في طريق الانتقال إلى هيكلة الدولة؛ لابد للناشطين من تجاوز الأنشطة غير التقليدية من مظاهرات واحتجاجات ـالتي يؤدي معظمها للفوضى والتخريب- إلى الأنشطة التقليدية، مثل الاشتراك في توعية وتعبئة الجماهير عن طريق الندوات، وتنظيم المؤتمرات الحقيقية، ثم البدء بتشكيل الأحزاب والنقابات والجمعيات، والسعي لتنظيم جماعات الضغط والمصالح المتخلفة (العمالية- المهنية - الإعلامية-…...) التي ينتج عنها الترشيح وتقلد المناصب العامة وتمثيل حقيقي يتجاوز الأسلوب الأمني والوصاية في تعيين ممثلين عن الثورة السورية.
سيطرت الفوضى على آلية التعيين في هياكل الثورة السورية ومؤسساتها منذ اندلاعها حتى اليوم، مما دلس على الناس حقيقة أولئك الأشخاص المعينين بطفرة أو مصادفة، وطرح حولهم الشكوك والعديد من الأسئلة:
هل هم مخلصون متطوعون دفعتهم معاناتهم؟
أم أنهم أصحاب قضية عادلة؟
أم ندبهم فصيل عسكري ليشاركوا قائده بالهدف والمصير؟
أم هم مجرد عملاء تم تعيينهم لحرف مسار الثورة؟
أم ليسوا إلا مرتزقة لا هم لهم إلا النوم في الفنادق وجمع الهبات وبيع المواقف في المؤتمرات؟
ومهما تكن الإجابة فإن الآلية عبثية، تجعل المعين ضعيف الشخصية، مسلوب الإرادة لأنه خرج طفرة (صدفة )، وليس له ما يتكئ عليه من مجلس استشاري يساعده في اتخاذ القرار، ولا قاعدة شعبية منظمة تدافع عن وجوده في حال تم تحييده لمواقفه النبيلة، ويتم اختيار بديل عنه بنفس الرسالة وذات الأهداف، و للوصول إلى هذه المرحلة لا بد من المرور بعدة مواقف تنظيمية جماهيرية أو شعبية تشبه الأحزاب و النقابات والجمعيات من أجل الوصول إلى ممثلين حقيقيين عن أصحاب القضية لا دمى متحركة.
لا ننكر ظهور العديد من التشكيلات والهيئات في الثورة، إلا أنها لم ترتقِ ولم تستطع النهوض وتحقيق الغاية السياسية منها، ورغم انتشار المجالس المحلية إلا أن تركيزها على الجانب الخدمي ساهم في استمرارها من جهة، وحيدها من جهة أخرى، وكان من الأفضل عزلها عن التجاذبات السياسية في المنطقة المحررة والالتفات إلى جوانب أخرى مثل الأحزاب والنقابات والجمعيات.
وتعرف الجمعية بأنها: اتفاق لتحقيق تعاون مستمر بين شخصين أو عدة اشخاص، لاستخدام معلوماتهم أو نشاطهم لغاية غير توزيع الارباح فيما بينهم.
بينما الحزب السياسي يعني: تنظيم دائم يتمتع بالشخصية المعنوية، ويُؤسس بمقتضى اتفاق بين أشخاص طبيعيين، يتمتعون بحقوقهم المدنية والسياسية ويتقاسمون نفس المبادئ، بقصد المشاركة في تدبير الشؤون العمومية لغاية غير توزيع الأرباح.
أما النقابة: هي جمعية تشكل لأغراض المفاوضة الجماعية أو المساومة الجماعية، بشأن شروط الاستخدام و رعاية مصالح أعضائها الاقتصادية والاجتماعية عن طريق الضغط على الحكومات والهيئات التشريعية، والالتجاء إلى العمل السياسي في بعض الحالات.
وكما استطاعت المجالس المحلية أن تشق طريقها لابد للناشطين من تنظيم صفوفهم للوصول إلى غاياتهم وأهدافهم وإلا فإن أعمالهم لن تتجاوز غرف الوتس ووسائل التواصل الاجتماعي.
فشل الغرب باستمالة الشعوب المسلمة وصبغها بالديمقراطية الراديكالية لتطويع المنطقة العربية وتدجين شعوبها، فما هي الخطة البديلة؟
بعيدا عن الاستلاب المعرفي والانبهار بالحضارة الغربية، وبدون الارتهان لنظرية المؤامرة وتحويلها إلى كابوس يقيد حرية الأفكار، محاولاً أن أكون حرا غير منصاع لأجندة أي نظام عربي أو غربي، أحاول سرد رؤيتي الخاصة عن أسباب تفجر الربيع العربي، أكتبها من داخل المنطقة السورية المحررة من كل الأنظمة العالمية حتى هذه اللحظة.
يحضرني في البداية، ما قالته كونداليزا رايس لدى سؤالها: ماذا ستفعل في حال تسلمها حقيبة الوزارة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية عام ٢٠٠٥م ؟. فأجابت بوضوح في الكونجرس الأمريكي (انتهت صلاحية حلفائنا في الشرق الأوسط واستهلكوا تماماً، ولا بد من استبدالهم بحلفاء جدد؛ تعتمد عليهم الولايات المتحدة الأمريكية).
لعل هذا القول يختصر العلاقة بين النظام العالمي والأنظمة العربية الوظيفية المستبدة، والتي فرضت على البلاد العربية والشرق الأوسط بعد سايكس بيكو وتبادل الأدوار بين الاتحاد السوفيتي من جهة ثم بريطانيا وفرنسا من جهة أخرى وانتهاء بدخول اللاعب الأمريكي الخشن إلى اللعبة مع إسرائيل الطفل المدلل لكل من سبق.
فشل النظام العالمي في تأسيس أنظمة ديمقراطية ليبرالية في المنطقة العربية والشرق الأوسط على غرار المناطق التي ينتشر فيها الإلحاد والمسيحية وباقي الديانات، وذلك بسبب انتشار الثقافة الإسلامية المعادية لها في المجتمعات العربية، هذا ما دعا الغرب لاعتماد أنظمة ترفع شعارات قومية لقمع من كان ولاؤه للدين، ويعتمد الحاكمية لله، ومفهوم الأمة متجذر في صميم فكره وعقيدته.
كانت قبل الربيع العربي تلك الأنظمة الاستبدادية تؤدي وظيفتها على أكمل وجه مع ما يقدمه لهم النظام العالمي من دعم وغطاء أمني، نظراً لاتساع الشرخ بين الحاكم والمحكوم، و نتيجة للانفجار السكاني، وانتشار البطالة والفقر، وتفشي الفساد والاستبداد في العالم الإسلامي عامة والعربي خاصة، إلا أن إحكام القبضة الأمنية مع الاحتقان الشعبي سيولد الانفجار لا محالة وخاصة مع فشل تلك الأنظمة في نشر العلمانية والليبرالية في المجتمعات المسلمة الحاقدة على الغرب، وكل ما يقدمه من مشاريع تنموية، حتى أنه لا يزال العلمانيون والملحدون والليبراليون العرب يعيشون في عزلة شعبية حتى اللحظة، وتؤخذ اطروحاتهم للتندر والاستهزاء، ومن يلتف حولهم لقربهم من مراكز دعم المشاريع في المناطق المحررة يتركهم فور الانتهاء من العمل.
