مقالات مقالات رأي بحوث ودراسات كتاب الثورة
٣ أكتوبر ٢٠١٨
النظام السوري وإيران شيء واحد

ثمة بديهيات يفترض ألا تغيب عن أي عربي، أكان في موقع المسؤولية أم لا. من يعتقد أنّ إيران و”حزب الله” شيء، والنظام السوري بكلّ رموزه شيء آخر، إنّما يعيش في عالم آخر… حتّى لا نقول شيئا آخر مرتبطا بكلمة السذاجة.

لعلّ آخر دليل على ذلك إعلان إيران إطلاق صواريخ بعيدة المدى في اتجاه منطقة شرق الفرات السورية وذلك في سياق “الحرب على الإرهاب”. المضحك- المبكي في الموضوع أنّ إيران تلجأ إلى الأسلوب والمنطق نفسيهما المعتمدين من النظام السوري في تبرير حربه على شعبه. بررت إيران إطلاق الصواريخ التي يبدو أنّها حطت قرب مدينة دير الزور، أو داخل إيران نفسها أو في العراق، بأنها تردّ على عملية الأحواز يوم الثاني والعشرين من أيلول – سبتمبر الماضي. يومذاك، هاجم مسلحون العرض العسكري الذي كان يقيمه “الحرس الثوري” في الذكرى الثامنة والثلاثين لاندلاع الحرب العراقية في العام 1980.

مثله مثل النظام السوري، لا يبحث النظام الإيراني عن السبب الحقيقي الذي يجعل “الحرس الثوري”، الذي سقط منه قتلى في الهجوم على العرض العسكري، يتعرّض لمثل هذا الحادث. هناك نظام في حال هروب مستمرّة إلى أمام تفاديا للتعاطي مع الواقع. يقول الواقع إنّ الأحواز منطقة غنية بالنفط فيها أكثرية عربية، وأن النظام القائم في إيران زاد من قمعه للأحوازيين في السنوات الأخيرة. لجأ إلى القمع من منطلق عنصري، قبل أيّ شيء آخر، متجاهلا أن إمارة الأحواز كانت مستقلّة قبل العام 1925 وأن معظم أهلها عرب أقحاح من جهة أخرى.

مثله مثل النظام السوري، يدّعي النظام الإيراني أنه في حرب على “داعش”.. لو كان ذلك صحيحا، لما كانت إيران والنظام السوري لعبا دورا في قيام “داعش” الذي معظم قادته من خرّيجي السجون السورية. لم تكن من مهمّة لـ”داعش”، في يوم من الأيّام، سوى تبرير الحرب التي تشنها إيران على العراقيين، عبر ميليشياتها المنتشرة في داخل العراق، والحرب الأخرى على التي يتولى أمرها النظام السوري والتي تستهدف السوريين. لو لم يكن الأمر كذلك، لماذا لم يدافع النظام عن الدروز السوريين لدى تعرّض السويداء والقرى القريبة منها لإرهاب “داعش” أخيرا؟

بالعودة إلى الموضوع الأساسي، أي العلاقة بين النظام السوري وإيران، لا وجود لأي تمييز بينهما. الفارق الوحيد هو أنّ النظام السوري الذي كان وصيا على لبنان قبل العام 2005، تخلّى عن هذه الوصاية لإيران التي باتت تسرح وتمرح في لبنان، بعدما استطاعت ملء الفراغ الذي نتج عن انسحاب الجيش السوري والأجهزة التابعة له. حدث ذلك إثر ردّ اللبنانيين على اغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه في الرابع عشر من شباط – فبراير 2005. بعد شهر تماما، نزل الشعب اللبناني إلى الشارع وأجبر الجيش السوري التابع للنظام على الانسحاب. كان ذلك في الرابع عشر من آذار – مارس من تلك السنة. سارع “حزب الله” إلى الحلول مكان الوصاية السورية باسم إيران. كانت خطوته الأولى في هذا المجال دخول حكومة نجيب ميقاتي التي تشكلت مباشرة بعد اغتيال رفيق الحريري واضطرار عمر كرامي إلى الاستقالة مع أفراد حكومته. تبين منذ تلك الأيّام أنّ “حزب الله” يحل مكان السوري في لبنان وهو يقضم البلد شيئا فشيئا بعدما نجح كلّيا في تغيير طبيعة المجتمع الشيعي، تمهيدا لتغيير طبيعة لبنان كله بكل طوائفه ومذاهبه ومناطقه.

منذ خلف بشّار الأسد والده في العام 2000، جرت المحاولة العربية بعد الأخرى لإبعاده عن إيران. قليلون فهموا منذ البداية أن ذلك مستحيل. لولا الدعم العربي، والسعودي تحديدا، في السنة 2000، لكانت انهارت الليرة السورية. تبيّن مع الوقت أنّه يوجد بالفعل فارق كبير بين حافظ الأسد وبشّار الأسد. فالأسد الأب عرف كيف يستفيد من إيران وكيف تستفيد إيران منه. كان يستخدم إيران في ابتزاز العرب الآخرين، لكنّ أهميته كانت تكمن في أنّه وضع لها حدودا معيّنة لجهة التعاطي في الشأن السوري الداخلي، مثلما وضع حدودا لكيفية التعاطي مع “حزب الله”. كلّ هذه الحدود زالت مع توريث بشّار الأسد رئاسة الجمهورية في سوريا. هناك إعجاب ليس بعده إعجاب لدى الأسد الابن بـ”حزب الله” الذي لم يتردّد في إنقاذ نظامه مباشرة بعد اندلاع الثورة الشعبية على هذا النظام الأقلوي في آذار – مارس من العام 2011.

استطاع حافظ الأسد اللعب على الورقتين العربية والإيرانية على الرغم من دوره الكبير في دعم إيران في حربها مع العراق بين العامين 1980 و1988. أقنع معمّر القذافي وقتذاك بتزويد إيران صواريخ لقصف المدن العراقية، رافضا أن تأتي الصواريخ التي ستستخدم لقصف بغداد والبصرة من مخازن سورية. كذلك، لعب الأسد الأب دورا في دخول الدفعة الأولى من “الحرس الثوري” الإيراني إلى لبنان، وإلى منطقة بعلبك تحديدا، صيف العام 1982. إضافة إلى ذلك كلّه، لعب النظام السوري في تلك المرحلة دورا كبيرا في إنهاء الوجود العراقي في لبنان، لكنّه ميز نفسه في كلّ وقت عن الإيرانيين. وعندما تجاوز “حزب الله” حدودا معينة عام 1987 أدبته القوات الخاصة السورية على طريقتها، بارتكاب مجزرة ثكنة فتح الله التي كانت مركزا عسكريا لـ”حزب الله” في حي البسطا البيروتي، السنّي أصلا.

لم يعد هذا التمييز أو التمايز عن إيران موجودا لدى النظام السوري في لبنان منذ العام 2000. تكفي قراءة معمّقة في مطالعة الادعاء في جريمة اغتيال رفيق الحريري ورفاقه للتأكد من أنّ الاغتيال كان عملية مشتركة بين النظام السوري وإيران لا أكثر ولا أقل، وأن المنفّذين معروفون، كذلك المحرّضون.

ليس لبنان حاليا سوى “ساحة” تستخدمها إيران لتصفية حسابات مع هذه الدولة العربية أو تلك. في الماضي، استُخدم لبنان في خطف الأجانب للضغط على إيران وفرنسا وبريطانيا خصوصا إبان الحرب العراقية – الإيرانية. كان حافظ الأسد يلعب دور الوسيط في عملية الإفراج عن الأجانب المخطوفين الذين كان يُفرج عليهم في دمشق، وذلك كي يظهر في مظهر اللاعب الإقليمي العاقل العامل على تهدئة الأوضاع في لبنان…

في عهد الأسد الابن لم يعد هناك من يسعى إلى حفظ المظاهر. هناك لعبة واحدة وسؤال واحد. اللعبة هي لعبة تتحكّم بها إيران في سوريا ولبنان. السؤال الوحيد هو هل يمكن للدور الروسي أن يساهم في التفريق بين إيران و”حزب الله” والنظام السوري؟ تصعب الإجابة عن هذا السؤال بكل ما فيه من تعقيدات. ما يبدو أسهل من ذلك بكثير هو العودة إلى الماضي القريب. تقول تجارب هذا الماضي القريب إنّ العلاقة بين النظام السوري وكلّ من إيران و”حزب الله” أعمق بكثير مما يعتقد. يكفي أنّ الوجود الإيراني في سوريا مرتبط إلى حدّ كبير بشخص بشّار الأسد ولا أحد آخر غيره للتأكّد من ذلك…

اقرأ المزيد
٣ أكتوبر ٢٠١٨
معركة الفن.. هل يمكن أن ننتج دراما سورية للثورة؟

طالما نسمع بمصطلح السياسة الشرعية في المناطق المحررة في شمال غرب سورية من قبل التيارات الإسلامية عموماً وهو اصطلاح شرعي يعني إدارة شؤون البلاد بما لم يرد فيه نص حسب المتغيرات ومقتضيات المرحلة وبمعنى آخر قد يكون فهم عدم الثبات والاستجابة بما يناسب متغيرات الواقع بعيداً عن النمطية والتقليدية المعتادة وبذلك تصبح القوانين والأحكام حية ومرنة وملاءمة للواقع وتحقق الحلول لتحديات الزمان المختلفة.

بناء على هذا الفهم فإن السياسة الشرعية قد تكون سياسة أدبية فيما إذا كان حقل الاحتياج هو الآداب والتغيرات التي طرأت على الزمان أو المكان أو الرجال هي تغيرات في الغاية من تطوير النص الأدبي أو الأدوات المستخدمة في بناءه. وكذلك الأمر فإن هذا المنطق يؤدي إلى نقاش السياسة الفنية أو بمعنى آخر تأقلم فن المرحلة القائمة بما يمتلك من أهلية مكنت له من البقاء على قيد الاهتمام والمتابعة من قبل الجمهور وكما هو معلوم من الفن بالضرورة فإن النتاج الفني الذي لا جمهور له يتراجع ويموت سريعاً والفن الذي لا يجيد التأقلم مع المتغيرات ويلبي الحاجات الجديدة فإنه سيفرد إفراد البعير الأجرب.

