كعادته في مثل هذه الأيام من كلّ سنة، عقد “بيت المستقبل”، الذي أسسه الرئيس اللبناني السابق أمين الجميّل في ثمانينات القرن الماضي، مؤتمره السنوي بحضور شخصيات لبنانية وعربية ودولية تتعاطى الشأن العام. معظم هذه الشخصيات تمتلك خبرة في الموضوع الذي تتناوله، كما تمتلك ثقافة تسمح لها بالتحدث في الشأن الإقليمي والربط بين الأحداث الشرق أوسطية من جهة، وما يدور في العالم من جهة أخرى.
ما جمع بين مؤتمر السنة الذي كان عنوانه “الأمن في خضمّ الانحلال”، والمؤتمرات التي انعقدت في السنوات الماضية هو الجرأة في طرح قضايا تتناول المنطقة ككلّ. كان في الماضي تطرّق إلى الوضع الإقليمي في ذكرى مرور مئة عام على اتفاق سايكس- بيكو. وكان هناك مؤتمر خصّص لخيار الدولتين على أرض فلسطين (دولة إسرائيل والدولة الفلسطينية) وما إذا كان هذا الخيار لا يزال قائما في ظل الزحف الإسرائيلي في اتجاه ضمّ الضفة الغربية، بما في ذلك القدس الشرقية.
كان المؤتمر الذي انعقد قبل أيّام قليلة “لقاء في خضم حال الانحلال التي طالت أكثر من صعيد وتأثيرات التفكك على أمن المنطقة واستقرارها. وكأنّ عالمنا العربي لم يتغيّر من عام إلى عام، من عقد إلى عقد، بل ينحدر من سيّء إلى أسوأ”. هذا ما أشار إليه أمين الجميّل في افتتاح المؤتمر متحدثا عن “نزاعات تحوّلت إلى معارك عبثية وانتحارية دمّرت البشر والحجر”. تحدث أيضا عن “نزاعات سياسية في الإقليم لم توفّر أيّ جانب من حياة المجتمع ولم تقتصر على النزاعات السياسية بين الأنظمة، بل استهدفت بشكل أساس المجتمع والإنسان في وجوده وحرياته وسلامته ورفاهه، فكانت نزاعات سياسية وإقليمية: عربية- عربية، عربية- إسرائيلية، عربيّة- إيرانية، إسرائيلية- إيرانية”.
ارتدت هذه النزاعات طابعا دوليا، خصوصا في ظلّ الوجودين الروسي والأميركي في سوريا. هذا ما أشار إليه غير مشارك في الندوات المختلفة التي استضافتها سرايا بكفيا، وهي ندوات كان محورها ما العمل في مواجهة التهديدات التي تواجه الكيانات القائمة وحال الانحلال التي تعاني منها.
لعلّ الندوات الأهمّ في مؤتمر “الأمن في خضم الانحلال” الذي شاركت في تنظيمه “مؤسسة كونراد اديناور” وجامعة تافت الأميركية وجامعة كيبيك الكندية وبلدية بكفيا- المحيدثة، تلك التي تناولت أبعاد التدخل الإيراني في المنطقة. هل يمكن التعايش بين مؤسسات الدولة وميليشيات مذهبية تستخدمها إيران في عدد لا بأس به من دول المنطقة، في العراق وسوريا ولبنان واليمن، على سبيل المثال وليس الحصر…
كان لبنان منطلقا للمشروع التوسّعي الإيراني القائم على إيجاد ميليشيا مذهبية تعمل في موازاة مؤسسات الدولة. استفادت إيران من تجربة “حزب الله” في لبنان لتعممها في المنطقة. ما لم يشر إليه المشاركون في الندوات أن “داعش” الذي تحرّك في سوريا والعراق ابتداء من العام 2014، لم يكن التنظيم الوحيد الذي تجاهل الحدود بين الدول. كان تدخل “حزب الله” في سوريا ابتداء من العام 2011 مباشرة بعد اندلاع الثورة الشعبية فيها، دليلا على تقديم الرابط المذهبي على كلّ ما عداه، بما في ذلك سيادة الدولة على أرضها.
هناك بكل بساطة إطار جديد للنزاعات الدائرة في كل دولة من دول الشرق الأوسط وفي المنطقة كلّها. هذا الإطار هو الثنائية بين الدولة والميليشيا. كان الناطق السابق باسم الحكومة العراقية علي الدباغ في غاية الوضوح لدى تشريحه الوضع في بلده في ضوء نتائج الانتخابات التي أجريت في الثاني عشر من أيار- مايو الجاري.
شرح خطورة ما تشكله الميليشيات الموالية لإيران والمنضوية تحت تسمية “الحشد الشعبي”. قال الدبّاغ في سياق مداخلة له تطرّق فيها إلى التحدي الكبير الذي خلقه وجود مجموعات الحشد الشعبي”، إن “المشكلة الكبرى تكمن في كيفية صهر هذا الوجود المؤدلج الذي يعود في مرجعيته السياسية إلى إيران (…) والممانعة الكبيرة في تذويبه في مؤسسات الـدولة بعد قرار دمجه بالقوات الحكومية”. لاحظ أيضا “أن ما تبقى من هذا الحشد تحول إلى مجموعة ميليشيات دخلت التنافس السياسي وأصبح لها وجود في صنع القرار”.
لم يخف الخوف من نشوء “ثنائية” تتألف من “الحشد والدولة”. خلص إلى أن “هذا هو التحدّي الأكبر الذي سيواجه الحكومة القادمة والتي إن نجحت سيكون العراق قد عبر أزمة الوجود والهوية إلى الهوية الجامعة، وإذا فشلت سترسّخ الانقسام القائم الذي صاحب الوضع السياسي الجديد”. إلى جانب مداخلة الدبّاغ، كان راسل برمان الأستاذ في جامعة ستانفورد، وهي من أهمّ الجامعات في الولايات المتحدة، في غاية الدقّة عندما عرض نوعا جديدا من التحديات التي تلعب دورها في تغيير طبيعة الكيانات القائمة في الشرق الأوسط. أشار إلى خطورة العبارة التي وردت في خطاب لبشار الأسد في تموز – يوليو من العام 2015. قال بشار وقتذاك “سوريا ليست لمن يسكن فيها أو يحمل جنسيتها، بل لمن يدافع عنها ويحميها”.
أعطى بذلك إشارة الانطلاق لعملية تطهير ذات طابع عرقي، أو مذهبي. بالنسبة إلى برمان “لم تعد من حاجة إلى الذهاب إلى أبعد للتحقق من مدى الانحلال الذي تشهده سوريا”. ما لم يقله أنه صار هناك بلد لا يعترف فيه رئيس النظام بالمواطن حامل الجنسية. صار بشّار يقرر بنفسه من يجب أن يكون خارج سوريا ومن يستطيع البقاء فيها. من السوري ومن غير السوري.
نعم، هناك انتقال من السيء إلى الأسوأ. يمكن اختصار الوضع في الشرق الأوسط بأنّ اليوم الذي نعيش فيه أفضل من يوم غد…ويوم غد سيكون أفضل من اليوم الذي سيليه. هـذه حال الإقليم منذ بدأت الميليشيات المذهبية التابعة لإيران تحل مكان مؤسسات الـدولة. ما الذي سيحدث في السنة التي لا تزال تفصل عن المؤتمر المقبل لـ“بيت المستقبل”؟ ماذا بعد الانحلال؟ ماذا إذا أصرّت إيران على البقاء عسكريا في سوريا؟ ماذا إذا لم تفهم إيران معنى إعلان دونالد ترامب الانسحاب من الاتفـاق في شـأن ملفّها النووي؟ ماذا إذا لم يقرأ المسؤولون الإيرانيون بتمعّن النص الكامل للخطاب الذي ألقاه وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو والذي ضمّنه الشروط الـ12 التي يتوجب على النظام الإيراني تنفيذها في حال أراد العودة مجددا إلى المجتمع الدولي؟
الجواب عن كل هذه التساؤلات في غاية البساطة. عندما ينعقد مؤتمر 2019 لـ“بيت المستقبل”، ستبدو كلمة انحلال أقرب إلى مزحة، لا لشيء سوى لأن إيران لا تستطيع أن تكون دولة طبيعية من دول المنطقة. علّة وجود نظامها قائمة على أنها دولة غير طبيعية. سيدافع النظام عن نفسه حتّى آخر لبناني وسوري وفلسطيني وعراقي ويمني… قبل أن يدرك أن الميليشيات المذهبية تستطيع تدمير المنطقة العربية والكيانات القائمة فيها، لكنّها لا تستطيع أن تبني أيّ مؤسسة ناجحة في دولة ناجحة تضع نفسها في خدمة مواطنيها. وهذا ينطبق على إيران قبل غيرها.
إلى أي مدى يمكن الرهان على الخلافات الروسية الإيرانية في سوريا للوصول إلى تسوية سياسية حاسمة للأزمة هناك؟
الدعوة التي أطلقها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قبل أسبوعين بضرورة خروج القوات الأجنبية من سوريا، مثلت في نظر المراقبين انعطافة محتملة في التحالف الوثيق بين البلدين، الذي يرد له الفضل في حماية نظام بشار الأسد من السقوط.
لم يذكر بوتين صراحة إيران في دعوته، لكن مبعوثه لسوريا الكسندر لافرينتييف صرح في وقت لاحق بأن الانسحاب المطلوب يشمل إيران أيضاً.
النظام السوري المرهون للتحالف الإيراني الروسي، تبنى تفسيراً مغايراً لتصريحات بوتين وقال متحدث باسمه إن انسحاب أو بقاء القوات الأجنبية الموجودة بإذن من الحكومة السورية، هو شأن يخص دمشق وغير مطروح للنقاش.
كان واضحاً منذ بداية الأزمة في سوريا أن تحالف روسيا مع إيران، هو تعاون فرضته الوقائع الميدانية، ولم يكن خياراً لأي من الطرفين. بمعنى آخر كان تحالفاً إجبارياً اقتضته مصالح متباينة القاسم المشترك الوحيد لها الجغرافيا السورية بما تعنيه للجانبين في حسابات النفوذ والمصالح.
في لقاءات كثيرة جمعت بوتين بقادة عرب، كان يمكن التقاط إشارات كثيرة على تبرم الروس من دور إيران في سوريا، وسلوكها الطائفي في مناطق سيطرتها، وتحفظات كبيرة على نوايا الميليشيات الطائفية المرتبطة والممولة من طهران.
ويؤكد سياسيون على صلة وثيقة بمحادثات أستانة أن خلافات طهران وموسكو حول مناطق خفض التصعيد، ووقف إطلاق النار، كانت ظاهرة للمراقبين هناك.