يراقب الغرب ما يحدث في المنطقة وقد نصب مراكز أبحاث متخصصة غنية بالمفكرين الاستراتيجيين والقادة السياسيين مع الاهتمام بما تقدمه من أبحاث عن العالم الإسلامي، لضمان استمرار التبعية وإحكام السيطرة واستيعاب أي انفجار محتمل لا بد من إعداد الخطط الوقائية لتجنب الحرب التي لن يتوانوا عن اللجوء إليها من قبل صناع القرار في حال استنفاذ الطرق السلمية كما حدث في الربيع العربي.
لم تأت الطائفية من فراغ، ولا بد منها لتقسيم الشرق الأوسط إلى دويلات أثنية وطائفية ومذهبية، تحكم القبضة الغربية على منطقة غنية بالثروات، ويصعب ترويض سكانها، فلا بد من تفتيتها إلى كانتونات، إرضاء لإسرائيل الحليف الاستراتيجي المؤثر في المنطقة، وهذا ما كرس له المستشرق برنارد لويس في أبحاثه، ويعد لويس مهندس تقسيم الشرق الأوسط، وهو يهودي من أصل بريطاني صاحب المقال: (جذور الغضب الإسلامي).
قال عنه السياسي الأمريكي ريتشارد بيرل: "إن برنارد لويس كان أكثر المثقفين تأثيرا فيما يتعلق بإدارة النزاع بين الإسلام الراديكالي والغرب، وكان هنري كيسنجر يرجع له".
يعد برنارد صاحب أخطر مشروع في هذا القرن لتفتيت العالم العربي والإسلامي من باكستان إلى المغرب، والذي نشرته مجلة وزارة الدفاع الأمريكية في مقابلة أجرتها وكالة الإعلام مع "لويس" في 20/5/2005م قال الآتي بالنص: "إن العرب والمسلمين قوم فاسدون مفسدون فوضويون، لا يمكن تحضرهم، وإذا تُرِكوا لأنفسهم! فسوف يفاجئون العالم المتحضر بموجات بشرية إرهابية تدمِّر الحضارات، وتقوِّض المجتمعات، ولذلك فإن الحلَّ السليم للتعامل معهم هو إعادة احتلالهم واستعمارهم، وتدمير ثقافتهم الدينية وتطبيقاتها الاجتماعية، وفي حال قيام أمريكا بهذا الدور فإن عليها أن تستفيد من التجربة البريطانية والفرنسية في استعمار المنطقة؛ لتجنُّب الأخطاء والمواقف السلبية التي اقترفتها الدولتان، إنه من الضروري إعادة تقسيم الأقطار العربية والإسلامية".
وقال أيضا إنه من الضروري إعادة تقسيم الأقطار العربية والإسلامية إلى وحدات عشائرية وطائفية، ولا داعي لمراعاة خواطرهم أو التأثر بانفعالاتهم وردود الأفعال عندهم، ويجب أن يكون شعار أمريكا في ذلك، إما أن نضعهم تحت سيادتنا، أو ندعهم ليدمروا حضارتنا، ولا مانع عند إعادة احتلالهم أن تكون مهمتنا المعلنة هي تدريب شعوب المنطقة على الحياة الديمقراطية، وخلال هذا الاستعمار الجديد لا مانع أن تقدم أمريكا بالضغط على قيادتهم الإسلامية -دون مجاملة ولا لين ولا هوادة- ليخلصوا شعوبهم من المعتقدات الإسلامية الفاسدة، ولذلك يجب تضييق الخناق على هذه الشعوب ومحاصرتها، واستثمار التناقضات العرقية، والعصبيات القبلية والطائفية فيها، قبل أن تغزو أمريكا وأوروبا لتدمر الحضارة فيها".
مما ورد نتبين حقيقة الصراع الإسلامي الغربي، ويبدو أن ما صنعته أمريكا في العراق من احتلال وتقسيم كان له دوافع وأسباب ضمن مخطط معلن لتفتيت العالم الإسلامي وتجزئته، وتحويل خارطة المنطقة إلى فسيفساء عرقية واثنية، تبعه مشروع تقسيم السودان ولا أظن أن سوريا ستخرج من الحرب الطائفية المستعرة دون تقسيم.
ورغم نجاح الخطة إلا أنه اعتراف ضمني بفشل الغرب بسلخ المسلمين عن دينهم، ولم يعتنقوا المسيحية، ولا يزال الخوف لدى الغرب من استيقاظهم رغم ضعفهم وإعادة الكرة على الغرب، فكل بقعة من البلاد الإسلامية مرشحة لأن تكون شعب أبي طالب، ولعل فئة صغيرة ربطت بطنها من الجوع تبعث الأمة وتعيد هيبتها، وتوقظ العالم الإسلامي لتبعث الحضارة الإنسانية الحقيقية من جديد.
تبقى الخلافات في المسائل الشرعية صحية؛ ما لم تتجاوز الكتب الفقهية وحلقات التعليم في المساجد وتسمى خلافات مذهبية كما هو الحال في المذاهب الأربعة، فإن تجاوزت تلك الخلافات الكتب الفقهية إلى كتب العقيدة، وتجاوزت حلقات التعليم إلى الشارع وساحات المعارك فهنا تقع الكارثة وهذا من أكبر أسباب الشقاق بين الفصائل المسماة بالإسلامية وصراعها على السلطة.
كما إن التاريخ الإسلامي القديم والمعاصر فيه الكثير من المراجعات الفقهية، لكن هذه المراجعات لم تكن في مسائل أدت لقتلى بين المذاهب الفقهية المتصارعة كما يتحدث اليوم، وكان المؤرخ الناقل عنهم مراجعاتهم ينقل الروايتين المتناقضتين المنقولة عن الباحث نفسه قبل المراجعة وبعدها دون حرج والكثير من العلماء يعلنون تراجعهم على الملأ رافعي الرأس ويستدلون على صحة رأيهم الثاني بالأدلة والبراهين، وهكذا أقام الحجة على نفسه، ومنهم من كان يخلع ثوبه في المسجد أو في السوق، ويقول ها أنا انسلخ مما كنت أعتقد كما انسلخ من ثوبي هذا ويرميه كناية عن التغيير والانسلاخ من المعتقد القديم.
لكننا اليوم نشهد خلافات فقهية أو سياسية تؤدي لمعارك فصائلية يقتل فيها خيرة شباب الإسلام، ثم يتراجع الفصيل دون أن يذكر شيئا أمام أتباعه أو عائلاتهم التي خسرت أولادها في تلك المعارك العبثية الضالة.
ولو أن لأولئك القادة أهداف سامية لدفعتهم الأخلاق لإتخاذ موقف تاريخي في حياتهم، وبينوا لماذا انسلخوا من معتقداتهم وما كانوا عليه وعادوا لجادة الصواب ولتبرؤوا منها على العلن، بل أمام أتباعهم مقدمين الخوف من الله على خوفهم من الرأي العام ونظرة الأتباع المقدسة لهم.
نشهد اليوم بعض الفصائل تنقلب على نفسها وتراجع أحكامها الخاطئة على استحياء أو تفاوض خصومها في الأمس ومن حرمت التعامل معهم من تحت الطاولة، تاركة أتباعها رهينة أحكام قديمة خاطئة، قد يعيش ويموت العنصر التابع لهم وهو يعتقد أنه على الحق الذي لا يجوز الحيد عنه، أو لربما يقاتل ثم يقتل من أجله، بينما القائد والشرعي لتلك الفصائل يراجع نفسه ويبيح ما كان محظوراً على غيره، بل قاتل في الأمس القريب من كان يحمل هذا المعتقد، وأكبر دليل على تلك المراجعات هي العلاقة بين الثورة والأتراك، التي بدأها الجيش الحر منذ اندلاع الثورة، حيث إهتم بتلك الروابط من منطلق التحالف الاستراتيجي الذي لا بد للثورة حتى تصل إلى أهدافها.
