مقالات مقالات رأي بحوث ودراسات كتاب الثورة
٦ أكتوبر ٢٠١٨
أهمية حلب الاستراتيجية في المنطقة

المقال جزء من بحث تم تقديمه بعنوان (أهمية حلب الاستراتيجية في المنطقة) في جامعة كلس للباحث د. محمد نور حمدان.

عندما نتكلم عن حلب في التاريخ فإننا لا نتكلم عن المدينة المعهودة التي نعرفها اليوم فحلب قبل مائة سنة ليست هي حلب اليوم .

فحلب التاريخ والحضارة والعراقة هي حلب ما قبل مائة سنة وقبل اتفاقية سايكس بيكو هي مدينة حلب وغازي عنتاب ومرعش وكلس واسكندرون فالشعب كان واحداًـ والآلام والآمال كانت مشتركة بين أبناء هذه المنطقة، ثم تم سلخ حلب عن هذه المناطق التي تعتبر عمقاً استراتيجياً لها فأصبحت كشخص قطع أطرافه يديه ورجليه فهو مشلول لا يستطيع الحركة.

ويحدثنا التاريخ القريب عن حدود ولاية حلب في العهد العثماني وهي: 
ولاية حلب باعتبار ما يتبعها من المدن والقرى، يحدّها من جهة الجنوب لواء حماة من ولاية سورية التي مركز واليها مدينة دمشق الشام ومن الغرب البحر الأبيض المتوسط، ثم ولاية أضنة.

ومن الشمال ولاية سيواس.

ومن الشرق ولاية ديار بكر

فولاية حلب كان يحكمها من قبل الدولة العثمانية والٍ مركزه حلب، وتنفذ أوامره إلى متصرّفين اثنين وثلاثة عشر وكيلاً يعرف بالقائمقام.

أما المتصرفان فمركز أحدهما مدينة الرّها وأوامره تنفذ إلى ثلاثة وكلاء، ومراكزهم: سروج وقلعة الروم والبيرة.

ومركز المتصرف الثاني مرعش (وهي مدينة تركية اليوم) وأوامره تنفذ إلى أربعة وكلاء مركزهم: الزيتون والبستان وأندرين وبازارجق.

وأما الثلاثة عشر وكيلا فتتبع لواء حلب ومراكزهم: قصبة إدلب وبيلان (قرب اسكندرون) ومنبج ومعرّة النعمان وعينتاب (مدينة تركية) وإسكندرونة (مدينة تركية) والباب وحارم وانطاكية (مدينة تركية) وجسر الشغور، وكلّز (كلس مدينة تركية) ودارة عزة وتعرف بقضاء جبل سمعان، والمركز الثالث عشر الرقة وكانت تابعة متصرفية الزور، ثم ألحقت بلواء حلب.

لذلك عندما نتكلم عن حلب في التاريخ وأعمالها ومنجزاتها فإن حديثنا يشمل:

مدينة حلب وريفها اليوم- مدينة كلس- مدينة عنتاب- مدينة مرعش- مدينة الاسكندرون.

وكتب التاريخ مليئة بالنصوص التي تدل على وجود التلاحم والانسجام والتعايش بين هذه المناطق وأهلها والتشابه في العادات والتقاليد والأخلاق والتداخل بين الأسر والعائلات.

إن حلب كانت باباً لغزو الروم وفتح البلاد وكانت الجيوش تجتمع فيها منذ عهد الصحابة رضوان الله عليهم تمهيداً لفتح القسطنطينية (استانبول) لذلك نجد الكثير من الأماكن التي ذكرت خلال الفتوحات والمعارك كدابق ومرعش وطرسوس قرب مرسين حيث كانت هذه المدن ثغوراً تنطلق منها الجيوش.

وعندما يتحدث المؤرخون عن حلب فإنهم يتحدثون عن مدينة عظيمة ويقارنوها بالمدن العظيمة كاستانبول والقاهرة فهي تأتي في المرتبة الثالثة بعد هذه المدن كحاضرة من حواضر العالم الإسلامي بل بسبب موقعها الاستراتيجي كان القادة يفضلونها على هذه المدن لأنها كانت باباً لفتح أوروبا، وثغراً مهماً من ثغور الإسلام حتى إن صلاح الدين الأيوبي كان يعتبرها طريقاً لفتح القدس فهذه المدينة لم تتميز بموقعها فحسب بل تميزت بغنى ثرواتها، واشتهرت بمهارة أهلها في التجارة والصناعة قديماً وحديثاً، واشتهرت بمعامل النسيج القديمة والحديثة حتى كانت مصدرة لدول كثيرة، وصناعة صابون الغار وتميزت به، وبمحالج القطن.

 وعندما يزور السواح والمؤرخون مدينة حلب يستفيضون في مدحها حتى إن بعضهم شبهها بالمدن الإيطالية من حيث جمال بنائها وشوارعها ويعود ذلك إلى تربتها وحجارة الكلس المشهورة فيها، واشتهرت بأسواقها القديمة حتى إن أكبر الأسواق المسقوفة موجود في حلب (سوق المدينة) كسوق العطارين، وسوف النحاسين، وسوق الحدادين، واشتهرت بمسجدها الأموي وبقلعتها التي تعتبر أقدم قلعة موجودة في المدينة، واشتهرت بأبوابها كباب أنطاكية وباب الجنين وباب قنسرين وباب النصر وباب الحديد وباب المقام وباب النيرب.

وقد نالت مدينة حلب لقب عاصمة الثقافة الإسلامية عام 2006م، وأصبحت من مواقع التراث العالمي في اليونسكو عام 1986م

 ومما ورد في مدح مدينة حلب:

ورد في بغية الطلب في تاريخ حلب:"فأما جودة هواء حلب وصحة مناخها فذلك أمر مستفيض اعترف به الأغراب، وأخبر عنه السواح وفضّلها كثير منهم على هواء أكثر مشاهير البلاد العثمانية. وناهيك دليلا على ذلك نضارة وجوه أهلها، واعتدال أجسامهم ولطف ألوانهم وقلة العاهات والأمراض فيهم.

وقال الدكتور فنديك في كتابه المرآة الوضية في الكرة الأرضية: إن أهل حلب أجمل من جميع سكان البلاد العربية. وترى النساء مع هذه المحاسن البديعة على غاية من العفة والأدب والصيانة والطاعة لأزواجهن، والرضاء باليسير والقناعة بمعايشهن والقيام بخدمة أزواجهن وأولادهن ومنزلهن.

ومن مزاياهم الحسنة تودّد أهل الملل الثلاث إلى بعضهم، وتبادلهم الصداقة والمحبة وحسن التعامل والمعاشرة مع التزام الحشمة والأدب، وتناصرهم في الغربة ومزيد ألفتهم وحنينهم إلى بعضهم، غير ناظرين إلى اختلاف مللهم ومذاهبهم، وهم في إنفاق المال على أهلهم في حالة متوسطة بين الإسراف والتقتير

وأما دينهم ومروءتهم فيكفيك بالاستدلال عليهما أن حلب مهما كثرت فيها أسباب الفساد أخيرا، فهي بذلك لم تزل دون بقية البلاد التي تضاهيها بالسعة والثروة. وأهل حلب لأولياء الأمور من أطوع خلق الله تعالى وألينهم عريكة وأقلهم معارضة. حتى قال دارفيو في تذكرته السابق ذكرها: لا يبعد عندي أن تكون هذه المدينة سميت بحلب أخذا من ملاءمة أخلاق أهلها.

ومن حسن شمائل أهل حلب إقبالهم على أعمالهم وقناعتهم بالارتزاق من تجارتهم وقلة تهافتهم على وظائف الحكومة. والغالب عليهم حسن الخلق وسلامة الصدر من المكر والخديعة وصفاء الألوان وجودة الأفكار ودقة الأنظار، واستعمال الروية وترك العجلة والتهور فيما يبهم أمره وتجهل عاقبته عليهم.

أما عظمة حلب واتساعها فحسبنا ما قاله في ذلك باترك روسل: إن مدينة حلب تستحق أن تعد في المملكة العثمانية بعد استانبول ومصر بعظمتهما وإن كانت فوقهما بإتقان البناء والنظافة وحسن المنظر.

ويقول ياقوت الحموي في وصف حلب وأهلها:" ولأهلها عناية بإصلاح أنفسهم وتثمير الأموال، فقلّ ما ترى من نشئها من لم يتقيل أخلاق آبائه في مثل ذلك، فلذلك فيها بيوتات قديمة معروفة بالثّروة ويتوارثونها ويحافظون على حفظ قديمهم بخلاف سائر البلدان، وقد أكثر الشعراء من ذكرها ووصفها والحنين إليها"

اقرأ المزيد
٦ أكتوبر ٢٠١٨
هل تم تسليم لبنان إلى «حزب الله»؟!

الحكايا حول لبنان بأحواله وأهواله لا تنتهي. بلد جميل، وأرض طيبة، وأناس أهل خبرة بالسياحة وقدرة على الضيافة. ولكن الدهر قُلّب، وكل من له ذكريات أثيرة بهذا البلد يرى لبنان يوماً تلو آخر تزداد أغلاله، حتى لا يكاد يقوى على الحراك. والكتابة عن لبنان هي كتابة معه وعنه بنفس اللحظة، ونقد حالِه فعل دفاع عن صورته التي أحببناه عليها، وقع الناس في فخّ فألٍ ساذج مع ما عرف بتشكيل «العهد الجديد» وفرص نزع الأزمات التي كانت عليهم، ودرَجت الصحافة والإعلام هناك بالإجمال مع تلك الموجة، ولكن المتابع يعلم مستوى عمق الأزمات الكارثية، ولعل الطرائف تشرح الكوارث، ففي مؤتمرٍ للمانحين، قدم المُقرضون على رحلاتٍ بدرجة سياحية، أما المقترضون فقد جاءت بهم أساطيل من الطائرات الخاصة، وقد شغب البعض على الرئيس ميشال عون بعد ما قيل إنه اعتساف بالتصرف حيث نسّق ركاباً من رحلاتهم بأمر الرئاسة، وهو ما نفاه القصر الجمهوري، معتبراً أن الرئيس يسير على نهج من سبقه ولا تغيير في ذلك.

والكتابة عن المآزق المتعددة لا تغفل التضعضع السياسي في الداخل، إذ خنعت القوى الليبرالية المعتدلة، والأخرى اليسارية المناوئة لسوريا وإيران، والثالثة المسيحية المنتفضة ثورة على القوى القاتلة، كل تلك المجاميع سلّمت الرايات لقوة الأمر الواقع وهي الأصولية ممثلة بـ«حزب الله». سعد الحريري المؤمل عليه بوصفه سليل رجل ليبرالي واقتصادي كبير أن يكون له تشكيله السياسي، وكينونته الذاتية بمشروعٍ يخاطب العصر ويتواءم مع الواقع، إذا به يعاند الصيرورة ويدخل في دوّامة من المجاملات، حتى اندغم تحت شعار «العهد الجديد» مع واقعيّة هيمنة «حزب الله» على لبنان، وقد تحدثتُ قبل أيامٍ مع صحافي لبناني من الحزب الشيوعي وسألته بواقعية مريرة: إذا كان الساسة في لبنان قد سلّموا جلهم حتى الصقور منهم بأن أمنهم الشخصي، وحماية طوائفهم، وحراسة مكاسبهم بالسياسة عملاً واستثماراً، إذا كانوا قد استسلموا من الناحية العملية لـ«حزب الله» فما الفرق بين هذا وأن يقوموا علناً بتسليم مفاتيح لبنان لـ«حزب الله» وتنتهي المهزلة؟! سؤال صادم ولكن مبعثه هذا الخنوع والانصياع من قبل القوى التي يفترض أنها مدنية تدافع عن قيم الحرية والفرد والمؤسسة والنظام والقانون، وليس عن مقولة «السلاح زينة الرجال» التي تذكرنا بـ«الفايكنغ» عبدة القتل الذين يعتبرون «القتال متعة».