عندما أجرى الأردن مباحثات مكثفة مع الجانبين الروسي والأميركي لإقامة منطقة خفض التصعيد في الجنوب السوري، ومركز لمراقبة إطلاق النار في عمان، لم تمانع روسيا في القبول بالشروط الأردنية والأميركية القاضية بإبعاد الميليشيات الإيرانية مسافة كافية عن الحدود مع الأردن، والتزام موسكو بمنع هذه الميليشيات مستقبلاً من التمركز قرب الحدود في حال تم التوصل لتفاهم على انسحاب قوات المعارضة وعودة السيطرة السورية على المعابر الحدودية مع الأردن.
طهران لم تكن معنية أبداً باحتواء قدرتها ونشاطها في كثير من المناطق السورية، وكانت ولا تزال تسعى لكسب المزيد من النفوذ في مختلف المواقع، لتعزيز وجودها في سوريا، وفرض أمر واقع يستحيل معه التفكير بتغيير المعادلة السياسية في البلاد.
وكان الاختبار الأهم للتحالف الروسي الإيراني مع دخول إسرائيل على خط العمليات العسكرية في سوريا.
لقد استثمرت إيران نفوذها على الأرض وبالحماية الروسية في السماء السورية، لتطوير مواقع عسكرية متقدمة، تؤهلها للاحتكاك بإسرائيل من موقع القوة. لم تكن إسرائيل لتسمح بمثل هذا التغيير في معادلة القوة، فشرعت في شن سلسلة من الهجمات المدمرة على القواعد الإيرانية ومخازن السلاح ووحدات الحرس الثوري.
لم تتدخل روسيا على الإطلاق، واكتفت راداراتها بالفرجة على الصواريخ الإسرائيلية وهي تعبر الأجواء السورية وتضرب المراكز الإيرانية.
وتذهب أغلب الروايات إلى تأكيد القول بأن موسكو كانت على علم مسبق بكل طلعة جوية للمقاتلات الإسرائيلية.
على المستوى السياسي، لم تكن إيران معنية أبداً بتقدم مفاوضات الحل السياسي في جنيف، وطالما عملت على إفشالها. روسيا فعلت الشيء ذاته في جولات كثيرة، لكنها كانت على قناعة بأن دوام الحال في سوريا غير ممكن لفترة طويلة، ولا بد من العمل على حل سياسي، يضمن مصالحها على المدى البعيد.. حل بوجود الأسد أو من دونه.
لروسيا مروحة واسعة من المصالح في الشرق الأوسط، وهي جزء غير قليل من حزمة قضايا دولية عالقة مع واشنطن والدول الغربية، ولا يمكنها التشبث بسوريا دون تصور أشمل لعلاقتها المعقدة مع العالم الغربي.
وروسيا ليست في وضع اقتصادي يسمح لها بالمناورة على جميع الجبهات لفترة طويلة. ينبغي عليها التفكير في تفكيك الأزمات والتخلص من الضغوط للتفرغ لتحديات أكبر تنتظرها مع توجه إدارة ترمب لإطلاق موجة جديدة من سباق التسلح، ودخول ميدان المنافسة القوية مع الصين.
في هذا السياق يمكن قراءة استدعاء بوتين للرئيس السوري منفرداً إلى سوتشي مؤخراً، والطلب منه تسمية وفده لتشكيلة اللجنة المقرر لها أن تناقش تعديلات الدستور السوري ضمن تفاهمات جنيف.
انصاع الأسد لطلب بوتين، وأعلن تسمية ممثليه تمهيداً لبدء جولة من المناقشات.
لا تبدو إيران مرتاحة أبداً لهذه التطورات، وتعمل خلف الكواليس لإفشالها، لأن أي تقدم على مسار الحل السياسي في سوريا، يعني بداية النهاية لنفوذها هناك.
لكن التباين في أجندة الطرفين حيال مستقبل سوريا، لم يبلغ مرحلة الصدام بعد، وهو ليس مرشحاً لبلوغها في الوقت الحالي.
روسيا تعلم بنوايا طهران، ورغبتها الجامحة في تعطيل مسارات الحل السياسي، لكن في المقابل لا تأمن القيادة الروسية بعد الجانب الأميركي، ولا تعرف حدود دوره في مستقبل سوريا، وتخشى أن يكون حاصل التضحية بالحليف الإيراني يصب في حساب واشنطن دون أن تنال شيئاً في المقابل.
على المدى المتوسط ستعمل موسكو على احتواء النفوذ السياسي لإيران في سوريا، فالأخيرة تخطط للاندفاع بشكل أكبر على كل الجبهات رداً على قرار ترمب الانسحاب من الاتفاق النووي وتحسباً لعقوبات غير مسبوقة تنتظرها. روسيا ورغم موقفها المعارض لقرار ترمب، فإنها غير معنية أبداً بتحويل سوريا لورقة مساومة في يد طهران.
ثمة اعتقاد لدى باحثين مختصين بالشؤون الدولية بأن البلدين روسيا وإيران سيستغلان بعضهما البعض بأكبر قدر ممكن ولأطول فترة ممكنة، إلى أن تحين لحظة الطلاق في سوريا، وهي مؤجلة لزمن غير معلوم.
ثمة تطوران لا بد من التوقف عندهما، فيما يتعلق بموقف نظام الأسد من الوضع في الجنوب السوري. التطور الأول قيام نظام الأسد بتحشيد قواته وقوات حلفائه على نقاط التماس، بين المناطق التي يسيطر عليها والمناطق الخارجة عن سيطرته في الجنوب السوري، وخاصة على طول الخط الدولي الذي يصل بين دمشق ودرعا. والتطور الثاني، إطلاق تصريحات من أركان النظام بعزمهم التوجه نحو الجنوب لـ«تحريره من الإرهابيين»، واستعادة سلطة «الدولة» عليه.
وللحق، فإنه لا يمكن فصل التطورين السابقين عن التطورات الميدانية والسياسية الجارية في بقية المناطق، والتي كان أبرزها تقاسم السيطرة في المناطق الأخرى، حيث النظام أحكم سيطرته على منطقة القلب، الممتدة من السويداء جنوباً إلى دمشق وحمص وحماة وطرطوس واللاذقية، مع تعرج خاص يصلها بمدينة حلب متجاوزاً إدلب. ورغم أن النظام هو الحلقة الأضعف في تحالف ثلاثي يجمعه مع إيران وروسيا، فإن الأهداف العامة لهذا الحلف، وقدراته العسكرية المشتركة، تجعله الأبرز في قوى تقاسم السيطرة في سوريا.
القسم الثاني من السيطرة، هو سيطرة تركيا على الشمال الغربي، التي تشمل بصورة أساسية مناطق حملة «درع الفرات»، وتتمركز في منبج، وتمتد في أنحاء من محيط حلب، وصولاً إلى مناطق عملية «غصن الزيتون» التي اتخذت من عفرين قلباً لها، بل إن إدلب وجوارها، ليست أكثر من منطقة نفوذ تركي، بحكم سيطرة قوى سورية مسلحة هناك، يرتبط أغلبها بعلاقات وثيقة مع تركيا، وحتى المختلفين مع الأخيرة يسعون إلى تجنب معركة حاسمة معها. وقد عززت تركيا سيطرتها في المنطقة، ليس بتحالفها في إطار آستانة مع روسيا وإيران فقط؛ بل أضافت إليه مؤخراً اتفاقاً تم التوصل إليه في أنقرة مع الولايات المتحدة، حول استراتيجية مشتركة، تطمئن تركيا على مناطق سيطرة «قوات سوريا الديمقراطية»، حليفة واشنطن، والخصم الرئيس لتركيا في الشمال.
القسم الثالث من تقاسم السيطرة في سوريا، واقع تحت السيطرة الأميركية، شاملاً الجزيرة السورية، وخاصة الرقة، حيث تنتشر «قوات سوريا الديمقراطية»، التي يقودها حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي بدعم أميركي ظاهر. ولا تمثل خروقات النظام في المنطقة، على نحو ما هو عليه وجوده في الحسكة، أهمية تخفف من حقيقة السيطرة الأميركية، والحال في هذا تنطبق على أي وجود آخر جنوب نهر الفرات.
وسط تركيز تقاسم السيطرة في المناطق الثلاث، تبدو منطقة الجنوب الأقل تركيزاً؛ لكنها الأكثر تعقيداً. ففي الخط الواصل بين دمشق ودرعا، وفي بعض انفراجاته، يسيطر نظام الأسد وحلفاؤه من الإيرانيين وميليشيات «حزب الله» الراغبين في التمدد بالمنطقة، على أمل السيطرة الكلية عليها، فيما تنتشر في بقية الأرجاء تنظيمات المعارضة المسلحة الوثيقة العلاقة مع الأردن، إضافة إلى جيوب لجماعات التطرف والإرهاب من «داعش» و«النصرة» وأتباعهما، يعاديها الجميع علانية، ويدعمها الحلف الإيراني الروسي مع نظام الأسد ضمناً، ويستخدمها في تكتيكاته السياسية والميدانية.
وباستثناء تداخل السيطرة في الجنوب السوري بين النظام والمعارضة، فإن الجنوب موضع تقاسم سيطرة سياسية لهاتين القوتين مع قوى أخرى، أبرزها الولايات المتحدة وإسرائيل، من خلال نفوذهما وقدراتهما السياسية والعسكرية، وعلاقتهما المعقدة بالنظام والمعارضة من جهة، ومن جهة أخرى علاقتهما مع الطرف الأردني الذي يسعى لضمان مصالحه للاتفاق والتوافق مع كافة الأطراف بما فيها الروس، والتي أثمرت في إحدى نتائجها إلى وضع الجنوب السوري ضمن ترتيبات مناطق خفض التصعيد، التي يتمسك بها الأردن ليتجنب من خلالها أضرار أي حرب يشهدها الجنوب.
وسط تلك اللوحة المعقدة المحيطة بالجنوب، فإن مساعي النظام لاستعادة سيطرته على الجنوب تواجه باعتراضات من مختلف الأطراف، ولا سيما إسرائيل التي لا تعارض عودة قوات الأسد؛ لكنها ترى أن العودة سوف تعطي إيران و«حزب الله» فرصة اقتراب أكثر من خط وقف إطلاق النار على جبهة الجولان، وهو أمر تعارضه واشنطن، ليس من الناحية السياسية فقط؛ بل وصولاً إلى استخدام القوة أيضاً، الأمر الذي يمكن أن يؤدي إلى حرب تحاول إيران ونظام الأسد تجنبها، فيما يسعى الروس إلى عدم حصولها أصلاً.
الجنوب السوري على ما في وضعه من تعقيدات وتشابكات، حالة مؤجلة في حسم تقاسم السيطرة. ولأن الوضع على ما هو عليه، فإن الجنوب يفتح على بوابة مختلفة أساسها اتفاق وتوافق بين الأطراف المختلفة، وهو أمر إذا حدث في سياق حل تعقيدات وضع الجنوب، فإنه يمكن أن يكون بوابة في حل للقضية السورية، قبل أن يمتد من الجنوب إلى المناطق الأخرى، وما لم يحصل ذلك، فإن الوضع القائم سوف يستمر في الجنوب في المدى المنظور، وتستمر معه التعقيدات والتحديات، وبينها احتمالات الصراع العسكري وربما الحرب الشاملة.
