لم يكن مفاجئاً استدعاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لرئيس النظام السوري بشار الأسد أخيراً إلى سوتشي! فالأسد الذي لم يعد يحمل من الحلول شيئاً ذا قيمة منذ سنوات، هو في حقيقة الأمر حل في ذاته بالنسبة لبوتين، حل سمين صالح لأن يستخدمه رجل روسيا القوي داخلياً وخارجياً. يحرص الرئيس الروسي بين فترة وأخرى على إعادة تأهيل بشار الأسد من خلال الالتقاء به في روسيا أو في «الأراضي الروسية» في سورية والمتمثلة في القواعد العسكرية! يحرص دائماً، وكلما سنحت الفرصة، على إظهار الأسد كرئيس دولة وليس كأمير حرب صغير كما هو في واقع الحال!
لماذا يفعل بوتين ذلك؟ لأمرين رئيسين، الأول «شرعنة» الوجود العسكري الروسي في روسيا، وتجريم أي وجود آخر، من خلال شحن الأسد في الطائرات غير المجدولة وتصديره رئيساً شرعياً في مواجهة المجتمع الدولي. بوتين يعرف أن إخفاء الأسد لوقت طويل، أو التعامل معه على أنه أحد اللاعبين الصغار في الأزمة السورية، سيلغي شرعية وجود روسيا في سورية، وستبدو الدولة الكبيرة التي تسعى لأن تكون قطباً مكافئاً لأميركا، مجرد محتل مرفوض من أطياف سورية عدة! الرئيس الشرعي السوري من وجهة النظر الروسية هو الذي استدعى «عسكر بوتين» في شكل شرعي، وبالتالي فإن على الآخرين الذين لم تستدعهم الشرعية السورية أن يغادروا البلاد في أقرب فرصة. بوتين يريد أن يقول للعالم من خلال هذه اللقاءات إن بشار الأسد هو الرئيس الشرعي الوحيد لسورية، وأن هذه الشرعية وهذه الحصرية هما اللتان تملكان الحقوق القانونية لاستدعاء الأجانب أو طردهم من الأرض السورية.
الأمر الثاني هو إظهار الدعم الروسي لأسد ما بعد الحلول السلمية والتسوية السياسية. يحرص بوتين على أن يبقي بشار الأسد رئيساً شرعياً في الوقت الحالي، لكنه أكثر حرصاً على أن يظل هذا «الشرعي من وجهة النظر الروسية» موجوداً في السلطة بشحمه أو رسمه لسنوات طويلة مقبلة. روسيا –وإن زادت التكهنات والتخرصات في الوقت الحالي- لن تغامر بتسوية سياسية مع أميركا على حساب رأس الأسد، لأن ذلك يعني ببساطة أن الروس يضعون مستقبل قواعدهم العسكرية في سورية ومستقبل وجودهم في المياه الدافئة في البحر الأبيض المتوسط على «كف عفريت»! من يضمن لروسيا أن السلطة السورية المقبلة التي «بلا أسد» ستكون حليفة لموسكو؟ ومن يضمن أن التسوية السياسية التي «بلا أسد» ستتعامل مع بوتين على أنه منقذ للبلاد وليس مجرم حرب قاتل للمدنيين!
روسيا التي تحتل الغرب السوري في الوقت الحالي ستعمل خلال الأشهر والسنوات القليلة المقبلة على أن توطد حكم الأسد في دمشق، إما بإبقاء الرجل نفسه كممثل رفيع المستوى لموسكو، أو استبداله بحكومة «فيشية» تقوم مقامه وتؤدي دوره. ولن تتنازل أبداً عن هذا الحق المغتصب اغتصاباً في أي تسوية مقبلة، لأنها تعرف مثلما قلت أن وجودها الاستراتيجي في المنطقة مرتبط بوجود بشار نفسه، أو وجود نظام عميل شبيه!
لم يكن التقاء بوتين الأسد في سوتشي مفاجئاً مثلما قلت في بداية هذه المقالة، لكن المفاجئ في الحقيقة هو تفسير مبعوث الرئيس الروسي الخاص لسورية ألكساندر لافرينتيف لتصريح بوتين، الذي أكد فيه ضرورة انسحاب القوات الأجنبية الموجودة في شكل غير شرعي في سورية! لافرينتيف على غير عادة الروس كان واضحاً في تفسيره لتصريح رئيسه، ولم يستعر أبداً أياً من المفردات التي درج على استخدامها وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في مناوراته الديبلوماسية المعهودة! بل ذهب في شكل مباشر إلى تحديد الدول المعنية بحديث بوتين، وذكر من بينها إيران والميليشيات الشيعية التابعة لها!
هذه المباشرة الروسية على غير العادة لم ترق للإيرانيين الذين ردوا بأنهم هم أيضاً تم استدعاؤهم في شكل شرعي من نظام الأسد! وأنه لا يحق لأي كائن من كان أن يخرجهم من الأراضي السورية.
ومبعث المفاجأة في هذه المسألة أن الروس قرروا مبكراً التخلص من الإيرانيين نزولاً عند رغبة إسرائيل، على رغم أن الوجود الإيراني في سورية قد يكون مفيداً للجانب الروسي في مناوراته السياسية مع أميركا التي تحتل الشرق السوري! مبعث المفاجأة في هذه التوجه الروسي الجديد ربما، هو أن الروس باتوا في الفترة الأخيرة يفصلون المصالح الأميركية عن المصالح الإسرائيلية، ولا يعدانهما مكملتان لبعضهما في المنطقة!
روسيا تتخلى عن إيران، هذا أمر مفهوم ومتوقع من حيث الشكل، فالروس عبر تاريخهم لم يكونوا حلفاء جيدين أبداً لأي أمة أو بلد، لكن روسيا تتخلى عن إيران في هذا الوقت وهذه الظروف!! هذا أمر قد يُدخل إسرائيل في عملية صيانة الحكومة البعثية الحالية في دمشق، وقد يجعلها تهدد من «يهدد بمسح بشار الأسد من على خريطة الكرة الأرضية» بمسحه من على خريطة الكرة الأرضية!! لننتظر، ونرى!
نتشرت طرائف عجيبة في حقبة الأسد، تجد أنساباً وصداقات بين مختلفات ومتشاكسات، مثلاً:
ما وجه الشبه بين الفيل والنملة؟ وبين "الفيزون" والجزر؟ وبين الأسد أباً أو ابناً أو حفيداً والطبيعة؟ أما العلاقة بين هذه الأسرة النبيلة الطاهرة العفيفة والمؤامرة الكونية؛ من مجرّة درب التبانة إلى مجرة درب الذي يسد ما يرد، فمعروفة. والعلاقة هي أنّ سكان هذه المجرّة يغارون من حبِّ شعبه له. ربما يغارون من محور المقاومة.
من يسمع عبيد الأسد يظنُّ كل الظنِّ أنهم يقدّسون سوى الأسد الطبيعة، ورومانتيكيون، ويعبدون ظواهرها، من حجر وشجر وشمس وقمر. في أول أيام الثورة، عندما خرج الناس متظاهرين ضد الطغيان، زعمت مذيعةٌ، أطلق عليها الناشطون اسم مذيعة المطر، أنهم خرجوا من أجل الاحتفال بالمطر، وكانوا ينادون المطر باسمٍ مستعار، ومؤنث، تحبّبا هو: حرية حرية حرية. أمس، زعم مراسل قناة المنار، حسين مرتضى، أنّ انفجارات مطار حماة هي نتيجة ارتفاع درجة الحرارة! حتى بطلة فيلم شوارع النار، الحاجّة إلهام شاهين، زعمت في تبرير كيمياء الغوطة الأخير أنَّ عاصفة ترابية هي التي تسبّبت في حالات اختناق أهلها. وكان جند الأسد، إبّان الاقتحامات يكتبون على صدورهم: زلزال الأسد قادم، حتى لتظننّ كل الظنِّ أنهم جماعة دهرية. الأسد الأب نفسه ادّعى، من غير أن يرفَّ له جفن، أنّ قوانين الطوارئ والأحكام العرفية هي لحماية الغابات من الحرق، وقد أحرقت غابات ثرية بالطبيعة والحيوانات في مناطق مواليهِ، فمناطق خصومه قليلة الشجر، طمعا في تحويلها مناطق عقارية، من غير شعار: العقار أو نحرق الأشجار.
النظام نظام منكر ونكران، لن يقرَّ أبدا بالحقائق وسيهرب منها، سابقاً كان يعترف بأخطاء فردية، من غير تحديدٍ للأفراد، ولا للأخطاء، وبقليلٍ من التأمل سيجد المرء أنَّ ثورة الثامن من آذار نفسها انطلقت من قلب الطبيعة، فلا تعرف لها أبطالا، ولا ذكريات، شيء يشبه "الانفجار العظيم". الطائرات الحربية غالباً تسقط بخطأ فني، أو بسبب عصافير.
خلال الأحقاب الطويلة التي حكم فيها الأسد، وكان ينوي حكم سورية فترةً مثل العهد العباسي، دمّر طبيعتين في سورية، هما الطبيعة من أنهار جفت، وأشجار أحرقت من أجل تدفئة الجنود على الحواجز، والطبيعة الإنسانية للشعب السوري الكريم، الشهم. ويمكن أن نتذكّر أنه جرى بناء معمل طرطوس للإسمنت الملوث للبيئة على شاطئ البحر في منطقةٍ سياحيةٍ، ومعمل الورق الشهير على نهر الفرات، ونتذكّر دفن النفايات النووية التي اتهم بها عبد الحليم خدام، وتروى أخبار عن صفقات لدفن نفايات جارتنا لبنان في سورية في مقابل أموال، أو مكاسب سياسية.
كانت الرومانسية حركة فنية وأدبية مستمدة من كلمة رومان، وثورة إبداعية بدأت في فرنسا التي توصف بأنها معمل أفكار أوروبا، برزت رد فعل على الثورة الصناعية، والأرستقراطية، وتجسّدت في الموسيقى والتصوير والأدب، واقترنت مع الليبرالية والراديكالية، ونمو القومية لدى الشعوب.
