سئل قبطان إحدى السفن، ما تفعل إذا واجهتك عاصفة، فأجاب أحتسي كوبا من الشاي ﻷني عملت كثيرا ﻷجل هذا اليوم.
إن قبطان التعليم في المحرر عامة وادلب خاصة لم يعلم أن العواصف قد تهب ولم يدرك بأن كرة الثلج تتدحرج نحونا وقد أغرق نفسه في البحث عن مناصب جديدة، وسمح لنفسه ما لم يجزه لغيره بدمج أكثر من منصب وظيفي واستعان بمنصبه ليتسلط على كل معلم مكافح، محاربا إياه بقوت يومه تارة والتهديد تارة أخرى وماهذا إلا غيض من فيض.
فما قصة التعليم في ادلب؟
اﻹنقاذ واﻹئتلاف منافسة لقتل التعليم
تسعى حكومتا اﻹنقاذ والائتلاف لبسط سيطرتهما على المدارس الحرة في محافظة إدلب وكلاهما تتقاسما الدور بشكل مبهم لا يمكن قراءته ﻷشد البارعين، حيث تقول الإنقاذ أن دعم المدارس هي مسؤولية الإئتلاف، ولكن عندما يتم دعم المدارس وتحصيل الأموال لدفع الرواتب وتطوير القطاع التعليمي، تقول الإنقاذ أن هذا الأمر تم بطلب منها، ولا ندري هذه الثلة المحسوبة على اﻹئتلاف أم اﻹنقاذ؟.
ولكن ما يميزهم البراعة في اللعب على الحبال وحتى وإن تطلب اﻷمر التعامل مع تربية النظام لتحقيق مصالح شخصية ضيقة بعيدة عن نجاح التعليم أم فشله، وبغض النظر عن الحكومات التي تهاوت أو الحكومات التي ستتهاوى تبقى شخصية العاملين في التربية لغز محير في الانتماء والولاء.
مطبات العام 2019 في التعليم:
واجه قطاع التعليم لعام 2019 الكثير من الصعوبات والتصرفات الرعناء من قبل مديرية التربية تخللها الكثير من التساؤلات المالية واﻹدارية والتي سنسردها على مجالين:
القسم المالي:
قدمت مديرية التربية لمدارس مدينة إدلب "صفر" ليرة لدعمها بالمواد التعليمية والقرطاسية، كما قدمت "صفر" ليرة لدعم ذات المدارس بالمحروقات والتدفئة، وللمعلمين "صفر" ليرة كأجور، وعملت التربية على سلب الفائض من ميزانية العام الماضي خوفا من شراء قرطاسية من المدراء تدعم أطفالنا.
أيضاَ عملت التربية على سلب 30% من الاقتصاد والنشاط لهذا العام تماشيا مع زكاة الزيت، وعملت التربية على سلب أموال الندوات وذلك خوفا من هدر المال العام من قبل المدراء وذلك بشراء أقلام وقرطاسية وحرصا منهم على هدرها بطريقتهم غير المعروفة، كما عملت مديرية التربية على سحب القرطاسية من المدارس والمقدمة من قبل المنظمات ولم تعرف الجهة التي ذهبت إليها.
القسم اﻹداري:
غطت مديرية التربية في نوم عميق أثناء موجة النزوح اﻷخيرة من ريف حماه الشمالي وإدلب الجنوبي واستيقظت بعد سبعة أشهر(أهل الكهف) على وجود مئة ألف طالب ليس لديهم مدارس أو مقاعد دراسية أو معلمين، ولم تستطع مديرية التربية لنهاية تشرين الثاني من تأمين الكتاب المدرسي لطلابنا والوعود الكاذبة مستمرة (الراعي الكذاب)، كما حرصت في كل عام على إصدار قرار يقضي بعدم قبول شهادات النظام في مدارسنا الثانوية أو جامعاتنا ولكن القرار كان يطوى مقابل حفنة من الدولارات (كفارة).
كما عملت التربية على بث روح التطوع والتضحية في نفوس العاملين بينما وقعت هي على دعم كوادرها من منظمة مناهل، وأيضاَ عملت التربية على استقبال المعلمين النازحين من الجنوب فضمت أصحاب الواسطات منهم لمدارس الجودة المدعومة ماديا والباقين ألحقتهم بالمتطوعين (خيار وفقوس).
وفي السياق، عمل أصحاب النفوذ في مديرية التربية على تحويل المنظمات العاملة في القطاع التربوي إلى قراهم بعيدا عن المدينة (فيلون مثلا) وخونت مديرية التربية كل المعلمين المضربين نظرا لعدم وجود رواتب لهم واعتبرت إضرابهم خيانة وهددتهم بالملاحقة اﻷمنية (تلامذة بشار)، في حين عمل المتنفذون في التربية على إبعاد أبناء مدينة ادلب من التربية فلا يوجد أي منصب لهم ( لا تحكي بالمناطقية )
مبادرة اﻹنقاذ للعودة إلى الكتاتيب
تلقفت حكومة اﻹنقاذ اﻷخطاء الفادحة التي وقعت فيها مديرية التربية واعتبرتها مسمار جحا للتدخل في عمل المدارس وكان المفوض باﻷمر أبو مالك التلي مسؤول التعليم في هيئة تحرير الشام كما عرف عن نفسه عند زيارته للمدارس وللحقيقة لا نعرف الشهادة التي يحملها (يمكن تاسع) ولا اسمه الحقيقي ولكنه أمير عسكري.
وقد كان تدخله على مراحل:
قام أبو مالك التلي بزيارة المدارس برفقة وزير التربية في حكومة اﻹنقاذ مع بعض الحرس (كانو كتار شوي) وقد صرح أن سبب فشل التعليم في ادلب هو فساد مديرية التربية وأنه سيضرب بيد من حديد كل الفاسدين فيها.
والتلي عمل على تعيين مشرفين شرعيين في المدارس يتقاضون رواتبهم من حكومة اﻹنقاذ (على راسهم ريشة) وينحصر دورهم في : "مكافحة الدخان، تطبيق اللباس الشرعي، وكتابة التقارير بالمتجاوزين (مخبر).
وأجرى أبو مالك اجتماعا لكل مدراء المدارس في إدلب ناقش فيه كيفية التخلص من مناهج النظام وكيف نشجع اﻷطفال على الجهاد والالتحاق بالجبهات (تجنيد أطفال) ولم يشر عن أي بارقة أمل بدعم قطاع التعليم ماديا من المعابر والغنائم للهيئة؟
وأعلن التلي عن اسم مكتبة تتعامل معها الوزارة لطباعة الكتب للأطفال مقابل مبلغ بالدولار (تاجر)، كما قال بأنه سيحاسب كل معلم لم يقبض راتبه إذا شارك أو شجع على إضراب المعلمين، معتبرا المعلمين المضربين بأنهم المتولين يوم الزحف (الله أكبر).
طلابنا بلا كتب ومعلمينا بلا أجور والراعي الكذاب يحاربنا بشعارات السلاح والوعيد وسلاح التخوين والدين فأين المفر، فهل تبقى إدلب بتعليم متهالك بعد أن كانت اﻷولى بين المحافظات أم نعود لتعليم الكتاتيب برعاية أبو مالك التلي واﻷربعون حرامي في مديرية التربية .. أطفالنا منا إليكم سلام ويا حرام علينا إن لم نجد حلا لهذه الشرذمة.
رغم كل ما حققه "الجيش السوري الحر" الممثل الشرعي العسكري لحراك الشعب السوري منذ تأسيسه حتى اليوم، وما بذله من تضحيات ودماء في سبيل تحرير الأرض والذود عن العرض، إلا أنني ألمس في كل معركة يخوضها "الجيش الحر" بمختلف تشكيلاته انتقاصاً لعمل وأداء هذا الجيش وكأنه لم يفعل شئ من قبل بعض الأطراف المحسوبة على الثورة ... كان ذلك في معارك "غصن الزيتون" واليوم أرصده لدى الكثير في عملية "نبع السلام".
ربما هذا التقليل من أهمية ما يقوم به الجيش الحر كـ "مؤسسة" مرجعه لحملة التشويه الكبيرة التي مورست ضده من قبل تيارات أخرى من جهة، ووجود قيادات عسكرية ضمن هذا المكون ذات سيط وأفعال سيئة ولكن هذا لا يعني أن ننتقص من دور "الجيش الحر" كمؤسسة عسكرية ثورية تحمل لواء وراية الثورة السورية، وتسير على ذات الخطى التي تأسست لأجلها..
فهذه المؤسسة مر عليها الكثير من القادة السيئين أو العناصر ولكنهم اندثروا وزالوا وسيزول الكثير منهم لاحقاً والأهم أن هذه المؤسسة ستبقى وسيصل الأخيار الغيورين على ثورتهم لمواقع القرار وهم كثر وموجودون في كل الألوية والكتائب ويلعبون أدواراً بطولية ولكن السيط السيئ هو الذي يطغى مع استمرار حملات التشويه لـ "الجيش الحر" من خلال وجود شخصيات سيئة تتصدره - دون ذكر أسماء -
خلال مسيرة ثماني سنوات مضت، وبعد ظهور "الجيش السوري الحر" كأول مؤسسة عسكرية ثورية وقفت ضد الظلم والاستبداد، حاولت الكثير من الأطراف الدولية والمحلية إضعاف الجيش الحر الذي ساهم في تحرير أكثر من نصف سوريا، قبل أن تبدأ المؤامرات تحاك للجيش الحر، ويبدأ إغراقه بالدعم المسيس، ودعم شخصيات على حساب أخرى، واغتيال شخصيات لها ثقل شعبي وعسكري وسيط حسن قد توحد قدرات الجيش الحر.
