لإيران أذرعها في المنطقة. وهي أذرع خشنة زادها إهمال النظام السياسي العربي وكسله في العقود الأخيرة توحشا وطيشا. فلولا خطأ قاتل في تقديرات ذلك النظام الاستراتيجية، لما استطاعت إيران أن تبني منظومتها العقائدية التي امتدت شبكة جواسيسها المأجورين والمتطوعين لتغطي أربع دول عربية هي العراق ولبنان وسوريا واليمن.
لقد استجاب العرب خطأ لما كان الخميني يرغب فيه على مستوى نوع العلاقة التي تربط المحيط العربي بإيران، بالرغم من أن العراق في السنة الأولى من قيام نظام الخميني كان قد حذر أشقاءه من مغبّة الانزلاق إلى فخ الكذبة الطائفية، حين أضفى على حربه ضد إيران طابع الصراع التاريخي القومي.
ما عابه الكثيرون على العراق في تعامله مع النزعة العدوانية التوسعية الفارسية كان في حقيقته هو جوهر القضية التي صار على العرب أن يعترفوا بواقعيتها بعد ثلاثين سنة من نهاية تلك الحرب.
كان الخميني يفكر بدول عربية سنية تحاربها إيران بعرب شيعة.
ذلك هو الأساس التي اعتمدت عليه النظرية الخمينية. ولو أن العرب أنصتوا إلى النصيحة العراقية، لما وجدت تلك المعادلة طريقها إلى الظهور ولكان الصراع مع إيران قد اتخذ وجهته الحقيقية باعتباره صراعا قوميا.
كان خطأ النظام السياسي العربي يكمن في اللجوء إلى التخندق الطائفي وهو ما تمناه الخميني. ذلك لأن ذلك التخندق يسّر لإيران سبل اختراق المجتمعات العربية التي صارت تعيش حالة من التصدع الداخلي، فُرضت عليها بالقوة، من غير أن تمثل تلك الحالة خيارا فرضته سبل العيش المتاح.
لقد وهب العرب بلجوئهم إلى التعبئة الخطأ الخميني، ونظامه، فرصة أن يستولي على مواطنين عرب اعتبرهم جزءا من رعيته المطيعة، وهو تعبير صادم، غير أن نظرة سريعة إلى واقع الميليشيات التابعة للنظام الإيراني يمكنها أن تؤكد أن أفراد تلك الميليشيات هم خدم أذلاء للسياسة الإيرانية. وهم من وجهة نظر قانونية خونة لأوطانهم وشعوبهم.
وبعيدا عن الرؤية القانونية فإن هناك من تورط في العمل من أجل خدمة المشروع القومي الإيراني بسبب عمليات التضليل والخداع التي مارسها النظام الإيراني في ظل إجراءات عربية، تفتقر إلى الكثير من عناصر الحنكة السياسية. وهو ما يسّر للإيرانيين الاستمرار في عمليات التضليل، حيث صار الكثيرون من ضحايا تلك العمليات مقتنعين بأن الصراع القائم الذي هم مادته الرخيصة هو صراع ديني.
لقد نجحت إيران بفضل سوء الفهم السياسي العربي في تمرير مشروعها القومي تحت غطاء ديني محكم. وحين وصلت إلى مرحلة الثقة من أن نفوذها في المنطقة صار أمرا مفروغا منه، وهو ما زينه لها الواقع، صارت تعلن صراحة عن قرب ولادة إمبراطوريتها الكبرى التي ستكون بغداد عاصمتها.
حين صحا العرب على مظاهر الغطرسة الإيرانية كان الوقت قد تأخر كثيرا. فوكلاء إيران صاروا يحاربون بدلا منها.
عام 2006 تم تدمير جزء عظيم من البنية التحتية اللبنانية من قبل إسرائيل في حرب شنها حزب الله نيابة عن إيران.
غير مرة تتعرض غزة الفلسطينية لحرب إسرائيلية تحيلها إلى ركام كانت حركة حماس الإسلامية هي السبب في نشوبها بناء على تعليمات إيرانية.
وهاهم الحوثيون في اليمن وقد انقلبوا على الشرعية يستعينون بصواريخ إيرانية من أجل مواصلة حربهم.
وإذا ما كانت إيران قد ضبطت المعادلة في أوقات سابقة على أساس حاجة وكلائها إليها، فإنها اليوم وهي تستعد لمواجهة أوقات عصيبة بسبب العقوبات الأميركية في أمس الحاجة إلى وكلائها.
هنا بالضبط يكمن العمل العربي المطلوب من أجل قطع الصلة بين إيران ووكلائها في المنطقة. وكما أرى فإن العقوبات الرمزية التي استهدفت جزءا من منظومة تمويل حزب الله تُعدُّ مؤشرا جيدا للبدء في ذلك العمل. ما يجب الانتهاء منه يتعلق بالاعتراف بأن زمن العقائد قد انتهى.
فإيران لا تحارب دفاعا عن عقيدة كما ضللت وكلاءها، بل هي تحارب تعبيرا عن نزعتها القومية التوسعية. لذلك فإن وكلاءها ينبغي ألا يتم التعامل معهم باعتبارهم ممثلين للشيعة العرب. علينا هنا أن نعود إلى القاعدة القانونية التي تضع وكلاء إيران في مكانهم الحقيقي باعتبارهم خونة.
نظام خامنئي ونظام الأسد يسعيان إلى تحقيق هدفين معاً؛ بقاء نظام دمشق كما هو، والإبقاء على وجود إيران العسكري والاستخباراتي وميليشياتها في سوريا، والتفاوض على ما عداه. في حين أن الطرح الأميركي الأخير هو العكس؛ بقاء نظام الأسد مشروط بإنهاء الوجود الإيراني في سوريا وما تبقى قابل للتفاوض.
لكن الرحلات والتصريحات تقلص التوقعات إلى أن «تتنازل» إيران وميليشياتها بالامتناع عن الدخول في معارك درعا، حيث المثلث السوري الأردني الإسرائيلي، مقابل أن تخرج الوحدات الكردية «قسد» الموالية لأميركا من منبج، وهو مطلب دمشق وتركيا. وسبق لوزير الخارجية السوري، وليد المعلم، أن قال إن الخروج الأميركي من منبج هو الأساس قبل الالتزام بمنع إيران قواتها من الوجود في درعا. ولا يستبعد لاحقاً أن تفاوض دمشق، وهي لسان حال إيران، بأنها سترضى بالوجود الأميركي شرق نهر الفرات مقابل بقاء قوات الجنرال الإيراني قاسم سليماني خارج درعا، وعلى بعد عشرين كيلومتراً من «حدود» إسرائيل. أي أن سوريا بهذا الأسلوب «تشرعن» للوجود الإيراني برضا دولي، ولا تكتفي باعتباره قراراً سيادياً لها. فتصبح القوات الإيرانية المحتلة اليوم مثل القوات السورية في لبنان في السبعينات؛ احتلال بشرعية من الجامعة العربية وموافقة الحكومة اللبنانية!
لهذا التخوف هو أن تخرج المفاوضات عن طروحاتها الأصلية، وهي أن على نظام الأسد أن يختار بين وجوده وبين وجود الإيرانيين، لا يمكن الجمع بين الاثنين.