تتقلب بعض الفصائل تارة تحرم التعامل مع الأتراك وتصدر بيانات تدعم رأيها بالأدلة وتارة تبيحها مع التحفظ وتارة تبيحها على الإطلاق أو تنفذ أجندتها من خلف الكواليس وهي تكسوها الكسوة الدينية وتستدل بالأدلة والحجج الشرعية على صوابها.
إذاً أين كانت تلك القواعد الشرعية والنصوص عندما قاتلت تلك الفصائل منافسيها من الجيش الحر الذي سبقها بإقامة تحالفات مع الأتراك؟ .... أم كان ذلك القتال من أجل السيطرة والسلطة لا أكثر؟
لا يخفى على أحد أن الشمال السوري بات مركز تجمع كبير لجل فصائل المعارضة الرافضة للتسوية مع النظام إضافة للفصائل المحلية في الشمال، والتي تعددت راياتها ومشاريعها بفعل الداعمين الذين استثمروا هذه الفصائل لأجنداتهم ثم تركوها تواجه مصيرها اليوم.
اجتماعات عدة عقدت في تركيا قبل أشهر بعد دخول القوات التركية لإدلب بهدف حمايتها من روسيا والنظام وفق اتفاق خفض التصعيد، وكانت مطالب الجانب التركي لجميع قادة الفصائل بضرورة التوحد تحت قيادة واحدة ليسهل التعامل معها وتنظيم وضع المنطقة مدنياً وعسكرياً، ولكن جميع المحاولات ورغم كل الضغوطات لم تنجح في التوصل لاتفاق مشترك، وتمسك كل قائد فصيل بموقعه وطالب بموقع قيادي في التشكيل الجديد فباءت كل المحاولات بالفشل ....
لاحقاً لمسنا توحد فصائل الجيش الحر والصقور والزنكي والفيلق والأحرار وعدة مكونات أخرى تحت قيادة "الجبهة الوطنية للتحرير"، واستبشر خيراً في هذا الفصيل الذي جمع جل المكونات العسكرية وبات في موقع موازي لهيئة تحرير الشام، إلا أن الاندماج كان شكلياً وبقي كل فصيل بقيادته ومناطقه وعقليته، الأمر الذي عقد الموقف أكثر في الشمال جراء تضارب المواقف من أي قرار يتعلق بالمنطقة، مع فشل محاولات تشكيل كيان مدني موحد أيضاَ.
نتيجة تعنت الفصائل وبعض المواقف التي تحسب عليها دولياً، يبدو أن الدول المعنية بدعم الفصائل والتي تسعى لتوحيدهم سحبت يدها وتركت كلاً لمصيره، ويبدو أن ورقة حركة الزنكي سقطت بشكل كامل لمواقف عديدة ترتبط بالفصيل لاسيما أنه كان تحت قيادة هيئة تحرير الشام في مرحلة ما وثم انشق عنها ثم واجهها ولكنه لم يستطع كسر الحاجز الذي سببه انضمامه للهيئة مع فصائل الجيش الحر، ولأسباب أخرى فكانت نهايته سريعة خلال أيام على يد الهيئة.
وللأسباب السابقة يرجع تباطؤ قيادة فيلق الشام في مساندة الزنكي وربما يكون ذات الموقف في مساندة أحرار الشام والصقور، مع الحفاظ على موقف غير تصعيدي مع هيئة تحرير الشام التي يبدو أنها ستكون شريكة المرحلة القادمة في الشمال السوري، يتشارك فيها الفيلق والفصائل المنضوية معه في الجبهة الوطنية مع قيادة هيئة تحرير الشام في إدارة المنطقة مدنياً وعسكرياً، كون الهيئة قابلة للتغير وفق ماتتطلبه المرحلة ومايريد اللاعبين خارجياً لتضمن الاستمرار وتضمن الخروج من التصنيف لاحقاً في حال استجابت لكل المطلوب.
"صقور وأحرار الشام" هي الهدف الثاني لهيئة تحرير الشام بعد إنهاء الزنكي، والسياسة المتعبة هي "الإنهاء أو الركوع" والتي ستكون خياراً صعباً أمام الطرفين، فإما مواجهة الهيئة وحيدين وربما تتمكن من إنهائهما على غرار الزنكي، أو التوصل لحل وسطي يضمن "الرضوخ" وقبول الانحلال بشكل كامل ضمن الجبهة الوطنية للتحرير، ولعل الأيام القليلة القادمة توضح إلى ما ستؤول إليه الأمور مع إصرار الطرفين على المواجهة عسكرياً والتي يبدو قد بدأت.
ولعل البعض يوجه الاتهام لدول جارة أو أخرى بعيدة بأنها هي من دفعت الهيئة لإنهاء الفصائل، لكن هذا الكلام لايمكن الأخذ به، ولكن الراجح أن تلك الدول قد عجزت في توحيدها كما أسلفنا سابقاً، وبالتالي رفعت يدها، وهي تراقب مجريات الوضع، فهي تحتاج في النهاية لقيادة حقيقية تجلس معها وتحاولها وتتفق وإياها على إدارة المنطقة، وفق قواعد وأسس هي تحددها لتضمن تجنيب المنطقة ويلات الحرب وتضمن إنهاء كل الحجج الروسية لاجتياحها وفق مرحلة لن تكون قصيرة.
والتعويل اليوم في المرحلة الحرجة في الشمال السوري - وفق متابعين - على مدى قدرة هيئة تحرير الشام على تغيير سياستها وإنهاء التصرفات الاستفزازية التي تقوم بها تجاه الحاضنة الشعبية والتخفيف من سطوة حكومتها الإنقاذ مدنياً، وتقديم شيئ حقيقي يضمن لها تأقلمها مع المناطق الرافضة لها والتي لاتتمتع فيها بأي شعبية كريف حلب الغربي والأتارب ومعرة النعمان ومناطق عديدة هي تحت سيطرتها أصلاً، لتستطيع حقيقة أن تجلس على طاولة التفاوض وتقول أنها تمثل هذه الفئات والمناطق، إضافة لمدى جديتها في التعامل مع المطالب الدولية لتقبلها والتعامل معها مستقبلاً بشكل حقيقي، وإلا ستكون نهايتها على غرار من أنهتهم بيدها ولكن هذه المرة بقرار ومشاركة دولية.
قراءة: أحمد نور
منذ اليوم الأول للحراك الشعبي كان شعار الجماهير ومطلبهم هو التوحد في مواجهة النظام بين المدن والبلدات الثائرة، فخرجت كل المدن السورية نصرة لدرعا، ثم نصرت درعا دمشق ونصرت دمشق حمص وساندت حماة إدلب وخرجت حلب دعماً لحماة دير الزور والرقة وتشتت النظام بين المدن السورية وبدأت تخرج فصائل الجيش السوري الحر تباعاً وتحرر في المناطق السورية حتى وصل النظام لمرحلة عصيبة وحوصر في دمشق والساحل، وبدأ يستنجد الحلفاء .....
ما حصل لاحقاً أن شعار التوحد بات مجرد عبارات نرددها شعبياً وآيات قرآنية ومواعظ نسمعها على ألسنة القادة وشرعييهم، ولكن لم يطبقها أحد، فظهر أكثر من 150 فصيلاً من الجيش الحر براية واحدة وأفكار متضاربة وداعمين متفرقين، وبدأت تظهر الفصائل الأخرى المتشددة والوسطية و وووو ... وبات كل طرف يحارب الآخر ولو استطاع عليه لما تركه.
