مقالات مقالات رأي بحوث ودراسات كتاب الثورة
٢٨ سبتمبر ٢٠١٨
تفاهم روسيا وإسرائيل على الأسد

سيبقى حادث إسقاط الطائرة الروسية، في السابع من شهر سبتمبر/ أيلول الحالي، يلقي بظلاله على الوضع في سورية إلى وقت طويل، كونه كشف عن جملةٍ من الأوراق التي تلعبها أطراف النزاع، وهي تتبادل المصالح في هذا البلد المنكوب. وجرى التركيز، على مدار أسبوع، على التجاذب الروسي الإسرائيلي حول مسؤولية تل أبيب عن إسقاط طائرة الاستطلاع الروسية التي أصابها صاروخ روسي، أطلقته الدفاعات الجوية السورية باتجاه طائراتٍ حربية إسرائيلية، كانت تقصف أهدافا عسكرية قرب اللاذقية، وانهمكت الأطراف في مآلات التنسيق بين موسكو وتل أبيب في سورية ومستقبله، وهو التنسيق الذي بدأ عمليا بعد فترة قصيرة من التدخل العسكري الروسي لنجدة نظام بشار الأسد الذي كان يتهاوى، ولم تعد إيران قادرةً على إيقافه على قدميه، وتبين أن هذا المعطى دخل في صلب اتفاقات روسيا وإسرائيل، وقبلت به دمشق وطهران.

وتكشّف، أخيرا، بما لا يقبل التأويل أو الشك، أن التفاهم الأساسي بين إسرائيل وروسيا يقوم على قاعدة أن توافق تل أبيب على تدخل روسيا لنجدة الأسد، في مقابل موافقة روسيا على استمرار إسرائيل في الغارات على أهداف عسكرية داخل سورية، تعود، في الدرجة الأولى، لإيران وحزب الله، وخصوصا مخازن وشحنات الأسلحة التي ينقلها حزب الله من سورية إلى لبنان.

كانت إسرائيل، في عام 2015، الطرف الإقليمي الأكثر قوة من بين أطراف المعادلة السورية، ويتضح اليوم أنها كانت قادرة على فرض شروطها على بقية الأطراف. ويتبين، بمفعول رجعي، أنها قايضت ورقة بقاء الأسد بامتيازات ومصالح كثيرة داخل سورية. وفي هذه المعادلة، ما يهمّ روسيا هو بقاء الأسد الحارس لمصالحها. وما يعني إسرائيل هو ضرب النفوذ الإيراني في سورية. ويظهر من ذلك أن موسكو وتل أبيب على قدر كبير من التفاهم الذي بات راسخا، على الرغم من الخضّات، بما في ذلك إسقاط طائرة التجسّس الروسية قرب اللاذقية، في حين أن موسكو وطهران لا تتمتعان بالسوّية نفسها من التفاهم الذي يبقى معرّضا لمساومات روسيا التي باتت تتحكم بالقدر الأكبر من الأوراق السورية.

كشفت عملية إسقاط الطائرة أن التنسيق بين إسرائيل وروسيا يتم بدقة كبيرة منذ عام 2015، وفي كل مرة كانت إسرائيل تريد ضرب أهداف داخل سورية، كان عليها فقط أن تُعلم الجانب الروسي من خلال الخط الساخن. وفي حادثة الطائرة أخيرا جرى تضليل الروس، حسب ما جاء في التقرير النهائي، وورد فيه أن إسرائيل أعطتهم إشعارا بأنها سوف تضرب في الجنوب، لكنها ضربت في الشمال، عدا عن أنها استخدمت الطائرة الروسية للتشويش، ولم يأخذ الروس بهذه الرواية، الأمر الذي يثير الشكوك حول تفاصيل وخفايا لا يريد الطرفان الكشف عنها في الوقت الراهن، وقد يتكشّف، ذات يوم، أن مشكلة إسرائيل هي طائرة التجسّس الروسية نفسها.

اللافت في هذه الأزمة هو غياب طرفي النظام السوري وإيران والمليشيات التي تقاتل معه. وعلى الرغم من أن الحديث يجري بصراحة عن تفاهم إسرائيلي روسي لضرب الأهداف الإيرانية داخل سورية، فإنه لم يصدر أي موقف إيراني أو من طرف حزب الله الذي أكد، أكثر من مرة، وجود غرفة عمليات مشتركة في حميميم. والسؤال اليوم، هل تكتفي طهران بهذا القدر من الغنيمة السورية، وهي التي استثمرت غاليا في هذا البلد؟

يبدو أن ما حققته طهران من التفاهم مع موسكو حتى الآن هو بقاء الأسد في الحكم، وهذا ما تضمنه روسيا عن طريق التفاهم مع إسرائيل، وبذلك يصبح الأسد قاسما مشتركا بين أطراف صراع المصالح في سورية، وهذا ما يجعل من بقائه رهينة مصالح الخارج.

اقرأ المزيد
٢٨ سبتمبر ٢٠١٨
إيران ومأزقها الصعب

 قرار موسكو تزويد دمشق منظومة «أس 300» للدفاع الجوي، كأنه للوهلة الأولى يطوي صفحة تفجير العرض العسكري الإيراني في الأهواز، لكن القضيتين مطروحتان معاً بأخطارهما المحتملة المضافة إلى أزمات الشرق الأوسط الدموية.

الولايات المتحدة وإسرائيل تدركان تبعات تعزيز الدفاعات الجوية السورية نوعياً، لكن واشنطن أوضحت رد فعلها على الحدث: أن الجيش الأميركي سيبقى في قاعدة التنف وشمال شرقي سورية حتى انسحاب القوات الإيرانية ومؤيديها المسلحين إلى الداخل الإيراني. لم تقل أن جيشها سيبقى حتى انسحاب الجيش الروسي من سورية. ويبدو أن الأمر متفق عليه بين القوتين العظميين، وفي إمكان إسرائيل أن تضرب أي مكان في سورية، عدا منطقة الساحل التي أصبحت منذ إسقاط الطائرة «إيل 20» بمثابة جزء من السيادة الروسية، فتساهم بدورها في مهمة الفصل بين إيران وسورية (ولبنان بالطبع) التي يتولاها الجيش الأميركي. هكذا تبدو أخطار «أس 300» محتملة، لأن موسكو لن تقطع خيوط التفاهمات مع إسرائيل في ما يتعلق بأمنها وصيانة حدودها من الجانبين السوري واللبناني (بالتبعية).

هنا يبرز التهديد الإيراني في المشهد، على رغم اللهجة الهادئة للقيادي علي شمخاني الذي صرح عقب تفجير الأهواز بأن بلاده «تحتاج حواراً بناءً لتفادي التوترات مع جيرانها»، هدوء ترافق مع كلام عالي النبرة من المرشد وآخرين، من باب تأكيد العظمة التي تعرضت لشرخ تخشى طهران أن لا تستطيع استيعابه فيما هي غارقة في مشاكل المحيط. وأخشى ما يخشاه حكام طهران اليوم أن يعتاد الشعب على الخروق الأمنية ويعتبرها أمراً واقعاً، فتنضم إيران إلى غيرها من دول الشرق الأوسط، خصوصاً جارتيها العراق وسورية، وتهبط من علياء الامبراطورية التي نسبتها إلى نفسها ومارست تبعاتها، في الجانب العسكري طبعاً لا في الجانب الحضاري.

وتشكل خطب التهديد والوعيد نوعاً من العهد يقدمه الحاكمون إلى الشعب، وبذلك يصبحون أسرى خطبهم هذه، ولا يستطيعون التخفّف منها إلا بعمليات عسكرية خارج الحدود، عمليات لا تقدم حلاً بقدر ما تعرّض النظام الإيراني إلى الغرق مباشرة في بحر المنطقة المتلاطم، بعدما كلف بهذه المهمة الخطرة أذرعاً تستنزفه مالياً لا بشرياً. ولا بد أن أحداً ما في الجسم القيادي الإيراني الذي يتنافس في الحماسة، يتنبه إلى دروس التاريخ القريب والمتوسط، فالرئيس العراقي صدام حسين «عالج» مشكلات حكمه الاقتصادية وغير الاقتصادية باحتلال الكويت، وكان ذلك العلاج الدموي سبباً مباشراً لسقوط حكمه وانهيار العراق لاحقاً. وفي ثلاثينات القرن الماضي رأى أدولف هتلر أن ألمانيا محرومة من خيرات الاستعمار خارج أوروبا، وأن فرنسا وبريطانيا وبلجيكا وهولندا وغيرها تتقدم اقتصادياً على وطنه المتميز حضارياً وعلمياً، بل الأفضل عرقياً، بحسب نظريته النازية الطاردة للآخر. و «اضطر» هتلر إلى إشغال الحرب العالمية الثانية بهدف الاستيلاء على أوروبا وتطبيق نظريته بالعنف المسلح، وكان ما كان من خسائر طاولت أوروبا والعالم.

هل «تضطر» إيران إلى الحرب بذريعة تفجيرات الأهواز، وبذرائع غير مباشرة كالتدهور الاقتصادي والفشل في تصدير الثورة؟ سؤال مطروح لأن إيران تحولت من دولة إلى ثورة فإلى مشكلة لها وللقريب والبعيد، تتفاقم حين يقوى النظام ولا تتراجع إذا ضعف، ذلك أن ما ينسب حكام طهران إلى أنفسهم من رسالة دينية- عسكرية- سياسية، وقومية في جانبها المستتر، يرتب مهمات خطرة على المواطن الإيراني ومواطني الدول المجاورة. وهذا الذي تكرره طهران، أو يخشى أن تكرره، سبق أن تورطت فيه أنظمة شمولية ألحقت الأذى بشعوبها وبشعوب قريبة وبعيدة.

لا يرغب عاقل من الإيرانيين وجيرانهم في رؤية جيش المرشد موجهاً آلته العسكرية ضد هذا البلد أو ذاك في المنطقة. لكن حكام طهران أمام مأزق صعب: أن يصمتوا ويستوعبوا تفجيرات الأهواز فيفقدوا بعضاً من هيبتهم في الداخل والخارج، أو يعمدوا إلى عدوان تحت شعار الثأر فيتأكد للإيرانيين والعالم أن النظام يصدّر مشكلاته الداخلية في حرب إقليمية.

هذا المأزق يتطلب حكمة صعبة المنال، وتقديراً واقعياً لأحجام الدول والشعوب يؤدي إلى تبادل الاحترام والمنفعة، لا إلى طموحات قاتلة.