ومن المدهش بمكان رصد العديد من التجارب والمبادرات الفنية في المناطق المحررة رغم كل التغييرات الجذرية التي وقعت فيها مما يفسر قدرة هذا الفن على الاستجابة لمتطلبات تغير الواقع وبالتالي فيمكننا وصم هذه التجارب الفنية بأنها فنون مرحلة أو فنون تعي فقه المرحلة وتحدياتها. وإنك تلاحظ أن التعديلات والتغييرات التي فرضت نفسها على هذه التجارب قد أصابتها في عمقها وشكلها فأسقطت الكثير من تقاليدها وشجعت على فنون لم تكن منتشرة من ذي قبل كالرسم على الجدران والتنكر وأداء الأدوار والمقتطفات الدرامية القصيرة والاستعراضات الثورية في ساحات المظاهرات واللوحات الجماعية ولافتات الثورة والأداء الجماعي للأناشيد الثورية.

ولتصور نوع المبادرات والتجارب الفنية المميزة في شمال غرب سورية اليوم والشكل الذي وصلت إليه تحت خيمة النزوح وبين ذرات البارود لا بد لنا من دراسة مقارنة لطبيعة وأسباب نمو الفنون المختلفة بين مناطق المعارضة ومناطق النظام في المرحلة الحالية التي تميزت منذ بدايتها بتحطم القامات الفنية التقليدية في مناطق المعارضة أو على الأعم ضمن الحاضنة الشعبية للمعارضة. حيث أن أغلب الفنانين والأدباء السوريين بشكل عام نبتوا في تربة حزب البعث شأنهم بذلك شأن بقية المثقفين والفاعلين في سورية كالمعلمين والضباط والأطباء وغيرهم إلا أن معظمهم لم يأخذ فرصة التطهر والتسامح كحال البقية بسبب طبيعة تسويق منجزهم الفني المعتمد على العرض والاستعراض عبر منابر مرتبطة بشكل قطعي بأجندة النظام المغلقة إلا أمام المداهنين للسلطة الممالئين لها علناً.

مما أدى إلى تحطم كثير من هذه القامات التقليدية بعد عزوف الجمهور عنهم. ولأن مصائب قوم عند قوم فوائد فقد أتاح ذلك فرصة الظهور للمبادرين الجدد أو المقصيين سابقاً الذين حضروا وأحضروا معهم ثورة فنية كاملة في المواقف والاتجاهات والمدارس اختصرت هذه القفزة الفنية مراحل افتراضية طويلة من التدرج نحو تطوير العمل الفني عبر القيادة التقليدية من قبل حراس النمطية والتكرار. فأصبحت مادة الفنان أكثر واقعية وجرأة وغير متقولبة في أشكال جاهزة معدة مسبقاً من قبل أجهزة المخابرات وبحكم حداثة التجربة فلا يوجد لدى الفنانين الجدد قصص نجاح مرتبطة بأشكال فينة تقليدية مما سهل عليهم نفسياً تخطي حاجز التكرار والبحث بكامل الحرية عما هو أكثر صدقاُ وملاءمة في حين لا تزال إلى اليوم المناطق الواقعة في قبضة النظام تعيش قيوداً فنية تحت نمذجة تقليدية مفروضة حرمتها من فرص التطور وجعلتها حبيسة أشكال مطروقة.

ولا يعتبر غياب القيود الرسمية على الفنون في المحرر سبباً وحيداً في تطورها مقارنة بالفنون في مناطق النظام بل تعدته إلى القطيعة التامة على الصعيد الشعبي بين طرفي جدار الحرب فنادراً ما تشاهد معارضاً أو ثائراً اليوم يهتم بأي عمل درامي أو فني يعرض على شاشات قنوات النظام التي شاركت بشكل مباشر في التحريض على قتل الأبرياء. وكذلك الأمر فإن الحاضنة البعثية في الضفة الأخرى مقتنعة أو تقنع نفسها أن كل من ثار ضد النظام هو عميل مستأجر أو إرهابي وبالتالي لا يقبل منه عمل ولا فن وهذه المواقف السياسية الشعبية ألقت بظلالها على الاتصال الفني بين كلا الطرفين وجعلت الفن السوري بشكل عام ينمو في تربتين مختلفتين تماماً تتغذى كل منهما على إيديولوجيا مناهضة للأخرى مما أدى إلى ظهور أنماط مختلفة كلياً أكثر انتماءً للواقع الذي تنتج فيه تستمد أدواتها من الواقع المعاشي كما في نماذج الرسم على الجدران لتكون أدواتها الطلاء البسيط ورمزيتها الصمود والاستمرار فأنطقت الحجارة وحررت الجدران.

هذه المحدودية في وفرة الأدوات الفنية الناتجة عن عزوف الداعمين لمناطق المعارضة عن رفد الفن وتشجعيه وانشغالهم فقط بالسعي لتأمين المساعدات المعيشية جعلت النتاج الفني في المناطق المحررة حبيس القلة فأصبح يقدم فنوناً توجه في أغلبها لمجتمعه المحلي وبالتالي أصبح النتاج الفني ينمو كما النبات إذا غرسته في صندوق تجد شكله يتوقف عند حدود الحيز المتاح له بين جدران ذلك الصندوق وذلك على خلاف الفن المنطلق الذي يصلح للفائدة والمتعة في كل زمان ومكان وكأنه أصبح كقطعة المكعبات التي يصعب تركيبها خارج مساحتها المخصصة في اللعبة وعلى الرغم من ذلك فقد استطاعت العديد من التجارب الاستثنائية النمو من خلال شقوق ذلك الصندوق والانطلاق نحو شمس العمومية كما رأينا في لوحات الفنان التشكيلي عمار سفلو وفيلم حياة وغيرها.

وكون الفنان الأصيل ابن بيئته يسير في ركب قضيتها فقد استطاع الفنان في المناطق المحررة أن يثبت عمق ولائه لأولويات المرحلة وضروراتها فقَصر فنه على تطهير الوطن من الاستبداد دون تطهير الفرد والمجتمع من المفاسد كما نظر أرسطو في كتابه الشعر لأغراض الفنون. فرضي الفنان أن يقدم منتجاً أقل صدامية مع المجتمع من الناحية الثقافية وأظهر احترامه تجاه عقيدة الناس فالتزم بمحظوراتها ورتع في مباحاتها واستطاع أن يطوي خلافاته التقليدية مع البيئات المحافظة فقدم مسرحاً بلا ممثلات كما في مسرحية مجنون للفنان مصطفى شحود ولوحات بلا تجسيم كما في لوحات الطبيعة الصامتة للفنان التشكيلي عدنان كدرش. وأصبح الفن يطرح بجرأة بعيداً عن مخاوف الرفض والنبذ من قبل جمهور يعيش في منطقة ترى بأن النجاة من الموت والفوز بالحرية هي غاية الغايات وكل حديث عما سواها مدعاة لتمييع القضية وخلط الأولويات وتقديم المؤجل على المعجل.

وبلا شك فإن معركة الفن هي معركة الفنانين أنفسهم وانحياز الفنانين بين الحق والباطل عمّق المعركة القائمة فلا يخلو عمل درامي تنتجه الدراما الرسمية من التصريح والتعريض بما تدعو إليه الرواية الرسمية مما دعى فن المعارضة إلى بذل المحاولات للرد عليها بما يضاهيها فنياً ويحقق متعة أكبر ويقدم رسالة أكثر عمقاً وصدقاً ما ساعد بشكل كبير في قبول انتشار الفنون بنحو أكبر في مناطق لا صوت يعلو فيها على صوت القصف ولا حديث فيها إلا حديث الموت وأصبح أكثر قبولاً لنجاحه في إقناع الناس أنه فن مرحلة بامتياز وله قدرة على فهم التغييرات في فلسفة الناس ومقارباتهم وتفاعلات المجتمع وعنده أهلية فنية تمكنه من مواجهة جانب من دعاية النظام مما ترك جمره متقد في كل الظروف حتى وإن غطته طبقات من رماد الأهوال والذهول والانشغال فالمعركة الفنية والأدبية والثقافية والإعلامية وغيرها جزء من المعركة الشاملة بين الحق والباطل في سورية وهي أدوات ناجحة في الترويج للدعايات والمواقف السياسية وستصبح المبادرات الفردية اليوم ظواهر غداً وستصبح التجارب الأولية مدارس والمبتدؤون منظرون ورموز.

اقرأ المزيد
٢ أكتوبر ٢٠١٨
روسيا بين الوجود الإيراني في سوريا والحيرة مع إسرائيل

إن حادثة إسقاط الطائرة الروسية في سوريا ظهّرت مجدداً حالة الضياع والفوضى؛ بل الخواء السياسي، التي تعيشها القوى المتصارعة والمتحالفة فوق الجغرافيا السورية. فالحادثة وما تلاها من ردود فعل من الجانبين الروسي والإسرائيلي معاً، عززت وهَن ما سمي التفاهم الروسي - الأميركي - الإسرائيلي بعد معركة الجنوب السوري، لا سيما لجهة الإعلان عن إبعاد إيران وميليشياتها مسافة 80 كيلومتراً (كلم) عن الحدود مع إسرائيل، وأحيانا 140 كلم، كما أعلنت موسكو بعيد إسقاط الطائرة في 17 سبتمبر (أيلول) الماضي.

على الرغم من القرار الروسي تسليم الجيش السوري منظومة صواريخ «إس 300» وأجهزة إلكترونية حديثة ومتطورة من شأنها منع أو إعاقة تحليق الطيران الإسرائيلي فوق الأراضي السورية، فإن أكثر من جهة تردد، وفي معظم وسائل الإعلام، أن التعاون الوثيق بين موسكو وتل أبيب سيستمر، وأن الخلاف بينهما لن يتجاوز حدوداً معينة في ظل سعي كل طرف لإنقاذ ماء الوجه.

وعلى عكس ذلك، يرى مراقبون عديدون أن هذا التفاهم الروسي - الإسرائيلي هو في الأساس ضد الطبيعة، لأنه يقوم على اعتبار أن روسيا تلعب دور الوسيط النزيه بينما في الواقع هي طرف رئيسي في النزاع.

المرجح أن استخدام الصواريخ سيكون محاصراً بخطوط حمر روسية وتحت إدارة روسية مباشرة، كما الأجهزة الإلكترونية الحديثة، التي تهدف أساساً إلى حماية القوات الروسية البرية والجوية. ومع ذلك، يبدو أن التطورات الأخيرة سوف تدخل العلاقات الروسية - الإسرائيلية خصوصاً، وجراءها المنطقة عموماً، في مرحلة جديدة قد لا تشبه المرحلة التي سبقت إسقاط الطائرة، وتفتح الباب أمام تحولات وأبعاد عدة.