أبرزت الرومانسية الأوربية قوة المشاعر، والعواطف الإنسانية، ورفعت شأن الفنون الشعبية. أما الرومانسية السورية، فظهرت مع فناني التحليل السياسي ومذيعي نشرات الأخبار، واقترنت بالكذب، والدماء والأغاني الهابطة، وتعفيش الغسّالات والثلاجات، واستعمال الأسلحة المحرمة دوليا في قتل البشر وتدمير الحجر، وتشجيع الطائفية ودعمها، ونثر الورود على الاستعمار، وتشجيع أدب السجون الذي ارتبط بحقبة الأسد السوداء.
للقارئ العربي الذي لا يعرف وجه الشبه بين الفيل والنملة، أنّ النملة قادرة على حكِّ ظهر الفيل، أما الفيل فيعجز عن حكِّ ظهر النملة، والعلاقة بين الفيزون، وهو سروال نسائي ضيق وشفاف وديمقراطي جاء من كلمة "فيجن" أي النظر، والجزر، هي أنهما يقويّان حاسة البصر. أما وجه القرابة بين الأسد والرومانسية فعسى أن نكون رأيناها في هذا المقال بعد تقوية النظر ببعض الجزر، فالفيزون يفسد صيام الأتقياء على أصح الأقوال.
يحتاج سبب انتشار هذه الطرائف في عهد أسرة الأسد تحليلا رصينا، يبحث عن أصل التشابه، لا عن صلةٍ وحيدةٍ كالتي تجمع بين الأسد أو حرق البلد.
أوضحت الضربة الثلاثية على مواقع للنظام في سورية، وبعدها الضربات الإسرائيلية المتتالية، أن لحضور روسيا في سورية حدوداً واضحة؛ أي عليها ضمان مصالح إسرائيل، والتوافق مع الأميركان وحلفائهم من أجل تحجيم إيران، والسير نحو تسوية سياسية، ومن ثم إعادة الإعمار، وحينها سيُسمح لروسيا بفرض احتلالها على أوسع مناطق في سورية.
ترسم روسيا التي قايضت تركيا عبر السيطرة على الغوطة الشرقية في مقابل احتلال تركيا عفرين، أماكن نفوذها، بما يحفظ المصالح الأميركية والإسرائيلية، ويعطي لتركيا حصّتها، وهي حصة لا ترفضها الولايات المتحدة. تظل المشكلة التي لم تُحسم بشكل كامل حدود الوجود الإيراني في سورية. لا تريد أميركا وإسرائيل أي حضور فاعل. وهنا لا يمكن لأي عاقل أن يتكلم عن مؤامرةٍ تُحيكها كل من الاثنتين وإيران لبقاء الأخيرة في سورية، وأن توزّع كل منها حصصاً معنية. لا، استفادت إيران من سياساتٍ أميركية سابقة، وتمدّدت في الدول العربية على حساب احتلال أفغانستان والعراق! ومشكلتها أنّها تجاوزت الحدود الممكنة لقدراتها، وللمسموح به أميركياً، وبالتالي لا بد من إعادتها إلى حجمها الطبيعي. خروج أميركا من الاتفاق النووي، والضربات الإسرائيلية المستمرة، وتركها تتورّط في اليمن، وتهميشها في العراق، كلها عناصر تقول بضرورة أن تتحجّم في سورية، وقبالة ذلك تتعزّز المصالح الروسية الإسرائيلية الأميركية في سورية.
استدعى بوتين الرئيس السوري إلى سوتشي، وأيضاً من دون مرافقة وزارية له. يريد الروس إيصال رسالتهم له، وهي أن روسيا هي من يتحكم في مستقبل سورية، والعلاقة مع إسرائيل وأميركا هي من تديرها، وبالتالي لم تعد الخيارات متاحةً أمامه للمناورة مع إيران ضد الوجود الروسي وسواه. يريد الروس من خلال هذه الزيارة التأكيد أن الوجود الإيراني أصبح عبئاً عليه، وبالتالي وبالتخلص من الغوطة وبقايا "داعش" في بعض بلدات جنوب دمشق وفصائل الجيش الحر هناك، وليس من معركة ضد إدلب أو الرقة أو درعا. تريد روسيا إعطاء دروسٍ تُفيد بتحديدٍ دقيق لنفوذ الدول التي تتوافق معها، كما تركيا، أو تختلف معها كما الأميركان وحلفائهم، وكذلك أن لإسرائيل الحق بأية ضربات ضد المواقع الإيرانية. لا تترك روسيا للرئيس السوري خياراتٍ إذاً، وتتفق معه على ضرورة تفعيل اللجنة الدستورية، وأن الحل غير ممكن في سورية من دون إخراج القوات الأجنبية، "الإيرانية" خصوصا، والبدء بتسويةٍ سياسية بالتوافق مع أميركا والأوروبيين.
إيران قبل انسحاب ترامب من النووي غيرها بعده. توضح محاولاتها مع الأوروبيين للتقليل من شأن الانسحاب، التخوف الكبير من مفاعلاتها الاقتصادية على الطرفين. أصبحت ضغوطها على الروس في الأراضي السورية للحفاظ على مصالحها كما خَططت لها في مهب الريح. أصبح الروس أكثر قوةً بعد الانسحاب، وبالتالي تتعرّض إيران إلى ضغوط كبيرة، ودورها يكمن في فهم السياسة العالمية والحدود المسموح لها بالتحرّك فيها. تركيا التي حوصرت بين السياسات الروسية والأميركية في سورية انحازت للروس، لكنها لم تقطع صلتها بالأطلسي، ولا بأميركا ومصالحها في سورية. رفضت تركيا الانسحاب الأميركي من النووي، وهناك تقارير تُفيد بمدّ إيران بأجهزة تقنية وبضائع من إسرائيل، وتستخدم في صناعتها. ترسم تركيا بذلك علاقات جديدة مع إيران، فليس مسموحاً للأخيرة بالاعتراض على الوجود التركي في شمال سورية وشرقها، وستكون إدلب من حصتها. وقبالة ذلك لن تذهب تركيا إلى أية تحالفات مع الدول العربية أو إسرائيل أو أميركا للضغط على إيران، وربما ستظل المنافس الاقتصادي لها، للقيام بعلاقاتٍ تجارية غير "شرعية".
تُرسم السياسة الدولية وتنفذ على المدى الطويل، وانهيارات الدول العربية مسألة أساسية في أجندات تلك الدول، ويبدو أن ذلك ينطبق على إيران التي تعاني أزمة كبيرة اقتصادية وسياسية. ووفقاً لسياسات الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، فإن كل أحلام إيران بعلاقات اقتصادية طبيعية مع أوروبا للهروب من الأزمات والوجود في العراق وسورية واليمن أصبحت مهدّدةً. لدى أميركا صفقات مع السعودية خصوصا، وهناك توافقات مع إسرائيل على ضرورة تهميش إيران، وسيكون لروسيا الحصة الأكبر في سورية. وبالتالي هناك خطوات تتحقق بشكل هادئ ضد إيران، تؤكد كلها أن الخلافات الروسية الأميركية سيكون لها حد، وستكون الدولة الأكثر تضرّراً منها إيران بالتحديد. الصمت الروسي على الضربة الثلاثية، وإعطاء الضوء الأخضر لإسرائيل مؤشرات واضحة على أنه ليس لإيران مكان في سورية.
الدرس الروسي المركزي الآن أن روسيا هي من يُقرّر المسموح والممنوع في سورية وليس النظام. دور النظام فقط في الموافقة، وما كان مسموحاً له من قبل أصبح ممنوعاً عنه. استعادة كل المناطق من أيدي الفصائل كان بسبب التدخل الروسي. وتنسف روسيا بذلك العلاقة "التاريخية" بين النظام وإيران، وبذلك يصبح النظام ورقةً سياسيةً بيدها. أميركا وأوروبا تتحركان في سورية بشكل تحالفي، وهذا سبب رفض حضورهما إلى اجتماع أستانة أخيرا، وهي رسالة جديدة للروس، ليفهموا المطلوب منهم.
ستظل إشكالية روسيا مع أميركا تحديدا، وهي أن أميركا ترفض أية صفقاتٍ تخص القضايا الدولية معها، بينما تصرّ روسيا على ذلك؛ لكن رسم الحدود الحالي، وضمان مصالح كل من إسرائيل وأميركا في شرق سورية، وحتى في جنوبها، وربط بوتين العملية السياسية بإخراج القوات الأجنبية، أقول كلها مؤشراتٌ تفيد بأن روسيا ستبحث عن حل للوضع السوري، ولن تترك الأمر مفتوحاً سنوات طويلة، فأميركا تحتل مناطق النفط والقمح السوريين، وتركيا تسيطر على مناطق واسعة، وأغلب الفصائل أصبحت أدوات بيد الأتراك، وبالتالي من مصلحة روسيا الوصول إلى حل سياسي، واستجلاب الأموال، والإشراف على إعادة الإعمار، واستخراج الموارد الأولية السورية.
لا تُنافسُ أميركا روسيا على احتلال سورية، لكنها لن تتركها تسيطر بشكل كامل عليها من ناحية أخرى، ومصالحها ومصالح إسرائيل لا بد من تأمينها، وكذلك مصالح شركائها العرب والأوروبيين. قبالة ذلك يقع على روسيا إخراج إيران، والكف عن ربط الحل في سورية بقضايا دولية، وإيصال الدروس للنظام السوري، كي لا يجري اقتلاعه، فهل يتحقق ذلك؟
حملت الأسابيع القليلة الماضية إشارات على أن الطريق إلى السلام في سوريا لا يزال معقداً، وأننا قد نرى تصعيداً قبل أي شيء آخر. لكن هذه التطورات تؤكد أن من المهم للولايات المتحدة أن تُظهر لروسيا وإيران أنها جادة في السعي لإنهاء الصراع السوري، وإلا فسيتضرر حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة.
لقد قالت روسيا مراراً إنها ليست متمسكة بوجود بشار الأسد في السلطة، ولكنها تريد الحفاظ على الدولة السورية، وحمايتها من العدوان الغربي، وما تعتبره «إرهاباً». لكن إذا كان وجود الأسد كرئيس يحقق أهداف روسيا المتمثلة في أن يكون لها موطئ قدم على البحر الأبيض المتوسط، وأن تظهر أنه يمكن أن تصمد أمام الغرب، فلماذا إذن تريد استبداله؟ في غياب استراتيجية سياسية غربية لإنهاء الصراع السوري، ستواصل روسيا استخدام بشار الأسد طالما بقي مفيداً لمصالحها.