اقرأ المزيد
٢٨ سبتمبر ٢٠١٨
هل ينجح اتفاق سوتشي؟

كانت البشرية تخشى وقوع كارثة إنسانية كبرى في إدلب، وكان الموعد المتوقع لبدء هجوم يشارك فيه نظام الأسد وروسيا وإيران هو شهر سبتمبر الحالي، ليعلن النظام انتصاراً كاسحاً، وليعاقب الشعب السوري الثائر ضده، وبخاصة أولئك الذين رفضوا الاستسلام له تحت لافتة (المصالحات) وفضلوا التهجير القسري إلى إدلب، التي تجمّع فيها مئات الآلاف من المعارضين العسكريين والمدنيين، وقد أجل النظام موعد تصفيتهم حتى ينتهي من الغوطة وريف حمص وحوران، وقد بدأ الإعداد لاجتياح إدلب في شهر يوليو الماضي، وكان ذلك إيذاناً بمواجهة عسكرية تحتاج إلى تدخل روسي وإيراني كبير لأن النظام بقواه العسكرية المنهكة لا يستطيع الاقتراب من إدلب في حرب مواجهة، لكنه يعتمد على سياسة الأرض المحروقة التي اعتمدها الروس في إسقاط كل المناطق التي عاد إليها النظام منتصراً بفضل همجية القصف الجوي.

ولم تظهر حماسة إيران لاقتحام إدلب في قمة طهران التي عقدت في السابع من سبتمبر الحالي، فالإيرانيون يعرفون أن الروس سيشاركون بالصواريخ والطائرات فقط، وأن عليهم هم أن يواجهوا في الحرب البرية، وهم يدركون أنها لن تكون حرباً سهلة، وهم يعرفون أن حجم قوات النظام لا يكفي للسيطرة على الأرض التي تضاهي مساحة لبنان. والروس يدركون أن حرب إدلب ستكون مكلفة جداً في عدد الضحايا من المدنيين، فالقصف الجوي لا يفرق بين مدني وعسكري، ولا بين معتدل وإرهابي، ويبدو أن الروس وهم يقتربون من نهاية الحرب في سوريا يريدون الخروج منها منتصرين على الإرهاب لتسويغ دخولهم، وليس على أشلاء مئات الآلاف من النساء والأطفال والشيوخ من المدنيين، بحيث تبقى أيديهم تقطر دماً في ذاكرة البشرية، وأمامهم خصوم يتربصون، وللأسف لم يكن حجم الضحايا المتوقع هو مصدر الحذر الدولي، بمقدار ما كان الخوف من مواجهة موجات نزوح وهجرة جديدة عبر تركيا إلى أوروبا، ولم يكن مستبعداً أن يصل عدد الهاربين من الموت إلى أكثر من مليوني إنسان، زيادة على ملايين السوريين الذين هربوا في سنوات الجمر السابقة، وكانت تركيا بوصفها المنفذ الوحيد جغرافياً مضطرة بأن تسمح للملايين أن يعبروا أرضها وأن تفتح لهم منافذ الهجرة حيث يشاؤون، ولن تكون الأمم المتحدة قادرة على مواجهة هذا العبء الضخم، لذلك جاء اتفاق سوتشي حلاً إنقاذياً، ويبدو أن روسيا قبلت به لتفادي هذه التداعيات، ولاسيما أن الولايات المتحدة خرجت من حالة التخلي السابقة، وبدأت تطلق التصريحات النارية التي تحذر من استخدام الكيماوي ومن الإضرار بالمدنيين، وأيدها موقف دولي.

لقد جاء الاتفاق حسب رؤية تركية وموافقة روسية، وصمت إيراني، معلناً العزم على إقامة منطقة آمنة (طالما دعت إليها تركيا لحل مشكلة ملايين اللاجئين السوريين في أراضيها) ولنزع السلاح الثقيل في المنطقة، وإيجاد طرق ممكنة لإنهاء وجود التنظيمات الإرهابية، وكان أهم ما في الاتفاق أنه يعيد لبيان جنيف والقرارات الدولية حضوراً قانونياً كان يختفي عبر المراوغات التي مكنت النظام من التهرب من أي استحقاق سياسي.

وأهم ما في هذا الاتفاق أنه يجعل إيران خارج مشهد الحسم السياسي النهائي في جنيف، ويتعامل مع الداعين لتقسيم سوريا معاملته مع الإرهابيين، ويحمّل المجتمع الشعبي المحلي مسؤوليات ملء الفراغ السياسي والإداري.

إن الضامن الوحيد لنجاح هذه الاتفاقية هو الجدية في التوجه إلى الحل النهائي، والذي نصر على أن يتم عبر تنفيذ دقيق لتراتبية القرار 2254، حيث يكون البدء بتنفيذ البنود الفوق - تفاوضية وأهمها إطلاق فوري لسراح المعتقلين، وتشكيل هيئة حكم انتقالي تقوم بتشكيل حكومة تشاركية، وتضع إعلاناً دستورياً، وتشكل جمعية تأسيسية لوضع دستور جديد، وتؤسس لمجلس عسكري مشترك، وتعيد هيكلة الجيش وأجهزة الأمن، وتبدأ مرحلة العدالة الانتقالية وتدعو لانتخابات برلمانية ثم رئاسية، ولذلك أعتقد أن البدء بالدستور وبعده الانتخابات بقيادة النظام نفسه ستكون ملهاة مأساوية جديدة، واستدامة للصراع، وليس علاجاً ناجحاً أن يغلق المعالج جرحاً على ما فيه من عفن.

اقرأ المزيد
٢٨ سبتمبر ٢٠١٨
مسألة نظام.. وليست مسألة صواريخ!

زودت روسيا النظام السوري بصواريخ “أس–300” أم لم تزوده بمثل هذه الصواريخ… ليست تلك المسألة. هذا عائد إلى أن مشكلة روسيا في سوريا تكمن في مكان آخر لا علاقة له بالأسلحة والصواريخ، أيّا يكن نوعها ومداها وقدراتها وفعاليتها.

يمثل ردّ الفعل الروسي على إسقاط طائرة نقل روسية بصاروخ سوري استثمارا في عملية لا أفق لها. اسم هذه العملية الفاشلة من أساسها هو إنقاذ النظام السوري الذي على رأسه بشّار الأسد.

ما يكشفه القرار الروسي في شأن شبكة الصواريخ الذي أعلن عنه وزير الدفاع سيرغي شويغو، ورافقه اتصال من الرئيس فلاديمير بوتين ببشّار الأسد، يؤكّد أن روسيا مصرّة على السير في الطريق الخطأ وتعميق أزمتها السورية. تفعل ذلك بدل الذهاب مباشرة إلى لبّ المشكلة. لبّ المشكلة أن النظام السوري ليس قابلا للحياة بأي شكل، لا لشيء سوى لأنّ لا شرعية لديه في الأصل. إنّه نظام منبثق من انقلاب عسكري في الثامن من آذار – مارس 1963، انتهى شيئا فشيئا إلى نظام أقلّوي في عهد حافظ الأسد تمهيدا للوصول إلى نظام حكم العائلة في عهد بشّار الأسد بالتعاون الكامل والتنسيق مع النظام القائم في إيران. من لديه أدنى شكّ في العلاقة العضوية بين النظام السوري وملالي إيران يستطيع العودة إلى ما ورد قبل أيّام في مطالعة الادعاء العام للمحكمة الدولية الخاصة بلبنان في لاهاي. كشفت تلك المطالعة مدى عمق العلاقة بين دمشق وطهران في كلّ ما له علاقة بعملية الإعداد لاغتيال رفيق الحريري ورفاقه في الرابع عشر من شباط – فبراير 2005 وتنفيذ هذه العملية بواسطة أداة إيرانية.

لم يعد سرّا أنّ إسرائيل تسببت بطريقة غير مباشرة في إسقاط الطائرة الروسية من طراز “اليوشن- 20” قبالة شاطئ اللاذقية، ما أدّى إلى مقتل ركابها وهم عسكريون. أغارت طائرات إسرائيلية على مواقع في الساحل السوري من دون إعطاء ما يكفي من الوقت للجانب الروسي كي يبعد الطائرة إلى منطقة آمنة. يشكل ذلك من دون شكّ استخفافا إسرائيليا بالتنسيق مع روسيا في كلّ ما له علاقة بقصف مواقع تعتبرها إسرائيل أهدافا يحقّ لها ضربها في عمق الأراضي السورية كلّها.

هناك، إذا، اعتراف من روسيا بحقّ إسرائيل في مهاجمة أهداف في سوريا، لكنّ إسرائيل خرقت قوانين اللعبة والاتفاقات مع موسكو، ربّما عن قصد أو عن غير قصد. لم يكن أمام روسيا سوى الإقدام على ردّ فعل، أقلّه إنقاذا لماء الوجه. الأكيد أن صواريخ “أس- 300” ستساعد في ذلك، أقلّه في المدى القصير. سيخدم ردّ الفعل السلطات الروسية في استعادة هيبتها في الداخل. وهذا شيء في غاية الأهمّية بالنسبة إلى بوتين الذي عرف كيف يثير لدى المواطن الروسي مشاعر عميقة كامنة في نفسه مرتبطة، أولا وأخيرا، بالشعور بأن الأمة الروسية أمة عظيمة يجب أن تأخذ مكانها الطبيعي على الصعيد العالمي. أكثر من ذلك، أعاد بوتين للمواطن الروسي شعورا بأن بلده عاد دولة عظمى، على غرار ما كانت عليه الحال أيّام الاتحاد السوفياتي.

ليس هناك ما يمكن فعله لإعادة توحيد سوريا وبقاء البلد تحت سيطرة عائلة حاكمة تديره كما لو أنها تشكّل مجلس إدارة لشركة قابضة تتصرّف بالأرواح والممتلكات والثروات… وتصدّر الإرهاب إلى جيرانها.

حسنا، خدم ردّ الفعل الروسي الهدف المطلوب في المدى القصير، لكنّه لا يعني أن روسيا وجدت لنفسها حلا في سوريا حيث تريد أن تتحكّم بكل خيوط اللعبة. قبل كلّ شيء، سيتوجب على روسيا الإجابة عن سؤال يعتمد في الدرجة الأولى على رد الفعل الأميركي. هل تستطيع ضمان خروج إيران عسكريا من سوريا أم لا؟ إذا كانت الولايات المتحدة مصممة على ذلك، يتبيّن كلّ يوم أن روسيا غير قادرة على تنفيذ المطلوب منها إسرائيليا وأميركيا. في النهاية، لا تستطيع روسيا تبرير عجزها بالرهان على حصان خاسر هو النظام السوري. هذا النظام انتهى مثله مثل نظام ألمانيا الشرقية أو بلغاريا أو هنغاريا أو بولندا أو تشيكوسلوفاكيا… أو رومانيا نيقولاي تشاوشيسكو.

