أخذتنا الأحداث، وكثرة الأطراف الضالعة في الحرب على أرض سورية، بعيدًا عن واقعنا الذي ما زال يتدهور في حالةٍ مريعةٍ، حتى لم يعد في الإمكان رؤية أفق في مدى هذه الحرب المفتوحة على كل الاحتمالات، وصرنا نلهث خلف الخبر، وصرنا أسرى الفضائيات وأسرى الصور والمشاهد فائقة المكر. بل فتحت شبكة الإنترنت والمواقع المتنوعة المجال أمام الجميع، ومن دون قيود، لوضع ما يريدون على الإنترنت، ليكون متاحاً للعالم رؤيته، فجرفنا هذا الضخ المتدفق كالشلال إلى دوامةٍ زادت في ضياعنا وغربتنا عن واقعنا. صارت أنظارنا ترنو إلى انعكاس وهج النار في محيطنا، علّ يلوح في الأفق من يمدّ خراطيم المياه لإطفائها، ولا نحاول إنقاذ أنفسنا، أو مدّ يد العون إلى إخوتنا. بينما نحن نحترق بالفعل في أتونها، بل المحزن والمخزي أننا نتشفى بموت بعضنا بعضا.
لكن بالفعل لم يعد أمام السوريين من خياراتٍ كثيرة، فمن يتابع الأحداث وتسارعها يستنتج أن الترتيبات المتوقعة أو المرجوة تديرها لعبة الأمم الضالعة في صنع مصيرنا، وفي صنع مصير العالم أيضًا. نحن رهن هذه اللعبة، وكان من الواجب على من احتكروا الحراك الشعبي السوري، ونصبوا أنفسهم بدعم من جهاتٍ دوليةٍ وإقليميةٍ أن يفهموا هذه اللعبة، وأن يعرفوا كيف يحرّكون مجاذيف الزورق الذي حملوا فيه كل السوريين، في مغامرةٍ غير محسوبة النتائج، ولم يكن كسفينة نوح.
ردا على سؤال الإعلامية ميسون ملحم، في قناة دويتشه فيليه، ما إذا كانت سياسة الأوروبيين تجاه إيران تتعارض مع مصالحهم مع العالم العربي، خصوصا مع دول الخليج التي تعتبر شريكاً تجارياً مهماً لهم، قال رئيس قسم العلاقات عبر الأطلسي في الجمعية الألمانية للسياسات الخارجية، هيننغ ريكه، "إن الأوروبيين ينتهجون مع إيران سياسة على مسارين في الوقت نفسه، فمن ناحيةٍ، هم أعلنوا عن دعمهم الاتفاق النووي، ومن المفترض أن يحاولوا التعويض لإيران عن بعض الخسارات التي ستلحق بها. ومن ناحية أخرى، سيحاولون دفع إيران إلى مفاوضاتٍ تتعلق ببرنامج الصواريخ وبتدخلها في سورية وفي اليمن، حيث تدعم جماعات شيعية مسلحة منخرطة في النزاع المسلح. طبعاً مفاوضات كهذه لا يمكن أن تتم مع إيران وحدها، وإنما مع أطرافٍ أخرى، مثل السعودية أيضاً، ومن خلال مؤتمر سلام إقليمي".
هل يمكن للسوريين الذين شتتتهم الحرب، وشرّدتهم، ومزقت نسيجهم الاجتماعي، ودقت أسافين الفرقة والتقسيم فيما بينهم، أن يحلموا بسلام بناءً على احتمال مؤتمر إقليمي للسلام، كما يقول الباحث؟ عاش السوريون عقودًا تحت خيمة شعار "الأرض مقابل السلام"، ودفعوا فواتير حرب مرصودة في القادم من الأيام، كانت دائمًا تختبئ خلف أبوابهم، وتجعلهم أسرى التهديد الوجودي الكبير، العدو الصهيوني. ومنذ النكبة، أي منذ سبعين عامًا، وإسرائيل تزداد تغولاً في حياة الشعب الفلسطيني، والأرض والحقوق تنتهكان، ولم يأت السلام. وتسعى إسرائيل في طريق ترسيخ وجودها، وتمكين نفسها دولةً قويةً متطورةً راسخةً ضاربةً بكل القرارات الدولية والوثائق والمعاهدات والاتفاقيات عرض الحائط. وصار الموقف المعلن من إسرائيل، ومن القضية الفلسطينية، هو ما يفرز الدول والأنظمة من حولنا إلى صديق أو عدو، بينما تعمل تلك الدول والأنظمة على ضبط سياساتها وفق مصالحها، ومن يقرأ سياسات إيران وتركيا على الأقل خلال العقود الماضية سيرى ما يؤكد هذه الوقائع.
ومنذ قدوم ترامب إلى سدة الرئاسة، تتضاءل فرص التوصل إلى سلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين، هذا الرجل السافر حدّ الذهول، فماذا فعل العرب، أو فعلت تركيا وإيران أمام قراره نقل سفارة بلاده لدى إسرائيل، وبمباركة دول عربية "شقيقة"، كما أوهمتنا الإيديولوجيا القومية، القرار الذي لم ينتظر طويلاً حتى ينفذه بالفعل، فهو رجلٌ نافد الصبر على ما يبدو، لا يعرف الانتظار كثيرًا، أو ربما هو يعرف تمام المعرفة حجم بلاده، وثقلها وسطوتها على العالم. وبالتالي يفعل ما يريد، لأنه يعرف أيضًا أن كل فعل منه سوف يربك العالم بأسره، وحلفاءه قبل أعدائه أو خصومه. بل ماذا يفعل العرب إزاء موت الفلسطينيين المحاصرين في غزة منذ سنوات طويلة؟ ما يُحكى عن حل تسعى مصر إلى تطبيقه مع الولايات المتحدة من إلحاق غزة اقتصاديًا بمصر عن طريق رفح، وإقامة مطارات في العريش، أمر مؤلم وفاجع، باعتبار أن في دور كهذا ما فيه من نسيان لجرائم إسرائيل، ورفع المسؤولية عنها مع الزمن، يمكن أن تلعبه مصر.
ليس فقط تمييع القضية الفلسطينية والاستهتار بحقوق الشعب الفلسطيني ونسف المسار الذي اتفقت القوى الفاعلة سابقًا حول تطبيقه يقوم على أساس الدولتين، ونسف السلام المرجو، بل إن نسف الاتفاق النووي مع إيران الذي وقعته الولايات المتحدة والدول الشريكة في يوليو/ تموز 2015، من دون إقامة اعتبارٍ إلى الشركاء الآخرين سوف نحصد نتائجه المريعة هنا، في سورية وفي المناطق الأخرى التي تشتعل فيها الحروب على شعوبنا، منذ رفعت الصوت تريد الحرية، خصوصا بعد تحذيرات وزير الخارجية الأميركية، مايك بومبيو، ومطالبته إيران بتنفيذ بنود اثني عشرية.
يقول الباحث في الحوار نفسه: "ما تزال الولايات المتحدة الشريك الأقرب والأهم بالنسبة للاتحاد الأوروبي. إنه أمر يتعلق بالارتباط الكبير في مجال الدفاع المشترك من خلال حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وبالعلاقات الاقتصادية القوية بين الطرفين. يجب أن لا ننسى أن الولايات المتحدة الأميركية مع كندا والاتحاد الأوروبي تشكل أقوى حلفين، عسكري واقتصادي، في العالم. إضافة إلى ذلك، تجمع الطرفين قيم مشتركة كثيرة فيما يخص الديمقراطية وحقوق الإنسان". فحتى لو بدا، كانطباع أولي عن المشهد الحالي، أن الأوروبيين على خلاف مع الولايات المتحدة، وأنهم يرغبون في إنقاذ الاتفاق النووي، عن طريق التعاون مع أطراف أخرى، كالصين وروسيا، إلا أن مصلحة الغرب، في النهاية، هي مع حلفائها الأهم، وفي مقدمتهم الولايات المتحدة، حتى لو أبدوا ما أبدوا من مواقف ضد إلغاء الاتفاق النووي، فهم في الواقع ليسوا في موقعٍ يملك من القوة ما يجعلهم فاعلين أساسيين، أقله على المدى المنظور. فأمام الاتحاد الأوروبي مسؤولياتٌ تجاه المنطقة، ولديهم ما يكفيهم من الاستحقاقات التي باتت نقطة خلافٍ في السياسات الداخلية لدى بلدانٍ عديدة، تبدو مشكلة اللاجئين في صدارتها، تُدخلها في مساومةٍ حولها عن طريق الدفع في تكاليف إعادة إعمار سورية.
لو ينظر السوريون بتمعنٍ ونياتٍ متحرّرة من عصبيات ما أحدثته الحرب في واقعهم، لكانت الحقيقة صادمةً إلى درجة أن من غير المحتمل بقاءهم مرتهنين للخارج، على الأقل في نظرتهم إلى ما يجري في بلادهم، وأن ما يبدو انتصارا لطرف، وهزيمة لآخر، ما هو إلاّ نتيجة كارثية لصراع القوى الدولية والإقليمية فوق أرضهم، دفعوا ثمنه، وهو نكبة سورية كلها. لم يبقَ جيش نظامي، أو قوات غير نظامية، أو مليشيا تابعة، إلاّ ولها موطئ قدم وزناد على الأرض السورية. لأميركا أماكن نفوذ مع حلفائها على مساحة كبيرة، تركيا، إيران، روسيا. ولا يمكن لهذا الوضع المختلط إلا أن يدفع باتجاه الخوف مما يحصل في العالم، من الفوضى التي أحدثتها أميركا، من وأد القضية الفلسطينية، من التحالفات الرجراجة التي يفرضها الظرف الراهن والتطلع المستقبلي. كلها عوامل تؤكد أن السوريين، إذا لم يلاقوا صيغةً يتفاهمون من خلالها على انتشال وطنهم من السقوط المدوي، لن يكونوا قادرين مستقبلاً على لملمة مزقه. العالم يرتب أولوياته، وتسعى الأمم إلى ضمان مستقبلها على حسابنا، وحساب قضايانا العادلة. ونحن لا نعرف أن نحلم بأن نكون أمةَ، بعد أن ضيعنا بعضًا من أسسها التي كان يمكن أن يبنى عليها.