التحول الأول هو أن إسرائيل أصبحت أكثر انزعاجاً وقلقاً من الوجود الروسي في سوريا. منذ بداية التدخل الروسي في سوريا، تعاملت إسرائيل مع هذا التدخل بمثابة أمر واقع لا طاقة لها بتغييره، وحاولت منذ اليوم الأول احتواءه والإفادة منه قدر المستطاع. بات أوضح للعيان اليوم أن الوجود الروسي في سوريا يعقد ويربك أكثر فأكثر قدرة إسرائيل على مواجهة إيران وميليشياتها في سوريا. هذا في وقت لم تمارس فيه موسكو أي ضغوط جدية لتقييد الحراك الإيراني السياسي والأمني أو العسكري في سوريا، بدليل أن الطيران الإسرائيلي كان لا يزال حتى يوم إسقاط الطائرة يغير على مواقع عسكرية إيرانية. وعليه، يجوز القول إن القدرة الإسرائيلية العسكرية في سوريا تتراجع، فيما الوجود الإيراني إذا صح أنه لم يتوسع أكثر، فإنه لم يتقلص. يضاف إلى ذلك عجز موسكو عن التموضع في دور «الوسيط النزيه» القادر على ضبط إيقاع التوتر الإيراني - الإسرائيلي في سوريا.
التحول الثاني هو سقوط الرهان الإسرائيلي، الذي يصفه بعضهم بـ«الوهم»، على قدرة النظام السوري على استمرار لعب دوره السابق في حماية الحدود الإسرائيلية، كما سقوط الرهان بعد معارك جنوب سوريا على القدرة على إبعاد إيران عن الحدود والمحافظة على الهدوء الذي تميزت به منذ عام 1974. وحتى إذا صح أن إيران وميليشياتها ابتعدت عن الحدود مسافة قصيرة أو بعيدة، فإن فعالية وتأثير إيران ومخابراتها وميليشياتها وتغلغلهم في مفاصل الجيش السوري يشكل تهديداً على الرغم من التفوق العسكري الإسرائيلي الأكيد في الإقليم.

التحول الثالث يتمثل بماهية الرد الإسرائيلي المقبل على محاولات إيرانية جديدة لتهريب أسلحة إلى لبنان أو تمكين ميليشياتها في سوريا. يبدو أن إيران مصممة على مواصلة عملياتها، وإسرائيل مصممة على منعها. وتصبح المشكلة أكثر تعقيداً إذا كانت الضربات الإسرائيلية قريبة من قواعد روسية في شمال غربي سوريا. هل ستخاطر إسرائيل بتوتير علاقاتها أكثر مع موسكو؟ وماذا لو تم إسقاط طائرة إسرائيلية هذه المرة؟

التحول الرابع هو في إمكانية عدم سماح روسيا بعد اليوم لإسرائيل بحرّية جوية على غرار ما تمتعت به منذ العام الماضي، حيث شنّت أكثر من 200 هجوم في سوريا؛ بحسب ما أعلنه الجيش الإسرائيلي. في هذه الحال، ما البدائل المتاحة أمام تل أبيب؛ هل البديل هو الهروب إلى الأمام وقصف مواقع في لبنان على غرار ما أعلنه نتنياهو رئيس الحكومة الإسرائيلية أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة الأسبوع الماضي؟

ونتساءل في هذا السياق عما إذا كانت المواقف الأميركية من حادثة الطائرة على مستوى الحدث والرد الروسي عليه، ما ينقلنا إلى البعد الخامس وهو السياسة الأميركية تجاه سوريا... هل ستستمر واشنطن في الإقرار بالهيمنة الروسية على سوريا وترضخ لتقييدها حرية إسرائيل في مواجهة الوجود الإيراني على أراضيها في وقت ترفع فيه من وتيرة الضغوط على طهران؟ منذ اندلاع الحرب السورية بقيت إسرائيل على هامش الحدث ولم تتدخل في مسارها إلا بما يؤمن مصالحها ويحمي حدودها. اليوم دخلت إسرائيل إلى قلب الحدث السوري في مواجهة مفتوحة مع إيران، التي بدورها لن تتخلى قيد أنملة عن وجودها في سوريا كما في ظهيرها لبنان. فهل سيدفع هذا الأمر بواشنطن للضغط على إيران بدءاً من سوريا؟

أكدت واشنطن موقفها المناهض لتمدد إيران ولدورها المزعزع للاستقرار في المنطقة في الخطاب الذي ألقاه الرئيس الأميركي مؤخراً أمام الجمعية العامة، كما في التصريح الذي أدلى به مبعوث الخارجية الأميركية لسوريا، السفير جيمس جيفري، أمام مجلس الأمن بعد حادثة الطائرة؛ إذ قال: «لا استقرار في سوريا مع بقاء إيران وأدواتها في هذا البلد»، وحملهم مسؤولية أعمال العنف الفاضحة في الحرب، و«أصبحوا اليوم على أبواب إسرائيل، وهذا غير مقبول». تنتظر إسرائيل ترجمة عملية لهذا الموقف على الأرض، تؤمن سنداً واقعياً للتحديات التي قد تواجهها في الحرب التي تخوضها ضد الوجود الإيراني، لا سيما بعد الإجراءات الروسية الأخيرة.

ماذا بالنسبة للمستقبل، أقلّه في المديين القريب والمتوسط؟

الأكيد أنه لا روسيا ولا إسرائيل تريدان تدهور العلاقات بينهما، علماً بأن روسيا بقيادة بوتين ستقبض ثمن دماء جنودها وستعمد إلى الإفادة القصوى من الحادثة من سوريا وإيران وإسرائيل معاً. إنما مهما اتخذت من إجراءات فلن تصل إلى حد التسبب في انهيار علاقاتها مع تل أبيب، كما من غير المرجح أن تغامر بالمكاسب التي حققتها على صعيد موقعها الدولي لحماية إيران.

في المقابل، لن يتبدد القلق الإسرائيلي إذا لم تعمل واشنطن بوضوح عبر دبلوماسية جريئة مدعومة بقوة فاعلة على ترجمة السياسة التي عبر عنها الرئيس وأعوانه، بما يسمح لإسرائيل بمواصلة تقليص الوجود الإيراني في سوريا. ودون ذلك سيكون أمام إسرائيل خياران لا ثالث لهما: إما أن تكبل بالإجراءات الروسية الجديدة وتتحصن داخل حدودها وتنتظر ما سترسو عليه الأوضاع في سوريا على وقع العلاقات بين طهران وموسكو، وإما أن تستمر في سياسة المواجهة مع ما قد تحمله من مخاطر حرب استنزاف طويلة ومكلفة قابلة لأن تتطور إلى حرب واسعة في الإقليم يصعب توقع نتائجها.

اقرأ المزيد
٢ أكتوبر ٢٠١٨
حزب الله والتدرّع بالمدنيين

أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو أن إسرائيل رصدت ثلاثة مواقع في الأوزاعي بجوار مطار بيروت تجهزها ميليشيا حزب الله لتصنيع الصواريخ دقيقة التصويب، والمنطقة مأهولة بالسكان المدنيين، ما يعني عملياً أنها تريد أن تجعل من المدنيين دروعاً بشرية، فإذا هاجمتها إسرائيل اتهمتها بقتل الأبرياء المدنيين، وإن تركتها فإنها ستكون منبعاً خطيراً يهدِّد الأمن الإسرائيلي. طبعاً إسرائيل -كما هي سياساتها دائماً- تعتبر أمنها خطاً أحمر لا تسمح لكائن من كان بتجاوزه، مهما كانت التبعات؛ بمعنى أن تصريح رئيس الوزراء هذا بمثابة تهديد ضمني ليس لحزب الله فحسب، وإنما لكل اللبنانيين. حزب الله -طبعاً- لن يكترث، فهو حركة مؤدلجة، لا يهمها الإنسان بقدر ما تهمها الإيديولوجيا، وهو يحتفل بالشهداء، ويُضخّم من شأن الموت في سبيل حركته العقدية العميلة للفرس الصفويين، فهو - كما يعرف الجميع - عميل لملالي الفرس، واستفزاز إسرائيل لضرب لبنان، وإنتاج مزيد من (الشهداء) القتلى سيخدم إيران في صراعها مع الولايات المتحدة وحلفائها، إذ سيكرس الرأي العام العربي ضد إسرائيل ويجعله مصطفاً مع الإيرانيين، وبالتالي ضد أمريكا، التي من المقرر أن تفرض على إيران عقوبات اقتصادية ليس لها مثيل في التاريخ المعاصر. ومن خلال ما لدينا من مؤشرات على الأرض فإن لبنان، وبالذات كوادر حزب الله الإرهابية الطائفية لن يقفوا مكتوفي الأيدي وهم يرون مصدر تمويلهم يجف، في طريقه للتوقف التام، الأمر الذي يجعل من المتوقّع أن لبنان ستكون ساحة حرب جديدة كخط دفاع أول عن إيران، ولا يهم حزب الله ما سوف يترتب على لبنان من خسائر جسيمة، بل وغير مسبوقة، سيما وأن لبنان يئن من دين يصل إلى ما يقارب تسعين مليار دولار. كما أن رئيس لبنان نفسه هو أحد كبار الموظفين لدى حزب الله، وبالتالي موظف لدى إيران. ولبنان دولة توافق طوائف متصارعة تارة ومتحالفة تارة أخرى، ولم تكن دولة وطنية في تاريخها بأي شكل من الأشكال، وكل طائفة تبحث عن مصلحتها ومصلحة أفرادها أولاً، وتأتي مصلحة لبنان كدولة في قاع أولويات طوائفها؛ لذلك لن يجرؤ أحد الفرقاء اللبنانيين بالاعتراض على تصنيع تلك الصواريخ في منطقة آهلة بالمدنيين، إذ إن حي الأوزاعي منطقة شيعية تابعة لحزب الله، يدين قاطنوها بالولاء لذلك الحزب العميل، وهذا في أعراف السياسة في لبنان مبرر كافٍ يجعل حزب الله يتصرف في هذا الحي كما يتصرف الملَّك في أملاكهم.