وقد يسأل البعض من له الحق أن يفرض مثل هذا الشرط، ولماذا؟
وضع النظام السوري لا يسمح له أن يملي ما يريد، رغم انتصاراته الأخيرة التي جاءت على ظهر قوات حلفائه، ثم انقلبت نتيجة الهجمات الإسرائيلية إلى خسائر كبيرة. ورفضه يعني دولياً عدم القبول به، الذي يعيده لمربع الخطر من جديد. والأميركيون يريدون منحه فرصة البقاء لكن مقابل أن ينطق رسمياً بأنه يطلب من الإيرانيين الخروج. ولا ننسى أنه واحد من المطالب الأميركية الاثني عشر، أن على طهران أن تنسحب عسكرياً من سوريا. إنما خروجهم لن يكون سهلاً لأنه سينهي مشروعهم الطويل، أحد أبرز مشاريع سياستهم الخارجية، بفرض هيمنتهم على سوريا وتعظيم نفوذهم بتهديد المنطقة من هناك. اشتراط إخراجهم، أيضاً، فيه امتحان لسيادة نظام دمشق إن كان حقاً قادراً على أن يتخذ قراراته من دون الخضوع لإملاءات طهران. ونظام الأسد بين المطرقة والسندان؛ فمن ناحية خروج الإيرانيين و«حزب الله» اللبناني وبقية الميليشيات سيضعف قوته وقد ينهار من دونهم، ومن ناحية أخرى بقاؤهم يعني أنه سيُصبِح دمية في يدهم. وهو يدرك جيداً كيف ستنتهي إليه الأوضاع لاحقاً بوجودهم. سيحوِّل الإيرانيون سوريا كما حوَّل الأسد الأب، ثم الابن، لبنان، مسرحاً للصراع مع إسرائيل. ومثل لبنان، ستتحول سوريا إلى بلد بلا سلطة إلا من خلال طهران التي ستستخدمه في معاركها غير المباشرة المقبلة ضد خصومها، الأميركيين والإسرائيليين وربما الأتراك وغيرهم.
وبغض النظر عن مآلات النظامين، الإيراني والسوري، فإن السماح لإيران وميليشياتها بالوجود عسكرياً في سوريا، ولو في مساحة صغيرة، سيتسبب في التوتر والحروب المستقبلية. والحلول الجزئية مثل السماح لإيران بالوجود عسكرياً في مناطق معينة غالباً تصبح نهائية مع تقادم الوقت.
مع صعود إيران إلى مستوى الدولة الإقليمية المؤثرة في محيطها الجيوسياسي، تبدو السياسة الإيرانية أمام مجموعة من التحديات المتداخلة داخلياً وخارجياً، ومع هذه التحديات المرشحة للمزيد من التعقيد والتصعيد في المرحلة المقبلة، يظهر أمام طهران خياران لا ثالث لهما. الأول: السير في النهج التصعيدي مع الإدارة الأميركية على خلفية ملفها النووي، ومع إسرائيل على معركة التواجد على الأراضي السورية، ومع السعودية على خلفية الحرب في اليمن، ولعل مسارات هذه المعارك الثلاث وإن كانت منفصلة، إلا أنها بالنسبة إلى طهران معركة واحدة، وتأخذ طابع التصعيد، فيما التصعيد من قبل الأطراف الثلاثة السابقة، يخضع لأولويات كل طرف وظروفه الخاصة. الثاني: أن تنجح إيران في تحقيق ما يشبه تسوية أو تفاهم مع الإدارة الأميركية بشان القضايا الخلافية الكثيرة، وفي المقدمة منها الاتفاق النووي، لكن المشكلة هنا: كيف؟ وفي أي ظروف يمكن إنتاج مثل هذه التفاهمات؟ وبأي شروط ؟ من دون شك، الإجابة عن هذه الأسئلة غير متوافرة في يومنا هذا، خاصة وأن كل طرف يعتقد أن لديه من الأوراق الكافية للتوصل إلى تفاهمات بشروطه، أو الاستمرار في الصراع تطلعاً لظروف مغايرة لصالحه.
في الواقع، وانطلاقاً من هذين الخيارين، فإن التصعيد الكلامي على وقع الانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي، وقصف إسرائيل مواقع إيرانية في سورية، وغيرها من الأحداث المهمة، يبقي التلويح الأميركي بالعصا الغليظة مقابل التهديدات الإيرانية التي لا تتوقف سيد الموقف، وعليه فإن جوالات التصعيد السياسي والعسكري تبقى قائمة، وان كانت بقواعد مضبوطة. ولعل من يقرأ التاريخ القريب للسياسة الإيرانية، وتحديداً منذ الغزو الأميركي لأفغانستان ومن ثم العراق، لا بد أن يرجح فرضية الخيار الثاني، وذلك انطلاقاً مما أبدته هذه السياسة من براغماتية كبيرة في الملفات الخلافية وفي اللحظات الحرجة، ولعل تحرك الدبلوماسية الإيرانية على جبهات أوروبا وروســيا والصين لبحث جوانب في الاتفاق النووي بعد أن كانت تعلن رفضها ذلك، يؤكد حقيقة هذه القاعدة البراغماتية في السياسة الإيرانية، لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا، هل هذه القاعدة ما زالت صالحة في عهد ترامب؟ ثمة من يجزم بأن لا ترامب ولا إســـرائيل بصدد شن الحرب ضد إيران، وان استراتيجية ترامب تدور حول البحث عن سيناريو سوفياتي يؤدي إلى انهيار إيران من الداخل كما حصل للاتحاد السوفياتي السابق، وان سلاح ترامب في ذلك هو المزيد من العقوبات الاقتصادية والإجراءات الأمنية والسياسية المتداخلة، والضغط على الحلفاء، ولاسيما الأوروبيين، للقيام بدور مؤثر في هذا المجال، على أن يهيئ كل ما سبق السيناريو الذي يفكر به ترامب، فالأخير يدرك جـــيداً أهمية العامل الاقتصادي، وتحديداً دور النفط الذي يشـــكل نحو ثمانين بالمئة من موارد إيران، وأن سياسة العقوبات والحصار ستزيد من الأعباء الداخلية الإيرانية وفي كل الاتجاهات، على شكل انهيار لقيمة العملة الإيرانية وتهريبها الرأسمال إلى الخارج، وتفجر مشكلات الداخل على أمل انتفاضات واحتــجاجات معيشية واجتـــــماعية وسياسية وعرقية وطائفية... تؤدي إلى استنزاف بنية النظام وصولاً إلى انهياره من دون حروب، لكن الرؤية الأميركية هذه قد لا تكون دقيقة، فثمة من يرى أن النظام الإيراني الذي له تركيبة خاصة قد يكون هو المستفيد الأكبر من مثل هذه السياسة، إذ إن مثل هذا الأسلوب قد يكون مدخلاً لتوجيه أنظار الداخل إلى الخارج وشرعنة أي ممارسة قمعية من النظام ضد الاحتجاجات الداخلية على اعتبار أنه يتعرض لمخطط لإسقاطه.
وعلى مستوى الخارج، قد تجد خيارات كثيرة، ولاسيما لجهة التوجه شرقاً وتحـــديداً نحو الصين واليابان عبر زيادة كميات تصدير النفط لهما، كما أن العاملين التركي والروسي يبقيان مهمين لجهة الحد من تأثير العقوبات الأميركية، لكن من الواضح أن كل ما سبق لن يثني ترامب عن مواصلة البحث عن سيناريو سوفياتي يناسب إيران.
الدول التي لجأت إلى مسارات العدالة الانتقالية، لتسوية ذيول أزمات فيها، فعلت ذلك بعيد انتهاء هذه الأزمات، ووقف القتل أو القتال، أو حصول تغير في نظام الحكم. أما في الحالة السورية، فقد بدأت مجموعات حقوقية التحضير للعدالة الانتقالية، منذ عام 2013، والعمل جديا، لرسم ملامح العدالة الانتقالية ومساراتها. ما قد يعود إلى الشعور بأن سقوط النظام بات قاب قوسين أو أدنى، ما دفع منظمات سورية وناشطين إلى التركيز على هذا المسار. وربما وراء هذا الشروع المبكر رغبة السوريين في أن لا يقع بلدهم "الناجي من ويلات حكم العصابات" في ويلات الانتقام، عبر عصابات من شكل آخر.
لاقى هذا التوجه، في البدء، مقاومة كبيرة عند قطاعاتٍ من المتضرّرين من الممارسات التعسفية والإجرامية لنظام الأسدين، الأب والابن، لا سيما أن تسويق مفاهيم العدالة الانتقالية، في البدء، كان يوحي كأنها دعوة إلى الصفح عن جرائم النظام بحق ملايين السوريين، أو الارتهان لآليات إجرائية، يمكن أن تفضي إلى أثر رمزي لما يمكن أن يسمى إنصاف الضحية من الجاني.
