الهروب إلى الأمام ... هل هو هروب الأسد الأخير؟
يقول شكسبير (البلايا لا تأتي فرادى كالجواسيس، بل سرايا كالجيش)، وقال المتنبي قبله: (مَصائِبُ شَتّى جُمّعَتْ في مُصيبَةٍ... ولم يَكفِها حتى قَفَتْها مَصائِبُ)... ولو كان كلاهما على قيد الحياة لما شاهدا تطابقاً لما قالاه على أرض الواقع أكثر من حال نظام بشار الأسد الآن... فقد توالت عليه المصائب بأشكالها، وآخرها الانهيار الاقتصادي المتسارع لنظامه المتهالك أصلاً.
فلقد اقترب الدولار من حاجز 3350 ليرة (وقت كتابة هذه السطور) ورافق هذا التدهور في سعر الصرف غلاء غير مسبوق في أسعار السلع في سورية مع بقاء الرواتب على حالها منذ آخر زيادة في شهر نوفمبر الماضي عندما زادت رواتب بعض الموظفين بواقع عشرين ألف ليرة (٨ دولارات تقريباً) ليصبح معدل رواتب الموظفين المدنيين حوالي ٥٠ ألف ليرة (حوالي ٢٠ دولار) أما راتب العميد الركن في الجيش السوري فيبلغ ١٠٨ آلاف ليرة (حوالي ٤٣ دولار) مع العلم أن رواتب العسكريين لحقها زيادتان بينما رواتب المدنيين لحقها زيادة واحدة في أواخر عام ٢٠١٩، وهو، بطبيعة الحال، راتب لا يوفر أدنى مستويات العيش الأساسية لأيام وليس لشهر، فحسب مؤشر قاسيون الموالي للنظام (حسب نشرته الصادرة في ٧ أبريل/ نيسان ٢٠٢٠) تحتاج أسرة مؤلفة من خمس أشخاص إلى ٤٣٠ ألف ليرة كحد أدنى لتوفير متطلبات العيش الضرورية كالغذاء والدواء والسكن.
وجاء اقتراب موعد تطبيق قانون قيصر لحماية المدنيين في سورية بمثابة المسمار الأخير في نعش النظام أو الشعرة التي قد تقصم ظهره في ظل انتشار الفقر والجوع في مناطق سيطرته ونفاد صبر الناس، الموالين منهم قبل المعارضين لنظام حكمه، فالموالون يكتفون، حتى اللحظة، بانتقاد الوزراء فقط ويستجدون رئيسهم لتغيير الوزراء والتدخل لإنقاذ الموقف قبل الانفجار، على الرغم من أن الوزراء ومعاونيهم يتم تعيينهم من قبل رأس النظام مباشرةً فلقد نسوا (أو تناسوا) أصل المشكلة وتوجهوا إلى النتيجة مباشرة، أما المعارضون فلقد أدركوا تماماً منذ قرابة تسع سنوات أن النظام هو سبب ما آلت إليه الأمور في سورية.
وعلى الرغم من تأكيد مشرعو قانون قيصر على أنه يستهدف النظام وداعميه وأنه يوفر هامشاً كبيراً للمساعدات الطبية والإنسانية، إلا أن النظام ما زال يجترّ نظرية المؤامرة الكونية التي تستهدف سورية الوطن وليس نظام حكم بعينه... كما أن بقاء الباب مفتوحاً أمام من يريد القفز من سفينة الأسد الآخذة بالغرق هو عامل آخر من عوامل الإمعان في تفكك وتشظي نظام حكمه...
وعلى نهج ولي العهد السعودي الذي احتجز أقاربه الأمراء وأجبرهم على دفع مبالغ طائلة لسد العجز المترتب على مغامرته في اليمن، قام بشار بالضغط على ابن خاله ووكيل أعماله رامي مخلوف لدفع المليارات لخزينة الدولة الفارغة، لكن مخلوف رفض الانصياع ثم ما لبث الأمر أن انفجر وظهر الخلاف على العلن، واتخذت أذرع النظام الأمنية عدة إجراءات للسيطرة على شركات مخلوف وعلى رأسها سيرياتل، مما دفع الأخير إلى الظهور في عدة تسجيلات مصورة ليرسل رسائل التهديد والوعيد ويثبت مجدداً أن نظام بشار الأسد يعيش أسوأ أيامه.
والمتابع لسياسة نظام الأسد في العقد الأخير يلاحظ ملياً أن النظام يميل للهروب إلى الأمام كلما ضاقت به الأحوال، وهي سياسة موجعة بالنسبة له لكنها أثمرت في السابق في شغل الرأي العام وحاضنته الموالية بانتصارات وهمية لإيهام الموالين أن الحرب مازالت مستمرة ويتوجب عليهم الانتظار حتى نهاية الحرب ليقطفوا ثمار النصر المزعوم، أو لكي يستثمر في نظرية المؤامرة ويلعب دور الضحية الذي لطالما أتقنه، والأمثلة كثيرة على ذلك، فعلى سبيل المثال لا الحصر، عندما زاد الزخم الإعلامي في عام ٢٠١١ رداً على سقوط ضحايا بالعشرات في المظاهرات السلمية وخصوصاً أيام الجمعة، وتزايدت التهديدات والتحذيرات الدولية من اقتحام مدينة حماة المحاصرة، خالف النظام كل التوقعات واقتحم المدينة مرتكباً مجزرة ومعلناً نصراً مؤزراً على مدنيين أحسنوا الظن بالمجتمع الدولي، ومع مرور الأيام توالت عمليات الهروب إلى الأمام كما حصل في قصف المدنيين في حمص، وتجويع المدنيين في شرق حلب ومضايا، وآخرها تجرؤ النظام على القوات التركية ومهاجمتها في نهاية شباط الماضي على الرغم من معرفته مسبقاً أنه لا قبل له بدخول مواجهة مباشرة مع جيش قوي ومدرب كالجيش التركي لكنه فضل اللعب على وتر "مهاجمة الغزاة وتحرير كل شبر من أرض الوطن" لاستدرار عطف من تبقى من طائفته التي خسرت جل شبابها بين قتيل ومقعد ومتسول يتكفف لقمة العيش.
وبناءً عليه، هل سيقوم النظام بعملية عسكرية واسعة في إدلب كهروب أخير إلى الأمام وتشبث مستميت بكرسي السلطة في سورية؟ هذا ما ستفصح عنه الأسابيع أو الشهور القليلة القادمة.