بات معروفا أنّ سوريا التي عرفناها لم تعد موجودة. ليس هناك ما يمكن فعله لإعادة توحيد سوريا وبقاء البلد تحت سيطرة عائلة حاكمة تديره كما لو أنها تشكّل مجلس إدارة لشركة قابضة تتصرّف بالأرواح والممتلكات والثروات… وتصدّر الإرهاب إلى جيرانها.

من الطبيعي أن تعمل روسيا من أجل استعادة هيبتها ولكن ما هو طبيعي أكثر سعيها إلى الخروج من أزمتها السورية عبر ولوج بوابة الحل الذي قد يستغرق وقتا طويلا. لعلّ الخطوة الأولى في هذا المجال تتمثل في الاقتناع بأنّ النظام القائم لا مستقبل له، وأنّ الحلّ يمر حتما في الخروج الإيراني من سوريا. كلما كان هذا الخروج باكرا، كلّما صار البحث عن حل سياسي أكثر سهولة. لا مفر من أن تشارك في الحل المنشود أطراف عدّة في مقدّمها الولايات المتحدة التي يبدو أنّها مصرّة على البقاء في منطقة شرق الفرات، كما أنّها مصرّة على تلبية كلّ ما تطلبه إسرائيل منها، خصوصا عندما يتعلّق الأمر بمنطقة الجنوب السوري وتهريب الأسلحة الإيرانية إلى داخل البلد.

إذا كان الإعلان من موسكو عن تزويد النظام السوري بمنظومة دفاعية جديدة أدّى غرضه روسيا، لا مفرّ من الذهاب إلى أبعد من ذلك، أي إلى الأسئلة المحرجة من نوع ماذا إذا تابعت إسرائيل قصف مواقع وأهداف في سياق حربها على الوجود الإيراني في سوريا. هل يمكن لروسيا الدخول في مواجهة معها، في وقت تعرف تماما أن اللوبي الإسرائيلي في موسكو قويّ جدا وأن اللوبي الروسي في إسرائيل لا يقلّ عنه قوة؟

لنترك الجانب المتعلّق بإسرائيل جانبا. هناك واقع لا يمكن الهرب منه. هذا الواقع مرتبط بإعادة إعمار سوريا في يوم من الأيام. من أكثر النكات الصادرة عن وليد المعلّم، وزير الخارجية لدى النظام السوري، ظرافة قوله في أثناء زيارته الأخيرة لموسكو إن دمشق ستكافئ روسيا عن طريق إعطائها كل مشاريع إعادة الإعمار. قد يكون ما قاله المعلّم صحيحا لو كانت روسيا تمتلك ما تستثمره في سوريا في مشاريع إعادة إعمار. لذلك ليس كلام المعلّم أكثر من نكتة تندرج في إطار البيع المتبادل للأوهام. النظام السوري يبيع روسيا وعودا، وروسيا تبيع النظام صواريخ مضادة للطائرات لن تقدّم ولن تؤخر في ظلّ الهوة الضخمة بين التكنولوجيا الأميركية والتكنولوجيا الروسية.

باختصار، باتت الخطوة الأولى، في حال كانت روسيا، مع إسرائيل وأميركا، تريد بالفعل وقف عملية التفتيت المبرمجة للبلد، تُختزل في البحث عن نظام جديد. نظام يكون بعيدا كلّ البعد عن النظام الحالي الذي قدّم كل ما يستطيع تقديمه، وفعل كلّ ما يجب فعله من أجل حماية نفسه. بدأ ذلك بتسليم الجولان إلى إسرائيل في 1967 وانتهى باعتباره قضيّة منسيّة السنة 2018…

اقرأ المزيد
٢٧ سبتمبر ٢٠١٨
عقاب روسي لإسرائيل من دون ضوابط لإيران

 إسقاط طائرة «إيليوشن 20» الروسية في أجواء اللاذقية قد يكون أكثر خطورة مما يبدو، أقلّه في ضوء التعثّر الذي يمرّ به الدور الروسي في سورية. فهو حدث مختلف عن إسقاط تركيا «السوخوي 24» أواخر تشرين الثاني (نوفمبر) 2015 وأدّى لاحقاً إلى نشوء «علاقة استراتيجية» آخذة بالنمو والتطوّر بين موسكو وأنقرة. وهو مختلف أيضاً عن إسقاط «السوخوي 25» فوق إدلب أوائل شباط (فبراير) هذه السنة، وهذه عملية نُسبت إلى «فصيل معارض» يُعتقد أنه «هيئة تحرير الشام» ولم تتكرّر، لكن تلتها هجمات كثيفة بالطائرات المسيّرة على قاعدة حميميم وقد ردّ الروس عليها بعشرات الغارات الجويّة لكنهم اعتبروها أحد أهمّ الدوافع لاجتياح إدلب، وتشكّل الآن أبرز أهداف الاتفاق الأخير بين فلاديمير بوتين ورجب طيب أردوغان. ولا شك في أن مقتل خمسة عشر عسكرياً روسياً في «إيليوشن 20»، بعد ساعات قليلة على إعلان هذا الاتفاق في سوتشي، أطلق موجة تخمينات تراوحت بين غضب النظامَين السوري والإيراني على إلغاء/ تأجيل معركة إدلب وبين استياء إسرائيلي من «الترقية» الإقليمية التي تمنحها روسيا للنفوذ التركي.

عندما لخّص بوتين الحادث الأخير بـ «سلسلة ظروف مأسوية عَرَضية» كان على الأرجح حريصاً أولاً على إبلاغ الداخل الروسي بأن العسكريين القتلى لم يسقطوا في مواجهة حربية ولا في اعتداء مدبّر. وبما أن وزارة الدفاع الروسية سارعت إلى إلقاء المسؤولية على إسرائيل وردّت الأخيرة باتهام دفاعات النظام السوري، فقد اختلط الأمر وبدا كأن ثمة رأيَين في الكرملين، واحدٌ أقرب إلى إسرائيل والآخر إلى دمشق. غير أن التحقيق الذي بدأ مع مسؤولي الدفاع الجوي في منطقة الساحل السوري واستُكمل مع وفد سلاح الجو الإسرائيلي، بعد انتشال الطائرة من مياه المتوسط، لم يكتفِ بفرضية المصادفة المؤسفة بل ركّز على معلومات مضلّلة وسوء تصرّف من الجانب الإسرائيلي أدّيا إلى وقوع الطائرة في مرمى «النيران الصديقة».

بعد مرور أكثر من أسبوع وإعلان نتائج التحقيق، تبدو موسكو أكثر ميلاً إلى التعامل مع الحادث بإدخال تعديلات على استراتيجيتها في سورية لتعويض الإخفاقات في رهاناتها على الولايات المتحدة. يُشار هنا إلى أن التوافق الأكثر صلابة بين الرئيسين الأميركي والروسي في هلسنكي كان يتعلّق بأمرَين: «أمن إسرائيل» وهو ما التزمته موسكو على الدوام، و «إخراج إيران من سورية» لكن من دون التزام روسي واضح، لأن الجانب الأميركي لم يقدّم عرضاً متكاملاً، أي أن بوتين لم يتعرّف إلى «ثمن إخراج إيران». لذلك، قد تعتبر موسكو أن إسرائيل حققت أهدافها الأمنية في سورية، وأن إسقاط الطائرة ولو بصواريخ الدفاعات السورية فرصة لضبطها وفرملة العمل بـ «تفاهمات» بوتين - نتانياهو التي مكّنت الإسرائيليين من شنّ مئات الغارات على مواقع إيرانية. وإذ بدا أن هناك تجميداً للنشاطات الإسرائيلية أكّده الروس بإغلاق المجالَين البحري والجوي بحجة إجراء مناورات بالصواريخ كانوا أجروها فعلاً قبل أسبوع، فإن بنيامين نتانياهو وأفيغدور ليبرمان دأبا على تأكيد أن إسرائيل لن تتوقّف عن استهداف الوجود الإيراني في سورية.

في سياق الكشف عن خلاصة التحقيق، يوم الأحد 23/09، قالت موسكو أن كل القوات الإيرانية وتلك التي تدعمها «انسحبت إلى مسافة 140 كيلومتراً بعيداً من الجولان»، ما يعطي أماناً كافياً لإسرائيل. كان التطرق إلى تموقع الإيرانيين غاب عن الإعلام منذ قيل أن إسرائيل رفضت عرضاً بانسحابهم إلى مئة كيلومتر، لذلك انطوى الإعلان الأخير على دلالات عدة، منها: 1) أن موسكو ضغطت على إيران وانتزعت منها اتفاقاً لإرضاء إسرائيل، لكن أيّاً من الدول الثلاث لم يعلن عن ذلك سابقاً. 2) أن التزام روسيا «أمن إسرائيل» كان مبرّراً مبدئياً للسماح لها بضرب الإيرانيين لكن إبعاد هؤلاء من الجولان وتمركز فرق من الشرطة الروسية مع قوات النظام السوري فيه أزالا احتمالات أي احتكاك إسرائيلي - إيراني. 3) إن الخطأ الذي ارتكبه الإسرائيليون لن يكون ثمنه أقلّ من مراجعة العلاقة العسكرية بين الجانبين ووضع قواعد جديدة صارمة للتنسيق بينهما، أي أن «حرية التحرك» التي تمتّع بها الإسرائيليون لن تعود كما كانت. 4) إن موسكو عبّرت عملياً، بتأكيدها انسحاب الإيرانيين وأتباعهم من الجولان، عن كونها غير معنيّة بسعي إسرائيل (أو أميركا) إلى منع «التموضع» الإيراني في سورية ولا باستخدام الإيرانيين الأراضي السورية لتمرير أسلحة إلى «حزب الله» في لبنان إذ قال الناطق باسم وزارة الدفاع الروسية أن إيران أكدت خلال المشاورات معها أن «لا نيات عدوانية لديها تجاه إسرائيل».

