معركة الفن.. هل يمكن أن ننتج دراما سورية للثورة؟
طالما نسمع بمصطلح السياسة الشرعية في المناطق المحررة في شمال غرب سورية من قبل التيارات الإسلامية عموماً وهو اصطلاح شرعي يعني إدارة شؤون البلاد بما لم يرد فيه نص حسب المتغيرات ومقتضيات المرحلة وبمعنى آخر قد يكون فهم عدم الثبات والاستجابة بما يناسب متغيرات الواقع بعيداً عن النمطية والتقليدية المعتادة وبذلك تصبح القوانين والأحكام حية ومرنة وملاءمة للواقع وتحقق الحلول لتحديات الزمان المختلفة.
بناء على هذا الفهم فإن السياسة الشرعية قد تكون سياسة أدبية فيما إذا كان حقل الاحتياج هو الآداب والتغيرات التي طرأت على الزمان أو المكان أو الرجال هي تغيرات في الغاية من تطوير النص الأدبي أو الأدوات المستخدمة في بناءه. وكذلك الأمر فإن هذا المنطق يؤدي إلى نقاش السياسة الفنية أو بمعنى آخر تأقلم فن المرحلة القائمة بما يمتلك من أهلية مكنت له من البقاء على قيد الاهتمام والمتابعة من قبل الجمهور وكما هو معلوم من الفن بالضرورة فإن النتاج الفني الذي لا جمهور له يتراجع ويموت سريعاً والفن الذي لا يجيد التأقلم مع المتغيرات ويلبي الحاجات الجديدة فإنه سيفرد إفراد البعير الأجرب.
ومن المدهش بمكان رصد العديد من التجارب والمبادرات الفنية في المناطق المحررة رغم كل التغييرات الجذرية التي وقعت فيها مما يفسر قدرة هذا الفن على الاستجابة لمتطلبات تغير الواقع وبالتالي فيمكننا وصم هذه التجارب الفنية بأنها فنون مرحلة أو فنون تعي فقه المرحلة وتحدياتها. وإنك تلاحظ أن التعديلات والتغييرات التي فرضت نفسها على هذه التجارب قد أصابتها في عمقها وشكلها فأسقطت الكثير من تقاليدها وشجعت على فنون لم تكن منتشرة من ذي قبل كالرسم على الجدران والتنكر وأداء الأدوار والمقتطفات الدرامية القصيرة والاستعراضات الثورية في ساحات المظاهرات واللوحات الجماعية ولافتات الثورة والأداء الجماعي للأناشيد الثورية.
ولتصور نوع المبادرات والتجارب الفنية المميزة في شمال غرب سورية اليوم والشكل الذي وصلت إليه تحت خيمة النزوح وبين ذرات البارود لا بد لنا من دراسة مقارنة لطبيعة وأسباب نمو الفنون المختلفة بين مناطق المعارضة ومناطق النظام في المرحلة الحالية التي تميزت منذ بدايتها بتحطم القامات الفنية التقليدية في مناطق المعارضة أو على الأعم ضمن الحاضنة الشعبية للمعارضة. حيث أن أغلب الفنانين والأدباء السوريين بشكل عام نبتوا في تربة حزب البعث شأنهم بذلك شأن بقية المثقفين والفاعلين في سورية كالمعلمين والضباط والأطباء وغيرهم إلا أن معظمهم لم يأخذ فرصة التطهر والتسامح كحال البقية بسبب طبيعة تسويق منجزهم الفني المعتمد على العرض والاستعراض عبر منابر مرتبطة بشكل قطعي بأجندة النظام المغلقة إلا أمام المداهنين للسلطة الممالئين لها علناً.
مما أدى إلى تحطم كثير من هذه القامات التقليدية بعد عزوف الجمهور عنهم. ولأن مصائب قوم عند قوم فوائد فقد أتاح ذلك فرصة الظهور للمبادرين الجدد أو المقصيين سابقاً الذين حضروا وأحضروا معهم ثورة فنية كاملة في المواقف والاتجاهات والمدارس اختصرت هذه القفزة الفنية مراحل افتراضية طويلة من التدرج نحو تطوير العمل الفني عبر القيادة التقليدية من قبل حراس النمطية والتكرار. فأصبحت مادة الفنان أكثر واقعية وجرأة وغير متقولبة في أشكال جاهزة معدة مسبقاً من قبل أجهزة المخابرات وبحكم حداثة التجربة فلا يوجد لدى الفنانين الجدد قصص نجاح مرتبطة بأشكال فينة تقليدية مما سهل عليهم نفسياً تخطي حاجز التكرار والبحث بكامل الحرية عما هو أكثر صدقاُ وملاءمة في حين لا تزال إلى اليوم المناطق الواقعة في قبضة النظام تعيش قيوداً فنية تحت نمذجة تقليدية مفروضة حرمتها من فرص التطور وجعلتها حبيسة أشكال مطروقة.
