ الأيّام الأولى لحكم التنظيم أصبح يلصق التهم بحقّ شباب الرقّة، إمّا من أجل أن يزجّه في السجون والمعتقلات، كون أنّ القسم الأكبر منهم كان رافضاً للتنظيم وسياسته التعسفيّة بحقّ أهالي الرقّة، أو من أجل أن يتمّ تنسيبهم في صفوفه، وهدر دمائهم على جبهاته المتخبّطة، ناهيك عن تضييق الخناق عليهم، إذ فرض التنظيم الكثير من القيود التي تخصّ تحرّكات الشباب من خلال إصدار تعليمات حول اللّباس، كرفع إزار البنطال، وعدم إرتداء أنواع محدّدة من القماش، وحلق الشوارب، وإطلاق اللِّحىً، والتدخين، وتحميل الأغانيّ والصور في الهواتف المحمولة، حيث أنّ كلّ واحدة من هذه المخالفات تُعرِّض صاحبها للسجن مع دورة شرعيّة تتراوح مُدَّتها بين 30-10 يوماً، ودفع غرامة ماليّة.
وليس فقط الوعيد كان ضمن أساليب التنظيم، بل الوعد أيضاً، فقد كان “داعش” يستغلّ الفقر والعوز الذي لحق بأهالي الرقّة عقب سيطرته عليها، إذ عمل على إغراء الشباب بدفع الرواتب الشهريّة، وإغراقهم بالمعونات في حال إنضمّوا وبايعوا التنظيم، وتزويجهم من الفتيات اللّواتي يودّون.
ولم يكن الشباب الرقّيّ ضحيّة التنظيم فقط، بل وقعوا فريسةً لقوّات الحشد الغازية المتمثّلة بتنظيم pkk و YPG، الذين يرمون إلى سحب الشباب نحو معسكراتهم، وكانت البداية في مناطق الريف الشماليّ، وذلك أثناء زحفها باتجاه مدينة الرقّة منذ قرابة العامّ، من خلال اقتحام منازلهم، أو توقيفهم على الحواجز، ولا تزال هذه السياسة مُتَّبعة عقب سيطرة قوّات سلطة الأمر الواقع اليوم على الرقّة، وذلك من خلال إصدار أوامر بتجنيد فئة عمريّة محدّدة، ممّن بقي من الشباب المتواجدين على أرض الرقّة، وهذا ما يستثير غضب الشارع الرقّيّ بشكلٍ يوميّ نتيجة القرارات التعسفيّة بحقّ الشباب، ونذكر في السياق أنّه منذ عدّة أيام قامت قوّات “قسد” بتوقيف مجموعة من الشبان من أبناء الرقّة العائدين من تركيا لقضاء إجازةً العيد، وتمزيق ثبوتيّاتهم الحاصلين عليها من الدولة التركيّة “هويّة الحماية المؤقّتة”، ومن ثَمّ سوقهم إلى معسكرات التجنيد الإجباريّ.
كلّ تلك القرارات ماهي إلّا سعي لإفراغ الرقّة من شبابها، وتغييرها ديمغرافيّاً، من أجل قيام دولة انفصاليّة.
كلّ تلك الأساليب لم تكن حتّى الفتيات الشابّات بمنأى عنها، تدفع بشباب الرقّة من ذكور وإناث بشكلً يوميّ إلى مغادرتها، إمّا إلى دول الجوار، أو ليشقّوا طريقهم إلى أوروبا في عباب البحر الذي كان له نصيبٌ منهم.
فالرقّة المدينة الفتيّة ترجح كفّة شيبها الذين ينظرون بعينٍ مودِّعةٍ للحياة ألا ليت الشباب يعود يوماً.
خلال لقائهما مؤخراً في واشنطن توصل وزيرا الخارجية الأمريكي مايك بومبيو والتركي مولود جاويش أوغلو إلى اتفاق مشترك حول مدينة منبج شمال سوريا، اعتبرا أنه «خريطة طريق» تشمل إرساء الأمن والاستقرار في المدينة الخاضعة لسيطرة «وحدات حماية الشعب» الكردية.
وكان جاويش أوغلو قد استبق اللقاء بالإعلان عن أن تفاهم أنقرة مع واشنطن حول هذا الملف سوف يشكل «نقطة تحول في العلاقة بين البلدين». ويبدو أن هذا التحول قد بدأ بالفعل، نظراً إلى اقتران الاتفاق بتصريح ثان من وزير الخارجية التركي، أفاد بأن الاتفاق على تسلم مقاتلات أمريكية من طراز «إف ـ 35» لا يزال قائماً دون أي تغيير، وأضاف أن بلاده ترفض «لغة التهديد في الكونغرس بصدد تسليم الصفقة».