تُظهر مصطلحات، مثل «الرد الجاحد» على كل ما فعلته روسيا لإسرائيل، و «الاستهتار الإجرامي» و «المعلومات المضلّلة» و «نزعة المغامرة»، إلى أن العلاقة بين القيادتين العسكريتين تأثرت في العمق. يُستدلّ على ذلك أيضاً من ردود الفعل الإسرائيلية التي انتقد بعضٌ منها بشدّة محاولات إلقاء اللوم على النظام السوري أو إيران، واستنتج بعضٌ آخر أن إيران خرجت مستفيدة من الخلاف غير المتوقّع مع موسكو لأن تقنين الهجمات سيعفي نشاطات نقل الأسلحة والبرامج الإيرانية من أي مباغتات قاتلة أحياناً. هكذا، فجأة، تبدّلت التقديرات السابقة بأن العلاقة الروسية - الإسرائيلية «استراتيجية»، وأن بوتين قد يكون أراد هذه العلاقة لإقامة «توازن» مع الوجود الإيراني وتحسّباً لأخطار انهيار التعايش غير المريح بين الجانبين الروسي والإيراني، خصوصاً أن الأخير ما كان ليرضخ لمشروعات إخراجه من سورية حتى لو دعمها الروس. فمع اعتراف النظامين السوري والإيراني بالمكاسب التي مكّنتهما روسيا منها إلا أنهما متشبثان بتحالفهما، سواء لارتباط مصيرهما أو لشعورهما بأن روسيا قد تغدر بهما إذا عرضت عليها صفقة مجدية، ويتردّد في الحلقات الضيّقة أن لديهما خططاً لـ «مقاومة» حالٍ كهذه.

ساد الاعتقاد لفترة أن ما تنجزه إسرائيل في سورية يشكّل «مصلحة مشتركة» لها ولروسيا - كذلك للولايات المتحدة - فكلّما أضعفت الإيرانيين وتجنّبت تهديد نظام بشار الأسد أشعرت روسيا بأنها تخفّف عنها أعباء ستفرض ذاتها لاحقاً حين تشارف على إنهاء الأزمة السورية. وبمعزل عن الحاجة إلى الإيرانيين وأتباعهم في القتال البرّي، لمس الروس سلبيات دور إيران وتحالفها مع الأسد في الحدّ من نجاحهم في توجهاتهم الثلاثة: إنهاء الحرب في جانبها العسكري، وصوغ أي حل يتضمّن شيئاً من الانتقال السياسي، واجتذاب الحكومات الغربية للمساهمة في تمويل إعادة الإعمار، إذ تربط إيران أي تسهيلات في سورية (واستطراداً في العراق ولبنان واليمن...) بضمان مسبق لنفوذها ومصالحها الإقليمية، وإذا لم يتحقّق ذلك فإنها ستواصل استراتيجية الحروب الدائمة. ولا تستطيع روسيا وحدها، والأرجح أنها لا تريد، توفير هذا الضمان على المدى الطويل.

كان واضحاً في الإجراءات «الانتقامية» كما وصفها وزير الدفاع الروسي أنها اهتمّت أولاً وأخيراً بسلامة العسكريين الروس، ولذا رمت جانباً مطالبات إسرائيلية دائمة وملحّة بعدم تزويد قوات النظام السوري صواريخ «إس 300»، لكن الأهم أنها قرّرت استخدام التشويش لمنع أي هجمات إسرائيلية على مواقع إيرانية طالما أنها أصبحت بعيدة ولم يعد هناك مبرّر أمني لضربها. تلك خسارة فادحة لإسرائيل، لا تحدّ من طموحاتها وتدخلاتها فحسب بل تعطّل صراعها المفتوح مع إيران، وأي صيغة جديدة لمعاودة التعاون مع روسيا لن تعيد «شهر العسل» مع موسكو إلى ما كان عليه. وتشكل الإجراءات الروسية أيضاً رسالة موجهة إلى الولايات المتحدة، فهذه كانت تدعم الضربات الإسرائيلية المنسّقة مع روسيا باستراتيجية «إخراج إيران من سورية» لكن ها هو بوتين يبلغها الآن أولاً أنه لا يأخذ بهذه الاستراتيجية ما لم تكن جزءاً من صفقة متكاملة، وثانياً أنه لا يستطيع تمرير الخطأ الإسرائيلي من دون عقاب، وثالثاً أن نهج العقوبات المعمّمة كما تنتهجه إدارة دونالد ترامب يدفعه إلى العمل مع القوى الإقليمية المستعدّة للتعاون معه.

اقرأ المزيد
٢٧ سبتمبر ٢٠١٨
تحدّيات تطرحها إدلب على المعارضة

تشكّل إدلب لحظة تحدٍّ حقيقية، ليس للفريق الذي يريد استهدافها وحسب، وإنما أيضاً للمعارضة السورية التي عليها اجتراح أسلوب إدارة خلاق، للاستفادة من الزخم الذي وفره الحراك الشعبي الكبير، بعد خروج المظاهرات الحاشدة، واعتبرها كثيرون بمثابة تصويتٍ لصالح الثورة في مواجهة دعاية روسيا، وتابعها بشار الأسد، من أن المدنيين مختطفون في إدلب، وأن الناس ملّت الثورة، وتريد عودة نظام الأسد.

اعتادت المعارضة، أخيرا، الاكتفاء بالبكاء والتفجّع، وهي تشاهد شريط النكبة السورية، من سقوط للمناطق بيد نظام الأسد إلى عمليات التقتيل الرهيبة، وليس انتهاءً بمشهد الحافلات الخضر. وأزعم أن المعارضة، وخصوصا السياسية، استسهلت هذا الأمر، بل وتآلفت معه إلى حد ما، وربما كان صعباً في بدايته، عند سقوط حلب، لكنه تاليا أصبح سلساً، ويمكن التعامل معه عبر تغريدةٍ، أو بيانٍ يشجُب ويندّد.

التحدي الذي تطرحه إدلب اليوم على المعارضة هو جعلها نقطة انطلاقٍ نحو بداية جديدة، بدلا من أن تكون نهايةً للثورة على نظام الأسد، على ما بدأ العالم يهيئ نفسه له، وراحت المعارضة الخارجية تجهّز نفسها للتعامل مع هذا القدر الذي لا رادّ له، وبالتالي لم تعد تهتم سوى للحديث عن الدستور، وجولات دي ميستورا وتصريحاته.

في التقييم الواقعي، يتوجب التفريق بين السقف العالي لطموحات المتظاهرين الذين طالبوا بإسقاط النظام وتعديل مسار العملية السياسية بالكامل وما يمكن تحقيقه بالفعل، لكن هذا يعد مؤشّراً على مدى فهم الجماهير اللعبة السياسية القائمة على رفع سقف التفاوض إلى درجة عالية، للحصول على نتائج مقبولة، وإبراز جدّية البيئة الحاضنة للثورة على تحدّي تهديدات الخصم واستعدادها للصمود في مواجهته.

وفي التقييم الواقعي أيضاً، استفادت إدلب من جغرافيتها الملاصقة لتركيا، وأن أمنها مرتبط بدرجة كبيرة بالأمن القومي التركي. ولهذا السبب، جنّدت أنقرة مواردها الدبلوماسية والعسكرية والإعلامية، لتفنيد ذرائع الهجوم الذي كانت تعد له روسيا لسحق الثورة في إدلب، واستطاعت، عبر اتفاق سوتشي، تفكيك جبهة القوى المتربّصة بإدلب، ولو إلى حين، كما أنها وفّرت البيئة المناسبة لحلٍّ يضمن حماية إدلب وسكانها، ويمكن تطويره إلى مقاربةٍ للحل السياسي في سورية.

لكن على المعارضة أن تعي أن تركيا، على الرغم من وجاهة حججها في البعد الإنساني لموضوع إدلب، وعلى الرغم من مكانتها لدى روسيا التي تراهن على إخراجها من حلف شمال الأطلسي (الناتو)، إلا أن موقفا متماسكا من المعارضة، المدعومة شعبياً، سيشكل عنصر قوة ودعم للموقف التركي، والعكس صحيح، بمعنى أن تقاعس المعارضة وإحباط الشارع الثائر يزيد العبء على تركيا، ويدفعها إلى تقديم تنازلاتٍ ما، وقد آن الأوان للمعارضة، لتدرك أن مسألة توفر البدائل السياسية والإدارية باتت من أهم شروط عملية التغيير السياسي الذي يطالب به السوريون.

تملك المعارضة في إدلب مزايا لم تتوفر لها في مناطق أخرى، يمكن الاستفادة منها لتغيير المعادلة الراهنة في سورية، والقائمة على استسلام المعارضة بدون شرط أو قيد، واستعادة سلطة الأسد على جميع المناطق السورية. تستطيع إدلب بالفعل كسر هذه المعادلة، ودفع روسيا إلى مقاربةٍ جديدة، أقل جوْراً بحق السوريين، وتنطوي على أملٍ بتحقيق بعض أهداف الثورة.

في إدلب مجتمع مدني حقيقي، على الرغم من محاولات جبهة النصرة، وبعض الفصائل، تهميش هذه الحقيقة، وقمع تمظهرات هذا المجتمع، إلا أنه ناضل بقوّة في سبيل البقاء، وتراكمت، عبر سنوات الثورة، خبراتٌ هائلةٌ لدى منظمات تطوعية وإغاثية وإعلامية، وصارت تمتلك القدرة على الفعل، وإيصال صوتها إلى الخارج، في حين أن ذلك لم يكن متوفراً في أغلب مناطق الثورة، بعد أن طغى العسكري على المدني، وهجرت الكوادر المدنية، واختفت نهائيا في بعض المناطق.

تستطيع المعارضة الاستفادة من هذا المعطى، عبر إبراز الجانب المدني الذي بات يتخذ بالفعل طابعاً مؤسساتياً، ويلبّي المعايير الدولية في التنظيم والإدارة، وهو على صلةٍ بمنظماتٍ حقوقيةٍ وإغاثية مؤثرة في الغرب، وهذا يمنح المعارضة مساحة جيدة لطرح قضية إدلب بوصفها قضية سورية المصغّرة، والتي تستوجب حلولاً سياسية، وليست عسكرية، وإجبار روسيا على هذا المسار، ولو بعد طول مناورةٍ وتهرّب منها.
وليس الأمر مستحيلا، على ما يحاول المحبَطون ( بفتح الباء) إشاعته، فمن لديه عينان ويقرأ المشهد الدولي جيداً، يكتشف إمكانية تحقّق ذلك، فليس خافياً أنه باتت لدى روسيا، على أبواب إدلب، حساباتٌ معقدة، تختلف عنها في الفترة السابقة، فهي تريد الفوز بحل سياسي يشرعن وجودها ويقبله الغرب، ذلك أن روسيا وجدت نفسها أمام بلدٍ محطّمٍ لا يمكنها الاستفادة من نصرٍ قد تحقّقه على جثة سورية، وما لم تستطع إقناع الغرب والدول العربية بالمساهمة في إعادة الإعمار، تتحول الفرص إلى تحدّيات، وستصبح سورية مقبرةً للحلم الروسي في استعادة المكانة الدولية المفقودة.