تتبادرُ إلى الأذهان، فورَ سماع خبر زيارة المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، الرئيسَ الروسي فلاديمير بوتين، في مدينة سوتشي الروسية، وطرحها مسألة القانون الذي أصدره بشّار الأسد قبل أسابيع، مسألة الابتزاز التي يجيدُ ممارستها الساسة. وهو قانون يعطي السلطة التنفيذية الحقّ في تنظيم وإعادة تنظيم أية منطقة عقارية تحدّدها هي، وتقوم العملية على مبدأ حلّ الملكيات الفردية، واعتبار المنطقة كاملة بمثابة عقار واحد، يتمّ إعادة تقسيمه بعد اقتطاع النسب المجانية للصالح العام. ويعتبرُ أكثر الحقوقييّن السوريين هذا القانون بمثابة سلاح جديد يستخدمه النظام لتجريد السوريين المعارضين، خصوصا منهم المهجرين، من ملكياتهم العقارية، فقد اشترط على ملّاك العقارات إثبات ملكياتهم خلال شهر أمام لجان إعادة التنظيم، لمعرفته باستحالة ذلك، في ظلّ التعقيدات الأمنية الهائلة المفروضة عليهم، وعلى وكلائهم القانونيين، في حال تمكّنوا من توكيل أحد يمثّلهم.
أن تذهبَ بنا عقولُنا المشرقيّة المبنيّة، منذ بدايات زمن الانحطاط، بشكلٍ مكثّف وشبه تام على حضور نظريّة المؤامرة في تفسير كلّ حدثٍ خارجٍ عن إرادتنا، ونعجزُ عن تفسيره، أمرٌ لم يعُد ينطلي على كثيرين، أو على الأقل لم يعُد يروق لكثيرين. التاريخُ حركةُ تفاعل جدليّ، وصراعٌ بين مجموعة من المصالح والقيم والمفاهيم، وهو ليس نتاج أفرادٍ يقرّرون بخالص إرادتهم هذه السيرورة المعقّدة، لكنّ المتتبّع لدور الأفراد في التاريخ يجدُ، في المقابل، أنه لم يكن أبداً حاصلاً صفريّاً، بل هو قيمةٌ محسوسةٌ ذات وزن قابلٍ للقياس.
صحيحٌ أنّ العامل الفردي يبقى محدود التأثير، ويتمظهرُ انعكاسا، بشكل أو بآخر، لمجموعة القوى الفاعلة، إلّا أنه يكون أحياناً عاملَ حسمٍ، وعتلةً رافعةً للتغيير المطلوب في لحظةٍ مفصليّة من لحظات التاريخ، وهذا ما ينطبقُ بشدّة على الرئيس الروسي الذي يعتبره بنو قومه المسيح المخلّص الذي قام من موته، وبعثَ معه العِرقَ الروسي وشعوره القوميّ المستند إلى موروث القياصرة العريق.
في كلّ الأحوال، كيف نفسّرُ هذه المخاوفَ الألمانية من قانونٍ صدر في دولةٍ فاشلةٍ، تقبعُ منذ خمسين عاماً خارج تاريخ فعل الإبداع البشري؟ ولماذا تمّ الطرحُ أمام القيصر الروسي؟ ولماذا كان ردّ القيصر أن على الغرب تحمّل أعباء إعادة إعمار المدن والقرى التي دمّرها مُصدِرُ هذا القانون وحليفه الراعي؟
لا يُعقل أن يكون بوتين قد طلب من بشّار الأسد إصدار هذا القانون، ولكن يمكن الجزم بأنّه، وبسبب دعمه المطلق وحمايته العسكرية والسياسية التي وفرها له سبعة أعوامٍ ونيّف، أوجد الأرضيّة المناسبة، أو البنية التحتيّة لهذه التراجيديا القانونية. وبغضّ النظر عن القانون وآليات تطبيقه وآثاره، فإنه كان بلا شكّ من أهمّ سعاة البريد الذين حملوا رسائل العنف والابتزاز خارج نطاق تطبيقه المكاني وحيّزه الحيويّ أصلاً.
قرأت ألمانيا بحقّ هذه الرسالة، وسواء أكانت هي المقصودة بها أم لا، فإنها وجدت نفسها معنيّة بها بلا ريب. وهي تحتضن نحو نصف مليون لاجئ سوري، هربوا من براميل النظام، وجزءٌ يسير منهم هرب من جور التنظيمات التي فرّخ قادتها في سجونه وأقبية مخابراته. كلّ واحد من هؤلاء يكلّف الخزانة الألمانية مبلغاً لا يقلّ وسطيّاً عن ألف يورو شهريّاً (بحسب مصادر متخصصة)، ما يعني نصف مليار شهريّاً وستة مليارات سنويّاً. وقد باتت آثار هذا الأمر على الاقتصاد والمجتمع والسياسة الألمانية من أهمّ الحجج التي يرفعها اليمين المتطرّف في وجه الأحزاب الكبرى، وقد تكون زيارة بعض أعضاء البوندستاغ (البرلمان) الألماني من حزب البديل إلى سورية أحد أسباب التسريع في صدور هذا القانون.
المعايير القانونية والدستورية في أوروبا هي ما يجعل هذا الملف حساساً وقابلاً للاستخدام والضغط. وتنص المادة الأولى من الدستور الألماني "تكون كرامةُ الإنسان مصونةً، وتضطلعُ جميعُ السلطات في الدولة بواجبات احترامها وصونها". لم تتحدّث هذه المادّة عن كرامة المواطن الألماني، بل عن كرامة الإنسان. ومن هنا، يتمتع أي إنسان مقيم في ألمانيا بالدرجة نفسها من الكرامة والاحترام والحقوق (باستثناء الترشّح والانتخاب) التي يتمتع بها أي مواطن ألماني. يستتبع هذا أن تتحمّل الدول الأوروبيّة مسؤولياتٍ ماديّةً كبيرة لرعايتهم.
رسَم بوتين بدعمه طغاة الشرق الأوسط خطّاً بيانيّاً صاعداً لليمين المتطرّف في أوروبا، فأحزاب هذا اليمين أعجزُ من أن تقدّم برامج انتخابية مقنعة، تستطيعُ بها منافسة الأحزاب التقليدية التي تعاقبت على حكم أوروبا، ففي بلدانٍ يُشكلُ المسنّون نسبة كبيرة جداً من سكانها يجب على الأقل أن يكون لأي حزبٍ من ضمن برنامجه الانتخابي ما يتعلق بسنّ التقاعد وبالتأمين التقاعدي وتأمين رعاية المسنّين والعجزة، وهذا أمرٌ لم يستطع تقديمه مثلاً حزب البديل من أجل ألمانيا (AFD)، ولذلك ترفع هذه الأحزاب شعارات معاداة اللاجئين، باعتبارها بطاقة رابحة في أوساط الطبقات الفقيرة.
كانت جزئيّة القانون رقم 10 ولا شكّ إحدى نقاط البحث بين ميركل وبوتين، وتشعّبات الملف السوري تجعلهُ حاضراً في أغلب بازارات المصالح السياسية والاقتصادية الدوليّة. وفي المقابل، هل يمكن التسليم بأن روسيا في موقع أقوى من ألمانيا، أو من أوروبا مجتمعة، حتى تمارس عليها هذا الابتزاز في ملفّ اللجوء، أم أن لدى أوروبا أوراقا كثيرة تستطيع اللعب بها في مواجهتها؟
يرى الناظر إلى طبيعة العلاقة ما بين الكتلتين أن الأوروبييّن في موقع أقوى من موقع الروس، بدليل أنهم يستطيعون فرض عقوباتٍ اقتصاديّة عليها، وهي لا تستطيع الردّ بالمثل، فماذا تملك روسيا غير الغاز الطبيعي، لتصدّره إلى أوروبا؟ ليس السلاح بضاعة رائجة هنا. وإذا احتاج الأوروبيّون سلاحاً، فبالتأكيد لن يشتروا الخردة الروسيّة التي لم تتطوّر كثيراً منذ انهيار الاتحاد السوفييتي. بالعكس، تحتاج روسيا بكل تأكيد التكنولوجيا الغربية والآلات والمواد المصنّعة بأعلى المواصفات التقنية التي لا يمكنها أبداً مجاراتها.
كذلك يمكن لأوروبا عموما، وألمانيا خصوصا، تحمّل ملف اللاجئين عدة أعوام، بل يمكنها الاستفادة من أبناء هذه الكتلة البشرية بشكل ممتاز، بعد جيل واحد، بافتراض أنها لن تستفيد من أيديهم العاملة الآن. ولكن، ماذا لو رفضت أوروبا، أو دولها المحوريّة على الأقل، الانخراط في إعادة إعمار سورية، هل ستخسر كثيراً، وهل سيكون بإمكان الروس الاستثمار بأنفسهم مثلاً، أم هل استثمارهم ممكن من دون موافقة الأميركيين المطلّين عليهم من كل جانب؟ الصراعُ جدليٌّ إذن بين الطرفين، ومن يجد في نفسه القوّة سيحاول الاستفادة أكثر على حساب الآخر.