اكتسب موقف واشنطن تجاه طهران وضوحاً أكبر من خلال التصريح الصادر عن وزير الخارجية الأمريكي "مايك بومبيو"، إذ قال: "سيتم تطبيق عقوبات لم تشهدها الحكومة الإيرانية على مدى تاريخها"، وبذلك يتوضّح أن المسألة بالنسبة إلى أمريكا لا تقتصر على الاتفاق النووي فقط، ويمكننا رؤية إصرار الأخيرة على وضع إيران في لوحة الأهداف، ولذلك تضع مسألة الاتفاق النووي مبرراً لخطتها الرئيسة، وبالتالي يتم فرض شروط صعبة جداً على إيران، وبطبيعة الحال لن توافق الأخيرة على هذه الشروط مما سيتيح المجال أمام واشنطن لزيادة الضغط على طهران بحجة أنها لا تلتزم بشروط الاتفاق النووي.
كان الاتفاق النووي الذي وضعه الرئيس الأمريكي السابق "باراك أوباما" عائقاً كبيراً أمام إيران، لأن الأخيرة لن تستطيع امتلاك السلاح النووي مع استمرار هذا الاتفاق، وقد كانت مدة صلاحية هذا الاتفاق تتمثّل في خمسة سنوات، لكن كانت هذه الشروط عبارة عن محاولة اكتساب المزيد من الوقت، أي إن إيران لن تستطيع صناعة السلاح النووي حتى بعد 15 عاماً، لكن يبدو أن الرئيس الحالي "ترامب" يرى هذه المسألة بمنظور مختلف عن نظيره السابق.
يبدو أن موقف إيران تجاه الاتفاق النووي يستند إلى أسباب بسيطة أكثر مثل العداوة الإيرانية-الأمريكية في عهد أوباما، لكن نظراً إلى الإشارات التي يتم توجيهها لإيران من قبل أمريكا يمكننا رؤية أن الأخيرة لا تعطي اهتماماً كبيراً لهذا الاتفاق، إذ تحدّث بومبيو عن تغيير نظام الحكم في إيران، في حين أن إيران كانت تؤمن بأنها ستحصل على بعض الراحة من خلال هذا الاتفاق حتى وإن لم تستطع صناعة السلاح النووي، كان إيران بعيدةً جداً عن مجال التطوير الباليستي، ولذلك حاولت أن تحافظ على تقدّمها المكاسب الاقتصادية والعسكرية التي حققتها في الشرق الأوسط، وبذلك نلاحظ أن المسألة لا تقتصر على السلاح النووي بالنسبة إلى إيران أيضاً، لكن لم يكن هذا الاتفاق كافياً لحصول إيران على بعض الراحة، لأنها لم تتمكّن من تأسيس أجواء أمان على الرغم من جميع محاولاتها في هذا الصدد.
كانت بعض الدول الأوروبية تنوي للاستثمار في إيران، ولكنها لم تجرؤ على الدخول إلى السوق الإيراني بسبب هذه المشاكل الأمنية، وكانت الأخيرة تتوّقع انتهاء هذه المشكلة مع مرور الوقت، ولكن ازداد هذا الاحتمال ضعفاً منذ قدوم ترامب إلى السلطة، والآن أصبح هذا الاحتمال أمراً مستحيلاً، ولذلك فإن الدول الأوروبية لن توافق على انسحاب أمريكا من الاتفاق النووي، وكذلك لن تلجأ للتعاون مع إيران بما يخالف مصالح أمريكا، ولذلك ستضطر الدول الأوروبية للانتظار إلى أن يتم إيجاد حل لهذه الأزمة.
ستسعى إيران لاستغلال هذه النقطة، وتحاول دفع الدول الأوروبية للتدخّل في المسألة، إذ لا يمكنها اكتساب المزيد من الوقت سوى بهذه الطريقة، مع التذكير بأنها لا تستطيع اكتساب شي آخر سوى الوقت بهذا الأسلوب، وفي هذا السياق ستقدّم إدارة ترامب اتفاقاً أكثر صعوبةً من سابقه لإيران، ورأينا أن المسألة لا تتعلق بالصناعة النووية، لذلك ستحاول إيران تحديد إطار هذا الاتفاق حول مسألة السلاح النووي فقط، ويبدو أن الأخيرة قد تخلّت عن فكرة السلاح النووي بسبب العقوبات المفروضة عليها، وركّزت اهتمامها على مكاسبها في الشرق الأوسط فقط، وستوافق على جميع الشروط المقدّمة لها من أجل الحفاظ على هذه المكاسب.
يبدو أن أمريكا تهدف لشيء آخر من خلال هذه الخطوات، لكن لا أعتقد أنها تملك خطة استراتيجية واضحة من أجل الوصول لغايتها، على سبيل المثال إلى أي درجة ستحاول دفع إيران للتراجع؟ ما هي المناطق التي تشمل هذه الخطة؟ اليمن؟ أم سوريا؟ أم العراق؟ أم جميعها معاً؟ ما هي القوى التي ستتحالف معها في هذا الصدد؟ يبدو أن أمريكا لم تجر حسابات كافية فيما يخص هذه المسألة.
ستستمر تغيّرات السياسة اليومية في تغيير موقف إدارة ترامب، وعلى الرغم من رغبة إسرائيل في رؤية سوريا ولبنان ضمن أحداث هذه المسألة إلا أن تركيز أمريكا سيكون حول ضم العراق أولاً لهذه الخطة، لأن الانتخابات العراقية المقبلة اكتسبت واقعيةً أكبر خلال الفترة الأخيرة، ونشأ احتمال تأسيس تحالف جديد معارض لإيران، مما دفع أمريكا للتدخّل والبدء في إجراء المفاوضات، لذلك يبدو أن الحكومة العراقية الجديدة ستكون أكثر تقارباً مع واشنطن من السابق، وبذلك قد يميل مركز الصراع السياسي العالمي نحو العراق، لكن يبدو أن سوريا ستبقى مركزاً للصراع العسكري العالمي في الفترة الحالية، إذ تستمر الحرب الداخلية في سوريا، وطبيعة الظروف السورية في الوضع الحالي مناسبة جداً لفتح مجال القضاء على إيران أمام أمريكا من خلال حروب الوكالة، لكن لا يمكن لأمريكا تحقيق ذلك بالتعاون مع حزب الاتحاد الديمقراطي، ويتوجّب على واشنطن التوجّه للتعاون مع مجموعات المعارضة السورية للوصول إلى هذه الغاية.
حتى الآن، لم تبد طهران أي استجابة للعروض الإسرائيلية بالمباشرة في حربٍ مع تل أبيب في سورية. الغارات صارت شبه يومية، والأهداف تنوعت بين مطارات ومخازن أسلحة ومواكب، والأميركيون بدورهم اشتركوا ببعض الغارات.
والحال أن عدم استجابة طهران لعروض الحرب ينطوي على قدر من السياسة، ذاك أن قراءة للمشهد ستفضي بصاحب القرار في طهران، إذا ما كان واقعياً، إلى أن الانكفاء أجدى، وأن موازين القوى في هذه الحرب ليست إلى جانبه بأي حالٍ من الأحوال، والاكتفاء بوعود الأمين العام لـ «حزب الله» حسن نصرالله بردود غير متوقعة هو الصيغة الأكثر ملاءمة للواقع الإيراني اليوم.
لن يكون أحد إلى جانب طهران إذا بدأت الحرب. موسكو نفسها ستكون على الحياد، والجيش السوري عبء وليس سنداً. الميليشيات الشيعية، باستثناء «حزب الله»، لا تصلح لحربٍ من هذا النوع وستكون مجرد هدف للغارات، فيما ستكون واشنطن إلى جانب تل أبيب، وجهود التهدئة الأوروبية ستبدأ في الأسبوع الثالث، أي بعد أن تكون الحرب قد أرست معادلات ميدانية. خصوم طهران من كل حدب وصوب سينتظرون جلاء النتائج.
لكن، في ظل معادلة اليوم، على المرء أن يراقب المشهد وأن يحار مما سيفضي إليه! فما يجري ميدانياً هو حرب غير معلنة. الغارات اليومية التي تصلنا أخبارها ليست سوى حرب لا يرغب أطرافها في توريط أنفسهم بإعلانها. وما لا يصلنا أخبار عنه مما يجري في الميدان ربما كان أكبر. من يدري، طالما أن إسرائيل لا تعلن وطهران قالت إن لا وجود لها في سورية.
شرط الحرب هو أن يُعلن عنها، وهذا ما يبدو أن طهران وتل أبيب تتفاديانه حتى الآن. الحرب بصفتها حدثاً سياسياً، لا عسكرياً، تقتضي أن يُكشف عن وقائعها لكي تتحول سياسة ومفاوضة ومعطياتٍ ميدانية. أن تنفذ إسرائيل غارة وأن تدمر قاعدة للحرس الثوري الإيراني، فلا قيمة غير ميدانية لما جرى طالما أن طهران، وبالتواطؤ مع تل أبيب، لا ترغب في أن تبني على الشيء مقتضاه. لن يطول الوقت حتى تنقضي هذه المعادلة، فهذا الاختناق لن يولد نتائج لا شك أن تل أبيب تسعى إليها. الحرب غير المعلنة لا تنجم عنها نتائج. الخسائر السرية تحمي من يتكبدها من تبعات الهزيمة الفعلية. وهذه لعبة تجيدها طهران، وتل أبيب من جهتها لا تمانع حتى الآن طالما أن الهدف ما زال منع طهران من تثبيت قواعد لها في الجنوب السوري.
وعند هذا المستوى من الاختناق، ستسعى طهران إلى مزيد من البراغماتية الميدانية، وهي تجيد ذلك كثيراً. الأرجح أن تنفذ «انكفاءات» ميدانية وأن تفسح في المجال لدور روسي أكبر على الأرض في سورية، وثمة معلومات غير موثقة عن انسحابات بدأت تنفذها الميليشيات الشيعية من الجنوب السوري. وهذه المعلومات، إن صحت، لا معنى لها سوى أن طهران تقول إنها لا تريد الحرب.
لكن، من المرجح أيضاً أن ذلك لا يكفي في عرف تل أبيب. فالتورط الإيراني في سورية لا يمكن حجبه بسحب بعض الفصائل العراقية. وانسحابات فعلية للميليشيات المرعية من إيران تعني أن النظام المحمي من هذه الميليشيات فقد ظهيره الرئيسي وسيلتقط خصومه أنفاساً تعيد عقارب الساعة إلى الوراء. موسكو من جهتها، لا يبدو أنها في موقع إدارة مفاوضات لتفادي الحرب. الأرجح أنها أضعف من أن تشكل ضمانة لأي اتفاق، ولهذا هي في موقع المنتظر. وأن تتعرض طهران لضربة في سورية، فهذا ما يرشح فلاديمير بوتين لأن يملأ الفراغ، وهو ما يدفع إلى الاعتقاد بأن موسكو لا ترغب في ردع أحدٍ.