معلومٌ أن روسيا تصوّر حربها على إدلب بأنها ضد المنظمات الإرهابية، مهمّشة حقيقة وجود حوالي أربعة ملايين مدني يعيشون حياة طبيعية، وهذا يستوجب من المعارضة استنفارا كاملا لطاقاتها، لتفنيد الرواية الروسية، وإبراز البعد المدني في قضية إدلب، وتحويل إدلب إلى عاصمة جمهورية الثورة السورية بكل معنى الكلمة، وما يتطلبه ذلك من دخول الفعاليات السياسية والإعلامية والأطر المختلفة إلى إدلب واتخاذها مقراً لنشاطها وعملها. لقد مهدت جماهير إدلب الطريق للمعارضة للقيام بخطواتٍ إيجابية لصالح الثورة السورية، والكرة الآن في ملعب المعارضة، فكيف ستكون استجابتها؟ 

اقرأ المزيد
٢٧ سبتمبر ٢٠١٨
انتصار تركيا الدبلوماسي في قمّة سوتشي

شهدنا خلال قمّة طهران التي عقدت في 7 أيلول/سبتمبر بحضور الدول الضامنة لمرحلة أستانة تطورات تتناقض مع المرحلة نفسها، وتؤثر سلباً على السلام في سوريا، إذ كان قصف القوات الروسية وقوات نظام الأسد لمدينة إدلب قبيل يوم من قمّة طهران واستمرار القصف أثناء عقد القمّة دليلاً على أن الأمور تجري بعكس الأطروحات التي قدّمتها تركيا المعارضة لتنفيذ عملية عسكرية في إدلب.

كانت تركيا تشعر بالقلق تجاه احتمال تشكّل موجة لجوء جديدة ومقتل المدنيين من خلال عملية عسكرية تحت مسمّى مكافحة الإرهاب في إدلب، وهناك نقطة أخرى لفت الرئيس التركي أردوغان الانتباه إليها، وهي الوجود الأمريكي في شرق الفرات، إذ حذّر أردوغان الرأي العام الدولي ودول العالم من خلال هذا التصريح: "إن استغلال أمريكا لانشغال العالم وتركيزه على إدلب، وتواجدها في شرق الفرات على الرغم من انتهاء تهديد داعش في المنطقة، ودعمها لتنظيم إرهابي آخر هو أمر مزعج للغاية، وجميعنا ندرك أن قوة التنظيم الإرهابي الذي دعمته أمريكا بـ 18 ألف شاحنة وثلاثة آلاف طائرة نقل قد ازداد قوةً بنسبة كبيرة عن السابق، وهذا الوضع لا يهدد أمان تركيا فقط، بل يهدد وحدة الأراضي السورية أيضاً، ولذلك يتوجّب علينا توحيد مواقفنا تجاه المسألة".

من جهة أخرى لم تبادر طهران إلى التعاون مع أنقرة بشكل صادق وواضح، وذلك بسبب دعم إيران لنظام الأسد على جميع الأصعدة ودون أي شروط، إضافةً إلى الصراع الإقليمي القائم في المنطقة، وفي هذا السياق كانت إيران تدعم أطروحات الرئيس أردوغان المُقدّمة خلال قمّة طهران والمتعلّقة بشرق الفرات لأنها تناسب مصالحها الشخصية، ولكن في الوقت نفسه كانت تُجازف باستمرار مرحلة أستانة من خلال نقل مضمون قمّة طهران عبر بث مباشر دون أن يكون لباقي أطراف القمّة علم بذلك، وذلك سهّل على وكالات استخبارات الدول التي تهدف لإفساد مرحلة أستانة معرفة الخلافات القائمة بين الدول الضامنة لمرحلة أستانة بدون الحاجة إلى جمع المعلومات والتفاصيل.

من المؤكد أن أمريكا وبعض دول الغرب الأخرى كانت على علم بالمشاكل الموجودة بين روسيا وإيران وتركيا، ولكن أدى عرض إيران لمضمون القمّة عبر بث مباشر إلى مشاهدة العالم بأسره للمجهود الذي يبذله الرئيس أردوغان من أجل حقن الدماء والحفاظ على أرواح ما يُقارب المليون طفل وأربعة ملايين مواطن مدني في إدلب، كما أن تأثير موجة اللجوء الجديدة على دول أوروبا بقدر تأثيرها على تركيا دفع الدول الأوروبية إلى دعم تركيا في هذا الصدد.

أدى قصف روسيا وحليفها نظام الأسد للمناطق الآمنة التي أسستها بنفسها وخصوصاً قصف المدارس الابتدائية، وبالتالي تهديدها لاستمرار السلام القائم في المنطقة إلى تشعّب مفهوم مشروعية مكافحة الإرهاب ولفت ردود فعل الرأي العام الدولي.

وفي سياق آخر استمرت الدبلوماسية التي أظهرتها تركيا خلال قمّة طهران عقب القّمة بشكل ناجح، وتبع ذلك اجتماع ممثلي تركيا وروسيا وفرنسا وألمانيا في ولاية إسطنبول التركية بتاريخ 14 أيلول/سبتمبر 2018 في خصوص مسألة إدلب، وقد أفاد المتحدّث باسم الرئاسة ونائب الأمين العام التركي "ابراهيم كالن" بأن القمّة الرباعية المعقودة في إسطنبول قد تداولت الأحداث الأخيرة في مدينة إدلب السورية، وأضاف إلى ذلك: "هناك اتفاق عام بين أطراف الاجتماع على أن نتائج تنفيذ عملية عسكرية في إدلب ستكون باهظة الثمن وستؤدي إلى تشكّل أزمة إنسانية وموجة لجوء جديدة، وتشير القناعة المشتركة لأطراف الاجتماع إلى ضرورة البحث عن حل سياسي للمسألة بدلاً من الحل العسكري، وكذلك تطابقت الأفكار حول ضرورة دعم مرحلة جنيف القائمة في ظل إدارة الأمم المتحدة، إضافةً إلى دعم مرحلة أستانة في الصدد ذاته".

التقى الرئيس التركي أردوغان بنظيره الروسي بوتين خلال قمّة ثنائية في مدينة سوتشي الروسية بتاريخ 17 أيلول/سبتمبر 2018 لمناقشة نتائج قمّة إسطنبول الرباعية، ويمكن القول إن أردوغان وبالتالي تركيا قد حقّقت انتصاراً ملموساً على الصعيد الدبلوماسي خلال قمّة سوتشي، وكان القرار الأهم المُتّخذ خلال قمّة سوتشي يتمثّل في إقناع أنقرة لموسكو بتأجيل تنفيذ عملية عسكرية روسية في إدلب، وتم الاتفاق على وقف إطلاق النار في المنطقة حتى وإن كان ذلك لفترة مؤقتة، وذلك بدوره وقف في وجه تشكّل موجة لجوء جديدة، وانطلاقاً من ذلك تم الاتفاق على تشكيل منطقة آمنة ومجرّدة من السلاح تمتد لعمق 15-20 كيلو متر نحو الداخل السوري إلى منتصف شهر تشرين الأول/أكتوبر المقبل، ومن المفروض أن يتم سحب الأسلحة الثقيلة مثل الدبابات والصواريخ وقذائف الهاون من المنطقة إلى تاريخ 10 تشرين الأول/أكتوبر، إضافةً إلى حفاظ قوات المعارضة السورية على أماكن تمركزها، ولكن من جهة أخرى سيتم إخراج جميع المجموعات الراديكالية مثل هيئة تحرير الشام من المنطقة، وكذلك تعزيز 12 نقطة مراقبة عسكرية تركية موجودة في المنطقة، وبناء على ذلك سيكون اتفاق سوتشي قد حقّق الأمان في مناطق عمليات درع الفرات وغصن الزيتون مرةً أخرى.

هل اتفقت تركيا مع روسيا في خصوص شرق الفرات؟

لا شك في أن دعوة تركيا للتعاون في الصراع ضد التحالف المؤلف من أمريكا-وحدات الحماية الشعبية-بي كي كي في شرق الفرات والذي يهدد وحدة الأراضي السورية وأمان الدولة التركية يحمل أهمية كبيرة، ويمكن القول إن روسيا وإيران قد استجابت للدعوة التركية بشكل إيجابي، وقد أفاد وزير الخارجية الروسي "لافروف" خلال زيارته للبوسنة والهرسك بأنه لا يتفق مع المزاعم المشيرة إلى أن قوات المعارضة السورية ستستغل اتفاقية سوتشي وتحوّلها إلى فرصة للمبادرة بخطوات قد تشكّل خطراً على وحدة الأراضي السورية، وقد لفت لافروف الانتباه إلى أن بلاده تتفق مع تركيا في خصوص أن الخطر الرئيس الذي يهدد وحدة الأراضي السورية هو الوجود الأمريكي في شرق الفرات، ولكن يجب على تركيا توخّي الحذر وإعادة النظر في دعم هذه المرحلة نظراً إلى أن روسيا قصفت إدلب بالتعاون مع نظام الأسد قبيل قمّة طهران على الرغم من معارضة تركيا لذلك.

اقرأ المزيد
٢٧ سبتمبر ٢٠١٨
كيف سيرد الحرس الثوري على هجوم الأحواز

الهجوم العسكري الذي استهدف عرضا عسكريا للحرس الثوري في منطقة الأحواز، وأدى إلى مقتل 25 شخصا بينهم 12 جنديا وطفلا واحدا، وإصابة 25 على الأقل. لا يزال الغموض يطال الجهة التي قامت به، فقد كان تنظيم داعش أول من أعلن مسؤوليته، وكذلك أصدرت إحدى المنظمات العربية الداعية لتحرير الأحواز بيانا تبنت فيه العملية، فيما لمح بعض المراقبين أن الهجوم قد يكون من تدبير أطراف داخل السلطة، وغير ذلك من اتهامات طالت هذه الدولة أو تلك، كما ذهبت المواقف الرسمية الإيرانية، ومنها موقف رئيس الجمهورية حسن روحاني، الذي قال إن الولايات المتحدة “البلطجية” والدول الخليجية التي تساندها واشنطن سهلت وقوع الهجوم. وزعم روحاني أن دولة خليجية قدمت الأموال والسلاح والدعم للمهاجمين.