وهنا بدأت التحالفات لإنهاء الخصوم، وساهمت جميع الفصائل في إنهاء بعضها البعض إما بالمشاركة عسكرياً أو الصمت أو التآمر أو ....... ولنا أمثلة كثيرة من الغوطة وإدلب ودرعا وحلب وحماة على غدر الفصائل بعضها ببعض، وفي كل مرة كان هناك طرف أقوى يتغلب بتحالفاته حتى وصلنا إلى ما وصلنا إليه من تراجع وانكسار يتحملها جميع القادة دون استثناء، كون أي منهم لم يتنازل للأخر لتحقيق التوحد الحقيقي وجعلوا من أنفسهم مطية للدول الغربية والعربية يسمعون وينفذون وعندما تسقط ورقتهم لا يجدون من يساندهم في وجه الفصيل الباغي عليهم.
ألم يحارب الجميع داعش ولكن هناك من ساندها، وحاربت جبهة النصرة وجند الأقصى جبهة ثوار سوريا وهناك من التزم الصمت ومنهم الحياد ومنهم دعم من وراء حجاب، وحاربت جبهة النصرة حزم وصمتت باقي الفصائل، ثم جاء الدور على الفصائل الأخرة فكانت نهاية اللواء السابع جيش المجاهدين والجبهة الشامية وصولاً لانقلاب الهيئة على جند الأقصى، ومن ثم أحرار الشام وآخرها الفصائل الذي انضوى تحت عباءتها وساعدها في تشكيل هيئة تحرير الشام فصيل الزنكي فكانت نهايته على يد حليفه الأسبق، في وقت تهدد باقي الفصائل، واحدة تلو الأخرى كيف لا وهي الفصيل المتغلب على الجميع، ثم ألم تسقط الغوطة بسبب خصام أبرز فصيلين فيها جيش الإسلام وفيلق الرحمن، وكذلك ريف حمص ودرعا ووو..
ولعل ما أوصلنا لمرحلة تغلب تحرير الشام على الجميع سببه تشرذم الفصائل وتعدد داعميها، في وقت كان الجولاني واعياً بما يخطط له وعارف بما ينتهج، لتحقيق مبتغاه في السيطرة الكاملة وإنهاء جميع الخصوم، فاستغل الفصائل واحدة تلو الأخرى باتفاقيات "خفض تصعيد" سرية، فأنهى الأول والتفت للثاني وهكذا حتى تغلب على أبرز حلفائه من داخل هيئة تحرير الشام وأنهاهم وأجبرهم إلا التسليم والرضوخ أو الخروج بدون سلاح لتتم له السيطرة المطلقة.
الثورة اليوم أكلت نفسها، وقتلت بعضها البعض، لأجل بقاء القادة وبقاء المناصب ورفضاَ للتنازل، فكان مصير الجميع واحدا، عندما أكلنا بعضنا وتركنا عدونا الحقيقي ينتظر إنهاء أبناء الثورة أنفسهم، ويتغلب بعضهم على بعض، في وقت تستمر عذابات المدنيين وتشردهم ويصلنا يومياً قوائم بعشرات الأسماء للمتوفين تعذيباً في سجون النظام، ونحن نغفل عنهم ونحارب أنفسنا بأيدينا ونقتل بعضنا البعض وننهي ثورة شعب قدم كل مايملك من دماء وعذاب ينال الحرية ويسقط نظام مستبد، فلم نستطع نصرته ولا حتى نصرة أنفسنا في وجه الباغي الأكبر، بل صنعنا مستبدين جدد بأيدينا.....
لعل مئات الآلاف من المدنيين يراودهم سؤال واحد اليوم، آلا وهو "متى يبغي الجولاني على الأسد" ويعلنها حرباً تسير لها الجيوش التي يسيرها منذ 2014 ضد فصائل الجيش السوري الحر التي أنهى منها أكثر مما استطاع الأسد خلال ثماني سنوات مضت من عمر الثورة، مقدماً للنظام وحلفائه خدمات مجانية بقتل أبناء الثورة وزيادة التشرذم والتفكك بمكونات الثورة وحاضنتها.
أكثر من عامين على سقوط مدينة حلب وتوقف معارك حماة، وهيئة تحرير الشام تزيد من سيطرتها وتملكها على المحرر الذي بات محصوراً في بقعة جغرافية صغيرة في ريف إدلب، سلمت ربع تلك المساحة خلال أيام وتخلت الهيئة عن مناطق واسعة شرقي سكة الحديد، لتعاود في كل مرحلة انهزام تجييش عناصرها ضد فصيل عسكري جديد، وبدعوى وحجج جديدة.
"نصرة الدين وإخراج المعتقلين في السجون، وتحرير القدس، وفتح دمشق" باتت شعارات من الماضي، أكل عليها الزمن وشرب، وبات تحرير المحرر وتملك مقدراته هو السمة البارزة لدى الجولاني وعناصره وشرعييه، ليسفك المزيد من الدماء المعصومة بفتاوى القتل بالرأس، وليسجد أبو "اليقظان" على مشارف دارة عزة التي حررها من أهلها، وكأنه في ساحة سعد الله الجابري.
وفي كل مرة يسوق الجولاني حجة جديدة للتغلب والبغي على الفصائل، ويدعي أن هذا لمصلحة الساحة، وأن الفساد قد استشرى في منطقة الخصم، ليتوى هو محاربته وسفك الدماء وتسيير الجيوش والدبابات، التي صوبت فوهاتها باتجاه المحرر، وتركت النظام آمناً مطمئناً، إلا من بضع عمليات مسكنة يطبل لها ويدعي فيها الانتصار ومقارعة النظام والتنكيل به.
"متى يعلن الجولاني أن الأسد فاسد، وأن هناك فساد أعظم وحرمات تنتهك في سجونه، ويسير الجيوش لنصرة المستضعفين، ويحرر المناطق الخاضعة لسيطرة النظام لا الفصائل، ومتى نرى أبو اليقظان والفرغلي وغيرهم من مشرعي سفك الدم يفتون بحرمة التعامل مع الأسد وتبادل المعابر والبضائع، ومتى يفتون بوجوب إنهاء الأسد وتخليص سوريا من رجسهم وظلمهم وفسادهم الأعظم، ألم يحن الوقت بعد ....!!
تدخل الثورة السورية في عامها الثامن في ظل انتكاسة كبيرة لم يسبق أن سجلها التاريخ، بعد كل ماقدمه الشعب السوري من تضحيات ودماء وعذابات، ليعلن الأسد "انتصاره" على ركام المدن السورية وجثث الأطفال وعذابات السوريين، وفي الطرف المقابل لايزال نزيف الدم السوري ينزف وتتوسع جراحه باقتتالات داخلية أعطت للأسد وحلفائه المزيد من الوقت لمواصلة القتل وساهمت بشكل كبير في إضعاف الفصائل الثورية وإنهاء تأثيرها على الأسد.
منذ اليوم الأول لإعلان تشكيلات الجيش السوري الحر، كان الشعب السوري متفائلاً بقدرة الثوار القلائل مع الضباط والعناصر المنشقين على قهر الأسد والدفاع عنهم في وجه طغيانه، وبنى آماله وحماهم وناصرهم رغم وجود بعض الاختراقات التي شوهت مسيرة الصادقين منهم في سنوات لاحقة، وبالفعل تمكن الجيش الحر الذي تعددت فصائله ومناطق انتشاره من تحرير جل المناطق السورية وبات الأسد محاصراً في الساحل ودمشق يناشد حلفائه للإسراع في إنقاذه.