اليوم، وبعد سبع سنوات، تمت في أثنائها عشرات أو مئات الملتقيات والمؤتمرات، ما نزال نتحدث عن العدالة الانتقالية، بالآليات نفسها التي بدأناها عام 2013، حين كانت الثورة السورية في أوج عنفوانها.
والمعلوم أن مسارات العدالة الانتقالية ترتكز إلى خمس نقاط، والناظر بتبسيط مفرط إليها، وإمكانية إنجاحها، تصيبه خيبة أمل كبيرة.
إنشاء لجان تقصّي الحقائق وتحديد المسؤولين، وهذا جار منذ بدء الثورة تقريبا. تنظيم محاكم مدنية وجنائية، للنظر في هذه الانتهاكات. وهذا أقرب إلى المستحيل، خصوصا مع أطروحات التسويات المحتملة، والتي ستفرض على السوريين. جبر الضرر وتعويض المتضررين. وهذا من أشباه المستحيلات، إذ يتطلب موارد هائلة، من الصعب تخيّل توفرها أصلا. إصلاح المؤسسات الرسمية. وهذا سيكون هدفا صعبا في ظل التسويات التي ستجعل من النظام ومؤسساته الوالغة في الفساد شريكا مفروضا على السوريين، لا سيما أن تجارب الربيع العربي الأخرى أثبتت مدى مقاومة الدولة العميقة أي إصلاح جوهري. تخليد التغيير في الذاكرة الجمعية. وربما سيكون هذا ممكنا إلى حد ما، مع وجود صعوباتٍ كبيرةٍ ستعترضه، إذ سيطالب الطرف الآخر باعتبار ضحاياه موضع التقدير نفسه، الأمر الذي سيميع المضمون، ويساوي بين الضحية والجلاد.
طبعا يجب استمرار الاهتمام بالمنجز المهم لهذا المسار، وهو "شيوع التوثيق" بشكليه، التقني القانوني والصحافي، الأمر الذي سيجعل من الصعوبة بمكان التملص من هذا الكم الهائل من الانتهاكات.
السؤال الملحّ: هل ساهم هذا في تمادي المجرمين في سورية، وطمأنتهم بنجاتهم من أي مساءلةٍ مستقبليةٍ، خصوصا أن قيادات الدرجة الأولى، أي الرئيس وقيادة أركانه، يتحرّكون بحذر شديد إزاء ما يمكن أن يشكل إدانة فردية لأحدهم، وهذا ما عهدناه أيام الأسد الأب، حيث كان يعهد بكل أوامره شفهيا، من دون أي توثيق لها، وأخطرها التوقيع على أوامر الإعدام الجماعي الذي كان يتكرر في ساحات تدمر عدة مرات كل شهر، فقد كان التوقيع على هذه الأحكام موكلا به إلى وزير الدفاع، مصطفى طلاس، وهكذا كانت الانتهاكات تتم وما زالت.
أمر آخر، باستعراض سيرورة الانتهاكات لدى نظام الأسدين، يتبيّن أنها في تصعيد مستمر. وهذا ليس عبثا أو سوء تقدير، إنما لإدراكهم أنه كلما اتسعت دائرة الإجرام والانتهاكات بات من المحال مقاربة تحقيق العدالة بشكلها الصوري، وسيضطر الضحايا أو الناجون للقبول بعدالة رمزية.
السؤال الذي يبرز أيضا، من أي مرحلةٍ من تاريخ الإجرام المتصل الذي ارتكبه نظام الأسدين، سيتم اعتماد الملفات والقضايا؟ هل نذهب إلى أحداث الثمانينيات من نهاية القرن المنصرم، والتي راح ضحيتها الآلاف، في مجازر كبرى، مثل مجزرتي حماة وسجن تدمر، وعشرات المجازر المتسلسلة، مع الافتقار الكبير للمستندات اللازمة، والتوثيق المستحيل في تلك الآونة؟ أم سنقدم الجرائم المستمرة منذ بدايات الثورة في عام 2011، بتصعيد كبير، والتي باتت أطراف دولية (إيران وروسيا)، وإقليمية (مليشيات عراقية ولبنانية وأفغانية شيعية) شريكة فيها.
لا شيء في الأفق يمكن أن يبشر بخير أو ببريق أمل، سوى ما ينبعث من صدور العاملين الصابرين في هذا الحقل، والمصرّين على السعي إلى العدالة إصرار القديسين، في مخاضات بائسة، تبتلع كل ما هو حق وعادل، وتحيل المسائل إلى محض تسوياتٍ، تجري عبر صفقات، بين نظام مجرم من جهة ومحتل غير معني بأية عدالة.
تلك الصفقات يحضّر لها، بحيث تكون نجاة الجناة أمراً أساسياً من هذه الصفقة، وسيكون السوريون بين خيارين، أحلاهما سمٌّ زعاف، استمرار المقتلة أو الصفح عن المجرمين الكبار، ومنحهم حصانةً من أي مساءلة، وربما القبول بهم شركاء في سيادة البلاد لمرحلة مقبلة.
نقلت وكالة الأنباء التابعة لسلطات كوريا الشمالية أن رئيس النظام السوري بشار الأسد قرر زيارة «القائد السياسي الفذّ الحكيم» كيم جونغ أون. والأوصاف السخية السابقة صادرة من بشار شخصياً، حسب وكالة الأنباء التابعة للرفيق كيم.
يفترض في 12 يونيو (حزيران) الحالي أن يلتقي الرئيس الأميركي ترمب الرفيقَ «الحكيم الفذّ» كيم في سنغافورة بعد تعثرات طرأت على القمة التاريخية المرتقبة.
كوريا الشمالية مثلها مثل إيران الخمينية والنظام الأسدي السوري؛ دول أو أنظمة حكم شريرة وناشرة للفوضى وراعية للإرهاب، لا تتورع عن استخدام كل الأسلحة المحظورة لضرب خصومها وإبادة المدنيين... تتصدر دولة بيونغ يانغ القمة، قمة الشر، تكنولوجياً، فهي دولة نووية ومستثمرة بشراسة في تطوير الصواريخ الباليستية.
كوريا الشمالية سبق لها، حسب تقارير أممية، أن زودت النظام القاتل في دمشق بأسلحة وتقنيات ومواد ذات صلة بترسانة بشار الكيماوية والصاروخية.
كما أن نظام الرفيق كيم على علاقة حميمة مع نظام طهران الخميني، وخبراء «النووي» والصواريخ الكوريون الشماليون، يترددون، منذ سنوات، على مخازن ومعسكرات طهران النووية والصاروخية، وهناك غزل متبادل بين النظامين.
في فبراير (شباط) الماضي، اتهم تقرير للأمم المتحدة كوريا الشمالية بتوريد 40 شحنة ذات صلة بـ«الكيماوي» لسوريا في الفترة بين عامي 2012 و2015. ونقلت صحيفة «نيويورك تايمز» عن تقرير أممي أن خبراء في تصنيع الصواريخ من بيونغ يانغ شوهدوا بمنشآت صنع أسلحة سورية.
صحيفة «وول ستريت جورنال» الأميركية ذكرت أن مؤسسة بحثية «عسكرية» حكومية بسوريا دفعت مبالغ لكوريا الشمالية عبر شركات أخرى استخدمت واجهة.
وكان تقرير نشر في سبتمبر (أيلول) 2017 قد تحدث عن وجود تحقيق بشأن تقارير حول وجود تعاون عسكري بين كوريا الشمالية وسوريا.
وحين قصفت البوارج الأميركية في أبريل (نيسان) 2017 بأمر من الرئيس ترمب قاعدة جوية للنظام بمطار الشعيرات قرب حلب، عقوبة له على استخدامه السلاح الكيماوي ضد المدنيين، وصفت كوريا الشمالية الضربة بأنها: «عمل عدواني لا يُغتفر».
إذن؛ فمحاولة بشار الركوب على قارب بيونغ يانغ لفك العزلة الدولية عنه، مثل «المستجير من الرمضاء بالنار»!
لينقذ الرفيق كيم نفسه ونظامه واقتصاده أولاً، ثم ينقذ المعزول المنبوذ الرفيق بشار.