حظوظ حرب إسرائيلية إيرانية في سورية ما زالت أرجح من حظوظ نجاح المساعي لتفاديها. علماً أن المساعي تقتصر حتى الآن على خطوات انكفائية تنفذها طهران، ولا يبدو أن تل أبيب تشعر بأنها مقنعة.
أخذتنا الأحداث، وكثرة الأطراف الضالعة في الحرب على أرض سورية، بعيدًا عن واقعنا الذي ما زال يتدهور في حالةٍ مريعةٍ، حتى لم يعد في الإمكان رؤية أفق في مدى هذه الحرب المفتوحة على كل الاحتمالات، وصرنا نلهث خلف الخبر، وصرنا أسرى الفضائيات وأسرى الصور والمشاهد فائقة المكر. بل فتحت شبكة الإنترنت والمواقع المتنوعة المجال أمام الجميع، ومن دون قيود، لوضع ما يريدون على الإنترنت، ليكون متاحاً للعالم رؤيته، فجرفنا هذا الضخ المتدفق كالشلال إلى دوامةٍ زادت في ضياعنا وغربتنا عن واقعنا. صارت أنظارنا ترنو إلى انعكاس وهج النار في محيطنا، علّ يلوح في الأفق من يمدّ خراطيم المياه لإطفائها، ولا نحاول إنقاذ أنفسنا، أو مدّ يد العون إلى إخوتنا. بينما نحن نحترق بالفعل في أتونها، بل المحزن والمخزي أننا نتشفى بموت بعضنا بعضا.
لكن بالفعل لم يعد أمام السوريين من خياراتٍ كثيرة، فمن يتابع الأحداث وتسارعها يستنتج أن الترتيبات المتوقعة أو المرجوة تديرها لعبة الأمم الضالعة في صنع مصيرنا، وفي صنع مصير العالم أيضًا. نحن رهن هذه اللعبة، وكان من الواجب على من احتكروا الحراك الشعبي السوري، ونصبوا أنفسهم بدعم من جهاتٍ دوليةٍ وإقليميةٍ أن يفهموا هذه اللعبة، وأن يعرفوا كيف يحرّكون مجاذيف الزورق الذي حملوا فيه كل السوريين، في مغامرةٍ غير محسوبة النتائج، ولم يكن كسفينة نوح.
ردا على سؤال الإعلامية ميسون ملحم، في قناة دويتشه فيليه، ما إذا كانت سياسة الأوروبيين تجاه إيران تتعارض مع مصالحهم مع العالم العربي، خصوصا مع دول الخليج التي تعتبر شريكاً تجارياً مهماً لهم، قال رئيس قسم العلاقات عبر الأطلسي في الجمعية الألمانية للسياسات الخارجية، هيننغ ريكه، "إن الأوروبيين ينتهجون مع إيران سياسة على مسارين في الوقت نفسه، فمن ناحيةٍ، هم أعلنوا عن دعمهم الاتفاق النووي، ومن المفترض أن يحاولوا التعويض لإيران عن بعض الخسارات التي ستلحق بها. ومن ناحية أخرى، سيحاولون دفع إيران إلى مفاوضاتٍ تتعلق ببرنامج الصواريخ وبتدخلها في سورية وفي اليمن، حيث تدعم جماعات شيعية مسلحة منخرطة في النزاع المسلح. طبعاً مفاوضات كهذه لا يمكن أن تتم مع إيران وحدها، وإنما مع أطرافٍ أخرى، مثل السعودية أيضاً، ومن خلال مؤتمر سلام إقليمي".
هل يمكن للسوريين الذين شتتتهم الحرب، وشرّدتهم، ومزقت نسيجهم الاجتماعي، ودقت أسافين الفرقة والتقسيم فيما بينهم، أن يحلموا بسلام بناءً على احتمال مؤتمر إقليمي للسلام، كما يقول الباحث؟ عاش السوريون عقودًا تحت خيمة شعار "الأرض مقابل السلام"، ودفعوا فواتير حرب مرصودة في القادم من الأيام، كانت دائمًا تختبئ خلف أبوابهم، وتجعلهم أسرى التهديد الوجودي الكبير، العدو الصهيوني. ومنذ النكبة، أي منذ سبعين عامًا، وإسرائيل تزداد تغولاً في حياة الشعب الفلسطيني، والأرض والحقوق تنتهكان، ولم يأت السلام. وتسعى إسرائيل في طريق ترسيخ وجودها، وتمكين نفسها دولةً قويةً متطورةً راسخةً ضاربةً بكل القرارات الدولية والوثائق والمعاهدات والاتفاقيات عرض الحائط. وصار الموقف المعلن من إسرائيل، ومن القضية الفلسطينية، هو ما يفرز الدول والأنظمة من حولنا إلى صديق أو عدو، بينما تعمل تلك الدول والأنظمة على ضبط سياساتها وفق مصالحها، ومن يقرأ سياسات إيران وتركيا على الأقل خلال العقود الماضية سيرى ما يؤكد هذه الوقائع.
ومنذ قدوم ترامب إلى سدة الرئاسة، تتضاءل فرص التوصل إلى سلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين، هذا الرجل السافر حدّ الذهول، فماذا فعل العرب، أو فعلت تركيا وإيران أمام قراره نقل سفارة بلاده لدى إسرائيل، وبمباركة دول عربية "شقيقة"، كما أوهمتنا الإيديولوجيا القومية، القرار الذي لم ينتظر طويلاً حتى ينفذه بالفعل، فهو رجلٌ نافد الصبر على ما يبدو، لا يعرف الانتظار كثيرًا، أو ربما هو يعرف تمام المعرفة حجم بلاده، وثقلها وسطوتها على العالم. وبالتالي يفعل ما يريد، لأنه يعرف أيضًا أن كل فعل منه سوف يربك العالم بأسره، وحلفاءه قبل أعدائه أو خصومه. بل ماذا يفعل العرب إزاء موت الفلسطينيين المحاصرين في غزة منذ سنوات طويلة؟ ما يُحكى عن حل تسعى مصر إلى تطبيقه مع الولايات المتحدة من إلحاق غزة اقتصاديًا بمصر عن طريق رفح، وإقامة مطارات في العريش، أمر مؤلم وفاجع، باعتبار أن في دور كهذا ما فيه من نسيان لجرائم إسرائيل، ورفع المسؤولية عنها مع الزمن، يمكن أن تلعبه مصر.
ليس فقط تمييع القضية الفلسطينية والاستهتار بحقوق الشعب الفلسطيني ونسف المسار الذي اتفقت القوى الفاعلة سابقًا حول تطبيقه يقوم على أساس الدولتين، ونسف السلام المرجو، بل إن نسف الاتفاق النووي مع إيران الذي وقعته الولايات المتحدة والدول الشريكة في يوليو/ تموز 2015، من دون إقامة اعتبارٍ إلى الشركاء الآخرين سوف نحصد نتائجه المريعة هنا، في سورية وفي المناطق الأخرى التي تشتعل فيها الحروب على شعوبنا، منذ رفعت الصوت تريد الحرية، خصوصا بعد تحذيرات وزير الخارجية الأميركية، مايك بومبيو، ومطالبته إيران بتنفيذ بنود اثني عشرية.
يقول الباحث في الحوار نفسه: "ما تزال الولايات المتحدة الشريك الأقرب والأهم بالنسبة للاتحاد الأوروبي. إنه أمر يتعلق بالارتباط الكبير في مجال الدفاع المشترك من خلال حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وبالعلاقات الاقتصادية القوية بين الطرفين. يجب أن لا ننسى أن الولايات المتحدة الأميركية مع كندا والاتحاد الأوروبي تشكل أقوى حلفين، عسكري واقتصادي، في العالم. إضافة إلى ذلك، تجمع الطرفين قيم مشتركة كثيرة فيما يخص الديمقراطية وحقوق الإنسان". فحتى لو بدا، كانطباع أولي عن المشهد الحالي، أن الأوروبيين على خلاف مع الولايات المتحدة، وأنهم يرغبون في إنقاذ الاتفاق النووي، عن طريق التعاون مع أطراف أخرى، كالصين وروسيا، إلا أن مصلحة الغرب، في النهاية، هي مع حلفائها الأهم، وفي مقدمتهم الولايات المتحدة، حتى لو أبدوا ما أبدوا من مواقف ضد إلغاء الاتفاق النووي، فهم في الواقع ليسوا في موقعٍ يملك من القوة ما يجعلهم فاعلين أساسيين، أقله على المدى المنظور. فأمام الاتحاد الأوروبي مسؤولياتٌ تجاه المنطقة، ولديهم ما يكفيهم من الاستحقاقات التي باتت نقطة خلافٍ في السياسات الداخلية لدى بلدانٍ عديدة، تبدو مشكلة اللاجئين في صدارتها، تُدخلها في مساومةٍ حولها عن طريق الدفع في تكاليف إعادة إعمار سورية.
لو ينظر السوريون بتمعنٍ ونياتٍ متحرّرة من عصبيات ما أحدثته الحرب في واقعهم، لكانت الحقيقة صادمةً إلى درجة أن من غير المحتمل بقاءهم مرتهنين للخارج، على الأقل في نظرتهم إلى ما يجري في بلادهم، وأن ما يبدو انتصارا لطرف، وهزيمة لآخر، ما هو إلاّ نتيجة كارثية لصراع القوى الدولية والإقليمية فوق أرضهم، دفعوا ثمنه، وهو نكبة سورية كلها. لم يبقَ جيش نظامي، أو قوات غير نظامية، أو مليشيا تابعة، إلاّ ولها موطئ قدم وزناد على الأرض السورية. لأميركا أماكن نفوذ مع حلفائها على مساحة كبيرة، تركيا، إيران، روسيا. ولا يمكن لهذا الوضع المختلط إلا أن يدفع باتجاه الخوف مما يحصل في العالم، من الفوضى التي أحدثتها أميركا، من وأد القضية الفلسطينية، من التحالفات الرجراجة التي يفرضها الظرف الراهن والتطلع المستقبلي. كلها عوامل تؤكد أن السوريين، إذا لم يلاقوا صيغةً يتفاهمون من خلالها على انتشال وطنهم من السقوط المدوي، لن يكونوا قادرين مستقبلاً على لملمة مزقه. العالم يرتب أولوياته، وتسعى الأمم إلى ضمان مستقبلها على حسابنا، وحساب قضايانا العادلة. ونحن لا نعرف أن نحلم بأن نكون أمةَ، بعد أن ضيعنا بعضًا من أسسها التي كان يمكن أن يبنى عليها.