لم يكن التدخل الإيراني والروسي وحده من قتل الثورة وساهم في تراجعها، بل إن الاقتتال الداخلي هو القاتل الأول لعزيمة الثوار والمدنيين، بعد أن تشتت كلمة أبناء الثورة وباتت الدماء المحرمة تسيل في طرقات المناطق المحررة، فسيرت الأرتال وحشدت الجيوش كل مرة بحجة لإنهاء فصيل من الجيش الحر والسيطرة على مقدراته.
ولعل أول من بدأ البغي والتعدي على الفصائل كان تنظيم داعش، تبعه "الجولاني" قائد جبهة النصرة ليكمل الطريق بالبغي وراء البغي على فصائل الثورة، فأنهى خلال أربع سنوات مضت أكثر من 30 فصيلاً عسكرياً، مقدماً للأسد وروسيا جل المناطق المحررة على طبق من ذهب بعد أن أنهى فصائلها وساهم في إضعاف جاضنتها، ابتداءاً من الجنوب السوري حتى إدلب وحلب وشرقاً حتى دير الزور والرقة، لتتوالى الانسحابات بعدها من المناطق المحررة وتحاصر المعارضة في بقعة جغرافية صغيرة في الشمال السوري اسمها "إدلب".
ورغم كل ماوصل إليه الحال من التراجع والانكسار في الثورة السورية، ورغم أن كل الشعارات التي رفعها الجولاني كانت كلاماً عابراً، ورغم أن آلاف المعتقلين في السجون لم يخرجهم أحد، ورغم أن مئات الآلاف مشردين في خيم مهترئة في البراري ومناطق اللجوء، إلا أن الجولاني لم يشبع من دماء الفصائل الأخرى، ففي كل مرة تبرم الهدن مع النظام ويهدأ القصف عن أجساد المدنيين، يحرك أرتاله لبغي جديد، ويزهق أرواحاً بريئة بفتاوى الفرغلي وأبو اليقظان والشرعيين المتسترين وراء حجاب.
ولطالما نادى الأحرار بضرورة التكاتف والتوحد بين جميع الفصائل لمواجهة مطامع الجولاني في السيطرة وإنهاء أبناء الثورة، إلا أن الشقاقات الداخلية كانت الحاجز الأكبر أمام توافق الجيش الحر والفصائل الأخرى في التوحد لمواجهة البغي، لا بل ساند بعضهم الجولاني في بغيه على الفصائل، فهذا الفصائل يهادن والآخر يصمت والثالث يساند سراً، حتى تمكن الجولاني من الاستئثار بالفصائل واحداً تل الآخر وصل الحال لأبرز المقربين منه ليس أحرار الشام وإنما رفقائه في البغي على الجيش الحر من جند الأقصى وحتى المنضوين في صفوف تحرير الشام ممكن قرروا الانشقاق عنه لينال منهم.
ورغم أنه بات واضحاً رفض التحاكم للشرع لعشرات المرات ورفض دعوات العلماء لحقن الدماء ونداءات المدنيين لعدم اقتحام المناطق المحررة بالدبابات، إلا أن الفصائل حتى اليوم تأخذ دور المتفرج وهو يواصل القتل والإنهاء، وكأن هؤلاء المدنيين في مناطق لاتخضع لسيطرتهم لايعنون لهم بشئ، فيستبيحها الجولاني وينهي فصيلاً كان يقاتل النظام ويسد ثغرات كبيرة، ليعد العدة فيما بعد لإنهاء الفصيل المتفرج وهذا ماحصل لعشرات المرات إلا أن الفصائل لم تتعلم فنال منهم آحادى والدور قادم على من بقي منهم إن لم يردعوه اليوم ويوقفوا استباحة الثورة السورية بشعارات الدين ونصرة المستضعفين.
"استبدال السترات الصفراء بالسترات الواقية من الرصاص" كان اقتراحاً قدمته زميلة إعلامية، على صفحتها في "تويتر"، الأسبوع الماضي، للمضطهدين العرب، المعجبين بالظاهرة الجديدة في فرنسا، ويتمنون تكرارها في بلادهم.
لكن هذه الفكرة، بما انطوت عليه من سخريةٍ شديدة المرارة، تظل، حتى لو جربنا أخذها على محمل الجد، أقلَّ من أن تكفي لحماية المتظاهرين، فما بالك بتحقيق طموحهم إلى تراجع الديكتاتوريات الحاكمة، أو انحنائها، على طريقة الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، أمام غضب المحرومين من حقهم في العيش الكريم.
يلزمهم ارتداء خُوَذٍ حديديةٍ أيضاً، مع السترات الواقية من الرصاص، قال أحد الأصدقاء مُعَقِبَاً، لأن قَنَّاصِي الجيش والمخابرات يُفَضِلُّون التصويب على الرؤوس، أحياناً، لا على الصدور، كما استدرك موضحاً، وقد فاته، أو لعله نسي ما لا تنفع هذه ولا تلك في مواجهته، من وسائل القتل الوحشي التي شهدنا استخدامها على مدى السنوات السبع الفائتة، في مختلف أرجاء أرض العرب.
خذ سورية نموذجاً، وتمعّن في أساليب قتل مليون إنسان على أرضها، منذ رفع شعبها شعارات الحرية والكرامة، لتدرك حاجة المتظاهرين، كذلك، إلى كماماتٍ تقيهم غاز الأسلحة الكيميائية، ثم لتتساءل حائراً، في اللحظة ذاتها، عما إذا كانت البشرية قادرةً على اختراع سُتْرَةٍ تَكُفَّ عن الناس شظايا براميل المتفجرات التي اخترعها جلاوزة الموت في نظام بشار الأسد.
ولك أن تشطح بخيالك، إزاء ما فضحت السترات الفرنسية الصفراء من بؤسنا، لتقترح مثلاً تصميم درع تغطي كامل الجسم، من قمة الرأس إلى أخمص القدمين، حين تتذكّر أن المعتصمين المصريين في ميدان رابعة العدوية تعرّضوا للحرق أحياء عام 2013، على أيدي العسكر المدافعين عن انقلاب عبد الفتاح السيسي، ولقيّ كثيرون منهم، آنذاك، مصير اليمنيين الذين كانوا قد تَفحَّمُوا في ساحة تعز عندما أحرق الـ"بلاطجة" المدافعون عن نظام علي عبد الله صالح خيام الاعتصام عام 2011.
أهمية الدرع المقترحة تتأتى من أنها قد تصلح في المظاهرات والاعتصامات والاحتجاجات المتوقع تعرّضها لإطلاق رصاص القناصة، وإلقاء براميل المتفجرات، وقذف غاز السارين، كما يمكن للمعارض العربي أن يتحوّط بارتدائها كلما اضطر إلى مراجعة إحدى قنصليات بلاده، شريطة أن تكون مصنوعةً من مادة لا تقطع فيها المنشار، وأن يترك مفاتيح أقفالها مع خطيبته، أو زوجته، أو أي من ذويه في الخارج.
ومرة أخرى، هذا اقتراح للعرب، لا لسواهم من شعوب الأرض التي أنجزت صناعة دروعٍ تمنع عنها تغول قادتها منذ عقود طويلة سلفت. دققوا بعض الشيء في السترات الفرنسية الصفراء التي عادة ما يستخدمها السائقون علامة تحذير حين تتعطل سياراتهم، وسترون أنها تتميز بكل ما سبقت الإشارة إليه من مواصفاتٍ ضد الرصاص والنار والغازات، لأنها ترمز ببساطة إلى امتلاك الناس حق أن يصرخوا في وجه الرئيس وحكومته، محذرين من أنهم سيوقفون عجلة المجتمع، إن تعرّضوا للظلم، وهو حق تحميه، وتحمي أصحابه درع عظيمة اخترعتها البشرية، في غفلةٍ منا، وَسَمَّتْهَا الديمقراطية، ثم حيل بيننا وبين أن نستوردها في حقبة تاريخية مظلمة، كان زعماؤنا خلالها، وما زالوا، ينفقون مليارات الدولارات على استيراد الأسلحة المُكَرَسَة لقتلنا إن حاولنا التنفس.