واشنطن واضحة، ورغم القمة المرتقبة بين ترمب وكيم، فإن وزير الدفاع الأميركي جيمس ماتيس قال قبل أيام: «تخفيف الضغط على كوريا الشمالية لن يحدث إلا عندما تتخذ خطوات يمكن التحقق منها ولا رجعة فيها».
في حال كهذه، هل تنفع النظام السوري هذه الحركات؟
على الرغم من كل الكلام الصادر عن وزير خارجية النظام السوري وليد المعلّم عن شرعية الوجود الإيراني في سوريا، هناك ما هو أهمّ بكثير مما يقوله بشّار الأسد أو وزير خارجيته. يحاول الأسد الابن ووزير خارجيته إقحام نفسهما في موضوع لا علاقة لهما به هو موضوع الوجود الأجنبي في سوريا. هذا الموضوع مختلف كليا عن تصوّر النظام للوضع السوري، وهو تصوّر مبني على أوهام تقيم في عقول مريضة ليس إلا.
هناك سؤال في غاية البساطة يتجاوز كلام بشّار والمعلّم: هل يمكن أن تقبل إيران بالخروج مع ميليشياتها المذهبية من الجنوب السوري ومن سوريا كلّها لاحقا؟ الجواب أن الضربات الإسرائيلية التي تلقتها أخيرا، في ظلّ تواطؤ روسي واضح، قد تكون أكثر من كافية لإقناعها بأن لا خيار آخر أمامها. السؤال يتضمّن “قد” كبيرة، نظرا إلى أن إيران تعرف تماما ماذا يعني خروجها من دمشق، ومن الجنوب السوري، ثمّ من سوريا، وانعكاسات ذلك عليها.
يبدو خيار خروج إيران وميليشياتها من الجنوب السوري خيارا صعبا بالفعل في ضوء الاتفاق الروسي-الإسرائيلي الذي وضع اللمسات ما قبل الأخيرة عليه في موسكو وزير الدفاع الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان ووزير الدفاع الروسي سرغي شويغو. نفت إسرائيل الوصول إلى اتفاق نهائي إذ تريد إيران خارج سوريا كلّها وليس من الجنوب فقط.
لكنّ الواضح أنّ ما توصّل إليه الجانبان يدخل في التفاصيل الدقيقة، إذ يتضمّن توفير ضمانات توفرها روسيا للأهالي، من المواطنين السوريين، الموجودين في مناطق معيّنة. هؤلاء، أي الأهالي، يخشون التهجير. يخشون، في أحسن الأحوال، دخول قوات تابعة للنظام بيوتهم، وبداية عملية نهب لها كما حصل في قرى غوطة دمشق وبلداتها.
سيظل السؤال الحقيقي المطروح ما التعويض الذي ستحصل عليه إيران في سوريا نتيجة اضطرارها، عاجلا أم آجلا، إلى الخروج من سوريا كلّها، هذا إذا كان هناك من هو مستعد لإيجاد مثل هذا التعويض ودفع ثمنه.
كانت إيران، ولا تزال، تعتقد أنّ دمشق والجنوب السوري يشكلان الجائزة الكبرى التي تسمح لها بلعب دور أكبر على الصعيد الإقليمي من جهة، وتتويج سلسلة الانتصارات التي حققتها منذ سلمتها الولايات المتحدة العراق على صحن من فضّة في العام 2003 من جهة أخرى. صار عليها الآن، بدل البحث عن تعويض، التفكير جدّيا في مخرج من سوريا كلّها. هل يمكن لإيران نسيان وجود سوريا في ظل حاجتها الدائمة إلى جسر يربطها بـ“حزب الله” في لبنان وبالدويلة التي أقامها فيه؟
ستبحث إيران عن تعويض ما في حال اضطرت في يوم قريب لالتزام الاتفاق الروسي-الإسرائيلي الذي يظهر أنّه لم يكتمل بعد. إنّها تعرف قبل غيرها أن هناك أطرافا أخرى على علاقة مباشرة بأي اتفاق يمكن أن يحصل، وأن عليها أن تأخذ ذلك في الاعتبار. على رأس هذه الأطراف الولايات المتحدة والأردن المعني مباشرة بما يدور على طول حدوده مع سوريا. كان الاقتراب الإيراني والميليشيوي المذهبي من هذه الحدود همّا دائما في عمان التي لديها تجاربها مع “حزب الله” منذ ما يزيد على عشرين عاما.
الأكيد أن إيران ستقاوم الاتفاق الروسي-الإسرائيلي الجاري العمل عليه. ستحاول الالتفاف على الاتفاق، خصوصا أن الهدف الروسي، في نهاية المطاف، هو إبعادها عن دمشق حيث يسعى بشّار الأسد، بعد فوات الأوان، إلى اللعب على أي تناقضات روسية-إيرانية. كان آخر دليل على ذلك كلام وليد المعلم الذي لا يمتّ للحقيقة بصلة عن شرعية الوجود الإيراني، وعن الربط بين الانسحاب الإيراني والانسحاب الأميركي من التنف.
قبل ذلك، قال رئيس النظام في مقابلة تلفزيونية مع فضائية “روسيا اليوم” أن لا جنود إيرانيين في سوريا، وان الضربات الإسرائيلية الأخيرة استهدفت قوات سورية. على من يضحك بشّار في وقت بات معروفا أن إيران نفسها اعترفت بسقوط قتلى لها في سوريا؟ لم يعد سرّا أن إيران موجودة أكثر من أيّ وقت وبقوّة في دمشق، وأنها تلعب دورا أساسيا في عملية التطهير ذات الطابع المذهبي التي تشهدها عاصمة الأمويين وكلّ المناطق المحيطة بها.
لجأت إيران إلى ورقة النظام السوري كي تتفادى الرضوخ للاتفاق الروسي-الإسرائيلي الذي هو قيد الإعداد. قال المعلم في مؤتمر صحافي “لا تصدّقوا أي تصريحات عن اتفاق في الجنوب إلا بعد انسحاب الولايات المتحدة من التنف”.
لن تقبل إيران الخروج من سوريا بسهولة، في وقت تعرف أن لا خيار آخر أمامها غير الحرب. يعرف النظام فيها، قبل غيره، أنّ الخروج من دمشق سيعني الخروج من طهران. أكثر من ذلك، استثمرت إيران مليارات الدولارات في مشروعها السوري الذي يستهدف، بين ما يستهدفه، تغيير طبيعة المجتمع في هذا البلد وإبقاء الجسر القائم مع دويلة “حزب الله” في لبنان.
من غير الطبيعي قبول إيران بالاتفاق الروسي-الإسرائيلي الذي لا يزال قيد الإعداد. لكن المأزق الذي وجدت إيران نفسها فيه يعود قبل كل شيء إلى أن البديل من الاتفاق هو مواجهة لا تستطيع فيها تحقيق أي انتصار من أيّ نوع.
كان مسموحا في الماضي لإيران تحقيق انتصارات في حروبها. لم تكن انتصاراتها في أيّ يوم على إسرائيل. كانت انتصاراتها في الواقع على لبنان. هذا ما حصل صيف العام 2006. كانت القضية الفلسطينية في كلّ وقت مجرّد سلعة تصلح لكل أنواع المساومات. جاء الآن من يقول لها أن كفى تعني كفى. ليست إسرائيل التي تقول كفى لإيران، بل الإدارة الأميركية الحالية التي تعرف، أقله نظريا، ما هي إيران وما خطورة مشروعها التوسّعي في الشرق الأوسط والخليج وما يتجاوزهما.
ما على المحكّ يتجاوز إسرائيل إلى الترتيبات الأمنية في المنطقة كلّها في إطار اتفاق أميركي-روسي سيحدد مستقبل العلاقات بين واشنطن وموسكو وطبيعتها. من سوء حظ إيران أن الاتفاق الروسي – الإسرائيلي، الذي لم يكتمل بعد، يندرج في هذا السياق، كما يندرج في سياق أزمة كبرى تواجه النظام في طهران.