علاوة على ذلك ظهور التشكيلات التي تبنت إيديولوجيات فكرية ودينية وتبنت حراك الشعب السوري، وحاولت الظهور على حساب تضحياته - ولاننكر ماقدمت - ولكن جل هذه التشكيلات سقطت وبان خطأ الخط الذي انتهجته، وسقطت الراية والمشاريع التي حملتها، بعد أن كان لها دور كبير في إضعاف دور "الجيش الحر"، في وقت ستزول وستسقط رايات أخرى تحارب هذه المؤسسة لاحقاً وستبقى راية "الجيش السوري الحر" كمؤسسة لا كأشخاص، مرفوعة خفاقة، تزين ساحات الحرية والمناطق المحررة من ظلم الأسد وأتباعه.
يعيب البعض على "الجيش الحر" اليوم القتال في صف القوات التركية الحليف الأخير الذي بقي متماسكاً في موقفه مع الثورة السورية، لتقاطع مصالح الثورة مع الأتراك، وقد ساهم هذا التعاون في تحرير مناطق واسعة من الأراضي في منطقة عفرين وريف حلب الشمالي واليوم مناطق "نبع السلام"، في وقت فقدت المناطق المحررة الكثير من الأراضي بتفاهمات دولية وأخرى بحملات عسكرية عنيفة لم تستطع فيها الفصائل الصمود.
هذا العيب الذي وجدوه في "الجيش الحر" الذي بات ينظم نفسه ويوحد صفوفه ويتحول لمؤسسة عسكرية منظمة بقيادة واحدة، سيكون له انعكاس إيجابي كبير في تمثيل الثورة السورية مستقبلاً والدفاع عن مكتسباتها، لن يكون جيشاً للفصيل أو التيار أو الأشخاص أو الدول، التي ستخرج عاجلا أم آجلاً من أرضنا وسيبقى "الجيش الحر" بأبنائه وعقيدته ورايته ومسيرته المضرجة بدماء الأبطال، لن يحيد الجيل عن دربهم رغم كل محاولات التشويه واستغلال الثغرات للطعن به.
منذُ عشر سنوات كانت حياتي كحياة أي شخصٍ يتنفس في هذا العالم القذر، أستيقظ صباحاً متوجهاً لمنزل صديقي فننطلق للمدرسة، في بعض الأحيان نقرر الهرب من أجواء المدرسة لنطلق العنان لطيشنا فكانت المراهقة وأجواؤها هي الطاغية على حياتي.
أنا من عائلة سورية محافظة على عادات وتقاليد أجدادنا، لي أخُ واحد وثلاث أخوات وأتوسط الجميع عمراً مع شقية الروح توأمي، أمي ربةُ منزل متكاملة وما يميزها عن صديقاتها مهارتها في حياكة الصوف لأنها قادرة على صنع أيّ شيء من الصوف، حتى لو كان غطاءً لمنزلٍ كامل، أبي الجبل المتعالي على وقع الذات، الجندي المجهول في عالمي، فقد قضى حياته على الطرقات لييسّر لنا نعيماً، ضنت به الحياة عن كثيرين من أقراننا، كنا قليلاً ما نراه، وهذا القليل كانت تنافسنا عليه نشرات الأخبار.
انطلقت شرارة الثورة في سوريا على يد أطفال درعا فاعتصامات حمص، وقد حزت شرف المشاركة بكثيرٍ منها فقد كان لأبي دوراً كبيراً بمنعي من المشاركة بالكل، لأنه يدرك إجرام هذا النظام وقدرته على الظلم والبطش، كيف لا وهو ممن عاصروا جميع الانتقالات والتطورات في بلادي منذُ حرب تشرين وصولاً للحظة صراخنا بالحرية.
تعمقت مشاركتي في الانتفاضة الشعبية التي تدرّجت من الإصلاح وعزل محافظ المدينة لتبلغ عتبة إسقاط النظام برمّته لمّا أبى واستكبر، لن أنسى ذاك النقاش الحار الذي دار بيني وين والدي حين أُعلِن أنَّ نظامَ الطاغية بشار الأسد قد فقد شرعيته، حيثُ كانت وجهة نظري بأنّ النظام لن يصمد لأكثر من ثلاثة أشهر بينما أخبرت التجارب والدي غير ذلك فأنهى النقاش بنبرة حزينة قائلاً (لسه ما شفتو شي خلي أحداث الثمانين عبرة إلكون) مزامناً كلامه مع هزّ رأسه للأعلى والأسفل اتباعاً.
وكان ذلك...
تسارعت الأحداث بعدها بشكلٍ جنوني تم حصارنا في ستة عشر حي من أحياء حمص بعد تمهيد مدفعي على هذه الأحياء ففرغت من ساكنيها وكانت أسرتي من ضمن المغادرين ولم يبقى الا بضعة آلافٍ من الشبان فكنتُ وأبي من ضمنهم.
أمضيت عامي الأول في الحصار اتنقل بين المشافي الميدانية لأنّ القذائف كانت قد نالت من جسدي بشكل فظيع لدرجة أنهم لم يجدوا حلاً لإصابة يدي إلا بترها بسبب نقص المعدات الطبية التي تساعدهم على القيام بعملٍ جراحي رفضت الأمر بشكل قاطع، ليخبرني الطبيب أنني أمام حلان لا ثالث لهما إما الشلل النصفي أو الخروج من الحصار لإجراء عملٍ جراحي، والخروج غدا أمراً مستحيلاً فحصارنا أطبق بشكلٍ كامل، لأنّ قوات النظام استطاعت كشف طريق الإمداد الوحيد الذي كنّا قد استطعنا فتحه عبر الصرف الصحي الخاص بالمدينة.
استطعت الخروج من الحصار بعد خلوة بيني وبين الله عن طريق درب إمداد آخر أرشدني إليه أحد الاصدقاء المطلعين على حالتي وكان قد مضى أربع عشر شهراً فقدت خلالها الاحساس بيدي بالإضافة لشظايا قذيفة أخرى مستقرة في قدمي.
ثلاثٌ وعشرون ساعة قضيتها في شبكة الصرف الصحي لأصل أخيراً حي "الوعر" ولتلك الساعات قصةٌ طويلة سأرويها لاحقاً.
استمرت رحلة العلاج ثمانية أشهر استطعت بعدها العودة لممارسة نشاطاتي الميدانية، وفي ذات الفترة سافرت أختي الكبيرة مع زوجها خارج سوريا وتشردت بقية أسرتي بين المحافظات، شقيقي اختفى، والدي لا زال في الحصار، أنا في حي الوعر، أربعة مصائر لأسرةٍ واحدة كانت تعيش بكل حميمية شرقية، وبات من شبه المستحيل أن نجتمع مرة اخرى سوياً، بقي هذا جرح في داخلي لم أظهره يوماً فيجب أن أبقى قوياً وألّا يظهر مني الضعف أمام أصدقائي الجدد فهناك تسعة من الشبان حالهم كحالي لا أريد تأجيج مشاعرهم.
أمضيت أربعة أعوام ونصف في حي الوعر ونالت مني قذائف الحرب عدة مراتٍ لكنها كانت لاشيء مقارنة بذلك الألم الذي يقطنني بسبب البعد عن أحبائي، تجزأت عائلتي من جديد فشقيقتي التوأم تزوجت، وغادرت البلاد وخرج أبي من الحصار برعاية من الأمم المتحدة التي أخرجت بدورها العائلات والأطفال، استقرت عائلتي بمنطقة تبعد عني ثلاثة آلاف متر.
لا أستطيع وصف شعور والدتي وهي تسمع الطائرة وهي تقوم بفتح جدار الصوت فوق الحي المحاصر وقصفنا، لا أستطيع وصف شعور أبي وهو يشاهد الدخان المتصاعد من حيّنا المحاصر، ولا أستطيع وصف مشاعر إخوتي وهم يرون الأخبار الصادرة من شبكاتنا الإخبارية، لكن أستطيع وصف مشاعري فأنا أصعد كلّ يوم جمعة لأعلى مبنى في الحي لأشاهد المسجد الذي سوف يصلي فيه والدي، والذي اعتاد قديماً أن يأخذني معه كلّ يوم جمعة (مسجد خالد بن الوليد) لأداء الصلاة هناك فوق البناء العالي، كان شعوري كشعور طائر كسير الجناحان اعتاد أن يجوب السماء مرحاً، كسمكة أخرجت من بحيرة ووضعت في حوض عرض زجاجي، كنت عاجزاً عن فعل أي شيء إلا توجيه عدسة الكاميرا الخاصة بي باتجاه المسجد مقرّباً ومقارباً على أمل أن أرى ملامح أبي أو حركته لكي اطمئن جزئياً عن صحته لكن خانتني خبرتي في هذا المشهد عجزت عن التقاط وجه أبي بعد أن نجحت بالتقاط جميع صواريخ ورصاص النظام المنهمر علينا.