المشكل الأكبر في طبيعة التفسير الديمقراطي، إذا أخذنا فكرة «الديمقراطية التوافقية» وهي تتداول يومياً بخطابات الزعامات السياسية اللبنانية بأوصافٍ تتعلق باستحالة إلغاء فريق للآخر، ولكن هذه الصيغة تعتبر هدنة طويلة، وقد أخطأت قوى مدنية بالرهان على «حزب الله» كقوة سياسية، يمكنه أن يتطوّر تدريجياً ليكون حزباً مدنياً، وهي ديمقراطية شكلية عديمة الإشعاع، ذلك أن النماذج الديمقراطية الحيوية تغيّر مروحتها من الثقافة القائمة وتساهم بتعزيز مناخات الحريّة. في لبنان ثمة ليبرالية، ولكنها من دون علمانية سياسية تحطّم الأنماط الطائفية، وهذه ديمقراطية عرجاء.

وعلى حد تعبير جورج طرابيشي فإن «الديمقراطية ليست حريّة سلبية، بل بحسب روبير فريس سياسة الذات الفاعلة، والنظام الديمقراطي قابل للتعريف بأنه شكل الحياة السياسية الذي يعطي أكبر حرية لأكبر عدد مع حمايته وإنتاجه في الوقت نفسه لأكبر تنوع ممكن». والعلمنة هي أخصب أرضٍ للديمقراطية، فمن دونها تخلق تشوهاً فظيعاً في الجسم السياسي يصعب برؤه.

إن الحكم الأصولي، أو «الدولة المستحيلة» كما هو عنوان البروفيسور وائل حلاق، لا يمكن الرهان عليه لخلق واقعٍ جديد، وأكبر دليل على كبر المشكلة أن لبنان وقع ضمن خياراتٍ صعبة، فالمنطق الوحيد المطروح حالياً أن هذا هو الوضع الحالي، ولا يمكننا الدخول بفتنة داخلية، و«حزب الله» هو المسيطر، وعليه فإن الوضع يكون بين أمرين؛ إما أن الساسة الخاضعين الآن لديهم مواقف مستقلة تجاه الحزب يعارضونه بينهم وبينه فقط ضمن الحوارات والنقاشات بين الكوادر، أو أنهم أصبحوا أدوات ويسيرون رغماً عنهم بقرار المرشد الأعلى في لبنان، وبالتالي فإنهم مجرد أحزاب صغيرة ابتلعها الحزب الأصفر الكبير، ثم يأتي السؤال: أليس هذا هو التسليم المطلق للزعماء بهيمنة «حزب الله» على المفاصل والمؤسسات والحكومات والمجالس؟! ولماذا لا يعتبر هذا بمثابة استسلام من قبل السياسيين الخاضعين لقوة الأمر الواقع؟!

قبل أيام كتب أستاذنا الدكتور رضوان السيد بهذه الجريدة: «منذ احتلال بيروت عام 2008 وحتى اليوم استمرت خطوات الحزب للسيطرة الكاملة على البلاد مؤسساتٍ ومطاراً ومرفأً وجيشاً، وأخيراً رئاسة الجمهورية، ومجلس النواب. وخلال أكثر من عشر سنوات كانت التهمة الرئيسية الموجَّهة إلى قوى 14 آذار أنها أميركية ومتآمرة، رغم أنها فازت في انتخابات العام 2009 بالأكثرية الشعبية. لقد فشلت القوى الاستقلالية إذن، والبلاد تتصدع الآن مالية واقتصاداً ومؤسساتٍ وأمناً وخدماتٍ. فهل يعتبر القوميون واليساريون الأشاوس لبنانيين وغير لبنانيين والذين وقف معظمهم مع سوريا الأسد، ومع (حزب الله)، أنهم فازوا؟».
تلك هي المسألة والأزمة، وهذه هي الأغلال.

اقرأ المزيد
٦ أكتوبر ٢٠١٨
الساكورا اليابانية في غوطة دمشق

لقد كتبت هذه المقالة القصيرة في الصفحة الإعلامية لإحدى المنظمات الدولية اليابانية والتي أعمل بها أثناء الكارثة الأخيرة التي مرت بها غوطة دمشق في الربيع المنصرم ونظراً لفقر المادة الإعلامية العربية في الإذاعات والأخبار والصحف اليابانية فإن أغلب الأخبار الهامة التي يمر بها مجتمعنا العربي تمضي دون أن يسمع بها أي مواطن ياباني أو يلقي لها بالاً ورغم اعتبارنا أن العالم بات (قرية صغيرة) إلا أن الحقيقة هي أن أخبارنا المحلية لا تصل إلا للآذان الباحثة عنها ويمضي أغلبها بكبيره وصغيره دون أن يعلم بها أغلب سكان العالم عكس المتصور لدينا

تشتهر اليابان إلى جانب التقدم الحضاري الهائل فيها بالطبيعة الخلابة والتي يضرب المثل بها وخاصة أشجار الكرز (الساكورا) التي تميز الربيع الياباني الساحر، فلم أجد طريقة ألفت فيها الأنظار اليابانية إلى المأساة السورية أفضل من مقارنة الساكورا اليابانية بأشجار المشمش التي تزهر في الربيع في الغوطة الدمشقية وكانت النتيجة المقالة التالية والتي كتبت أساساً باللغة اليابانية:

دخلت الحرب السورية عامها الثامن في مطلع هذا الشهر ويعتبر الكثيرون أن هذه المدة طويلة جداً في حين يراها السوريون أنفسهم كطرفة عين أو كابوس كئيب أسود فما إن اشتعلت الحرب في عام 2011 حتى بدأت ويلاتها تنسل إلى كل بيت سوري لتسرق منه أجمل ما فيه. فقد سرقت أرواح الآلاف وأخذتهم من أحضان أمهاتهم أو أعشاش زوجيتهم أو جنة أطفالهم. وسلبتهم -في أحسن الأحوال- أحلامهم وأعمالهم ومستقبلهم. حتى أكثر الناس حظاً لم يسلم من وبال الحرب التي طالت كل شبر في البلاد.

إن سبعة أعوام رقم ليس بالصغير، فاذا ما ضربنا به المثل في حياة رضيع حديث الولادة مثلاً فإن سبعة أعوام ستكون كافية له كي يتمكن من المشي والكلام والأكل بمفرده بل ودخول المدرسة وتجاوز الصف الثاني من المرحلة الابتدائية! إذاً فإن السبعة أعوام هذه والتي أنشأته وجعلت منه فرداً شبه مستقل في احتياجاته الاساسية ليست بالقصيرة وهي الفترة نفسها التي حولت آلاف الأطفال السوريين إلى أطفال أميين لا مستقبل لهم. فإذا ما نظرنا إلى أطفال سوريا اليوم نجد أن الكثير منهم قد عاش أغلب طفولته في ظل الحرب فلم يعد يعلم حياةً دون حياة الموت والقصف بل بات من المستحيل بالنسبة لهم أن يتخيلوا معنى الحياة الآمنة التي تنعم بها أنت.

 إذ أن الحرب لم تتح لهم فرصة مقارنتها بغيرها بل استحالت أكثر العابهم الطفولية عفوية وبراءة إلى تشييع موتى أوقتال في الجبهات وكأنه لا حياة دون ذلك. وبعد أن كانت سوريا من أولى الدول العربية في المستوى التعليمي وما يعرف عنها بصعوبة المناهج التعليمية وتفوق ابناءها علمياً فإن الإحصائيات تشير إلى أن نسبة ثلث الأطفال السوريين من عمر 5 إلى 17 هم خارج المدرسة في حين أن نسبة الأطفال الذين يعملون في ظل الحرب تجاوزت ال80 بالمئة من المجموع الكلي للأطفال. فهل اعتاد السوريون على الحرب؟ إذا كنت عزيزي القارئ قد اعتدت على أخبار الحرب كل يوم فهذا لا يعني أن الذين يعيشونها أنفسهم قد اعتادوا عليها. فلا أحد يستطيع الاعتياد على موت أحبته أو خسارة بيته أو بتر عضو من أعضاءه. فالموت ليس بالأمر الذي يستطيع أي منا الاعتياد عليه.

منذ أن ابتعدتُ عن سوريا وأتيتُ إلى اليابان، لم تتركني فكرة القيام بأي شيء من أجل بلدي إلا أنني أدركت صعوبة الانخراط الحقيقي في العمل الإنساني من عالم بعيد تماماً عن سوريا وهو اليابان إلى حين استطعت الانضمام إلى هذه المنظمة والتي أرشدتني إلى الضوء الذي كنت أبحث عنه. هذه المنظمة اليابانية المنشأ العالمية التوجه والتي تعنى بالكوارث الطبيعية والإنسانية في العالم. فرغم ابتعادي جغرافياً عن سوريا إلا أنني أدركت أن قلبي لن يبتعد عنها طالما أستطيع العمل هنا.

قبل اندلاع الحرب في سوريا لم يكن لدي شخصياً اهتمام حقيقي بالحروب في العالم وكانت همومي وتطلعاتي شخصية ولكن وبعد أن لمست الحرب قلبي ورأيت الموت والجثث والدمار بعيني أدركت الحقيقية وراء نشرات الأخبار التي اعتدت مشاهدتها باهتمام باهت سابقاً. ومما دفعني إلى كتابة الكلمات هذه هي الأخبار نفسها والتي تأتيني هذه المرة من بلدي. فبعد أن بدأت الحرب بالخمود تدريجياً وبدأت أنظار العالم تلتفت إلى (حروب جديدة!) بدأ الوضع الإنساني والأمني بالتدهور في غوطة دمشق المحاصرة أصلاً والتي فقدت خلال أسبوعين فقط أكثر من 600 شخص من سكانها وبعد أن كانت غوطة الربيع صارت غوطة الدم والموت.

حينما يحل الربيع في ريف دمشق فإن أشجار المشمش تزهر (كما اليابان) لتمسي أشبه ما يكون بشجر الساكورا الخلاب. وكما يتجه اليابانيون إلى الأماكن الخضراء محضرين معهم أكلهم كي يقضوا وقتاً ممتعاً في ظل أشجار الساكورا الزهرية الرائعة يقوم كذلك أهل دمشق بما هو معروف بـ(سيران يوم الجمعة) حيث يحضرون معهم أطعمتهم وألعابهم هاربين من حياتهم المدنية إلى ربوع غوطة دمشق التي تقدم لهم كل سنة أجمل الأزهار وتهديهم ألذ الفاكهة والخضار حتى ارتبط اسم الغوطة بالربيع في عيون السوريين.

فمع بدء موسم الربيع وذكرياته الجميلة أود أن أهمس في آذانكم وأطلب منكم أن تتذكروا أهلكم في سوريا أثناء مشاهدتكم لأزهار الساكورا. وأن تتذكروا أثناء تساقطها برقة ورود المشمش التي تتساقط شهيدة كل يوم بصمت بعيداً عن أنظار العالم المتغاضي عنها. فإذا كنت أنت وأهلك بخير فإن ذلك لا يعني أن العالم كله بخير وأنك تستطيع أن تعيش بسلام وراحة دون أن تؤدي دورك الحقيقي بإعمار هذه الأرض أو على الأقل بإيقاف خرابها فأثر الفراشة لن يتركك بسلام ودم المشمش لن يتوقف في غوطته بل ستحمله المياه وآلاف البحار إليك دون أن تعلم.