تتبادرُ إلى الأذهان، فورَ سماع خبر زيارة المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، الرئيسَ الروسي فلاديمير بوتين، في مدينة سوتشي الروسية، وطرحها مسألة القانون الذي أصدره بشّار الأسد قبل أسابيع، مسألة الابتزاز التي يجيدُ ممارستها الساسة. وهو قانون يعطي السلطة التنفيذية الحقّ في تنظيم وإعادة تنظيم أية منطقة عقارية تحدّدها هي، وتقوم العملية على مبدأ حلّ الملكيات الفردية، واعتبار المنطقة كاملة بمثابة عقار واحد، يتمّ إعادة تقسيمه بعد اقتطاع النسب المجانية للصالح العام. ويعتبرُ أكثر الحقوقييّن السوريين هذا القانون بمثابة سلاح جديد يستخدمه النظام لتجريد السوريين المعارضين، خصوصا منهم المهجرين، من ملكياتهم العقارية، فقد اشترط على ملّاك العقارات إثبات ملكياتهم خلال شهر أمام لجان إعادة التنظيم، لمعرفته باستحالة ذلك، في ظلّ التعقيدات الأمنية الهائلة المفروضة عليهم، وعلى وكلائهم القانونيين، في حال تمكّنوا من توكيل أحد يمثّلهم.
أن تذهبَ بنا عقولُنا المشرقيّة المبنيّة، منذ بدايات زمن الانحطاط، بشكلٍ مكثّف وشبه تام على حضور نظريّة المؤامرة في تفسير كلّ حدثٍ خارجٍ عن إرادتنا، ونعجزُ عن تفسيره، أمرٌ لم يعُد ينطلي على كثيرين، أو على الأقل لم يعُد يروق لكثيرين. التاريخُ حركةُ تفاعل جدليّ، وصراعٌ بين مجموعة من المصالح والقيم والمفاهيم، وهو ليس نتاج أفرادٍ يقرّرون بخالص إرادتهم هذه السيرورة المعقّدة، لكنّ المتتبّع لدور الأفراد في التاريخ يجدُ، في المقابل، أنه لم يكن أبداً حاصلاً صفريّاً، بل هو قيمةٌ محسوسةٌ ذات وزن قابلٍ للقياس.
صحيحٌ أنّ العامل الفردي يبقى محدود التأثير، ويتمظهرُ انعكاسا، بشكل أو بآخر، لمجموعة القوى الفاعلة، إلّا أنه يكون أحياناً عاملَ حسمٍ، وعتلةً رافعةً للتغيير المطلوب في لحظةٍ مفصليّة من لحظات التاريخ، وهذا ما ينطبقُ بشدّة على الرئيس الروسي الذي يعتبره بنو قومه المسيح المخلّص الذي قام من موته، وبعثَ معه العِرقَ الروسي وشعوره القوميّ المستند إلى موروث القياصرة العريق.
في كلّ الأحوال، كيف نفسّرُ هذه المخاوفَ الألمانية من قانونٍ صدر في دولةٍ فاشلةٍ، تقبعُ منذ خمسين عاماً خارج تاريخ فعل الإبداع البشري؟ ولماذا تمّ الطرحُ أمام القيصر الروسي؟ ولماذا كان ردّ القيصر أن على الغرب تحمّل أعباء إعادة إعمار المدن والقرى التي دمّرها مُصدِرُ هذا القانون وحليفه الراعي؟
لا يُعقل أن يكون بوتين قد طلب من بشّار الأسد إصدار هذا القانون، ولكن يمكن الجزم بأنّه، وبسبب دعمه المطلق وحمايته العسكرية والسياسية التي وفرها له سبعة أعوامٍ ونيّف، أوجد الأرضيّة المناسبة، أو البنية التحتيّة لهذه التراجيديا القانونية. وبغضّ النظر عن القانون وآليات تطبيقه وآثاره، فإنه كان بلا شكّ من أهمّ سعاة البريد الذين حملوا رسائل العنف والابتزاز خارج نطاق تطبيقه المكاني وحيّزه الحيويّ أصلاً.
قرأت ألمانيا بحقّ هذه الرسالة، وسواء أكانت هي المقصودة بها أم لا، فإنها وجدت نفسها معنيّة بها بلا ريب. وهي تحتضن نحو نصف مليون لاجئ سوري، هربوا من براميل النظام، وجزءٌ يسير منهم هرب من جور التنظيمات التي فرّخ قادتها في سجونه وأقبية مخابراته. كلّ واحد من هؤلاء يكلّف الخزانة الألمانية مبلغاً لا يقلّ وسطيّاً عن ألف يورو شهريّاً (بحسب مصادر متخصصة)، ما يعني نصف مليار شهريّاً وستة مليارات سنويّاً. وقد باتت آثار هذا الأمر على الاقتصاد والمجتمع والسياسة الألمانية من أهمّ الحجج التي يرفعها اليمين المتطرّف في وجه الأحزاب الكبرى، وقد تكون زيارة بعض أعضاء البوندستاغ (البرلمان) الألماني من حزب البديل إلى سورية أحد أسباب التسريع في صدور هذا القانون.
المعايير القانونية والدستورية في أوروبا هي ما يجعل هذا الملف حساساً وقابلاً للاستخدام والضغط. وتنص المادة الأولى من الدستور الألماني "تكون كرامةُ الإنسان مصونةً، وتضطلعُ جميعُ السلطات في الدولة بواجبات احترامها وصونها". لم تتحدّث هذه المادّة عن كرامة المواطن الألماني، بل عن كرامة الإنسان. ومن هنا، يتمتع أي إنسان مقيم في ألمانيا بالدرجة نفسها من الكرامة والاحترام والحقوق (باستثناء الترشّح والانتخاب) التي يتمتع بها أي مواطن ألماني. يستتبع هذا أن تتحمّل الدول الأوروبيّة مسؤولياتٍ ماديّةً كبيرة لرعايتهم.
رسَم بوتين بدعمه طغاة الشرق الأوسط خطّاً بيانيّاً صاعداً لليمين المتطرّف في أوروبا، فأحزاب هذا اليمين أعجزُ من أن تقدّم برامج انتخابية مقنعة، تستطيعُ بها منافسة الأحزاب التقليدية التي تعاقبت على حكم أوروبا، ففي بلدانٍ يُشكلُ المسنّون نسبة كبيرة جداً من سكانها يجب على الأقل أن يكون لأي حزبٍ من ضمن برنامجه الانتخابي ما يتعلق بسنّ التقاعد وبالتأمين التقاعدي وتأمين رعاية المسنّين والعجزة، وهذا أمرٌ لم يستطع تقديمه مثلاً حزب البديل من أجل ألمانيا (AFD)، ولذلك ترفع هذه الأحزاب شعارات معاداة اللاجئين، باعتبارها بطاقة رابحة في أوساط الطبقات الفقيرة.
كانت جزئيّة القانون رقم 10 ولا شكّ إحدى نقاط البحث بين ميركل وبوتين، وتشعّبات الملف السوري تجعلهُ حاضراً في أغلب بازارات المصالح السياسية والاقتصادية الدوليّة. وفي المقابل، هل يمكن التسليم بأن روسيا في موقع أقوى من ألمانيا، أو من أوروبا مجتمعة، حتى تمارس عليها هذا الابتزاز في ملفّ اللجوء، أم أن لدى أوروبا أوراقا كثيرة تستطيع اللعب بها في مواجهتها؟
يرى الناظر إلى طبيعة العلاقة ما بين الكتلتين أن الأوروبييّن في موقع أقوى من موقع الروس، بدليل أنهم يستطيعون فرض عقوباتٍ اقتصاديّة عليها، وهي لا تستطيع الردّ بالمثل، فماذا تملك روسيا غير الغاز الطبيعي، لتصدّره إلى أوروبا؟ ليس السلاح بضاعة رائجة هنا. وإذا احتاج الأوروبيّون سلاحاً، فبالتأكيد لن يشتروا الخردة الروسيّة التي لم تتطوّر كثيراً منذ انهيار الاتحاد السوفييتي. بالعكس، تحتاج روسيا بكل تأكيد التكنولوجيا الغربية والآلات والمواد المصنّعة بأعلى المواصفات التقنية التي لا يمكنها أبداً مجاراتها.
كذلك يمكن لأوروبا عموما، وألمانيا خصوصا، تحمّل ملف اللاجئين عدة أعوام، بل يمكنها الاستفادة من أبناء هذه الكتلة البشرية بشكل ممتاز، بعد جيل واحد، بافتراض أنها لن تستفيد من أيديهم العاملة الآن. ولكن، ماذا لو رفضت أوروبا، أو دولها المحوريّة على الأقل، الانخراط في إعادة إعمار سورية، هل ستخسر كثيراً، وهل سيكون بإمكان الروس الاستثمار بأنفسهم مثلاً، أم هل استثمارهم ممكن من دون موافقة الأميركيين المطلّين عليهم من كل جانب؟ الصراعُ جدليٌّ إذن بين الطرفين، ومن يجد في نفسه القوّة سيحاول الاستفادة أكثر على حساب الآخر.
يبقى أن نتذكّر أن القيصر يسعى إلى استعادة هيبة الدبّ الروسي التي انهارت مع انهيار الاتحاد السوفييتي. وفي المقابل، ليست المستشارة ميركل من الشخصيّات المصنّفة تحت وزن الريشة، كما بشّار الأسد، ليستعرض بوتين عليها أو على بلدها عضلاته. إنها سيدة الماكينات الألمانيّة التي أنجزت المعجزة الاقتصاديّة، بعد هزيمتها في الحرب العالميّة الثانية بعشرين عاماً، بينما انهارت روسيا التي انتصرت بها بعد أربع وأربعين سنة فقط.
ما يهمّنا، نحن السوريين، من هذا البازار كيفيّة انعكاسه على قضيّتنا المُشرعة الأبواب على رياح التأثير الدولية والإقليمية، وكيفية استفادتنا من مجمل المتناقضات، كي نصنع خياراتنا الوطنيّة ونرسمها ضمن الإمكانات المتاحة وهوامش الحركة الضيّقة.
هي أسئلة مطروحة للبحث والنقاش المستمرّين، وليس بالإمكان دوماً طرحُ الإجابات، ولا إيجادُ الحلول، فالسؤال يكون أحياناً جواباً في الوقت نفسه.