يمكن القول إن العملية العسكرية كشفت عن أول هجوم من نوعه داخل إيران، تم بهذه الطريقة التي تعكس قدرة المهاجمين على تنفيذ عملية بهذا الحجم وبهذه العلنية، وإن كان بعض المراقبين لا يرون بصمات تنظيم داعش على هذه العملية لجهة كونها لم تكن عملية تفجير انتحاري، فإن اللافت أن السلطات الإيرانية لم تكشف عن هوية المهاجمين الأربعة الذين نفذوا الهجوم وسقطوا جميعا قتلى في العملية، واحد منهم بقي على قيد الحياة جريحا، لكن ما لبث أن فارق الحياة أثناء وجوده في المستشفى، حسب ما ورد في وكالة فارس الإيرانية.

إيران التي أكدت من خلال مسؤوليها أنها سترد على الهجوم، تحاشت تسمية أي جهة محددة كطرف مسؤول عن الهجوم ولم تقدم أي دليل على تورط دول أجنبية، وقالت وكالة إيرنا الإيرانية إن طهران استدعت مبعوثيْ المملكة المتحدة وهولندا والدنمارك، واتهمت دولهم بإيواء جماعات إيرانية معارضة. كما لم يسم المرشد علي خامنئي “الدول الإقليمية” التي قال إنها تقف وراء الهجوم المسلح.

الرد الإيراني سيطال من لم تذكرهم بالاسم على الأرجح. الطرف الأكثر تداولا على ألسنة المسؤولين الإيرانيين، هي واشنطن، سماها الرئيس روحاني من دون أن يسمي دولة أخرى وإن قال دول الخليج التي تدعمها واشنطن هي من موّل وسلح. التركيز على اتهام واشنطن ينطوي على محاولة تحييدها كهدف عسكري وأمني، لا على استهداف مصالحها ووجودها العسكري أمام أعين الإيرانيين وفي مدى أسلحة الحرس الثوري الخفيفة كما هو الحال في العراق أو سوريا.

لو كانت إيران سترد على واشنطن عسكريّا لما سمعنا التصريحات الإيرانية الرسمية بهذا الشكل، بل كنّا سمعنا تفجيرا يستهدف موكبا عسكريًا أو قاعدة أميركية، أو غير ذلك من المصالح الأميركية في المنطقة.

“البلطجة الأميركية” كما سماها روحاني، لن يُردَّ عليها إيرانيا إلا بالكلام، ذلك أنّ طهران تدرك أن الإدارة الأميركية الحالية لن تتساهل مع أي مسّ إيراني بمصالح واشنطن في الشرق الأوسط، كما كان حال الإدارة السابقة، لذا حتى تكرار عملية احتجاز بحارة أميركيين من البحرية الأميركية ليس واردا اليوم كما فعل الحرس الثوري خلال عهد الرئيس السابق باراك أوباما، في عملية استعراضية قبل أربع سنوات مع زورق أميركي دخل المياه الإقليمية الإيرانية. القيادة الإيرانية تدرك أن الرد على واشنطن هو ما ينتظره الرئيس دونالد ترامب وإدارته التي تصر على تغيير سلوك إيران كما لم تفعل أي إدارة سابقة.

حتى لو ثبت لدى إيران أن بصمات واشنطن صارخة في هذا الهجوم، فإن الردّ لن يطال القوات الأميركية ولا مصالحها، فالقيادة الإيرانية لم تخرج على سياسة العداء الصوتي لواشنطن، مقابل الالتزام الدقيق بعدم المس بالخطوط الحمراء التي تضعها واشنطن. الشراسة الإيرانية تتركز دائما على الدول العربية، وهذا ما برز بوضوح في السنوات الأخيرة، فالشيطان الأكبر الفعلي لم يعد واشنطن في حسابات قيادات الحرس الثوري، والنزعة الأيديولوجية التي يتسم بها المشروع الإيراني تتركّز على إغراق المنطقة العربية في حروب ونزاعات داخلية، أو في الحدّ الأدنى استسهال التورط فيها من دون أيّ تهيب لسقوط الآلاف من الأبرياء، في مقابل سلوك ينم عن احترام مبالغ فيه للمصالح الإسرائيلية والأميركية، كما هو الحال في سوريا والعراق منذ سنوات وحتى اليوم.

الرد الإيراني على الهجوم “الإرهابي” في الأحواز سيكون ضد من لم تسمّهم طهران بالاسم الصريح. في الدرجة الأولى سيوفر هذا الهجوم مبررا لتشديد القبضة الداخلية ولمزيد من تهميش منطقة الأحواز. طهران تهمش تلك المنطقة منذ سنوات طويلة ويزيد هذا التهميش من الشعور بالقهر لدى أبنائها، خاصة وأنهم يعلمون أنهم يعيشون حيث الثروة النفطية الإيرانية، والقيادة الإيرانية لا تريد الاعتراف بأن سياساتها تجاه الأحواز هي ما يجعل مواطني هذه المنطقة مستعدون للموت في سبيل قتل بعض الجنود الإيرانيين، والأرجح أن عدم كشف هوية منفذي الهجوم من قبل السلطات الإيرانية غايته عدم الإضاءة على الأسباب الداخلية في قراءة الهجوم العسكري.

إيران المقبلة على حزمة جديدة من العقوبات الأميركية تمنعها من تصدير النفط بالدرجة الأولى، ستحاول تسعير المواجهة في الحيز العربي، لكنها تدرك أنّ ما كان مباحًا لها أميركيا في سنوات سابقة لم يعد مباحا اليوم، فضلا عن أنّ “فيلق القدس″ الذي فلق الدول العربية بفالق المذهبية والأيديولوجيا، من دون أن يمس احتلال القدس أو سياسة تهويدها، قد استنزف الاقتصاد الإيراني بعدما ساهم، باعتزاز، في استنزاف الدول العربية القريبة والمحيطة، وهو أنجز المهمة التي لا تمس مصالح واشنطن وإسرائيل، أي المساهمة الفعالة في تدمير دول عربية وفي الاستثمار في تصدعاتها المجتمعية.

الرد الإيراني سيكون بسبب السلوك الحسن و”المهذب” من قبل مسؤوليها تجاه مصالح واشنطن الحيوية، وسيكون حيث لا يمكن لواشنطن أن تعتبره موجها ضدها، أي في مزيد من تشديد القبضة على الداخل الإيراني من جهة، واستخدام أذرعها لتنفيذ هجوم يطال مفاصل عسكرية أو أمنية في دول خليجية من جهة أخرى، وغالبا ما سيكون العمل العسكري -لو حصل- ملتبسا أو قابلاً للتأويل بحيث يتيح الإمكانية لتوجيه الاتهام في أكثر من اتجاه، وداعش تنظيم جاهز وقابل لأن يكون حصان طروادة، كما أظهر سلوكه منذ نشأ وإلى يومنا هذا.

اقرأ المزيد
٢٥ سبتمبر ٢٠١٨
الصمت الإيراني على الهجمات الإسرائيلية

يبدو صمت طهران الإعلامي والعسكري على الهجمات الإسرائيلية ضد أهداف إيرانية وأخرى لـ«حزب الله» في سوريا محاطاً بالالتباس، خاصة في ضوء نقطتين؛ الأولى أن إيران دأبت منذ ثورة الملالي في عام 1979 على إعلان العداء لإسرائيل وسياساتها في الشرق الأوسط، والتي ولد على هامشها «حزب الله» اللبناني رافعاً شعارات مقاومة إسرائيل، ودعمت من خلالها إيران جماعات جهادية فلسطينية وبخاصة حركتا «حماس» و«الجهاد». والنقطة الثانية، تطوير إيران قدراتها العسكرية بما فيها المشروع النووي على قاعدة إعلان المواجهة مع إسرائيل وحلفائها، وكلاهما يجعل صمت طهران مناقضاً لما هو معلن في موقفها من إسرائيل، ومن هجمات إسرائيل على قواعدها وميليشيات «حزب الله» في سوريا، والتي ارتفعت وتائرها في الفترة الأخيرة، فشملت مواقع في ثلاث محافظات سورية، تمثل قلب سوريا المفيدة.

ويمكن تفسير الصمت الإيراني في ضوء مجموعة من حقائق الصراع في سوريا وحولها؛ أولى هذه الحقائق تمسك إيران بوجودها في سوريا حتى لو تحملت مزيداً من الخسائر السياسية والعسكرية بينها نتائج الهجمات الإسرائيلية بشرياً ومادياً، لأن طهران تعتبر وجودها في سوريا وجوداً أساسياً في استراتيجيتها، التي يعتبر وصولها إلى البحر المتوسط عبر العراق وسوريا ولبنان محوراً أساسياً فيها.

النقطة الثانية الحفاظ على تحالفها وعلاقاتها مع روسيا، رغم ارتباط الأخيرة بعلاقات وثيقة وتنسيق سياسي وعسكري مع إسرائيل في سوريا، لكنها باتت السند الرئيسي لإيران في ظل تصاعد العداء الغربي وخاصة الأميركي، والعداء العربي لسياساتها وتدخلاتها المسلحة، ودعمها الفوضى والصراعات المسلحة في البلدان العربية، وخاصة في سوريا واليمن والعراق.

النقطة الثالثة، تبريد الموقف الأميركي المتصاعد ضد إيران، وقد تجاوز الخروج من الاتفاق النووي (5+1) إلى تشديد العقوبات على إيران في طريقه إلى المزيد في تفاصيل حرب معلنة هدفها تغيير السياسات الإيرانية، والتي لا شك أنها ستؤدي إلى تغيير النظام في إيران.

النقطة الرابعة، تطوير الموقف الأوروبي المتمايز عن الموقف الأميركي، ليس فقط بصدد الاتفاق النووي الإيراني الذي رفض الأوروبيون الخروج منه، إنما أيضاً حول سلة العقوبات المطروحة من جهة، والعلاقات الأوروبية - الإيرانية، التي يسعى الأوروبيون إلى الاحتفاظ بفوائدها لصالحهم.

النقطة الخامسة، تجنب إيران الدخول في حرب خاسرة مع إسرائيل في سوريا، نتيجة اختلالات في موازين القوى في ساحة الصراع المباشر وعلى مستوى قدرات الطرفين وإمكانياتهما.

وسط تلك الحقائق، يبدو السكوت الإيراني عن الهجمات الإسرائيلية ضد المواقع الإيرانية وأدواتها في سوريا مفسراً ومفهوماً، خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار حقائق إيرانية داخلية، تشكل ضغطاً كبيراً على سياسة إيران الإقليمية من بينها تنامي الصراعات السياسية، التي تجاوزت صراع الشارع الإيراني مع سلطة المرشد إلى صراعات تتواصل في قلب النخبة الحاكمة، بالتزامن مع تردي الأحوال الاقتصادية في البلاد، وانهيار قيمة العملة الإيرانية، وما يتركه كلاهما من أثر على الوضع الاقتصادي - الاجتماعي في إيران.