يبقى أن نتذكّر أن القيصر يسعى إلى استعادة هيبة الدبّ الروسي التي انهارت مع انهيار الاتحاد السوفييتي. وفي المقابل، ليست المستشارة ميركل من الشخصيّات المصنّفة تحت وزن الريشة، كما بشّار الأسد، ليستعرض بوتين عليها أو على بلدها عضلاته. إنها سيدة الماكينات الألمانيّة التي أنجزت المعجزة الاقتصاديّة، بعد هزيمتها في الحرب العالميّة الثانية بعشرين عاماً، بينما انهارت روسيا التي انتصرت بها بعد أربع وأربعين سنة فقط.
ما يهمّنا، نحن السوريين، من هذا البازار كيفيّة انعكاسه على قضيّتنا المُشرعة الأبواب على رياح التأثير الدولية والإقليمية، وكيفية استفادتنا من مجمل المتناقضات، كي نصنع خياراتنا الوطنيّة ونرسمها ضمن الإمكانات المتاحة وهوامش الحركة الضيّقة.
هي أسئلة مطروحة للبحث والنقاش المستمرّين، وليس بالإمكان دوماً طرحُ الإجابات، ولا إيجادُ الحلول، فالسؤال يكون أحياناً جواباً في الوقت نفسه.
كأنّ بشار الأسد لم يقرأ بعد رسالة عضو لجنة المصالحة الوطنية في مخيم اليرموك ومنطقة جنوب دمشق، الشيخ محمد العمري، وقد ناشده فيها هذا، بعد أن بارك له النصر الذي تمّ هناك، بأن يوقف ظاهرة التعفيش التي "أصبحت تجرح شعور الكثير من الشعب، وخصوصاً عوائل الشهداء والجرحى الذين ارتقوا دفاعا عن البلاد والعباد". خاطب هذا الرجل، عضوُ اللجنة المذكورة أعلاه، الرئيس المشار إليه، بمقادير ظاهرةٍ من التوسّل، ".. ونظرا لمحبّتنا شخصكم الكريم، ولنا عندكم حظوة، كلنا أملٌ بكم، أيها القائد، في إيقاف هذه الظاهرة التي لا تتناسب مع التضحيات الجسام لجيشنا العظيم وصموده الأسطوري". إما أن الأسد صادف هذه الرسالة، ولم يحفل بالأمل الذي فيها عليه، أو أنه لم يقرأها. وأغلب الظن أن رئيس سورية (المنتخب بحسب أدونيس) لا يُشغل باله بمسألةٍ صغرى مثل هذه، فيما التحدّيات قدّامه ليس أولها مجابهة قوى التآمر على سورية، ولا آخرها تلبيةُ إرادة سلطة الانتداب الروسية بكتابة دستورٍ جديد. والدليل على أن مناشدة الشيخ العمري لم يُكترث بها أن "التعفيش" مستمرٌّ وباضطراد في مخيم اليرموك. والمفردة تعني، لمن لم يعرف بعد، سرقة الأثاث والكهربائيات وغيرهما من المنازل والبيوت والمحال التجارية التي نزح عنها أهلوها وأصحابها وساكنوها، بل حدث، بعد رسالة الشيخ عضو لجنة المصالحة الوطنية، أن عساكر يتبعون الجيش المنتصر، والذي تقول الرسالة إن بشار الأسد يقوده، قتلوا طفليْن حاولا منعهم من سرقة منزليْهما.
لقد أوسع الجيش الهُمام مخيم اليرموك "تحريرا" من الداعشيين، وأخرجهم سالمين. وبالتزامن والتوازي، شرّد أهل المخيم، اللاجئين الفلسطينيين وبعض أشقاء سوريين لهم. وما أن أنجز المهمتين، بعد بسالةٍ في تدمير المخيم، بشكلٍ كامل على ما قالت الأمانة العامة للأمم المتحدة، حتى باشر مرحلة التعفيش، بمواظبةٍ نشطة، دلّت عليها صور غير قليلة لعناصر منه غير قليلين، نطقت، وهم يحملون ويحمّلون مسروقاتهم، بانكشاف من يصدّقون أن هؤلاء من جيش نظامٍ ممانعٍٍ مقاوم، في عهدته تحرير الجولان، وفلسطين تاليا. ... تُرى، ألم يكن ممكنا إحداث الهزيمة بالإرهابيين، من تنظيم الدولة الإسلامية وغيره، بل وأيضا بالثوار الذين يزدرون نظام الأسد، أباً وابناً، بغير إحداث هذا التدمير المهول للمخيم الذي كان يضجّ بالحياة، وبالانتماء إلى فلسطين، منذ صار في 1957؟ ألم يكن في مقدور جيش السارقين هذا أن يحقّق انتصاراته من دون براميل متفجرةٍ وصواريخ ارتجاجيةٍ وفراغية؟ ما هي العقيدة التي تستوطن مدارك ضباط الجيش العربي السوري الباسل، وهم يأمرون بأفدح قوةٍ ضد المخيم؟.
نكون في منزلةٍ كبرى من السذاجة، لو صدّقنا أن القصة هنا.. لا، إنها ليست في "ترحيل" الداعشيين من عاصمة شتات اللاجئين الفلسطينيين، مخيم اليرموك، آمنين إلى السويداء أو إدلب. وإنما في اعتناق نظام الأسد، منذ أولى حروبه التدميرية ضد مخيمات الفلسطينيين، في العام 1976، في لبنان، أن هؤلاء الناس، أي الفلسطينيين، لاجئين أو في أي حالةٍ كانوا، إما أن يكونوا في جيب حافظ الأسد وورثته، أو لا مشكلة في الإجهاز على أي رمزٍ يدلّ على كينونتهم، أكان منظمة تحرير أو سلطة حكم ذاتي أو لجنةً من أجل حق العودة في مخيم البداوي في طرابلس. على الفلسطينيين أن يكونوا على طراز أحمد جبريل، أو أن يتحملوا الإبادة في "تل الزعتر"، أو القتل والتعفيش معا في "اليرموك". هذه هي معادلة نظام الأسد الخالدة، فمن هم هؤلاء اللاجئون الذين يرتضون بدعة ياسر عرفات عن عنوانٍ سياسيٍّ لهم؟ فيما الأصل أن تمثّلهم سورية الأسد، وتأخذهم إلى السلام الذي تريد، أو إلى الهزائم المعلومة في الحروب التي تعرف إسرائيل بداياتها ولا تعرف نهاياتها، كما ما زالت "تشرين" ومشتقاتها تكتب، ويعتنق خراريفَها مثقفون فلسطينيون، عراةٌ من أي أخلاقٍ، وهم صامتون، كما رئاسات حركة فتح ومنظمة التحرير والسلطة الوطنية، عن جرائم المحو المهولة التي استأنفها نظام الأسد في مخيم اليرموك، في غضون الذكرى السبعين للنكبة.
كان مخيم اليرموك شاهدا على تلك النكبة، وواحدًا من فضاءات الوجدان الفلسطيني المقاوم الموحد. وصار، بحسب رسالة عضوٍ في لجنةٍ مصالحةٍ سقيمةٍ إلى القائد بشار الأسد، أرض "تضحياتٍ جسام" لجيش التعفيش المغوار.
إيران تعد الأماكن والعناصر ومجلدات الخطابات التعبوية، انتظاراً للاحتفال بالذكرى الأربعين للثورة الإيرانية العام المقبل. لا شك أن تلك الثورة شكلت حدثاً مهماً على المستوى الدولي؛ لكن ذلك الحدث حمل كثيراً من علامات الغموض، وإن أطلق صرخات الاندفاع الثوري وشعارات التقدم والحرية والديمقراطية... إلخ.
بعد سيطرة الخميني وأنصاره على حلقات السلطة ومفاصل النظام، اندفع إلى العنف الدموي ضد كل من فاحت منه رائحة الاختلاف مع توجهات الخميني وليس المعارضة. مئات من الذين ناصروا الثورة كانوا من أوائل ضحاياها. كثيرون من الثوار كانوا مع الخميني في منفاه العراقي ثم الفرنسي، انتهوا إلى الإعدام أو المنفى. الحسن بني صدر، رفيق الخميني في مواجهة نظام الشاه، وأول رئيس للجمهورية الإسلامية الإيرانية، هرب من طهران متخفياً ناجياً برقبته من النهاية الدامية. صادق قطب زاده، أقرب المساعدين للخميني في منفاه وأحد رموز الثورة، انتهى إلى الإعدام ومعه العشرات.
قال بني صدر، إن الخميني قال له بعد أول انتخابات في الجمهورية الجديدة، لا يهم رأي الناس، المهم رأي رجال الدين.
أسس المرشد الأعلى للثورة الحرس الثوري، ليكون القوة الضاربة له. تفرض ما يقرره. فوجئ رئيس الدولة - بني صدر - منذ الأيام الأولى بقرارات يصدرها المرشد منفرداً من دون الرجوع إليه، ويجري اتصالات مع أطراف خارجية من بينها الولايات المتحدة الأميركية.