فما الذي يجب عليك القيام به؟ إن ما يجب عليك عملياً القيام به هو ألا تتغاضى عن مساعدة من هم حولك من أهلك وجيرانك وأبناء بلدك أولاً ثم ألا تتجاهل أخبار العالم مثلما فعلتُ أنا سابقاً. رغم أنني وعلى عكس آلاف السوريين لم أخسر غالياً في الحرب وهو مما أحمد الله عليه ليل نهار إلا أن الشعور بالأمان انعدم تماماً من قلبي ولم تعد أكثر الأوطان أماناً تشعرني بالراحة والطمأنينة وأنا أوقن قلبياً ان الله قد يحيل الامر بين ليلة وضحاها من سلام إلى حرب فأدركت أخيراً أن الأمان هو أكثر المشاعر المؤقتة في حال كنا نبحث عنها في حياتنا الدنيا. وبعدما أدركت فقدي للأمان أدركت معه أيضاً ارتباطي بكل نفس إنسانية تعاني وعلمت أن الذاكرة الجمعية التي تصنعها البشرية اليوم سيمتد أثرها إلى أجيال كثيرة بعدنا وأن كل مصيبة تمر في بلد ما لن تتركه إلا لتمر ببلد غيره حتى نقوم نحن أنفسنا بإنهائها.

إن الحرب السورية كانت بالنسبة لي هي البداية للاهتمام بحروب العالم ومشاكل اللجوء التي لم تتح لي الفرصة سابقاً الاطلاع عليها وإن وجودي في منظمة عالمية أتاح لي فرصة الاطلاع على أحوال بلدان لم يسبق لي أن أعطيتها ثوان من تفكيري وجعلني أدرك أن غوطة دمشق ماهي إلا جزء من كل الحروب الصامتة تارة والصاخبة تارة أخرى والتي يمر بها العالم اليوم وكم أتمنى منك عزيزي القارئ أن تدرك معي هذه الحقيقة وأن تعطي من وقتك وجهدك ليس من باب الفراغ بل من باب المسؤولية والواجب القليل مما تملك إلى من لا يملكون شيئاً .

إن المقال السابق قد كتب في شهر آذار (مارس) الماضي ولكن وكما ذكرت بين سطوره فإن الدم المنسكب في سوريا وفي كل الدول التي تمر بالحروب لن يتوقف في حدودها بل قد يصل يوماً ما إليك إذا لم تعر الأمر اهتماماً. والتعبير عن الاهتمام لا يكون فقط بالالتصاق وراء شاشات التلفاز وسب هذا وشتم ذاك ومن ثم مزاولة الحياة اليومية بشكل طبيعي. ولا أقصد بذلك أيضاً أنك تستطيع فتح القسطنطينية وتحرير القدس وإنقاذ الأطفال السوريين بمفردك بل أقصد أن تعي مسؤوليتك الخاصة على هذا الكوكب وألا تتمتع بما لديك وحدك وأنت تعلم ضمناً أنه يوجد هنالك من يعاني ويحتاج إلى أقل محتويات برادك أو خزانة ملابسك أو حتى أفكارك! فلا تبخل بكلمة ولا بقرش ولا بعلم ولا بفن! إن التفاتك إلى قضايا العالم وحده سيلفت انتباه غيرك إليها وإن سعيك الحثيث لنشر الوعي سينشره حتماً لا محال.

اقرأ المزيد
٥ أكتوبر ٢٠١٨
عصابة الأسد وليس نظام الأسد

درجت تسمية السلطات في بلاد معينة باسم نظام الحكم، وإذا كان من غير المعروف تاريخ هذه التسمية، فقد نشأت أجيال عربية على مصطلح أنظمة الحكم العربية، في الإعلام وفي الأدبيات السياسية، للدلالة على اختلاف طبيعة الحكم فيها ما بين ملكي ورئاسي وأميري.

لكن كلمة نظام في الغالب ما كانت تستخدم كنوع من التصغير والاحتقار، أو للدلالة على حالة غير سوية جوهرها سرقة السلطة واحتكارها ضمن فئة محدّدة، وصناعة منظومة سلطوية تابعة، من جيش وأجهزة أمنية وحزب حاكم. وتتم عملية صناعة القرار ضمن دوائر ضيقة، وتعتمد هذه الأنظمة على الدعاية والقمع كوسيلتين لضبط المجتمع المحكوم، أو بلغة أدق؛ ترويضه وتدجينه.

من هنا جاءت تسمية النظام السوري، لدرجة أن هذه التسمية باتت لصيقة باسم السلطة في سوريا، وقد عبر بشار الجعفري، مندوب الأسد في الأمم المتحدة، عن غضبه واستهجانه من استعمال دبلوماسيين من طراز مندوبي الدول في مجلس الأمن؛ لمصطلح النظام، بدل استخدام مصطلح الحكومة السورية.

لكن، ولدى معاينة سلوك منظومة الأسد الحاكمة، نجد أن مصطلح نظام يبدو غير منطقي في تسميتها، ذلك أن هذا المصطلح، على محمولاته السلبية، فإنه يرمز لبنية سياسية ذات صفات معينة غير موجودة لدى منظومة الأسد، التي تبدو أقرب للعصابة منها للنظام، وذلك للأسباب التالية:

- التعاطي مع السياسة في حدودها الدنيا ومن خلال شكليات، حيث كل شيء يدخل في الإطار العسكري والأمني، وإدارة المجتمعات وإدارة صراعاتها، والشؤون الاقتصادية وغيرها.. كل ذلك يمر عبر نافذة الأمن، أما السياسة فليست سوى واجهات شكلية وهياكل فارغة.

- المجال السياسي لا يزال متخلفا، يقتصر على الحزب الحاكم، وهذا ليس سوى ديكور، وحينما يجري تفعيله فهو أداة للبطش وجهاز استخاراتي رديف للأجهزة الأخرى، ومثله النقابات والاتحادات. فالمجتمع المدني مسيطر عليه بشكل كامل من قبل هذه الجهات.

- الحامل الاجتماعي ليس طبقة ولا فئة اجتماعية واضحة، بل مجموعة متنفعين انتهازيين، في بداية الثورة ونتيجة الفرز الذي حصل بين مؤيد للثورة ومؤيد للسلطة تكشّف بشكل كبير أن الفئات التي تعمل بقطاعات السمسرة والتهريب والفاسدين في القطاع العام والمرتشين والذين يديرون بيوت الدعارة هم الأكثر أصالة وشراسة في تأييد الأسد، وحتى رجال الدين المنحرفين الذين يتعاطون مع الدين بوصفه تجارة وربحا.

- عدم احترام القانون، من الدستور إلى القوانين الأخرى، في مرحلة السلم طالما جرى التعبير عن هذا الأمر من خلال تجاوز كل القوانيبن في اعتقال المواطنين وفي إخفائهم ومداهمة المنازل بدون مذكرات قضائية، فمثلا في عام 2004 جرى اعتقال أعداد كبيرة من الذين شاركوا في حرب العراق عن طريق اختطافهم من الشوارع أو مداهمة منازلهم عند الفجر، ولكي يعرف ذووهم أماكن وجودهم كان يتطلب الأمر دفع مبالغ ضخمة من الرشاوى لأجهزة المخابرات، ومن لا يملك المال فإن مصير ابنه الاختفاء إلى الأبد بعد تصفيته في السجون. هل ثمة نظام في الشرق والغرب لا يزال يستخدم أسلوب الإخفاء في القرن الحادي والعشرين؟

- قتل المعارضين السياسيين، والحادثة الأقرب، قتل حوالي ألفي معارض في سجن تدمر وإعدامهم ميدانيا، بل إن جرائم عصابة الأسد ظهرت بشكل واضح وفاضح في لبنان، حينما أقدم جهاز الأمن العسكري على قتل عشرات المعارضين للوجود السوري، وأغلبهم شخصيات سياسية وفكرية.

هذا وضع السلطة في سوريا قبل الثورة، قبل أن تكشف عن وجهها الأبشع، أو يمكن القول إظهار حقيقتها بدون مكياج، ذلك أنه في مرحلة قبل الثورة لم تكن مضطرة بقدر كبير لكشف نفسها، وكانت تسعى إلى تطوير وضعها إلى مستوى العصابة "الموديرن". فوضع العصابة التقليدي لم يعد يناسبها؛ نظرا لتوسع نشاطها الاقتصادي وتراكم الثروات التي تمتلكها نتيجة النهب والفساد والتهريب، وقامت بإلباس عناصرها السموكنغ وعلّمتهم اللغات الأجنبية، وصدّرت أسماء الأسد كسيدة مجتمع للاستحواذ على مشاريع جمعيات المجتمع المدني وأمواله الهائلة، وهي خبرة تعلمتها العصابة من تجربة سوزان مبارك في مصر وليلى الطرابلسي في تونس.

بعد الثورة، تكشّف وجه العصابة الحقيقي، أصبحت عمليات القتل والإخفاء بمئات الآلاف، وعمليات السرقة والنهب" التعفيش" تجري في وضح النهار، حتى إن الكثير من العناصر المقاتلة لم يكن لهم مرتبات، بل جرى الاتفاق مع المتعهدين الذين يجلبونهم على أن يكون البدل النقدي لهم مما ينهبونه من الأحياء التي جرى توزيعها كقطاعات بين المتعهدين.

يحاجج المدافعون عن عصابة الأسد بأنهم دولة ونظام حكم كونهم لديهم مؤسسات ويقدمون خدمات للمجتمع، والواقع أن العصابة لديها مؤسسات لتصريف أعمالها وإدارة مصالحها. وقد ثبت عبر دراسات محايدة أن المؤسسات في سوريا لها هدف حقيقي واحد، وهو تكريس سلطة العصابة وإدامتها. أما الخدمات، فحتى أزعر الحارة في نسخ السلطة القديمة كان يقدم خدمات معينة، وكذلك الفتوات والقبضايات، وذلك بهدف إسكات المجتمعات وضمان عدم انفجارها في وجه العصابة.

وفق هذه المقاييس، نجد أن أغلب ما يسمى أنظمة الحكم في عالمنا العربي، ليست سوى عصابات حاكمة، لديها إعلام وفضائيات وسفارات وممثلون في الأمم المتحدة.. هم زعران الحارات بمظهر موديرن، حتى إن دول العالم الخارجي تتعاطى معهم وفق هذه الصفة.

اقرأ المزيد
٥ أكتوبر ٢٠١٨
مراجعات كارثية

إِنَّ الرَّائِدَ لا يَكْذِبُ أَهْلَهُ
شهد التاريخ الإسلامي القديم والمعاصر عدة مراجعات، لعدد من كبار العلماء من كتاب ومحدثين، وكاد المؤرخ الناقل عنهم أن يشك في صحة إحدى الروايتين المتناقضتين المنقولة عن الباحث نفسه قبل المراجعة وبعدها؛ لولا إعلان ذلك العالم وعلى الملأ مراجعاته الفكرية أو العلمية، فأثبت صحة رأيه الثاني وأبطل الأول في المسألة الواحدة، وهكذا أقام الحجة على نفسه، ومنهم من كان يخلع ثوبه في المسجد أو في السوق، ويقول ها أنا انسلخ مما كنت أعتقد كما انسلخ من ثوبي هذا ويرميه كناية عن التغيير والانسلاخ من المعتقد القديم. تاب ورَقِيَ كرسيّا في المسجد الجامع بالبصرة يوم الجمعة ونادى بأعلى صوته: من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فإني أعرفه بنفسي، أنا فلان بن فلان كنت أقول بخلق القرآن وأن الله لا تراه الأبصار وإن أفعال الشر أنا أفعلها وأنا تائب مقلع، معتقد للرد على المعتزلة مخرج لفضائحهم ومعايبهم.