لم يتراجع ماكرون، والحال هذه، أمام السترات الصفراء، ويعتذر، لأنه يتميز أخلاقياً على الأسد أو السيسي أو محمد بن سلمان، وإنما لأن في فرنسا نظاماً مؤسسياً ديمقراطياً يحاسبه إن أراق نقطة دم فرنسية. أوليس هو القائل إن نظيره السوري "لا يقتل الفرنسيين" في كلماتٍ عبرت عن استهتار فاضح بالمذابح التي ارتكبها الأخير ضد شعبه، وما كنا نحتاج سماعها كي نكتشف أننا جميعاً، ومهما ارتدينا من أنواع السترات، لسنا سوى أولئك الفتية الذين خلعوا قمصانهم في مدينة بانياس السورية عام 2011 وتقدموا نحو دبابات جيشهم، عراة الصدور، ليثبتوا سلمية حراكهم، فانهال عليهم الرصاص.
لايخفى على أحد مايتعرض له النشطاء الإعلاميين عامة ورائد الفارس خاصة من ضغوطات كبيرة منذ سنوات عدة على يد بعض المكونات العسكرية التي أبت إلا أن تحارب كل كلمة حرة وكمل قلم لايكون في صفها، بل ينتقد تصرفاتها ويعمل لخدمة أبناء الحراك الثوري لأجل الثورة والحرية والتحرر من القيود التي أوجدها النظام طيلة العقود الماضية، لتنال هذه الأيادي الآثمة من تلك الأقلام وتقيدها بالقتل والاعتقال أو الملاحقة الأمنية.
اغتيال "رائد الفارس وحمود جنيد" اليوم في كفرنبل عروس الثورة هي رسالة واضحة لكل النشطاء الإعلاميين في المناطق المحررة، أن مصيركم إحدى ثلاث إما الرضوخ أو الاعتقال أو الاغتيال .... يحاولون إسكات صوت الحق والكلمة الحرة كما فعل النظام ولكن دماء الأحرار لن تزيد الثورة وكلمتها وأقلامها إلا توقداً واشتعالاً.
كيف يمكن لعاقل أن يصدق اليوم أن ناشطين من أبرز نشطاء الحراك الثوري يقتلان برصاص ملثمين وسط النهار وفي منطقة مدنية مكتظة بالسكان كمدينة كفرنبل وأمام الأشهاد، دون أن يكون للفصائل المسيطرة على المدينة والتي تفرض قبضتها الأمنية أي يد في مقتلهما.
وكيف يمكن لعاقل أن ينفي تورط البعض في قتلهما وهؤلاء هم من لاحقهم واعتقلهم وقيد عملهم وحاربهم لسنوات طويلة، وحاول أسكات صوتهم بوسائل عدة، حتى وصل لمرحلة اليأس بعد الترهيب والتهديد والتوعد، لينال منهما برصاص غادر وينهي مسيرتهما التي قدماها طيلة السنوات الماضية في خدمة الحراك الشعبي.
إسكات صوت الحق اليوم سمة رائجة في الشمال المحرر، فرغم كل ماعاناه العمل الإعلامي من ضغوطات وملاحقات من قبل النظام وأجهزته الأمنية، إلا أن هناك البعض يصر على مواصلة هذه السياسية وقتل الكلمة الحرة وتجريد الأحرار من كل سلاح ولو بكلمة او قلم يحارب ممارساتهم بحق شعب قدم الدماء وكل مايملك لينال الحرية والتحرر من القيود.
اغتيال رائد الفارس ومن قبله ثلة من النشطاء الإعلامية، وتغييب الناشط الأبرز الآخر من مدينة كفرنبل "ياسر السليم" في سجون الظلام، ماهو إلا قتل واستهداف واضح للثورة السورية وأبناء الحراك الشعبي، ولايمكن لأحد اليوم أن يصدق أن هذه الجهات لم تتورط بدماء رائد ورفيقه مهما حاولت المراوغة والتملص من الجريمة التي ستلاحق مرتكبيها ولو بعد حين.
تنتاب المتابع لتصرفات "هيئة تحرير الشام" ومؤسساتها المدنية المصطنعة حالة من الذهول للوهلة الأولى من سلسلة التغيرات التي تنتهجها تحرير الشام بشكل متتابع لتهدم كل الأفكار والشعارات التي رفعتها وتعود لتتبنى ما حاربته وسفكت لأجله الدماء وأنهت بموجبه فصائل كانت تقاتل النظام بتهم العمالة والعلمانية والتعامل مع الخارج.
التغيرات التي طرأت على مكون "جبهة النصرة" منذ عام 2012 حتى 2018 وتعدد التسميات التي أطلقتها على نفسها مع تعدد الرايات، في الوقت الذي استمرت فيه ذات التصرفات في محاربة فصائل الحر وكل من يرفض الخضوع لها، فنالت من 30 فصيلاً آخرهم أحرار الشام والتي كانت أقرب الفصائل توجها لها في مراحل عديدة من عمر الثورة، هذه التغيرات مع استمرار ذات التصرفات خلقت فجوة كبيرة بينها وبين الحاضنة الشعبية التي تراجعت عن تأييدها لفترات عديدة إبان أوج قوتها والمعارك التي أثبتت فعلياً أنها الأقوى فيها.
ولعل الشعارات التي أطلقتها تحرير الشام في كثير من الأحيان والأسباب التي روجت لها لإنهاء فصائل كثيرة كانت في تلك المرحلة محرمة ومن الكبائر، باتت هي اليوم من تمارسها وتنتهجها بعد أن ملك كل القرار العسكري في بقعة جغرافية كبيرة في إدلب وحماة وحلب واللاذقية، أيضا الجانب المدني الذي عملت على التفرد فيه وإقصاء الجميع فيه من مؤسسات مدنية تتبع للحكومة المؤقتة أو غيرها.
يبرر أنصار تحرير الشام هذا الانقلاب على الذات والشعارات التي أطلقتها سابقاً بأنها لضرورة المرحلة، مع ملاحظة تغير التوجه بشكل كبير للهيئة في الخطاب السياسي وفي الخطاب الداخلي تجاه الثورة والثوار واعتبار نفسها جزء من الثورة السورية وصل الأمر لرفع أنصارها علم الثورة السورية عبر حساباتهم وكثير من المواضع، بعد أن كان علماً علمانياً محارباً سفكت دماء لأجل رفعه.
اتجهت تحرير الشام بعد إنهاء الأحرار في تموز 2017، لخط سياسة وأسلوب جديد من الالتفاف بحسب البعض والسبب أنها أدركت نفسها باتت في مواجهة حتمية مع كل العالم وأن النهاية اقتربت، لم تنفعها كل التحولات التي قامت بها في شكلها واسمها وضم فصائل أخرى لها، كونها لم تستطع كبح جماح التصرفات والممارسات التي أوصلتها لهذا الحد من المواجهة.