لكن البراغماتية الروسية تجاه نظام الأسد تمثل فرصة للولايات المتحدة لو أنها سعت إلى إيجاد حل وسط لسوريا. ليس من غير المعقول أن تقبل روسيا إزالة الأسد مقابل الاحتفاظ بمصالحها الاقتصادية والأمنية في سوريا. لسوء الحظ، أضاعت الولايات المتحدة الفرصة لإنهاء النزاع السوري منذ سنوات عندما لم يكن النفوذ الروسي هناك متأصلاً كما هو الآن. اليوم، ببساطة لن يكون من الواقعي تصور تسوية سياسية في سوريا لا تتمتع بمباركة روسية.
في حين أن الكثيرين لا يستطيعون تصور أي نوع من السيناريوهات سيشهد مصافحة روسية أميركية على سوريا، فإن الدبلوماسية ليست ممارسة منقرضة بعد. يمكن للولايات المتحدة إرسال إشارات قوية إلى روسيا مفادها أنها جادة في إنهاء الصراع السوري، التي تحمل في حد ذاتها تهديداً موثوقاً باستخدام القوة. لا يعني استخدام القوة بالضرورة العمل العسكري. يمكنه، على سبيل المثال، أن يتخذ شكل عقوبات اقتصادية مهمة ضد المصالح الروسية.
ولكن كما قال الجنرال كلاوسفيتز في زمانه، فإن الحرب هي استمرار السياسة بوسائل أخرى. قبل بضع سنوات، كان لدى الولايات المتحدة خيار إطلاق حملة مستمرة واسعة النطاق ضد الأهداف العسكرية للنظام السوري في سوريا كطريقة لإرسال رسالة لروسيا أنها جادة في جرها إلى طاولة المفاوضات. ولو تمت متابعة الهجوم الصاروخي الذي قادته الولايات المتحدة في أبريل (نيسان) بمثل هذا الإجراء، لربما لم تعد روسيا إلى العمل كالمعتاد في سوريا. في الوقت الحالي، لا يبدو من المرجح أن الولايات المتحدة ستختار هذا الطريق. ولكن إذا استخدمت الطريقة التي تتعامل بها الولايات المتحدة مع قضية كوريا الشمالية كمثال، فإن غرس إحساس كبير لدى الخصوم بأن استخدام القوة سيحدث يمكن أن يكون جزءاً من الخطة.
إذا كان استعراض روسيا للعضلات في سوريا لا يجعل الولايات المتحدة تقلق أكثر من اللازم بشأن إنهاء الصراع، فإن نفاد صبر إسرائيل ينبغي أن يؤدي إلى انتباه الولايات المتحدة لأهمية إيجاد حل له. كانت إسرائيل قد وجدت في نظام الأسد كياناً مناسباً لها، فعلى الرغم من إعطائه الضوء الأخضر لـ«حزب الله» لاجتياز الأراضي السورية، فقد حافظ على حدود مستقرة في مرتفعات الجولان المحتل. ومع ذلك، أصبح وجود إيران المتنامي على أرض الواقع في سوريا مصدر قلق بالنسبة لإسرائيل. في البداية، انخرطت إسرائيل في عمل عسكري محدود في سوريا بهدف اغتيال ضباط رئيسيين من «حزب الله» وضباط الجيش الإيراني كلما شعرت بأن أنشطتهم تقترب أكثر من حدودها. اليوم، ازداد التدخل العسكري الإسرائيلي في سوريا ضد الأهداف الإيرانية من حيث الحجم والتكرار، مع وقوع هجومين من هذا النوع في شهر واحد في شهر أبريل الماضي - وهو نطاق غير مسبوق. لقد بدأت إسرائيل ترى وجود إيران في سوريا ليس كرادع لها، وإنما كاستعداد لهجوم ضدها.
تنظر إسرائيل في اتجاه الولايات المتحدة للحصول على المساعدة في هذا الصدد. إنها ليست وحدها التي تشعر بالقلق من النفوذ الإيراني في المنطقة؛ فالمملكة العربية السعودية تشعر بقلق متزايد إزاء نمو النفوذ الإيراني في العالم العربي، الذي تعتبره تهديداً لاستقرارها. وقد صعَّدت السعودية ضغطها المناهض لإيران، ورحبت بانسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي مع إيران. في الوقت ذاته أبدت إسرائيل ترحيبها برؤية شخصيات معادية بشدة لإيران، مثل جون بولتون ومايك بومبيو، يعينون في مناصب رئيسية في الإدارة الأميركية. ومع ذلك، إذا رأت إسرائيل أن الولايات المتحدة لن تضع حداً جدياً لتوسع إيران في سوريا، فسوف تأخذ الأمور بيدها.
إيران الآن متوترة بشأن المواجهة العسكرية مع إسرائيل. في أعقاب الضربة التأديبية التي قادتها الولايات المتحدة رداً على استخدام النظام السوري الأسلحة الكيماوية، لم ترد إيران ووكلاؤها في سوريا عبر عمل ضد إسرائيل. بدلاً من ذلك، أطلق الحوثيون برعاية إيرانية عدة صواريخ من اليمن استهدفت المملكة العربية السعودية. في نهاية المطاف، تعتبر إيران الحوثيين أداة مفيدة ضد السعودية، وليسوا وكلاء حيويين مثل «حزب الله» في لبنان، واليمن ليس كذلك مصلحة حيوية لإيران مثل سوريا. إطلاق صواريخ الحوثيين هو محاولة إيرانية لحفظ ماء وجهها بتكلفة منخفضة، لأن أي رد على صواريخ الحوثي سيكون من المملكة العربية السعودية نحو اليمن، وليس تجاه سوريا.
لكن هذه الحسابات تؤكد أن إيران قلقة من الدخول في حرب مع إسرائيل في سوريا. على عكس الوضع في لبنان، حيث يعرف «حزب الله» والضباط الإيرانيون الأرض بشكل جيد ويمكنهم تحمل هجوم إسرائيلي كبير، تبقى سوريا أرضاً جديدة نسبياً لهم، ما يجعلهم أكثر ضعفاً هناك. إذا لم تقم الولايات المتحدة بتطوير استراتيجية سياسية لإنهاء الصراع السوري، فلن يكون من المستحيل توقع استفادة إسرائيل من هذا الضعف لتحييد إيران في سوريا، مما قد يؤدي إلى تصعيد في الخليج أيضاً.
مسار الأحداث في سوريا اليوم لا يُبشر بالخير بالنسبة لإيران. سواء من خلال الحرب أو المفاوضات، يبدو أن إيران ستكون الخاسر الأكبر في سوريا على المدى الطويل، لكن السؤال هو ما إذا كانت ستصل إلى هناك بعد أن تتسبب بالمزيد من الضرر لحلفاء الولايات المتحدة. على الرغم من تحفظات العديد من المحللين حول الانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي الإيراني، هناك حاجة إلى صفقة شاملة حول إيران تتضمن حوافز اقتصادية مقابل الإصلاحات المحلية والتخلي عن دورها الإقليمي في العالم العربي. لن يكون من السهل تحقيق ذلك لأن قطع وصول إيران إلى لبنان عبر سوريا يعني نهاية نفوذها في المشرق. سوف يتطلب الأمر ضغطاً وتخطيطاً كبيرين من قبل الولايات المتحدة وحلفائها لإقناع إيران بالموافقة على حل وسط. إن إيران لن تتساهل إلا إذا شعرت أن جميع الخيارات الأخرى قد وصلت إلى طريق مسدودة، ولكن قلقها الحالي يشير إلى أنه رغم صعوبة الوصول إلى هذا الهدف، فإنه ليس مستحيلاً.
أخيرا، أعلن وزير الخارجية الأمريكية مايك بومبيو بوضوح عن «الخط الأحمر» الذي على الجمهورية الإسلامية في إيران عدم تجاوزه، عنوان هذا الخط: «لن تكون إيران بعد الآن مطلقة اليد في الشرق الأوسط». السؤال: كيف يمكن تنفيذ هذا القرار؟
من الثابت والمؤكد، أن الولايات المتحدة الأمريكية، لا تريد الدخول في حرب محدودة ولا شاملة مع إيران. لا تريد واشنطن كسر «اليد» الإيرانية، بل المطلوب أن تكف يدها عن التدخل حيث ترغب وبكل الطرق. الإدارة الأوبامية أعطت «النظام الخامنئي» الكثير وأكثر مما يستحق. المرشد آية الله علي خامنئي، المأخوذ بعد ثلاثة عقود من السلطة المطلقة، بعقدة شخصية من الصعب معالجتها، وهي أنه لم يتمكن من الوقوف شامخا أمام هامة الإمام الخميني ومعادلتها فاستعجل كثيرا في تقديم نفسه أمام الإيرانيين بأنه المرشد الذي مدَد حدود إيران الى أبعد بكثير مما كان يتصور الإمام الخميني عندما وضع مبدأ «تصدير الثورة».
المشكلة الثانية الخارجة من تاريخ إيران الحديث، أن قبول الرئيس باراك أوباما، بإطلاق حرية اليد الإيرانية في محيطها، لم يكن تسليما لها بالتحول إلى قوة منافسة للولايات المتحدة الأمريكية من جهة، وقوة مقررة في صياغة جديدة للشرق الأوسط من جهة ثانية. الشاه محمد رضا بهلوي لم يكن شخصية استثنائية رغم كل سلطته المطلقة وجيشه الرابع في العالم، استوعب في العمق حدود قوته بحيث لم يتجاوزها مهما بلغت المغريات أمامه. عرف دائما أن أمامه خطوطا حمراء عليه ألاّ يتجاوزها. يكفي لذلك أن يعرف الآخرون أنه قوي وقادر ولا داعي لاختباره أو استفزازه.
المرشد خامنئي رغم أنه عاش الحرب مع العراق وهو في قمة السلطة، إلا أنه أراد تجاوز الهزيمة التي وقعت بسبب تحالف واسع لم يُعلن رسميا عنه، في إسقاط كل الحدود بواسطة «الحرس الثوري». قام خامنئي «برشوة الحرس»، في منحه حق اقتحام القطاع الاقتصادي والتمدد فيه حتى أصبح الاقتصاد الإيراني تابعا للحرس فازدادت «شهيته على لحس المبرد» أي مبادلة انتشاره الاقتصادي في تنفيذ طموحات المرشد والذي التفّ حوله العديد من المساعدين والطامحين للصعود في سلم السلطة والتحضير لموقع لهم في ما بعد.