قال الفقيه أبو بكر الصَّيرَفي في ذلك : "كانت المعتزلة قد رفعوا رءوسهم حتى نشأ الأشعري فحجزهم في أقماع السَّماسم.

دفعت هؤلاء النخب الأهداف السامية والصدق مع الله والأمانة العلمية وسمو أخلاق لإتخاذ موقف تاريخي في حياتهم، انسلخوا به من معتقداتهم وما كانوا عليه وعادوا لجادة الصواب الذي وجدوا صوابه في إعلانهم الإنقلاب على تلك المعتقدات الفاسدة والتبرؤ منها على العلن، بل أمام أتباعهم مقدمين الخوف من الله على خوفهم من الرأي العام ونظرة الأتباع المقدسة لهم.

نشهد اليوم بعض الفصائل تنقلب على نفسها وتراجع أحكامها الخاطئة على استحياء أو تفاوض خصومها في الأمس ومن حرمت التعامل معهم من تحت الطاولة، تاركة أتباعها رهينة أحكام قديمة خاطئة، قد يعيش ويموت العنصر التابع لهم وهو يعتقد أنه على الحق الذي لا يجوز الحيد عنه، أو لربما يقاتل ثم يقتل من أجله، بينما القائد والشرعي لتلك الفصائل يراجع نفسه ويبيح ما كان محظوراً على غيره، بل قاتل في الأمس القريب من كان يحمل هذا المعتقد، وأكبر دليل على تلك المراجعات هي العلاقة بين الثورة والأتراك، التي بدأها الجيش الحر منذ اندلاع الثورة، حيث إهتم بتلك الروابط من منطلق التحالف الاستراتيجي الذي لا بد للثورة حتى تصل إلى أهدافها.

تتقلب بعض الفصائل تارة تحرم التعامل مع الأتراك وتصدر بيانات تدعم رأيها بالأدلة وتارة تبيحها مع التحفظ وتارة تبيحها على الإطلاق أو تنفذ أجندتها من خلف الكواليس وهي تكسوها الكسوة الدينية وتستدل بالأدلة والحجج الشرعية على صوابها.

إذاً أين كانت تلك القواعد الشرعية والنصوص عندما قاتلت تلك الفصائل منافسيها من الجيش الحر الذي سبقها بإقامة تحالفات مع الأتراك؟

أم كان ذلك القتال من أجل السيطرة والسلطة لا أكثر؟

لا شك أن خروج المناطق المحررة من مستنقع الخلافات ووصولها إلى شاطئ الأمان مرهوناً بنشر الوعي والفكر السليم المبني على استراتيجيات وتحالفات يقودها من يملك الخبرة على ضوء الشريعة، لا إلى قادة تتقن الخطاب الشعبوي والتعبئة الجماهيرية والخوض بالجماهير في رهانات تقلص الأرض تحت أرجلهم وتدفعهم للمخيمات والحصار، ثم تحولهم إلى مواد أولية بيد المشاريع الغربية البعيدة كل البعد عن الإسلام.

إن جولة سريعة في المناطق التي دخلت عليها تلك المدارس الفكرية المتشددة، بداية من أفغانستان إلى الصومال والجزائر والعراق وليبيا ونهاية في سوريا، يدرك المتتبع ما آلت إليه تلك البلاد بعد دخول الغلو إليها، ما هي النتائج التي حققها؟

ومن يسيطر عليها الآن؟

فهل بلغت تلك المدارس الفكرية التمكين لا أظن هذا؟ وجل قادتهم متواريين عن الأنظار لا يخرجون على أتباعهم إلا ببعض التسجيلات.

اقرأ المزيد
٥ أكتوبر ٢٠١٨
روسيا تسقِط المعارضة من الحل السوري

 يحدد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين نوع الفاعلين العسكريين في سورية، بين وجود شرعي، وآخر غير شرعي، ويواجه خصومه وحلفاءه بآن واحد، بشرعية قواته فيها، النابعة من طلب الحكومة السورية لتدخلها العسكري، ويعتبر النظام السوري أحد الجهتين الوحيدتين إلى جانب الأمم المتحدة، التي تمنح شرعية وجود قوات عسكرية في سورية، وعلى ذلك يحق له تصنيف تلك القوى المشاركة في الحرب السورية، بين قوات شرعية، أو قوات احتلال واعتداء على السيادة السورية.

هذا يعني أن التفاهمات التي عقدتها موسكو مع أي جهة لها وجود عسكري هي من باب التحايل والاحتيال، وليست صاحبة حق ما لم يكن النظام السوري، أو الأمم المتحدة بررت ذلك الوجود بقرار محلي داخلي، كما هو الحال مع روسيا، وإيران، أو بقرار دولي عجزت حتى اللحظة الأمم المتحدة عن تمريره بفعل الفيتو الروسي، الذي حال دون اتخاذ أي قرار لحسم الصراع نحو 12 مرة (من 4 تشرين أول / أكتوبر 2011 وحتى 11 نيسان/ أبريل 2018).

وينطبق وصف «اللاشرعية» حسب التصنيف الروسي، وقبله النظام السوري، على القوات الأميركية بصفتها العسكرية، أو تحت مسمى «المستشارين»، الذين زاد عددهم وفق تصريحات أميركية رسمية يوم الأربعاء (جيمس ماتيس وزير الدفاع: إن عدد الديبلوماسيين الأميركيين في سورية زاد إلى المثلين مع اقتراب هزيمة داعش عسكرياً)، كما ينطبق على القوات الأوروبية والتحالف الدولي، وفي الوقت ذاته، يمكن فهم التصريحات بأنها رسالة تهديد مكشوفة للجيش التركي الذي يصول ويجول داخل الأراضي السورية، قبل وبعد الغطاء الروسي «المقونن» باتفاق سوتشي ( 17 أيلول/ سبتمبر الماضي) حول إدلب.

وضمن هذه التصريحات المتجانسة بين النظام السوري والرئيس الروسي، والتي تأتي كأنها في سياق رد على بيان وزارة الخارجية الأميركية، (2 تشرين الأول /أكتوبر الموقع من السفير جيم جيفري ممثل وزير الخارجية الخاص للتواصل بشأن سورية ونائب مساعد وزير الخارجية والمبعوث الخاص جول رايبون) حول دفع مسار المفاوضات في جنيف لإنهاء الحرب في سورية، ووضع حد لمعاناة السوريين، وبأن الحل لن يكون عسكرياً ، ولا بديل من الحل السياسي، منوهاً في عبارة تهديدية وتحذيرية بآن معاً: «نؤكد بأقوى العبارات أن أولئك الذين يسعون إلى الحل العسكري لن ينجحوا إلا في زيادة احتمال التصعيد الخطير، واتساع نطاق الأزمة داخل المنطقة وخارجها»، وأضاف البيان: «إن المجازر التي ارتكبها النظام السوري تمت بتمكين من روسيا وإيران».

إننا نشهد مرحلة جديدة من خلال التصريحات المتبادلة بين الطرفين الأساسيين في إدارة الصراع (أميركا ترامب، وروسيا بوتين)، الذي قد يمتد إلى خارجها كما نوه البيان، فهل هذا يشمل تركيا، وضمن ذلك يأتي تصريح بوتين الذي لا يستثنيها كقوات غير شرعية موجودة داخل المدن السورية، على رغم إشادته بالاتفاق المنجز بينه وبين نظيره التركي، وهو ما يعني إسقاط أي حق لكيانات المعارضة ومنها الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية الذي بارك وشرعن دخول القوات التركية إلى سورية، وبالتالي اسقاط المعارضة كطرف شرعي مقابل للنظام في صياغة الحل للصراع في سورية؟

وفي الوقت الذي يعتبر فيه وزير خارجية النظام وليد المعلم أن الاتفاق: «هو خطوة نحو تحرير إدلب»، أي لاستعادة سيطرة النظام السوري على إدلب، يفهم منه أن الاتفاق مرحلة تمهيدية مشابهة تماماً لما مرت فيه اتفاقيات خفض التصعيد في كل من حمص وريف دمشق ودرعا، التي اعتبرها النظام موقتة ومحددة بإطار زمني ينتهي مفعولها مع تسليم «المعارضة» لسلاحها، والتزام مرحلة «التدجين» التي تمت بفعل مسار آستانة، واتفاقيات خفض التصعيد، وانتهت بتحويل فصائل معارضة إلى أجهزة شرطية بقيادة روسية، فهل ما قاله وزير الخارجية يأتي في إطار القياس فعلياً على ما حدث في تلك المناطق منخفضة التصعيد، أم أنه مبني على ما قدمته روسيا من خفايا الاتفاق مع تركيا إلى النظام السوري؟

وهل حديث وزير الدفاع الاميركي من باريس الذي يقول أن الظروف الميدانية تشير الى أن التوصل إلى تسوية سياسية «لا يزال بعيد المنال»، وبنـــاء عليه اخذت الإدارة الأميركية قرارها بالبقاء طويل الأمد في سورية، يعني ضمنياً أننا أمام حالة استعصاء ديبلوماسي مع موسكو بما يتعلق بإقصاء إيران من جهة، وتوزيع حصص إعادة الإعمار التي يمهد لها بوتين كراع مـــطلق اليد فيــها، ما يمكن تفسيره بعدم قبول أميركي للقمة الرباعية التي تجمع روســـيا مع فرنسا وألمانيا في تركيا، والتي كان يفترض أن تعقد في 14 أيلول (سبتمبر) المنصرم، والعودة إلى الحديث عن عقدها هذا الشهر؟

وكيف يمكن للأميركيين التأكد من أن الحل السياسي المأمول هو حل نهائي غير قابل للانهيار، في ظل الوجود العسكري لروسيا الداعمة للنظام، والوجود الاقتصادي المهيمن على سوريا، والذي يتابع توقيع اتفاقياته الاقتصادية الملزمة لسوريا، وآخرها عقد لإنشاء محطة كهرباء في مركز التواجد الروسي في سوريا «اللاذقية» بقيمة 460 مليون دولار، أي أنه حتى عندما تقرر إيران الخضوع للمطالب الدولية بالخروج من سوريا حفاظاً على أمن إسرائيل، وتحقيقاً للشروط الأميركية 12 التي أعلنها الوزير مايك بومبيو في أيار (مايو) من هذا العام، لتوقيع اتفاق نووي جديد بديلاً عن الاتفاق الذي جمع دول الخمسة زائد واحد مع إيران، والذي انسحبت منه في 8 أيار الماضي؟

وبالمحصلة فإن البنك المركزي للإرهاب « النظام إيران» حسب التسمية الأميركية سواء بارك اتفاق إدلب حسب تصريح بوتن (الأربعاء 3/10) أو عارضه، فهو بأذرعه المتطاولة داخل النظام السوري قادر حتى اليوم أن يكون سبباً مباشراً في تعطيل أي حل سياسي شامل، كما تطرحه مجموعة الدول المصغرة بزعامة الولايات المتحدة الأميركية والشراكة العربية - الأوربية، ومتابعة تدخلاته العسكرية والسياسية سواء داخل المنطقة أي سوريا، أو خارجها أي العراق ولبنان واليمن، ما يفسر ما جاء في بيان الخارجية الأميركية، ويضعنا أمام وقائع ما ستتعرض له اللجنة الدستورية -التي تختصر كل كيانات المعارضة سياسياً- بأنه لايزال لديها الوقت الطويل قبل أن تثمر اجتماعاتها -غير المنظورة حتى الآن- عن أي نتيجة واقعية محتملة لتغييرات جوهرية في متن الدستور الحالي تكون هي أداة الإطاحة بالنظام القائم شكلاً ومضموناً، وتوفر أسباب الحياة الآمنة والمواطنة المتساوية لكل السوريين أفراداً وجماعات وعرباً وغيرهم من كل القوميات.

