مراجعات كارثية
إِنَّ الرَّائِدَ لا يَكْذِبُ أَهْلَهُ
شهد التاريخ الإسلامي القديم والمعاصر عدة مراجعات، لعدد من كبار العلماء من كتاب ومحدثين، وكاد المؤرخ الناقل عنهم أن يشك في صحة إحدى الروايتين المتناقضتين المنقولة عن الباحث نفسه قبل المراجعة وبعدها؛ لولا إعلان ذلك العالم وعلى الملأ مراجعاته الفكرية أو العلمية، فأثبت صحة رأيه الثاني وأبطل الأول في المسألة الواحدة، وهكذا أقام الحجة على نفسه، ومنهم من كان يخلع ثوبه في المسجد أو في السوق، ويقول ها أنا انسلخ مما كنت أعتقد كما انسلخ من ثوبي هذا ويرميه كناية عن التغيير والانسلاخ من المعتقد القديم. تاب ورَقِيَ كرسيّا في المسجد الجامع بالبصرة يوم الجمعة ونادى بأعلى صوته: من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فإني أعرفه بنفسي، أنا فلان بن فلان كنت أقول بخلق القرآن وأن الله لا تراه الأبصار وإن أفعال الشر أنا أفعلها وأنا تائب مقلع، معتقد للرد على المعتزلة مخرج لفضائحهم ومعايبهم.
قال الفقيه أبو بكر الصَّيرَفي في ذلك : "كانت المعتزلة قد رفعوا رءوسهم حتى نشأ الأشعري فحجزهم في أقماع السَّماسم.
دفعت هؤلاء النخب الأهداف السامية والصدق مع الله والأمانة العلمية وسمو أخلاق لإتخاذ موقف تاريخي في حياتهم، انسلخوا به من معتقداتهم وما كانوا عليه وعادوا لجادة الصواب الذي وجدوا صوابه في إعلانهم الإنقلاب على تلك المعتقدات الفاسدة والتبرؤ منها على العلن، بل أمام أتباعهم مقدمين الخوف من الله على خوفهم من الرأي العام ونظرة الأتباع المقدسة لهم.
نشهد اليوم بعض الفصائل تنقلب على نفسها وتراجع أحكامها الخاطئة على استحياء أو تفاوض خصومها في الأمس ومن حرمت التعامل معهم من تحت الطاولة، تاركة أتباعها رهينة أحكام قديمة خاطئة، قد يعيش ويموت العنصر التابع لهم وهو يعتقد أنه على الحق الذي لا يجوز الحيد عنه، أو لربما يقاتل ثم يقتل من أجله، بينما القائد والشرعي لتلك الفصائل يراجع نفسه ويبيح ما كان محظوراً على غيره، بل قاتل في الأمس القريب من كان يحمل هذا المعتقد، وأكبر دليل على تلك المراجعات هي العلاقة بين الثورة والأتراك، التي بدأها الجيش الحر منذ اندلاع الثورة، حيث إهتم بتلك الروابط من منطلق التحالف الاستراتيجي الذي لا بد للثورة حتى تصل إلى أهدافها.
تتقلب بعض الفصائل تارة تحرم التعامل مع الأتراك وتصدر بيانات تدعم رأيها بالأدلة وتارة تبيحها مع التحفظ وتارة تبيحها على الإطلاق أو تنفذ أجندتها من خلف الكواليس وهي تكسوها الكسوة الدينية وتستدل بالأدلة والحجج الشرعية على صوابها.
إذاً أين كانت تلك القواعد الشرعية والنصوص عندما قاتلت تلك الفصائل منافسيها من الجيش الحر الذي سبقها بإقامة تحالفات مع الأتراك؟
أم كان ذلك القتال من أجل السيطرة والسلطة لا أكثر؟
لا شك أن خروج المناطق المحررة من مستنقع الخلافات ووصولها إلى شاطئ الأمان مرهوناً بنشر الوعي والفكر السليم المبني على استراتيجيات وتحالفات يقودها من يملك الخبرة على ضوء الشريعة، لا إلى قادة تتقن الخطاب الشعبوي والتعبئة الجماهيرية والخوض بالجماهير في رهانات تقلص الأرض تحت أرجلهم وتدفعهم للمخيمات والحصار، ثم تحولهم إلى مواد أولية بيد المشاريع الغربية البعيدة كل البعد عن الإسلام.
إن جولة سريعة في المناطق التي دخلت عليها تلك المدارس الفكرية المتشددة، بداية من أفغانستان إلى الصومال والجزائر والعراق وليبيا ونهاية في سوريا، يدرك المتتبع ما آلت إليه تلك البلاد بعد دخول الغلو إليها، ما هي النتائج التي حققها؟
ومن يسيطر عليها الآن؟
فهل بلغت تلك المدارس الفكرية التمكين لا أظن هذا؟ وجل قادتهم متواريين عن الأنظار لا يخرجون على أتباعهم إلا ببعض التسجيلات.