الكارثة الكبرى في كل هذه السياسة، أن المرشد علي خامنئي وكل مساعديه ومنهم علي ولايتي الذي كان وزيرا للخارجية لأكثر من عشر سنوات، لم يتعاملوا مع حدثين بواقعية:
* الحدث الأول: أغفل المرشد خامنئي نتيجة الانتخابات الرئاسية وانتخاب حسن روحاني بأغلبية شعبية مهمة، واستمر في سياسة الضغط وكان رأي الشعب الإيراني بالاعتدال والانطلاق في سياسة حوار نشط لا تأثير له على السياسة الإيرانية.
* الحدث الثاني: انتخاب دونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة ومدى انعكاس هذا على القرار الأمريكي داخليا وخارجيا.
أيضا وهو مهم، أن إسقاط الحل العسكري في المواجهة لا يعني مطلقا غياب أي حل آخر. دائما يوجد بديل لغياب الحل العسكري وهو «الحرب الناعمة». وهي تأخذ في هذا الزمن أشكالا وطرقا متنوعة وعديدة ومؤثرة على الجبهة الداخلية. أهم سلاح وأخطره هو «السلاح الاقتصادي». قدرة طهران على مواجهة المقاطعة الاقتصادية طوال السنوات الماضية جعلتها تطمئن إلى قدرتها على المقاومة تحت بند «الاقتصاد المقاوم». السؤال الآن: إلى أي مدى سيصبر الشعب الإيراني على المقاطعة والحصار؟
ربما الحرب المصرفية هي من أمضى الأسلحة في الحرب الاقتصادية.. خلال الفترة المقبلة لن تتمكن إيران من التعامل مصرفيا مع العالم. جميع عقودها مع الشركات والدول، موضع مراقبة وشطب إذا تجاوزت الشروط المفروضة. الشركات الأوروبية التي لا ترغب فعلا بالانخراط في أي حرب مقاطعة جديدة، لا يمكنها مقاومة الموقف الأمريكي من أجل إيران. أوروبا تتعامل مع الولايات المتحدة الأمريكية بعقود تبلغ قيمتها 450 مليار دولار في حين أن عقودها مع إيران تصل الى 15 مليار دولار. الخلل ضخم ولا يمكن تعويضه، خصوصا أن واشنطن هددت «بأقوى عقوبات في التاريخ».
الخطوة الأولى في لملمة إيران لطموحاتها بالهيمنة على الشرق الأوسط تكمن في الانسحاب.. الانسحاب من سوريا مع كل عملائها من الميليشيات، ورديفها «حزب الله». طهران أكدت أنها «لن تنسحب». جنرالات أمريكيون أكدوا في اجتماعات جانبية، أن الضرب على الوجود الإيراني في سوريا سيستمر حتى ينغرس «المسمار الإيراني إلى العمق الأقصى». كلما ضُربت القوات الإيرانية وميليشياتها في سوريا وتراجع الرد الإيراني وتقلص، خسر من وزنه أمام الشعب الإيراني أولا. إفقاد «الحرس الثوري» مصداقيته داخليا وخارجيا، سيجبره عاجلا أو آجلا على تقليص وجوده مهما اعترض وقاوم.
«القيصر» فلاديمير بوتين، استوعب «الرسالة» الأمريكية، فاستدعى بشار الأسد إلى سوتشي لإبلاغه ضرورة الطلب من إيران سحب قواتها والعمل على صياغة دستور جديد والاستعداد لانتخابات رئاسية جديدة (غير مضمونة له) قبل انتهاء مدته الرئاسية في العام 2021.
طهران رفضت قبل أن يصلها الطلب السوري. لكن، ماذا تستطيع أن تفعل في مواجهة موقف روسي رافض لدورها ووجودها. في النهاية، فضّلت موسكو التفاهم مع واشنطن حول سوريا، لأن الحل الروسي - الأمريكي المشترك يفتح الباب أمامها لتفاهمات واسعة وأشمل استراتيجيا وأنفع اقتصاديا أكثر من التعلق بتحالف مُتعب ومُتطلب مع إيران.
«قطار» الحل السياسي في سوريا أصبح موجودا في المحطة الأولى. مسألة انطلاقه تنتظر صفارة الانطلاق، وهي لم تعد بعيدة.
رغم كثرة خلاف السوريين اليوم على أي قضية توضع على طاولة الحوار إلا أنه لا يختلف سوريان على أن الفصائلية كانت ولا تزال من أبرز العقبات لنجاح الثورة السورية وكأننا كسوريين لم نرَ مصير القضية الفلسطينية وقد أصبحت كرة متقاذفة في ملعب السياسة. والقضايا متى ما تنازعت على نصرتها الفرق تمزقت تمزق الفرقاء وتحولت مع الزمن من غاية للنضال إلى وسيلة تمكنٍ للفصائل.
وتعتبر أقرب ثورة شعبية ناجحة من حيث الزمان ثورة البشرة السوداء في جنوب أفريقيا ضد نظام التمييز العنصري الذي حقّر من شأن الزنوج والملونين ورفع من قدر البيض ذويي الأصول البريطانية فيها وبقراءة تاريخية سريعة لتلك الثورة التي لم تنطفئ شعلتها طيلة أربعين عاماً تقريباً سنلاحظ أنها ظلت ثورة واحدة ترفع شعاراً واحداً على قلب رجل واحد لم تفرقها مطامع ولا إديولوجيا طيلة تلك الأعوام على الرغم من أن المواطنين السود في تلك الفترة كانوا ممنوعين من التعلم والدارسة وأغلبهم أميّ لا يجيد القراءة ولا الاطلاع على تجارب الثورات الأخرى ولا الاستفادة من دروس التاريخ ولكن إصرارهم النابع من عقيدة صلبة وإيمان فطري بلغ حد اليقين بعدالة قضيتهم جعل النصر أمراً محتوماً لثورتهم بشقيها المدني والعسكري دون الحاجة لنشاطات التثقيف الثوري أو التمكين العقائدي وهذا لا يعني أن جنوب أفريقيا كانت كلها بمواقف ثورية متطابقة خلال الثورة لكن كانت الثورة بالنسبة لهم كسفينة البحر التائهة إما أن يتفق أهلها على طريقة حكيمة لقيادة دفتها أو تلتهم عواصف البحر ولا تترك لهم أثراً ولا مخبر.
إن دور التجمعات والنوادي الفكرية والإديولوجية يعتبر مهماً جداً في مرحلة ما قبل الثورة حيث تكون هذه النوادي الثقافية منظمة بطريقة تستطيع أن تنشط بشكل آمن ومحمي نوعاً ما في ظل استمرار الملاحقات الأمنية من قبل الأنظمة الاستبدادية وتعتبر النخبوية المفترضة لأعضائها عاملاً مهماً في جذب الناس للقضية وتوعيتهم بها وأذكر أبداً ما كتبه نيلسون مانديلا حول أكبر التحديات التي واجهت ثورته في البدايات والتي كانت في إقناع الأسود والملون أن له الحق في المساواة وكذلك الأمر في الشأن السوري فكم تعرض النشطاء المدنيون والمناصرون لحقوق الإنسان للضغوط الأمنية والاعتقال والتنكيل والتعذيب والاغتيال من أجل إقناع الناس بفرص نجاح نضالهم وأن ثورة شعبية ما قادرة على اجتثاث النظام من جذوره إن كانت رياح التغيير في المنطقة تميل لصالحها. ولكن ما إن تقوم الثورات حتى ينتهي عمل تلك النوادي وغرضها وتعتبر عائقاً كبيراً في تقدمها وبراءتها حتى يكتب النصر المبين لها.
ولعل الأسباب الداخلية لقبول قادة الثورة السورية في أول الأمر بالتشظي الفصائلي لا تحصر في مقال صغير كهذا ولكن كان من أبرزها إعجاب السوريون لفترة طويلة من الزمن بالبروباغاندا الدعائية لتجربتي حماس وحزب الله والتي تصور القادة على أنهم أسماء سيخلدها التاريخ وتحكي عنهم قصص الأطفال وكتب المدارس لعقود طويلة بالإضافة إلى اعتقاد أكثرهم أن أيام النظام باتت معدودة كما لم تتوقف أركوزات السياسة الغربية على التصريح بها وكأن الغرب يعني ما يقول حقاً وظن أولئك أن وجود فصيل منظم وقوي سيجعل كل المجتمع الدولي بدءاً من الولايات المتحدة الأميركية وحتى غامبيا الأفريقية يتهافتون من أجل خطبة ودهم ودعمهم ليسدوا فراغ السلطة وهذا إن دل فيدل على سذاجة المنظرين للفرز الفصائلي وسطحية تجرتهم ولا أسوق الأدلة على ذلك إلا أن أدعو إلى النظر لواقع الثورة اليوم فلم يحصلوا على مجد خالد ولم يتبوؤوا مقاعد الرياسة والقيادة وأصبحت الفصائل اليوم محاصرة مجتمعياً وعسكريا وأمنياً وأضيق حصار مطبق على أطرافها هو حصار الفشل والخسارة العسكرية التي منيت بها حتى يومنا هذا.
بالطبع ساعد وعزز وفتح الطريق أمام الأمراض النفسية وجشع السلطة والسيطرة والمال لدى بعض القيادات الثورية في البدايات قلة الموارد الثورية والدعم المشروط وتهرب القادة من المسائلة عبر التدرع خلف فصائلية إديولوجية وعشائرية تبرر الزلات وتجمل الفعائل إلا أن الخلاف الإديولوجي وبكل تأكيد لم يكن سبباً في ذلك أغلب الأحيان كما يدعي القادة إنما كان وسيلة لحشد الجمهور والأنصار وإسدال الستائر عن الأعين والقلوب التي عميت عن رؤية واقع الثورة العسكري المتراجع يوماً بعد يوم.
