السُترات الفاضحة
"استبدال السترات الصفراء بالسترات الواقية من الرصاص" كان اقتراحاً قدمته زميلة إعلامية، على صفحتها في "تويتر"، الأسبوع الماضي، للمضطهدين العرب، المعجبين بالظاهرة الجديدة في فرنسا، ويتمنون تكرارها في بلادهم.
لكن هذه الفكرة، بما انطوت عليه من سخريةٍ شديدة المرارة، تظل، حتى لو جربنا أخذها على محمل الجد، أقلَّ من أن تكفي لحماية المتظاهرين، فما بالك بتحقيق طموحهم إلى تراجع الديكتاتوريات الحاكمة، أو انحنائها، على طريقة الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، أمام غضب المحرومين من حقهم في العيش الكريم.
يلزمهم ارتداء خُوَذٍ حديديةٍ أيضاً، مع السترات الواقية من الرصاص، قال أحد الأصدقاء مُعَقِبَاً، لأن قَنَّاصِي الجيش والمخابرات يُفَضِلُّون التصويب على الرؤوس، أحياناً، لا على الصدور، كما استدرك موضحاً، وقد فاته، أو لعله نسي ما لا تنفع هذه ولا تلك في مواجهته، من وسائل القتل الوحشي التي شهدنا استخدامها على مدى السنوات السبع الفائتة، في مختلف أرجاء أرض العرب.
خذ سورية نموذجاً، وتمعّن في أساليب قتل مليون إنسان على أرضها، منذ رفع شعبها شعارات الحرية والكرامة، لتدرك حاجة المتظاهرين، كذلك، إلى كماماتٍ تقيهم غاز الأسلحة الكيميائية، ثم لتتساءل حائراً، في اللحظة ذاتها، عما إذا كانت البشرية قادرةً على اختراع سُتْرَةٍ تَكُفَّ عن الناس شظايا براميل المتفجرات التي اخترعها جلاوزة الموت في نظام بشار الأسد.
ولك أن تشطح بخيالك، إزاء ما فضحت السترات الفرنسية الصفراء من بؤسنا، لتقترح مثلاً تصميم درع تغطي كامل الجسم، من قمة الرأس إلى أخمص القدمين، حين تتذكّر أن المعتصمين المصريين في ميدان رابعة العدوية تعرّضوا للحرق أحياء عام 2013، على أيدي العسكر المدافعين عن انقلاب عبد الفتاح السيسي، ولقيّ كثيرون منهم، آنذاك، مصير اليمنيين الذين كانوا قد تَفحَّمُوا في ساحة تعز عندما أحرق الـ"بلاطجة" المدافعون عن نظام علي عبد الله صالح خيام الاعتصام عام 2011.
أهمية الدرع المقترحة تتأتى من أنها قد تصلح في المظاهرات والاعتصامات والاحتجاجات المتوقع تعرّضها لإطلاق رصاص القناصة، وإلقاء براميل المتفجرات، وقذف غاز السارين، كما يمكن للمعارض العربي أن يتحوّط بارتدائها كلما اضطر إلى مراجعة إحدى قنصليات بلاده، شريطة أن تكون مصنوعةً من مادة لا تقطع فيها المنشار، وأن يترك مفاتيح أقفالها مع خطيبته، أو زوجته، أو أي من ذويه في الخارج.
ومرة أخرى، هذا اقتراح للعرب، لا لسواهم من شعوب الأرض التي أنجزت صناعة دروعٍ تمنع عنها تغول قادتها منذ عقود طويلة سلفت. دققوا بعض الشيء في السترات الفرنسية الصفراء التي عادة ما يستخدمها السائقون علامة تحذير حين تتعطل سياراتهم، وسترون أنها تتميز بكل ما سبقت الإشارة إليه من مواصفاتٍ ضد الرصاص والنار والغازات، لأنها ترمز ببساطة إلى امتلاك الناس حق أن يصرخوا في وجه الرئيس وحكومته، محذرين من أنهم سيوقفون عجلة المجتمع، إن تعرّضوا للظلم، وهو حق تحميه، وتحمي أصحابه درع عظيمة اخترعتها البشرية، في غفلةٍ منا، وَسَمَّتْهَا الديمقراطية، ثم حيل بيننا وبين أن نستوردها في حقبة تاريخية مظلمة، كان زعماؤنا خلالها، وما زالوا، ينفقون مليارات الدولارات على استيراد الأسلحة المُكَرَسَة لقتلنا إن حاولنا التنفس.
لم يتراجع ماكرون، والحال هذه، أمام السترات الصفراء، ويعتذر، لأنه يتميز أخلاقياً على الأسد أو السيسي أو محمد بن سلمان، وإنما لأن في فرنسا نظاماً مؤسسياً ديمقراطياً يحاسبه إن أراق نقطة دم فرنسية. أوليس هو القائل إن نظيره السوري "لا يقتل الفرنسيين" في كلماتٍ عبرت عن استهتار فاضح بالمذابح التي ارتكبها الأخير ضد شعبه، وما كنا نحتاج سماعها كي نكتشف أننا جميعاً، ومهما ارتدينا من أنواع السترات، لسنا سوى أولئك الفتية الذين خلعوا قمصانهم في مدينة بانياس السورية عام 2011 وتقدموا نحو دبابات جيشهم، عراة الصدور، ليثبتوا سلمية حراكهم، فانهال عليهم الرصاص.