منذ البداية، اتجه الخميني إلى سياسة المواجهة والقوة في الداخل والخارج. وضع نفسه فوق الجميع، وتوج ذلك بصياغة الدستور الإيراني الذي جعل المرشد صاحب الأمر والنهي، من خلال دسترة ولاية الفقيه في غيبة الإمام المنتظر. جعل من إيران دولة لاهوتية موصوفة بتكريس المذهب الجعفري في صلب الدستور، وهو بذلك بنى سداً عالياً بين إيران والغالبية الساحقة من المسلمين السنة. افتتح الخميني مسار جمهوريته الإمامية الاثني عشرية الجعفرية الشيعية الخارجي بالمواجهة الدامية مع العراق، التي جرت الملايين من الإيرانيين إلى حرب كانت حيناً معروفة وأحياناً منسية. فتح جبهة مبكرة للصدام مع أميركا بالهجوم الذي شنّه الطلاب الإيرانيون على السفارة الأميركية بطهران، واحتجاز العشرات من العاملين فيها، في خرق غير مسبوق للمواثيق والاتفاقيات الدولية.
الأمر الأخطر الذي علقه الخميني حبلاً في رقبة إيران، هو المادة 154 من الدستور الإيراني التي جاء فيها: الجمهورية الإسلامية الإيرانية تعتبر سعادة الإنسان في جميع المجتمعات البشرية مثلها الأعلى، وترى أن تحقيق الاستقلال والحرية والسيادة والعدالة الحقيقية من حق جميع شعوب العالم، ولهذا فإن الجمهورية الإسلامية تتعهد بعدم التدخل في شؤون البلدان الأخرى، (ولكنها تلتزم بإسناد كافة النضالات الحقة للمستضعفين أمام مستكبري العالم، في أي نقطة من نقاط المعمورة)...!! هذه المادة تحمل في داخلها تناقضاً يصل إلى حد العبث. التزام بعدم التدخل في شؤون البلدان الأخرى، وفي النص ذاته تعلن عن نفسها بأنها تمثل قوة عابرة لحدودها، بدعم نضالات المستضعفين في أي نقطة من المعمورة. والسؤال الذي يسوقه اليوم أي إنسان هو: هل تدعم إيران المستضعفين في سوريا واليمن ولبنان؟ ألم تتحول هي ذاتها إلى قوة تسند الظالم في هذه النقاط من المعمورة ضد المستضعفين؟
والإعدامات التي يمارسها النظام الإيراني في حق الفقراء والمستضعفين على أرضه، أليست الخرق الأكبر والفاضح لذاك النص؟
مشكلة النظام الإيراني مع العالم لم تبدأ بمشروعه لتطوير سلاحه النووي أو الصاروخي. باكستان الإسلامية امتلكت القنبلة النووية، ولم تشن الدنيا عليها معركة عسكرية أو سياسية، على الرغم من أن باكستان تقع في دائرة جغرافية سياسية متوترة وساخنة بحكم الموروث الحساس بينها وبين الهند؛ بل إن سلاحها النووي ساهم في تزكية زخم الهدوء مع الهند. مشكلة إيران المزمنة هي خيارها العنيف العابر لحدودها، الذي تصدره في صناديق السلاح والمال والآيديولوجيا الطائفية، على أكتاف شبابها الذين ترسلهم أرتالاً إلى خارج حدودها، وشبكات المال المشبوه العابر للقارات وافتعال الحروب الطائفية في مشارق الأرض ومغاربها. المفارقة العجيبة الغريبة أن تعبئ إيران المئات من المبشرين في غرب أفريقيا، لتحويل السنة إلى المذهب الشيعي، في حين يوجد بهذه المنطقة الملايين من البشر الوثنيين، ألم يكن من الأحرى أن تسخر أموالها ومبشريها لهدايتهم إلى الإسلام؟!
إيران أمة كبيرة. لها إمكانيات بشرية ومادية هائلة. جذورها في التاريخ ممتدة عبر حقب طويلة. كان بإمكانها اليوم أن تكون من النمور الآسيوية؛ بل العالمية، ولكنها أضاعت كل ذلك في وهم العظمة الذي وضعها في مؤخرة الدول، واستحقت أن تكون الدولة الأولى المنبوذة والمارقة في العالم. تفوقت على نفسها في صناعة الأعداء بمالها ودماء أبنائها، وفرضت على شعبها الفقر والبطالة والتخلف.
عندما يعلن حسن نصر الله، أن سلاح حزبه وماله وأكله وشربه، يأتي من إيران، السؤال: لماذا؟ هل لكي يحكم هذا الحزب لبنان؟ ونكرر السؤال: لماذا يحكم الحزب هذا البلد الذي أبدع توازناً سياسياً حقق له السلم الاجتماعي لعقود، رغم حساسية موقعه الجغرافي السياسي؟ تدفع إيران بالمال والسلاح إلى اليمن لتشعل من تحت رماد التاريخ ناراً طائفية ردمها الزمن.
اليوم تدخل إيران في أدغال الحرائق العالمية التي لا قبل لها بها. اللعب مع الكبار لا يكون بكرة النار. قائمة «الشروط» التي أعلنها وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو ليست قائمة من 12 نقطة للتفاوض، لكنها للقبول أو الرفض، وهي في الحقيقة كما يقول المثل الليبي «شروط النسيب الكاره»، أي أن تطالب من يخطب ابنتك بتقديم مهر لا قدرة له عليه. في جميع الحالات أن الوزير الأميركي عبر حزمة الشروط التي عرضها، قال لإيران: إما أن تغيروا أو تتغيروا. الرد الإيراني على لسان الرئيس روحاني وثلة من أعوانه، كان زخات من تهكم وعناد موجهة إلى الداخل الإيراني، ولا علاقة له بالتفكير السياسي الواقعي.
أوروبا التي تجهد سياسييها من أجل اجتراح مخرج للأزمة، تقف بين الإصرار والتصعيد الأميركي واللامعقول الإيراني، فالشروط الأميركية تغلق كل أبواب المناورات الدبلوماسية الأوروبية والصينية والروسية، والردود الإيرانية تزيد تلك الأبواب إحكاماً.
المرشد الأعلى للثورة الإيرانية خامنئي، يقف اليوم على منبر الحقيقة المرة القاتلة، كما وقف عليه يوماً سلفه الخميني، عندما اضطر مكرهاً إلى وقف الحرب مع العراق، قائلاً: «أنا أتجرع كأس السم، كم أشعر بالخجل لموافقتي على اتفاقية وقف إطلاق النار مع العراق».
هل ستمتد يد خامنئي إلى كأس السم والخجل؟
منذ بداية التدخل العسكري الروسي دعماً للنظام السوري في نهاية سبتمبر (أيلول) من عام 2015، أحسّ الإيرانيون الذين كانوا يوسّعون رقعة نفوذهم في دمشق، بأن هناك من يدخل على الخط ويمكن أن يسحب البساط السوري من تحت أرجلهم.
بدا ذلك واضحا تماما عندما قال حسن روحاني في 26 أيلول/سبتمبر من ذلك العام، «إن الجيش الإيراني هو القوة الرئيسية لمحاربة الإرهاب في المنطقة، التي عليها ألا تعتمد على القوى الكبرى… نحن ساعدنا سوريا والعراق على مكافحة الإرهاب». لكن بعد ذلك الحين بدا أن الوضع في سوريا صار عند موسكو تقريبا، وصارت لهجة الرئيس فلاديمير بوتين تتعامل مع المسألة السورية بمنطق «الأمر لي»، خصوصا في ظل سياسة التردد والحذر التي اتبعها الرئيس الأمريكي آنذاك باراك أوباما.
تعارُض المصالح بين الروس والإيرانيين كان واضحا تماما، وأذكر أنني كتبت في هذه الزاوية من «الشرق الأوسط»، أن الأمور ذاهبة حتما في النهاية إلى «قتال روسي إيراني على الجبنة السورية»، وهو ما يحصل الآن تماما، ففي 16 أيار/مايو الجاري، استقبل بوتين الرئيس بشار الأسد في سوتشي، ليبلغه بأنه مع تحقيق الانتصارات والنجاحات الملحوظة في الحرب على الإرهاب، ومع تفعيل العملية السياسية، لا بد من سحب كل القوات الأجنبية من سوريا، وفي هذا السياق قال بوتين إن الأسد سيرسل لائحة بأسماء المرشحين لعضوية مناقشة الدستور في أقرب وقت ممكن إلى الأمم المتحدة!
الحديث عن ضرورة سحب كل القوات الأجنبية من سوريا نزل على طهران مثل صاعقة، فبعد يومين وفي 20 أيار/مايو ردّ المتحدث باسم الخارجية الإيرانية بهرام قاسمي على بوتين بالقول: «لا أحد يستطيع إخراج إيران من سوريا، وإن وجودها العسكري سيستمر ما دام هناك طلب من الحكومة السورية، وإيران دولة مستقلة تتابع سياساتها على أساس مصالحها».
ووصل التحدي إلى مخاطبة الروس بالقول: «هم الذين يجب أن يخرجوا من سوريا، هؤلاء الذين دخلوا دون إذن من الحكومة السورية، ونحن سنبقى إلى الوقت الذي تحتاج إليه الحكومة السورية». وعلى خلفية هذا التراشق اشتعلت التحليلات التي تكذّب كلام قاسمي، على خلفية التذكير بتصريحات سيرغي لافروف في 17 كانون الثاني/يناير من عام 2016 التي قال فيها، «إننا واثقون بأن قرارنا كان صائبا عندما استجبنا لطلب الحكومة السورية الشرعية التدخل العسكري، ومن الضروري التذكير بأن هذه الدولة العضو في الأمم المتحدة، كان يفصلها أسبوعان أو ثلاثة أسابيع عن السقوط في أيدي الإرهابيين»!