وتنص خريطة الطريق حول منبج على العهدة إلى مفارز من الجيش التركي وعناصر مشتركة من الاستخبارات التركية والأمريكية بمراقبة الأمن في المدينة بعد انسحاب الوحدات الكردية، على أن تعقب ذلك مرحلة تالية تتضمن اعتماد آلية مراقبة وتشكيل إدارة محلية خلال 60 يوماً، وتأسيس مجلس مدني وآخر عسكري لضمان الأمن والاستقرار لسكان المدينة من كل الأعراق.
ومن الواضح أن تركيا تعتبر هذا الاتفاق انتصاراً استراتيجياً لها، يعزز وجودها العسكري في عمق الأراضي الحدودية مع سوريا بصفة إجمالية، وعلى امتداد المزيد من المناطق ذات الأغلبية الكردية بصفة محددة. كما أنه يستكمل العملية العسكرية التركية الناجحة في إخراج القوى العسكرية الكردية من عفرين، ويتلاقى مع خريطة ميدانية أخرى سبق أن رسمتها تركيا في عملية «درع الفرات». وهو أخيراً اتفاق يمنح أنقرة ورقة قوة إضافية حين يأزف زمن التفاوض على اقتسام الكعكة بين مختلف القوى الدولية المتطاحنة في سوريا. وليس غريباً بالتالي أن يتحمس جاويش أوغلو للاتفاق فيلوح بأنه يمكن أن يطبق في مناطق أخرى من سوريا، أي تلك التي تسيطر عليها «قوات سوريا الديمقراطية».
من الجانب الأمريكي يمكن أن يكون اتفاق منبج مرحلة أولى على طريق تنفيذ قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بالانسحاب التدريجي من سوريا، والذي سبق أن أعلن عنه في آواخر آذار/ مارس الماضي، ملمحاً إلى أن الولايات المتحدة سوف «تعطي الفرصة للدول الأخرى للاهتمام بالأمر».
وبالنظر إلى تركيز البيان المشترك الأمريكي ـ التركي حول اتفاق منبج على مبدأ أنه أبرم بين «عضوين في حلف شمال الأطلسي ما زالا ملتزمين بمعالجة هواجسهما المشتركة بروحية الشراكة بين الحلفاء»، فإن واشنطن قد تكون سعت أيضاً إلى أغراض تكتيكية من وراء هذا التعاطي الإيجابي مع المصالح التركية.
بذلك فإن القوى الكردية في سوريا قد تكون تلقت ضربة غدر جديدة من الحليف الأمريكي تضاف إلى سابقة عفرين، وقبلها تل رفعت، في انتظار مواقع خذلان أخرى محتملة يحتاج الأكراد إلى تأمل دروسها بعمق. وأما النظام السوري من جانبه فإنه آخر من يُنتظر رأيه في شأن اتفاقات القوى الأجنبية على إدارة هذه المنطقة أو تلك في البلد، وانتهاك السيادة الوطنية هنا أو هناك.
يبدو أن الاتحاد الأوروبي (ولا سيما ألمانيا وفرنسا كما بريطانيا) صامد حتى الآن أمام الضغوط الأمريكية في الموقف من قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب؛ بالانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران، وما يترتب على ذلك من عقوبات، بل المزيد من العقوبات.
إذا كان استمرار الاتحاد الأوروبي في معارضته لقرار ترامب في الموضوع النووي الإيراني، مشفوعاً بعبارة "حتى الآن"، فذلك لسببين: الأول أن أغلب المحللين توقعوا له الرضوخ السريع والمبكر، الأمر الذي استحق معه أن يُشفع بـ"حتى الآن". أما الثاني، فكون احتمال التراجع والعودة إلى الخضوع للضغط الأمريكي ما زال قائماً، وسيستمر إلى بعد "حتى الآن".