وقد مرت الفصائل على مر ثورة الكرامة بالكثير من التغييرات الفكرية والقيادية وتغييرات في الأهداف والأدوات وهذا إن دل فإنه يدل على أن الفصائل السورية عبارة عن تجمعات مقاتلة تسعى نحو الفصائلية أكثر من كونها كما تدعي فصائل وحركات حقيقية سعت خلال هذه المراحل لمرات متتالية بتجربة الاندماج بعد أن بلغت الفرقة فيهم حد العظم وأصبحت مكاسب الفرقة لدى البعض أولى من المكاسب الثورية ففشلت كل تجارب الالتقاء وأصبح التفاوض مع العدو والاتفاق معه كما في اتفاق المدن الأربعة واتفاقيات الاستسلام والتهجير القسري أسهل من اتفاق إخوة الثورة والمصير فالاندماج يحتاج إلى تنازل إديولوجي كبير سيجعل من عناصر الفصائل المزعومة التي تم تربيتها إديولوجياً على مر سنوات تنفضّ من حول قياداتها بمجرد أن ترى منها تخلي بسيط عن الاديولوجيا الفصائلية وعقدة الفرقة الناجية والاندماج أيضا يتطلب تنازل حقيقي في القيادة ينزع الحصانة عن القادة ويدعوهم إلى التخلي عن أحلام الصغار في الرياسة هذه المرحلة كحد أدنى فضلاً عن أن تجارب الالتقاء كانت أشبه بلصق أجزاء مختلفة أو تركيب قطع البزل غير المتكاملة وعدم الشعور بالحاجة والضرورة لذلك بعد طمع كل فريق بمعسول الوعود من داعميه الذين لا يرون فيه أكثر من ورقة سياسية على طاولة القمار التفاوضي.
ختاماً: لا أظن أنه بالإمكان تغيير الكثير اليوم فالنفوس أوغلت بالتنافس الفصائلي والثقة بينهم أصبحت كصورة بيضاء وسوداء مغبرة مرمية في غرفة الخرداوات والقادة تورطوا أكثر في الأمر والداعمين لهم ازدادوا عداءً فيما بينهم ولكن أكثر ما يجب الاشتغال به اليوم شعبياً ونخبوياً هو البحث في احتمالات التكيّف مع الحالة الراهنة والاستفادة بالحدود القصوى من فرص توحيد قبلة البنادق والحفاظ على الأفراد والتركيز والاهتمام الأكثر بتطورات العمل السياسي والتفاوضي فالمرحلة القائمة الآن هي مرحلة تنظيف جيوب الملف العسكري بشكل ما فهوامش الإنجاز العسكري أصبحت ضيقة على الجميع والانتقال إلى طاولة المفاوضات الدولية والإقليمية والمحلية هو مآل الحال وآخر جولات الحرب السورية.
تشهد هذه الأيام تصعيدا واضحا في حدة الصراع العسكري الإسرائيلي- الإيراني، بالتزامن مع تصعيد إعلامي أميركي يستهدف إيران والاتفاق النووي الذي وقعته الإدارة الأميركية السابقة. و يبدو أن حدود هذا الصراع وأبعاده محصورة داخل الأراضي السورية، وبالشكل الذي يكفل للطرفين ممارسة خطاب النصر المعهود لديهما، من فرحة مأجوري إيران بردّها هي، أو حليفها الأسد، عبر قصف الأراضي السورية الخاضعة لسيطرة الاحتلال بـ 20 قذيفة من داخل الأراضي السورية، إلى الفرح بإقدام الاحتلال على قصف مواقع سورية وإيرانية داخل سورية من أطراف وجهات معارضة للنظام السوري، والتي طالما غرقت في أحلام وأوهام تتحدث عن مكاسب سورية من الصراع الإيراني الإسرائيلي، أو عن أنه مؤشّر على نية المجتمع الدولي نقل سورية من دولة استبدادية إلى دولة ديمقراطية وحرّة. ولذلك لا بد من إيضاح هزلية هذا الصراع المزعوم أولاً، ومن التنبيه إلى تحملنا، نحن السوريين، وربما نحن العرب، آثاره وتبعاته السلبية التي لن تقتصر على قصف سورية وتدميرها، وربما قتل مدنييها إن تصاعدت حدة الاشتباكات.
فمن ناحيةٍ، لن نختلف على طبيعة النظامين، الإيراني والإسرائيلي، الإجرامية، تجاه شعوب المنطقة إجمالاً، سواء داخل سورية أو خارجها. وهناك أمثلة عديدة على ذلك لمن خانته الذاكرتان، القديمة والحديثة. إلا أن الصراع الراهن بينهما، وهو الأول من نوعه، ينطلق من أرضٍ عربيةٍ، بدلاً من أن يستهدف تدمير مراكز قوة النظامين، ما يشير إلى طبيعة الصراع الثانوية، أو غير التدميرية، فكلا النظامين لا يستهدفان تدمير الآخر، طبعا على فرض امتلاكهما هذه الإمكانية، وإنما يمثل الصراع مدخلاً لترتيب الأوضاع، السياسية والميدانية، ذات الصلة بينهما عبر الوسيط الروسي غالباً، وبالصورة التي تكفل للإيرانيين الحفاظ على خطاب العداء لأميركا وإسرائيل، حيث غالباً ما سوف يتم توسيع التفاهمات أو الإملاءات الأميركية والروسية، حتى تتضمن تعديل الاتفاق النووي، وضمان أمن الاحتلال على طول الحدود المشتركة مع سورية.
إذا يمكن اعتبار الصراع مقدمةً لتسويق التفاهمات المقبلة، والتي لن تصل إلى درجة إنهاء الوجود الإيراني داخل سورية، حيث لا يشكل الوجود الإيراني خطراً حقيقياً على أمن الاحتلال اليوم. إنما يكمن مصدر الخطر الحقيقي الذي تحتاج إسرائيل عرقلته وكبحه ومنعه في تعاون الشعبين العربي والإيراني وتآزرهما، وباقي مكونات المنطقة العرقية، من كردية وغيرها، فيما بينهم، من أجل تحرير المنطقة، والنهوض بها علمياً واقتصاديا. ولن يجد المجتمع الدولي والاحتلال وسيلة أفضل لإثارة النعرات الطائفية والمصلحية الضيقة من تلك التي تجسدها السياسة الإيرانية. لذا لسنا أمام رغبة إسرائيلية حقيقية في إنهاء الوجود الإيراني داخل سورية، وإن كانت هناك رغبات أميركية وروسية وإسرائيلية في إضعافه وضبطه، من أجل سهولة التحكم به، وضمان عدم خروجه عن السيطرة مستقبلاً، بما يخدم المصالح الأميركية والروسية والإسرائيلية. ولنا بالعلاقة الأميركية الإيرانية في العراق مثال واضح على قدرة هذه الأنظمة على خوض حروب إعلامية مشتعلة، وبعض الصراعات الميدانية الدموية، من دون المساس بأيٍّ من المصالح الميدانية لكل منها، وخصوصا المصالح الأميركية فيما يخص العراق، وبما يلبي جزءا يسيرا من المصالح الإيرانية الاقتصادية والأمنية، وبالصورة التي تضمن استمرار الخطاب الإيراني القائم على مواجهة الشيطان الأميركي، كما يحلو للنظام الإيراني وصفه.
ثم إن علينا الحذر من تحمّل الشعب السوري، وربما العربي، مستقبلا لجميع نتائج هذا الصراع العسكري، أو هذه التمثيلية السمجة، كونها تنطلق من ترتيب المصالح الدولية في سورية، من دون أي اعتبار لمصالح الشعب السوري. ونظراً إلى حجم الإجرام والدموية التي يتمتع بها الطرفان، الإسرائيلي والإيراني، والتي تهدد سورية والسوريين، بأنواع من القذائف والصواريخ والأسلحة المحرّمة دوليا، والتي ربما لم تختبرها الأرض السورية حتى اللحظة، كذلك لن يكترث الطرفان لأعداد الضحايا من السوريين، مدنيين كانوا أم عسكريين. أي أن تصاعد الأعمال العسكرية بين الإيرانيين والإسرائيليين سيلقي تبعاته على الداخل والشعب السوريين، من دون اكتراث لأعداد المدنيين الموجودين على مقربةٍ من أماكن المعسكرات والمقرّات الإيرانية، السرية منها والعلنية، والتي غالبا ما يتم تشييدها داخل أكثر المدن والبلدات السورية اكتظاظا بالسكان، فضلاً عن احتمال زج مئات الشباب السوريين الخاضعين لسلطة النظام اليوم في معارك تخدم الخطاب الإعلامي الإيراني، ولن تفضي إلى أي إنجاز حقيقي.
بمعنى أن السوريين سوف يتحملون وزر هذا الصراع أولا وأخيراً، ومن دون أي آثار إيجابية مستقبلية أو حاليةً، فلن ينتهي الاحتلال الإسرائيلي لأي من الأراضي العربية، كما لن ينتهي الوجود والنفوذ الإيراني في سورية، نظراً لنتائجه الإيجابية على كل من الأميركان والروس والإسرائيليين، من زيادة في المبيعات العسكرية الروسية والأميركية إلى دول المنطقة، إلى ترسيخ الانقسام الطائفي فيها، وهو ما يساهم في تفريق الشعوب، وإدخالها في صراعات جانبية، تحرفها عن مسارها الوطني والثوري. كما تقدم إيران خدمةً كبيرةً للاحتلال الروسي، تتمثل في تجنيب الروس تحمل تكاليف الاحتلال البشرية، عبر تنفيذ المليشيات والقوات الإيرانية لجميع أو غالبية المهام البرية التي يطلبها الروس، ما يحدّ من حاجة هؤلاء لإرسال أعداد كبيرة من قواتهم العسكرية البرية، لتكتفي روسيا ببعض الشركات الأمنية الخاصة، وعناصر من الشرطة العسكرية الروسية.
نعم لا تمثل إيران وإسرائيل أي نموذج ديمقراطي أو إنساني أو حضاري لنا، ولمجمل شعوب المنطقة، وهو ما يدفع مسؤولين سوريين وعرب عديدين إلى التعلق بأوهام الخلاص من إحدى القوتين الإجراميتين عبر صراعهما الحالي، إذ غالبا ما يعتقد بعضهم أن للاحتلال رغبة في القضاء على إيران، أو كفّ يدها بالحد الأدنى، أو زعزعة قوتها ونفوذها. كما أن ضعفنا وتبعثرنا، وافتقادنا أدنى درجات التنظيم والتخطيط والعمل المشترك، حولنا إلى شعوب عاجزة عن استثمار أي صراعٍ بين القوى الإجرامية. هذا إن افترضنا أننا أمام صراع تناحري وإلغائي غير قابل للحل، من دون قضاء إحدى القوتين على الأخرى، أو من دون استنزاف قواهما العسكرية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية بالحد الأدنى، فكيف إن كنا أمام تمثيلية لصراع عسكري مسرحها سورية، ووقودها خيراتها ومدنيّوها.