أن تعيش وحيداً بقرارك انت محاولاً بناء مستقبلك هو إنجازٌ يحسب لك لكن أن تجبر على الوحدة في قفص يمنع عنك فيه حتى الهواء فتلك جريمة حرب لم ولن تسجل على قوائم الجرائم .
أكملت ثمان سنوات وأنا بعيدٌ عنهم لم أعتد غيابهم قط لا زلت ذاك الشاب المراهق الذي يملأ المنزل ضحكاً وطرباً اعتدت النوم وحيداً الجلوس وحيداً البكاء والفرح وحيداً، اعتدت الحياة بصمت، تزوجت فملأت زوجتي جزءاً من الفراغ الموجود داخلي، وجدتها وأنا في قمة انكساراتي لتغدو راحتي بعد أن كانت أمي هي ملاذي، أصبح لي أخٌ جديد لم تلده أمي هو جبلٌ أسند ظهري عليه في سنوات غربتي.
عزائي الوحيد أنني اشاركهم الهواء والماء ذاتهم اشاركهم كذلك صوت الأذان وانهمار المطر الكثير من الأشياء البسيطة، كنت أكتفي بهذه التفاصيل راضياً بما قسمه الله لنا على أمل أن أستيقظ ذات يوم على خبر كسر الحصار.
الحصار الذي علمني الكثير من الدروس وكان آخرها بأن الاحلام والأماني لا تتحقق وأنني يجب أن لا أحلم أحلاماً وردية، ففقدان ونسيان شخص نحبه ليس بالأمر البسيط، لكن مع مرور الوقت سنعتاد فراقه في حياتنا لكنه سيظل باقٍ في قلوبنا، لم أستيقظ على كسر الحصار بل على واقع تهجيرٍ قسري وتغيير ديمغرافي لتغدو المسافة فيما بيننا اكثر فأكثر.
أصبحت خالاً من خلف الشاشات، كبُرت عائلتي وازدادت أربع اطفال لأخواتي لا اعرف سوى اسمائهم وتلك الصورة التي أراها في مكالماتي معهم.
كنت أنتشي حين مشاهدة صور أطفالهن، وأطمئن لمّا أرى حروفهم التي لا تزال مرحة رغم الألم الظاهر فيها كانت تلك المجموعة عبر تطبيق الواتس آب تخفف من حدة الشوق الذي يقتلني ببطء، واليوم أحسست بالنقص التام بعد أن توقف المرح والعبث وإرسال الصور فقد اجتمع شملنا من جديد بعد طول فراق!!!!!!
أجل فأنا رغم تلك المعاناة لم أغادر منزلي قط فقد ((أصبحتُ اليوم صورة))
أصبحتُ صورة في زاوية غرفة الجلوس يطالعني أبي مع كلِّ نشرة أخبار يشاهدها، تطالِعُني أُمي وهي تغزل ذاك الشال الصوفي لزوجتي، يطالعني أخي وهو يمضي وقته عابثاً على حاسوبه، تطالعني أختي الكبيرة وهي تُدّرِسُ أبنائها، تطالعني أختي التوأم بصمت، تطالعني أختي الصغرى مطالعة المستكشف المتثبت كي أرسخ صورة في ذاكرتها لأنني تركتها صغيرةٌ جداً.
أصبحت صورة
أعلم أنني لستُ الوحيد كذلك لأن هناك آلاف الشبانِ مثلي وأنا الأفضل حالاً فعزاء أهلي الوحيد أنني لازلتُ على قيدِ الحياة.
فلكُم أن تتخيلوا ذاكَ الشعور
لاتزال أصداء الانتكاسة الكبيرة التي أمنيت بها "الثورة السورية" في الشمال السوري بسقوط مدينة خان شيخون ومدن اللطامنة وكفرزيتا وحصار مورك، تترد بين العامة بحثاً عن جواب يبرر سقوط هذه المناطق المدوي في فترة قصيرة وبشكل سريع، لتخسر المنطقة قلاعها الحصينة التي صمدت لسنوات في وجه كل الحملات التي مورست ضدها ...
ومن خلال متابعتي وجدت أن الجميع يترقب نتائج المباحثات الروسية التركية بشأن خان شيخون، التي تأخرت قوات الأسد حتى تاريخ اليوم لدخولها بعد أن أتمت الطوق عليها من كل المحاور خلال أيام قليلة .... كل هذا وسط صمت مطبق من قادة الفصائل العسكرية، إلا من تصريح من قائد عسكري وصوتية لشرعي آخر ينفون فيها سيطرة النظام وكأنهم يوجهون الحديث لقطيع من الأغنام ويكررون أسلوب "صحاف العراق"
وبين ضوجان الحاضنة الشعبية التي لاتزال ترزح تحت نير القصف المتواصل، وجمود الفصائل، لاتجد إلا كيل الاتهامات لتركيا كونها الطرف الضامن للمنطقة، وتحميلها ما وصل إليه الحال اليوم، أما الفصائل "لاسيما التي أعلنت أنها غير ملتزمة بأي اتفاق مراراً "صامتة وكل من ينتقد فهو يثبط الهمم وينتقد المجاهدين على الجبهات" ومن التزم بالاتفاق غائب إلا بعض مطبليه يجولون الغرف والمواقع والصفحات ليدافعوا ويهاجموا من ينتقدهم، ورواد أستانا نائمون، والتحليلات لاتتوقف والتخوف سيد الموقف ....
ولعل المتتبع للتطورات التي جرت خلال الأسابيع الماضية، والصمود الذي أبداه "الصادقون على الجبهات" - كتعبير يفضل بين صادق ومتخاذل- ، ثم تلك الانتكاسة الكبيرة التي حصلت، وسقوط مناطق حصينة بات لزاماً على قادة الفصائل اليوم أن تخرج للعلن وتصارح الشعب بما حصل وتبرأ نفسها من الاتهامات بتسليم المنطقة، تكراراً لما حصل شرقي سكة الحديد، والذي قد يتكرر في سهل الغاب وريف حلب لاقدر الله.
ماذا ستقول قادة الفصائل للمدنيين المعذبين اليوم على الحدود يبحثون عن شادر يحمي أطفالهم من حر الصيف وويلهم من برد الشتاء، وماذا سيعلل قادة الفصائل سبب سقوط مناطق وبلدات ومدن حصينة وكان القتال فيها في صالحهم "فمن صمد في تل ملح القرية التي لاتتعدى بضع منازل مكشوفة، كيف له أن يترك الهبيط وأحراش القصابية وعابدين ومدن اللطامنة وخان شيخون وكفرزيتا الحصينة تسقط دون قتال" وماتبرير سحب السلاح الثقيل من جبهات "اللطامنة وكفرزيتا" قبل انسحاب ثوارها بأسبوع وتركهم لمصيرهم ....؟؟
ماذا سيقول الجولاني لرهط الإعلاميين الذين سيجمعهم في موقعه الحصين لمرة جديدة، وكيف سيبرر سقوط تلك المناطق، وهل سيكرر ذات التبريرات إبان سقوط شرقي سكة الحديد وكفرنبودة وقلعة المضيق، ثم لماذا لم تبادر الفصائل حتى اليوم لشن هجمات معاكسة والضغط على النظام قبل تثبيت حواجزه حول خان شيخون وماذا تنتظر .....؟؟
كلامي ليش للتثبيط ولا للتخوين " فمن قاتل على الجبهات وقدم روحه رخيصة اجتباه الله ليكون بين الصديقين، ومن لازال يقارع العدو هو تاج على رؤوسنا ولكن كيف لهؤلاء الصادقين أن يقاتلوا العدو وهو مقيدين مكبلين بقرارات قادتهم وبنوعية السلاح الذي يقدم لهم، وكأنه يقول لهم إذهبوا للموت والمحرقة على أقدامكم .
بالتأكيد القصف الذي تتعرض له المنطقة لايتصوره عقل، وما يواجهه الثوار ليس بميليشيات بل بجيوش دول منظمة، ولكن من يعود للتاريخ الحديث والقديم يعي جيداً أن بإمكاننا الصمود والقتال ورد الصاع صاعين إن كانت كلمتنا واحدة وإن كان هناك صدق في التعامل مع الواقع، دون تباطئ أو تراخي، ولدينا من الأبطال والإمكانيات الشيء الكثير إن استخدمت في الموقع الصحيح لكن ...
لماذا نحمل تركيا التي نعي جيداً أنها تقدم ماتستطيع للفصائل والمدنيين من دعم ومساعدة، وندرك جيداً أنها لاتستطيع وحيدة وقف النظام وروسيا وكل العالم المتخاذل على المنطقة، ثم إن لها مصالح واتفاقيات وحدود لا يمكن لها أن تتجاوزها وإلا وقعت في مصيدة مايخطط لها لتدميرها، وفي وقت نترك الفصائل التي تعالت وكبرت وبغت على غيرها وسيرت الدبابات والأرتال في المحرر وبنت الحكومات وسلطتها مع قبضتها الأمنية على رقاب الشعب وفي كل انتكاسة تتملص من المسؤولية عن حماية المنطقة وتبدأ بكيل الاتهامات وتخوين الجيش الوطني ومن هجرتهم من أرضهم وتركتها لقمة سائغة للنظام وحلفائه ...