إسرائيل لن تترك المواقع الثلاثة تعمل على تهديد أمنها، وأتوقّع أن يكون هناك ضربة إسرائيلية ساحقة ماحقة لهذا الحي الشيعي، إلا إن ثابت كوادر حزب الله إلى رشدها، وتوقفت عن بناء هذه المواقع. ولا أرجح ذلك، لأن القرار ليس في أيدي كوادر الحزب من اللبنانيين، وإنما في يد قاسم سليماني وأركان ميليشياته الإرهابية، والإيرانيون لا يكترثون لا بلبنان ولا بالعراق ولا بسوريا ولا باليمن، فكل تلك الدول وشعوبها هم لدى الملالي الصفويين مجرد خطوط دفاع عن جمهورية الملالي المتأسلمة، ومن خلال عملائها، هم مجرد بيادق يحركها الإيرانيون في صراعهم الوجودي مع أمريكا، لذلك فمن المتوقّع أن تحول إيران تلك الدول إلى حقول ألغام في وجه الولايات المتحدة الأمريكية، بمجرد أن يبدأ تطبيق الحصار الاقتصادي الأمريكي المنتظر ضد إيران. وفي تقديري أن عام 2019 سيكون عاماً حافلاً بالأحداث، التي إما ستلغي حكم الملالي في إيران، أو تعود مضطرة خانعة خاضعة مرغمة إلى طاولة المفاوضات من جديد ليملي عليهم الأمريكيون شروطهم..

إلى اللقاء

اقرأ المزيد
١ أكتوبر ٢٠١٨
سورية قبل إدلب وبعدها ؟

 استطاعت التهدئة إعادة الروح إلى الشارع السوري، تقلّصت فيه الحواجز الأمنية، أزيلت منه المتاريس والكتل الاسمنتية، حذفت من التداول فيه الجراح النازفة، لعلها تندمل بمرور الزمن، وربما بعلاج المصالحات الروسية والسورية!

عادت الروح إلى الشارع العام، أمّا الشارع السياسي فلم تكن فيه حياة حقيقية لتعود الروح إليها. حاول النظام في بداية الأزمة تطعيم سلطته بنكهةٍ ديموقراطية لسد الذرائع، يُسَيِّسُ فيها معارضةً له تحت عباءته الأمنية. وهذا ما حدث فعلياً، فالأحزاب الجديدة جميعها لا تقدم نفسَها إلاّ معارضة، يُسوِّقها في مؤازرة موسكو لدى المجتمع الدولي لإضعاف المعارضة الخارجية وتشتيتها. وعين هذه الأحزاب ترصد وتترقب ليس خرقاً سياسياً بتأثير الضغوط الدولية، بل استمرار التهدئة كما هي حالياً، ومن ثمّ اعتمادها حلاًّ سياسياً تقدم هذه الأحزاب نفسها لحمل راية المعارضة فيه، وكل تأخير في حسم انفراد النظام بالحل يقلقها، ويقضُّ مضاجعها.

مشكلة إدلب لا تُناقَشُ في أدبيات الأحزاب المحلية إلاّ بلغة النظام في القضاء على الإرهاب، وقلقها ليس فقط من طول الانتظار، بل من الصراع الخفي بين من يَستظِلّ بعباءة النظام ومن يستظلّ بعباءة موسكو، وكل طرف منهما يقلقه اتّساع نفوذ غريمه. فحبال الود لم تُقطع بين النظام ومنصتي موسكو والقاهرة، وفي الداخل تمتد حبال الود بين الأحزاب الجديدة المرعية أمنياً وموسكو وحميميم. هذه الحبال قد تُشوش مرحلة ما بعد التهدئة، التي يسعى المجتمع الدولي لتكون تنفيذاً لقراره «2254» ويملك من وسائل الضغط رفض المشاركة بإعادة الإعمار، والتهديد والوعيد أوروبياً وأميركياً. وما العودة إلى اللجنة الدستورية في ظلِّ التهدئة أثناء استفحال الخطر في إدلب، إلاّ محاولة لنزع فتيل الانفجار بوعود دستورية تحترم الرغبة الأممية في تخفيف هيمنة النظام على مرحلة ما بعد الحسم الميداني، استجابة للضغوط العربية والدولية. الصراع على اللجنة الدستورية تشكيلاً وهويّةً وورقةَ عملٍ، لم يُحسم خلال الأشهُر الثمانية الماضية، ويتفاءل دي ميستورا بحسم تشكيلها قبل نهاية العام الحالي، وقد أمسك بطرف الخيط، في اجتماعه بوفود الدول الضامنة، وبعده مباشرة بمجموعة الدول المصغرة (الولايات المتحدة، بريطانيا، فرنسا، السعودية، الأردن، مصر، ألمانيا). وحتى لو تشكلت، يصعب التنبُّؤ بنجاحها، فالشروخ كبيرة ليس فقط بين النظام ومعارضيه، بل بين امتدادات الجهتين عربياً وإقليمياً، إضافة إلى استفحال الاستفزاز الملتبس بين واشنطن وموسكو، وانعدام تأثير المجتمع الدولي على شطحاتهما.

قمة طهران (7/9/2018) كلفت خبراء دولها في الخارجية والدفاع والقوى الأمنية، بوضع الخريطة التي وقعها وزيرا الدفاع الروسي والتركي في قمة سوتشي الأخيرة بين بوتين وأردوغان، وهي اتفاقية للفصل الميداني بين طرفي النزاع. أمّا الجانب السياسي فيها فلم يرشح عنه ما يشكل أرضية لقراءة خطوطه العريضة، والتسريبات مُختَلَفٌ عليها تفسيراً وتأويلاً بين الموالاة والمعارضات، وأغلب الظن أن الحسم السياسي تُرِك لحراك دولي أوسع، لن يُهمل طالما هناك استعراض للعضلات العسكرية بين الثنائية القطبية.

على كل حال، نجحت قمة سوتشي في فصل القوات، وإبعاد هيئة تحرير الشام من إدلب، ربما إلى مرمى النيران السورية والروسية في البادية الشامية، أو إلى الأحضان القطرية الإيرانية في مكانٍ ما، وهذا يسهّل تقبُّلَ الدول الضامنة ما يتبقى داخل إدلب معتدلاً لا متطرفاً، لكن النظام أعلن احترامه الاتفاق، وأردفه بلغة التأهب لإعادة إدلب الى أحضانه!

لا شكّ في أنّ نجاح الحسم الميداني من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، قرار عربي إقليمي دولي، نفذه النظام وموسكو ولم يُعلن عن الثمن الذي دُفع، أو يُدفع للموقّعين عليه خطياً أو شفهياً، أو بغض الطرف، أو بقطع طرق إمداد الفصائل المعارضة المتطرفة. وأغلب الظن أن الثمن بقي قيد التداول في الاستثمار السياسي والمصادرات، ولن يُدفع إلاّ بالتقسيط، فأجواء الاستنزاف الميداني ما زالت قيد التداول.

اللجنة الدستورية يحاول المبعوث الدولي تشذيبها، وتطعيمها بجرعة أممية تسد الرمق الأوروبي وتنفّس احتقانه، بينما يقرع النظام طبول الانتصار الميداني والسياسي معتبراً أو مفسِّراً أو مؤوِّلاً ما تم حتى الآن بأنه يشكّل قصفاً تمهيدياً لتعويم التهدئة. أمّا الحل السياسي، ولجنة الدستور، وشطحات دي ميستورا، فالنظام وموسكو يقفان لها بالمرصاد ومن ثَمَّ فساعةُ الصفر السياسية لن تُنيخَ رِكابَها إلاّ باستنزاف سياسي وميداني قد يكون طويل الأمد، وربما احتاج إلى جهود داعشية داعمة!

ما من خطوة في معركة الحل السياسي على الطريقة الأممية الدستورية، إلاّ وتحتاج إلى منتديات ومؤتمرات، وضغوطات سياسية وميدانية، لكن التوافق على ورقة عمل لجنة الدستور إذا تمّ، فإنه يوحي بإمكان فبركة «خطة» لحل سياسي يحترمه النظام والحلف الثلاثي الضامن، لفرملة الشطط الأممي في لعبة التغيير أو التعديل الدستوري. مشاغل النظام هذه تُلهيه عن الالتفات إلى الأفواه الحزبية المفتوحة في الداخل، تنتظر دعوته إلى المائدة، وجميع أمنائها العامّين يتنقلون اختيالاً بين المقاهي السياسية والمرجعيات الأمنية، لعل «الرتوش» السياسي ينطلق قبل أيّ تغييرات تشمل الداعمين، فتضيع جهودهم (المعارِضة) هباء منثوراً، لذلك يدأب هؤلاء على مدّ حبال الولاء إلى الجيل الصاعد بالمواقع السياسية والأمنية، في جوٍّ ملبدٍ بصراع النفوذ داخلياً بين طهران وموسكو!

المشهد الدولي حول سورية وهي تحاط بالأساطيل البرية والبحرية والجوية، وارتفاع وتائر التأهب، بما فيها إسقاط الطائرة الروسية، حوافز للحسم السياسي، وليس الميداني، وهذا مُتَوَقَّعٌ عملياً، لكن الحل السياسي طالما هو متعثّر فلن يُرفعَ الحسمُ الميدانيُّ من التداول مهما قلّت نسبة احتماله، وأغلب الظن أن حرب المصادرات لن تتخلّى عن الاستنزاف الميداني، على شاكلة حروب الاستنزاف العربية التي لا تنتهي إلاّ بانتصار الجميع، وهذه حال الحل السياسي المطروح أُمَمياً والمتعثّر واقعياً!

اقرأ المزيد
١ أكتوبر ٢٠١٨
سقوط قطعة من لبنان

لا حاجة إلى الكثير من التفكير والتعمق في الأحداث للوصول إلى خلاصة فحواها أن توقف “دار الصياد” عن إصدار مطبوعاتها ابتداء من اليوم الاثنين الواقع فيه الأوّل من تشرين الأوّل – أكتوبر 2018 يعكس الحال التي آل إليها بلد اسمه لبنان. هناك موجة تصحّر تضرب لبنان (لبنان الأخضر سابقا).

ليس توقف صحيفة عريقة مثل “الأنوار”، ومجلة عمرها من عمر الاستقلال مثل “الصيّاد”، ومجلة فنيّة مثل “الشبكة”، سوى تكريس لواقع جديد في بلد كان إلى ما قبل فترة قصيرة ينبض بالحياة والحيوية والأفكار الجديدة فإذا به في السنة 2018 لا يستطيع حلّ مشكلتي الكهرباء والنفايات اللتين يعاني منهما. هناك بلد كان مطاره في ستينات القرن الماضي أحد أهمّ مطارات العالم، فإذا به في أيامنا هذه أقرب إلى مطار بائس في دولة من دول العالم الثالث في أقصى مجاهل أفريقيا.