كأنّ بشار الأسد لم يقرأ بعد رسالة عضو لجنة المصالحة الوطنية في مخيم اليرموك ومنطقة جنوب دمشق، الشيخ محمد العمري، وقد ناشده فيها هذا، بعد أن بارك له النصر الذي تمّ هناك، بأن يوقف ظاهرة التعفيش التي "أصبحت تجرح شعور الكثير من الشعب، وخصوصاً عوائل الشهداء والجرحى الذين ارتقوا دفاعا عن البلاد والعباد". خاطب هذا الرجل، عضوُ اللجنة المذكورة أعلاه، الرئيس المشار إليه، بمقادير ظاهرةٍ من التوسّل، ".. ونظرا لمحبّتنا شخصكم الكريم، ولنا عندكم حظوة، كلنا أملٌ بكم، أيها القائد، في إيقاف هذه الظاهرة التي لا تتناسب مع التضحيات الجسام لجيشنا العظيم وصموده الأسطوري". إما أن الأسد صادف هذه الرسالة، ولم يحفل بالأمل الذي فيها عليه، أو أنه لم يقرأها. وأغلب الظن أن رئيس سورية (المنتخب بحسب أدونيس) لا يُشغل باله بمسألةٍ صغرى مثل هذه، فيما التحدّيات قدّامه ليس أولها مجابهة قوى التآمر على سورية، ولا آخرها تلبيةُ إرادة سلطة الانتداب الروسية بكتابة دستورٍ جديد. والدليل على أن مناشدة الشيخ العمري لم يُكترث بها أن "التعفيش" مستمرٌّ وباضطراد في مخيم اليرموك. والمفردة تعني، لمن لم يعرف بعد، سرقة الأثاث والكهربائيات وغيرهما من المنازل والبيوت والمحال التجارية التي نزح عنها أهلوها وأصحابها وساكنوها، بل حدث، بعد رسالة الشيخ عضو لجنة المصالحة الوطنية، أن عساكر يتبعون الجيش المنتصر، والذي تقول الرسالة إن بشار الأسد يقوده، قتلوا طفليْن حاولا منعهم من سرقة منزليْهما.
لقد أوسع الجيش الهُمام مخيم اليرموك "تحريرا" من الداعشيين، وأخرجهم سالمين. وبالتزامن والتوازي، شرّد أهل المخيم، اللاجئين الفلسطينيين وبعض أشقاء سوريين لهم. وما أن أنجز المهمتين، بعد بسالةٍ في تدمير المخيم، بشكلٍ كامل على ما قالت الأمانة العامة للأمم المتحدة، حتى باشر مرحلة التعفيش، بمواظبةٍ نشطة، دلّت عليها صور غير قليلة لعناصر منه غير قليلين، نطقت، وهم يحملون ويحمّلون مسروقاتهم، بانكشاف من يصدّقون أن هؤلاء من جيش نظامٍ ممانعٍٍ مقاوم، في عهدته تحرير الجولان، وفلسطين تاليا. ... تُرى، ألم يكن ممكنا إحداث الهزيمة بالإرهابيين، من تنظيم الدولة الإسلامية وغيره، بل وأيضا بالثوار الذين يزدرون نظام الأسد، أباً وابناً، بغير إحداث هذا التدمير المهول للمخيم الذي كان يضجّ بالحياة، وبالانتماء إلى فلسطين، منذ صار في 1957؟ ألم يكن في مقدور جيش السارقين هذا أن يحقّق انتصاراته من دون براميل متفجرةٍ وصواريخ ارتجاجيةٍ وفراغية؟ ما هي العقيدة التي تستوطن مدارك ضباط الجيش العربي السوري الباسل، وهم يأمرون بأفدح قوةٍ ضد المخيم؟.
نكون في منزلةٍ كبرى من السذاجة، لو صدّقنا أن القصة هنا.. لا، إنها ليست في "ترحيل" الداعشيين من عاصمة شتات اللاجئين الفلسطينيين، مخيم اليرموك، آمنين إلى السويداء أو إدلب. وإنما في اعتناق نظام الأسد، منذ أولى حروبه التدميرية ضد مخيمات الفلسطينيين، في العام 1976، في لبنان، أن هؤلاء الناس، أي الفلسطينيين، لاجئين أو في أي حالةٍ كانوا، إما أن يكونوا في جيب حافظ الأسد وورثته، أو لا مشكلة في الإجهاز على أي رمزٍ يدلّ على كينونتهم، أكان منظمة تحرير أو سلطة حكم ذاتي أو لجنةً من أجل حق العودة في مخيم البداوي في طرابلس. على الفلسطينيين أن يكونوا على طراز أحمد جبريل، أو أن يتحملوا الإبادة في "تل الزعتر"، أو القتل والتعفيش معا في "اليرموك". هذه هي معادلة نظام الأسد الخالدة، فمن هم هؤلاء اللاجئون الذين يرتضون بدعة ياسر عرفات عن عنوانٍ سياسيٍّ لهم؟ فيما الأصل أن تمثّلهم سورية الأسد، وتأخذهم إلى السلام الذي تريد، أو إلى الهزائم المعلومة في الحروب التي تعرف إسرائيل بداياتها ولا تعرف نهاياتها، كما ما زالت "تشرين" ومشتقاتها تكتب، ويعتنق خراريفَها مثقفون فلسطينيون، عراةٌ من أي أخلاقٍ، وهم صامتون، كما رئاسات حركة فتح ومنظمة التحرير والسلطة الوطنية، عن جرائم المحو المهولة التي استأنفها نظام الأسد في مخيم اليرموك، في غضون الذكرى السبعين للنكبة.
كان مخيم اليرموك شاهدا على تلك النكبة، وواحدًا من فضاءات الوجدان الفلسطيني المقاوم الموحد. وصار، بحسب رسالة عضوٍ في لجنةٍ مصالحةٍ سقيمةٍ إلى القائد بشار الأسد، أرض "تضحياتٍ جسام" لجيش التعفيش المغوار.
إيران تعد الأماكن والعناصر ومجلدات الخطابات التعبوية، انتظاراً للاحتفال بالذكرى الأربعين للثورة الإيرانية العام المقبل. لا شك أن تلك الثورة شكلت حدثاً مهماً على المستوى الدولي؛ لكن ذلك الحدث حمل كثيراً من علامات الغموض، وإن أطلق صرخات الاندفاع الثوري وشعارات التقدم والحرية والديمقراطية... إلخ.
بعد سيطرة الخميني وأنصاره على حلقات السلطة ومفاصل النظام، اندفع إلى العنف الدموي ضد كل من فاحت منه رائحة الاختلاف مع توجهات الخميني وليس المعارضة. مئات من الذين ناصروا الثورة كانوا من أوائل ضحاياها. كثيرون من الثوار كانوا مع الخميني في منفاه العراقي ثم الفرنسي، انتهوا إلى الإعدام أو المنفى. الحسن بني صدر، رفيق الخميني في مواجهة نظام الشاه، وأول رئيس للجمهورية الإسلامية الإيرانية، هرب من طهران متخفياً ناجياً برقبته من النهاية الدامية. صادق قطب زاده، أقرب المساعدين للخميني في منفاه وأحد رموز الثورة، انتهى إلى الإعدام ومعه العشرات.
قال بني صدر، إن الخميني قال له بعد أول انتخابات في الجمهورية الجديدة، لا يهم رأي الناس، المهم رأي رجال الدين.
أسس المرشد الأعلى للثورة الحرس الثوري، ليكون القوة الضاربة له. تفرض ما يقرره. فوجئ رئيس الدولة - بني صدر - منذ الأيام الأولى بقرارات يصدرها المرشد منفرداً من دون الرجوع إليه، ويجري اتصالات مع أطراف خارجية من بينها الولايات المتحدة الأميركية.
منذ البداية، اتجه الخميني إلى سياسة المواجهة والقوة في الداخل والخارج. وضع نفسه فوق الجميع، وتوج ذلك بصياغة الدستور الإيراني الذي جعل المرشد صاحب الأمر والنهي، من خلال دسترة ولاية الفقيه في غيبة الإمام المنتظر. جعل من إيران دولة لاهوتية موصوفة بتكريس المذهب الجعفري في صلب الدستور، وهو بذلك بنى سداً عالياً بين إيران والغالبية الساحقة من المسلمين السنة. افتتح الخميني مسار جمهوريته الإمامية الاثني عشرية الجعفرية الشيعية الخارجي بالمواجهة الدامية مع العراق، التي جرت الملايين من الإيرانيين إلى حرب كانت حيناً معروفة وأحياناً منسية. فتح جبهة مبكرة للصدام مع أميركا بالهجوم الذي شنّه الطلاب الإيرانيون على السفارة الأميركية بطهران، واحتجاز العشرات من العاملين فيها، في خرق غير مسبوق للمواثيق والاتفاقيات الدولية.
الأمر الأخطر الذي علقه الخميني حبلاً في رقبة إيران، هو المادة 154 من الدستور الإيراني التي جاء فيها: الجمهورية الإسلامية الإيرانية تعتبر سعادة الإنسان في جميع المجتمعات البشرية مثلها الأعلى، وترى أن تحقيق الاستقلال والحرية والسيادة والعدالة الحقيقية من حق جميع شعوب العالم، ولهذا فإن الجمهورية الإسلامية تتعهد بعدم التدخل في شؤون البلدان الأخرى، (ولكنها تلتزم بإسناد كافة النضالات الحقة للمستضعفين أمام مستكبري العالم، في أي نقطة من نقاط المعمورة)...!! هذه المادة تحمل في داخلها تناقضاً يصل إلى حد العبث. التزام بعدم التدخل في شؤون البلدان الأخرى، وفي النص ذاته تعلن عن نفسها بأنها تمثل قوة عابرة لحدودها، بدعم نضالات المستضعفين في أي نقطة من المعمورة. والسؤال الذي يسوقه اليوم أي إنسان هو: هل تدعم إيران المستضعفين في سوريا واليمن ولبنان؟ ألم تتحول هي ذاتها إلى قوة تسند الظالم في هذه النقاط من المعمورة ضد المستضعفين؟
والإعدامات التي يمارسها النظام الإيراني في حق الفقراء والمستضعفين على أرضه، أليست الخرق الأكبر والفاضح لذاك النص؟
مشكلة النظام الإيراني مع العالم لم تبدأ بمشروعه لتطوير سلاحه النووي أو الصاروخي. باكستان الإسلامية امتلكت القنبلة النووية، ولم تشن الدنيا عليها معركة عسكرية أو سياسية، على الرغم من أن باكستان تقع في دائرة جغرافية سياسية متوترة وساخنة بحكم الموروث الحساس بينها وبين الهند؛ بل إن سلاحها النووي ساهم في تزكية زخم الهدوء مع الهند. مشكلة إيران المزمنة هي خيارها العنيف العابر لحدودها، الذي تصدره في صناديق السلاح والمال والآيديولوجيا الطائفية، على أكتاف شبابها الذين ترسلهم أرتالاً إلى خارج حدودها، وشبكات المال المشبوه العابر للقارات وافتعال الحروب الطائفية في مشارق الأرض ومغاربها. المفارقة العجيبة الغريبة أن تعبئ إيران المئات من المبشرين في غرب أفريقيا، لتحويل السنة إلى المذهب الشيعي، في حين يوجد بهذه المنطقة الملايين من البشر الوثنيين، ألم يكن من الأحرى أن تسخر أموالها ومبشريها لهدايتهم إلى الإسلام؟!