اقرأ المزيد
٥ أكتوبر ٢٠١٨
حل سياسي سوري مع تعزيز عسكري؟

 تشذ الأزمة في سورية عن قواعد السعي نحو الحلول كافة. حديث كل القوى والدول المتورطة في حربها عن أن لا حل عسكرياً فيها وأن الحل السياسي هو الأساس، إلى درجة بات معها ممجوجاً تكرار هذه العبارة من قادة دوليين وإقليميين، يرتكبون ما استطاعت أسلحتهم من قتل وتدمير في الوقت نفسه.

حتى البديهية القائلة بأن الحل العسكري يرمي إلى تمهيد الطريق للحل السياسي بمعنى تعديل ميزان القوى لمصلحة التفاوض، لا يجد طريقه إلى الترجمة العملية في الميدان السوري. وإذا كانت كل جولة عسكرية تنتهي بتفاوض فإن السنتين الأخيرتين شهدتا على أن القتال كان ينتهي في منطقة ما من أجل فرض استسلام على أحد الطرفين، تحت عنوان «المصالحة».

القاعدة في بلاد الشام باتت قول الشيء والتصرف بنقيضه.

ومع تسجيل صدق بعض الفرقاء، لا سيما سوريي المعارضة المعتدلة في تطلعهم إلى الحل السياسي، فإن الموجة الجديدة من الكلام عن هذا الطموح، تترافق مع تناقضات يصعب معها تبدل الأحوال.

فلاديمير بوتين يعلن ضرورة الانتقال إلى الحل السياسي، والعمل على انسحاب كل القوات الأجنبية من سورية، بما فيها الروسية، في الوقت نفسه الذي يرسل إليها بطاريتي صواريخ أس 300 مع ما تتطلبه من خبراء وضباط روس لتدريب جيش النظام عليها، وللإشراف على استعمالها. فمن المؤكد أن الوحدات السورية التي ستوضع في عهدتها ستكون تحت قيادة روسية وأنظمة تحكم لاستخدامها يقودها ضباط روس، حتى بعد تأهيل الضباط السوريين. قرار استعمالها المفترض روسي قبل أن يكون سورياً. ولم يكتف الكرملين بتعزيز وجوده الصاروخي، بل أدخل إلى سورية أيضاً أنظمة إلكترونية للرصد والتتبع والتعطيل، لم يسبق أن استخدمت خارج الاتحاد الروسي، ما يدل على أن الميدان السوري ما زال ميدان اختبار للأسلحة المختلفة في مواجهة الترسانة الأميركية المتطورة، في سياق المبارزة بين القوتين الكبريين على استعراض القوة على المسرح الدولي والإقليمي.

يقود ذلك إلى زيادة عديد القوات الروسية لسنوات مقبلة، لا انسحابها.

وبينما يعلن القيصر أن الوضع في إدلب لن يحتاج إلى عمليات عسكرية كبرى، تدخل أرتال جديدة من الدبابات التركية إلى المحافظة بناء للاتفاق بين موسكو وأنقرة.

بالموازاة، يصدر ممثل وزير الخارجية الأميركي الخاص للتواصل حول سورية السفير جيم جيفري ونائب مساعد وزير الخارجية المبعوث الخاص إلى سورية جول رايبورن بياناً الثلثاء الماضي بأن «لا بديل للحل السياسي فيها وأن أولئك الذين يسعون للحل العسكري لن ينجحوا إلا في زيادة احتمال التصعيد الخطير واتساع نطاق الأزمة داخل المنطقة وخارجها»، وفي اليوم التالي يعلن وزير الدفاع جيمس ماتيس من باريس عن زيادة «عدد الخبراء الأميركيين» في سورية بعد قرار البقاء فيها إلى حين القضاء على «داعش» وانسحاب إيران منها. فالسفيران الأميركيان يريدان حلاً «لسورية الجديدة بلا ارتباطات مع النظام الإيراني وميليشياته»...

ترافقت كل هذه المواقف مع تأكيد إسرائيل أنها لن تتوقف عن ضرب الوجود الإيراني في الميدان السوري على رغم تسلم الجيش السوري بطاريات أس 300.

على رغم التهيؤ لعقد اجتماع للجنة صوغ الدستور السوري، وعلى رغم الحديث عن انطلاقة جديدة للوساطة الأممية من أجل الحل السياسي في سورية عبر تعيين موفد جديد بدلاً من ستيفان دي ميستورا، يصعب الاقتناع بأن الدول الكبرى تتهيأ لإنهاء مأساة السوريين، وسط هذه التناقضات بين ترويجها للحل السياسي وبين تصرفاتها العسكرية على الأرض. وهي ليست المرة الأولى التي تفعل ذلك على مدى السنوات السبع الماضية.

ومع أنه لاحت في الأفق إمكانية لإطلاق عملية سياسية مع المبادرة الروسية لإعادة النازحين، لأنها تفتح الباب على تفاوض بين الدول الكبرى للتفاهم على سلة إجراءات بالتوازي بين العودة وبين البدء بسحب القوات الأجنبية، وبين الحل الانتقالي الذي ينص عليه القرار الدولي الرقم 2254، إلا أن موسكو بنت مبادرتها على قصر من الرمل، لأنها لم تستطع تقديم ضمانات يركن إليها لضمان هذه العودة خارج المظلة القمعية والوحشية للنظام الذي يلاحق العائدين لإخضاعهم وإذلالهم، ولأنها لم تتمكن من ضمان الانكفاء الإيراني من أجزاء مهمة، بناء لاتفاق هلسنكي بين بوتين ودونالد ترامب، اللذين يحتاجان لاجتماع جديد.

ينتظر أن تستهلك الأزمة السورية موفداً دولياً جديداً بعد دي ميستورا وكوفي أنان والأخضر الإبراهيمي، كي يتناغم مع تقاسم البلد مناطق نفوذ بين الدول المنغمسة فيه. وإذا كان من أمل بالحل السياسي فإن مؤشره الأول بدء انسحاب القوى الأجنبية، بانكفاء إحداها تمهيداً لانكفاء غيرها. العكس يحصل الآن.

اقرأ المزيد
٤ أكتوبر ٢٠١٨
منع عسكرة إدلب... الفرص والأخطار

 في خضم الجدل حول الاتفاق الذي وقعه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ونظيره الروسي فلاديمير بوتين أخيراً في منتجع سوتشي، في شأن حلحلة الأزمة في إدلب بما يمنع عسكرتها، يثور التساؤل حول فرص تنفيذ الاتفاق الذي حدد برنامجاً زمنياً لإقامة منطقة منزوعة السلاح بعمق 15 - 20 كيلومتراً شمال سورية، وسحب السلاح الثقيل من هذه المنطقة بحلول 10 تشرين الأول (أكتوبر) المقبل، إضافة إلى التخلص من الجماعات الراديكالية داخل المنطقة المنزوعة السلاح بحلول الخامس عشر من الشهر نفسه. وإذا كانت إدلب تحمل أولوية خاصة لدى القوى الموجودة في سورية، باعتبارها المعقل الأخير للمعارضة المسلحة، فإنها تمثل أولوية قصوى لتركيا باعتبار أن حسم مصيرها يمهد لمرحلة جديدة من التفاهمات في شأن رسم خريطة نهاية الصراع في سورية؛ ناهيك بمخاوف أنقرة من موجات نزوح لاجئين جدد على أراضيها حال عسكرة الأزمة في المدينة التي يقطنها حوالى ثلاثة ملايين نسمة. لذلك، تنظر تركيا إلى الأزمة في إدلب باعتبارها خطراً يهدد وحدتها واستقرارها في ظل تنامي التهديدات الأمنية الناتجة من استمرار الصراع، إذ إنها تخوض حرباً مزدوجة ضد تنظيم «داعش» وحزب العمال الكردستاني في آن. خلف ما سبق، فإن أنقرة تخشى مشاركة كردية مع النظام السوري لدخول إدلب، خصوصاً في ظل مفاوضات علنية ومباشرة بين الأسد و «قوات سورية الديموقراطية» المحسوبة على أكراد البلاد في شأن تسلم مساحات واسعة من مناطق نفوذها في الشمال والشرق مقابل الحصول على امتيازات في إدارة المناطق الكردية، وهذا مرهون بإخراج القوات غير الشرعية ورفع العلم السوري فوق الأراضي السورية كافة. ويزيد التفاهم الإيجابي الحادث بين نظام الأسد والقوى الكردية السورية مخاوف أنقرة من احتمال إنشاء دولة قومية كردية في الشمال السوري، أو في الأقل الحصول على حكم ذاتي في إطار فيديرالية سورية، وهو ما قد يلهب طموحات الأكراد الأتراك.

فى هذا السياق، يمكن فهم التعاطى التركي مع طبيعة الأزمة في إدلب، والسعي إلى منع مواجهات عسكرية، قد تكون أضرارها المباشرة أكثر إيلاماً على تركيا التي تعاني أزمة اقتصادية غير مسبوقة، إضافة إلى توتر لا تخطئه عين مع واشنطن الداعم الأكبر للعناصر الكردية السورية التي تجد بيئة خصبة لتعضيد وزنها في الداخل السوري، إضافة إلى مد جسور الثقة مع القوى الدولية، بعد دور معتبر لها في مكافحة تنظيم «داعش»، وكان بارزاً، هنا، نجاحها في قضم نفوذ «داعش» في شرق سورية.

غير أن ثمة تحديات تقف حجر عثرة أمام تنفيذ الاتفاق التركي - الروسي، أولها رفض قطاع معتبر من الفصائل المتشددة هذا الاتفاق، منها «حراس الدين، و «أنصار التوحيد»، و «أنصار الدين»، و «جند القوقاز»، إضافة إلى فصائل أخرى عاملة ضمن هيئة تحرير الشام، وترفض الانسحاب من خطوط التماس مع قوات نظام الأسد الممتدة من جسر الشغور إلى ريف إدلب الشرقي مروراً بريف حماة الشمالى، وريف إدلب الجنوبي الشرقي.

ويرتبط التحدي الثاني بقدرة تركيا على الإيفاء بمسؤوليتها في شأن تفكيك جبهة النصرة الموالية لتنظيم «القاعدة»، ولاحقاً العمل على تفكيك باقي التنظيمات الإرهابية. كما يثور التساؤل في شأن قدرة تركيا على مواجهة السلفيين المتشددين، والمقاتلين الأجانب. فإذا كانت أنقرة لديها هيمنة على عناصر «الجبهة الوطنية للتحرير»، والتي تأسست من 11 فصيلاً من فصائل «الجيش الحر»، ففي المقابل ثمة نفوذ تركي محدود على التيارات الراديكالية في إدلب، وهو ما يعني أن أنقرة قد تكون أمام احتمالين، أولهما إمكان حدوث صدام عسكري بين القوات التركية و «هيئة تحرير الشام»، إذا رفضت الأخيرة البحث عن ملاذات بديلة لإدلب أو تفكيك نفسها، وربما يكون هذا السيناريو في مصلحة القوى الداخلية والخارجية التي تتربص بالاتفاق.

أو قد تلجأ تركيا إلى احتواء هؤلاء المتشددين وإعادة تأهيلهم داخل تركيا، وتكشف تصريحات مسؤولين أتراك عن إمكان السماح لبعض قيادات «هيئة تحرير الشام» و «تنظيم حراس الدين» بدخول الأراضي التركية على أن تقوم في مرحلة لاحقة بتسليمهم إلى دولهم.