طبعا هذا الكلام يذكّر أيضا بتصريحات بوتين التي كرر فيها أن دمشق كانت على وشك السقوط، بما يوحي ضمناًبأن إيران وأذرعها العسكرية في قتالها إلى جانب النظام السوري، كانت آيلة إلى الهزيمة لولا التدخل الروسي. وهو ما عاد وأكّده نائب رئيس الوزراء السوري الأسبق قدري جميل، معارض الداخل المقرب من الأسد، عندما قال في 26 آذار/مارس 2017: «لولا تدخل روسيا لكانت دمشق سقطت في يد (داعش) و(جبهة النصرة)». ومن الواضح أن هذه التصريحات سبق أن شكّلت صدمة لإيران لأنها تعبّر ضمنا عن قناعة بشار الأسد!
جاءت هذه المواقف المتتابعة التي تدعو إلى خروج الإيرانيين من سوريا، في وقت كان المسؤولون في طهران غارقين في المباهاة الواهمة طبعا بأنهم باتوا يسيطرون على أربع عواصم عربية: بغداد ودمشق وصنعاء وبيروت، لكن التطورات الميدانية والسياسية وصلت الآن إلى ما يُسقط كل هذه الأوهام.
ففي العراق يكفي أن يتأمل المرء في نتائج الانتخابات التي كرّست زعامة مقتدى الصدر الذي يدعو صراحة إلى رفع اليد الإيرانية عن العراق، وعندما يقول يجب أن نكسر البندقية، وندخل العراق في حال من الديمقراطية والاستقرار والأمن، فمن الواضح تماما أنه يدعو إلى كسر الهيمنة الإيرانية المتمادية على العراق منذ أيام نوري المالكي!
وفي سوريا، واضحٌ أن حسابات طهران آخذة في التداعي، فروسيا لا تتوقف عند حدود المطالبة بخروج الإيرانيين وأذرعهم العسكرية فحسب، بل يبدو أنها بعد زيارات بنيامين نتنياهو الأربع إلى موسكو ومحادثاته مع بوتين، باتت تقف موقف المتفرّج من الغارات الإسرائيلية المتتالية على المواقع والمخازن الإيرانية في سوريا. وفي السياق، من اللافت أنه بعد الغارات الأخيرة التي قال وزير الدفاع الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان، إنها دمّرت كل المواقع الإيرانية في سوريا، حملت الوكالات تصريح حسن روحاني عن أن إيران لا تريد تصعيد الموقف في سوريا!
تأتي هذه التطورات في وقت بدأت الشركات الأوروبية بالفرار من إيران بعد «وصايا ترمب الـ12 العقابية ضد النظام الإيراني»، وفي وقت تغرق البلاد في أزمتين خانقتين؛ الأولى استمرار المظاهرات ضد النظام بسبب الوضع الاقتصادي المتردي والفساد، حيث إن نصف الشعب الإيراني عند خط الفقر، كما تعترف الحكومة العاجزة عن معالجة الأمر في حين تصرف المليارات على سياساتها التدخلية التخريبية في المنطقة، والأخرى انهيار قيمة العملة الإيرانية خصوصا منذ قرار ترمب الانسحاب من الاتفاق النووي، ورغم أن الحكومة حددت سعر الدولار الواحد بـ42 ألف ريال إيراني، فإن سعره بلغ 74 ألفا، وبعد حملة اعتقالات شملت 180 من عملاء الصرافة، كتبت إحدى الوكالات تقول إن تهريب الدولار في طهران بات أشبه بتهريب المخدرات!
بالعودة إلى الصراع الروسي الإيراني على الجبنة السورية، يبدو الموقف الروسي حازما عندما يقول مبعوث بوتين الخاص إلى سوريا، ألكسندر لافرينتيف نهاية الأسبوع الماضي، «إن انسحاب القوات الأجنبية من سوريا يجب أن يتمّ بشكل كامل، والحديث هنا يشمل كل القوات الأجنبية بمن في ذلك الأمريكيون والأتراك و(حزب الله) وبالطبع الإيرانيون» في ما يشبه الرد الحاسم على الموقف الإيراني.
بعد قمة بوتين والأسد في سوتشي والدعوة إلى خروج كل القوات الأجنبية من سوريا، نشر موقع «تابناك» الإيراني التابع لأمين مصلحة تشخيص النظام محسن رضائي، تقريرا غاضبا جاء فيه، أن النظام السوري وموسكو اتفقا على إقصاء إيران في مقابل إشراك الدول الغربية في الحل السياسي للأزمة السورية، واعتبر الموقع أن قبول موسكو والنظام بالعودة إلى مفاوضات جنيف، يدل على وجود توافقات مع الدول الغربية حول إنهاء النزاع في سوريا بطرد إيران ومليشياتها.
ويقول موقع «تابناك»، إن «هناك تفاهما مستجدا بين موسكو ودمشق هدفه إقامة شراكة اقتصادية تُقصى بموجبه الشركات الإيرانية من النشاط الاقتصادي، خصوصا في مرحلة إعادة الإعمار في سوريا، ولكن يجب ألا نسمح بأن تتحقق أهداف بشار الأسد وأي طرف يريد إبعاد اليد الإيرانية… إن محاولاتنا لحفظ الأسد كانت مكلفة على صعيد الخسائر اللوجيستية وفي الأرواح، وليحذروا من اللعب في أرض تمّ اختبارها سابقا»، في إشارة واضحة إلى الصراع المستجدّ من الروس!
على حين غفوة من الزمن، اجتمعت بقايا أنقاضهم التائهة في التاريخ، لملموا جُندهم المبعثرين، ونفضوا ركام السنين ونهضوا يريدون الثأر لكبيرهم الذي حُطِّم بفأس إبراهيم تنامى إصرارهم في وأد كل يدٍّ حملت (معول الحق) عليهم وأثخنت بهم، ونكلّت بأكابِرهم، فشقوا الزمان عابرين بمسميات جديدة، تُزيل الشبهة عنهم وتُحيلهم لمارين على أرصفة النفوس لكنهم ضربوا جذورهم بأعماق العقول ليكونوا (أوثان العالم الجديد) فأين فأس إبراهيم؟ لم تكن (الفأس) لتُحدِث هذا التغيير الجذري في عمق التاريخ لولا أن من حملها كان (أُمَّة)، فصلاح حال أمةٍ بأسرها تمثل بفردٍ اجتمعت عنده مقومات الإصلاح وسبيل الصلاح فكان أُمة بحقِه والبقية أشباه أفراد بباطلهم..
المقياس هُنَا أهمية الفرد وإمكانية تغييره لمعادلة الواقع وتبديل المعطيات المحسوسة بإدراك المرء ضرورة إحداث التغيير، بدءاً من هدم طواغيت الذات التي جُعلت أرباباً تُعبد من دون الله بالباطل، فمن غلب هوى نفسه وأمسك جمرة فؤاده يقلبها في كفه كيفما شاء، جُعلت الدنيا أمامه يُغالبها فيغلبُها، فتطوعُ له سيداً عليها قد كفر بأصنامها فأمسى حُراً يُمسك فأس حقه بيمناه، وفسيلة مجده بيسراه، لتطيح أوثان العبودية على وقع هُتاف فردٍ أصبح أُمَّة، وأما من عبدَ وركع وسجد لوحش ذاته الذي اقتات على بقية إنسانيته المتمثلة بحريته ونال من بصيص روحه الذي بهت وخفت فاختفى لأن النور لا يليق بالعبيد، هذا العبد لن تسؤوه عبوديته فهو من ينصب صنماً ويزينه لنفسه ومن ثم يبدأ بعبادته، فقد سُلبت إرادته عند خضوعه واستكانته لطاغوت ذاته الذي يجعل منه ظِل فرد وشبيه إنسان، لا يَفَعل بالواقع بقدر ما يُفعل به..
وعلى سَبِيلِ إيقاظ سُجناء أنفُسِهم وإيقاد شعلة أرواحهم واستنقاذهم من نيران العبودية كان (الوعي) غيثاً مُغيثاً يُحيي من رماد الفكرة، ثمار الأفعال، ونِتاج الأعمال، ولذلك مثّلت عملية الوعي الثوري المفصل الأساسي في تحقيق الغاية من حُرية المرء وتوظيف أفعاله بما يعود بالنفع على أمته، حيث أن التغيير الذي بدأ بدماء "حمزة الخطيب" لن يُؤتي ثماره إن ضاعت أهداف الثورة بمتاهات تغييب الفرد عن واقعه وإحداث شرخ واسع بينه وبين ثورته فضبابية الرؤية وانعدام البصيرة لا يجلوها إلا التعبئة الثورية بأحقية المطالَب والوعي بأن السائر في ركب الثورة لا يمكن أن يتملص من واجباته تجاهها بدءاً من معرفة حقيقة المعركة الحاصلة مروراً بأهمية الروح المعنوية وانتهاءً بجاهزية البناء في حين الهدم وتمام القناعة أن تجربتنا منتصرة بوعد من الله سواءً كان نصراً على طريقة (فتح مكة) أو نصر (أصحاب الأخدود)، بمقدار تكاتف (المشروع السامي) و(الأفراد المخلصين) و(الوعي الكافي لتجاوز تحديات المرحلة الراهنة) نبلغ الفتح المبين والانتصار العظيم الذي يُحيي من يباب آلامنا أصوات الأولين.