الأكيد أن هناك أسبابا مختلفة، طابع بعضها عائلي، جعلت القيمين على “دار الصيّاد” يلجأون إلى التدبير الذي لجأوا إليه الذي يعني الاستعانة بمقولة: آخر الدواء الكيّ. لكنّ مثل هذا التدبير ليس سوى سقوط لقطعة أخرى من لبنان في وقت يشهد البلد انهيارا مبرمجا لمؤسسات الدولة. لعلّ آخر دليل على الانهيار، ذلك العجز عن تشكيل حكومة جديدة بعد تكليف النواب الرئيس سعد الحريري تولي هذه المهمّة مباشرة بعد انتخابات السادس من أيار – مايو الماضي، أي قبل نحو خمسة أشهر تقريبا.

هناك إصرار على الهدم والتدمير، بدل ترك الرئيس المكلف يؤدي المهمّة المطلوبة منه، وهي مهمة تبدو ظاهرا في غاية السهولة لكنها تعكس عمق الأزمة اللبنانية ورغبة أطراف معروفة على رأسها “حزب الله” في تغيير طبيعة النظام القائم منذ إقرار اتفاق الطائف الذي أوقف الحرب الداخلية في العام 1989. يكفي طرح سؤال واحد للتأكد من أن مثل هذه المهمّة، مهمة سعد الحريري، ليست مستحيلة. هذا السؤال هو أي حكومة يحتاج إليها لبنان في مثل هذه الأيّام والظروف؟

الجواب أنّه يحتاج إلى حكومة تضمّ شخصيات تتمتع بكفاءات معيّنة… وما أكثر الكفاءات في لبنان. لماذا كلّ هذا الإصرار على منع الرئيس المكلف من القيام بالمطلوب منه من أجل إنقاذ ما يمكن إنقاذه من مؤسسات وقطاعات حيوية؟ من الواضح أنّ هناك قوى تعمل من أجل أخذ لبنان إلى الهاوية.

ليس القضاء على الإعلام اللبناني سوى جزء من هذه الحملة التي تستهدف البلد ككلّ وصولا إلى إفقاره، في كلّ مجال، كي يسهل التحكّم به. هذه الحملة ليست بنت البارحة لإذا أخذنا في الاعتبار اضطرار جريدة متميّزة مثل “السفير” إلى التوقف عن الصدور في اليوم الأخير من العام 2016، مع ما يعنيه ذلك من خسارة لفكرة التنوّع التي تشكل جزءا لا يتجزّأ من الصيغة اللبنانية ومن الحياة السياسية والثقافية والاجتماعية والفنّية في بلد مثل لبنان.

إذا أخذنا في الاعتبار ما تعرّض له لبنان في السنوات الخمسين الأخيرة، أي منذ توقيع اتفاق القاهرة في العام 1969 وحتّى قبل ذلك، نكتشف أن صمود الإعلام طوال هذه الفترة كان معجزة أكثر من أيّ شيء آخر. يبدو أننا بلغنا حاليا مرحلة نهاية هذا الصمود البطولي للإعلام اللبناني الذي يعاني، أكثر من أي وقت، من تقليص دور البلد وتحويله أسيرا لدى “محور الممانعة” الذي تمثله على الأرض ميليشيا مذهبية لا همّ لها سوى أن يكون لبنان مجرّد منصة إعلامية لإيران وأدواتها الإقليمية. لذلك، لا نجد ازدهارا في بيروت سوى للإعلام المرتبط بطريقة أو بأخرى بالمشروع التوسعي الإيراني، إنْ عبر صحف معيّنة، أو عبر فضائيات معروف أنها تبث من مواقع محدّدة بحماية من “حزب الله”، ولا هدف لها سوى الإساءة إلى العلاقات العربية للبنان.

ثمة معلومات خاطئة عن الإعلام اللبناني وعن الصحف والمجلات اللبنانية تحديدا. هذه الصحف والمجلات، من بينها صحف “النهار” والأنوار” و”الحياة”، ومجلة مثل “الحوادث” (سياسية) و “الشبكة” (فنّية) كانت قادرة قبل العام 1975 على إيجاد توازن بين الدخل والإنفاق. كان لبنان سوقا إعلانية كبيرة. صحيح أنّ مؤسسات إعلامية كبيرة كانت تحصل على مساعدات خارجية، لكن الصحيح أيضا أن هذه المساعدات كانت بمثابة دخل إضافي يذهب في معظمه إلى صاحب المؤسسة أو بعض العاملين فيها.

ليس توقف “الأنوار” مجرّد توقف لصحيفة كانت في عز أيام الصحافة اللبنانية تنافس “الحياة”، قبل اغتيال كامل مروّة في 1966، ثم “النهار” التي صعدت إلى موقع الصحيفة الأولى لبنانيا وعربيا في أواخر الستينات ومنتصف السبعينات من القرن الماضي. كانت “الأنوار” في البداية جريدة جمال عبدالناصر في لبنان. كان صاحبها سعيد فريحة ناصريا حتّى العظم، لكنه عرف مع مرور الوقت، ومع انتهاء زمن الناصرية، كيف يحافظ على جريدته ويبني مؤسسة كبيرة تبدو حاليا في طريق الزوال.

ليس توقف منشورات “دار الصيّاد” حدثا عابرا. ما حصل يشير إلى أن الحملة على الإعلام اللبناني أدّت غرضها إلى حدّ كبير. كان مطلوبا في كلّ وقت إسكات بيروت. ما نشهده حاليا هو خطوة أخرى على هذا الطريق. ثمة حاجة بين وقت وآخر إلى العودة إلى الماضي القريب من أجل فهم لماذا هذا الإصرار على خلق بيئة لبنانية لا تتحمّل أي إعلام متنوّع خارج عن سلطة “محور الممانعة” وخطها. ففي أواخر العام 2003، استقبل رئيس النظام السوري الرئيس رفيق الحريري، في حضور ثلاثة ضباط فقط هم غازي كنعان (وزير الداخلية) ورستم غزالي (مسؤول المخابرات في لبنان) ومحمد خلوف الذي كان يشغل موقع رئيس المراقبين السوريين في لبنان. طلب الأسد الابن من الرئيس الحريري بعدما وجه إليه كلاما مهينا ثلاثة أمور. كان بين ما طلبه بيع أسهمه في جريدة “النهار” فورا. رضخ رئيس الوزراء اللبناني وقتذاك لتهديدات بشّار وباع أسهمه في “النهار”، أقله شكلا، بعد عودته إلى بيروت من دمشق.

بعد أقلّ من سنتين اغتيل رفيق الحريري، واغتيل بعد ذلك سمير قصير أبرز المعلقين والكتاب في “النهار”، ثم جبران تويني وذلك كي لا تقوم للجريدة قيامة في يوم من الأيام.

لا تزال “النهار” تصدر على الرغم من الأزمة المالية التي تعاني منها، لكن المطلوب تحقّق ولم يعد للجريدة، التي لا تزال تقاوم، أيّ نبض سياسي. ترمز “النهار” حاليا إلى ما حلّ بالإعلام اللبناني وإلى ما يجب أن يكون عليه هذا الإعلام. جاء احتجاب “الأنوار” التي لم يعد أحد يسمع بها في السنوات الأخيرة، لولا مقالات إلهام فريحة ورفيق خوري، لاستكمال المشهد الذي افتتح بدخول “قوات الردع” العربية التي كانت في معظمها سورية إلى لبنان في أواخر العام 1976، وما تلا ذلك من فرض للرقابة على الصحف.

هل بات في الإمكان الكلام حاليا عن نعي الصحف اللبنانية خصوصا، والإعلام اللبناني عموما. من السابق لأوانه الذهاب إلى هذا الحد في التشاؤم ولكن في ظلّ الانهيار اللبناني الكبير الذي لم يكتمل بعد صار كلّ شيء ممكنا.

اقرأ المزيد
١ أكتوبر ٢٠١٨
سورية إلى مستوى آخر من الدمار

ما يخشاه المرء أن تتطور الأمور في سورية، أن تشتبك الأزمة السورية مع الصراع الروسي الأميركي، عبر الأميركيون كثيراً عن محدودية اهتمامهم بالشأن السوري، يكفيهم تدمير داعش مع بعض الترتيبات على الأرض ولكن الإدارة الحالية أضافت هدف خروج إيران من سورية أو إضعافها.

الدول الكبرى لا تلتقي أو تصطدم مع أصدقائها وخصومها في موضع واحد، قضايا الالتقاء أو الاختلاف تمتد بينها على مستوى العالم، تشابك العلاقة بين أميركا وروسيا على سبيل المثال لا يبقى في حدود أزمة أو أزمتين، ثمة مطاردة واسعة النطاق بين الدولتين، الهدف النهائي غير المعلن هو إضعاف كل طرف الطرف الآخر. نسمع عن قصة التدخل الروسي في الانتخابات الأميركية والعقوبات الاقتصادية التي أوقعتها أميركا ضد روسيا، ومع الإدارة الحالية حدث تطور كبير، إذ امتدت العقوبات الأميركية لتشمل الصين على خلفية شرائها معدات عسكرية من روسيا، يبدو أن هذه المطاردة ارتفعت إلى مستوى جديد سوف تلقي بظلالها على الأزمة السورية.

أسقطت الدفاعات الجوية السورية طائرة عسكرية روسية، أكد التقرير الروسي أن سبب سقوط الطائرة خيانة إسرائيلية للاتفاقات المبرمة بين الدولتين.

قد يكون هذا الاتهام صحيحاً وقد يكون ذريعة لعرقلة المخططات الأميركية الموجهة ضد إيران، مثلما أن إيران وضعت حزب الله شوكة في حلق إسرائيل لعل روسيا تريد أن تضع إيران بأسرها شوكة في حلق الأميركان، تزويد النظام السوري بدفاعات جوية متطورة سيقدم حماية للوجود العسكري الإيراني في سورية.

هذا الاتجاه في الأزمة السورية يذكرنا بالحرب الفيتنامية الأميركية، أوقع السوفييت خصومهم الأميركان في المستنقع الفيتنامي، زود الروس الفيتكونج بالأسلحة والتدريب والمعلومات، بعد سنوات من الحرب الشرسة والمميتة أقر الأميركان بالهزيمة ورحلوا لا يلوون على شيء. انتظرت أميركا عقداً من الزمان ليقدم لها المجاهدون الأفغان الفرصة للانتقام.

اجتاحت القوات السوفييتية أفغانستان فزودت أميركا المجاهدين الأفغان بصواريخ ستينغر المضادة للطائرات، أصبحت الطائرات السوفييتية في مرمى هذه الصواريخ فأضعفت فعاليتها في المعركة، في النهاية فرّ السوفييت وتركوا أفغانستان لمن يريدها.