وبالنهاية يراودني سؤال واحد: أين ذهبت الأموال التي اقتطعتها حكومة الإنقاذ من رواتب الموظفين البائسين بدعوى التدشيم، وأين أنفاق وإعداد المحيسني، وأين صمود الجولاني، وأين قوة الجبهة الوطنية، وأين وأين وأين ... وأين يذهب الشعب البائس المسكين المعذب بعد سقوط أرضه وتدمير منزله وبعده عنهما ...!؟، و لدي إيمان وتفاءل بعزيمة الصادقين الموجودين في كل مكان من تراب أرضنا أن يمكنهم الله للتغلب على كل من تخاذل على الشعب السوري ليعيدوا الكرة ويفرحونا بتحرير ما سلب منها بالقوة وإنه لقريب ..
يبدو أن العلاقة بين تركيا وروسيا "ضامني اتفاق إدلب" بدأت تأخذ منحى جديد من التصعيد غير المباشر، بدا واضحاً بالأمس في إدلب، بعد اتفاق تركيا منفردة مع واشنطن عن المنطقة الآمنة شرق الفرات، والذي عولت روسيا كثيراً على عدم حصول الاتفاق، لكنها صدمت به، هذا بالإضافة لما أفضى إليه اجتماع أستانا الأخير من عدم الاتفاق على أي ملف لمرة جديدة، وتأجيل البت في اللجنة الدستورية لاجتماع قادم.
كل ذلك دفع روسيا لنقض اتفاق وقف إطلاق النار بإدلب وتعجيل الحسم العسكري جنوبي إدلب وريف حماة من خلال المشاركة بشكل أكبر براً وجواً واستدعاء الطرف الإيراني للمشاركة أيضاَ والتقدم باتجاه مناطق لم تكن في الحسابات أصلاً، منها خان شيخون بوابة ريف إدلب وعقدة الربط مع ريف حماة.
العلاقة التركية الروسية المتوترة بدت واضحة تماماً يوم أمس، من خلال دفع تركيا برتل عسكري كبير بعد تمادي النظام وروسيا بحملتهم وتوجيهها باتجاه خان شيخون، ولكن كان الرد الروسي رغم علمها بوجهة الرتل ووجود تنسيق بإعاقة تقدمه ومنعه من الوصول لمبتغاه، واستعجال تطويق مدينة خان شيخون وفرض أمر واقع جديد.
إضافة لذلك برزت التصريحات الرسمية من الطرفين، ففي الوقت الذي وجهت تركيا ببيان وزارة الدفاع بأن استهداف الرتل يضرب بالاتفاق مع روسيا وأن الأخيرة على علم بتحركه ومع ذلك تم اعتراضه، بالتوازي مع التصريحات الروسية المتواترة عن استهداف حميميم ومؤخراً الحديث عما أسمته إيواء النقاط التركية لـ "إرهابيين".
واليوم باتت العلاقة بين الطرفين أمام اختبار أخير، يتعلق في مصير النقطة التركية التي باتت شبه محاصرة بريف حماة الشمالي شرقي مورك، وإن كانت روسيا ستجبرها على الانسحاب أو أنها ستتوصل مع تركيا لاتفاق ما يهدئ الأوضاع المتأزمة، كون ليس من مصلحة تركيا وروسيا الدخول بمعركة مباشرة سيؤثر على ملفات أخرى بين الطرفين وبالتالي بات خيار القبول بالوضع الحالي أمراً غير مستبعد.
معطيات المعركة الأخيرة والزخم الروسي والإيراني الذي دخل عليها لم يكن متوقعاً أو في الحسابات، ولكنه حصل كون الفصائل لم تستطع الصمود في وجههم، رغم صمودها في وقت سابق في تل ملح والجبين وعلى أطراف كفرنبودة والحماميات، وبدا واضحاً أن خطوط الدفاع انهارت بشكل سريع في مناطق تملك فيها مقومات كبيرة للصمود لاسميا حرش عابدين والهبيط، كما أن العمليات المضادة التي شنت لم تكن جدية بالقدر الكافي كما في الهجمات السابقة والتي كانت تحقق توازن في المعركة بين الطرفين، رغم أن الفصائل قدمت خيرة شبابها في المعركة وفق الإمكانيات.
ووفق الرؤية الحالية، فإن العناد الروسي الواضح في الحسم، قد يدفع الطرف التركي للقبول بالوضع الحالي لتجنب الدخول بمواجهة مباشرة مع روسيا غير محسوبة النتائج، وبالتالي سحب النقطة التركية بمورك، وتثبيتها مع الرتل المنتظر بـ "معرحطاط" بموقع جديد شمال خان شيخون، ولربما يتبدل موقع نقطتها في شير مغار بريف حماة الغربي، في حال أصرت روسيا على متابعة معركتها بسهل الغاب ومحور الكبينة الذي تصر على إنهائه بدعوى تهديد قاعدة "حميميم" المتواصل.
وفي حال تمكنت روسيا من فرض رؤيتها والواقع الجديد على الأرض، فإنه سيكون من الصعب لاحقاً كبح جماحها ومنع تهديدها لمناطق جديدة بإدلب، مالم يكن هناك قوة ضاغطة عليها تحقق قليلاً من التوازن العسكري، والتوصل لتفاوض ند لند يحفظ المنطقة المتبقية بإدلب، وهذا ما ستحدده الأيام القادمة، والتي قد تكون عصيبة على الجميع، مع مواصلة الصمت الدولي الكبير حيال كل مايجري من قتل وتهجير وتدمير للمنطقة واستباحتها لاحقاً.
طرأت تطورات سريعة على المشهد العسكري في الشمال السوري خلال الأيام القليلة الماضية، مع إعلان النظام إنهاء وقف إطلاق النار بعد يوم من جولة أستانا 13، واستئناف المعارك بشكل أعنف وبمشاركة فاعلة على الأرض من روسيا وإيران، ترسم تلك التطورات خفايا اتفاق ما، لم يعلن ويبدو أنه قيد التطبيق على الأرض.
هذه التطورات السريعة أفضت لتقدم النظام بشكل سريع ومفاجئ، خالف التوقعات، رغم أن الفصائل العسكرية التي تقاتل كل هذه القوى على الأرض، صمدت لأشهر وخاضت حرب استنزاف طويلة من عناصرها وآلياتها وإمكانياتها العسكرية، وحققت توازن في الرعب والسيطرة على الأرض وكبدت النظام وروسيا خسائر كبيرة باعترافهم، خلال الحملة التي سبقت أستانا.
وخلال أيام قليلة سيطر النظام وحلفائه روسيا وإيران على الزكاة والأربعين ومن ثم بدأ التوسع باتجاه ريف إدلب ليصل الهبيط وسكيك وتلتها، ويبدوا أن القادم محاولة تطويق ريف حماة الشمالي تشمل مناطق "كفرزيتا واللطامنة ومورك"، مع الاقتراب أكثر من مدينة خان شيخون أكبر مدن ريف إدلب الجنوبي، رغم أن جميع هذه المناطق تندرج ضمن اتفاق خفض التصعيد والمنطقة منزوعة السلاح.
والملاحظ في الحملة الأخيرة بعد أستانا، تركيز القصف بشكل كبير على خطوط التماس والمناطق القريبة من خط المواجهة، وتخفيف القصف بشكل كبير على المدن والبلدات خارج حدود هذه المناطقة خلافاً لما كانت عليه قبل أستاناً والتي كانت تتسبب يومياً بسقوط الضحايا المدنيين وارتكاب المجازر التي حركت المجتمع الدولي الذي طالب بوقف الحملة، أي أن تخفيف القصف على المناطق المدنية له أبعاد سياسية تتعلق بتسكين المجتمع الدولي لحين إتمام السيطرة على مناطق بريف حماة وإدلب هي خالية من سكانها بنسبة 80%.
التساؤلات التي تطرح منذ أيام بدون إجابات واضحة من أي طرف كان سواء الضامنين أو الفصائل التي تكتفي بالمقاومة على عدة محاور، مع أنباء شبه مؤكدة عن تخفيف حجم ونوعية وكمية الأسلحة التي كانت تصل للفصائل قبل أستانا عما بعدها، وبالتالي إضعاف من قدراتها على الصمود والمقاومة.
ووفق المعطيات على الأرض، فإن توجه النظام إلى بلدة الهبيط ومن ثم منطقة كفرعين غرب خان شيخون، بالمقابل سيطرته على تل سكيك والقرية القريبة منها ومحاولته السيطرة على تل ترعى، توضح بأن النظام يسعى لرصد كل المنطقة من ريف حماة الشمالي وريف إدلب الجنوبي، لتعزيز دفاعاته، ومن ثم الانطلاق للسيطرة على مناطق جديدة.
ووفق معلومات متداولة فإن النظام يرمي للانتقال من الهبيط باتجاه منطقة الصياد، التي تمكنه السيطرة عليها من كشف ريفي حماة وإدلب الجنوبي بما فيها خان شيخون، بالتزامن مع الضغط على محاور كفرزيتا واللطامنة التي تشكل ثقل عسكري لجيش العزة وأهمية استراتيجية بالغة لريف حماة.
