منع عسكرة إدلب... الفرص والأخطار
في خضم الجدل حول الاتفاق الذي وقعه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ونظيره الروسي فلاديمير بوتين أخيراً في منتجع سوتشي، في شأن حلحلة الأزمة في إدلب بما يمنع عسكرتها، يثور التساؤل حول فرص تنفيذ الاتفاق الذي حدد برنامجاً زمنياً لإقامة منطقة منزوعة السلاح بعمق 15 - 20 كيلومتراً شمال سورية، وسحب السلاح الثقيل من هذه المنطقة بحلول 10 تشرين الأول (أكتوبر) المقبل، إضافة إلى التخلص من الجماعات الراديكالية داخل المنطقة المنزوعة السلاح بحلول الخامس عشر من الشهر نفسه. وإذا كانت إدلب تحمل أولوية خاصة لدى القوى الموجودة في سورية، باعتبارها المعقل الأخير للمعارضة المسلحة، فإنها تمثل أولوية قصوى لتركيا باعتبار أن حسم مصيرها يمهد لمرحلة جديدة من التفاهمات في شأن رسم خريطة نهاية الصراع في سورية؛ ناهيك بمخاوف أنقرة من موجات نزوح لاجئين جدد على أراضيها حال عسكرة الأزمة في المدينة التي يقطنها حوالى ثلاثة ملايين نسمة. لذلك، تنظر تركيا إلى الأزمة في إدلب باعتبارها خطراً يهدد وحدتها واستقرارها في ظل تنامي التهديدات الأمنية الناتجة من استمرار الصراع، إذ إنها تخوض حرباً مزدوجة ضد تنظيم «داعش» وحزب العمال الكردستاني في آن. خلف ما سبق، فإن أنقرة تخشى مشاركة كردية مع النظام السوري لدخول إدلب، خصوصاً في ظل مفاوضات علنية ومباشرة بين الأسد و «قوات سورية الديموقراطية» المحسوبة على أكراد البلاد في شأن تسلم مساحات واسعة من مناطق نفوذها في الشمال والشرق مقابل الحصول على امتيازات في إدارة المناطق الكردية، وهذا مرهون بإخراج القوات غير الشرعية ورفع العلم السوري فوق الأراضي السورية كافة. ويزيد التفاهم الإيجابي الحادث بين نظام الأسد والقوى الكردية السورية مخاوف أنقرة من احتمال إنشاء دولة قومية كردية في الشمال السوري، أو في الأقل الحصول على حكم ذاتي في إطار فيديرالية سورية، وهو ما قد يلهب طموحات الأكراد الأتراك.
فى هذا السياق، يمكن فهم التعاطى التركي مع طبيعة الأزمة في إدلب، والسعي إلى منع مواجهات عسكرية، قد تكون أضرارها المباشرة أكثر إيلاماً على تركيا التي تعاني أزمة اقتصادية غير مسبوقة، إضافة إلى توتر لا تخطئه عين مع واشنطن الداعم الأكبر للعناصر الكردية السورية التي تجد بيئة خصبة لتعضيد وزنها في الداخل السوري، إضافة إلى مد جسور الثقة مع القوى الدولية، بعد دور معتبر لها في مكافحة تنظيم «داعش»، وكان بارزاً، هنا، نجاحها في قضم نفوذ «داعش» في شرق سورية.
غير أن ثمة تحديات تقف حجر عثرة أمام تنفيذ الاتفاق التركي - الروسي، أولها رفض قطاع معتبر من الفصائل المتشددة هذا الاتفاق، منها «حراس الدين، و «أنصار التوحيد»، و «أنصار الدين»، و «جند القوقاز»، إضافة إلى فصائل أخرى عاملة ضمن هيئة تحرير الشام، وترفض الانسحاب من خطوط التماس مع قوات نظام الأسد الممتدة من جسر الشغور إلى ريف إدلب الشرقي مروراً بريف حماة الشمالى، وريف إدلب الجنوبي الشرقي.