إيران أمة كبيرة. لها إمكانيات بشرية ومادية هائلة. جذورها في التاريخ ممتدة عبر حقب طويلة. كان بإمكانها اليوم أن تكون من النمور الآسيوية؛ بل العالمية، ولكنها أضاعت كل ذلك في وهم العظمة الذي وضعها في مؤخرة الدول، واستحقت أن تكون الدولة الأولى المنبوذة والمارقة في العالم. تفوقت على نفسها في صناعة الأعداء بمالها ودماء أبنائها، وفرضت على شعبها الفقر والبطالة والتخلف.
عندما يعلن حسن نصر الله، أن سلاح حزبه وماله وأكله وشربه، يأتي من إيران، السؤال: لماذا؟ هل لكي يحكم هذا الحزب لبنان؟ ونكرر السؤال: لماذا يحكم الحزب هذا البلد الذي أبدع توازناً سياسياً حقق له السلم الاجتماعي لعقود، رغم حساسية موقعه الجغرافي السياسي؟ تدفع إيران بالمال والسلاح إلى اليمن لتشعل من تحت رماد التاريخ ناراً طائفية ردمها الزمن.
اليوم تدخل إيران في أدغال الحرائق العالمية التي لا قبل لها بها. اللعب مع الكبار لا يكون بكرة النار. قائمة «الشروط» التي أعلنها وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو ليست قائمة من 12 نقطة للتفاوض، لكنها للقبول أو الرفض، وهي في الحقيقة كما يقول المثل الليبي «شروط النسيب الكاره»، أي أن تطالب من يخطب ابنتك بتقديم مهر لا قدرة له عليه. في جميع الحالات أن الوزير الأميركي عبر حزمة الشروط التي عرضها، قال لإيران: إما أن تغيروا أو تتغيروا. الرد الإيراني على لسان الرئيس روحاني وثلة من أعوانه، كان زخات من تهكم وعناد موجهة إلى الداخل الإيراني، ولا علاقة له بالتفكير السياسي الواقعي.
أوروبا التي تجهد سياسييها من أجل اجتراح مخرج للأزمة، تقف بين الإصرار والتصعيد الأميركي واللامعقول الإيراني، فالشروط الأميركية تغلق كل أبواب المناورات الدبلوماسية الأوروبية والصينية والروسية، والردود الإيرانية تزيد تلك الأبواب إحكاماً.
المرشد الأعلى للثورة الإيرانية خامنئي، يقف اليوم على منبر الحقيقة المرة القاتلة، كما وقف عليه يوماً سلفه الخميني، عندما اضطر مكرهاً إلى وقف الحرب مع العراق، قائلاً: «أنا أتجرع كأس السم، كم أشعر بالخجل لموافقتي على اتفاقية وقف إطلاق النار مع العراق».
هل ستمتد يد خامنئي إلى كأس السم والخجل؟
منذ بداية التدخل العسكري الروسي دعماً للنظام السوري في نهاية سبتمبر (أيلول) من عام 2015، أحسّ الإيرانيون الذين كانوا يوسّعون رقعة نفوذهم في دمشق، بأن هناك من يدخل على الخط ويمكن أن يسحب البساط السوري من تحت أرجلهم.
بدا ذلك واضحا تماما عندما قال حسن روحاني في 26 أيلول/سبتمبر من ذلك العام، «إن الجيش الإيراني هو القوة الرئيسية لمحاربة الإرهاب في المنطقة، التي عليها ألا تعتمد على القوى الكبرى… نحن ساعدنا سوريا والعراق على مكافحة الإرهاب». لكن بعد ذلك الحين بدا أن الوضع في سوريا صار عند موسكو تقريبا، وصارت لهجة الرئيس فلاديمير بوتين تتعامل مع المسألة السورية بمنطق «الأمر لي»، خصوصا في ظل سياسة التردد والحذر التي اتبعها الرئيس الأمريكي آنذاك باراك أوباما.
تعارُض المصالح بين الروس والإيرانيين كان واضحا تماما، وأذكر أنني كتبت في هذه الزاوية من «الشرق الأوسط»، أن الأمور ذاهبة حتما في النهاية إلى «قتال روسي إيراني على الجبنة السورية»، وهو ما يحصل الآن تماما، ففي 16 أيار/مايو الجاري، استقبل بوتين الرئيس بشار الأسد في سوتشي، ليبلغه بأنه مع تحقيق الانتصارات والنجاحات الملحوظة في الحرب على الإرهاب، ومع تفعيل العملية السياسية، لا بد من سحب كل القوات الأجنبية من سوريا، وفي هذا السياق قال بوتين إن الأسد سيرسل لائحة بأسماء المرشحين لعضوية مناقشة الدستور في أقرب وقت ممكن إلى الأمم المتحدة!
الحديث عن ضرورة سحب كل القوات الأجنبية من سوريا نزل على طهران مثل صاعقة، فبعد يومين وفي 20 أيار/مايو ردّ المتحدث باسم الخارجية الإيرانية بهرام قاسمي على بوتين بالقول: «لا أحد يستطيع إخراج إيران من سوريا، وإن وجودها العسكري سيستمر ما دام هناك طلب من الحكومة السورية، وإيران دولة مستقلة تتابع سياساتها على أساس مصالحها».
ووصل التحدي إلى مخاطبة الروس بالقول: «هم الذين يجب أن يخرجوا من سوريا، هؤلاء الذين دخلوا دون إذن من الحكومة السورية، ونحن سنبقى إلى الوقت الذي تحتاج إليه الحكومة السورية». وعلى خلفية هذا التراشق اشتعلت التحليلات التي تكذّب كلام قاسمي، على خلفية التذكير بتصريحات سيرغي لافروف في 17 كانون الثاني/يناير من عام 2016 التي قال فيها، «إننا واثقون بأن قرارنا كان صائبا عندما استجبنا لطلب الحكومة السورية الشرعية التدخل العسكري، ومن الضروري التذكير بأن هذه الدولة العضو في الأمم المتحدة، كان يفصلها أسبوعان أو ثلاثة أسابيع عن السقوط في أيدي الإرهابيين»!
طبعا هذا الكلام يذكّر أيضا بتصريحات بوتين التي كرر فيها أن دمشق كانت على وشك السقوط، بما يوحي ضمناًبأن إيران وأذرعها العسكرية في قتالها إلى جانب النظام السوري، كانت آيلة إلى الهزيمة لولا التدخل الروسي. وهو ما عاد وأكّده نائب رئيس الوزراء السوري الأسبق قدري جميل، معارض الداخل المقرب من الأسد، عندما قال في 26 آذار/مارس 2017: «لولا تدخل روسيا لكانت دمشق سقطت في يد (داعش) و(جبهة النصرة)». ومن الواضح أن هذه التصريحات سبق أن شكّلت صدمة لإيران لأنها تعبّر ضمنا عن قناعة بشار الأسد!
جاءت هذه المواقف المتتابعة التي تدعو إلى خروج الإيرانيين من سوريا، في وقت كان المسؤولون في طهران غارقين في المباهاة الواهمة طبعا بأنهم باتوا يسيطرون على أربع عواصم عربية: بغداد ودمشق وصنعاء وبيروت، لكن التطورات الميدانية والسياسية وصلت الآن إلى ما يُسقط كل هذه الأوهام.
ففي العراق يكفي أن يتأمل المرء في نتائج الانتخابات التي كرّست زعامة مقتدى الصدر الذي يدعو صراحة إلى رفع اليد الإيرانية عن العراق، وعندما يقول يجب أن نكسر البندقية، وندخل العراق في حال من الديمقراطية والاستقرار والأمن، فمن الواضح تماما أنه يدعو إلى كسر الهيمنة الإيرانية المتمادية على العراق منذ أيام نوري المالكي!
وفي سوريا، واضحٌ أن حسابات طهران آخذة في التداعي، فروسيا لا تتوقف عند حدود المطالبة بخروج الإيرانيين وأذرعهم العسكرية فحسب، بل يبدو أنها بعد زيارات بنيامين نتنياهو الأربع إلى موسكو ومحادثاته مع بوتين، باتت تقف موقف المتفرّج من الغارات الإسرائيلية المتتالية على المواقع والمخازن الإيرانية في سوريا. وفي السياق، من اللافت أنه بعد الغارات الأخيرة التي قال وزير الدفاع الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان، إنها دمّرت كل المواقع الإيرانية في سوريا، حملت الوكالات تصريح حسن روحاني عن أن إيران لا تريد تصعيد الموقف في سوريا!
تأتي هذه التطورات في وقت بدأت الشركات الأوروبية بالفرار من إيران بعد «وصايا ترمب الـ12 العقابية ضد النظام الإيراني»، وفي وقت تغرق البلاد في أزمتين خانقتين؛ الأولى استمرار المظاهرات ضد النظام بسبب الوضع الاقتصادي المتردي والفساد، حيث إن نصف الشعب الإيراني عند خط الفقر، كما تعترف الحكومة العاجزة عن معالجة الأمر في حين تصرف المليارات على سياساتها التدخلية التخريبية في المنطقة، والأخرى انهيار قيمة العملة الإيرانية خصوصا منذ قرار ترمب الانسحاب من الاتفاق النووي، ورغم أن الحكومة حددت سعر الدولار الواحد بـ42 ألف ريال إيراني، فإن سعره بلغ 74 ألفا، وبعد حملة اعتقالات شملت 180 من عملاء الصرافة، كتبت إحدى الوكالات تقول إن تهريب الدولار في طهران بات أشبه بتهريب المخدرات!
بالعودة إلى الصراع الروسي الإيراني على الجبنة السورية، يبدو الموقف الروسي حازما عندما يقول مبعوث بوتين الخاص إلى سوريا، ألكسندر لافرينتيف نهاية الأسبوع الماضي، «إن انسحاب القوات الأجنبية من سوريا يجب أن يتمّ بشكل كامل، والحديث هنا يشمل كل القوات الأجنبية بمن في ذلك الأمريكيون والأتراك و(حزب الله) وبالطبع الإيرانيون» في ما يشبه الرد الحاسم على الموقف الإيراني.
بعد قمة بوتين والأسد في سوتشي والدعوة إلى خروج كل القوات الأجنبية من سوريا، نشر موقع «تابناك» الإيراني التابع لأمين مصلحة تشخيص النظام محسن رضائي، تقريرا غاضبا جاء فيه، أن النظام السوري وموسكو اتفقا على إقصاء إيران في مقابل إشراك الدول الغربية في الحل السياسي للأزمة السورية، واعتبر الموقع أن قبول موسكو والنظام بالعودة إلى مفاوضات جنيف، يدل على وجود توافقات مع الدول الغربية حول إنهاء النزاع في سوريا بطرد إيران ومليشياتها.