الذين غلّبوا احتمال خضوع الموقف الأوروبي لموقف ترامب في الموضوع النووي الإيراني أرجعوه إلى الأسباب التالية أو بعضها: أولا: الروابط الأمريكية- الأوروبية ما زالت قائمة في حلف الأطلسي (الناتو). ثانيا: أوروبا توافق أمريكا في الموقف من إيران في قضيتي الصواريخ الإيرانية، كما ضد سياسات إيران في المنطقة، ولكن مع الاختلاف فقط حول الانسحاب من الاتفاق النووي الذي هو نتاج خمسة زائد واحد، أي أن أوروبا شريكة في صنعه، لأن الاتفاق أصبح وثيقة دولية. ثالثا: المصالح الاقتصادية العائدة إلى أوروبا من خلال الرضوخ لسياسة ترامب أكبر بكثير من تلك العائدة من معارضته (أعتبر هذا البعد هو الأهم).
ولكن بالرغم من هذه الأسباب الثلاثة، ما زالت أوروبا متمسكة بعدم الانسحاب من الاتفاق النووي، بل تصرح برفض الموقف الأمريكي ونقده. فكيف يفسر هذا الموقف الذي يناقض الأسباب الثلاثة القوية جداً؟ الجواب يكمن هنا في المخاطر التي تمس المصالح العليا الأوروبية من الرضوخ لسياسة ترامب، وهو رضوخ عليه أن يمتد إلى الموقف من المناخ، ومن القدس، ومن مختلف سياسات ترامب، بما يعني إنهاء أية استقلالية لأوروبا، ومن ثم خروجها من ساحة السياسة الدولية؛ لأن الرئيس الأمريكي ترامب لا يعرف كيف يتحالف مع دول كبرى تحالفاً ندياً أو شبه ندي، الأمر الذي سيفرض على أوروبا أيضاً الرضوخ لسياسة التعرفة الجمركية التي فرضها على استيراد الصلب والألمونيوم ومعادن أخرى.
ومن هنا لا يكون السبب الذي يجب أن يحدد الموقف الأوروبي نابعاً من مجرد الحسابات الاقتصادية للشركات الأوروبية، والتي ترتبط بأمريكا أكثر بكثير من ارتباطها بإيران، والمحافظة على الاتفاق في مواجهة العقوبات. ولا يجب أن يربط بسبب التحالف في الناتو، وقد وجه له ترامب ضربة بمطالبته أوروبا بزيادة الشراكة المالية فيه، كما يجب أن لا يربط بالتوافق مع أمريكا على معارضة سياسات إيران الصاروخية أو الخارجية. وبهذا يكون على أوروبا أن تأخذ من خلال الاختلاف مع ترامب حول الموقف من الاتفاق النووي الإيراني؛ موقفاً له علاقة بالاستراتيجية، وليس بالاقتصاد البحت؛ كما ركز الكثيرون حين توقعوا رضوخاً سريعاً من قِبَل أوروبا لأمريكا (الفارق بين مئتي مليار وعشرين مليار في مصلحة العلاقة بأمريكا).
لا شك في أن ثمة سبباً استراتيجياً مقابلاً من حيث أهميته، يضغط على أوروبا في المقابل، للبحث عن تفاهم مع ترامب إلى حد الرضوخ بدلاً من معارضته، ألا وهو الخوف من روسيا، ولا سيما في المرحلة الراهنة، بعد أن أعلن بوتين في خطابه الأخير أمام مجلس الدوما (البرلمان الروسي) عن امتلاك روسيا أسلحة صاروخية لا مثيل لها في العالم. الأمر الذي يجعل يد روسيا هي العليا أوروبياً من دون تحالف أوروبي قوي مع أمريكا. وقد برزت بوادر هذا التوجه حين أسرعت أوروبا في سحب دبلوماسيين روس، كما بادرت بريطانيا وأمريكا بسبب قضية الجاسوس الروسي المزدوج سيرغي سكريبال. وتعززت هذه البوادر في مشاركة بريطانيا وفرنسا لأمريكا في العدوان على سوريا. وكانت روسيا هي الهدف الأمريكي الأول من ورائه.
ولكن دونالد ترامب لم يلتقط هاتين البادرتين بعد برود أمريكي- أوروبي بسبب موقفه من قضية المناخ، ومن إعادة التعرفة الجمركية، كما الموقف من قراره المتفرد بموضوع القدس ونقل السفارة إليها، وإنما استمر الإصرار على تبني ما نشأ من تناقضات مع أوروبا بسبب تلك السياسات، ولم يسع لإعادة ترميم التحالف الغربي، بل ضرب بعرض الحائط كل المناشدات الأوروبية الأخيرة، ولا سيما البريطانية والإلمانية والفرنسية بعدم الانسحاب من الاتفاق النووي، ومن ثم آثر أن يفرض على أوروبا سياسة الرضوخ، وبصورة فظة، تجبر حتى المتهالك للتحالف مع أمريكا إلى حد التبعية، بمعارضته في الموقف من الاتفاق النووي الإيراني. فالرجل لا يريد أن يأخذ ويعطي مع أوروبا، الأمر الذي فرض على أوروبا أن تعارضه في الموضوع النووي، ولو حتى الآن، ويفرض عليها أن تواصل هذه المعارضة بعد "حتى الآن"، ولو بشق النفس؛ لأن السبب الاستراتيجي الآخر الذي هو الخوف من روسيا سيظل يشدها شداً إلى التمسك بالتحالف مع أمريكا والسعي له.