بعد أن اقتصرت جولات أستانة السّابقة على رسم الخارطة العسكريّة على الجغرافيا السّوريّة، تنتقل اليوم إلى المسار السياسي، ولا سيما بعد وضوح خارطة السّيطرة وإنهاء جيوب المعارضة السّوريّة العسكريّة، وتأمين العاصمة دمشق، ونشر القوّات التّركية لنقطة المراقبة رقم 12، والأخيرة، في ريف جسر الشّغور، وتزامنها مع انسحاب المليشيات الشّيعيّة على مضض من بلدة الحاضر باتجاه جبل عزان، تنفيذاً لاتفاقات خفض التّصعيد.
وفي هذا السّياق الجديد، تتّضح أسباب استدعاء الرّئيس الرّوسي فلاديمير بوتين لرأس النّظام السّوري بشار الأسد إلى سوتشي، فثمّة استحقاقات تقع على الجانب الروسي للمضي في المسار السياسي لأستانة. فقد أعلن بيان "أستانة 9" أنّ ممثلي روسيا وإيران وتركيا سيلتقون مع ممثلي المبعوث الأممي إلى سوريا ستيفان دي ميستورا وأطراف النّزاع في سوريا، لمساعدة عمل اللجنة الدّستورية. فلقاء سوتشي الأخير (فيما نزعم) وضع خارطة المسار السّياسي القادم الذي سيركّز على مستقبل العمليّة السّياسيّة في سوريا، وفي مقدمتها الدّستور، ولذلك أمر بوتين الأسد بالموافقة على إرسال وفد الأمم المتحدة للعمل على صياغة الدّستور المقبل لسوريا وبحث العمليّة السّياسيّة.
وإحضارُ الأسد منفرداً إلى سوتشي يدلّل على أنّ ثمة أمرا ما يتعلق بجوهر العمليّة السّياسيّة والوضع السّوري يرسمه الرّوس، ولا يريدون لأحد أن يعرفَ مضمونه، على الأقل في المدى المنظور.
ولا يمكن فصل محاولات الانطلاق في المسار السّياسي عن المستجدات العسكريّة الأخيرة الحاصلة في سوريا. ففي الأيام الأخيرة، تمّ استهداف مواقع عسكريّة بالقرب من قاعدة التّنف شرق حمص يُعتقد أنّها تابعة لإيران، كما هزّت سبعة انفجارات عنيفة مطار حماة العسكري، مما أدى لأضرار كبيرة، وأدى لمقتل وجرح المئات، وقصفت الدّبابات الإسرائيلية مواقع لحزب الله في التلول الحمر في القنيطرة، وجرى الحديث عن انفجارات في مطار دير الزور العسكري. ويُعتقد أنّ إسرائيل تقف وراء كلّ هذه العمليات التي تستهدف الوجود الإيراني في سوريا.
ولعلّ إنهاء الوجود الإيراني في سوريا رغبة روسيّة أبلغها الرّئيس الرّوسي للأسد، وهذا يفسّر تصريح بوتين حول البدء بسحب القوّات الأجنبيّة من سوريا مع تقدّم العمليّة السّياسيّة، وليوضح المتحدث باسم الرّئاسة الرّوسيّة ديمتري بيسكوف لاحقاً أنّ ذلك لا يشمل الجنود الرّوس. ومن المؤكد أنّه لا يشمل الأمريكان، لعدم قدرة الروس على فعل شيء تجاههم، وربما يخرج الأمريكان طواعية في حال نجح الرّوس في إخراج إيران من المشهد.
وربما هذا ما يفسر أيضاً تجاهل روسيا للضربات الإسرائيليّة المُوجعة لإيران على الجغرافية السّوريّة، بل ومباركتها لها خفيةً، فقد كان نتنياهو صريحاً عندما استبعد سعي روسيا للحدّ من العمليّات العسكريّة الإسرائيليّة في سوريا.
ويهدف الرّوس من إخراج إيران، والاستفراد بسوريا، والحصول على التأييد العربي والغربي لمشروعها السّياسي في سوريا؛ إدراكاً منها استحالة قدرتها على تحقيق الاستقرار والإعمار منفردة.
وعودةً للمسار السّياسي الذي يجترحه الرّوس بعيداً عن إيران، فإنّه لا يصبّ بالضّرورة في صالح القضيّة السّوريّة، وإن أسهم في إخراج المحتل الإيراني من سوريا. فلا فائدة تُرجى من إخراج المحتل الإيراني ما دامت سلطة الاستبداد "نظام الأسد" والمحتل الروسي موجودين، ويتحكمان بمصير سوريا شعباً وأرضاً.
وعليه، لا ينبغي التّطبيل لإخراج إيران من سوريا (رغم إيجابيات الخروج) على أنّه انتصار للثورة السّورية، بل هو رغبة روسيّة ومطلب إسرائيلي. فالرّوس لم يعارضوا أي عمل عسكري إيراني ضد الثّورة السّوريّة، في حين أكّد الوفد الرّوسي في محادثات أستانة أنّ بلاده ستمنع أي عمل عسكري في الجنوب السوري.
فالرّوس يعملون على أن يكون مسار أستانة السياسي شبيهاً بمسار أستانة العسكري أي مساراً يحقق مصالحهم بعيداً عن مصالح السّوريين، وعليه ينبغي الحذر من مساعي روسيا وأخذ العبرة من لقاءات أستانة العسكريّة التي حققّت مكاسب كبيرة لنظام الأسد لم يكن يحلم بها قبل ذلك، ناهيك عن تخريب النّسيج السّوري عبر عمليات التّهجير، بل والتّمهيد لتقسيم سوريا وطناً.
إن فرضَت الواقعيّةُ السياسيّة على المعارضة السّورية ولوج هذا المسار، فإنّ وطنيّتهم يجب أن تلزمهم الحفاظ على مطالب الثّورة الجامعة. فليس ثمّة ما نخسره إن رفضنا الرجوع لحظيرة الأسد أو القبول بالاحتلال الروسي.
مع خطاب وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو المقرر اليوم، يبدأ فصل جديد صعب وحاسم في العلاقات الأميركية - الإيرانية الشائكة منذ أربعة عقود. ويبدأ في موازاته فصل جديد صعب وحاسم في علاقات إيران بالمكون العربي في الشرق الأوسط. ولا غرابة أن يوصف الفصل الجديد بالأخطر، خصوصاً بعدما تأكد أن واشنطن تغيرت في حين تصرّ طهران على أنها لم تتغير.
ما سرّبته الخارجية الأميركية قبل الخطاب يكفي لترسيخ الانطباع الذي أشرنا إليه. لقد انتهت المرحلة التي بدأت مع إبرام الاتفاق النووي مع إيران في 2015. وانتهى أيضاً النجاح الاستثنائي الذي حققته طهران خلال المساومات التي أدّت إلى الإبرام. يتمثل هذا النجاح في تمكن إيران من جعل المفاوضات تقتصر على برنامجها النووي ومن دون التطرق إلى الهجوم الواسع الذي تشنه في الإقليم. أُصيب الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما بهاجس النجاح في إبرام اتفاق مع إيران فيما يخص ملفها النووي. وافق على الامتناع عن طرح مشكلة السلوك الإيراني. بلغ به الحرص على إبرام الاتفاق حد إخضاع السياسة الأميركية في سوريا لهاجس النجاح في التوقيع.
ما كان للمنطقة أن تدخل فصلاً جديداً صعباً اليوم لو نجح أوباما يومها في إبرام اتفاق شامل مع إيران يبدد مخاوف الدول المجاورة لإيران أو القريبة منها، ليس فقط من الحلم النووي الإيراني بل أيضاً من سياسة زعزعة الاستقرار التي انتهجها الانقلاب الكبير الذي أطلقته طهران في عدد من الدول العربية في المنطقة. واللافت أن إيران لم تحاول إخفاء حجم هذا الانقلاب بل فاخر عدد من جنرالاتها، وفي أكثر من مناسبة، بأنها باتت صاحبة الكلمة الأولى والأخيرة في أربع دول عربية.
أوضحت الخارجية الأميركية أن خطاب بومبيو الأول حول السياسة الخارجية سيتضمن «خريطة طريق» للتعاون مع حلفاء الولايات المتحدة من أجل التعامل مع «كل التهديدات» التي تشكلها طهران. وأكدت أن الولايات المتحدة تريد أن يضمن أي اتفاق جديد مع إيران «مسائل حول برنامجها النووي، والصواريخ وتكنولوجيتها، ودعم إرهابيين، والنشاطات العدائية والعنيفة التي تغذي حربين أهليتين في سوريا واليمن».
هذا يعني بوضوح أن واشنطن لم تعد في وارد تسوية المخاوف النووية، وغض النظر عن نشاطات زعزعة الاستقرار وتحركات الميليشيات الجوالة في الإقليم وترساناتها. وهذا يعني أيضاً أن إبداء مرونة في ملف من الملفات العالقة لم يعد يكفي لإبقاء الملفات الخلافية الأخرى بعيدة من طاولة المفاوضات ومتناول المفاوضين. وهكذا يبدو أن المطلوب من إيران ليس تعديل موقفها في موضوع واحد بل إعادة النظر في سياستها ككل، أي تغيير سلوكها.
كانت مسألة تغيير السلوك الإيراني حاضرة بوضوح في الخطاب الذي ألقاه الرئيس دونالد ترمب في الثامن من الشهر الحالي، وأعلن فيه الانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران. ففي معرض تبريره قرار الانسحاب أورد ترمب أسباباً أهمها منع طهران من الحصول على سلاح نووي، معتبراً إيران دولة راعية للإرهاب تواصل تجاربها الصاروخية الباليستية وتساند الإرهاب والميليشيات وتستهدف السفارات والجنود الأميركيين. واتهم طهران بتوظيف أموال حصلت عليها بموجب الاتفاق «في تطوير ترسانتها الصاروخية الباليستية ومساندة الإرهاب». وبعد إعلان قرار الانسحاب وقَّع ترمب أمراً رئاسياً للبدء بإعادة العمل بالعقوبات الأميركية المرتبطة بالبرنامج النووي للنظام الإيراني. ونبه إلى أن «كل بلد يساعد إيران في سعيها إلى الأسلحة النووية يمكن أن تفرض عليه الولايات المتحدة أيضاً عقوبات شديدة».