"ويحك يا أبا سفيان! ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلا الله" قالها الحبيب عليه أفضل الصلاة والتسليم مُسلِماً مفاتيح الخلاص لأبي سفيان رضي الله عنه وأرضاه مخبراً إياه أن بـ (لا إله إلا الله) فُتحت مكة حيث كانت الغاية النبيلة والحقيقة الجلية والفأس الذي سُلط على أعناق أصنام الظلمة، بـ (جند لا إله إلا الله) كُلل الفتح المكي بفتوحات امتددت إلى مشارق الأرض ومغاربها، بـ (أتباع لا إله إلا الله) بُنيت حضارات دول أثبتت لابناء الواقع المعاش أن "فأس إبراهيم" لن تهِن بوجود جُندٍ يحملونها (ثورة شعبٍ) على أوثان الباطل بتعدد مسمياتهم واختلاف مقاصدهم، و(مشروع أمة) لِبذر الوعي وريَّ الإخلاص ليكونوا سبيل الخلاص، فنلوذ من حِمى فأس أبينا إبراهيم عليه السلام إلى "إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً" نجد بها ظلاً تفيء إليه أرواحنا المحترقة في صحارى الآلام أن برداً وسلاماً عَلَيْكِ يا شآم..
«هذا بيت هيثم ومحلاته وهذا محل النت على زاوية بيت حماي والعفيشة ينزلون الغسالات والاغراض من بيوتنا!».
هذا مقطع من شريط فيديو تداوله كثيرون على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك ويصوّر محاولة من إعلامي في «لواء القدس»، الموالي لنظام الرئيس السوري بشار الأسد، تصوير بيته في مخيم اليرموك فيما أفراد من «الجيش العربي السوري» يقومون بسرقة أغراض بيته وبيوت جيرانه ضمن عملية ممنهجة شاملة لنهب ما بقي في بيوت سكان مخيم اللاجئين الفلسطينيين الأكبر في سوريا بعد تدميره وتهجير سكانه.
يحتج أحد «العفيشة» (كما يسميهم المصوّر) على تصويرهم يسرقون فيغضب صاحب البيت لكن احتجاجه لا ينصب على سرقة بيته: «خذ الحارة بما فيها»، يقول لقطيع اللصوص العسكري، ويتابع مونولوجه الخاص عن «خزانة أم حسن الهندي ومكوايتها»، و«بيت فادي ويوسف»، ويشير، من دون تعليق، إلى البرميل المتفجر الواقع على مدخل بنايتهم، كما لو أن تدمير المخيم عن بكرة أبيه، وسقوط البراميل المتفجرة، والسرقة المعلنة لعناصر الأسد للمخيم الذي «حرّروه»، كلّها حوادث طبيعية، فالإعلاميّ، في النهاية، محسوب على هذه السرديّة التي دمّرت بيته وذكرياته وحوّلتها إلى هشيم، وهو مضطرّ لقبولها، إن لم يكن قادرا على التواطؤ الكلي معها.
لا يفعل النظام السوري في تدميره للمخيم وتهجير سكانه و«تعفيش» ما بقي من أغراضهم غير أن يتابع مسارا دمويا طويلا يمكن تتبعه من العام 1976 حين قاد ضباط جيشه الهجوم على مخيم تل الزعتر شرق بيروت، مما أدى لمقتل قرابة ألفي فلسطيني وتهجير ما تبقى من سكانه إلى الأبد، وكان في ذلك تأكيد من النظام، الذي كان يرأسه حافظ الأسد، للأمريكيين والإسرائيليين بأن الهدف من دخوله للبنان هو ضبط منظمة التحرير الفلسطينية، قبل أن يسلّم المهمة، عمليّاً، لإسرائيل التي اجتاحت لبنان عام 1982، لينهمك بقمع الداخل السوري بمجزرة رهيبة في مدينة حماه، وليعود بعدها للمشاركة العسكرية المباشرة ودعم «حركة أمل» في حصار مخيمات صبرا وشاتيلا (التي تعرّضت لمجزرة إسرائيلية عام 1982) وبرج البراجنة عام 1985، ما أدى إلى تدمير شبه كامل لمخيمي صبرا وشاتيلا.
لتجريف «عاصمة» الشتات الفلسطيني عبر محو مخيم اليرموك ماديا ومعنويا أهداف لا يمكن فهمها من دون قراءة تاريخ الارتباط بين فلسطين وسوريا، حيث تمت العودة إلى قرارات المؤتمر العربي الفلسطيني في القدس عام 1919 وكان من أشهرها «إعلان عروبة فلسطين واعتبارها جزءا لا يتجزأ من بلاد الشام»، وتكرار ذلك في المؤتمر السوري العام في دمشق عام 1920، بتأكيده على «استقلال سوريا بحدودها الطبيعية ومنها فلسطين ورفض جعلها وطنا لليهود»، وتم التذكير بتكليف المؤرخ الفلسطيني محمد عزة دروزة بإلقاء بيان الاستقلال السوري كإشارة رمزية لمعنى فلسطين في الوعي السوري التاريخي، وبعز الدين القسام، ابن سوريا، الذي كان قائدا بارزا للثورة الفلسطينية الكبرى عام 1935.
إنهاء وجود الفلسطينيين في سوريا، بهذا المعنى، هو تأكيد عضويّ للعلاقة بين نظام الاستيطان الإسرائيلي ونظام الاستبداد الوحشي في سوريا، والبطش بالثورة السورية، حسب هذا النظام، لا يكتمل، إلا بالبطش بالعلاقة السورية ـ الفلسطينية، وهو لا يقتصر على مخيم اليرموك، بل طال مخيمات درعا واللاذقية والسبينة والحسينية والسيدة زينب وخان الشيخ وحمص وحندرات.
يمكن النظر إلى إنهاء عملية اجتثاث ومحو أثر الفلسطينيين في سوريا أيضا ضمن ترتيبات سياسية وديمغرافية كبرى تبدأ من فلسطين نفسها، تحت مسمى «صفقة القرن»، وتمر بالضرورة بأماكن سيطرة نظام الأسد وتاريخه الطويل في تدمير القضية الفلسطينية باعتبارها بؤرة التمرد على الاستبداد والاحتلال.
تنتاب القارئ لأول تصريحات إعلامية لـ "الدكتور يوسف الهجر" مدير المكتب السياسي المحدث مؤخراً في هيئة تحرير الشام، حالة من الذهول للوهلة الأولى بعد قراءتها، كونها تحمل في طياتها تناقضات كبيرة، وتبرز بشكل واضح حالة الانقلاب على النفس مع الحفاظ على عقلية العسكر والقوي والفصيل القويم وحده.
تصريحات "الهجر" في كل كلمة قالها تعكس ذات العقلية العسكرية التي عودتنا هيئة تحرير الشام عليها في انهم الفصيل القوي والوحيد القادر على حماية ثورة السوريين، وأنها هي وحدها الوصية على الشمال السوري، وجه من خلاله رسائل عدة أبرزها أن حل الهيئة ضرب من الخيال وأنها ستبقى القوة المسيطرة ولكن بالشكل الجديد القائم على الانفتاح أكثر على ماكانت تحاربه سابقاً.
حرص الهيئة على ثوابت الشعب السوري هي السمة البارزة، والهيئة لم تفاوض ولم تقبل بأي من مخرجات أستانة أو اتفاقيات الدول المعنية بالشأن السوري ولكنه أغفل أن يعترف أنها هي من نفذت الانسحاب من شرقي السكة وسلمت أرضاَ واسعة تقدر بربع مساحة إدلب تطبيقاً لهذه المخرجات، يعكس في كلامه ذات التبريرات التي ساقها "الجولاني" إبان حديثه عن قضية شرقي السكة.
العلاقة بين الهيئة وتركيا متوازنة ومستمرة بحسب كلام "الهجر" أما الحرب الإعلامية والتجييش العسكري واستعراض الأرتال على الحدود السورية التركية وتعزيز مواقع الهيئة لأشهر وأعوام طويلة، وإنهاء فصائل عديدة باسم التعاون مع الغرب وتركيا ليس بأخرها أحرار الشام هو مانسي "الهجر" استعراضه في تاريخ الهيئة مع تركيا.
واعتبر "الهجر" أن نشر النقاط التركية في شمال إدلب ليس تطبيقاً لمخرجات أستانة بل هو موقف يطابق موقف الثورة السورية لتحقيق مصالح عليا، في وقت ليس ببعيد وحتى اليم لاتزال قيادات وعناصر الهيئة وفي جل أحاديثها بين العوام تعتبر دخول تركيا "احتلال" وتنكر حتى أن تنسيق دخولها كان بالتنسيق معها لاسيما أنها كانت تدخل وفود الاستطلاع والأرتال تحت جنح الظلام وتؤمن حمايتها.
ولم ينس "الهجر" التأكيد من جديد على أن الهيئة هي شعب الله المختار وهي صمام الأمان والاستمرار للثورة السورية وجهاد أهل الشام، وعن توقف العمليات العسكرية ضد النظام منذ اكثر من عام والالتزام بمخرجات الاتفاقيات الدولية حول وقف العمليات هذه استدرك الهجر بالقول إن انتشار النقاط التركية لن يمنع من إسقاط الطاغية وأن السلاح لازال موجود.
مواكبة عمليات التهجير يستلزم وضع خطة من قبل الهيئة نفسها لإنقاذ الحواضن الثورية وحماية شعب الثورة المهجر للشمال السوري، كيف لا وهي من قامت باعتقال خيرة قادة الثورة الذين قدموا التضحيات أبرزهم "النقيب سعيد نقرش" وعشرات النشطاء الخارجين من حصار النظام لسنوات بعد كل مابذلوه، وهي من حاولت إخضاع ثوار الزبداني وقيادات داريا وثوارها.