ولهذا يجب أن يُتوقع استمرار الموقف الأوروبي من النووي الإيراني لوجاهة السبب الاستراتيجي الذي دفع إليه، كما لا بد من أن يظل احتمال التراجع عنه قائماً لوجاهة السبب الاستراتيجي الآخر (الخوف من روسيا).
لإيران أذرعها في المنطقة. وهي أذرع خشنة زادها إهمال النظام السياسي العربي وكسله في العقود الأخيرة توحشا وطيشا. فلولا خطأ قاتل في تقديرات ذلك النظام الاستراتيجية، لما استطاعت إيران أن تبني منظومتها العقائدية التي امتدت شبكة جواسيسها المأجورين والمتطوعين لتغطي أربع دول عربية هي العراق ولبنان وسوريا واليمن.
لقد استجاب العرب خطأ لما كان الخميني يرغب فيه على مستوى نوع العلاقة التي تربط المحيط العربي بإيران، بالرغم من أن العراق في السنة الأولى من قيام نظام الخميني كان قد حذر أشقاءه من مغبّة الانزلاق إلى فخ الكذبة الطائفية، حين أضفى على حربه ضد إيران طابع الصراع التاريخي القومي.
ما عابه الكثيرون على العراق في تعامله مع النزعة العدوانية التوسعية الفارسية كان في حقيقته هو جوهر القضية التي صار على العرب أن يعترفوا بواقعيتها بعد ثلاثين سنة من نهاية تلك الحرب.
كان الخميني يفكر بدول عربية سنية تحاربها إيران بعرب شيعة.
ذلك هو الأساس التي اعتمدت عليه النظرية الخمينية. ولو أن العرب أنصتوا إلى النصيحة العراقية، لما وجدت تلك المعادلة طريقها إلى الظهور ولكان الصراع مع إيران قد اتخذ وجهته الحقيقية باعتباره صراعا قوميا.
كان خطأ النظام السياسي العربي يكمن في اللجوء إلى التخندق الطائفي وهو ما تمناه الخميني. ذلك لأن ذلك التخندق يسّر لإيران سبل اختراق المجتمعات العربية التي صارت تعيش حالة من التصدع الداخلي، فُرضت عليها بالقوة، من غير أن تمثل تلك الحالة خيارا فرضته سبل العيش المتاح.
لقد وهب العرب بلجوئهم إلى التعبئة الخطأ الخميني، ونظامه، فرصة أن يستولي على مواطنين عرب اعتبرهم جزءا من رعيته المطيعة، وهو تعبير صادم، غير أن نظرة سريعة إلى واقع الميليشيات التابعة للنظام الإيراني يمكنها أن تؤكد أن أفراد تلك الميليشيات هم خدم أذلاء للسياسة الإيرانية. وهم من وجهة نظر قانونية خونة لأوطانهم وشعوبهم.
وبعيدا عن الرؤية القانونية فإن هناك من تورط في العمل من أجل خدمة المشروع القومي الإيراني بسبب عمليات التضليل والخداع التي مارسها النظام الإيراني في ظل إجراءات عربية، تفتقر إلى الكثير من عناصر الحنكة السياسية. وهو ما يسّر للإيرانيين الاستمرار في عمليات التضليل، حيث صار الكثيرون من ضحايا تلك العمليات مقتنعين بأن الصراع القائم الذي هم مادته الرخيصة هو صراع ديني.
لقد نجحت إيران بفضل سوء الفهم السياسي العربي في تمرير مشروعها القومي تحت غطاء ديني محكم. وحين وصلت إلى مرحلة الثقة من أن نفوذها في المنطقة صار أمرا مفروغا منه، وهو ما زينه لها الواقع، صارت تعلن صراحة عن قرب ولادة إمبراطوريتها الكبرى التي ستكون بغداد عاصمتها.