هذا الاتجاه بعد إنهاء الأحرار كان كمحاولة التفاف على العالم والمجتمع السوري والثورة أيضاَ من خلال بناء كيان مدني كإدارة مدنية تطور لاحقاً لحكومة إنقاذ تحركها هي بشكل مباشر من غرف مظلمة، واختارت لنفسها شخصيات كواجهة مدنية تدير حكومة مدنية، ملكتها كل المؤسسات وكل ماهو في المحرر.
هذه التحولات الكبيرة التي تطال بنية تحرير الشام العسكرية، ترسم التحولات بداية تحول كبير لتحرير الشام بعد سلسلة تحولات سبقتها مع استمرار نفس الممارسات، فهل تكون هذه المرحلة بداية خلع البدلة العسكرية وتسلط القبضة الأمنية لتحرير الشام، تغيير كسابقه لمجرد تغيير البدلة العسكرية بالطقم المدني مع الحفاظ على ذالت القالب والتوجه والفكر .....!؟
ترسم التطورات الحالية وتبني علم معدل للثورة السورية تحدياً كبيراً في مدى نجاح هذه التجربة لتحرير الشام ومدى قدرتها على تعويمها والهدف أو الغاية منها وهل هي لطمس هوية الثورة السورية انطلاقاً من علمها ورايتها التي لم تغب عن أي مظاهرة للحراك الشعبي، ام أنها عودة للماضي وتغليب للمصلحة الذاتية وتقرب من الحراك لتبني توجهاته في محاولة التفاف جديدة تضمن لنفسها البقاء.
لم يُصلح موفد منظمة الأمم المتحدة إلى سوريا ستيفان دي ميستورا ما أفسدته “اللعبة الكبرى” وتبعاتها، وقرر أخيرا، بعد مراوحة في المكان لمدة أربع سنوات، طيّ الصفحة والتخلي عن أداء مهمته. ولم ينجح رهانه على التحدي وتركيب التسويات في هذا الملف المعقد، حيث فشل من قبلُ مبعوثان رفيعان من طراز كوفي عنان والأخضر الإبراهيمي.
يتعدى التقييم الأشخاص وكفاءاتهم وقدراتهم لأنه من دون حد أدنى من الوفاق الدولي والإقليمي لا يمكن إنجاح الجهود لإنهاء الصراعات المسلحة والتوصل إلى تسوية واقعية وعادلة تستعيد وحدة سوريا وتحفظ كيانها ودولتها. ولا يمكن اختصار الفشل بعجز الأمم المتحدة لأن الفشل الأممي ما هو إلا ترجمة لمواقف الكبار وطموحات القوى الإقليمية ولموازين قوى مختلة، ولأن الوظيفة الجيوسياسية للحروب السورية لن تُستنفد قبل إعادة تركيب الإقليم ورسم صورته المستقبلية.
يغادر دي ميستورا منصبه أواخر شهر نوفمبر القادم، ويبدو حصاد عمله هزيلا ومحدودا ودليلا إضافيا على مآزق العمل الدبلوماسي المتعدد الأطراف وعدم احترام المبادئ النظرية لميثاق الأمم المتحدة حول حفظ السلام والحماية الإنسانية، خاصة وأن المرحلة الانتقالية من التخبط والفوضى في النظام الدولي تترك بصماتها على أبرز مسارح النزاع في الشرق الأوسط وسوريا في القلب منها.
بدأت الحكاية الأممية مع ملف الحرب في سوريا، في 23 فبراير 2012، مع تعيين الأمين العام السابق للأمم المتّحدة الراحل كوفي عنان “مبعوثا مشتركا للأمم المتحدة وجامعة الدول العربية للأزمة في سوريا”، لكنه استقال في الثاني من أغسطس من نفس العام بعد بضعة أشهر فقط، وبعد إفشال إعلان المبادئ الذي وضعه ووثيقة جنيف (نهاية يونيو 2012) وحينها كاشف العالم بخلاصته التي لا تزال صالحة حتى يومنا هذا “لقد بذلت قصارى جهدي”، لكن “العسكرة المتزايدة على الأرض والافتقار الواضح للوحدة داخل مجلس الأمن غيّرا بشكل جذري ظروف ممارسة مهامي بشكل فعال”. وأضاف “لم أتلقَّ كل الدعم الذي تستحقه القضية، هناك انقسامات داخل المجتمع الدولي”، مشيرا، ضمنا، إلى ثلاثة قرارات بشأن سوريا منذ بداية الأزمة استخدمت فيها موسكو وبكين حق النقض لوأدها. ومن دون شك لم يكن “الغموض البناء” خير مساعد في الدفع نحو الحل، إذ أن التحدث عن ضرورة الإجماع للتوصل إلى تفاهم على الحكم الانتقالي يعد غموضا غير بنّاء جعل الدبلوماسية هدامة أي غير بناءة وخلاقة في إيجاد المخارج.
بيد أن ترابط تحولات ما بعد 2011 من ليبيا إلى المشرق والاندفاع الغربي أنتجا تشددا من الطرف الآخر حيث استخدمت موسكو 12 مرة حق النقض في الأمم المتحدة لحماية حليفها السوري، وكان ذلك أحد أسباب عدم إيجاد حل أممي.
ولم يكن حظ وزير الخارجية الجزائري الأسبق، الأخضر الإبراهيمي، أفضل من سلفه كوفي عنان، وقد صمد في مهمته من سبتمبر 2012 إلى مايو 2014. وتمكن في بداية 2014 من تنظيم أول مفاوضات مباشرة بين الحكومة والمعارضة في جنيف برعاية الولايات المتحدة وروسيا، لكن المفاوضات تعثرت بسبب رفض دمشق المطلق البحث في مصير بشار الأسد، ونتيجة الانقسام الدولي الحاد. وفضل الإبراهيمي الانسحاب بعد أقل من عامين على الجهود غير المثمرة، واصفا الوضع في سوريا بأنه “صعب جدا، ولكن ليس ميؤوسا منه”، وكانت استقالته بعد إدراكه أن إجراء انتخابات الرئاسة في يونيو 2014 في سوريا، وإعادة الانتخاب المتوقعة لبشار الأسد، يعنيان نهاية جهوده.
في سياق السيطرة الروسية على الملف السوري من خلال لعبة الثنائي جون كيري- سيرجي لافروف، جرى تعيين السويدي- الإيطالي ستيفان دي ميستورا ليواصل عمل المنظمة الدولية في هذا الملف. وكان همه الأكبر استمرار مهمته وتدوير الزوايا. وهذا الارستقراطي المثير للجدل كان يشكو بأنه لم يحظ يوما بدعم دولي حقيقي خلال السنوات الأربع الماضية، ولذا ربما حاول التأقلم مع مواقف الطرف الأقوى في الصراع السوري، خصوصا مواقف روسيا، التي باتت اللاعب الأول في الساحة السورية منذ تدخلها العسكري الواسع في سبتمبر 2015، وحدا ذلك بالكثير من المراقبين واللاعبين لاتهامه باستسهال المساومات والتخلي عن المرجعيات الدولية المنظمة للحل السياسي في سوريا كلما تعرّض لضغوط من الدول الكبرى، خلافا للمبعوثين السابقين.