ويرتبط التحدي الثاني بقدرة تركيا على الإيفاء بمسؤوليتها في شأن تفكيك جبهة النصرة الموالية لتنظيم «القاعدة»، ولاحقاً العمل على تفكيك باقي التنظيمات الإرهابية. كما يثور التساؤل في شأن قدرة تركيا على مواجهة السلفيين المتشددين، والمقاتلين الأجانب. فإذا كانت أنقرة لديها هيمنة على عناصر «الجبهة الوطنية للتحرير»، والتي تأسست من 11 فصيلاً من فصائل «الجيش الحر»، ففي المقابل ثمة نفوذ تركي محدود على التيارات الراديكالية في إدلب، وهو ما يعني أن أنقرة قد تكون أمام احتمالين، أولهما إمكان حدوث صدام عسكري بين القوات التركية و «هيئة تحرير الشام»، إذا رفضت الأخيرة البحث عن ملاذات بديلة لإدلب أو تفكيك نفسها، وربما يكون هذا السيناريو في مصلحة القوى الداخلية والخارجية التي تتربص بالاتفاق.
أو قد تلجأ تركيا إلى احتواء هؤلاء المتشددين وإعادة تأهيلهم داخل تركيا، وتكشف تصريحات مسؤولين أتراك عن إمكان السماح لبعض قيادات «هيئة تحرير الشام» و «تنظيم حراس الدين» بدخول الأراضي التركية على أن تقوم في مرحلة لاحقة بتسليمهم إلى دولهم.
ويُشار في هذا الإطار إلى تصريح وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو بأنه بموجب الاتفاق الذي تم بين موسكو وأنقرة حول إدلب، يوفر أرضية خصبة لموسكو في شأن اتخاذ تدابير لمنع قوات الحكومة السورية من دخول المنطقة المنزوعة السلاح بطول خط التماس بين المعارضة المسلحة والقوات الحكومية.
وراء ما سبق، ثمة امتعاض سوري من الاتفاق، وهو ما جعل موسكو تفرض جهداً مضاعفاً لإقناع الأسد بالاتفاق، ووقف الهجمات المتقطعة على إدلب. وتعارض دمشق الاتفاق، كونه أدى إلى تعقيد خطط الأسد لاسترداد شمال غربي البلاد، ويكرس النفوذ التركي حيث تنشر أنقرة 12 نقطة مراقبة في إدلب ضمن إطار اتفاق خفض التصعيد في آستانة.
في المقابل، فثمة قلق في شأن إمكان صمود ذلك الاتفاق، في ظل تحييده الواضح لكل من إيران والولايات المتحدة، اللتين لن ترضيا بتقليص نفوذهما الذي عملتا جاهدتين على بنائه على الأراضي السورية. فعلى رغم ترحيب الخارجية الأميركية، بجهود كل من روسيا وتركيا لإنهاء العنف في إدلب، واتفاقهما على إقامة المنطقة العازلة ، فالأرجح أن واشنطن لن تقبل السعي الروسي لإخراجها من المعادلة السورية، وهو سعي مستمر منذ وقت طويل يثير قلق واشنطن.
أما طهران التي وصفت الاتفاق بأنه نتيجة للديبلوماسية المسؤولة، وأعلنت مبكراً رفضها عسكرة المشهد في إدلب، في محاولة لتخفيف التصادم مع واشنطن وأوروبا، ففي المقابل ثمة قلق إيراني، من أن يسفر الاتفاق التركي - الروسي عن تعضيد دور موسكو في إدارة الأزمة السورية من جهة، ويمنحها في الوقت ذاته الأولوية للاستحواذ على مشروعات إعادة إعمار سورية وعقود الاستثمار في البلاد، خصوصاً بعد نجاح بوتين في إقصاء طهران عن مشروعات استخراج مصادر الطاقة في سورية. خلاصة القول أن التحايل على الوضع في إدلب ومنع عسكرة الأزمة يظل مرهوناً بقدرة تركيا على ترويض الفصائل الجهادية، وإخراجها من إدلب فضلاً عن دور موسكو في تقديم دعم حقيقي لأنقرة لإنجاح مهماتها التي تبدو محفوفة بالأخطار.