وعن الصراع الدولي ونقله للداخل السوري كان جواب "الهجر" بالرفض المطلق له، متناسياً ماقامت به الهيئة من تصفية حسابات الدول العربية والغربية من خلال إنهاء عشرات المكونات الثورة من فصائل الجيش السوري الحر وغيرها من الفصائل تبعاً للمتغيرات الدولية والمصلحة الرئيسية للهيئة في التسلط وبناء الكيان على حساب الجميع حتى اصتدمت مؤخراً بمواجهة كبيرة من قبل صقور الشام وجبهة تحرير سوريا وضعت لتمردها ضد الجميع حداً فاصلاً.
تحقيق المصلحة العليا بحسب "الهجر" وتحقيق الأمن المفقود منذ سنوات وبناء الدولة هي ماتقوم عليه تحرير الشام من خلال تمكين سلطتها في المحرر وبناء كيانها المدني والعسكري على حساب المدنيين وأرزاقهم وعذاباتهم باسم نصرة الشعب وحمايته.
هذا الانقلاب الواضح والاعتدال الذي فاق الوصف بحسب مراقبين يرسم معالم مشهد جديد من مشاهد عمليات الالتفاف التي ينتهجها الجولاني وجماعته لتحقيق مصالحهم ولو على حساب أبناء الثورة، تخلت الهيئة على جل مبادئها وشعاراتها التي رفعتها اليوم في سبيل الاستمرار ضمن المرحلة القادمة، لاتغير إلا بالشعارات والتقرب أكثر للثورة فمتى سيرفع الجولاني علم الثورة ويقول هذه كانت رايتنا...!؟
ظل الأوروبيون متمسكين بالاتفاق النووي مع إيران على أساس أنه ليس لدى الولايات المتحدة «خطة - ب»، حتى جاء يوم الاثنين الماضي، وكشف مايك بومبيو وزير الخارجية الأميركي عن «الخطة ب»، البعض سماها طلب استسلام من إيران، وسماها آخرون تنازلات من أميركا. قال إن أميركا ستمارس ضغوطاً مالية غير مسبوقة على طهران، وستلاحق عملاءها ورديفها «حزب الله» حول العالم لسحقهم، حسب تعبيره. ثم أضاف أن بلاده مستعدة لرفع العقوبات في نهاية المطاف، مطالباً حلفاء أميركا بالدعم، خصوصاً الأوروبيين، محذراً في الوقت نفسه الشركات التي ستقوم بأعمال في إيران في قطاعات تحظرها العقوبات الأميركية، بأنها ستتحمل المسؤولية.
عندما أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترمب انسحاب بلاده من الاتفاق النووي، قال الإيرانيون بتشاؤم إن الأوروبيين عندما كانت أميركا لا تزال في الاتفاق عجزوا عن إقناعها بتوسيع قاعدة التعامل مع إيران، فكيف الآن.
الأوروبيون يشاركون الأميركيين القلق من برنامج إيران الصاروخي، ودورها في المنطقة ودعمها للمجموعات المسلحة، إنما يختلفون في التوجه. هم يريدون أن توافق إيران على العمل معهم حول هذه القضايا انطلاقاً من حمايتهم للاتفاق النووي. بومبيو يوم الاثنين الماضي رفض هذه المعادلة، فالاتفاق قائم منذ عام 2015 ولم تتغير تصرفات إيران.
يقول الدبلوماسيون الأوروبيون في واشنطن إن حملة الضغوط على كوريا الشمالية دفعتها إلى طاولة المفاوضات، وقد حصل هذا مع إيران عندما تم التوصل إلى الاتفاق النووي، لكن لم تكن حملة الضغوط على كوريا الشمالية هي العامل الوحيد، وكذلك الحملة السابقة على إيران، كانت هناك حملة عالمية. الآن هل بإمكان الأميركيين إعادة تجميع حملة عالمية؟ يمكن ذلك بسبب ضعف أوروبا.
عندما أعلن ترمب الانسحاب من الاتفاق قالت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل رسمياً إنه من الآن وصاعداً سيكون على أوروبا أن تأخذ مصيرها بأيديها، وعندما زار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، واشنطن، قال إثر ذلك إنه يقبل ألا تزيد إيران مدى صواريخها عن 2000 كلم، غير عارف أن نشر إيران صواريخها في سوريا ولبنان تقرب المسافة من أوروبا، ولا تحتاج إلى حسبة المدى من إيران، بل من الدول الحليفة لها.
قبل خطاب بومبيو، طالب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بانسحاب كل القوات الغربية من سوريا، إذ ترى موسكو أن الحرب الأهلية في سوريا انتهت، ولماذا بالتالي الانتشار المكثف للإيرانيين فيها، هو الآخر يتجاهل أن إيران تريد أن تفعل في سوريا ما فعلته الأخيرة في لبنان. صارت سوريا مصدر أموال لإيران، إذ بعد اتفاق الأكراد والحكومة العراقية إثر الاستفتاء أعاد الأكراد حقول نفط للعراق، عوائدها تذهب مباشرة إلى إيران، والقاطنون في مدينة البصرة يرون الشاحنات الإيرانية تنقل يومياً نفطاً منها إلى إيران.
في سوريا 3 شركات للهاتف الجوال، تريد إيران شراء واحدة منها، كما أنها صارت تملك بعض مناجم الفوسفات في سوريا، وتنقل عائداتها إلى إيران. وتتطلع إيران إلى الزراعة في سوريا وإلى شراء مناطق سياحية، يرون كنوزاً متدفقة من إعادة بناء سوريا، لكن المنافس الكبير لإيران يبقى روسيا، وهناك الصينيون الخبراء في بناء الجسور والطرق. إذن مشروع سوريا لإيران مهم جداً عسكرياً واقتصادياً. ثم جاء بومبيو ليقول إن الاستراتيجية الأميركية تجاه إيران الآن هي العقوبات.
قبل اتخاذ ترمب القرار كثر الحديث عن الطرق التي قد تتجنب بها أوروبا، أو تحرّف، أو تتصدى للعقوبات الثانوية الأميركية - التي لا تستهدف إيران فحسب بل أي كيانات تتعامل معها، وذلك للسماح للشركات الأوروبية بدخول السوق الإيرانية، مما يوفر حوافز كافية لإيران للبقاء في الاتفاق، وبعد إعلان ترمب قام الموقعون الأوروبيون الثلاثة: فرنسا وألمانيا وبريطانيا بإجراء محادثات مع إيران لإنقاذ الاتفاق. لكن من غير المرجح أن تغامر الشركات الأوروبية بإمكانية الوصول إلى السوق الأميركية مقابل إيرادات هامشية إيرانية. وقد شعرت الشركات الأوروبية الكبرى بالخطر المقبل عندما وضعت الخزانة الأميركية حاكم البنك المركزي الإيراني على قائمة العقوبات. فهمت الشركات أن الضربة القاضية ستأتي قريباً، وبدأت بالانسحاب، وعلى رأسها شركة «توتال». لن يبقى أمام إيران من حوافز كي تبقى ملتزمة سوى وعود ومشاريع من الصين وروسيا والهند. وإذا بقي الاتفاق حياً، فإن أوروبا التي لعبت دوراً أساسياً في مفاوضات شاقة أسفرت عن الاتفاق ستراقب الأرباح التجارية تتحول إلى الشرق.
ببساطة تحتاج أوروبا إلى الولايات المتحدة أكثر من حاجة الأخيرة لها، وفي كثير من الحالات فإن الانقسامات الداخلية الأوروبية تجعل الولايات المتحدة شريكاً أكثر قيمة للدول الأعضاء من الاتحاد الأوروبي نفسه.
وعندما يتعلق الأمر بالاتفاق الإيراني، هناك ضعفان أساسيان يعرقلان قدرة أوروبا نفسها على الالتزام.
الضعف الأول يتعلق بعيوب تصميم اليورو، والعقوبات الثانوية لا تستمد قوتها فقط من جاذبية السوق الأميركية، بل بسبب القوة التي تأتي من الدولار كونه عملة الاحتياط العالمية. ولشركة متعددة الجنسيات تعمل في نطاق الأعمال التجارية في إيران، فإن عملها دون الوصول إلى النظام المالي الأميركي، أو دون التعامل مع كيانات مثل البنوك والموردين المنفتحين على النظام المالي الأميركي، سيكون من الصعب عليها تحقيق المقاصد والأغراض، ومن الأصعب تجنب التعرض للعقوبات الأميركية.
يشكل اليورو حالياً ما يقرب من 20 في المائة من احتياطيات العملات الأجنبية على مستوى العالم، مقارنة بما يقرب 65 في المائة بالنسبة إلى الدولار.
على المدى القصير، فإن أوروبا في وضع غير ملائم في المواجهة الحالية بشأن الاتفاق الإيراني. أما الضعف الهيكلي الآخر الذي يقيد أوروبا، وفي الاتفاق الإيراني على الأخص، فهو افتقارها إلى قدرة منسقة لعرض قوتها العسكرية في الخارج، وعلى الرغم من وجود مئات الآلاف من الجنود الأوروبيين تحت السلاح، لا يمكن للجيوش الأوروبية القيام بعملية خارج حدودها بشكل مستقل، باستثناء فرنسا وبريطانيا.
إن عودة ظهور الجغرافيا السياسية المقترنة بسلسلة الأزمات الوجودية للاتحاد الأوروبي على مدى العقد الماضي، كشفت أنه على الرغم من أن القوة العسكرية لا تقدم بالضرورة الحلول، إلا أنها تزيد من القوة على طاولة المفاوضات، حيث يتم طبخ الحلول. وبالتالي تبقى الولايات المتحدة في مقعد السائق في المناطق التي لا يزال فيها للقوة العسكرية أو للتهديد بها، دور في الحفاظ على النفوذ.