يمكن القول إن عمل دي ميستورا لم يكن ضحية تضارب المسارات، مع فرض الروس لمسار أستانة منذ 2016، بل بسبب منهجية خاطئة في التعامل مع التفاوض كما يقول أحد الذين تعاملوا معه عن قرب في العامين 2016 و2017: “أخطر ما فعله دي ميستورا منذ بداية عمله أنه جعل مسائل مبدئية لا تستدعي التفاوض (البنود 12/ 13 / 14 في القرار 2254) موضع تفاوض وحيد، وكأنه في إطالة ما سماه مرحلة بناء الثقة التي تسبق التفاوض، يعمل بتوجيه أميركي وروسي لمنح النظام فرصة التفوق العسكري من مطلع 2016 حتى الوصول لمعركة حلب”. ويشهد مفاوض آخر “كانت العلاقة مع الموفد الأممي صراعا مستمرا بسبب تحيزه للنظام وقبوله بأطروحاته”. لكن الأدهى أتى مع تسليمه بالضغط الروسي وشق مسار جديد مع الروس، بذريعة فصل قضية الملف الإنساني عن الملف السياسي، وشكل غطاء لمسار أستانة الذي سهل عمليا الحسم العسكري التدريجي لصالح النظام.
ومن “مآثر” دي ميستورا اختراع أو قبول فكرة منصات المعارضة لتشتيت التمثيل وممارسة الإلهاء المنظم عبر قبول التفسير الروسي للقرار 2254 بوجود منصتي موسكو والقاهرة وغيرهما لاحقا، مما كرس حجم التلاعب الإقليمي والدولي والوصاية الممارسة على كل قرار فيه قدر من الاستقلالية ولو بقدر يسير. وتوصل كل المتابعين للرقصة الدائرة بين جنيف وأستانة وسوتشي وبالطبع لجحيم الحرب من حلب إلى الغوطة والجنوب وإدلب، إلى أن دي ميستورا كان رمز الفشل الأممي والتواطؤ الدولي.
قام دي ميتسورا حسب شهادة أخرى بـ”تمييع القضية عبر توسيع دوائرها وبعثرة شعابها، بذريعة التمثيل ولم يكن جادا أبدا في الوصول إلى حل، واخترع قضية السلال الأربع، وأمضى الفترة كلها يتهرب من مناقشة الموضوع الأساسي (هيئة الحكم الانتقالي) وكان يميل بذلك إلى وجهة نظر النظام من دون مواربة”. بيد أن أسلوب الدبلوماسي المخضرم وتقنياته وقدراته في “الحرب النفسية” لم تكن معينا له ولم ينجح في الأداء بالقياس لشخصية من طراز سيرجي لافروف التي هيمنت على مجريات الملف.
يطوي المبعوث الأممي ستافان دي ميستورا صفحته بزيارة قريبة إلى دمشق لبحث تشكيل لجنة دستورية مكلفة بصياغة الدستور، غدت الخلاصة اليتيمة لسنواته الأربع والنافذة الوحيدة الممكنة اليوم للتقدم في العملية السياسية، وهي، في الأساس، لا تعني الكثير لأن المشكلة ليست في النص الدستوري، بل هي كامنة في بنية النظام الأمني القائم، الذي يطغى على القوانين والدساتير.
من غرائب الثورة السورية أنها حكمت بقدر من الفوضى والعشوائية استحالت إزالته، بدأ مع قضاء الأسدية وأجهزتها على القسم الحديث والمدني من حراكها الذي أطلقها، واستبداله بممثلي قطاعات شعبية تقليدية التفكير والهوية، حظّها من التسييس قليل، وتفتقر إلى خبرة ذات وزن في الشأن العام، مارست دورا رئيسا، إن كان لها ما تصح تسميته "دورا"، هو التكيّف مع الأمر القائم، وتبني ما سمح به من أفكار وممارسات. وقد أضاف مرور الوقت الارتجال إلى العشوائية، بعد تحول الصراع ضد النظام من السلمية إلى العسكرة والتمذهب، تحت ضغط العنف غير المسبوق الذي مارسته الأسدية عليه، وأجبره على حمل السلاح الذي قوّض ما كان قائما من وحدةٍ في صفوفه، وأدخل مرض الانقسام إليها، خصوصا بعد توطّد ظاهرة الفصائلية الكيفية التي خرجت عن جميع الضوابط، وظهور "داعش" وجبهة النصرة.
يتجدّد الحراك السلمي في معظم الشمال السوري، منذ تم التوصل إلى اتفاق روسي تركي بشأن إدلب، حال دون إسقاط المدينة عسكريا، واستعاد الحراكيون برنامج "سورية بدها حرية، والشعب السوري واحد"، الذي تبنّوه في بداية الثورة، ونزل مئات الآلاف منهم، صغارا وكبارا، إلى شوارع القرى والبلدات والمدن، هاتفين للحرية ولوحدة الشعب. بما أن حراك البداية الأولى افتقر إلى الاستمرارية والوحدة والقيادة، وفقد، بعد فترةٍ، قدرته على مواجهة الأسدية وروسيا وإيران، فإنه كان من الضروري وطنيا المرحلة الثانية، أي الحالية، اعتماد خطط ملزمة تجنّب الحراك الانقسامات والمعارك الجانبية، وترفع سويته من خلال توحيده وتنظيمه وتوجيه طاقاته ضد الأسدية وداعميها، وتمسّكه بكل ما طالب الشعب به على امتداد سنوات ثورته من حرّيات وحقوق وإسقاط للاستبداد والطغيان، ورفعه من شعاراتٍ موجهة إلى المجتمع الدولي، تطالب مؤسساته الشرعية ومجالسه الرسمية بتطبيق قراراته التي ليس بينها قرارٌ واحدٌ لا يلبي تطلعاته، وبتشكيل"هيئة الحكم الانتقالية"، وبدء مرحلة الانتقال الديمقراطي، وإصدار دستور وإجراء انتخابات تحت إشرافها، وإدانة جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، وإجراء محاكمات دولية لمن ارتكبوها ضد الآمنين، وإقامة حكم غير طائفي، نص عليه قرار مجلس الأمن 2254، فضلا عن إطلاق سراح المعتقلين، وكشف مصير المغيبين والمختطفين، ومناشدة برلمانات وأحزاب وقادة الرأي في العالم دعم مطالب الثورة وقيمها السامية، وتجريم إرهاب الدولة الأسدي، وأي شكل آخر من الإرهاب، مستوردا كان أم محليا، وممارسة مختلف أنواع الضغوط، وعبر جميع أنواع الاتصالات لإجبار المحتلين، ومرتزقتهم، على الانسحاب الفوري من سورية، وتكليف لجنة وطنية مركزية منتخبة بمأسسة الحراك، ومتابعة ما يتخذ باسم الثورة من مواقف، ويمارس من سياسات، ومحاسبة مخالفي ثوابتها أينما كانت مواقعهم، ومهما كانت وظائفهم، وإلى أية جهة انتموا.
نحن في مرحلةٍ يجب أن تقتصر أولويتنا فيها على تصليب ما يمكن أن يغدو بداية ثانية للثورة، انفجرت قبل نيف وشهر، في ظل وقف القتال والحرية النسبية التي يتيحها. وعلى الرغم من ضغوط تنظيم القاعدة الذي قرّر منع الحراك السلمي، كي لا يستعيد رهان "الحرية لجميع السوريين" الذي عبر عنه بقوة في مظاهراته الأولى الحاشدة، وجعلت جبهة النصرة تبدو على حقيقتها، علقا فاسدا يمتصّ دم الثورة، التخلص منه أحد شروط انتصارها.
قبل تصليب الحراك وتنظيمه وتوحيده على أسسٍ وطنيةٍ جامعة، سيشقّ أي صراع سياسي أو عسكري صفوفه ويخدم أعداءه. هذا ما علمنا إياه الفشل في مرحلة الثورة الأولى. ومن غير الجائز أن نكرّره، ونحن على أعتاب ما نرجو أن يكون مرحلتها الثانية التي لا بديل فيها للانتصار غير هزيمتنا النهائية.