لم تستسغ الدول الأخرى الموقِّعة على الاتفاق قرار الرئيس الأميركي. شعر الجانب الأوروبي بالقلق على مصالحه والخوف من انزلاق المنطقة القريبة منه إلى هاوية عسكرية أشد هولاً. تمردت أوروبا ولوّحت بإنقاذ الاتفاق عبر ضمانات. لكن المؤشرات الأولى أوحت بأن الشركات الأوروبية الكبرى تميل إلى الانسحاب من إيران إذا كان بقاؤها هناك يقفل أبواب الأسواق الأميركية في وجهها.
المشاورات المتسارعة بين الدول المعنية أظهرت أن إنقاذ الاتفاق بالصيغة التي أُبرم فيها بات أمراً شديد الصعوبة. لا بد في عملية الإنقاذ من إجراءات مواكبة أو تعهدات. الدول الراغبة في إنقاذ الاتفاق لا تُقرُّ هي نفسها السلوك الإيراني الحالي، وتحديداً في موضوعَي الصواريخ الباليستية وتسليح الميليشيات. وهذا يعني أنه لا يمكن إنقاذ الاتفاق إلا بموافقة طهران على إحداث تغيير في سلوكها.
واضح أننا في بدايات فصل جديد صعب فيما يتعلق بملف إيران مع أميركا والمنطقة والعالم. فصل لا يمكن استبعاد هبوب الرياح الساخنة في بعض مراحله على غرار ما أوحت به الضربات الإسرائيلية العلنية على مواقع إيرانية في سوريا، خصوصاً بعد الصواريخ الإيرانية التي استهدفت مواقع إسرائيلية في الجولان. وإذا كانت روسيا نجحت حتى الآن في برمجة الضربات وإبعاد شبح المواجهة الشاملة، فإن اللعبة قد تفلت من أيدي من يحاولون التحكم في خيوطها.
يرجح أن تُثبت الأيام أن إيران ارتكبت خطأ كبيراً حين اعتبرت الاتفاق النووي انتصاراً يُظهر محدودية القدرة الأميركية، ويجيز الاستمرار في السلوك الإيراني السابق وتصعيده. وستُظهر أن الصواريخ الإيرانية في يد الحوثيين كانت خطأ فادحاً من جانب إيران التي أساءت تقدير ثقل من تستهدفهم. وقد تكون طهران أساءت أيضاً القراءة في معاني أن يكون القرار الأميركي في عهدة رجل اسمه دونالد ترمب يصعب التكهن بردود أفعاله والمدى الذي يمكن أن يذهب إليه.
مع خطاب بومبيو اليوم تبدأ معركة السلوك الإيراني. وهي معركة أصعب على طهران من معركة البرنامج النووي. البرنامج نفسه هو جزء من النهج الذي يرفض أن تعود إيران دولة عادية وطبيعية لا تدّعي لنفسها حق الإمساك بالقرار في خرائط قريبة وبعيدة، وحق إحداث انقلاب كبير على توازنات تاريخية في المنطقة عبر الميليشيات والصواريخ.
محاولات الأوربيين تطمين إيران بتحقيق مصالحها، بعد خروج الولايات المتحدة من الاتفاقية النووية، هو في النهاية تطمينات ستفشل قطعًا، فالأوربيون يرتبطون مع الولايات المتحدة بعلاقات اقتصادية قوية، وذات أولوية، وهي كما تقول الأرقام أضعاف المصالح التي تربطها بإيران، إضافة إلى أن الشركات الأوربية الكبرى لن ترضخ لأي ضغوط من حكوماتها للتعاقدات التجارية مع الإيرانيين إذا كانت هذه التعاقدات ستستفز الأمريكيين، فضلاً عن أن أمريكا هي الدولة المسيطرة سيطرة تامة على المعاملات المالية الدولية، وليس في مقدور أي دولة، بما فيها دول الاتحاد الأوربي، التجديف عكس ما يفرضه الأمريكيون من قيود، هذه حقيقة يعرفها الجميع. لذلك فإن الأنباء التي تصدر عن دول الاتحاد الأوربي، بأن هناك طريقة يقوم من خلالها الأوربيون بحماية شركاتهم العاملة في إيران فيما لو لم يرضخوا للقيود الأمريكية، هو ضرب من كلام لا يدعمه الواقع على الأرض.
الرئيس ترامب في تقديري هو من أقوى الرؤساء الذين حكموا الولايات المتحدة بعد الرئيس ريجان، وهو كما تقول الوقائع يسعى فعلاً لا قولاً إلى إعادة هيبة وهيمنة أمريكا وقوتها، وكل المؤشرات تقول إنه سينجح، كما أن إدارته تتكون من مجموعة من الصقور، الذين لم يجتمعوا قط في إدارة سابقة، ولعل ضعف وخنوع وتردد سلفه الرئيس أوباما أعطاه تميزًا واضحًا عنه، فكما يقولون: وبضدها تتميز الأشياء، وهو بلا شك نقيض في كل تفاصيل سياساته وتوجهاته مع الرئيس أوباما، ويحقق من النجاحات قدرًا كبيرًا، يجعل المواطن الأمريكي يشعر فعلاً أن ترامب ليس رئيسًا فحسب، وإنما زعيم بكل ما تحمله الكلمة من معنى.
وفي المقابل، إيران دولة تمارس كل الموبقات السياسية في منطقة الشرق الأوسط، وهذه المنطقة تعتبر منطقة حيوية ليس للولايات المتحدة فحسب، وإنما للغرب بشكل عام، والأوربيون رغم اختلافهم مع الولايات المتحدة في قرار انسحابه من الاتفاقية النووية، يتفقون مع الرئيس ترامب في نظرته لمثالب هذه الاتفاقية، التي أغفلتها الدول الست الكبرى، وتقر بأنها غير مكتملة، ما لم تعالج قضية الاتفاقية النووية بعد 2025، وقضية الصواريخ البالستية، إضافة إلى تمدد إيران في المنطقة العربية. وفي تقديري أنهم سيبقون نظريًا ضمن الاتفاقية، لكنهم سيسعون إلى الضغط على إيران لإدخال حلول لهذه القضايا الثلاث، وليس في يد إيران في النهاية إلا الرضوخ، وإلا فإن الحصار الأمريكي سيخنقها اقتصاديًا، بالشكل الذي يلغي شيئًا اسمه الجمهورية الإسلامية في نهاية المطاف. وفي رأيي أن الست الأشهر التي منحتها الحكومة الأمريكية للشركات العاملة في إيران لتسوية أوضاعها، هي من زاوية أخرى مهلة لإيران للتعامل العقلاني مع المأزق الذي وضعها فيه الرئيس ترامب، بعد انسحابه من الاتفاقية.
ومن يقرأ وضع إيران الحالي، فلن يجد أمامها من خيارات إلا الإذعان، فالأوراق جميعها في يد الولايات المتحدة، وكل المؤشرات التي تلوح في الأفق تؤكد أنها عازمة على تقليم أظافرها من خلال العقوبات الاقتصادية الخانقة، وقد بدأت هذه العقوبات بحصار أذرعتها في المنطقة، وهذه الأذرع سواء تلك الموجودة في لبنان أو سوريا أو العراق أو اليمن، إذا لم تجد تمويلاً ماليًا، ستضعف ثم تذبل وتموت، خاصة إذا أخذنا في الاعتبار أن العقوبات الاقتصادية ستستنزف الاحتياطات الإيرانية، ما يجعل قدرتها على التحدي والصمود والمكابرة لن تطول كثيرًا، وبالتالي لن تستطيع الحفاظ على تمويل ميليشياتها وأعمالها العدائية في المنطقة العربية؛ وهذا في تقديري ما يخطط له الأمريكيون، ويعملون بجد على تنفيذه.
والسؤال: إلى متى سيصمد الإيرانيون؟.. لا أدري على وجه التحديد، أما الذي أنا متأكد منه، أنه ليس أمام إيران إلا خياران لا ثالث لهما، إما المكابرة ومن ثم السقوط الحتمي، أو الإذعان والنجاة.
يوم الجمعة الفائت تم تداول خبر مفاده أن طائرات إسرائيلية نفذت غارات على مطار مدينة حماة السورية. لم ينف أحد الخبر ولم يؤكده أيضاً. بقي الخبر مقتصراً على شهود عيان من المدينة، وعلى صورٍ التقطها مواطنون ولا يمكن التأكد من صحتها. لكن ما يجعل قابلية تصديق الخبر أكبر من قابلية عدم تصديقه، هو أن عشرات الغارات نفذها الإسرائيليون على مواقع النظام وحلفائه الإيرانيين ولم يُعلن عنها، عادت الوقائع وأكدتها، أو اعترفت بها لاحقاً الجهات المستهدفة.
والحال إن للصمت المضروب حول الغارات الإسرائيلية وظيفة على طرفي الجبهة. إسرائيل لا يبدو أن الإعلان عن مباشرتها المهمة وعن خطوات تنفذ في سياق تأديتها، مفيد لتحقيق «إنجازها»، وطهران ودمشق تتلقّيان الضربات وتفضلان الصمت عنها لكون الإعلان يملي رداً ليستا في وارد القيام به.
هذا مشهد من حرب بالغة الخبث. والخبث هنا يتبادله المتقاتلون على طرفي الجبهة. وإذا كانت طهران ودمشق غير معنيتين برأيٍ عام تصارحانه بما يجري، فإن الرأي العام الإسرائيلي الذي تغبطه «فعالية» جيشه، متواطئ مع حكومته على ممارسة هذا الخبث، وثقته بمؤسسته العسكرية والتي تبلغ مستوى يقبل بموجبه ممارستها صمتاً على مهمة خارج الحدود، لا تنتمي إلى قيم لطالما تباهى بها، وهي أن النظام السياسي يملي شفافية في العلاقة بين السلطة وبين أهلها.