ويُشار في هذا الإطار إلى تصريح وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو بأنه بموجب الاتفاق الذي تم بين موسكو وأنقرة حول إدلب، يوفر أرضية خصبة لموسكو في شأن اتخاذ تدابير لمنع قوات الحكومة السورية من دخول المنطقة المنزوعة السلاح بطول خط التماس بين المعارضة المسلحة والقوات الحكومية.

وراء ما سبق، ثمة امتعاض سوري من الاتفاق، وهو ما جعل موسكو تفرض جهداً مضاعفاً لإقناع الأسد بالاتفاق، ووقف الهجمات المتقطعة على إدلب. وتعارض دمشق الاتفاق، كونه أدى إلى تعقيد خطط الأسد لاسترداد شمال غربي البلاد، ويكرس النفوذ التركي حيث تنشر أنقرة 12 نقطة مراقبة في إدلب ضمن إطار اتفاق خفض التصعيد في آستانة.

في المقابل، فثمة قلق في شأن إمكان صمود ذلك الاتفاق، في ظل تحييده الواضح لكل من إيران والولايات المتحدة، اللتين لن ترضيا بتقليص نفوذهما الذي عملتا جاهدتين على بنائه على الأراضي السورية. فعلى رغم ترحيب الخارجية الأميركية، بجهود كل من روسيا وتركيا لإنهاء العنف في إدلب، واتفاقهما على إقامة المنطقة العازلة ، فالأرجح أن واشنطن لن تقبل السعي الروسي لإخراجها من المعادلة السورية، وهو سعي مستمر منذ وقت طويل يثير قلق واشنطن.

أما طهران التي وصفت الاتفاق بأنه نتيجة للديبلوماسية المسؤولة، وأعلنت مبكراً رفضها عسكرة المشهد في إدلب، في محاولة لتخفيف التصادم مع واشنطن وأوروبا، ففي المقابل ثمة قلق إيراني، من أن يسفر الاتفاق التركي - الروسي عن تعضيد دور موسكو في إدارة الأزمة السورية من جهة، ويمنحها في الوقت ذاته الأولوية للاستحواذ على مشروعات إعادة إعمار سورية وعقود الاستثمار في البلاد، خصوصاً بعد نجاح بوتين في إقصاء طهران عن مشروعات استخراج مصادر الطاقة في سورية. خلاصة القول أن التحايل على الوضع في إدلب ومنع عسكرة الأزمة يظل مرهوناً بقدرة تركيا على ترويض الفصائل الجهادية، وإخراجها من إدلب فضلاً عن دور موسكو في تقديم دعم حقيقي لأنقرة لإنجاح مهماتها التي تبدو محفوفة بالأخطار.

اقرأ المزيد
٤ أكتوبر ٢٠١٨
أميركا vs إيران: المواجهة في العراق وسورية ولبنان

 الحملة الأميركية ضد إيران هيمنت على المناخ الدولي، واستطاع دونالد ترامب تتويجها في الأمم المتحدة، سواء بخطابه أمام الجمعية العامة أو بترؤسه الجلسة الخاصة لمجلس الأمن. أصبح العنوان: أميركا في مواجهة إيران... وهذا يحقق لقادة النظام الإيراني ما ادّعوه دائماً وما قدّموا به «تجربتهم» كدولة أولى ووحيدة لا هدف لها سوى «مقاومة الاستكبار» وإلحاق هزيمة تاريخية به. كان الملالي يردّدون أن العالم معهم طالما أنه يكره أميركا ويعاديها، ولعلهم يجدون في «المواجهة» الحالية مع أميركا أكبر دعاية تتحقّق لهم ولنهجهم في مراحل سابقة، لكن ظروفهم تغيّرت ولم يعد في إمكانهم أن يواصلوا تضليل ذواتهم وأتباعهم. بالطبع، لديهم قدرة على الإيذاء والتخريب، وقد أثبتوها في العراق وسورية واليمن ولبنان، لكنهم برهنوا في العراق خصوصاً أنهم لا يقدمون في المقابل سوى إذكاء الانقسامات ومنع قيام الدولة. ثم إن خيبتهم الكبرى ظهرت جليّة في الداخل، إذ أهدوا الى شعبهم «الحرس» والصواريخ ومشروع القنبلة النووية لكنهم عجزوا عن توفير الحياة الطبيعية والعيش الكريم.

تأتي «الفرصة» لإيران كي تتحدّى أميركا في أسوأ ظرف داخلي، مع أن الظرف الدولي هو الأفضل على الإطلاق. فاستراتيجية تحجيم النفوذ الإيراني التي تبنّاها ترامب استُبقت أو أُرفِقت بسلسلة عقوبات تربك حلفاء أميركا وأصدقاءها فضلاً عن خصومها، بل ترعبهم وتهدّد بمفاقمة أزماتهم المالية والاقتصادية، كما أنها تضع السياسات الدفاعية الغربية ذاتها في اختبار صعب. لا يمكن أن يتوفّر لإيران مناخ دولي أكثر ملاءمة، فالعلاقات بين واشنطن والعالم هي الأكثر توتّراً واضطراباً منذ زمن، لكن ثمّة ثلاث ظواهر: الأولى، أن جمهور ترامب يسانده ويحول حتى دون ذهاب خصومه الجمهوريين بعيداً في معارضته طالما أنه يجيّر قراراته لـ «أميركا أولاً» و «أميركا أقوى» ولـ «استعادة» أموال يعتقدها منهوبة. والثانية، أن العطب المالي والاقتصادي الذي أصاب إيران، بسبب عقود من العقوبات، بدّد قدرتها على استغلال الوضع الدولي لتمرير مغامراتها. والثالثة، أن الخلافات المتزايدة بين الدول الكبرى، القوية والغنية، جعلت اللعبة أكبر من إيران كما جعلت أزمتها أكثر عمقاً وخطورة من أن تعالجها بالاعتماد على ميليشيات خارجية نشأت على التعصّب المذهبي وأكسبها سلاحها غير الشرعي تخلّفاً سياسياً فصارت عنواناً لعدم الاستقرار في مجتمعاتها.

هل ترى طهران «بارقة أمل» في تمايز مواقف أعضاء مجلس الأمن عن موقف ترامب، وفي حضوره، وهل تكتشف في هذا الخلاف ما يلاقي طموحاتها، وهل تستخلص أن العالم منقسم بين غالبية معها تريد الحفاظ على الاتفاق النووي و «أقليّة» تقتصر على أميركا وتريد اتفاقاً آخر؟ الجواب جاء من ترامب نفسه: «ليس مهمّاً ما يفكّر فيه قادة العالم في شأن إيران، فالإيرانيون سيعودون إليّ، وسيحصلون على اتفاق جيّد، كما أعتقد». في الواقع السياسي، ليس هناك ما يؤيّد حجّة ترامب المقتنع بأن تجربته مع كوريا الشمالية (بوساطة مباشرة من كوريا الجنوبية، ومساهمة غير مباشرة من الصين) يمكن أن تتكرّر مع إيران، وليس واضحاً أي جهة يمكن أن تتولّى التوسّط والتسهيل. لذلك، يسخر الملالي من لا واقعية ترامب في رهانه على قرار إيراني بالتفاوض مع أميركا، لكن خياراتهم الأخرى مكلفة وغير مضمونة العواقب. كان هذا التفاوض سيكون طبيعياً وسلساً مع إدارة باراك أوباما التي قدّمت الكثير (لقاء الاتفاق النووي) وافترضت أن إيران ستنتهز الفرصة لفتح صفحة جديدة معها. اختارت طهران أن تضيّع فرصة أوبامية سهلة ومواتية لتجد نفسها أمام فرصة ترامبية لا تملك سوى أن ترفضها، لكن «المواجهة» مع أميركا، طالت أم قصرت، ستكون مؤذية لإيران، وربما تضطر المرشد علي خامنئي، هو الآخر، لتجرّع «كأس السم».

كانت لهجة ترامب الاستقوائية موجّهة عملياً إلى روسيا والصين، كذلك إلى الأوروبيين، فعقدة الاتفاق النووي بملابساتها الديبلوماسية أصبحت وراءه، أما مشكلة البرنامج النووي الإيراني فأضحت جزءاً من استراتيجيته لتغيير السلوك الإيراني، وهو ما تعتبره طهران سعياً إلى تغيير النظام نفسه، أي أن نظامها وسلوكها متلازمان. وإذ دأبت روسيا والصين الموقّعتان على الاتفاق النووي دأبتا على أقصى الاستغلال للتنافر الأميركي - الإيراني، قبل الاتفاق وبعده، وتتهيّآن لتحقيق مكاسب من المواجهة المقبلة. ما لا تعترف به طهران أن الدول الأوروبية الثلاث، الموقّعة أيضاً على ذلك الاتفاق، تدافع عنه كعقد دولي يجب احترامه وليس عن إيران أو عن استغلالها الاتفاق، وتدافع عن مصالح أتاحها لها الاتفاق وليس عن السياسات الإقليمية لإيران أو عن برنامجها الصاروخي الذي تنقل منتجاته إلى الحوثيين في اليمن و «حزب الله» في لبنان وبعض «الحشد الشعبي» في العراق. كل ذلك يعني أن طهران لا تستطيع الرهان على أي دعم من «الشركاء» في الاتفاق مهما بلغ استياؤهم أو عداؤهم لأميركا ترامب.

عدا إصرار الرئيس الأميركي على العقوبات التي ستضرب القطاع النفطي الإيراني، وهو ما تعتبره طهران خطاً أحمر، فإن مستشاره للأمن القومي جون بولتون والممثل الأميركي الخاص بسورية جيمس جيفري يؤكدان الآن عدم مغادرة المنطقة «طالما أن القوات الإيرانية خارج الأراضي الإيرانية». وفي ذلك تحدٍّ واضح لروسيا وحض لها على التعاون لـ «إخراج إيران» أو تحمّل العواقب التي لا تفيد الأساليب العسكرية في التخلص منها. فللمرّة الأولى يصدر تهديدٌ أميركي للنظام السوري إذا لم يتعاون مع «إعادة كتابة الدستور تمهيداً لإجراء انتخابات»، إذ قال جيفري أن «شغلنا الشاغل سيكون (عندئذٍ) جعل الحياة أسوأ ما يمكن لهذا النظام المتداعي وسنجعل الروس والإيرانيين الذين أحدثوا هذه الفوضى يهربون منها». صحيح أن هذا مجرد كلام لكنه يعبّر عن سياسة أميركية غير مسبوقة في الأزمة السورية، وتكمن خطورته في أن التعقيدات الداخلية للأزمة لم تُحسم عسكرياً، وفي أن منظومة العقوبات تريد التحكّم في الحسم السياسي.

هذا ينطبق إلى حدٍّ كبير على العراق، فمهما بلغ الولاء لإيران فلن يجرؤ أي رئيس حكومة على مطالبة الأميركيين بالمغادرة، مع ما يستتبع ذلك من عزل وعقوبات يصعب تحمّلها وتداعيات كارثية على دولة لم تنهض بعد وعلى بلد يعاني من صعوبات في الخروج من نكبته «الداعشية». الفارق بين النفوذَين الأميركي والإيراني هو تصوّر كلٍّ منهما لمصلحته ومدى تواؤمها مع مصلحة العراق والشعب العراقي. فالأميركي ارتكب أفدح الأخطاء في المرحلة السابقة لكنه يريد الآن للدولة وجيشها ومؤسساتها أن تسود، وإذا تحقّق ذلك فإن ضمانته وحدها يمكن أن تجتذب المساهمات الدولية في إعادة الإعمار. أما الإيراني فلا يرتاح إلا بوجود ميليشياته وبتغوّلها على الدولة واختراقاتها المؤسسات وترهيبها لمكوّنات المجتمع كافةً، ولعل أحد أهم أهداف إيران إبقاء العراق في نوع من العزلة الإقليمية والدولية. والمؤكّد أن العراق سيكون البؤرة الرئيسية للمواجهة التي ربما يشكّل إغلاق القنصلية الأميركية في البصرة أول وقائعها، فإيران لا تعتبر إخراج الأميركيين ممكناً فحسب بل حتميّاً لإحراز «النصر» وإحباط حملة ترامب عليها.