صواريخ إس 300 الروسية لم تفصل على الطائرات الإسرائيلية، قادرة كما يقول أصحاب الشأن على ضرب الطائرات المعادية أياً كانت جنسيتها، لن يتردد الأسد في استخدامها لحماية نفسه وحماية حلفائه.

هل تريد روسيا صد الطائرات الإسرائيلية فقط انتقاماً لجنودها الذين قضوا في الطائرة المنكوبة أم تريد نقل الأزمة السورية إلى مستوى آخر رداً على الاستهداف الاقتصادي الأميركي المتتابع على روسيا؟ هذا ما أراه في الأيام المقبلة، الله يعين الشعب السوري إذا كانت وجهة نظري هذه صحيحة.

اقرأ المزيد
١ أكتوبر ٢٠١٨
مزاد بيع سورية وشعبها

تتقاسم الدول المتدخلة في الصراع على سورية مع النظام والفصائل المتطرّفة مسؤولية استمرار الحرب القائمة، وهمجيّتها، وتشعبها باتجاهات عديدة، وتحويل الصراع من سياسي سوري - سوري، بشعارات الحرية والمواطنة والحقوق المتساوية، إلى صراع عسكري بين النظام ومعارضته (المغيّبة حالياً) التي حملت السلاح دفاعاً عن حق الحياة، إلى صراع مسلح بقيادةٍ خارجيةٍ هدفه النفوذ الميداني، والسلطوي، وتقوده دول تمويل الأطراف المحلية المتحاربة، على الجانبين نظاماً وفصائل، ويمتد ليصبح حرباً مباشرةً بين الدول ذاتها، بأدواتها المحلية المسلحة، أو بأدواتها الدبلوماسية التي تدير حربها داخل قاعات التفاوض، وعلى خريطة سورية، ومستقبل السوريين.

وبينما تتجاهل كل الأطراف المتصارعة إرادة السوريين، وتعمل على تدمير ما تبقّى من حاضرهم ومستقبل أولادهم، فإن ثمّة من يساعدهم في ذلك من السوريين الذين أصبحوا جزءاً مبرّراً لصفقات بيع سورية، وتحت شعارين متضاربين: النظام للحفاظ على سوريته التي يدعوها "سورية الأسد"، المرهونة للاحتلالين الإيراني والروسي، والمعارضات للحفاظ على موطئ قدم للدول التي ترعاها، وبالتالي تحتل من خلالها مساحات داخل سورية، في الشمال، والشرق منها.

وبينما يدافع كل طرف من السوريين عن مشروعية هذه الدولة أو تلك في التحاصص على سورية، يغرق الشعب السوري على ضفتي الصراع في مآسيه المصنّعة دولياً، سواء بقهره بقتل أولاده، وتدمير بنيته التحتية، أو بحصاره الاقتصادي الذي تصدّره الدول الصديقة للمعارضة، تحت بند العقوبات، لتتلقفه الدول الخصم لها، والمساندة للنظام السوري، فيطبق هذا النظام الخناق على السوريين في الداخل من خلالها، ويضعهم تحت تهديد الجوع والفقر الذي يرونه أقل بؤساً من قتلهم واعتقالهم، أو تشريدهم نازحين أو لاجئين.

حقيقة الأمر أن خيارات السوريين ما بعد الثورة ليست محصورةً فقط بين "معارضة ونظام"، أو حتى في التيار الصامت بشقيه، المغلوب على أمره بفعل القهر والخوف، وهم يشكلون الأكثرية الحقيقية داخل سورية، أو الانتهازي الذي ينتظر فرصة ميل كفّة الميزان الرابح ليترنّح باتجاهها، وهؤلاء ليسوا من حصة النظام فقط، بل هم أكثرية على الطرف الآخر تحت مسمّيات "وطنية"، وتجمّعات وأحياناً "منظمات مدنيّة"، فثمّة تقسيماتٌ جديدة ألزمنا (بضم أولها) بها، بفعل تعدّد كيانات المعارضة "المفبركة"، والفصائل المسلحة المرتهنة، وهيمنتها على واقع سورية من جهة المعارضة.

وعلى الجانب الآخر، يستكين النظام السوري مقابل بقائه في السلطة لاحتلالين: روسي مقبول دولياً، ويتوفر له الغطاء الشرعي من أصدقاء الشعب السوري، والصحيح "أصدقاء قادة الكيانات المعارضة"، حتى لا نظلم السوريين الذين يدفعون أثمان مواقفهم من النظام، من فقر وفقدان فرص التعليم لأولادهم، وانعدام مقوّمات الحياة الكريمة التي خرجوا من أجلها، في مخيمات النزوح، وبعض بلاد اللجوء. واحتلال إيراني مرفوض داخلياً ودولياً، حيث يعلم السوريون مخاطر انتشار أيدلوجيته الطائفية التوسّعية التي يحاول فرضها عليهم، وهو محاصر أميركياً، ومعاقب اقتصاديا، لكنه مبارك من سلطة حكم الواقع (النظام).

وبهذا، على أي الجانبين مال السوري وقع ضحية استلاب مصيره، وحدّدت دول الاحتلال التي يرفع بعض السوريين "المتبرّعين بحريتهم" على الضفتين، شعارات النصر والترحيب والتهليل لاحتلالات سورية من الدول، بتقسيماتها وتبعياتها الدولية، وحيث يجتهد النظام بتوصيفات قوات الاحتلال التركي والفرنسي والأميركي، متجاهلاً الروسي والإيراني (وزير الخارجية وليد المعلم في كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، 29/9). وتبارك فصائل المعارضة ما ينتقده النظام من احتلالات وتعدّيات، في مشهدٍ ينعكس على مصير سورية المستقبل الذي تتبرع كل من هذه الدول في رسمه على مقاس مصالحها، وأهدافها المستقبلية.

وبين ما ينتجه النظام من خطاب ضد معارضيه وما تعيشه كيانات المعارضة من استسلامات قدرية لجهة داعميها، يعيش السوريون، على ضفتي الصراع (على ضفافه، في تعبير أدقّ) حالة العوز السياسي، والاقتصادي، والتعليمي، والأمان الاجتماعي، ويتحملون أعباء الحرب بمنعكساتها التدميرية المادية والمعنوية، ويزيد عليها تهليل الضحايا أنفسهم لما أصاب بعضهم بعضاً من فقر وحرمان، نتيجة واقع اقتصادي نال من الشعب، داخل سورية وفي مناطق نزوحه القريبة منها، وليس من النظام، ودفع ثمنه أهلنا المرابطون في بيوتهم، دفاعا عن حقهم في سوريتهم، وليس بهدف موالاة النظام، أو الوقوف ضد الثورة.

واليوم في خضم اختصار مفاعيل منتجات الثورة إلى "لجنة دستورية"، ستنهي مع أول اجتماع لها كل الكيانات المشكلة منها لجهة المعارضة، ويتقاسم ولاءها الدول التي شكلتها، ويقع على عاتق أعضائها، المختارين، التوقيع على مزاد تضمين "سورية" لمن يملك الحصة الأوفر من
"لا سيادة وطنية في ظل الاحتلالات، بطلب من النظام أو من دونه، ولا مقاومة وطنية في ظل الارتهانات"

الضحايا، ما يجعلنا أمام أسئلةٍ مؤلمةٍ بخصوص هذه اللجنة بكل تبعياتها: ماذا بقي للسوريين كي يساوموا أو يراهنوا عليه في هذا المزاد، فلا سيادة وطنية في ظل الاحتلالات، سواء كانت بطلب من النظام أو من دونه، ولا مقاومة وطنية في ظل الارتهانات، فصائلية كانت أو سياسية؟ وهل تستطيع الأطراف المتناحرة إنتاج وثيقة متماسكة في ظل خلافات جوهرية حول أساسيات إنشاء ومراحل عمل اللجنة وتمثيلها؟ ومن منّا يثق بأن العناوين البرّاقة التي تطرحها الوثائق الأميركية المسرّبة (مع أهمية ما ورد فيها من مبادئ تحدد ملامح الحكومة المقبولة، دولياً، وإقليمياً، وداخلياً، ومداعبتها أحلام السوريين في دستور يضمن حقوقهم ومستقبلهم)، يمكن ترجمتها على أرض الواقع، في ظل التعثر القائم في تفاهمات محوري الصراع الحقيقي في سورية، وهما الولايات المتحدة الأميركية وروسيا؟

وبينما يتجاوز الخلاف بين الدول على شكل الخريطة السياسية لسورية، تعمل كل الاحتلالات القائمة، سواء التي جاءت بإرادة النظام، أو مساندة لمعارضاته على اختلاف أهدافها وأيدولوجياتها وأدواتها، أو كانت فوق إرادتيهما، على ما هو أخطر من تقسيماتٍ إداريةٍ حدودية لسورية الجديدة، بتقسيماتٍ ديمغرافيةٍ وأيدولوجية مذهبية، تجعل من الصراع العسكري الذي استغرق سنواتٍ في البحث عن قنوات توقيفه، ولم تنجح، حتى اللحظة، أي جهود دولية في ذلك، يمتد ليكون بؤرة الصراع القادم لما بعد الحرب على السلطة، ليصبح صراعاً أهلياً ومذهبياً يعيد سورية (بحضارتها البشرية قبل الحالية) إلى ما قبل الدولة المدنية، ويغرقها في بحر من أسواق النخاسة السياسية.

اقرأ المزيد
٣٠ سبتمبر ٢٠١٨
روسيا وإسرائيل.. واستعجال الفرحة

القرار الروسي الذي أُجّل لسنوات، أي إعطاء صواريخ «إس 300 أرض -جوّ» لسوريا، وُضع أخيراً على جدول التنفيذ. هذا ما أعلنه وزير الدفاع الروسي سيرجي شويغو، موحياً لمراقبين ومعلقين كثيرين بأن تحولاً نوعياً طرأ على «قوانين اللعبة» الدائرة في سوريا وأجوائها. لم يقتصر القرار الروسي على تسليم دمشق السلاح الذي يُعتبر المعادل الاستراتيجي لصاروخ باتريوت الأميركي. فإلى ذلك قرّرت موسكو، وفقاً لوزير دفاعها، تشغيل الإلكترونيات التي تجعل من الصعب على الإسرائيليين تنفيذ ضرباتهم الجوية، فضلاً عن منح السوريين أجهزة للتحقّق تحد من إمكانات الخطأ والتضارب بين الحلفاء.