صمت طهران، وعدم ردها على الهجمات الإسرائيلية، يشكل إجراءً في معالجة ما يحيط بسياساتها الخارجية، لكنه يمكن أن ينقلب إلى عامل شديد الضغط على إيران في سوريا، ويمكن أن يتحول إلى عامل ضغط وخسارة في استراتيجية التمدد الإيراني في الإقليم، خاصة إذا أجبرت على الخروج من سوريا، مما يضعها على قاعدة خروج لاحق من اليمن، وتقليص نفوذها في العراق ولبنان.

وإذا كان من الواضح أن الهجمات الإسرائيلية لن تتوقف في المدى المنظور، بل إنها آخذة في التصاعد، فإن الصمت الإيراني لن يقوى على الاستمرار، فلا بد له أن ينفجر، وعند انفجاره سيتغير الكثير بالنسبة لإيران في وجودها وسياساتها، لكن متى سيحدث الانفجار وكيف؟ فهذا ما ينبغي التفكير فيه وانتظاره.

اقرأ المزيد
٢٥ سبتمبر ٢٠١٨
الحالة السورية واليوم العالمي للسلام

أحيا العالم في 21 من سبتمبر/ أيلول الحالي اليوم العالمي للسلام. وكانت الجمعية العامة للأمم المتحدة قد وضعت، في العام 2015، لائحة للتنمية المستدامة، تضمنت سبعة عشر هدفًا، انطلاقًا من فكرة أن بناء عالم ينعم بالسلام لا يمكن أن يقوم بدون القضاء على المشكلات الأساسية التي تعاني منها البشرية، كالفقر والجوع والصحة والتعليم والمشكلات البيئية وتوفر المياه والتمييز وغياب العدالة وغيرها الكثير. وقد اختير عنوان لهذا اليوم في العام الحالي هو: "الحق في السلام". تنص المادة الثالثة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على أن لكل فرد الحق في الحياة والحرية والأمان على شخصه، لكن الحق في السلام مصطلح لم يحظَ بأن يكون مادة منفصلة في الإعلان، وقد طرحت الأمم المتحدة وسمًا من أجل المشاركة في الآراء أو الرد على سؤال ماذا يعني لكم مصطلح "الحق في السلام"؟ شاركونا آراءكم من خلال الوسم #peaceday والوسم #standup4humanright، وندعو الجميع، قبل حلول هذه المناسبة في 21 أيلول/سبتمبر — إلى العمل. ويمكنكم دعم الهدف 16 المتعلق بالسلام والعدل والمؤسسات القوية من خلال السعي إلى حل الخلافات والنزاعات التي تنشأ في محيطكم سلميًا. باستطاعتكم أن تكونوا أجزاء من الحلول، من خلال اتخاذ خطوات صغيرة. وبإمكانكم وقف الظلم في مدرستكم أو في محيطكم من خلال انتهاج منهج سلمي في حل المشكلات، والإبلاغ عن الجرائم المحتملة، بما في ذلك التنمّر على الإنترنت.

أمام صيغ من هذا القبيل، يقف المرء مذهولاً، بسبب المفارقات الصارخة المؤلمة والمهينة لشعوب مظلومة منتهكة كثيرة، تمارس عليها التنمر أنظمة عديدة، معظمها عضو أو مؤسس في الجمعيات والمنظمات الدولية التي تطرح شعاراتٍ من هذا النوع، تبدو، في ظاهرها، تنحو نحو حماية المجتمع البشري، واحترام إنسانية أفراده، لكن الواقع مغاير بنسبة كبيرة.

أين حصة شعوب منطقتنا من السلام المنشود؟ أين الضمير العالمي مما يحدث منذ ثماني سنوات في سورية؟ سورية التي أنهكتها الحرب، وما زالت مرميةً في ساحات تقاطع النيران وتضارب المصالح وبازارات المساومة السياسية، تتقاسم أرضها وسماءها الدول الضالعة في الحرب، ضاربة عرض الحائط بكل الحقوق التي تتبجح بها، مدعية حماية الشعب، والشعب يموت ويشرد، وتُقنص أحلامه وأحلام أجياله القادمة.

لم يكن الشعب السوري، قبل محنته، حاصلاً على حقوقه الإنسانية، كانت حياته معاناة مستمرة، وحقوقه منقوصة أو مستلبة، في أبسط أشكالها، انتفض لأجل كرامته، ولأجل حقه في السلام، فاجتمعت عليه تلك القوى، وحرمته حلمه في الحرية قبل أي شيء، ثم أديرت الحرب بحجة محاربة الإرهاب، حتى صار الشعب يمارس الإرهاب بحق بعضه بعضا، مكرهًا ومدفوعًا إلى خيارات مفروضة عليه، يتطلع إلى الخلاص من مستنقع الدم في الدرجة الأولى.

تتجه كل الأنظار اليوم نحو إدلب، أو بالأحرى نحو الحراك السياسي والدبلوماسي النشط حول قضية إدلب، وكيفية حلها من دون إزهاق مزيد من أرواح السوريين، يلتمسون بارقة أمل تعد بأن المعركة الكبرى لن تحصل، أما ما بعدها فليس في الإمكان التفكير به، أو التكهن بما ستؤول إليه الأمور. تعب السوريون، وأوشكت حياتهم على أن تتساوى مع الموت، فقدوا القدرة على الأمل، أخمّن أن في صدر كل سوري كمًّا كبيرًا من الضغينة تجاه كل القوى المحتلة أرضه وأحلامه وسيادته، لكنه مجبرٌ ومكره على الاختيار، ليس رغبة في الاختيار، بل لكل فئةٍ من الشعب أسبابها، لترجّح كفة محتل على آخر، لأنهم بحاجةٍ إلى غطاء أو سند تجاه خطر محدقٍ لم يعودوا قادرين على تحديده، فالتضليل المسبوق والمواكب للعنف الجبار الذي يتعرّض له جعل منه كائناتٍ تبحث عن ملاذاتٍ فقط، لتحتمي من التغول الممارس عليها وبحقها.

لكن من يتابع مواقع التواصل الاجتماعي، تلك التي تشكل الفضاء الوحيد الذي يستطيع السوريون التنفيس عن صدورهم، وإفلات غضبهم، من خلاله، يلمس حالة الاستنكار والأسئلة التي تضع الجميع في موقع الاتهام وتحمّل المسؤولية، فبعد السيطرة على العمليات العسكرية وإدارتها، اتجهت روسيا إلى العمل على القرار السياسي، وفرضت على القيادة السورية الموافقة على عقد مؤتمر سوتشي الذي تأجل أكثر من مرة، وتدخلت في تشكيل الوفود المشاركة وإرسال الدعوات، إذ كان عقد المؤتمر، أحد الأهداف الأساسية لروسيا، باعتباره رسالة إشهارية إلى العالم أن في مقدورها، بوصفها قوة عالمية، جمع كل المكونات السورية ومن جميع الأطياف والأعراق، وأن غالبية مكونات المجتمع السوري تثق بروسيا قوةً للحل. وقد حمل العام الحالي أنواعًا جديدة من الخطاب السياسي، مثل نهاية الحرب السورية، الحل السياسي، المصالحة الوطنية، إعادة الإعمار، ملف النازحين، فهل ستتجه الأمور إلى حل سياسي عام يرضي جميع الأطراف، مع ضغط روسي على إيران وتركيا، وتفاهم مع الولايات المتحدة الأميركية بشكل عام في سورية؟ لا يبدو الأمر يتجه إلى الحل، بل إلى مزيد من التعقيد، خصوصًا بعد الأحداث المتسارعة في الأيام القليلة الفائتة، ففي السابع من سبتمبر/ أيلول الحالي، عقدت قمة ثلاثية في طهران، للرؤساء، التركي أردوغان والروسي بوتين والإيراني حسن روحاني، والأخيران أبرز حليفين للنظام السوري. وقد كرّس فشل القمة تخوفات من اقتراب موعد الحملة العسكرية ضد إدلب التي يقطنها نحو ثلاثة ملايين نسمة. لكن ما حدث أن الرئيس الروسي مال إلى كفة التحالف والتفاهم مع تركيا، بعد أن كان يشدّد على ضرورة التدخل العسكري من أجل القضاء على الإرهاب، أعقب الاتفاق مباشرة إعلان موسكو أن طائرة تابعة لها أسقطتها ليل 18 سبتمبر/ أيلول في غرب سورية الدفاعات السورية، متبوعًا بتصريحاتٍ متباينةٍ بشأن الجهة التي أطلقت الصواريخ، أو التي أسقطت الطائرة، في خطوةٍ تؤكد على مدى تعقيدات المشهد السوري.

ضمِنت موسكو لإسرائيل أن الأعمال الروسية في سورية لن تشكل تهديداً لها، وجرى الاتفاق على التنسيق المشترك في العمليات العسكرية، لكن سقوط الطائرة مؤشّر مقلق، وضع روسيا في دائرة الضوء أمام الرأي العام السوري، وتدفقت الأسئلة الاستنكارية عن دور روسيا في الدفاع عن السيادة السورية، بعد أن فرضت وصايتها وأمسكت بالقرار السياسي، وعن حمايتها من العدوان الإسرائيلي.

بعد الاتفاق في سوتشي، أسندت روسيا إلى تركيا مسؤولة طي صفحة هيئة "تحرير الشام" (جبهة النصرة سابقا) وأخواتها التي تسيطر على الجزء الأكبر من الشمال السوري. وجرى توزيع مسؤولية الفصل بين القوات النظامية والمعارضة في إدلب على الجيش التركي والشرطة العسكرية الروسية، بينما تصريحات النظام السوري ما زالت تصر على استعادة إدلب وآخر شبر من سورية، وهناك إيران ومناطق نفوذها وحصتها من الكعكة السورية، وأميركا التي بسطت سيطرتها على المنطقة الشرقية، وإسرائيل التي تصر على حماية (حدودها)، وتحقيق شرط يضمن أمنها، وما زالت القضية السورية في مرجلٍ يغلي، على الرغم من كل ما قيل ويُقال عن انتهاء الحرب. فأي سلام وأي يوم عالمي يُحتفى به، وأي وسم ودعوة إلى ترويج ثقافة السلام والحق به تقوم بها الأمم المتحدة؟ أم إن هذا الشعب خارج دائرة التصنيفات، وليس له حق في السلام، مثلما ليس له حق في الحرية والعيش الكريم؟ كل هذا التضليل والعالم يحتفي باليوم العالمي للسلام، فأي فصام تدفع الشعوب ضريبته؟

اقرأ المزيد
٢٥ سبتمبر ٢٠١٨
سورية وخرافة تعافي النظام

ما يجري في سورية لا يدفع إلى الاعتقاد بأن النظام سيتعافى وسيخرج آمناً غانماً من المحنة الهائلة التي أصابت السوريين، وأصابت كل أطراف النزاع في ذلك البلد. لكن، وفي موازاة هذا الاعتقاد، لا يبدو أن ثمة أفقاً يُستعاض فيه عن حال الاستعصاء هذه.