لا شك في أن بقاء الأميركيين في سورية يستدعي مواصلة إسرائيل هجماتها على الوجود الإيراني، لكن اذا استمر التجميد الروسي لهذه الهجمات وإذا أصرّت موسكو عليه فإن الأميركيين والإسرائيليين سيعتبرون أن روسيا أصبحت في حال تحالف مع إيران وسيبحثون عن سبل أخرى لملاحقة نشاطات التسليح الإيرانية. ولا يستبعد الكثيى من المصادر تشكيل فرق خاصة من فلول فصائل المعارضة للقيام بعمليات تستهدف الإيرانيين وقد تشمل لاحقاً مواقع للنظام والروس. لكن تحريم الأجواء السورية على إسرائيل دفعها أكثر إلى النظر في اتجاه لبنان، مستندة إلى إعلان «حزب الله» بلسان أمينه العام أنه حصل على أسلحة متطوّرة وصواريخ دقيقة. وليس التقرير الإسرائيلي الأخير عن نشر «حزب الله» صواريخه في مناطق آهلة بالسكان، بمعزل عن مدى صدقيته أو عدمها، يشكّل خطوة أولى في بناء ملف قضية لتبرير أي عمل حربي يستهدف «الحزب» وصواريخه لكنه سيُكلف لبنان وشعبه دماً ودماراً. أما العقوبات التي أعدّها الكونغرس الأميركي ضد هذا «الحزب» فهي خطوة مساندة للخطط الإسرائيلية لكنها في الوقت ذاته ضربة قاسية للاقتصاد اللبناني.

اقرأ المزيد
٤ أكتوبر ٢٠١٨
روسيا ومأزق اللاجئين السوريين

تحدّثت وسائل الإعلام الروسية، في الآونة الأخيرة، عن عودة 1،2 مليون لاجئ سوري منذ حصول التدخل العسكري الروسي المباشر إلى جانب نظام بشار الأسد الذي كان على وشك السقوط. وأثار العدد استغراب أوساطٍ دوليةٍ على صلةٍ بمتابعة هذا الملف الذي يقدّم إحصائيات موثقة لعدد اللاجئين السوريين في دول الجوار، والذي يقدّر بحوالي 5،6 ملايين، منهم قرابة 3،5 في تركيا عاد منهم خلال العام الماضي نحو 50 ألفا نحو مناطق "درع الفرات" في صورة أساسية، وذلك لأسبابٍ تتعلق بتوفر الأمن وغياب سلطة النظام، ويأتي بعد ذلك العائدون من الأردن، وهم قرابة 15 ألفا، ولبنان أقل من ألف.

لروسيا مصلحة أساسية في عودة اللاجئين السوريين، وإذا لم يتم ذلك، لا سبيل أمامها لإقناع الدول الكبرى، وبعض دول المنطقة للمشاركة في إعادة الإعمار في سورية. ومن دون هذه الورقة، سيبقى كل في مكانه وعلى حاله، ولن تتمكّن موسكو من التقدم إلى الأمام خطوة واحدة، خصوصا أنها غير قادرة ماليا على القيام بالمهمة وحدها، بسبب الكلفة العالية التي تحتاج مئات مليارات الدولارات.

وتبحث روسيا من خلال إعادة الإعمار عن تعويض جزءٍ من خسائرها الاقتصادية في سورية، وإطلاق ورشة دولية تبث الحياة في بنية النظام الذي صار على الأرض منذ عدة سنوات، ولم تعد لديها القدرة على الحركة، وإنْ لم تتمكّن روسيا من إقناع الدول الكبرى المانحة، فإن مشروعها سوف يمضي إلى طريقٍ مسدود، وهذا ما تدركه الأطراف الغربية، الولايات المتحدة وأوروبا، وهي تساوم موسكو عليه، وتضع شرط مشاركتها في التمويل إطلاق عملية سياسية على أسسٍ تحدّد مستقبل الأسد وبقاءه في السلطة مدة محدّدة دستوريا.

ومع أن ورقة اللاجئين ذات قيمة عالية لروسيا، فإنها لا تفعل بما فيه الكفاية، من أجل توظيفها على نحو مناسب، وهي تبدو إلى اليوم كأنها تعمل وفق رؤية النظام لهذا الملف الذي يعد أحد أكثر الملفات خطورةً في المسألة السورية. وليس سرا أن النظام يريد عودة لاجئين لا يشكلون له صداعا، ويخدمون أهدافه القريبة والبعيدة، ومن دون ضماناتٍ قانونيةٍ أو سياسية، وهو بذلك لا يتحمّل أي نوع من المسؤولية عن الحرب التي شنها سبع سنوات ضد الشعب السوري، وقد تصرف النظام على هذا الأساس بخصوص اللاجئين الذين عادوا إلى المناطق التي يسيطر عليها، ومثال ذلك الذين عادوا من لبنان ضمن تسوياتٍ مسبقة، لكن النظام أعاد اعتقال الشباب، ووجّه كثيرين منهم إلى الحرب على الجبهات لقتال المعارضة المسلحة، الأمر الذي لم يشجّع أحدا على العودة، على الرغم من الضغوط التي يتعرّض لها اللاجئون في لبنان والأردن، وهم يفضلون الحياة القاسية والعنصرية على العودة إلى مناطقهم للعيش في ظل النظام.

يخاف النظام والروس وإيران من عودة كثيفة للاجئين، حيث تترتب على ذلك وقائع جديدة على الآرض، يمكن أن تهزّ المعادلات التي تم فرضها بالقوة المسلحة على الصعيد الديمغرافي، ورسم خريطة طائفية جديدة. وإذا اقترنت العودة بضمانات أمنية وسياسية، فإن النظام والروس والإيرانيين لن يكون في وسعهم التحكّم بمسار التطورات، وهنا العقدة الأساسية في ظل التصلب الغربي، وإصرار بلدان ذات ثقل مالي كبير، ومستقبلة أساسية للاجئين، مثل ألمانيا على الضمانات الأمنية والسياسية، فهي، من جهةٍ، لا تستطيع أن تضغط على اللاجئين بالعودة من دون ضمانات، ومن جهة ثانيةٍ، ليست معنيةً بتمويل مشروع روسيا في سورية، وهذا ما تبلّغه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل أخيرا.

ورقة اللاجئين من أخطر الأوراق للضغط على الروس. ولذا على المجتمع الدولي توظيفها على نحو سليم، من أجل إنتاج عملية سياسية تحت إشراف دولي.

اقرأ المزيد
٣ أكتوبر ٢٠١٨
سوريا على توقيت ساعة الكرملين

بعد 3 سنوات على دخولها المباشر في الحرب السورية، نجحت موسكو في ربط الزمن السوري بتوقيت ساعة الكرملين؛ لكنها لم تنتبه إلى أن فارق الوقت بين البلدين تتحكم فيه خطوط الطول والعرض التي وحدها تحدد الزمن والموقع للسوريين. ومن الواضح أن جنرالات الحرب الروس في سوريا يواجهون جنرال الوقت، وهم يعلمون جيداً أن «الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك»؛ لكنهم حتى الآن يراهنون على طائراتهم وبوارجهم حتى يقطعوه. والوقت في سوريا مرتبط بالمكان، والمكان يختلف عن الأماكن التي حقق فيها الكرملين انتصاراته السابقة، فسوريا ليست كبلاد القوقاز معزولة عن جوارها، وإن تخلى عنها العرب وأدار الغرب ظهره لها، ففي الحملة الروسية عليها لم تنجح موسكو في إقناع الأطراف الإقليمية والدولية المؤثرة بتبني مشروعها للحل، وفي المقابل من الصعب أن تستجيب موسكو للأصوات التي تطالبها بوضع حد للنفوذ الإيراني، وهي المستفيدة من انتشاره الميداني، الذي يخفف عنها أعباء اقتصادية، ويجنبها نشر قواتها البرية.

بعد 3 سنوات، جعلت موسكو من تمسكها بالأسد الابن في السلطة عنواناً لانتصارها، وتمسكها بالأسد هو تمسكها بالحل العسكري الذي رفضته الدول الأعضاء في المجموعة المصغرة حول سوريا، التي تضم الولايات المتحدة، وفرنسا، وبريطانيا، وألمانيا، والسعودية، والأردن، ومصر، والتي طالبت في آخر لقاء لها بأنه «لا يوجد حل عسكري للحرب» معتبرة أنه ليس هناك من «إمكانية أخرى سوى الحل السياسي»، والحل السياسي في أضعف الإيمان هو عملية دستورية تؤدي إلى انتخابات حرة قد تفضي نتائجها إلى خروج الأسد من السلطة، وهو قد لا يناسب موسكو أو حلفاءها الأقوياء في سوريا، التي ما زالت مصرة على حماية مصالحهم، رغم خلافاتها التكتيكية معهم.

دخلت الحملة الروسية على سوريا عامها الرابع، ومعها باتت سوريا الروسية تمثل النموذج السياسي الذي يعمل جنرالات «العقيدة البوتينية الجديدة» على ترسيخه في العلاقة بين الأنظمة وشعوبها، التي تربط بين (النظام والاستقرار) وبين (حرية الشعوب والفوضى الهدّامة)، ففي بداية السنة الرابعة على تدخلها، وتحقيقها إنجازاً عسكرياً ضخماً مكنها من إبقاء رأس النظام في قصره، وبعد تبدل موازين القوى كاملة لصالحها، تعمدت إهمال الأصوات الإقليمية والدولية التي تطالبها بتغيير سلوك النظام، أو إجراء تعديلات على طبيعة علاقتها بحلفائها، أو في دعوتها إلى القبول بتسوية تراعي تحولات ما بعد 18 مارس (آذار) 2011. فموسكو التي تمكنت من تعطيل مقررات مؤتمري جنيف 1 و2، وفرضها مسارات أخرى في سوتشي وآستانة، وتحويل قراراتهما إلى مظلة سياسية لما تعتبره انتصاراً عسكرياً تستخدمها في عملية فرض الاستسلام على السوريين، ومطالبتهم بتجاوز واحدة من أبشع الإبادات الجماعية في التاريخ، ودعوتهم لقبول التعايش مع النظام، باعتباره استطاع تجاوز الأزمة، وقبوله على قاعدة أنه لا بديل له، إلا أن لغة الانتصار التي تمارسها روسيا في سوريا تصطدم الآن بتحديات لا يمكن تجاوزها، وباتت أشبه بمرآة تعكس وجه موسكو العاجز عن تحقيق أهدافه، وهي تسابق الزمن لتحويل مكاسبها الميدانية إلى منافع سياسية، قبل دخول حملتها على سوريا مرحلة الشيخوخة الاستراتيجية، نتيجة فشلها في تصريف نتائج خيارها العسكري سياسياً، فقد اكتشفت موسكو متأخرة أنها تفتقر إلى أدوات تساعدها على التوصل إلى حل سلمي دائم يحقق لها مصالحة فعلية مع الأغلبية السورية، التي خاب أملها في الرهان على الضمانات الروسية في حماية تعهداتها التي قدمتها في المناطق التي تمت إعادة السيطرة عليها، أو في الأماكن التي جرت فيها المصالحات، فقد ظهرت موسكو عاجزة في منع النظام من تطبيق حلوله الأمنية، وفي توقفه عن إذلال المواطنين، وهي تدفع ثمن تجنبها الانتشار الواسع على الأرض؛ حيث من المستحيل لعدة آلاف من الشرطة العسكرية الروسية أن تقوم بفرض النظام في جمهورية الميليشيات الطائفية وأمراء الحرب، وهي ما زالت تكابر وتتجنب إعلان فشلها في إقناع اللاجئين السوريين في الأردن ولبنان بالعودة الطوعية، وأصيبت بخيبة أمل جرّاء موقف الدول الأوروبية التي نأت بلاجئيها عن دعوات موسكو للعودة، كما أن الأوروبيين ومعهم واشنطن قوضوا خططها للحل السياسي، عندما وضعوا شروطهم الصعبة للحل، والتي ربطوا بين تنفيذها وبين تمويل عودة اللاجئين من الدول المجاورة، وفي إعادة الإعمار.