ويقول موقع «تابناك»، إن «هناك تفاهما مستجدا بين موسكو ودمشق هدفه إقامة شراكة اقتصادية تُقصى بموجبه الشركات الإيرانية من النشاط الاقتصادي، خصوصا في مرحلة إعادة الإعمار في سوريا، ولكن يجب ألا نسمح بأن تتحقق أهداف بشار الأسد وأي طرف يريد إبعاد اليد الإيرانية… إن محاولاتنا لحفظ الأسد كانت مكلفة على صعيد الخسائر اللوجيستية وفي الأرواح، وليحذروا من اللعب في أرض تمّ اختبارها سابقا»، في إشارة واضحة إلى الصراع المستجدّ من الروس!
على حين غفوة من الزمن، اجتمعت بقايا أنقاضهم التائهة في التاريخ، لملموا جُندهم المبعثرين، ونفضوا ركام السنين ونهضوا يريدون الثأر لكبيرهم الذي حُطِّم بفأس إبراهيم تنامى إصرارهم في وأد كل يدٍّ حملت (معول الحق) عليهم وأثخنت بهم، ونكلّت بأكابِرهم، فشقوا الزمان عابرين بمسميات جديدة، تُزيل الشبهة عنهم وتُحيلهم لمارين على أرصفة النفوس لكنهم ضربوا جذورهم بأعماق العقول ليكونوا (أوثان العالم الجديد) فأين فأس إبراهيم؟ لم تكن (الفأس) لتُحدِث هذا التغيير الجذري في عمق التاريخ لولا أن من حملها كان (أُمَّة)، فصلاح حال أمةٍ بأسرها تمثل بفردٍ اجتمعت عنده مقومات الإصلاح وسبيل الصلاح فكان أُمة بحقِه والبقية أشباه أفراد بباطلهم..
المقياس هُنَا أهمية الفرد وإمكانية تغييره لمعادلة الواقع وتبديل المعطيات المحسوسة بإدراك المرء ضرورة إحداث التغيير، بدءاً من هدم طواغيت الذات التي جُعلت أرباباً تُعبد من دون الله بالباطل، فمن غلب هوى نفسه وأمسك جمرة فؤاده يقلبها في كفه كيفما شاء، جُعلت الدنيا أمامه يُغالبها فيغلبُها، فتطوعُ له سيداً عليها قد كفر بأصنامها فأمسى حُراً يُمسك فأس حقه بيمناه، وفسيلة مجده بيسراه، لتطيح أوثان العبودية على وقع هُتاف فردٍ أصبح أُمَّة، وأما من عبدَ وركع وسجد لوحش ذاته الذي اقتات على بقية إنسانيته المتمثلة بحريته ونال من بصيص روحه الذي بهت وخفت فاختفى لأن النور لا يليق بالعبيد، هذا العبد لن تسؤوه عبوديته فهو من ينصب صنماً ويزينه لنفسه ومن ثم يبدأ بعبادته، فقد سُلبت إرادته عند خضوعه واستكانته لطاغوت ذاته الذي يجعل منه ظِل فرد وشبيه إنسان، لا يَفَعل بالواقع بقدر ما يُفعل به..
وعلى سَبِيلِ إيقاظ سُجناء أنفُسِهم وإيقاد شعلة أرواحهم واستنقاذهم من نيران العبودية كان (الوعي) غيثاً مُغيثاً يُحيي من رماد الفكرة، ثمار الأفعال، ونِتاج الأعمال، ولذلك مثّلت عملية الوعي الثوري المفصل الأساسي في تحقيق الغاية من حُرية المرء وتوظيف أفعاله بما يعود بالنفع على أمته، حيث أن التغيير الذي بدأ بدماء "حمزة الخطيب" لن يُؤتي ثماره إن ضاعت أهداف الثورة بمتاهات تغييب الفرد عن واقعه وإحداث شرخ واسع بينه وبين ثورته فضبابية الرؤية وانعدام البصيرة لا يجلوها إلا التعبئة الثورية بأحقية المطالَب والوعي بأن السائر في ركب الثورة لا يمكن أن يتملص من واجباته تجاهها بدءاً من معرفة حقيقة المعركة الحاصلة مروراً بأهمية الروح المعنوية وانتهاءً بجاهزية البناء في حين الهدم وتمام القناعة أن تجربتنا منتصرة بوعد من الله سواءً كان نصراً على طريقة (فتح مكة) أو نصر (أصحاب الأخدود)، بمقدار تكاتف (المشروع السامي) و(الأفراد المخلصين) و(الوعي الكافي لتجاوز تحديات المرحلة الراهنة) نبلغ الفتح المبين والانتصار العظيم الذي يُحيي من يباب آلامنا أصوات الأولين.
"ويحك يا أبا سفيان! ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلا الله" قالها الحبيب عليه أفضل الصلاة والتسليم مُسلِماً مفاتيح الخلاص لأبي سفيان رضي الله عنه وأرضاه مخبراً إياه أن بـ (لا إله إلا الله) فُتحت مكة حيث كانت الغاية النبيلة والحقيقة الجلية والفأس الذي سُلط على أعناق أصنام الظلمة، بـ (جند لا إله إلا الله) كُلل الفتح المكي بفتوحات امتددت إلى مشارق الأرض ومغاربها، بـ (أتباع لا إله إلا الله) بُنيت حضارات دول أثبتت لابناء الواقع المعاش أن "فأس إبراهيم" لن تهِن بوجود جُندٍ يحملونها (ثورة شعبٍ) على أوثان الباطل بتعدد مسمياتهم واختلاف مقاصدهم، و(مشروع أمة) لِبذر الوعي وريَّ الإخلاص ليكونوا سبيل الخلاص، فنلوذ من حِمى فأس أبينا إبراهيم عليه السلام إلى "إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً" نجد بها ظلاً تفيء إليه أرواحنا المحترقة في صحارى الآلام أن برداً وسلاماً عَلَيْكِ يا شآم..
«هذا بيت هيثم ومحلاته وهذا محل النت على زاوية بيت حماي والعفيشة ينزلون الغسالات والاغراض من بيوتنا!».
هذا مقطع من شريط فيديو تداوله كثيرون على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك ويصوّر محاولة من إعلامي في «لواء القدس»، الموالي لنظام الرئيس السوري بشار الأسد، تصوير بيته في مخيم اليرموك فيما أفراد من «الجيش العربي السوري» يقومون بسرقة أغراض بيته وبيوت جيرانه ضمن عملية ممنهجة شاملة لنهب ما بقي في بيوت سكان مخيم اللاجئين الفلسطينيين الأكبر في سوريا بعد تدميره وتهجير سكانه.
يحتج أحد «العفيشة» (كما يسميهم المصوّر) على تصويرهم يسرقون فيغضب صاحب البيت لكن احتجاجه لا ينصب على سرقة بيته: «خذ الحارة بما فيها»، يقول لقطيع اللصوص العسكري، ويتابع مونولوجه الخاص عن «خزانة أم حسن الهندي ومكوايتها»، و«بيت فادي ويوسف»، ويشير، من دون تعليق، إلى البرميل المتفجر الواقع على مدخل بنايتهم، كما لو أن تدمير المخيم عن بكرة أبيه، وسقوط البراميل المتفجرة، والسرقة المعلنة لعناصر الأسد للمخيم الذي «حرّروه»، كلّها حوادث طبيعية، فالإعلاميّ، في النهاية، محسوب على هذه السرديّة التي دمّرت بيته وذكرياته وحوّلتها إلى هشيم، وهو مضطرّ لقبولها، إن لم يكن قادرا على التواطؤ الكلي معها.
لا يفعل النظام السوري في تدميره للمخيم وتهجير سكانه و«تعفيش» ما بقي من أغراضهم غير أن يتابع مسارا دمويا طويلا يمكن تتبعه من العام 1976 حين قاد ضباط جيشه الهجوم على مخيم تل الزعتر شرق بيروت، مما أدى لمقتل قرابة ألفي فلسطيني وتهجير ما تبقى من سكانه إلى الأبد، وكان في ذلك تأكيد من النظام، الذي كان يرأسه حافظ الأسد، للأمريكيين والإسرائيليين بأن الهدف من دخوله للبنان هو ضبط منظمة التحرير الفلسطينية، قبل أن يسلّم المهمة، عمليّاً، لإسرائيل التي اجتاحت لبنان عام 1982، لينهمك بقمع الداخل السوري بمجزرة رهيبة في مدينة حماه، وليعود بعدها للمشاركة العسكرية المباشرة ودعم «حركة أمل» في حصار مخيمات صبرا وشاتيلا (التي تعرّضت لمجزرة إسرائيلية عام 1982) وبرج البراجنة عام 1985، ما أدى إلى تدمير شبه كامل لمخيمي صبرا وشاتيلا.
لتجريف «عاصمة» الشتات الفلسطيني عبر محو مخيم اليرموك ماديا ومعنويا أهداف لا يمكن فهمها من دون قراءة تاريخ الارتباط بين فلسطين وسوريا، حيث تمت العودة إلى قرارات المؤتمر العربي الفلسطيني في القدس عام 1919 وكان من أشهرها «إعلان عروبة فلسطين واعتبارها جزءا لا يتجزأ من بلاد الشام»، وتكرار ذلك في المؤتمر السوري العام في دمشق عام 1920، بتأكيده على «استقلال سوريا بحدودها الطبيعية ومنها فلسطين ورفض جعلها وطنا لليهود»، وتم التذكير بتكليف المؤرخ الفلسطيني محمد عزة دروزة بإلقاء بيان الاستقلال السوري كإشارة رمزية لمعنى فلسطين في الوعي السوري التاريخي، وبعز الدين القسام، ابن سوريا، الذي كان قائدا بارزا للثورة الفلسطينية الكبرى عام 1935.
إنهاء وجود الفلسطينيين في سوريا، بهذا المعنى، هو تأكيد عضويّ للعلاقة بين نظام الاستيطان الإسرائيلي ونظام الاستبداد الوحشي في سوريا، والبطش بالثورة السورية، حسب هذا النظام، لا يكتمل، إلا بالبطش بالعلاقة السورية ـ الفلسطينية، وهو لا يقتصر على مخيم اليرموك، بل طال مخيمات درعا واللاذقية والسبينة والحسينية والسيدة زينب وخان الشيخ وحمص وحندرات.
يمكن النظر إلى إنهاء عملية اجتثاث ومحو أثر الفلسطينيين في سوريا أيضا ضمن ترتيبات سياسية وديمغرافية كبرى تبدأ من فلسطين نفسها، تحت مسمى «صفقة القرن»، وتمر بالضرورة بأماكن سيطرة نظام الأسد وتاريخه الطويل في تدمير القضية الفلسطينية باعتبارها بؤرة التمرد على الاستبداد والاحتلال.