ويستبعد مراقبون للتطورات العسكرية على الأرض، أن يتقدم النظام باتجاه مدينة خان شيخون، والاكتفاء برصدها نارياً من عدة محاور، كون السيطرة عليها ستحاصر بلدات ومدن ريف حماة الشمالي بشكل كامل، بما فيها النقطة التركية المتمركزة شرقي مدينة خان شيخون، وبالتالي إحدى إمرين إما انسحاب النقطة وهذا مستبعد، أو بقاء مدينتي مورك وخان شيخون خارج حسابات النظام وروسيا مع رصدها من كل الاتجاهات، مع بقاء كل الاحتمالات واردة.
السؤال الأكثر إلحاحاً اليوم؛ ما هو مصير إدلب ومن سيتولى مهمة الهجوم عليها أو ضبط الأمن فيها؟ بعد أن تجنبتها المليشيات الانفصالية الكردية منكفئة على نفسها في شرق الفرات، ثم تخاذل الشيعة من الإيرانيين وحزب اللات اللبناني عن المشاركة بالعمليات الأخيرة لما ينتظرهم فيها من استنزاف.
بقيت ميليشيات النظام تقاتل وحدها وزُجّ بعناصر المصالحات لتحرق على تخوم إدلب، تلك الأرض القاسية المعقدة بتضاريسها وقديمة في مناهضة نظام الأسد، المحافظة التي تفصلها جبل الساحل والأكراد عن مستنقع الساحل وما فيه من بؤر للإرهاب وتتوسطها قمة كبّينة الاستراتيجية التي مرغت أنوف الروس، ويفصلها من جهة الغاب جبل الزاوية معقل الثورة الأقدم ومنبع البطولات.
شكلت تلك الجبال سدا منيعا حول حصن الثورة الأخير أمام مجرمي الأسد ووكلاء الروس والايرانيين، ليتردد الجميع في اقتحامها أو الاقتراب منها، وخاصة بعد تحصينها ولم تجد ميليشيا النمر ألا خاصرة قلعة المضيق الرخوة لتراهن عليها وكادت أن تنجح بالمرور من خلالها إلى إدلب لو لم تبتلع الثورة الصدمة وتبدأ خوض معارك البطولة بما ملكته من مضادات.
إدلب خزان الثورة الذي لا ينضب، يتدفق الشباب الثائر من جميع أنحائها إلى خط الجبهة الساخن الأول، هذا الخط الدامي يبدأ بريف حلب وسراقب ويعبر جرجناز في ريف معرة النعمان ثم خان شيخون، ثم يمتد على مشارف الغاب وينتهي في جسر الشغور لتشكل معاً جبهة عصية، ومن خلفها مدينة بنش وتفتناز وأريحا والجبل الوسطاني وباقي البلدات التي لم تبخل برجالها ويتدفق منها المقاتلون والمتطوعون لأن جميعهم يدرك حجم التهديد الذي ينتظر معقل الثورة الأخير بمن فيها من أهالي ومهجرين الراسخين الثابتين على مبادئهم من باقي المحافظات.
نظرا لكل ماسبق وما جمعته هذه البلد من ظروف استثنائية فلا أظن أن الهجوم عليها سيكون نزهة للمحتلين، بل لن يقدم عليه إلا أحمق مخبول، وهي البلد الخالية من الثروات لكنها الغنية بالكرامة والكبرياء، كيف سيفعلها وقد بدأ يتدفق بعض الدعم العسكري المضاد للدروع من الشمال التركي بعد التصعيد الأخير ضد نقاط المراقبة، وقد شهد الجميع ثبات شبابها أمام تلك الهجمات رغم القصف الهستيري البربري المجنون، وما تمخض عن فشل الهجوم البري عليها، وأوقف الميلشيات عند قلعة المضيق وكفرنبودة، ثم ابتلع الثوار الصدمة وبدأوا العمل على خاصرة أخرى ونزعوا من النظام جبين وتل ملح ودمروا العشرات من الآليات.
إدلب توافقت فيها مصلحة أهلها والمهجرين إليها من باقي المحافظات مع المصالح التركية وأمنها القومي، ثم توافقت مصالح جميع من سبق مع المصالح الأوربية الخائفة من موجات النزوح، فأسرعت أمريكا لتسهيل تقديم الدعم بوصاية تركية بهدف جر الروس إلى مستنقع الدم وهذا سيحقق المزيد من الاستنزاف لجميع دول المنطقة بمباركة إسرائيلية.
تعكف في الجهة المقابلة المليشيات الشيعية على همومها وتتجرع مرارة العقوبات، وتحصد ما زرعته من شر وحرب طائفية أرهقت منطقة الشرق الأوسط، تلك العقوبات التي تشتد قسوتها بالتزامن مع التهديدات الأمريكية ببدء الحرب عليها، إضافة لمحاولة الروس التخلص من شراكتها في الانتصار المزعوم، مما اضطر الأخير لبدء الهجوم معتمدا على مليشيات المصالحات والفيلق الخامس الموالي له، مما أظهر عجز الروس عن تنفيذ مخطط (الإعادة الثلاثي):
1- فشل إعادة تدوير الأسد وتصديره إلى المجتمع الدولي والاعتراف به مجددا.
2- كما فشل إعادة الإعمار بوجود الأسد ووجود إيران معه في سوريا.
3- وبالتالي فشل إعادة اللاجئين إلى بلادهم. نتيجة لغطرسة الروس وتصعيدهم الأخير تبتعد إدلب وريف حلب الشمالي عن متناول الروس وتنحصر سيطرة النظام والمليشيات التابعة له ولطهران في المنطقة الجنوبية بعد أن انسلخ عنها الشريط الحدودي التركي من إدلب الثائرة إلى الريف الشمالي وتحتفظ أمريكا بشرق الفرات سلة خيرات سوريا ومنبع ثرواتها.
إيران الأخرى تبدو ذليلة خارجياً وعادت من سوريا خائبة، خائفة من تعكير صفو الأوروبيين والأتراك إذا ما شاركت في تلك المحرقة، وهي كم يشتري عدوا جديدا قريبا على حدودها تضمه لأمريكا، وكأنها ستكتفي بعداء الخليج العربي، وتريد أن تحافظ على حجم الاستثمارات المتدفقة إليها من أوروبا عبر تركيا، وقد كانت تحاول تمرير الثروات عبر سوريا المفيدة من الجنوب السوري إلى لبنان ثم المتوسط وحاولت البقاء فيه مما شكل تهديدا لمصالح الروس وسبب خلافا بين الضامنين المقاتلين إلى جانب النظام. يبدو أن إيران استبقت الأحداث، فنزعت مسمار جحا -كفريا والفوعة- من إدلب ولا تفكر بالعودة إليها، وكل المعلومات عن حشد لمليشيات الشيعة على تخوم إدلب غير صحيحة، وخاصة بعد الضربات الموجعة التي تلقتها من أمريكا لمحاولتها الاقتراب من شرق الفرات.
مما سبق يتبين أن الجميع سيتخلى عن ملف إدلب لصالح تركيا، ويوكل إليها التعامل معه فهي الأقدر على إدارته، وبسط سيطرة الجيش الوطني المقرب إليها، وأي محاولة للتصعيد من قبل الروس سيقابل بتصعيد ثوري ومواجهة مفتوحة على جميع الجبهات، ولن يقبل الأتراك بأي تهديد لأمنهم القومي، فهل ستقامر روسيا بعلاقتها مع تركيا وتدفع ما في جعبتها على الطاولة لصالح الأمريكان وإسرائيل المستفيد الوحيد، أم سترضخ وتعلن عن هدنة طويلة تراجع فيه حساباتها وتتراجع عن سياسة القضم وتعيد البلدات المحتلة في الشهرين الأخيرين لأصحابها؟
أبرز نتائج تدويل القضية السورية هي خروج المواطن السوري عن دوائر الاطلاع، واقتصرت مهمة قادتهم على التنفيذ بصمت دون اعتراض، بينما تنحصر مهمة الناشطين والإعلاميين على نقل الأحداث والتعليق عليها والتكهن بمجريات الأحداث دون اطلاع.
تنحصر مهمة المواطن السوري في تلقي الرسائل وتصديرها بين الدول المؤثرة بالقرار السوري، وغالبا ما تكون الرسائل دموية مدمرة للبنية التحتية مهلكة لعائلات المتمسكين بالأرض والتراب.
تدويل القضية السورية سبب شحاً في المعلومات لدى الألسن الناطقة بالثورية ومن يسمون بالمحللين السياسيين وغاب الإعلاميين الغارقين بالفصائلية عن المشهد الكلي، لانشغالهم بتفكيك الألغام الشعبية ومخلفات القنابل التي تركتها الخلافات والمعارك بينها.
لا شك أن جميع الدول العظمى والإقليمية تحاول فرض مشاريعها ورؤيتها للحل السوري بالقوة كما يفعل الروس أو بالسياسات الناعمة المخففة للاحتقان والتي تمتاز بالصبر كعادة الأتراك، أو التحكم عن بعد الأقل كلفة كالحرب الصفرية التي تديرها أمريكا في المنطقة منذ أعوام.