بعد 3 سنوات على حملتها، حافظت موسكو على مصالح حليفتها الاستراتيجية طهران، ومكنت أنقرة من بسط نفوذها في مناطق الشمال السوري؛ لكنها أخرجت العرب من درعا، آخر موطئ قدم لهم في سوريا.

اقرأ المزيد
٣ أكتوبر ٢٠١٨
في مغزى التصعيد الروسي مع إسرائيل

لم تلجأ موسكو إلى تصعيد الخلاف مع إسرائيل بسبب إسقاط الدفاعات الجوية السورية الطائرة الروسية "إيل 20"، بل لأسباب بعيدة عن ذلك كليا. لجأت إلى التصعيد ردا على المناخ الدولي المضاد لتوجهاتها السياسية والعسكرية؛ والذي عبّر عن نفسه برفض تصوّراتها للتعاطي مع ثلاث قضايا سورية: عودة اللاجئين، إعادة الإعمار، إطلاق عملية عسكرية ضد مناطق سيطرة المعارضة المسلحة في محافظة إدلب وريفي حلب وحماة، كانت اعتبرت تمريرها مؤشّرا على اعتراف القوى الإقليمية والدولية بحقها في صياغة الحل الذي تراه للملف السوري. وهذا، بالإضافة إلى وجود مؤشّراتٍ على احتمال انفجار حربٍ واسعةٍ بين الولايات المتحدة وإيران في سورية، آيته تواتر الضربات الإسرائيلية في الأسبوعين الماضيين، وضربتها أخيرا في حديقة قاعدة حميميم الأمامية، سينهي مفاعيل المكاسب العسكرية التي حققتها في حمص والغوطة الشرقية ومحيط العاصمة الجنوبي ومحافظتي درعا والقنيطرة.

أعلنت وزارة الدفاع الروسية عن جملة إجراءات: تسليم النظام السوري بطاريات صواريخ إس - 300، الحديث عن أربع مجموعات، حوالي مائة صاروخ، تغطي الأرض السورية، إنشاء نظام إدارة موحّدة لقوى الدفاع الجوي ووسائله في جميع أنحاء سورية؛ بما في ذلك وسائل الحرب الإلكترونية، ووسائل إطلاق النار؛ بإنشاء نقطة قيادة مركزية موحّدة، سيتعرف جيش النظام من خلالها على الهدف. وفي الوقت نفسه، سيتأكّد الروس من هوية الطائرات المغيرة، ويؤكّدون لقوات النظام لمن تعود، لخصمٍ أو لصديق، وهذا يثير مخاوف جدية بشأن احتمال صدام مباشر روسي إسرائيلي، نشر أجهزة تشويش كهرومغناطيسية على طول الساحل السوري في شرق المتوسط، أجهزة متطوّرة قادرة على تعطيل كل أنظمة التحكّم في الطائرات والسفن الحربية والأقمار الاصطناعية؛ كما التشويش على الاتصالات بتردّدات على الموجات القصيرة والترددات العالية.

ويحدّ نشر صواريخ إس - 300 من حرية حركة الطائرات الإسرائيلية فوق الأرض السورية. ونشر أجهزة تشويش كهرومغناطيسية على طول الساحل السوري في شرق المتوسط رسالة إلى الولايات المتحدة، والدول التي شاركت سفنها وطائراتها في الغارات الصاروخية على سورية في إبريل/ نيسان الماضي، ردّا، كما قالت في حينه، على استخدام بشار الأسد الأسلحة الكيميائية ضد المعارضة المسلحة في الغوطة الشرقية؛ والتي عادت إلى التهديد بردٍّ أشدّ على أي هجوم كيميائي، ينفذه النظام في إدلب وريفي حلب وحماة، عكست الإجراءات توجّها روسيا لتسخين المناخ المحلي والإقليمي والدولي، في محاولةٍ لحفظ ماء وجهها، بعد الانتكاسات في القضايا الثلاث المشار إليها أعلاه، ولاستعادة الردع في مواجهة من رفض أو تحفّظ على تصوّراتها إزاء هذه القضايا، واستدراج عروض ومواقف تفاوضية، أميركية خصوصا، كان لافتا تفاعلها السريع والايجابي مع تعليق وزير الخارجية الأميركية، مايك بومبيو، على قرار تسليم النظام السوري صواريخ إس – 300، إنه في انتظار لقاء نظيره الروسي، سيرغي لافروف، على هامش مداولات الجمعية العمومية للأمم المتحدة، للإعراب عن قلق الولايات المتحدة بشأن نية روسيا نقل منظومات إس - 300 إلى سورية. وردّ نائب وزير الخارجية الروسي، سيرغي ريابكوف، بأن بلاده مستعدّة لبحث كل المواضيع المتعلقة بالوضع في سورية وفي أي مكان آخر مع الولايات المتحدة. واستدرك"لكن نسعى إلى مناقشةٍ مثمرة، وعلى زملائنا الأميركيين ترك محاولات تقديم مقارباتهم وآرائهم الشخصية على أنها الوحيدة الممكنة والمقبولة". ودعا المسؤولين الأميركيين إلى تقييم الخطوات الروسية، سواء تعلق الأمر بـ الـ إس – 300، أو أي مسائل أخرى، بقدرٍ أكبر من الواقعية والاتزان والحيادية، جعل هذا التفاعل مصير الأزمة الروسية - الإسرائيلية جزءا من العلاقات الروسية الأميركية، وفق قول محلل سياسي روسي. وجدّد ريابكوف دعوة موسكو إلى الولايات المتحدة لتوحيد الجهود في محاربة الإرهاب في سورية، وفي منطقة الشرق الأوسط بأسرها.

لم تكتف موسكو بالإعلان عن الإجراءات العسكرية التي ستتخذها حماية لجنودها، وفق تصريحات مسؤوليها، بل مرّرت معلوماتٍ عن حجم الوجود العسكري الإيراني على الأرض السورية؛ ونوعية الأسلحة المتطوّرة التي تمتلكها القوات الإيرانية أو الموالية لإيران، قدرات صاروخية بعيدة المدى ودقيقة، وتبريرها هذا الوجود. قال وزير الخارجية، سيرغي لافروف، ردّا على المطالبة بانسحاب إيران من سورية، إن بلاده لا ترى أن إيران تشكل تهديداً إرهابياً في سورية. وقد دفع هذا محللين أميركيين إلى القول "إن تسليم الدفاع الجوي الروسي صواريخ إس - 300 لسورية يهدد بتوسيع الحرب"، وملاحظتهم "أن التسليم يشير إلى ميل الجيش الروسي إلى الوقوف مع إيران ضد إسرائيل". ودفع معلقا إسرائيليا إلى القول "إن هذا هو السبب في أن القيادة الإسرائيلية، السياسية والعسكرية، لن تتنازل قط عن التكتيك الذي اتبعته حتى الآن في المواجهة النشطة لطهران وحلفائها في سورية ولبنان". ويفسّر إلى حد بعيد لماذا تعمّدت إسرائيل قصف موقع في اللاذقية، حيث قاعدة حميميم الجوية الروسية، فقد جاء القصف للتعبير عن احتجاجها على سماح روسيا لإيران بإقامة صناعةٍ عسكريةٍ في منطقةٍ خاضعةٍ لسيطرةٍ روسيةٍ مطلقة، كانت قبلها قد عبّرت عن تحفظها على إعلانات موسكو سحب القوات الإيرانية والموالية لإيران، بعيدا عن خط وقف إطلاق النار في الجولان السوري المحتل، تعدّدت إعلاناتها، وتغيرت المسافات التي أعلنت خلوها من القوات الإيرانية والحليفة لإيران، حيث تراوحت بين 40 و140 كلم. اعتبر محللون الغارة الإسرائيلية في اللاذقية استفزازا متعمّدا من أجل كشف الأوراق، والدفع نحو مواجهةٍ أشمل مع إيران بمشاركة الولايات المتحدة، عبر مواصلة هجماتها الهادفة إلى تقليص الوجود الإيراني في سورية، حتى لو قادت إلى صدامٍ مع القوات الروسية.

تباينت تقديرات المحللين للتصعيد الروسي بين من رأى أن إسقاط الطائرة الروسية سيجعل روسيا تناور من أجل قبض ثمن جنودها القتلى من سورية وإيران وإسرائيل؛ وهذا قد يدفعها إلى التخلي تدريجياً عن إستراتيجيتها المحايدة بالنسبة للصراع بين محور النظام وإيران وحزب الله من جهة وإسرائيل من الجهة الثانية. وفي حال تخلت عن هذه الإستراتيجية، سوف يظهر ذلك عسكريا في التزامها بالكامل بتقديم جميع عناصر النجاح الفنية والتقنية لمنظومة إس – 300، بِمَا يشمل توفير الحماية أيضاً للمقرّات الإيرانية والتابعة لحزب الله في سورية، وبين من رأى أنها دخلت بهذا التحرّك في مغامرةٍ ضخمةٍ في سورية، فهي تعزّز، بشكل كبير، شكل نهاية الحرب الأهلية التي مضى عليها سبع سنوات، لكنها قد تقود إلى صراعٍ أوسع، إذا حدث صدام في المجال الجوي السوري، نتيجة مقاومة فعالة ضد الاختراقات الإسرائيلية المتكرّرة.

اقرأ المزيد
8 9 10 11 12

مقالات

عرض المزيد >
● مقالات رأي
٨ ديسمبر ٢٠٢٤
لم يكن حلماً بل هدفاً راسخاً .. ثورتنا مستمرة لصون مكتسباتها وبناء سوريا الحرة
Ahmed Elreslan  (أحمد نور)
● مقالات رأي
٦ ديسمبر ٢٠٢٤
حتى لاتضيع مكاسب ثورتنا ... رسالتي إلى أحرار سوريا عامة 
Ahmed Elreslan  (أحمد نور)
● مقالات رأي
١٣ سبتمبر ٢٠٢٤
"إدلب الخضراء"... "ثورة لكل السوريين" بكل أطيافهم لا مشاريع "أحمد زيدان" الإقصائية
ولاء زيدان
● مقالات رأي
٣٠ يوليو ٢٠٢٤
التطبيع التركي مع نظام الأسد وتداعياته على الثورة والشعب السوري 
المحامي عبد الناصر حوشان
● مقالات رأي
١٩ يونيو ٢٠٢٤
دور تمكين المرأة في مواجهة العنف الجنسي في مناطق النزاع: تحديات وحلول
أ. عبد الله العلو 
● مقالات رأي
١٩ يونيو ٢٠٢٤
صمود المرأة ودورها القيادي في مواجهة التحديات
فرح الابراهيم
● مقالات رأي
١٩ يونيو ٢٠٢٤
العنف الجنسي في حالات النزاع: تحديات وآثار وحلول ودور المرأة في هذه الظروف
أحمد غزال