النظام لم ينتصر، بل إنه يترنّح كل يوم. الاتفاق الروسي - التركي على إدلب علامة على ترنّحه. عجزه عن الإتيان بأي رد فعل حيال الغارات الإسرائيلية اليومية علامة ثانية على هذا الترنح. إقصاؤه عن إدارة الحياة اليومية في درعا ومحافظتها وتولّي الشرطة الروسية المهمة، دليل آخر على شعور حلفائه بأنه قاصر ولا يصلح للحكم. اقتسام الإيرانيين والروس المهام الفعلية عنه صار جزءاً من مشهد عادي في سورية.

مَن هذه حاله يُنتظر منه أن يحكم، لا بل أن يحكم الذين بينه وبينهم أنهار من الدماء؟ هو لا يملك من عدة الحكم إلا السوط، وربما يملك أيضاً يأس القاعدة الاجتماعية التي انتفضت عليه. وفي مقابل عدة السلطة هذه، يعيش النظام أغرب حال يمكن أن يعيشها نظام مشابه. لقد أفقدت الغارات اليومية الإسرائيلية نظام البعث الخطاب الجوهري لحكمه. والإهانات السيادية التي يتولى الروس توجيهها إليه يوماً بعد يوم لم تعد تُخفى على أقرب الموالين له. كل الاجتماعات المتعلقة بمستقبل سورية لا يبدو أن له مكاناً فيها. يقول الروس والأتراك أن الحملة على إدلب لم يعد موعدها وشيكاً، فيلتزم الجيش العربي السوري بهذا القول وينكفئ لمسافة العشرين كيلومتراً التي حددها الاتفاق بين فلاديمير بوتين ورجب طيب أردوغان.

«النظام في صدد التعافي»! هذه مقولة أثيرة نسمعها على نحو مثابر في السنتين الأخيرتين. النظام يذوي كل يوم أكثر. طائرات تقصف في سورية من كل حدب وصوب. وهو إذا فقد القدرة على ضبط المشهد راح يتصدى لطائرات «حليفة»، أسقط منها واحدة في اللاذقية مؤخراً، لكنه لم يتمكن من النيل من الطائرة الإسرائيلية. هذه ليست معادلة ساخرة. السخرية لا تصلح لوصف نظام على هذا القدر من القسوة والعنف. إنها مفارقة واقعية. الطائرات المتعددة الجنسية في سورية لم تعد تنتهك سيادة ولا تخرق قانوناً دولياً. الأميركيون يقيمون في شمال البلاد وفي شرقها، والأتراك في إدلب، والروس والإيرانيون في وسط البلاد وفي جنوبها، فيما السماء السورية مفتوحة للطائرات الإسرائيلية. هذا كله ويأتي من يقول لنا أن النظام في سورية على وشك أن يتعافى، وأن «الجيش العربي السوري» سيبسط سيادته قريباً على كامل الأراضي السورية.

وفي ظل هذا المشهد المعقّد، لا يمكن أيضاً توقّع صفقة ترسي سلطة تتقاسم من خلالها هذه الدول النفوذ في سورية. إذ كيف ستتحدد حصة إيران مثلاً، في ظل التداخل بين مصالحها ومصالح روسيا؟ وهل ستقبل إسرائيل بأن تكون إيران شريكة في السلطة في سورية؟ الغموض نفسه ينسحب على حصة تركيا أيضاً وعلى الأكراد في الشمال. المشهد يتطلب مزيداً من الحروب حتى ينجلي. والنظام «المتعافي» سيصاب بمزيد من الوهن، لا سيما بعد ذواء المعارضة، ذاك أن آلة القتل التي يملكها صارت بلا أي وظيفة غير وظيفة القتل، وهو إذا أوقف عملها بعد فناء «خصومه» سيفقد آلة السلطة الوحيدة التي يملكها وسيعاود السوريون الانقضاض عليه. سيستمر في القتل بصفته اللغة الوحيدة التي يجيدها، وهذا ما لا يمكن تصريفه بتسوية.

أغرب ما أصابني بعد مشاهدتي صور تظاهرات إدلب، أنها طالبت بإسقاط النظام، فالأخير هو أضعف حلقة في مشهد العنف السوري اليوم. صحيح أنه لم يفقد قدرته على القتل، لكن ما تبقى من هذه القدرة هو القتل غير الوظيفي. القتل بصفته امتداداً لممارسة قديمة ولثقافة لا يعرف صاحبها غيرها. أما القصة الفعلية والواقعية في سورية، فقد صارت في مكان آخر تماماً.

اقرأ المزيد
٢٥ سبتمبر ٢٠١٨
إس- 300 ... لماذا الآن؟

 بعد تأخير استمر خمس سنوات قررت روسيا تزويد الجيش السوري بمنظومة صواريخ إس -300 للدفاع الجوي. كان يفترض أن يتم ذلك في عام 2013 إلا أنه نزولاً عند الطلبات الإسرائيلية الملحة أرجىء إرسال هذه المنظومة حتى جاءت حادثة إسقاط الطائرة الروسية قبالة اللاذقية قبل أيام وتحميل روسيا إسرائيل المسؤولية عنها نتيجة «الخلل» في التواصل بين جيشيهما، هذا التواصل الذي أتاح في السابق لإسرائيل القيام بأكثر من مئتي غارة في الداخل السوري من دون أن تنشأ عنها أية مشكلات أو ردود فعل روسية.

مباشرة ستشعر إسرائيل إنها أمام تحد جديد لم تعهده من قبل، على رغم أن الشروحات الروسية لطبيعة العلاقة معها، فيها الكثير من التأكيد على التعاون الذي قاد إلى إبعاد الإيرانيين 140 كلم عن الجولان، وهذه هي المرة الأولى تعلن فيها وزارة الدفاع الروسية عن هذه المسافة التي تضمنتها ترتيبات الجنوب السوري، وفيها أيضاً الكثير من «اللمسات الإنسانية»، حيث تحدثت الوزارة عن تخصيص مجموعات تتعاون مع القيادة السورية في البحث عن بقايا إسرائيليين مدفونين في سورية... يعتقد أن بينها بقايا الجاسوس الإسرائيلي إيلي كوهين الذي جرى إعدامه عشية حرب 1967، كما تحدثت عن إعادة دبابة إسرائيلية أسرت خلال اجتياح لبنان عام 1982 ونقلت إلى موسكو لفحصها قبل أن تسلم إلى نتانياهو خلال إحدى زياراته الأخيرة موسكو للاجتماع بالرئيس بوتين.

سيتغير شيء ما في العلاقات بين إسرائيل وروسيا لكن ليس في اتجاه الانقلاب على ما تم نسجه حتى الآن. والاضطراب الذي تعبر عنه الصحافة العبرية إشارة إلى أن ما بعد حادثة الطائرة سيكون غير ما قبله.

وإذا كانت إسرائيل لن تتخلى عن حربها المعلنة على الحضور الإيراني ومتفرعاته في سورية، فإنها ستكون مضطرة للالتزام المنضبط بالشروط الروسية الآخذة في التبلور والتي تتعدى في استهدافاتها صيغة التنسيق مع إسرائيل في تحركاتها الجوية. لقد أشار الروس إلى فعالية صيغة العمل مع الأميركين في الأجواء السورية، وهم بذلك يدعون الإسرائيليين إلى ممارسة مشابهة، غير أنهم في العمق يطمحون إلى ضبط الجميع تحت برنامجهم للمرحلة المقبلة، فمنظومة إس-300 ستكون بقيادتهم، وكل وحدة من وحداتها ستضم ضابطاً روسياً وسيتم ربط جميع الوحدات بالقيادة العسكرية السورية وبالتالي الروسية، وهذا ما أبلغه بوتين إلى الأسد، على الأرجح، لدى اتصاله لإبلاغه بقراراته. هذا الترتيب سيفرض على الإسرائيليين أخذه في الاعتبار، كما أنه سيشكل رداً روسياً على الحشود الأميركية والغربية في شرق المتوسط والحديث المتزايد عن إمكانية تدخل عسكري في سورية. وفي الخلاصة تبدو التدابير الروسية وكأنها محاولة أخيرة للإمساك كلياً، ليس فقط بالقرار العسكري السوري، وإنما بالأوراق كافة، المؤثرة في سورية، عشية حسم في إدلب وتفاوض مع الغرب على الصورة النهائية للتسوية.

اقرأ المزيد

مقالات

عرض المزيد >
● مقالات رأي
١٩ يونيو ٢٠٢٤
دور تمكين المرأة في مواجهة العنف الجنسي في مناطق النزاع: تحديات وحلول
أ. عبد الله العلو 
● مقالات رأي
١٩ يونيو ٢٠٢٤
صمود المرأة ودورها القيادي في مواجهة التحديات
فرح الابراهيم
● مقالات رأي
١٩ يونيو ٢٠٢٤
العنف الجنسي في حالات النزاع: تحديات وآثار وحلول ودور المرأة في هذه الظروف
أحمد غزال 
● مقالات رأي
١٣ يونيو ٢٠٢٤
تعقيب قانوني على تقرير لجنة تقصّي الحقائق حول استخدام السلاح الكيماوي في ريف حماه الشرقي
المحامي: عبد الناصر حوشان
● مقالات رأي
٢٤ مايو ٢٠٢٤
القائد العصامي ومكتسبات الثورة السورية في "ميزان الفاتح"
عبدالله السباعي
● مقالات رأي
٢٠ مايو ٢٠٢٤
وضع يده بيد المجرم وشارك بقتلهم .. لماذا يفرح السوريون بمقتل الرئيس الإيراني "رئيسي"
ولاء زيدان
● مقالات رأي
١٧ مايو ٢٠٢٤
"الجـ ـولاني" على نهج "الأسد" في قمع الاحتجاجات وكم الأفواه بالرصاص
ولاء زيدان