الإعلان الروسي كان سبباً لفرح وحبور لا حدود لهما في بيئة «الممانعين»؛ فالضربات الجوية الإسرائيلية دمرت، في العامين الماضيين، قرابة 200 موقع ومنشأة إيرانية، وعطلت نقل صواريخ إلى لبنان، وهي في هذا كله لم تخسر إلا طائرة واحدة. كل هذا والروس ينثرون الوعود بتسليم الصواريخ إلى نظام الأسد من دون أن ينفّذوا. وفوق هذا، شاع تحليل يقول إن موسكو قد تضغط على الإيرانيين، إكراماً لعيون إسرائيل، كي ينسحبوا من سوريا، وهي بالفعل أخرجتهم من المنطقة الحدودية مع الدولة العبرية التي يتفاوت تقدير مساحتها وطولها. لهذا كله رأى الممانعون في كلام شويغو ما يشبه فتح صفحة جديدة بعد إسقاط الطائرة الروسية ومقتل 15 من طاقمها بصاروخ روسي أطلقه سوريون.

أغلب الظن أن التطور الأخير سيثير بعض التوتر في العلاقات الثنائية بين موسكو وتل أبيب، ويحد من حركة الإسرائيليين في سوريا وأجوائها، ويجعلهم أكثر انتباهاً إلى المواقع والمصالح الروسية. لكن هذا شيء وتهليل الممانعين شيء آخر.

فلا يزال هناك أكثر من شك في مدى الالتزام الروسي بما أعلنه وزير الدفاع. وسوابق الإعلان عن تسليم «إس 300» لدمشق من دون تسليمه تغذي هذا الشك. وإلى ذلك، فالخلاف الروسي الإسرائيلي يبدو أقرب إلى العتاب حتى لو ارتفعت نبرته: لقد قال شويغو نفسه إن الروس امتنعوا سابقاً عن تسليم الصواريخ مراعاةً لتل أبيب. كذلك فقد نفذوا بالفعل جزءاً من البرنامج الإسرائيلي في ما خص سوريا والوجود العسكري الإيراني فيها، وإن أحجموا عن تنفيذه بالكامل. حتى الخلاف الراهن بين الدولتين ظلت حدته أقل كثيراً من حدة الكلام الذي تبادله الروس والأتراك، بل الرئيسان بوتين وأردوغان شخصياً، بعيد إسقاط الأتراك طائرة روسية. والأهم أن المصالح المشتركة ما لبثت أن طوت الخلاف الروسي التركي، حيث انتقل الطرفان إلى «صداقة» يتفننان اليوم في وصفها. وهنا يكمن بيت القصيد:

فالروس يخوضون مغامرة سياسية خطيرة في سوريا مفادها جمع عدد من النقائض والحفاظ على علاقة طيبة بأطرافها جميعاً. لهذا فحين يقولون إنهم يعملون على تعزيز سلطة بشار الأسد ونظامه لا يكونون يقصدون إلا إنجاح سياستهم هُم في ذاك الجمع الهشّ بين النقائض، وهذا أحد موجبات حرصهم على إبقاء الصواريخ التي قد يرسلونها في عهدة قيادتهم. يزيد في الإلحاح على الوجهة هذه شعور موسكو بضرورة التوصل إلى تسوية مع الولايات المتحدة الأميركية، لا في أوكرانيا فحسب، بل أيضاً في سوريا نفسها (وربما في العراق). ذاك أن الوجود العسكري الأميركي في شمال البلاد وشرقها، وارتكاز هذا الوجود على كتلة أهلية هي الأكراد السوريون، يجعلان الصلة بإسرائيل أحد مداخل موسكو للتعامل مع هذا الواقع الأميركي. والحال أن واشنطن لم تكن أقل حدة من تل أبيب في تعبيرها عن الاستياء من كلام وزير الدفاع الروسي والتحذير من مغبته.

قد يصح القول إن موسكو تخوض في مستنقع من التناقضات التي يصعب أن تخرج منها سليمة معافاة. لكن الصحيح أيضاً في هذه الغضون أن أي علاقة ثنائية في هذا المستنقع، بما فيها العلاقة الروسية الإسرائيلية، ستبقى مضبوطة بمجمل العلاقات متعددة الأطراف هناك. وهذا، وإن كان يحتمل التوتر، فإنه لا يبرر للممانعين الذهاب بعيداً في إبداء الفرح وتبادل التهاني.

اقرأ المزيد
٣٠ سبتمبر ٢٠١٨
عندما تنشر روسيا صواريخ "أس 300" في سورية

يبدو أن توتراً سياسياً بدأ يصيب العلاقات الروسية الإسرائيلية، في إثر إسقاط طائرة التشويش والاستطلاع الروسية "إيل 20"، من المضادات الأرضية السورية، في غارة للمقاتلات الإسرائيلية على مواقع للنظام السوري في محافظة اللاذقية، مساء 17 سبتمبر/أيلول الجاري.

وتتجسّد أسباب هذا التوتر في تبعات إسقاط الطائرة، من خلال تناقض روايات إسقاطها بين ساسة موسكو وتل أبيب وعسكرييهما، خصوصا في تحديد الجهة المسؤولة، وفيما تلاها من خطواتٍ وإجراءات، حيث أبلغ الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، أنه يحمّل إسرائيل المسؤولية، وتبع ذلك إعلان وزير الدفاع الروسي، سيرغي شويغو، أنه بناء على أوامر بوتين، قرّرت بلاده تسليم نظام الأسد منظومة صواريخ "أس 300" خلال أسبوعين، وتجهيز مراكز الدفاع الجوي للنظام السوري بنظام آلي للتحكم، لا يملكه إلا الجيش الروسي، وإطلاق تشويش كهرومغناطيسي في أثناء أي هجوم مستقبلي محتمل، قد يأتي من السواحل السورية، الأمر الذي أثار حفيظة المسؤولين الأميركيين، حيث اعتبره مستشار الأمن القومي، جون بولتون "تصعيداً خطيراً"، وربط بقاء القوات الأميركية في سورية ببقاء القوات الإيرانية فيها، فيما اعتبر نتنياهو أن تسليم "أس - 300" إلى "أيد غير مسؤولة يهدّد أمن المنطقة"، وأكد على مواصلة استهداف مواقع إيران وقواتها ومليشياتها في سورية.

ويحمل الإعلان الروسي عن تسليم منظومة الصواريخ "أس 300" رسائل سياسية أشد خطورة مما تحمله من الإجراءات والخطوات العسكرية، خصوصا أنه ترافق مع الإعلان عن نشر أجهزة ووسائل إلكترونية لتشويش نشاط "طائرات معادية" واعتراضه في المجال الجوي السوري من جهة البحر الأبيض المتوسط. لكن تصريحات المسؤولين الإسرائيليين تظهر أن نصب منظومة الصواريخ "أس 300"، وتفعيلها من قبل جيش النظام السوري، لا يعطيها أهمية استراتيجية أو عسكرية، فضلاً عن أن خبراء عسكريين يرونها منظومة متقادمة، وأن مقاتلات إسرائيل، الأميركية الصنع، تملك سبلاً ووسائل لتجاوزها والتغلب عليها، لذلك لن يمنع نشرها في سورية المقاتلات الإسرائيلية من الاستمرار في استهداف المواقع الإيرانية وقوافل السلاح في سورية.

ولعل الأهم أن التردّي الذي بات يعتري العلاقات الإسرائيلية الروسية ليس من المرجح أن يتحوّل إلى أزمة سياسية حقيقية، قد تنعكس على مكانة إسرائيل وحظوتها لدى ساسة موسكو وفي المنطقة، لكن توتر هذه العلاقات قد يفضي إلى تشجيع نظام إيران على مزيد من التغلغل الاحتلالي في سورية.

وعلى الرغم من ذلك كله، يبدو أن مكانة إسرائيل لدى ساسة الكرملين لن تتأثر كثيراً، إذ خرج بوتين، بعد تلقيه خبر إسقاط الطائرة، بتصريح ناعم لم يتهم به إسرائيل، بل أسند الحادث إلى "ظروف عارضة ومأساوية"، فيما اتهمت وزارة الدفاع الروسية إسرائيل بالتسبب في إسقاط الطائرة، وبالتالي فإن قرار تسليم منظومة صواريخ "أس 300" جاء كي يحفظ ماء وجه العسكريين الروس الذين شعروا بالإهانة الإسرائيلية، على الرغم من الخدمات الجليلة التي قدمتها روسيا لدولة الاحتلال، والتي تمتد إلى جملة المواقف المؤيدة لكيانها، منذ نشأتها إبّان الاتحاد السوفييتي السابق، ولا تنحصر تلك الخدمات في مراعاة المصلحة الإسرائيلية، بل وتغليبها، من خلال التنسيق السياسي الكامل والتعاون العسكري، منذ قيام نظام بوتين بالتدخل العسكري المباشر، في سبتمبر/ أيلول 2015، في الحرب إلى جانب نظام الأسد الإجرامي وحليفه الإيراني ضد غالبية الشعب السوري، والذي نهض على التزام النظام البوتيني الحياد التام حيال الهجمات الإسرائيلية على مواقع وجود قوات إيران ومليشياتها المتعددة الجنسيات في سورية، وفق معادلة تقضي بإبلاغ القوات الروسية بتوقيت الهجمات الإسرائيلية، مقابل عدم تصدي المقاتلات والدفاعات الجوية الروسية لها. ولذلك أصابت ساسة الكرملين الدهشة، حين تلقيهم ضربة موجعة من الشريك الصهيوني، "ناكر الجميل"، خصوصا بعد أن أدركوا أن مقاتلات هذا الشريك المدلل لديهم تسببت في إسقاط الطائرة "إيل 20"، نتيجة تعمّد قيام الطيارين الإسرائيليين بتصرفات "غير مهنية"، أو "بإهمال إجرامي".

والملاحظ أن الساسة والعسكريين الروس لم يوفروا جهداً، كي يخفّفوا من وقع إجراءاتهم، بغية التقليل من تأثيرها على إسرائيل، إذ ركزوا على أن هدفهم توفير مزيد من الحماية لقواتهم في سورية، وأن روسيا لن تسمح باستخدام منظومة الصواريخ أس 300، إلا في حالة تجاوز المقاتلات الإسرائيلية الخط الأحمر، أي أمن القوات الروسية، ما يعني أنها لن تأذن باستخدامها في حال مهاجمة إسرائيل مواقع قوات إيران ومليشياتها، ولذلك على إسرائيل الالتزام بالاتفاق الروسي معها، وإعطاء الوقت الكافي لقواتها، كي تتفادى في المستقبل حوادث مماثلة لحادث إسقاط "إيل 20". وبالتالي، حتى لو سلمت روسيا منظومة الصواريخ لنظام الأسد، فإنها ستبقى تحت الأيدي والأوامر الروسية، ما يعني أن قواعد اللعبة، كما يقال، بين روسيا وإسرائيل ستبقى في الجوهر نفسه، مع توفير حماية أكبر للجنود والقوات الروسية في سورية. وعليه، تريد روسيا استغلال الإجراءات العسكرية التي اتخذتها على خلفية حادث إسقاط طائرتها، كي تظهر للغرب وللعالم كله أنها باتت تمسك بجميع الأوراق في سورية، ليس عسكرياً فقط، بل عليها استثمار ذلك سياسياً أيضاً.