لكن المفارقة هي في مكان آخر، ففي الوقت الذي صمتت فيه إسرائيل على تنفيذها عمليات كبرى وتدميرها بنى تحتية ومطارات وقواعد وأنفاقاً، رد النظام وحلفاؤه الإيرانيون مرة واحدة، وكان الهدف من الرد «كسر الصمت»، أي استعادة بعض من ماء الوجه حيال «رأي عام». لا قيمة عسكرية وميدانية للرد. بضعة صواريخ سقط معظمها في الأراضي السورية، وانعقدت في وعي المُخَاطبين «معادلة الردع». والمخاطبون ليسوا الإسرائيليين، بل من صار القصف الإسرائيلي اليومي يُثقل على «كراماتهم».
هذه من أغرب الحروب في العقود الخمسة الفائتة. حرب غير معلنة وغير مُفصحٍ عن قتلاها وعن خسائرها. قال الجيش الإسرائيلي أنه في جولة الغارات الأخيرة دمر معظم البنية التحتية للوجود الإيراني في سورية. هذا الإعلان على رغم أنه إفصاح نادر عن المهمة في سورية، يضاعف من غموض الحرب. من المفترض، إذا صحت ادعاءات الإسرائيليين، أن نكون حيال تغيير دراماتيكي. لكن هذا لا يبدو أنه حصل، وهو ما يدفع إلى محاولة تفسير أخرى للكلام الإسرائيلي.
ما يُفصح عنه من هويات قتلى هذه الحرب يُضاعف من غرابة المشهد. «حزب الله» يُقطّر إعلانه عن عدد قتلاه ويوزعهم على الأشهر حتى لا تظهر الخسائر مرة واحدة. إيران تُعلن عن «شهداء» من الحرس الثوري سقطوا في سورية «نصفهم من الإخوة الأفغان». وفي هذا الوقت تعلن الحكومة العراقية أنها دخلت إلى الأراضي السورية ونفذت فيها عمليات أمنية.
لا أحد يريد أن يعترف بمهمته في هذه الحرب. القتلى ليسوا مؤشراً على المشاركة وعلى التواطؤ. إسرائيل نادراً ما أعلنت عن غاراتها، وطهران أعلنت بصراحة أن لا قواعد عسكرية لها في سورية. ونحن حين تعبر الطائرات من فوق رؤوسنا تماماً في جبل لبنان متوجّهة إلى حمص أو حماة، علينا أن نفتح فايسبوك ونتعقب تدوينة ما، ونقول: «بعد أشهر ربما يكشف الأمين العام لـ «حزب الله» في أحد خطبه عن الغارة، ويُعلن أن ضباطاً إيرانيين قتلوا فيها، وهذه سابقة لها ما بعدها من تبعات». ونستمر في انتظارنا الطويل للتبعات من دون أن نجد ضالتنا.
لعله مما يبدو غريباً، قيام سلطةٍ ما تدّعي مشروعية وجودها، باستباحة ممتلكات «مواطنيها»، والأغرب من ذلك قيام السلطة بشرعنة سلوكها في ارتكاب الجريمة والسكوت عن القائمين بها، وسط سكوت عام عن تلك السياسة، بما يعني تكريسها سابقةً ونهجاً في السياسة والممارسة، بدل اعتبارها واحدة من الجرائم التي ينبغي محاسبة مرتكبيها، وإيقاع القصاص بهم.
وللحق، فإن سياسة نظام الأسد في استباحة ممتلكات السوريين، والمعروفة محلياً بـ«التعفيش»، تكاد تكون متفردة، خصوصاً إذا تم تمييزها عن عمليات المصادرة والاستيلاء التي يقوم بها بعض السلطات بما فيها نظام الأسد ضد أشخاص أو جماعات سياسية أو عصابات في إطار الحرب ضدهم.
وبالعودة إلى سياسة التعفيش في ممارسات نظام الأسد، يمكن القول إن بداياتها، ارتبطت بالاجتياح السوري للبنان في عام 1976، عندما دفع الأسد الأب قواته إلى الدخول إلى لبنان بحجة وقف الحرب الأهلية وإعادة الأمن إلى البلاد، فانخرطت تلك القوات في عملية تعفيش المناطق التي وصلت إليها، وأخذت تستولي على كل ما صار تحت يد ضباطها وجنودها من مناطق، استولت فيها على أموال ومفروشات وتجهيزات ومعدات، بل وصل الأمر إلى تحويل البيوت والمحال والمزارع، التي سيطرت عليها إلى خرائب بعد أن فككت الأبواب والنوافذ والأدوات والتمديدات الصحية والكهربائية ومواد الإكساء. وكان من المألوف رؤية القوافل العسكرية العائدة من لبنان وهي محمّلة بما تم تعفيشه.
وسمح التمرير الصامت في مستوياته المختلفة لجرائم نظام الأسد في التعفيش اللبناني، بانتقال هذه السياسة إلى الفضاء السوري، وكانت سنوات صراع النظام مع الجماعات الإسلامية المسلحة في الثمانينات الفرصة الأكبر لظهور تلك السياسة، حيث قامت قوات الجيش والأمن باستباحة مدن وقرى ولا سيما في الوسط والشمال السوري بينها حماة وجسر الشغور وحلب، وفيها قام ضباط وجنود الأسد بالاستيلاء على كل ما وصلت إليه أيديهم في البيوت والمحال والمزارع التي مرّوا عليها، وقد تكررت مشاهد القوافل العسكرية المحملة بما تم تعفيشه على نحو ما حصل سابقاً في لبنان.
ويعيدنا الحديث عن التعفيش في سياسة نظام الأسد إلى الانقلاب الفاشل الذي قاده رفعت الأسد على سلطة أخيه في عام 1984، والتي استدعى رفعت في إحدى مقدماتها اللبناني علي عيد، أحد أبرز أنصاره في طرابلس اللبنانية، وأبلغه بأنه وبالتزامن مع العملية الانقلابية، سوف يتم إطلاق يد الميليشيات التابعة له لمدة ثلاثة أيام في دمشق للاستيلاء على كل ما يمكن الوصول إليه، وقد أعدّ علي عيد في حينها، مجموعة من مائتي شخص للقيام بهذه المهمة، لكنْ تسرُّب الخبر إلى السلطات السورية، مكَّنها من اعتقالهم في الطريق إلى دمشق.
وثمة نوع خاص من التعفيش أبدعته أدوات النظام في المؤسستين الأمنية والعسكرية، وهو الاستيلاء على رواتب ومخصصات الرتب الدنيا والحصول على أُعطيات عينية في المؤسستين من قبل الضباط والنافذين من صف الضباط، حيث درجت العادة مع وصول الأسد الأب إلى السلطة في عام 1970، على أن يقوم كبار الضباط بمنح العسكريين الصغار ولا سيما المجندين منهم إجازات بمقدار ما يدفعون من مال أو أُعطيات عينية، أو يؤدونه من خدمات للنافذين في الوحدات العسكرية والأمنية لدرجة وصلت إلى حد عدم الانخراط في الخدمة العسكرية بصورة كاملة.
وسط هذا الإرث في تجربة التعفيش، جدد نظام الأسد الابن سياسة أبيه بعد انطلاق ثورة السوريين في عام 2011، حيث تم إطلاق يد الجيش والأمن في استباحة المدن والقرى الخارجة عن سيطرة النظام، فبدأت عمليات السطو على ممتلكات السوريين من بيوت ومحلات ومزارع، وتعفيش ما فيها.
ولم يكن ذلك منفصلاً عن مجمل سياسة النظام ضد السوريين، بل كان جزءاً من منظومة القمع والإرهاب التي شملت القتل والاعتقال والتهجير وتدمير الممتلكات وسط تميز أهداف سياسة التعفيش بثلاثة أهداف أساسية؛ أولها منح ضباط وعناصر النظام حوافز مادية، تعزز هجماتهم على المناطق المعارضة وسكانها للحصول على مكاسب مادية. والثاني تصعيد عمليات التخويف للسوريين، لأن التعفيش لم يكن مقتصراً على المعارضين وأقربائهم، بل شمل الجميع دون استثناء. والهدف الثالث تصعيد النزعات الإجرامية، وجعل الاستيلاء على أموال السوريين من المعارضين وسكان المناطق الخارجة عن سيطرة النظام سلوكاً مبرراً بغطاء رسمي.
لقد صاغ الفاعلون الأساسيون في نظام الأسد مساراً عملياً لسياسة التعفيش. فبعد أن يتم طرد سكان المناطق المستولَى عليها من جانب قوات الأسد وميليشياته وحلفائه، يتم إغلاق تلك المناطق، ومنع عودة أي من السكان إليها بصورة نهائية، ثم يتخذ التعفيش واحداً من طريقين؛ أولهما أن يقوم المسؤول الأمني عن المنطقة بتعهيد تعفيشها إلى نافذين من الشبيحة مقابل عائد مادي يتسلمه سلفاً، وبهذا يستأثر المسؤول الأمني الذي غالباً ما يكون من كبار ضباط الجيش أو الأمن بالعائد الرئيسي للتعفيش، أو أن يفلت ضباطه وجنوده لتعفيش المنطقة مقابل حصة يدفعونها له، وفي هذه الحالة تعود فوائد التعفيش على الجميع من الأعلى إلى الأسفل.
لقد خلقت سياسة التعفيش بنية متكاملة، أحد أبرز وجوهها تشكيل نخبة من رجالات النظام الأمنيين والعسكريين تدير عمليات التعفيش، وفئة وسيطة من المتعهدين والوسطاء المرتبطين بالفئة الأولى، وفئة دنيا تقوم بعمليات التعفيش، وترحيل منتجاتها وتصريفها في الأسواق، كما تتضمن البنية المتكاملة أسواقاً منها أسواق علنية لعل الأولى فيها كانت «سوق السنة» في منطقة السومرية غرب دمشق، قبل أن تصبح أسواق التعفيش ظاهرة علنية في العديد من المدن الخاضعة لسيطرة النظام.
إن سياسة التعفيش، كما يرسمها نظام الأسد، وتنفّذها قواه الأمنية والعسكرية وميليشياته من الشبيحة، تشكل جزءاً أساسياً من نظام معاقبة السوريين وإخضاعهم، إضافة إلى أنها طريقة لسرقة ما لم تدمره حرب النظام، وتحويله إلى مغانم، ينتفع منها ضباط النظام وجنوده وشبيحته من أجل تعزيز ولائهم لنظامٍ فقد كل القيم الإنسانية والوطنية والأخلاقية، وصار من اللازم أن يحاسَب على جرائمه، ويغادر بطريقة أو بأخرى.