في أساس هذه الأزمة تدهور الاقتصاد في بلد قرر لعب دور أكبر من حجمه على الصعيد الإقليمي عن طريق التمدد في اتجاهات مختلفة، وصولا إلى اليمن. الأكيد أن كلام بشّار الأسد ووليد المعلّم لا يمكن أن يوفر حبل نجاة لإيران. هل من عاقل يستطيع الاعتماد على نظام لا يمتلك أيّ شرعية من أيّ نوع، مرفوض من أكثرية شعبه؟ ما كتب قد كتب. بات أمام إيران في سوريا الاتفاق الروسي-الإسرائيلي، غير المكتمل بعد، والوجود الأميركي شرق الفرات. وبات أمامها في لبنان القرار 1701، وبات أمامها في الخليج القرار السعودي بالمواجهة، وبات أمامها في غزّة اضطرار “حماس” للانصياع لمصر.
إلى أين ستذهب إيران؟ هل تذهب إلى الانسحاب من الجنوب السوري، تمهيدا للانسحاب من سوريا كلّها، مع ما يعنيه ذلك من انعكاسات على النظام في طهران… أو إلى مواجهة على صعيد المنطقة كلّها ليس ما يشير إلى أنّها قادرة على خوضها.
الهجرة بالنسبة للسوري ليست بالأمر الجديد، فهناك أعداد كبيرة منهم موجودة في أعداد غير محدودة من دول العالم في كافة القارات منذ زمن غير بسيط؛ يعملون في مجالات التجارة والصناعة بنجاح واضح. ولكن ما حصل في آخر ثماني سنوات منذ اندلاع أحداث الثورة السورية بوجه نظام الأسد الطاغية، ومئات الآلاف من الشعب السوري خرجوا إلى بلاد العالم ما بين مهاجر ولاجئ، كل الدول التي استقبلتهم وصل إليها السوري الذي فر بحياته لينجو من الهلاك والموت على أيدي أسوأ نظام عرفته البشرية في الزمن الحالي.
ما حصل بعد ذلك كان تحولاً لافتاً ومهماً؛ فبالإضافة إلى قصص المآسي والكوارث الإنسانية التي تدمع العين، وينفطر لها القلب، هناك قصص نجاح أقل ما يقال عنها إنها مبهرة وباعثة للأمل لآلاف السوريين حول العالم، الذين تمكنوا من تحويل الحزن واليأس إلى أمل، والتغلب على ظروف القهر بالجدية والعمل، لينسجوا قصصاً رائعة من التفوق والتميز في كل المجالات من الصناعة للفنون، ومن الطهي إلى الأدب، ومن التجارة إلى الغناء، وكافة أشكال التميز.
لقد أصبح السوري اليوم في دول مثل مصر والسودان والأردن وألمانيا والسويد وتركيا وكندا واليونان وغيرها من الدول، مضرباً للمثل في الأمانة والجودة والخدمة والالتزام، دون أن يكون «عالة» على المجتمع الموجود فيه. إنه الضعف الذي يُولد القوة، والحياة التي تخرج من رحم الموت، والأمل الذي يأتي بعد اليأس.
هناك جيل سوري جديد يتكون في المهجر، يكوِّن قيماً ومعاني وأهدافاً فيها اعتماد على النفس نتاج تجربة قاسية ومريرة وصعبة، وهذا الجيل تحرر من قيود الخوف والذعر والقلق والتخوين التي كانت تهيمن على أفكاره تحت مظلة حكم الأسد المرعب... هذا الجيل الذي يتسلح بالعلم والمعلومات والاطلاع، واتساع الآفاق، وزيادة الاحتكاك والتجربة، لم يعد هو نفسه الذي خرج من سوريا وهو في حالة رعب وخوف غير عادي. هذا الجيل الكبير عدداً وحجماً وروحاً قادر على التغيير في سوريا، وهو تماماً مثل الذي حصل مع الصينيين والهنود والأرمن في المهجر؛ إذ تمكن جميعهم من تغيير أنظمة وقوانين وأساليب الحياة في بلادهم، وكشف الممارسات المريبة والخاطئة التي كانت تتم في السابق.
الوجود العددي الكثيف للهجرة السورية تحوَّل في الكثير من الحالات إلى عامل ذي قيمة مضافة اقتصادية، لا يمكن الإقلال منها، ولا الاستخفاف بها، وبالتالي بالتدريج تحول إلى قوة «ناعمة» مؤثرة (الأردن، والسودان، ومصر، وتركيا كنماذج) تحتسب على الاقتصاد الكلي وتكملة في هذه الدول وغيرها.
قد يكون ضرباً من الخيال وحتى الجنون أن نرى في القبح جمالاً، وبالتالي نرى الإيجابية التي من الممكن أن تنتج من وضع السوريين في المهجر، ولكن دورات التاريخ والعبر المستنتجة منه تعلمنا ذلك، ولا بد من الاتعاظ بها ومنها.
الجينات السورية قوية، وهي مبرمجة سلفاً على البقاء والنجاح في وجه كافة أنواع المخاطر مهما صعبت، ولذلك رهاني على السوري في المهجر ليكون أهم وسائل التغيير في بلاده.
قد لا يحتاج إلى تأكيد قول إن إيران تواجه تحديات حقيقية ومباشرة في سوريا لم تواجهها من قبل أبداً. وأساس التحديات يتمثل في التطورات السياسية والميدانية الحاصلة في سوريا، والتي غيّرت علاقات القوى من جهة، وفرضت وقائع جديدة من جهة أخرى، يضاف إليها ما تشهده إيران من اختلاجات سياسية واقتصادية واجتماعية، ناتجة في الأهم من أسبابها عن تدخلات إيران وسياساتها الإقليمية، ولا سيما تدخلها العميق في سوريا، وما ترتب عليه من نتائج وتفاعلات في الداخل الإيراني.
وتنتظم التحديات الإيرانية، ضمن ثلاث دوائر، أولاها تتعلق بحلفاء إيران وأصدقائها، والإشارة الأهم في هذا السياق ما يظهر من حساسيات العلاقة بين طهران وموسكو، وقد تكرست في تفاوت مواقف الطرفين واختلافهما مرات حول سياسات ومواقف إيران وطبيعتها في السنوات الأخيرة، قبل أن تتصاعد تلك الحساسية من خلال إعلان روسيا ضرورة مغادرة إيران وميليشياتها سوريا مع بقية القوى الأجنبية المسلحة الأخرى للمساعدة في حل القضية السورية، وهو إعلان ما كان لإيران أن تسكت عنه، فقامت بالرد عليه علانية، وأكدت أن وجودها في سوريا مستند إلى طلب رسمي من حكومة الأسد، مما يعني أن وجودها يماثل في مشروعيته الوجود الروسي، مما يوضح موقف طهران دون أن يذهب إلى التصعيد مع موسكو في ملف مرشح لأن يشهد تطورات، قد تكون أكثر أهمية وخلافاً في علاقات الحليفين.
والدائرة الثانية تتصل بالخلاف الإيراني - الإسرائيلي، حول انتشار إيران وميليشياتها في الجنوب السوري، ولا سيما اقترابها من خط وقف إطلاق النار بين سوريا وإسرائيل في مرتفعات الجولان السورية المحتلة، وهو ما تعارضه إسرائيل بصورة حاسمة، وبسببه تصادم الطرفان، ثم صعّدت إسرائيل من عملياتها ضد مواقع إيران وميليشياتها في سوريا، ومررت إيران الهجمات الإسرائيلية دون أن تعلن عن تغييرات جوهرية في سياساتها السورية.
ومما يزيد من أهمية هذه الدائرة في التحديات الإيرانية دخول الولايات المتحدة عليها من بوابة الانسحاب من الاتفاق النووي الإيراني، وشن حملات دبلوماسية وإعلامية ضد إيران وميليشياتها وتدخلاتها الإقليمية، وفرض عقوبات جديدة وأخرى على قيادات في «حزب الله» اللبناني ذراع طهران الأقوى، وجميعها سلوكيات تؤكد تناغماً أميركياً - إسرائيلياً من جهة، وتناغم واشنطن مع الأجواء الإقليمية الشرق أوسطية في مواجهة إيران وسياساتها في المنطقة من جهة ثانية، وكلها تقابَل بأقل قدر من الردود.