للأسف إذا تتبعنا مخرجات تلك المشاريع نجدها لا تمت للحلم الثوري السوري بصلة، إلا إن بعضها يبتعد كثيرا كالمشروع الانفصالي الأمريكي، وبعضها الآخر دموي ساحق للثورة وحاضنتها الشعبية كما هو الحال في المشروع الروسي، بينما المشروع الإيراني طائفي بامتياز يفتك حتى بعناصر المصالحات المستسلمة للنظام ويدفعها للواجهة في مقابل الثوار.
بينما تقترب الرؤية الثورية من الرؤية التركية المناصرة للثورة السورية حتى اللحظة، وتشترك معها بالمخاوف، وتتقاطع معها في الأهداف، رغم كل موجات فقد الثقة التي عصفت بها، وروج لها من قبل عدة جهات مقربة من النظام، أو روجت لها جهات وقنوات خليجية معادية للسياسة التركية في المنطقة.
وجدت إدلب نفسها وحيدة مع هذا التصعيد الدموي الذي طال المناطق المحررة من العدوان الروسي والمليشيات الأسدية، مع ازدياد التصعيد تنعدم الآمال بالحل، وتسحق اللجان الدستورية ويتبدد حلم الانتقال السياسي، إلا أن المقاومة بالسلاح المضاد للدروع بدد حلم روسيا في عملية ريف حماة الشمالي الأخيرة، وهو السيطرة على الأوتوستراد الدولي بين حماة وحلب، ثم الحلم باحتلال مدينتي جسر الشغور وإدلب في مرحلة لاحقة، حيث بدأ فعلا الهجوم من محورين الأول في ريف حماة والثاني محور كبانة مطلع هذا الشهر.
ومضى شهر كامل على بدء تنفيذ الخطة، التي ادعى الروس من خلالها الحد من تهديد مطار حميميم ونقاطها الاستراتيجية في الشمال السوري، إلا أن الخسائر البشرية والثمن الباهظ الذي تكبدته في المعدات والآليات جمد خطوط الجبهة بعد معارك كر وفر على محور كفرنبودة المنطقة السهلية الساقطة حكما بنيران النظام، وتركز عمل الفصائل على الإغارات والكمائن والانغماس في صفوف العدو، بينما تركز الدعم الروسي على الاستطلاع لضرب نقاط الثوار لتخفيف الضغط عن خطوط التماس وتركز عمل مليشيات الأسد وراجماته مع الطيران على ضرب الحاضنة الشعبية في البلدات المدنية المحررة لتهجير السكان منها ولتشكل ضغط على الضامن التركي للقبول بهدنة يحتفظ فيها النظام بكفرنبودة والمناطق التي سيطر عليها في الشهر الأخير إلا أن الأتراك يصرون على دعم الجبهة الوطنية والجيش الوطني لاستعادة تلك المناطق ثم الجلوس على طاولة المفاوضات.
يبدو أن المنطقة سوف تلتهب مع العقوبات الأمريكية وقانون شيزر، والتهديدات الأمريكية لإيران، ووضع يدها على شرق الفرات السلة الزراعية ومخزون الثروات، ثم تأخر إعادة الإعمار وتعرقل عمل اللجنة الدستورية الهادفة لتعويم الأسد، كل ما سبق جعل الروس تفرغ غضبها ووابل أسلحتها المحرمة دوليا على البقعة المتبقية خارج السيطرة وخارج التفاهمات، فماذا يخبئ المستقبل لقلعة الثورة الباقية ومعقل الثوار الأخير، لا أظن أن الأمر سيكون نزهة لبقايا مليشيات الأسد وعناصر المصالحات، وما تخفيه الأيام أشد إذا ما حاول النظام التقدم إلى الجبال الوعرة حيث ينتظره الثوار.
خرج منذ عام آخر الثوار في دمشق وريفها من منطقة جنوب دمشق "بلدات-يلدا-ببيلا-بيت سحم"، لم يكن عدد الخارجين يساوي عدد المقاتلين وغيرهم من الفعاليات المنتمية للثورة أو المتحدثين باسمها أو المتسلقين على أكتافها والمستثمرين في أروقتها، في بداية التفاوض من أجل الخروج مع الفصائل كان العدد المقدر أكثر من ثلاثين ألف مواطن يتضمن الثوار وعائلاتهم، وخلال التفاوض أوعز نظام الأسد إلى عملائه لتثبيت أكبر عدد ممكن من سكان المنطقة وشرع بإرسال التطمينات أن الذي يبقى في المنطقة يعود كما ولدته أمه خالياً من "الذنوب" وسيسقط عنه كل تهم "الإرهاب" الموجهة له ولو قتل ألفَ ألف من عناصره، واستطاع استخدام جل مشايخ ووجهاء البلدات لإقناع الشباب بالبقاء في "حضن الوطن" مستغلين الوضع المتوتر في الشمال السوري واللعب على وتر تخويفهم من "الشيعة" في حال خروج معظم سكان الجنوب الدمشقي ستصبح لهم وسيستوطنون بها على غرار "ضاحية بيروت الجنوبية" التي يسيطر عليها حزب الله اللبناني، وكأن بقائهم سيمنع ذلك في حال أراد نظام الأسد وحليفته "إيران" ذلك.
في بداية التفاوض كانت اللجنة المكلفة بذلك تقول إن بين الثلاثين والأربعين ألفاً يرغبون بالخروج إلى الشمال السوري، وكلما أقترب موعد بدء الخروج كان العدد يتقلص وينقص بين الساعة والتي تليها، فكان السؤال الأكثر طرحاً عندما تلتقي أحدهم "طالع أو لا" وللمفارقة أنك ترى أحدهم وتسأله فيخبرك أنه خارج ثم تراه بعد دقائق ليقول لك أنه سيبقى.
كما المشايخ كان تأثير العائلات كبيراً جداً على بقاء عدد كبير من أبناء البلدات الذين كان جلهم مقاتلين في صفوف الجيش الحر، ومجرد علمهم أن أحد أفراد عائلاتهم ينوي الخروج مع الثوار يذهب إليه "كبارية" العائلة ويستخدمون معه شتى أساليب الترغيب والترهيب من أجل أن يبقى، حتى أن بعضهم أنزلوا أبنائهم من باصات التهجير وأخرين قبلوا أيدي وأرجل أبنائهم من أجل الا يخرجوا، وعند إحصاء العدد النهائي للذين خرجوا إلى الشمال السوري تبين أن العدد أقل من 10 ألاف بقليل.
البعض من المقاتلين الذين كانوا في صفوف الفصائل نقلوا البندقية مباشرة إلى الكتف الأخر وأضحوا يتفاخرون بانضمامهم لتشكيلات جيش الأسد "الفرقة الرابعة وقوات النمر والحرس الجمهوري وغيرها" ويصورون أنفسهم وهم يتبادلون ألفاظ البذائة والتشبيح ظناً منهم أن مسارعتهم بالتشبيح مع الأسد سيعطيهم ميزات إضافية ويحميهم من خطر الاعتقال أو الموت، وباشروا استثمارهم مع هؤلاء كما كانوا يستثمرون مع الثورة.
أما القسم الأخر استفاد من وجود القوات الروسية في الستة أشهر الأولى التي كانت تحد من قمع قوات الأسد للسكان وتتلقى الشكاوى بخصوص ذلك وغالباً ما تستجيب وتعاقب المنتهكين منهم.
في المرحلة اللاحقة بدأت الملاحقة الأمنية لمعظم أهالي المنطقة وخاصة الشباب وزجهم في صفوف جيش الأسد في أبسط الأحوال وتعتقل أخرين في حالات أخرى حتى من الأشخاص المحسوبين عليها الذين ساعدوها في إتمام وتسريع السيطرة على المنطقة.
الخطر الأكبر على الشبان في البلدة في البداية لم يكن من نظام الأسد بجميع أجهزته بشكل مباشر، إنما من سكان المنطقة المنخرطين معه الذين أثروا العيش في مناطق سيطرته أثناء تبعية المنطقة لفصائل الثورة، وبمجرد دخولهم للمنطقة بدأوا يدبرون المكائد ويكتبون التقارير للجهات الأمنية المختلفة، بحكم علاقتهم القوية بأجهزة النظام الأمنية ومعرفتهم بقاطني المنطقة وقدرتهم الحصول على معلومات إضافية عمن وقف مع الثوار أو كان معهم.
تباعاً قامت قوات الأسد بالعديد من عمليات الدهم والاعتقال والتي ما زالت مستمرة حتى اليوم.
قبل شهرين تقريباً استهدف الأمن العسكري بكمين له كل من "رامز حامد" الملقب أبو سليمان و"عبد الرحمن حامد" الملقب بـ سبيرو، تمكنت خلاله من القبض على الأخير وسوقه إلى الخدمة الإلزامية بعد عدة أيام من التحقيق معه، فيما تمكن رامز من بالفرار مع العلم أنه التحق بقوات الأمن والجيش من قبل خروج الثوار من جنوب دمشق وساعدهم مع أخرين في عملية القضاء على تنظيم "داعش" في جنوب دمشق وقاتل إلى جانبهم.
عمل رامز خلال فترة الثورة في تحويل العملات من الداخل إلى الخارج وبالعكس وحقق أرباح طائلة إلى جانب التجارة بقطع السلاح والذخيرة، وفي نهاية العام 2017 قام بتشكيل مجموعة مقاتلة من أولاده وأقربائه وانضم إلى الجيش الحر "جيش الأبابيل" من أجل حماية تجارته وتحصيل بعض الأموال العالقة له مع خصومه بالقوة.