حين صحا العرب على مظاهر الغطرسة الإيرانية كان الوقت قد تأخر كثيرا. فوكلاء إيران صاروا يحاربون بدلا منها.
عام 2006 تم تدمير جزء عظيم من البنية التحتية اللبنانية من قبل إسرائيل في حرب شنها حزب الله نيابة عن إيران.
غير مرة تتعرض غزة الفلسطينية لحرب إسرائيلية تحيلها إلى ركام كانت حركة حماس الإسلامية هي السبب في نشوبها بناء على تعليمات إيرانية.
وهاهم الحوثيون في اليمن وقد انقلبوا على الشرعية يستعينون بصواريخ إيرانية من أجل مواصلة حربهم.
وإذا ما كانت إيران قد ضبطت المعادلة في أوقات سابقة على أساس حاجة وكلائها إليها، فإنها اليوم وهي تستعد لمواجهة أوقات عصيبة بسبب العقوبات الأميركية في أمس الحاجة إلى وكلائها.
هنا بالضبط يكمن العمل العربي المطلوب من أجل قطع الصلة بين إيران ووكلائها في المنطقة. وكما أرى فإن العقوبات الرمزية التي استهدفت جزءا من منظومة تمويل حزب الله تُعدُّ مؤشرا جيدا للبدء في ذلك العمل. ما يجب الانتهاء منه يتعلق بالاعتراف بأن زمن العقائد قد انتهى.
فإيران لا تحارب دفاعا عن عقيدة كما ضللت وكلاءها، بل هي تحارب تعبيرا عن نزعتها القومية التوسعية. لذلك فإن وكلاءها ينبغي ألا يتم التعامل معهم باعتبارهم ممثلين للشيعة العرب. علينا هنا أن نعود إلى القاعدة القانونية التي تضع وكلاء إيران في مكانهم الحقيقي باعتبارهم خونة.
نظام خامنئي ونظام الأسد يسعيان إلى تحقيق هدفين معاً؛ بقاء نظام دمشق كما هو، والإبقاء على وجود إيران العسكري والاستخباراتي وميليشياتها في سوريا، والتفاوض على ما عداه. في حين أن الطرح الأميركي الأخير هو العكس؛ بقاء نظام الأسد مشروط بإنهاء الوجود الإيراني في سوريا وما تبقى قابل للتفاوض.
لكن الرحلات والتصريحات تقلص التوقعات إلى أن «تتنازل» إيران وميليشياتها بالامتناع عن الدخول في معارك درعا، حيث المثلث السوري الأردني الإسرائيلي، مقابل أن تخرج الوحدات الكردية «قسد» الموالية لأميركا من منبج، وهو مطلب دمشق وتركيا. وسبق لوزير الخارجية السوري، وليد المعلم، أن قال إن الخروج الأميركي من منبج هو الأساس قبل الالتزام بمنع إيران قواتها من الوجود في درعا. ولا يستبعد لاحقاً أن تفاوض دمشق، وهي لسان حال إيران، بأنها سترضى بالوجود الأميركي شرق نهر الفرات مقابل بقاء قوات الجنرال الإيراني قاسم سليماني خارج درعا، وعلى بعد عشرين كيلومتراً من «حدود» إسرائيل. أي أن سوريا بهذا الأسلوب «تشرعن» للوجود الإيراني برضا دولي، ولا تكتفي باعتباره قراراً سيادياً لها. فتصبح القوات الإيرانية المحتلة اليوم مثل القوات السورية في لبنان في السبعينات؛ احتلال بشرعية من الجامعة العربية وموافقة الحكومة اللبنانية!
لهذا التخوف هو أن تخرج المفاوضات عن طروحاتها الأصلية، وهي أن على نظام الأسد أن يختار بين وجوده وبين وجود الإيرانيين، لا يمكن الجمع بين الاثنين.
