ماذا عن عقُدة إدلب ومن سيتولى فكها؟
السؤال الأكثر إلحاحاً اليوم؛ ما هو مصير إدلب ومن سيتولى مهمة الهجوم عليها أو ضبط الأمن فيها؟ بعد أن تجنبتها المليشيات الانفصالية الكردية منكفئة على نفسها في شرق الفرات، ثم تخاذل الشيعة من الإيرانيين وحزب اللات اللبناني عن المشاركة بالعمليات الأخيرة لما ينتظرهم فيها من استنزاف.
بقيت ميليشيات النظام تقاتل وحدها وزُجّ بعناصر المصالحات لتحرق على تخوم إدلب، تلك الأرض القاسية المعقدة بتضاريسها وقديمة في مناهضة نظام الأسد، المحافظة التي تفصلها جبل الساحل والأكراد عن مستنقع الساحل وما فيه من بؤر للإرهاب وتتوسطها قمة كبّينة الاستراتيجية التي مرغت أنوف الروس، ويفصلها من جهة الغاب جبل الزاوية معقل الثورة الأقدم ومنبع البطولات.
شكلت تلك الجبال سدا منيعا حول حصن الثورة الأخير أمام مجرمي الأسد ووكلاء الروس والايرانيين، ليتردد الجميع في اقتحامها أو الاقتراب منها، وخاصة بعد تحصينها ولم تجد ميليشيا النمر ألا خاصرة قلعة المضيق الرخوة لتراهن عليها وكادت أن تنجح بالمرور من خلالها إلى إدلب لو لم تبتلع الثورة الصدمة وتبدأ خوض معارك البطولة بما ملكته من مضادات.
إدلب خزان الثورة الذي لا ينضب، يتدفق الشباب الثائر من جميع أنحائها إلى خط الجبهة الساخن الأول، هذا الخط الدامي يبدأ بريف حلب وسراقب ويعبر جرجناز في ريف معرة النعمان ثم خان شيخون، ثم يمتد على مشارف الغاب وينتهي في جسر الشغور لتشكل معاً جبهة عصية، ومن خلفها مدينة بنش وتفتناز وأريحا والجبل الوسطاني وباقي البلدات التي لم تبخل برجالها ويتدفق منها المقاتلون والمتطوعون لأن جميعهم يدرك حجم التهديد الذي ينتظر معقل الثورة الأخير بمن فيها من أهالي ومهجرين الراسخين الثابتين على مبادئهم من باقي المحافظات.
نظرا لكل ماسبق وما جمعته هذه البلد من ظروف استثنائية فلا أظن أن الهجوم عليها سيكون نزهة للمحتلين، بل لن يقدم عليه إلا أحمق مخبول، وهي البلد الخالية من الثروات لكنها الغنية بالكرامة والكبرياء، كيف سيفعلها وقد بدأ يتدفق بعض الدعم العسكري المضاد للدروع من الشمال التركي بعد التصعيد الأخير ضد نقاط المراقبة، وقد شهد الجميع ثبات شبابها أمام تلك الهجمات رغم القصف الهستيري البربري المجنون، وما تمخض عن فشل الهجوم البري عليها، وأوقف الميلشيات عند قلعة المضيق وكفرنبودة، ثم ابتلع الثوار الصدمة وبدأوا العمل على خاصرة أخرى ونزعوا من النظام جبين وتل ملح ودمروا العشرات من الآليات.
إدلب توافقت فيها مصلحة أهلها والمهجرين إليها من باقي المحافظات مع المصالح التركية وأمنها القومي، ثم توافقت مصالح جميع من سبق مع المصالح الأوربية الخائفة من موجات النزوح، فأسرعت أمريكا لتسهيل تقديم الدعم بوصاية تركية بهدف جر الروس إلى مستنقع الدم وهذا سيحقق المزيد من الاستنزاف لجميع دول المنطقة بمباركة إسرائيلية.
تعكف في الجهة المقابلة المليشيات الشيعية على همومها وتتجرع مرارة العقوبات، وتحصد ما زرعته من شر وحرب طائفية أرهقت منطقة الشرق الأوسط، تلك العقوبات التي تشتد قسوتها بالتزامن مع التهديدات الأمريكية ببدء الحرب عليها، إضافة لمحاولة الروس التخلص من شراكتها في الانتصار المزعوم، مما اضطر الأخير لبدء الهجوم معتمدا على مليشيات المصالحات والفيلق الخامس الموالي له، مما أظهر عجز الروس عن تنفيذ مخطط (الإعادة الثلاثي):
1- فشل إعادة تدوير الأسد وتصديره إلى المجتمع الدولي والاعتراف به مجددا.
2- كما فشل إعادة الإعمار بوجود الأسد ووجود إيران معه في سوريا.
3- وبالتالي فشل إعادة اللاجئين إلى بلادهم. نتيجة لغطرسة الروس وتصعيدهم الأخير تبتعد إدلب وريف حلب الشمالي عن متناول الروس وتنحصر سيطرة النظام والمليشيات التابعة له ولطهران في المنطقة الجنوبية بعد أن انسلخ عنها الشريط الحدودي التركي من إدلب الثائرة إلى الريف الشمالي وتحتفظ أمريكا بشرق الفرات سلة خيرات سوريا ومنبع ثرواتها.
إيران الأخرى تبدو ذليلة خارجياً وعادت من سوريا خائبة، خائفة من تعكير صفو الأوروبيين والأتراك إذا ما شاركت في تلك المحرقة، وهي كم يشتري عدوا جديدا قريبا على حدودها تضمه لأمريكا، وكأنها ستكتفي بعداء الخليج العربي، وتريد أن تحافظ على حجم الاستثمارات المتدفقة إليها من أوروبا عبر تركيا، وقد كانت تحاول تمرير الثروات عبر سوريا المفيدة من الجنوب السوري إلى لبنان ثم المتوسط وحاولت البقاء فيه مما شكل تهديدا لمصالح الروس وسبب خلافا بين الضامنين المقاتلين إلى جانب النظام. يبدو أن إيران استبقت الأحداث، فنزعت مسمار جحا -كفريا والفوعة- من إدلب ولا تفكر بالعودة إليها، وكل المعلومات عن حشد لمليشيات الشيعة على تخوم إدلب غير صحيحة، وخاصة بعد الضربات الموجعة التي تلقتها من أمريكا لمحاولتها الاقتراب من شرق الفرات.
مما سبق يتبين أن الجميع سيتخلى عن ملف إدلب لصالح تركيا، ويوكل إليها التعامل معه فهي الأقدر على إدارته، وبسط سيطرة الجيش الوطني المقرب إليها، وأي محاولة للتصعيد من قبل الروس سيقابل بتصعيد ثوري ومواجهة مفتوحة على جميع الجبهات، ولن يقبل الأتراك بأي تهديد لأمنهم القومي، فهل ستقامر روسيا بعلاقتها مع تركيا وتدفع ما في جعبتها على الطاولة لصالح الأمريكان وإسرائيل المستفيد الوحيد، أم سترضخ وتعلن عن هدنة طويلة تراجع فيه حساباتها وتتراجع عن سياسة القضم وتعيد البلدات المحتلة في الشهرين الأخيرين لأصحابها؟