اما "سبيرو" فكان كثير التحريض على الجيش الحر في الفترة الأخيرة "قبل التهجير" وقام بتدبير العديد من الاحتجاجات ضده وجعله في مواجهة الأهالي بتدبير المكائد وتحريف الحقائق وإلقاءه اللوم على الجيش الحر لما آلت إليه الأوضاع، وكل ذلك بأوامر مباشرة من "الشيخ صالح الخطيب" رئيس لجنة المصالحة" السابق عن بلدة يلدا.
كما داهم الأمن منزل الشاب "سامر سبيناتي" الذي كان يعمل مع فصيل أجناد الشام اثناء تمضية إجازته مع العلم أنه خضع للتسوية والتحق بصفوف الخدمة الإلزامية.
وفي بلدة "يلدا" أيضا في وقت سابق اعتقل "محمد البقاعي الملقب بـ "أبو رسلان" الذي كان يشغل نائب رئيس المجلس المحلي لبلدة يلدا، كما أفرج عن القيادي السابق في جيش الأبابيل اللواء الأول قبل أيام "مصطفى القصير" الملقب "أبو راتب القصير" بعد اعتقال دام شهر تقريباً بتهمة تزوير أوراق رسمية بالتعاون معقب معاملات من بلدة يلدا يدعى "سامح الغندور" ومصطفى تنقل في صفوف تشكيلات الجيش الحر بين "شام الرسول" بداية وانتهاءً مع "جيش الابابيل" كقائد كتيبة في اللواء الأول فيه، وكان سيء السمعة عرف باعتدائه على المدنيين مرارا، وانخرط في صفوف الفرقة الرابعة قبل خروج الثوار بأيام وضم العديد من الأشخاص معه تحت رايتهم.
واليوم تناقل ناشطون خبر إعدام الشاب "محمد ابو كحلة" ميدانياً في بلدة يلدا بسبب تهربه من الالتحاق بالخدمة الإلزامية غير مرة.
وفي بلدة "بيت سحم" عثر السكان مؤخراً على عبوتين ناسفتين وضعتا في أوقات متقاربة بجانب منازل قيادين سابقين في الجيش الحر والكتائب الإسلامية من الذين خضعوا للتسوية، بهدف قتلهم أو ارغامهم الخروج من البلدة، الأمر الذي يمنعه ارتباطهم المباشر مع ضباط من الأمن العسكري يمنعون باقي الأجهزة والتشكيلات من اعتقالهم أو الاقتراب منهم.
كما سجل أيضاً العديد من حالات الاعتقال أبرزهم كان "أحمد جعارة" الملقب بـ "أبو عماد بيكا" كان قائد مجموعة لدى "هيئة تحرير الشام" في نقطة المسبح بين بلدة يلدا ومخيم اليرموك، كما تعرض زميله في الذي كان شرعياً في الهيئة "فهد فتيحة" الملقب بـ "أبو صبحي" إلى إطلاق نار من دورية للأمن أدت إلى شلل في يده، كما اعتقل ثلاثة شبان أخرين عرف منهم "أبو عمر هاون" من مجموعة "بلال جعارة" الملقب بـ "أبو نعمان" الذي أثر البقاء في حضن الوطن مع أنه شغل منصب قائد كتيبة في البلدة وتنقل أيضاً بين عدة تشكيلات فمن جيش الإسلام إلى حركة أحرار الشام وجبهة النصرة وانتهاءً بجيش الابابيل، وللمفارقة عند انتسابه للأخير طلبت منه قيادة الجيش الرباط على محور "حي سليخة" لكن دون أن يطلق النار لوجود اتفاق تهدئة مع قوات الأسد في ذلك الوقت، فرفض معللاً رفضه أنه لا يستطيع أن يرى جنود الأسد دون أن يقتلهم.
حتى رئيس لجنة المصالحة مع قوات الأسد في ذات البلدة "عدنان جعارة" الملقب بـ "أبو سامر" لم يسلم من الانتقام رغم جهوده في إعادة البلدة إلى "كنف الدولة السورية" إذ قامت عناصر البلدية ترافقهم عناصر أمنية بهدم أربعة طوابق له في بنائين مختلفين كان قد بناها ضمن فترة سيطرة الثوار على البلدة.
الآن وبعد مرور عام وعلى وقع المعارك الطاحنة التي يخوضها الثوار مع نظام الإجرام وحلفائه بلغ عدد قتلاه أكثر من 300 عنصر وضابط في أقل من شهر وعشرات الجرحى، الكثير منهم ممن خضع لما يسمى بالـ "التسوية أو المصالحة" معه الذين بدأت وسائل التواصل المحسوبة على نظام الأسد أو المقربة منه بنعيهم.
أبرزهم "وائل جمال الدالاتي" الذي تنقل بين العديد من التشكيلات والتنظيمات بداية بجبهة النصرة مروراً بداعش ومن ثم جيش الأبابيل ثم قتيلاً على جبهات الشمال على يد الثوار، الأخير ظهر منذ عدة أشهر في تسجيل مصور مع مجموعة من مقاتلي الفرقة الرابعة في بلدة "يلدا" أثناء تجهزهم للصعود في باصاتها للذهاب إلى جبهات القتال متفاخراً بذلك يقول "الفرقة الرابعة تابعة لـ الله"، فيما جرح أخرين ظهروا معه في ذات الوقت منهم "أبو بكر الحموي" أحد عناصر فصيل "أجناد الشام" في بلدة يلدا سابقاً و"أبو أنس البقاعي" عنصر في جيش الابابيل وأخرين لم يتم التعرف على أسمائهم.
منذ بداية العام 2014 تاريخ بدء المصالحة في جنوب دمشق حظيت لجان "المصالحة" بدعم مباشر من نظام الأسد فرع الدويات على وجه الخصوص لأن المنطقة تضع ضمن قطاعه حسب التقسيمات الإدارية للأفرع الأمنية، وكانت هذه اللجان على تواصل مباشر رئيس الفرع ويقومون بزيارة مكتبه كلما دعت الحاجة لذلك، حتى أنهم أقاموا ولائم عديدة دعوا إليها العديد من مسؤولي نظام الأسد بعد خروج الثوار من بلدات الجنوب الدمشقي.
لجنة المصالحة قامت مؤخراً بزيارة فرع واللقاء مع رئيس الفرع الجديد، وخلال اللحظات الأولى من اللقاء سألهم بتهكم عن سبب الزيارة، فأجابوه أنهم لجنة المصالحة عن جنوب دمشق، ليرد عليهم أن المصالحة قد تمت بالفعل ولم يعد لديهم عمل في هذا المجال "أي يطلب منهم ضمنياً عدم زيارته مرة أخرى".
يتكرر ذات المشهد المأساوي وذات الشعور بالخذلان لدى آلاف المدنيين في الشمال المحرر بعد أن بدأت تتكشف تفاصيل الحملة العسكرية على ريفي حماة وإدلب من قبل النظام وروسيا، وحالة التراخي التي أبدتها الفصائل العسكرية في صد الهجوم في تكرار لمشهد تسليم "شرقي سكة الحديد".
دخول قوات النظام إلى الجنابرة وتل عثمان ومن ثم التقدم السريع باتجاه كفرنبودة، وما تلاها اليوم من هدوء كامل للجبهات وتقدم قوات النظام التدريجي باتجاه قلعة المضيق والكراكات وما يتبعها من تقدم غير معلوم الوجهة، يشير لوجود اتفاق ضمني بين الضامنين أولاً والفصائل المسيطرة على المنطقة.
ويرسم المشهد الحاصل بكل تفاصيله استكمالاً لما تم الاتفاق عليه سراً بين الدول الراعية لمسار أستانة، وفق بازارات السياسة التي عقدوها على حساب المدنيين في الشمال المحرر، وتواطئ الفصائل التي رهنت نفسها وقرارها وكل ما تملك من إمكانيات للخارج، فباتت مسلوبة القرار تنفذ ما يملى عليها دون اعتراض.
تسليم "شرقي سكة الحديد" كان ضربة موجعة وكبيرة للثورة السورية ككل بعد أن مكنت النظام من السيطرة على مساحة أرض تقدر بنص محافظة إدلب في أرياف حماة وإدلب وحلب، ثم خرج بعدها قائد هيئة تحرير الشام ليبرر التسليم وينتقد تقصير الفصائل في المساندة وتقديم الدعم، متجاهلاً سحب السلاح الثقيل والمقرات لاسيما في مطار أبو الظهور قبل بدء المعركة بأسابيع.
وفي ذات الصورة وذات المشهد تتكرر اليوم المأساة، ويتكرر ذات الخذلان الذي عايشته آلاف العائلات من ريف حماة وإدلب الشرقية والتي لاتزال حتى اليوم تعاني مرارة النزوح، لتبدأ رحلة اغتراب جديدة لقاطني ريف حماة الشمالي والغربي وريف إدلب الجنوبي بذات الوسائل وذات المشهد والسيناريو والخذلان .. فمن سيخرج غداً ليلقي الاتهامات بالتسليم ...؟.