وقد يسأل البعض من له الحق أن يفرض مثل هذا الشرط، ولماذا؟
وضع النظام السوري لا يسمح له أن يملي ما يريد، رغم انتصاراته الأخيرة التي جاءت على ظهر قوات حلفائه، ثم انقلبت نتيجة الهجمات الإسرائيلية إلى خسائر كبيرة. ورفضه يعني دولياً عدم القبول به، الذي يعيده لمربع الخطر من جديد. والأميركيون يريدون منحه فرصة البقاء لكن مقابل أن ينطق رسمياً بأنه يطلب من الإيرانيين الخروج. ولا ننسى أنه واحد من المطالب الأميركية الاثني عشر، أن على طهران أن تنسحب عسكرياً من سوريا. إنما خروجهم لن يكون سهلاً لأنه سينهي مشروعهم الطويل، أحد أبرز مشاريع سياستهم الخارجية، بفرض هيمنتهم على سوريا وتعظيم نفوذهم بتهديد المنطقة من هناك. اشتراط إخراجهم، أيضاً، فيه امتحان لسيادة نظام دمشق إن كان حقاً قادراً على أن يتخذ قراراته من دون الخضوع لإملاءات طهران. ونظام الأسد بين المطرقة والسندان؛ فمن ناحية خروج الإيرانيين و«حزب الله» اللبناني وبقية الميليشيات سيضعف قوته وقد ينهار من دونهم، ومن ناحية أخرى بقاؤهم يعني أنه سيُصبِح دمية في يدهم. وهو يدرك جيداً كيف ستنتهي إليه الأوضاع لاحقاً بوجودهم. سيحوِّل الإيرانيون سوريا كما حوَّل الأسد الأب، ثم الابن، لبنان، مسرحاً للصراع مع إسرائيل. ومثل لبنان، ستتحول سوريا إلى بلد بلا سلطة إلا من خلال طهران التي ستستخدمه في معاركها غير المباشرة المقبلة ضد خصومها، الأميركيين والإسرائيليين وربما الأتراك وغيرهم.
وبغض النظر عن مآلات النظامين، الإيراني والسوري، فإن السماح لإيران وميليشياتها بالوجود عسكرياً في سوريا، ولو في مساحة صغيرة، سيتسبب في التوتر والحروب المستقبلية. والحلول الجزئية مثل السماح لإيران بالوجود عسكرياً في مناطق معينة غالباً تصبح نهائية مع تقادم الوقت.
مع صعود إيران إلى مستوى الدولة الإقليمية المؤثرة في محيطها الجيوسياسي، تبدو السياسة الإيرانية أمام مجموعة من التحديات المتداخلة داخلياً وخارجياً، ومع هذه التحديات المرشحة للمزيد من التعقيد والتصعيد في المرحلة المقبلة، يظهر أمام طهران خياران لا ثالث لهما. الأول: السير في النهج التصعيدي مع الإدارة الأميركية على خلفية ملفها النووي، ومع إسرائيل على معركة التواجد على الأراضي السورية، ومع السعودية على خلفية الحرب في اليمن، ولعل مسارات هذه المعارك الثلاث وإن كانت منفصلة، إلا أنها بالنسبة إلى طهران معركة واحدة، وتأخذ طابع التصعيد، فيما التصعيد من قبل الأطراف الثلاثة السابقة، يخضع لأولويات كل طرف وظروفه الخاصة. الثاني: أن تنجح إيران في تحقيق ما يشبه تسوية أو تفاهم مع الإدارة الأميركية بشان القضايا الخلافية الكثيرة، وفي المقدمة منها الاتفاق النووي، لكن المشكلة هنا: كيف؟ وفي أي ظروف يمكن إنتاج مثل هذه التفاهمات؟ وبأي شروط ؟ من دون شك، الإجابة عن هذه الأسئلة غير متوافرة في يومنا هذا، خاصة وأن كل طرف يعتقد أن لديه من الأوراق الكافية للتوصل إلى تفاهمات بشروطه، أو الاستمرار في الصراع تطلعاً لظروف مغايرة لصالحه.