ولا يعتبر غياب القيود الرسمية على الفنون في المحرر سبباً وحيداً في تطورها مقارنة بالفنون في مناطق النظام بل تعدته إلى القطيعة التامة على الصعيد الشعبي بين طرفي جدار الحرب فنادراً ما تشاهد معارضاً أو ثائراً اليوم يهتم بأي عمل درامي أو فني يعرض على شاشات قنوات النظام التي شاركت بشكل مباشر في التحريض على قتل الأبرياء. وكذلك الأمر فإن الحاضنة البعثية في الضفة الأخرى مقتنعة أو تقنع نفسها أن كل من ثار ضد النظام هو عميل مستأجر أو إرهابي وبالتالي لا يقبل منه عمل ولا فن وهذه المواقف السياسية الشعبية ألقت بظلالها على الاتصال الفني بين كلا الطرفين وجعلت الفن السوري بشكل عام ينمو في تربتين مختلفتين تماماً تتغذى كل منهما على إيديولوجيا مناهضة للأخرى مما أدى إلى ظهور أنماط مختلفة كلياً أكثر انتماءً للواقع الذي تنتج فيه تستمد أدواتها من الواقع المعاشي كما في نماذج الرسم على الجدران لتكون أدواتها الطلاء البسيط ورمزيتها الصمود والاستمرار فأنطقت الحجارة وحررت الجدران.
هذه المحدودية في وفرة الأدوات الفنية الناتجة عن عزوف الداعمين لمناطق المعارضة عن رفد الفن وتشجعيه وانشغالهم فقط بالسعي لتأمين المساعدات المعيشية جعلت النتاج الفني في المناطق المحررة حبيس القلة فأصبح يقدم فنوناً توجه في أغلبها لمجتمعه المحلي وبالتالي أصبح النتاج الفني ينمو كما النبات إذا غرسته في صندوق تجد شكله يتوقف عند حدود الحيز المتاح له بين جدران ذلك الصندوق وذلك على خلاف الفن المنطلق الذي يصلح للفائدة والمتعة في كل زمان ومكان وكأنه أصبح كقطعة المكعبات التي يصعب تركيبها خارج مساحتها المخصصة في اللعبة وعلى الرغم من ذلك فقد استطاعت العديد من التجارب الاستثنائية النمو من خلال شقوق ذلك الصندوق والانطلاق نحو شمس العمومية كما رأينا في لوحات الفنان التشكيلي عمار سفلو وفيلم حياة وغيرها.
وكون الفنان الأصيل ابن بيئته يسير في ركب قضيتها فقد استطاع الفنان في المناطق المحررة أن يثبت عمق ولائه لأولويات المرحلة وضروراتها فقَصر فنه على تطهير الوطن من الاستبداد دون تطهير الفرد والمجتمع من المفاسد كما نظر أرسطو في كتابه الشعر لأغراض الفنون. فرضي الفنان أن يقدم منتجاً أقل صدامية مع المجتمع من الناحية الثقافية وأظهر احترامه تجاه عقيدة الناس فالتزم بمحظوراتها ورتع في مباحاتها واستطاع أن يطوي خلافاته التقليدية مع البيئات المحافظة فقدم مسرحاً بلا ممثلات كما في مسرحية مجنون للفنان مصطفى شحود ولوحات بلا تجسيم كما في لوحات الطبيعة الصامتة للفنان التشكيلي عدنان كدرش. وأصبح الفن يطرح بجرأة بعيداً عن مخاوف الرفض والنبذ من قبل جمهور يعيش في منطقة ترى بأن النجاة من الموت والفوز بالحرية هي غاية الغايات وكل حديث عما سواها مدعاة لتمييع القضية وخلط الأولويات وتقديم المؤجل على المعجل.
وبلا شك فإن معركة الفن هي معركة الفنانين أنفسهم وانحياز الفنانين بين الحق والباطل عمّق المعركة القائمة فلا يخلو عمل درامي تنتجه الدراما الرسمية من التصريح والتعريض بما تدعو إليه الرواية الرسمية مما دعى فن المعارضة إلى بذل المحاولات للرد عليها بما يضاهيها فنياً ويحقق متعة أكبر ويقدم رسالة أكثر عمقاً وصدقاً ما ساعد بشكل كبير في قبول انتشار الفنون بنحو أكبر في مناطق لا صوت يعلو فيها على صوت القصف ولا حديث فيها إلا حديث الموت وأصبح أكثر قبولاً لنجاحه في إقناع الناس أنه فن مرحلة بامتياز وله قدرة على فهم التغييرات في فلسفة الناس ومقارباتهم وتفاعلات المجتمع وعنده أهلية فنية تمكنه من مواجهة جانب من دعاية النظام مما ترك جمره متقد في كل الظروف حتى وإن غطته طبقات من رماد الأهوال والذهول والانشغال فالمعركة الفنية والأدبية والثقافية والإعلامية وغيرها جزء من المعركة الشاملة بين الحق والباطل في سورية وهي أدوات ناجحة في الترويج للدعايات والمواقف السياسية وستصبح المبادرات الفردية اليوم ظواهر غداً وستصبح التجارب الأولية مدارس والمبتدؤون منظرون ورموز.