اقرأ المزيد
٣٠ سبتمبر ٢٠١٨
صواريخ جديدة بيد النظام السوري

تقول تقارير صحافية إن النظام السوري تقدّم في عام 2010، أي قبيل اندلاع الثورة ضده، بطلب شراء صواريخ من نوع أس 300، وتقرَّر أن يستلمها بحلول ربيع 2014. ودار لغط كبير، في منتصف عام 2013، بشأن تسليم النظام هذه المنظومة الصاروخية الدفاعية، القادرة على صد الهجمات الجوية فوق الأراضي السورية، وإمكاناتها الكبيرة في تتبّع عدد من الأهداف، وعلى مسافات كبيرة قد تصل إلى 150 كيلومتراً، بحسب المواصفات الفنية والتعبوية المعلن عنها في صفحات الدفاع في الإنترنت.

أبدت إسرائيل تخوّفاً، وأبدت أميركا امتعاضاً، من خبرٍ أذاعه النظام بأنه على وشك استلام الدفعة الأولى من تلك الصواريخ، وكانت قوات الأسد في تلك الأيام في أحلك أوقاتها، متقوقعةً داخل دمشق، وضمن مراكز المدن، ومتخذةً وضعاً تدافع به عن نظامٍ يعتمد على أسطوله القديم من الطائرات، في محاولة صد الهجمات التي تقترب من عرشه. استجابت روسيا للقلق الغربي، وقرّرت ألا تسلم النظام تلك المنظومة لعدم حاجته إليها، فلا هي تستطيع إيقاف المتظاهرين، ولا يمكن استخدامها ضمن المجموعات العسكرية التي كانت تقاتل النظام على تخوم المدن، وعلى الطرق الرئيسية في البلاد. عاد الكلام عن تسليم الصواريخ لسورية إلى التصاعد، بعد أن ظهرت إشارات من دول في مجلس الأمن، في ذلك الوقت، عن احتمال تدخّل غربي خارجي في سورية، شبيه بالذي حصل في ليبيا، فكان رد الفعل بتصريح من بشار الأسد أن الصواريخ وصلت بالفعل.

وعدت موسكو في ذلك الوقت بالوفاء بإرسال الصواريخ، واستثمرت ذلك سياسياً، لكنها راوغت في التسليم حتى شهر سبتمبر/ أيلول من عام 2013، حين صرح الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، بأن عملية التسليم قد توقفت، ولكن إذا هاجم الغرب سورية سيعرف كيف يتصرّف. خفتت لهجة التدخل الغربي المحتمل إلى أدنى درجاتها بعد ذلك، ومؤكّد أن صفقة التسليم كانت مثار بحث بين روسيا وإسرائيل وبعض دول الغرب، وتم استثمارها في تمييع موقف الدول الغربية المائع أصلاً. أما إسرائيل فقد استمرت في مهادنة النظام السوري منذ انطلاق الثورة، وصولاً إلى لحظة دخول النظام إلى الجنوب في درعا والقنيطرة قبل أشهر قليلة، فقد ظهر أن هناك تعاوناً ميدانياً وثيقاً نسّقه الروس، حتى تمكّن جيش النظام من الوصول عميقاً إلى حدود الجولان المحتل. لا يمكن القول إن تأجيل صفقة الصواريخ أو تعليقها كان ثمناً لذلك كله، ولكن من المؤكد أنه كان عاملاً مهماً أو أحد العوامل التي ساعدت في عقد كل اتفاقات المهادنة، وسهلت عملها، فإسرائيل ترغب في اختراق الأجواء السورية من دون أي عامل تعكير وتأمين قدرتها على ضرب أي جزءٍ تعتبره مصدر خطر لها على الأراضي السورية، حتى في وجود نظام صاروخي من نوع أس 300.


وهنا سؤال عن حاجة نظام الأسد الآن إلى هذا النوع من وسائط الدفاع الثقيلة والمتقدّمة، وعن إمكانية جيشه الضعيف الذي تحوّل إلى ما يشبه المليشيا في التعامل مع تلك الصواريخ، فضلاً عن استعمالها بنجاح، وعن وجود منشآت استراتيجية بحاجة لحماية بهذه المنظومة الصاروخية المتقدّمة. لقد أظهرت حادثة سقوط الطائرة الروسية ضعف التنسيق الروسي السوري، أو ربما تجاهل القوات الجوية الروسية الدفاعات السورية، وضعف الاستخدام السوري لأنظمة أقل تطوراً، وهي أس 200 التي أسقطت الطائرة الصديقة. لذلك فالنظام بحاجة ماسة إلى خبرات سيؤمّنها له الروس لاستخدام الصواريخ الجديدة، وهكذا يمكن لإسرائيل أن تطمئن إلى أن هجومها على القواعد الإيرانية لن يتوقّف، بل قد يتعطل بعض الوقت، ليتم الاتفاق على بروتوكولات تعاونٍ عسكري جديدة مع الروس. وريثما يتم تثبيت الأنظمة، سرعان ما ستعود الهجمات الإسرائيلية التي تكثفت، في الآونة الأخيرة، إلى نشاطها، من دون خوف من تدخّل أي منظومة صواريخ.

اقرأ المزيد
٣٠ سبتمبر ٢٠١٨
أنقرة تتقدم خطوة خطوة نحو شرق الفرات

يومًا بعد يوم تزداد كمية الأسلحة والمعدات التي ترسلها الولايات المتحدة إلى شرق الفرات. الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يعلن في كل فرصة قائمة المساعدات العسكرية المرسلة إلى وحدات حماية الشعب.

بحسب آخر أرقام أعلنها أردوغان، أرسلت واشنطن حتى اليوم 3 آلاف طائرة شحن و18 ألف شاحنة محملة بالأسلحة والذخائر والمعدات العسكرية، إلى وحدات حماية الشعب.

من الملاحظ بوضوح أن جيشًا إرهابيًّا يجري تشكيله على حدودنا عبر هذه المعدات العسكرية، وتشكيل هذا الجيش لا يستهدف النظام السوري أو إيران، إنما هدفه الأساسي تركيا.

تدرك تركيا هذه الحقيقة، وترى بوضوح أن المخطط، الذي يستهدف وحدة ترابها، يجري تنفيذه رويدًا رويدًا. لهذا تدخلنا في سوريا وأرسلنا قواتنا إلى هناك.

نفذنا عمليتي درع الفرات وغصن الزيتون من أجل إحباط مخططات البنتاغون في المنطقة، وبدأنا بتعزيز وجودنا العسكري في إدلب للغاية نفسها.

ومع أننا نجحنا في قطع الطريق من المنتصف على هذا الممر الإرهابي الممتد على طول حدودنا الجنوبية من خلال العمليات العسكرية، إلا أننا لم نتمكن تمامًا بعد من إحباط مخطط واشنطن في تأسيس دولة إرهابية على حدودنا.

تستمر جهود الولايات المتحدة بلا انقطاع من أجل تأسيس "دولة" في شرق الفرات، وما لم يتحول شرق الفرات إلى "منطقة آمنة"، فإن التهديدات الناجمة عن الولايات المتحدة لن تزول.

تلميح أردوغان لعملية عسكرية ضد شرق الفرات هام جدًّا، فقد أعلن استمرار التحضيرات من أجل جعل المنطقة المذكورة آمنة على غرار عفرين. تتقدم أنقرة خطوة خطوة نحو شرق الفرات من خلال إعداد البنية التحتية والأطر الدبلوماسية اللازمة.

من المستحيل أن تقبل تركيا بالكيان والوضع القائم في شرق الفرات، لأن هذا الكيان ليس خطرًا عليها فحسب، بل على العالم الإسلامي بأسره. ومواجهة تركيا الولايات المتحدة في هذه المنطقة لا مفر منها إن عاجلًا أم آجلًا.

يدرك البنتاغون هذه الحقيقية، ولهذا يضع خططًا للضغط على تركيا من الداخل. تعلم الولايات المتحدة جيدًّا أنها لن تستطيع إيقاف تركيا في الخارج ما لم تشغلها من الداخل، ولهذا تدعم أحزاب المعارضة.

ستتقدم أنقرة رويدًا رويدًا عبر حملات ذكية ومن خلال تعزيز اتفاقاتها نحو شرق الفرات، وستحبط تمامًا المخططات الرامية لإنشاء "إسرائيل ثانية" في المنطقة. ستبوء الولايات المتحدة بالفشل لأنها لم تضع في حسبانها حقيقة أن تركيا دولة عريقة.

اقرأ المزيد
9 10 11 12 13

مقالات

عرض المزيد >
● مقالات رأي
٨ ديسمبر ٢٠٢٤
لم يكن حلماً بل هدفاً راسخاً .. ثورتنا مستمرة لصون مكتسباتها وبناء سوريا الحرة
Ahmed Elreslan  (أحمد نور)
● مقالات رأي
٦ ديسمبر ٢٠٢٤
حتى لاتضيع مكاسب ثورتنا ... رسالتي إلى أحرار سوريا عامة 
Ahmed Elreslan  (أحمد نور)
● مقالات رأي
١٣ سبتمبر ٢٠٢٤
"إدلب الخضراء"... "ثورة لكل السوريين" بكل أطيافهم لا مشاريع "أحمد زيدان" الإقصائية
ولاء زيدان
● مقالات رأي
٣٠ يوليو ٢٠٢٤
التطبيع التركي مع نظام الأسد وتداعياته على الثورة والشعب السوري 
المحامي عبد الناصر حوشان
● مقالات رأي
١٩ يونيو ٢٠٢٤
دور تمكين المرأة في مواجهة العنف الجنسي في مناطق النزاع: تحديات وحلول
أ. عبد الله العلو 
● مقالات رأي
١٩ يونيو ٢٠٢٤
صمود المرأة ودورها القيادي في مواجهة التحديات
فرح الابراهيم
● مقالات رأي
١٩ يونيو ٢٠٢٤
العنف الجنسي في حالات النزاع: تحديات وآثار وحلول ودور المرأة في هذه الظروف
أحمد غزال