النظام الإيراني... عودة هواجس البقاء
اتضحت الصورة بشكل جليّ في طهران. الولايات المتحدة عازمة على تكرار محاولات تغيير النظام الإيراني. هذا ما أوضحه إعلان وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو، بشأن الاستراتيجية الأميركية الجديدة تجاه إيران. جاءت لائحة الشروط الأميركية شاملة لكل نقاط الاختلاف بين إيران وجيرانها العرب والخليجيين من جهة، ومُعبِّرة عن كل الخطوط الحمر، والهواجس الأمنية الإقليمية والدولية تجاه المسألة الإيرانية عموماً.
هناك اعتقاد قوي في طهران بأن الخصوم الإقليميين كان لهم دور كبير في انسحاب الرئيس ترمب من الاتفاق النووي، وفي رسم معالم الاستراتيجية الأميركية الجديدة في المواجهة مع إيران. لم يعد سراً أن الإدارة الأميركية استجابت بشكل كامل للمخاوف العربية حيال الدور التخريبي الذي تمارسه إيران في المنطقة؛ وهو ما يعني أن طهران خسرت بشكل نهائي المواجهة الطويلة التي خاضتها داخل الولايات المتحدة، واستثمرت فيها طوال عقدين من الزمن، في صناعة وإدارة مجموعات الضغط (اللوبيات) الإيرانية في واشنطن. لم تفلح أيضاً الرهانات على إمكانية إغراء الرئيس ترمب بصفقات تجارية من أجل إبقائه داخل الاتفاق النووي. القوى المعارضة لإيران تجذّرت في واشنطن، وإبرام بضع صفقات تجارية كبيرة، ما كان يُمكنه تغيير واقع العداوة بين الجانبين.
وُصِفت استراتيجية الولايات المتحدة بأنها متماسكة، وشاملة. لكن هناك من أخذ عليها أنها متشدّدة؛ بحيث لم تدع مجالاً لإيران للتفاوض بشأنها، فهي أشبه بدعوة للاستسلام الكامل. الولايات المتحدة شرعت باستخدام كمّاشتين للضغط على طهران: الضغوط السياسية والعسكرية الدولية والإقليمية، وتحفيز الضغوط الداخلية والاعتراضات الشعبية.
تقديرات مراكز التفكير، والمواقع المقرّبة من النظام الإيراني تكشف التقدير الإيراني للموقف: «الرئيس ترمب انسحب من الاتفاق النووي، لأنه يراهن على أن ذلك يُمكن أن يُزعزع الاستقرار الداخلي في إيران، ويمهّد الطريق لاشتعال ثورة جديدة». وبناءً على معلومات تسربت إلى طهران فقد أبلغ رودي جولياني، وهو صديق مقرّب من الرئيس ترمب، منظمة «مجاهدين خلق» الإيرانية المعارضة في الخامس من مايو (أيار) 2018، بأن الرئيس لن ينسحب فقط من الاتفاقية النووية، بل إنه يريد تغيير النظام في إيران.
لا يعتقد المسؤولون الإيرانيون أن الحرب سيناريو محتمل، على الرغم من إقرارهم بأن الرئيس ترمب يسعى إلى تشكيل جبهة موحدة تضم قوى دولية وإقليمية، لمحاصرة النفوذ الإيراني في المنطقة. إنهم يراهنون في هذا الخصوص على رغبة الرئيس ترمب بضمان إعادة انتخابه لفترة رئاسية ثانية، وأن شنّ حرب جديدة في الشرق الأوسط، يؤثر بشكل خطير على فرص إعادة انتخابه. يجادل هؤلاء بأن الرئيس ترمب لن يخوض حرباً مع طهران إلاّ إذا استفزه الإيرانيون بشكل كبير. استفزاز يمنحه حجة قوية أمام الرأي العام الأميركي، وهو سيناريو تحرص طهران كل الحرص على عدم حدوثه.