وتتصل الدائرة الثالثة من التحديات الإيرانية بانعكاسات سياسات طهران وتدخلاتها في سوريا، والتي كلفت الإيرانيين أكثر من ألفي قتيل من الحرس الثوري وحده، حسب المصادر الإيرانية، كما حمّلت الاقتصاد الإيراني من خلال المساعدات المقدّمة لنظام الأسد، وتكاليف الأنشطة العسكرية، ودعم الميليشيات التابعة لإيران، أعباء كان من نتائجها ارتفاع معدلات البطالة وتزايد الفقر، وانخفاض غير مسبوق في قيمة العملة الإيرانية مقابل الدولار بوصوله إلى قرابة 80 ريالاً، وهروب أكثر من 59 بليون دولار من العملات الصعبة في العامين الأخيرين وفق ما أعلن مركز بحوث تابع لمجلس الشورى، وكلها بين أسباب انتفاضة الإيرانيين في وجه حكم الملالي في ديسمبر (كانون الأول) ويناير (كانون الثاني) الماضيين، وسقط نتيجتها 25 قتيلاً، وفق أرقام رسمية، ولم يمنع قمع السلطات نهوض حركة احتجاج ومطالب جديدة، وقد سجل الأسبوع الأخير من مايو (أيار) الماضي، احتجاجات واسعة في 242 مدينة و31 محافظة، بلغ معدلها 69 تحركاً في اليوم، مما يؤشر إلى احتمال تجدد الانتفاضة الإيرانية في مواجهة النظام.
وسط حشد التحديات الخطرة، يبدو أن طهران اختارت اتباع سياسة تهدئة في معالجة ملفاتها، على نحو ما تعاملت مع سياسات ومواقف روسيا السورية، حتى لا تذهب إلى مواجهات معها، قد يكون من نتائجها توجه روسيا إلى إخراج إيران من المعادلة السورية، مما سيسبب كارثة استراتيجية لإيران، ويُخرجها من دائرة المكاسب المباشرة من إعادة إعمار سوريا، التي تراهن على المشاركة فيها باستعادة بعض ما دفعته هناك للحفاظ على نظام الأسد وحمايته، وتابعت طهران سياسة التهدئة في تصادمها مع إسرائيل في سوريا بالسكوت عن قصف مواقعها وحلفائها، وأخذت خطاً ليناً في التعامل مع الموقف الأميركي من إلغاء الاتفاق النووي، وتتابع جهودها مع الأوروبيين للحفاظ على دعمهم للاتفاق، إضافة إلى تخفيفها من ردّات فعلها على الحملات الدبلوماسية والإعلامية ضدها.
لعل التعبير الأوضح عن سياسة التهدئة الإيرانية في مواجهة التحديات، ما كرّسه المرشد الإيراني علي خامنئي عبر حدثين قام بهما قبل أيام، أولهما خبر اجتماعه ومساعديه في خطوة هي الأولى منذ عشر سنوات مع الرئيس الأسبق محمد خاتمي المحسوب على الإصلاحيين، حيث جرت مناقشة للأوضاع في ضوء ما يواجه البلاد من تحديات داخلية وخارجية. والآخر بث التلفزة الإيرانية لقطات من لقاء المرشد مع طلاب جامعيين خلال إفطار رمضاني في بيته، سمع منهم انتقادات عنيفة للنظام عن كبت الحريات العامة، وسوء إدارة البلاد والسلطة القضائية، وسياسة احتكار وسائل الإعلام.
إن سياسة التهدئة التي يسعى الإيرانيون إليها في التعامل مع التحديات المحيطة، يمكن أن تخفف الاحتدامات بصورة مؤقتة ومحدودة، لكنها لا تعالج التحديات القائمة، لأنها مرتبطة بطبيعة الدولة الإيرانية واستراتيجيتها القائمة على استخدام القوة والتمدد والسيطرة الإقليمية، وما لم تتغير طبيعة الدولة واستراتيجيتها، فلن تنجح سياسة التهدئة ولن تستمر، مما يعني سقوط إيران في الاختبار الذي تطرحه على نفسها.
السياسة الخارجية للإدارة الأمريكية أصبحت متسقة التوجه بانسجام أفكار الرئيس مع وزير خارجيته ومستشاره للأمن القومي.. إنه انسجام الصقور، بدلاً مما كان عليه الوضع السابق من اختلاف التوجهات بين الرئيس ووزير الخارجية السابق. الآن أصبح أسلوب ترامب واضحاً في إدارة العلاقات الخارجية.. فما هو؟
هذا الأسلوب لن يكون على الطريقة السياسية الأمريكية المعهودة للصقور من الجمهوريين كما يتوقع كثيرون، فعندما نتحدث عن الرئيس ترامب فإننا نتحدث عن رجل قادم من خارج المؤسسات السياسية الأمريكية وتقاليدها المعروفة في الحزب الجمهوري أو الديمقراطي، إنه رجل أعمال من نوعية خاصة يجيد إدارة الصفقات التجارية، كما يقول عن نفسه إنه نجح في كل صفقة دخل فيها، ولم يفشل أبدا. فما هي الطريقة التي يعمل بها؟
سنرى بالأمثلة القادمة عن مواقف الخارجية الأمريكية بإدارة ترامب أنها تعمل بآلية الصفقات «الصفرية» مع فتح منفذ مغري للآخر كي يقبل الصفقة: حيث تعلن أقصى درجات المواجهة في التفاوض، ولكنها بنفس الوقت تفتح باباً لمكافأة مجزية للآخر إذا قدم تنازلات تحقق أهم المطالب الأمريكية، وليس شرطاً كلها. هذه الطريقة التفاوضية تتوعد بأقسى التهديدات بما لم يسبق للصقور أن هددوا به، لكن بنفس الوقت تمنح مكافآت هي الأوسع بما لم يسبق للحمائم أن قدموه.. إنه أسلوب مختلف عن كافة الإدارات الأمريكية السابقة من صقور وحمائم..
فمع كوريا الشمالية، رغم ما قيل من انتقادات لأسلوب ترامب الصدامي معها التي قد تقود العالم لحرب نووية.. فبعد أقصى درجات التهديد لكن مع طمأنة الزعيم الكوري الشمالي بأن تقبله المطالب الأمريكية بنزع السلاح النووي سيجلب لبلاده رخاءً وأمناً، فضلا عن تأكيد بقاء النظام. هذه الطريقة أثمرت حتى الآن، ونتج عنها أن دمرت كوريا الشمالية موقع التجارب النووية تحت الأرض، وأطلقت سراح ثلاثة سجناء أمريكيين، وعقدت قمتين إيجابيتين مع الرئيس الكوري الجنوبي والتوقف عن تهديداتها، ودعت وزير الخارجية الأمريكي لزيارتها، مع تهيئة الفرص لإجراء المزيد من الإصلاحات. وأخيراً، ثمة تجهيز للقاء قريب لقمة تاريخية تجمع الرئيسين الأمريكي والكوري الشمالي في سنغافورة.
وحتى تجارياً مع الصين، بعدما أطلق ترامب مطالبه القاسية وكادت توصل لحرب تجارية تهدد الاقتصاد العالمي، انتهت بالتوصل لاتفاقات بين واشنطن وبكين بما يرضي الإدارة الأمريكية، مما اعتُبِر «خضوعاً» من الصين لأمريكا؛ أو كما كتب نيكيتا كوفالينكو، في «فزغلياد» بعنوان «ترامب أجبر الصين على الاستسلام». حتى مع الاتفاقات الدولية كالسعي للخروج من اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية، والتخلي عن الشراكة العابرة للمحيط الهادئ، والانسحاب من اتفاق باريس للمناخ.. الخ؛ فقد نشهد عودة أمريكا لهذه الاتفاقات التي هددت بالانسحاب منها أو التي انسحبت منها، كما أعلنت مراراً بأنها قد تعود لها. رئيس مركز الاتصالات الاستراتجية الروسي ديمتري ابزالوف، يقول: «إن أسلوب ترامب القاسي هذا يعمل.. وإنه يمكن أن يعمل مع كوريا الشمالية، ومع الصين، والاتحاد الأوربي، والآن الدور على إيران».