في الواقع، وانطلاقاً من هذين الخيارين، فإن التصعيد الكلامي على وقع الانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي، وقصف إسرائيل مواقع إيرانية في سورية، وغيرها من الأحداث المهمة، يبقي التلويح الأميركي بالعصا الغليظة مقابل التهديدات الإيرانية التي لا تتوقف سيد الموقف، وعليه فإن جوالات التصعيد السياسي والعسكري تبقى قائمة، وان كانت بقواعد مضبوطة. ولعل من يقرأ التاريخ القريب للسياسة الإيرانية، وتحديداً منذ الغزو الأميركي لأفغانستان ومن ثم العراق، لا بد أن يرجح فرضية الخيار الثاني، وذلك انطلاقاً مما أبدته هذه السياسة من براغماتية كبيرة في الملفات الخلافية وفي اللحظات الحرجة، ولعل تحرك الدبلوماسية الإيرانية على جبهات أوروبا وروســيا والصين لبحث جوانب في الاتفاق النووي بعد أن كانت تعلن رفضها ذلك، يؤكد حقيقة هذه القاعدة البراغماتية في السياسة الإيرانية، لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا، هل هذه القاعدة ما زالت صالحة في عهد ترامب؟ ثمة من يجزم بأن لا ترامب ولا إســـرائيل بصدد شن الحرب ضد إيران، وان استراتيجية ترامب تدور حول البحث عن سيناريو سوفياتي يؤدي إلى انهيار إيران من الداخل كما حصل للاتحاد السوفياتي السابق، وان سلاح ترامب في ذلك هو المزيد من العقوبات الاقتصادية والإجراءات الأمنية والسياسية المتداخلة، والضغط على الحلفاء، ولاسيما الأوروبيين، للقيام بدور مؤثر في هذا المجال، على أن يهيئ كل ما سبق السيناريو الذي يفكر به ترامب، فالأخير يدرك جـــيداً أهمية العامل الاقتصادي، وتحديداً دور النفط الذي يشـــكل نحو ثمانين بالمئة من موارد إيران، وأن سياسة العقوبات والحصار ستزيد من الأعباء الداخلية الإيرانية وفي كل الاتجاهات، على شكل انهيار لقيمة العملة الإيرانية وتهريبها الرأسمال إلى الخارج، وتفجر مشكلات الداخل على أمل انتفاضات واحتــجاجات معيشية واجتـــــماعية وسياسية وعرقية وطائفية... تؤدي إلى استنزاف بنية النظام وصولاً إلى انهياره من دون حروب، لكن الرؤية الأميركية هذه قد لا تكون دقيقة، فثمة من يرى أن النظام الإيراني الذي له تركيبة خاصة قد يكون هو المستفيد الأكبر من مثل هذه السياسة، إذ إن مثل هذا الأسلوب قد يكون مدخلاً لتوجيه أنظار الداخل إلى الخارج وشرعنة أي ممارسة قمعية من النظام ضد الاحتجاجات الداخلية على اعتبار أنه يتعرض لمخطط لإسقاطه.
وعلى مستوى الخارج، قد تجد خيارات كثيرة، ولاسيما لجهة التوجه شرقاً وتحـــديداً نحو الصين واليابان عبر زيادة كميات تصدير النفط لهما، كما أن العاملين التركي والروسي يبقيان مهمين لجهة الحد من تأثير العقوبات الأميركية، لكن من الواضح أن كل ما سبق لن يثني ترامب عن مواصلة البحث عن سيناريو سوفياتي يناسب إيران.
الدول التي لجأت إلى مسارات العدالة الانتقالية، لتسوية ذيول أزمات فيها، فعلت ذلك بعيد انتهاء هذه الأزمات، ووقف القتل أو القتال، أو حصول تغير في نظام الحكم. أما في الحالة السورية، فقد بدأت مجموعات حقوقية التحضير للعدالة الانتقالية، منذ عام 2013، والعمل جديا، لرسم ملامح العدالة الانتقالية ومساراتها. ما قد يعود إلى الشعور بأن سقوط النظام بات قاب قوسين أو أدنى، ما دفع منظمات سورية وناشطين إلى التركيز على هذا المسار. وربما وراء هذا الشروع المبكر رغبة السوريين في أن لا يقع بلدهم "الناجي من ويلات حكم العصابات" في ويلات الانتقام، عبر عصابات من شكل آخر.
لاقى هذا التوجه، في البدء، مقاومة كبيرة عند قطاعاتٍ من المتضرّرين من الممارسات التعسفية والإجرامية لنظام الأسدين، الأب والابن، لا سيما أن تسويق مفاهيم العدالة الانتقالية، في البدء، كان يوحي كأنها دعوة إلى الصفح عن جرائم النظام بحق ملايين السوريين، أو الارتهان لآليات إجرائية، يمكن أن تفضي إلى أثر رمزي لما يمكن أن يسمى إنصاف الضحية من الجاني.
اليوم، وبعد سبع سنوات، تمت في أثنائها عشرات أو مئات الملتقيات والمؤتمرات، ما نزال نتحدث عن العدالة الانتقالية، بالآليات نفسها التي بدأناها عام 2013، حين كانت الثورة السورية في أوج عنفوانها.
والمعلوم أن مسارات العدالة الانتقالية ترتكز إلى خمس نقاط، والناظر بتبسيط مفرط إليها، وإمكانية إنجاحها، تصيبه خيبة أمل كبيرة.