في مثل هذه الظروف، من الطبيعي أن يشعر القادة في إيران بالحاجة إلى الوحدة الوطنية، فالتحديات تُهدّد بقاء النظام برمّته. وفي مشهد سينمائي أُعدّ بعناية فائقة، جمع خامنئي في بيته كل الذئاب المتحاربة داخل النظام على مأدبة إفطار سياسية، ليقول إن إيران متحدة. الحقيقة أن التصدعات التي أصابت خريطة توزيع القوة في إيران مؤخراً لا تزال فاعلة، ولذلك لن تمنع التحديات الجديدة من استمرار ظهور المؤشرات على الانقسامات، والصراعات الداخلية العميقة.
وبينما كانت طهران تعيش أسوأ أيامها، بادر «الحرس الثوري الإيراني» إلى الترويج لنفسه كبطل قومي؛ إذْ بدأت شركة «خاتم الأنبياء» حملة إعلامية لتعزيز سمعتها بوصفها قوة اقتصادية مُحرّكة في البلاد. وتعهدت الشركة بإنهاء 40 مشروعاً عملاقاً قبل نهاية السنة الإيرانية الجارية، وهي حملة لا يمكن تفسيرها في هذه الأوقات الصعبة إلاّ من باب التبجُّح.
الضغوط الاقتصادية تمثّل أساس الاستراتيجية الأميركية لردع إيران، وتستند هذه الضغوط إلى أسس قوية تتمثل في تعميق أزمة النظام المالية، والإضرار بصادرات النفط الإيرانية، ووقف، أو إضعاف تدفق رؤوس الأموال الأجنبية على إيران بشكل كبير، وتعميق الآثار السلبية لعمليات الإصلاح الاقتصادي الجارية حالياً في إيران. وقد نتج بالفعل عن إجراءات الحكومة الاقتصادية النيوليبرالية الكثير من الآثار الاجتماعية السلبية، والتي تمثلت في شكل اضطرابات واحتجاجات شعبية واسعة النطاق خلال الشهور الماضية.
صحيحٌ أن النظام الإيراني لم يعوّل كثيراً على العلاقات الاقتصادية مع الولايات المتحدة بعد توقيع الاتفاق النووي، ولم يرغب في ربط الاقتصاد الإيراني كثيراً بالاقتصاد الأميركي؛ لضمان خط العودة في حال أخفقت محاولات التقارب السياسي بين الجانبين. لكنّ ما كان يُهم إيران حقاً هو عدم عزل البلاد عن الأسواق الدولية، لتلبية احتياجاتها في مجال التجارة والاستثمار. وهذا بالضبط ما تستهدفه العقوبات الأميركية.
باتت خيارات طهران محدودة؛ الرهان على عزل الرئيس ترمب وفريقه في داخل الولايات المتحدة تراجع، والرهان على عزل الولايات المتحدة دولياً في المسألة الإيرانية غير ممكن. بقي الرهان على مساندة الحلفاء الشرقيين؛ لكنّ خبراء اقتصاديين يحذرون أيضاً من أن لدى موسكو وبكين مصلحة في عودة العقوبات الأميركية على طهران، لأنها تسمح لهما بالانفراد بالسوق الإيرانية.
لا مجال للتهور في ظل وجود رئيس حازم في البيت الأبيض؛ يحاول الإيرانيون التصرف بشكل مختلف على الساحة الدولية. استئناف البرنامج النووي، أو استفزاز القوات الأميركية في الشرق الأوسط ستكون له عواقب وخيمة. ولعله بات من المطلوب الإذعان بأن الاتفاق النووي انتهى. حاول الإيرانيون إثارة الكثير من الفزع حول سيناريو انهيار الاتفاق النووي. لكنّ هذا السيناريو هو الأقل سوءاً بالنسبة إلى دول المنطقة، لأنّه يُبقِي المواجهة حول المسألة الإيرانية بين إيران والعالم، بينما السيناريوهات الأخرى تُبقي دول المنطقة الطرف الرئيس في المواجهة مع إيران.