إدارة ترامب قررت المواجهة الحادة مع إيران بالانسحاب من الاتفاق النووي، وما شملها من عقوبات اقتصادية هي «أشد العقوبات صرامة في التاريخ»، ووضع اثني عشر شرطاً صعباً للعودة لاتفاق جديد. وفي نفس الوقت أوضح ترامب أنه «مستعد وراغب وقادر» على عقد «صفقة جديدة ودائمة» مع القيادة الإيرانية الحالية إذا عدلت من سلوكها العدواني. هذه الصفقة الجديدة ستشمل ليس فقط نهاية العقوبات الأمريكية، بل ترميم العلاقات كاملة، والوصول للتكنولوجيا المتقدمة والدعم الأمريكي لتحديث الاقتصادي الإيراني وإعادة دمجه في الاقتصاد العالمي، بما لم تسبقه لذلك أية إدارة أمريكية، كما يذكر الباحث الاستراتيجي الأمريكي جون هانا (مستشار سابق في الأمن القومي).
يتساءل جون هانا: هل هذا نوع من الحيل الذكية؟ ثم يجيب: «عندما نتحدث عن ترامب هنا، فكل مهارته هي في عقد الصفقات. هذا هو الحمض النووي الخاص به. الذهاب في تحديد مطالب متطرفة إلى أعلى المستويات ومن ثم التراجع لتحجيمها عند الضرورة عندما يلبي الجانب الآخر احتياجاتك الأساسية. ثم إعلان النصر والمبالغة في تسويقه». بالطبع، قد تكون الشروط الأمريكية تعجيزية، لكنها ستكون مقبولة في نطاق ترتيب الأولويات إذا قدمت إيران بعضها. على الأقل، العمل على إجبار إيران على سحب أبواقها وتقليل تهديدها الحالي للمصالح الأمريكية، وإجبارها إن أمكن، على العودة لطاولة المفاوضات والحصول على موافقة على صفقة كبرى تعالج بشكل شامل سلوكيات إيران التهديدية، النووية وغير النووية. ولكن إذا لم تستجب إيران، فستحتاج أمريكا إلى أن تكون مستعدة لمواصلة الضغط حتى يتمزق النظام، أو تُطيح به انتفاضة شعبية، أو توجد خليفة أكثر اعتدالا، حسب رأي جون هانا.
كثيرون داخل وخارج أمريكا اعتبروا أسلوب ترامب قاسياً أو حتى همجياً، وأن عالم السياسة ليس كعالم المال والأعمال التجارية، فيما اعتبره قلة أسلوباً ماهراً لتقوية النفوذ الأمريكي الذي تراجع إبان الفترة السابقة من إدارة أوباما. بغض النظر عن الانتقاد أو التأييد، فإن أسلوب ترامب يبدو أنه ينجح حتى الآن.. فسواء أعجبنا أم لم يعجبنا، فالعبرة بالنتائج.
أمور غريبة تحدث في سوريا. يبدو أن ثلاثي روسيا- إيران- الأسد الذي عرفناه مكونًا من شركاء، أخذ يتشتت. الأسد اتفق مع موسكو وكأن الاثنين يسعيان للتخلص من إيران!
الأسبوع الماضي صرح وزير الخارجية الروسي بأن "الجيش السوري فقط ينبغي أن يحمي جنوب البلاد". وكأنه يقول لإيران التي وقف معها إلى جانب الأسد طوال سنوات، أن تغادر الجنوب.
وفي أعقاب ذلك مباشرة، وردت أنباء عن اتفاق بين إسرائيل وروسيا، تنسحب بموجبه إيران من جنوب سوريا، ويسيطر الأسد على المنطقة.
وبينما ظن الجميع أن روسيا والأسد يطردان إيران، وقع خبر توصل مسؤولين إسرائيليين وإيرانيين إلى اتفاق وقع الصاعقة. وبموجب الاتفاق قرر العدوان اللدودان عدم الاقتتال جنوبي سوريا. فما معنى كل هذه التعقيدات؟
الغزل الروسي الإسرائيلي
لنبدأ مع روسيا. لم تكن إيران حليفًا وثيقًا لموسكو أبدًا. عمل البلدان معًا على دعم الأسد من أجل حماية مصالحهما في سوريا، وهذا ما تحقق لروسيا، التي تسعى الآن لمفارقة إيران.
فإيران بالأساس منافس إقليمي لروسيا، وفوق ذلك فهي هدف رئيسي للولايات المتحدة وإسرائيل. تدرك موسكو أن هذا التوتر سيتصاعد ما بقيت طهران في سوريا، وهذا ما يهدد المصالح الروسية.
وكذلك الأمر بالنسبة لإسرائيل، التي زادت من وتيرة هجماتها على المواقع الإيرانية في سوريا. كما أن ضغوط الرئيس الأمريكي على إيران تزيد من ارتباطها بروسيا، ولهذا أصبح الرئيس الروسي في وضع أقوى مما سبق في مواجهة إيران.
هل يبيع الأسد إيران؟
نأتي إلى الأسد. كان بحاجة إيران في مواجهة داعش، لكن هذه الحاجة تكاد تنتهي. ويدرك الأسد أن وجود إيران سيستدعي تدخلًا إسرائيليًّا وأمريكيًّا. كما أنه يسعى لإقامة توازن بين موسكو وواشنطن. لكن كل ذلك لا يعني أنه سيتخلى تمامًا عن إيران على حين غرة.
الأسد عدو معروف بالنسبة لإسرائيل، لكن وقوفه على مسافة من إيران يجعل منه حلًّا مثاليًّا بالنسبة لتل أبيب.
وماذا عن إيران؟ بعد كل هذا الاستثمار منذ سنوات لن تخرج إيران بسهولة من سوريا. بيد أنها مشغولة الآن بمشكلتها لأن الولايات المتحدة وإسرائيل تستهدفانها. الحرب السورية مكلفة جدًّا من جميع النواحي وطهران تعرضت لخسائر في الهجمات الإسرائيلية الأخيرة.
يتضح من إبرامها اتفاقًا مع إسرائيل الأسبوع الماضي بأن إيران ستنسحب مع مرور الوقت من بعض المناطق.
بالنسبة لتركيا، إيران حليفة في سوريا من جهة، ومنافسة إقليمية من جهة أخرى. ليس سرًّا انزعاج أنقرة من سياسات طهران التوسعية، ولهذا فإن تحجيم إيران من مصلحتها.
كما أن إقامة توازن بين الولايات المتحدة من جهة وروسيا- الأسد من جهة أخرى، سيعزز موقف تركيا في مكافحة وحدات حماية الشعب.
السوريون في مزاج سيئ، لأنهم يخافون الخروج صفر اليدين من ثورةٍ قدموا ملايين الشهداء والجرحى فيها لتحقيق وعودها: الحرية والعدالة والمساواة.
... وقد ترك سقوط الغوطة الشرقية، ثم ريف حمص الشمالي، أثراً سلبياً عليهم، وأرهقتهم صور الأطفال والنساء، وهم يُهجّرون إلى خارج مناطقهم، وأتعبتهم مشاهد البؤس على وجوه من حملوا السلاح بالأمس، ويقفون الآن في طابور العائدين إلى "حضن وطنٍ"، يعدهم بأحد خيارين: أن يحاربوا رفاقهم في المناطق الأخرى، أو يقتلهم، وليس في قاموسه كلمة شعب، كي يحترم حياته وممتلكاته، أو يتوقف عن التباهي بـ "تحريره" من الذين دافعوا عنه وحموه طوال أعوام عجاف من عصابات القتل والتعفيش.
وزاد من تعب السوريين القتل المنهجي الذي تمارسه دولتان تتباريان في العدوان عليهم، لم تُقرّا يوماً بشرعية أيٍّ من مطالبهم، أو تتعاطفا معهم، بل نافستا الأسد في اتهامهم بالإرهاب، وارتكبتا جرائم منظمة ضدهم، انسجاماً مع تاريخ استبدادي مديد وسم حكم أكاسرة فارس وقياصرة روسيا!.