إنشاء لجان تقصّي الحقائق وتحديد المسؤولين، وهذا جار منذ بدء الثورة تقريبا. تنظيم محاكم مدنية وجنائية، للنظر في هذه الانتهاكات. وهذا أقرب إلى المستحيل، خصوصا مع أطروحات التسويات المحتملة، والتي ستفرض على السوريين. جبر الضرر وتعويض المتضررين. وهذا من أشباه المستحيلات، إذ يتطلب موارد هائلة، من الصعب تخيّل توفرها أصلا. إصلاح المؤسسات الرسمية. وهذا سيكون هدفا صعبا في ظل التسويات التي ستجعل من النظام ومؤسساته الوالغة في الفساد شريكا مفروضا على السوريين، لا سيما أن تجارب الربيع العربي الأخرى أثبتت مدى مقاومة الدولة العميقة أي إصلاح جوهري. تخليد التغيير في الذاكرة الجمعية. وربما سيكون هذا ممكنا إلى حد ما، مع وجود صعوباتٍ كبيرةٍ ستعترضه، إذ سيطالب الطرف الآخر باعتبار ضحاياه موضع التقدير نفسه، الأمر الذي سيميع المضمون، ويساوي بين الضحية والجلاد.
طبعا يجب استمرار الاهتمام بالمنجز المهم لهذا المسار، وهو "شيوع التوثيق" بشكليه، التقني القانوني والصحافي، الأمر الذي سيجعل من الصعوبة بمكان التملص من هذا الكم الهائل من الانتهاكات.
السؤال الملحّ: هل ساهم هذا في تمادي المجرمين في سورية، وطمأنتهم بنجاتهم من أي مساءلةٍ مستقبليةٍ، خصوصا أن قيادات الدرجة الأولى، أي الرئيس وقيادة أركانه، يتحرّكون بحذر شديد إزاء ما يمكن أن يشكل إدانة فردية لأحدهم، وهذا ما عهدناه أيام الأسد الأب، حيث كان يعهد بكل أوامره شفهيا، من دون أي توثيق لها، وأخطرها التوقيع على أوامر الإعدام الجماعي الذي كان يتكرر في ساحات تدمر عدة مرات كل شهر، فقد كان التوقيع على هذه الأحكام موكلا به إلى وزير الدفاع، مصطفى طلاس، وهكذا كانت الانتهاكات تتم وما زالت.
أمر آخر، باستعراض سيرورة الانتهاكات لدى نظام الأسدين، يتبيّن أنها في تصعيد مستمر. وهذا ليس عبثا أو سوء تقدير، إنما لإدراكهم أنه كلما اتسعت دائرة الإجرام والانتهاكات بات من المحال مقاربة تحقيق العدالة بشكلها الصوري، وسيضطر الضحايا أو الناجون للقبول بعدالة رمزية.
السؤال الذي يبرز أيضا، من أي مرحلةٍ من تاريخ الإجرام المتصل الذي ارتكبه نظام الأسدين، سيتم اعتماد الملفات والقضايا؟ هل نذهب إلى أحداث الثمانينيات من نهاية القرن المنصرم، والتي راح ضحيتها الآلاف، في مجازر كبرى، مثل مجزرتي حماة وسجن تدمر، وعشرات المجازر المتسلسلة، مع الافتقار الكبير للمستندات اللازمة، والتوثيق المستحيل في تلك الآونة؟ أم سنقدم الجرائم المستمرة منذ بدايات الثورة في عام 2011، بتصعيد كبير، والتي باتت أطراف دولية (إيران وروسيا)، وإقليمية (مليشيات عراقية ولبنانية وأفغانية شيعية) شريكة فيها.
لا شيء في الأفق يمكن أن يبشر بخير أو ببريق أمل، سوى ما ينبعث من صدور العاملين الصابرين في هذا الحقل، والمصرّين على السعي إلى العدالة إصرار القديسين، في مخاضات بائسة، تبتلع كل ما هو حق وعادل، وتحيل المسائل إلى محض تسوياتٍ، تجري عبر صفقات، بين نظام مجرم من جهة ومحتل غير معني بأية عدالة.
تلك الصفقات يحضّر لها، بحيث تكون نجاة الجناة أمراً أساسياً من هذه الصفقة، وسيكون السوريون بين خيارين، أحلاهما سمٌّ زعاف، استمرار المقتلة أو الصفح عن المجرمين الكبار، ومنحهم حصانةً من أي مساءلة، وربما القبول بهم شركاء في سيادة البلاد لمرحلة مقبلة.