من المسؤول اليوم عن هذا التسليم الحاصل، ومن هو الفصيل القادر على الخروج للعلن وكشف المستور وتبيان من باع وسلم وخذل، من المسؤول اليوم عن عذابات ألاف المدنيين المشردين في البراري دون مأوى، ومن المسؤول عن سحب السلاح الثقيل من أبناء تلك المناطق وتركهم عاجزين عن الدفاع عن مناطقهم بأسلحتهم الفردية، وهل ستنتهي عمليات التسليم هنا ولهذا الحد ومامصير باقي المناطق المحررة بعد ذلك وهل سنشهد بغياً جديداً على فصيل آخر بعد هذه المعركة ... كل هذه الأسئلة تحتاج إجابات واضحة وحقيقية وشفافة من أصحاب القرار فإين هم ...؟؟
لعل أصدق تصريح صادر عن حكومة الإنقاذ (الذراع المدني لهيئة تحرير الشام)، على لسان "أحمد لطوف" وزير الداخلية في تلك الحكومة، في مؤتمره الصحفي الذي عقده اليوم، أن أحداً لايمكن أن يقف أمام إرادة الحرية التي أطلقها الشعب السوري من اليوم الأول في ثورته المباركة في 15 آذار 2011، في الوقت الذي تواصل فيه تلك الحكومة الوقوف في وجه إرادة الجماهير الثورية وتبني حراكهم وفرض نفسها كحكومة شرعية عليهم بقوة السلاح والترهيب.
إرادة الحرية وثورة الشعب السوري التي تحدث عنها وزير داخلية الإنقاذ كانت أمام علم مزيف للثورة السورية تبنته تلك الحكومة لنفسها وأهملت رمز الثورة السورية وعلمها وكفن شهدائها، وراية أبناء الحراك الشعبي في الساحات الثورية.
وأرجع وزير الإنقاذ في مؤتمره حول التطورات الأخيرة بمدينة إدلب والقصف الذي طال السجن المركزي ومقرات الإنقاذ والأحياء السكنية في المدينة، القصف الأخير إلى مساعي النظام لعرقلة ما أسماه "النشاط في المحرر خصوصاً بعد الشروع في بناء مؤسسات مدنية قوية ومتينة في مختلف المجالات كالتعليم العالي والتربية والصحة والعدل والإدارة المحلية والداخلية وشؤون المهجرين والاقتصاد"، في الوقت الذي فرضت فيه هذه المؤسسات بقوة السلاح وبسياسية الإقصاء التي تنتهجها.
وعملت حكومة الإنقاذ منذ تأسيسها من قبل هيئة تحرير الشام على تصدير نفسها كمؤسسة مدنية شرعية في المحرر، في وقت حاربت فيه مؤسسات الحكومة السورية المؤقتة والمجالس المحلية الثورية المنتخبة في المدن والبلدات، وحاربت أبناء الثورة وكل مؤسسة مدنية مستقلة لتجعل الجميع تحت عباءتها في وقت تواصل الضغط على المجالس التي رفضت الرضوخ بشتى الوسائل المتبعة لتركيعها وضمها لحكومتها.
حكومة الإنقاذ اليوم وبعد ثماني سنوات من بدء الحراك الشعبي وأقل من عامين على تأسيس تلك الحكومة باتت تتحدث عن حراك الجماهير والثورة، وهي التي قوضت عمل المؤسسات المدنية وتبنت حراك الجماهير بسيف هيئة تحرير الشام، لتغدو حكومة أمر واقع مفروض على الشعب الثائر شاع لها مؤخراً تسميات عديدة من قبل النشطاء أبرها "حكومة الأتاوات"، ووصفت بأنها حكومة غائبة عن الواقع لما تقوم به من فرض أتاوات على المدنيين والفقراء في وقت لم تقدم أي خدمات أو مساعدات لألاف العائلات الهاربة من القصف.
كما أنها عجزت حتى عن حماية مدينة إدلب التي تعتبر مركز ثقلها الأمني من التفجيرات والمفخخات التي قتلت العشرات من المدنيين، ومن عمليات الخطف والابتزاز، في وقت تسلط قواها الأمنية على رقاب المعذبين وتحاول إثبات وجودها كحكومة مدنية شرعية دون انتخابات أو تشاركية ثورية، فكانت كلمة وزير داخليتها اليوم من أصدق ماورد عن تلك الحكومة بأنه فعلاً لن يكون هناك قوة تقف في وجه إرادة الجماهير الثائرة التي تحارب كل من يحاول تشويه صورة الثورة وتبني حراك الجماهير الشعبية.
نحن اليوم بأمس الحاجة من أي وقت مضى لبناء مجتمع مدني، وتأسيس القنوات التي تساهم بنشر ثقافة المشاركة والمساواة لدى أفراد المجتمع، مثل ( الرابطات والنقابات والجمعيات والأحزاب) وأبرز ما يترتب على تلك القنوات هو عدم إكراه أحد على الانخراط في هذه المؤسسات إلا برضاه التام، وغياب تام للأهداف الاقتصادية (الأرباح) لتتميز عن الشركات التي تؤسس من أجل الارباح بين الشركاء.
تلتقي مؤسسات المجتمع المدني حسب علم الاجتماع في الأدوار والوظائف التي تقوم بها، ومن أبرز الوظائف التي تشترك فيها:
1- وظيفة الإدماج و المشاركة: فهذه المؤسسات تساهم في إدماج الأفراد و مشاركتهم.
2- وظيفة التسيير: حيث تمكن من تدريب الأفراد على التسيير الإداري و المالي و السياسي.
3- الوظيفة التعبيرية: تعبير الأفراد عن آرائهم و الدفاع عن مصالحهم.
4ـ التمثيل والقيادة: تفرز هذه القنوات القادة والممثلين الحقيقيين وتقطع الطريق أمام المتسلقين في شتى المجالات.
5ـ تحرير المجتمع: تخفف من القبضة الأمنية المتسلطة على مجموع شرائح المجتمع لما تملكه من قوة ضغط.
جاءت فكرة النقابات لتسهيل وضع الأعضاء المنتسبين إليها، مثل رفع طلبات تتسم بالواقعية إلى رب العمل، وهي تدريب على العمل الجماعي والمنظم حيث يشارك بهذا الجهد عدد كبير من الموظفين والعمال.
وقد جاء حق وحرية تأسيس النقابات والانتماء النقابي بعد تدافع قوي، وصراع مرير خاضته الطبقة العاملة منذ فترة غير يسيرة.
جاءت لتصمد وتقاوم الرأسمالية الصاعدة، التي شقت طريقها بصرامة ولم تكن تعرف الرحمة، وحققت أرباحها من عرق جبين العامل.
ونحن اليوم بحاجة للانطلاق في هذا المسار للتدريب على هذه الآلية، والوقوف في وجه المتسلطين والمتسلقين والأمنيين الذين يتصدرون منابر الثورة قهراً لغايات شخصية وانتهازية، والغريب أن معظمهم لا تعلم عنهم الجماهير أي شيء ولم تراها إلا متصدرة على شاشات ومنابر الثورة.
قبل الخوض في هذا الباب لابد من استعراض ثلاث حوادث تضيء دربنا وتقطع ألسنة الغلاة وهي:
الأولى: لما مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم مرض الموت، قدم أبا بكر ليصلي بالناس رغم أن في القوم من هو أقرأ منه ولم يأمر أحداً ليرأسهم رغم تأييده بالوحي والفراغ الذي سيحدث بعد انتقال الرسول إلى الرفيق الأعلى.
الثانية: بعد وفاته عليه الصلاة والسلام، وبعد انتقال مسألة الإمامة إلى سقيفة بني ساعدة، قال عمر رأيه وأوضح علة اجتهاده بتقديم أبي بكر فقال: (لا نؤخر من قدمه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ألا نرضى لدنيانا من ارتضاه لديننا؟ ).
والغريب أن عمر بوب مسألة الخلافة والإمامة وصنفها أنها من أمور الدنيا وليس من مسائل الدين والأغرب أنه لم يخالفه أحد من الصحابة بهذا القول بل تابعه الجميع في البيعة.
الثالثة: تبعه الفقهاء على مر العصور وجعلوا الخلافة باب من أبواب الفقه وليس العقيدة كما يحاول السلفية تقديمها لأتباعهم وروى أيضاً بإسناده إلى عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: (كنت بين يدي أبي جالساً ذات يوم فجاءت طائفة من الكرخية فذكروا خلافة أبي بكر وخلافة عمر وخلافة عثمان وذكروا خلافة علي بن أبي طالب فزادوا وأطالوا، فرفع أبي رأسه إليهم فقال: يا هؤلاء، قد أكثرتم القول في علي والخلافة إن الخلافة لم تزين علياً بل علي زينها.
مما تقدم نستنبط السبب الذي جعل الفقهاء على مر العصور في صف واحد، رغم اختلافهم في الكثير من المسائل، ولم نشهد صراعا فقهياً دامياً كما نشهده اليوم من معارك عبثية بين أبناء المدارس الفكرية تزهق أرواح الشباب من أجل وهم مستحدث، وكان الأولى بهم أن يجدوا مثل سقيفة بني ساعدة يجتمعوا فيها ويحلو فيها أمور دنياهم.