لا ينسى السوريون أيضاً دور المذهبية/ المتعسكرة في هزائمهم، وتقويض سعيهم إلى مجتمع حر ونظام ديمقراطي. ولَكَمْ عبّروا عن رفضها في التظاهرات التي طالبتها بالرحيل عنهم، واستهدفت قادتها بأسمائهم في هتافات اتهمتهم بالخيانة، وبالقضاء على تفوّق الثورة الأخلاقي والقيمي على النظام، وهو تفوقٌ لعب دوراً بارزاً في إخراج الأسدية من ثلثي سورية، بالضغط الشعبي، قبل أن يعيده طيران الروس ومرتزقة إيران، والإرهابيون المحسوبون زوراً وبهتاناً على ثورةٍ هم ألدّ أعدائها.
هل ضاعت فرصة بلوغ ما أراده السوريون من ثورة تكالب عليها حلف دولي/ إقليمي/ محلي، استقدم أرهاطاً من مجرمي أفغانستان وباكستان والعراق ولبنان وإيران وروسيا إلى سورية لمحاربتهم وارتكاب أشنع الفظائع ضدهم؟. لا أعتقد شخصياً أنها الفرصة، لو كانت حقوقنا مرتبطةً بالمعارضة السياسية والعسكرية، وما هما فيه من تهافت وعجز، لقلنا: نعم خسرنا المعركة، وضاعت منا سانحة الحرية التي صنعها ملايين مواطناتنا ومواطنينا بتضحياتهم، خصوصاً وأن العالم لا ولن يقر بالحق في الحكم أو بالسيطرة على المجال السياسي الوطني لمعارضةٍ أثبتت، خلال سبعة أعوام ونيف، أنها ليست، ولا تنوي أن تكون ثورية، ولا ترغب في امتلاك نهجٍ يقرّبها من الواقع ومصالح الشعب العليا، تخبطت طوال هذه المدة الطويلة نسبياً في أخطاء ترفض تصحيحها، وأدمنت الارتجال، وتبنّي سياسات متقطعة ولحاقية، جزئية ومليئة بالأخطاء.
لكن الثورة لم تكن هذه المعارضة التي همشت نفسها إلى حدٍّ جعل أصدقاءنا القلقين على حقوقنا يتساءلون بمرارة: هل ما زالت المعارضة موجودة حقاً جهة تمثل السوريين؟. لم تتطابق الثورة مع المعارضة، ولم تكن المعارضة مساويةً للثورة أو ممثلة لها في معظم سنوات النضال في سبيل الحرية. الثورة هي الشعب الذي هتف للحرية، وهي أيضاً الحرية التي عبرت عن نفسها في هتافات وتضحيات الملايين الذين نزلوا إلى الشوارع، مطالبين بها للشعب السوري الواحد الذي لن يستطيع أحد تجاهل تضحياته من أجل حقوقهم، وطول المدة التي قاوم خلالها الأسدية، وواجه خلالها حملات الإبادة، لكنه استمر في ثورته، على الرغم من افتقاره قيادة ثورية.
لن يستطيع العالم تجاهل تضحيات الشعب السوري. ولن يغامر أحد بإخراجه صفر اليدين من تمرّد سقى خلاله ورود حريته بزكيّ دمائه، وواجه سنواتٍ استبداداً لم يواجه أحد قبلهم ما يماثله، من دون أن يستسلموا، فهل يعقل أن يقبلوا الرضوخ من جديد، ومن دون مقاومة نظام أخرجوه من أنفسهم وواقعهم، لا تعني عودته إلى مناطقهم إطلاقاً عودتهم إليه.
مع بدء تسريب تفاصيل عن صفقة الجنوب السوري، والتي تعقدها كل من روسيا وأميركا وإسرائيل، تتضح أكثر العلاقة المضطربة بين الحليفين الروسي والإيراني، والأولويات التي تضعها موسكو نصب عينيها في التعاطي مع الملف السوري، والتي تأتي إسرائيل على ما يبدو في مقدمتها، حتى وإن حاولت اللعب على وتر الابتزاز ومحاولة تحصيل أثمانٍ من الأميركيين في مقابل تحقيق المطلب الإسرائيلي، والروسي أيضاً، في إبعاد الإيرانيين عن الحدود الجنوبية السورية المحاذية للجولان وفلسطين المحتلة، فالحسابات الروسية في سورية تختلف كلياً عن تلك الإيرانية، وإن تم جمع الطرفين ضمن تحالف ظرفي، إلا أنهما مختلفان كلياً على الصعيد الاستراتيجي، وحتى يمكن القول إنهما على طرفي نقيض، كذلك فإن الروس لا ينظرون بعين الرضى إلى التمدّد الإيراني في المنطقة ومحاولة بسط نفوذ في سورية وغيرها. وعلى هذا الأساس، فإن فكرة إضعاف الإيرانيين في سورية تروق لموسكو بشكل أساسي، حتى وإن لم تجاهر بذلك. في المقابل، فإن الحاجة الإيرانية للحليف الروسي الظرفي، وخصوصاً في ظل الهجمة الأميركية على طهران، والانسحاب من الاتفاق النووي، والعودة إلى سياسة العقوبات، تجعلها خاضعةً لرغبات موسكو، حتى لو جاءت متناقضةً مع أهدافها ومصالحها. هذا الأمر تدركه روسيا جيداً. وعلى هذا الأساس، كانت مفاوضاتها وقراراتها نيابةً عن الإيرانيين الذين سيكون عليهم التنفيذ من دون اعتراض. حتى أن الإيرانيين استبقوا التنفيذ بنفي وجود قوات لهم أساساً في الجنوب، تماماً كما سبق لهم أن نفوا تعرّض مواقع لهم في سورية لغارات إسرائيلية.
الأمر نفسه بالنسبة إلى النظام السوري الذي يترقب تفاصيل الاتفاق، لتطبيق ما يخصه منه، وخصوصاً الدخول في مواجهةٍ مع الفصائل السورية في الجنوب، وتولي حماية الحدود مع إسرائيل، برعاية روسية، وذلك بعدما استطاعت موسكو انتزاع المعلوم المجهول دائماً، وهو أنه ليس لدى إسرائيل مشكلة في بقاء بشار الأسد، بل على العكس هي تفضّله حارساً للحدود على أن تكون هناك فصائل غير منضبطة عسكرياً على تخوم فلسطين المحتلة، وهو ما حدث عندما وجد "داعش" في تلك المنطقة قبل فترة.
كذلك الأمر بالنسبة إلى الولايات المتحدة، فإذا كان الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، وصف الأسد في إحدى تغريداته بأنه "حيوان"، إلا أن ذلك لا يعني أنه في وارد إسقاطه، وخصوصاً في ظل فراغ الخيارات البديلة، فالتدجين هو الخيار الأمثل بالنسبة إلى واشنطن، ليس في عهد إدارة ترامب فقط، بل في كل العهود التي سبقت وحاولت إدخال النظام السوري ضمن الحظيرة الغربية. يبدو هذا الأمر اليوم أقرب من أي وقت مضى إلى التحقيق، خصوصاً أن الأسد أبدى استعداده ضمنياً لأن يضمن سلامة الحدود مع إسرائيل، ويمنع تحول الجولان إلى جنوب لبنان ثان، كما كان مخطط إيران وحلفائها. وهذا الأمر حالياً هو أكثر ما يهم الإدارة الأميركية، إضافة إلى استغلال نظام الأسد في "محاربة الإرهاب"، وإبقائه بعيداً عن الأراضي الغربية.
بناء عليه، فإن صفقة الجنوب السوري ليست مجرّد اتفاق عسكري بين الدول الضامنة لمناطق خفض التصعيد، إضافة إلى أميركا وإسرائيل، بل هو مؤسّس لمرحلةٍ جديدة في الحرب السورية وفاتحة ضوء أخضر لقوات الأسد وروسيا للسيطرة على ما تبقى من أراضٍ في يد المعارضة، شرط أن يبدي النظام الولاء والطاعة، ويحيد نفسه عملياً عن "محور الممانعة"، مع الإبقاء عليه ضعيفاً محتاجاً إلى الحلفاء الجدد والقدامى لضمان البقاء.