قال الاتحاد الأوروبي أن لا بديل عن الاتفاق النووي، وبموجب كل الحقوق لا ينبغي أن يصبح الموقعون الأوروبيون على الاتفاق، رهينة لمزاج الرئيس ترمب أو أي رئيس أميركي آخر، لكن، للأسف، حتى تعالج أوروبا كل مشاكلها الداخلية ستكون كذلك.
النظام الإيراني ينهار، أولاً لأنه تحت أي ظرف من الظروف لا يمكن ولن يقبل مطالب الولايات المتحدة لوقف الدعم المالي والعسكري لمختلف الميليشيات الشيعية التي استثمر بها كثيراً، ثم إن «محور المقاومة» ضد إسرائيل وأميركا والغرب هو أساس العقيدة الإقليمية والدولية للنظام. إن وضع النظام في بغداد بعد الانتخابات صار معرضاً، و«حزب الله» في لبنان لا يريد أن تجره إيران إلى الحرب مع إسرائيل، فهو خفف من وجود قواته في سوريا، وقد يكون هدفه السيطرة سياسياً على لبنان.
تريد إيران تغيير أنظمة بلدان أخرى، لكنها لا تريد أن تصغي لمن يطلب منها تغيير سلوكها هذا. لا اتفاق نووياً من دون أميركا. علق المرشد الإيراني علي خامنئي أنه لا يقبل أن تقرر أميركا سياسة إيران، وكذلك الدول المحيطة بإيران لا تقبل بأن تقرر إيران سياستها. ولن تنفع بعد الآن حملة محمد جواد ظريف وزير الخارجية بأن إيران لم تعتدِ على أحد. ومن أجل مستقبل الشعب الإيراني، الأفضل لإيران أن تحمل ميليشياتها وتنسحب. لقد طال وقت تدخلها من دون أن تكسب معركة، ربحت في تقسيم الشعوب وفي تدمير مستقبل المنطقة، وآن الأوان لينتهي كل ذلك!
من السذاجة بمكان الاعتقاد أن ايران لعبت دورها الحالي خلال الأعوام الأربعين الماضية رغما عن العالم، واختارت هذا الدور تعبيرا عن إرادتها المستقلة التي فرضتها على الشرق والغرب، بدهاء ملاليها وقوتهم.
لإيران في استراتيجية واشنطن دور محدّد، هو تخويف دول الخليج إلى الحد الذي تطلب معه حماية واشنطن التي نالتها دوما في مقابل حصول البيت الأبيض على ما يريده: نفطها وبترودولاراتها، فإن اشتطت طهران، وتوهّمت أنها تستطيع تخطّي خط الاستئثار الأميركي بالخليج، وانتزاع حصةٍ من خارج الحدود التي رسمتها أميركا لعلاقاتها بالعالم، ولعلاقات العالم معها، جرى تصحيح شططها، بردّها إلى جادة الصواب وحجمها الطبيعي. توهّم الشاه أنه صار شريك واشنطن، ففقد عرشه، بعد أن كبل البنتاغون (وزارة الدفاع الأميركية) أيدي المخلصين من جنرالات جيشه، لتمكين الحراك الشعبي من إسقاط نظامه، وتمكين الملالي من الاستيلاء على السطة. وإذا كان هناك من نسي كيف أخرج الشاه من طهران، فذاكرة العالم السياسية لم تنس تصريح وزير خارجية واشنطن، سايروس فانس، إن على الشاه أن يغادر بلاده.. فغادرها.
لعب الملالي الدور التخويفي ذاته الذي مارسة الشاه، لكنهم بالغوا فيه إلى الحد الذي أرعب العالم العربي بأسره، ولم يقتصر رعبه على الخليج وحده، في حقبةٍ كان من الأهمية بمكان، بالنسبة إلى واشنطن وربما الغرب، أن تستخدم فيها قوى جديدة لصراعٍ من طبيعة جديدة، أوسع بكثير مما كان الشاه يستطيع خوضه. لذلك، جيء بالملالي كي يقوموا به، فمارسوه بحماسةٍ من خلال الصراع المذهبي داخل الصف الإسلامي الذي شطره إلى فريقين، يراد لهما أن يصيرا متنافيين: أحدهما تقوده طهران، لكنه منظم وممول ومتعسكر من رأسه إلى أخمص قدميه، والآخر فضفاض ومتسيب، ويفتقر إلى قياده ونهج، معظم أتباعه من المعدمين الخاضعين لنظم متهالكة ومستبدة، يرغمها عجزها عن حماية نفسها من الفريق الأول على طلب حماية واشنطن التي تقرّر اليوم رد نظام طهران إلى حدودٍ لا تمكنه من وضع يده على ما لا يجوز له الاستيلاء عليه، من دون الحؤول بينه وبين ممارسة دورٍ من شأنه دفع النظم المجاورة إلى الارتماء في حضن أميركا الحنون.
قال وزير خارجية واشنطن، مايك بومبيو، في نقاطه الاثنتي عشرة للملالي: لن يكون بيننا وبينكم أية مشكلة، ولن نعاقبكم إن عدتم إلى تقسيم العمل الذي يضمن أمنكم من جهة، وإقلاعكم عن اختراق جيرانكم، والسعي إلى وضع يدكم على بلدانهم، والإمساك، في الوقت نفسه، بالمفاصل والممرات البرية والبحرية لمنطقة الشرق الأوسط عموما، والبلدان العربية خصوصا، من جهة أخرى. عودوا عن سياساتكم التي تتخطى المشكلات التي أنتجتها قدرتنا على التحكّم فيها، وتعالوا إلى عقد سياسي جديد بيننا وبينكم، كي لا نضطر إلى العمل لاستبدالكم بغيركم، مثلما عملنا لاستبدال الشاه بكم، عبر بنودٍ أعلنها الوزير بومبيو للعالم ولكم، فيها عصا التهديد بالعقوبات الأقسى في التاريخ التي ستقوّض قدراتكم بأكثر الصور إضرارا بكم، وجزرة الوعد بتطبيع علاقاتكم مع أميركا، إن وافقتم على الجلوس حول طاولة المفاوضات، وبدأتم نقاشا جدّيا يتجاوز الاتفاق النووي إلى السياسات التي تعتقدون أنها تستطيع تقليص دور واشنطن في المنطقة، وهذا لن يكون متاحا لكم تحت أي ظرف أو سبب. لذلك، لا بد أن تقبلوا علاقات جديدة بينها وبينكم، تتحدّد حركتكم فيها بما تتيحه هي لكم منها.
وتمتلك إيران مجموعة من الأوراق، أولها القوة العسكرية التي اعتمدتها وسيلةً رئيسةً لتحقيق استراتيجيتها القومية ذات الغطاء المذهبي، ووضعت ديبلوماسيتها متنوعة الموارد والجوانب في خدمتها، دامجة بذلك وموحدة أجهزة وأنشطة السلطة والدولة في كيانٍ يستمد قدراته من مؤسسته العسكرية/ الأمنية التي يقف في مقدمتها الولي الفقيه، مرشد ما تسمى الثورة علي خامنئي، الذي تجتمع في يده السلطات المذهبية والعسكرية والسياسية، ويعتبر المسؤول عن رسم أهداف إيران ومتابعتها وسبل بلوغها. وقد فشلت هذه القوة في الحرب ضد العراق، ولم تختبر بعد في أي سياقٍ يتخطى معارك محلية تلعب عسكريتاريا إيران فيها دور الداعم والموجه، وتخوضها بالوساطة: في لبنان والعراق واليمن وسورية. ولا يعرف أحد بعد إن كانت تستطيع مواجهة جيوشٍ على درجةٍ رفيعة من التنظيم والتقدم التقني والتدريب والتسليح، كجيش أميركا وإسرائيل اللذين يتفوقان تفوقا ساحقا على جيشها، لافتقاره إلى أسلحة جو وبر وبحر حديثة وكافية، واعتماده على الصواريخ قوة ردع، وعلى موقع إيران المحمي نسبيا بقواتٍ تابعةٍ لها، لكنها ترابط خارجها، مثالها الأشهر حزب الله في لبنان، والحشد الشعبي في العراق، والحوثيون في اليمن، وجيش الأسد في سورية، فهل تستطيع هذه القوى حماية إيران بما لديها من قدراتٍ متفاوتةٍ ومحدودة بالمقارنة مع قدرات أعداء إيران؟ وإلى أي حد يمكن أن تتحول هي إلى نقاط ضعف قاتلة للمركز الإيراني؟ ومن سيحمي الحوثيين، إيران أو أنفسهم، في حال استهدفهم الأميركيون والخليجيون بغرض استئصالهم من اليمن؟ وماذا ستفعل إيران لهم، وفي حال ظلت خارج الحرب، أية انعكاسات سيكون لهزيمتها في اليمن على داخلها؟ هناك أيضا نقاط ضعف إيرانية، منها مثلا عجزها عن منع أعدائها من تعطيل إنتاجها من النفط، بإغلاق ومحاصرة طرق تصديره وممراته، واستيراد ما تحتاجه من الخارج. ومنها عجزها عن ردم أو تحييد الهوة التقنية الهائلة بين اعدائها وبينها التي يرجّح أن تعطل أسلحتها الصاروخية أو تدمرها. ومنها عداء جيرانها لها الذي لم يعد يقتصر بعد مجازر طهران في سورية على الحكام، وإنما تكنه الشعوب أيضا ضدها، بسبب ما مارسه الملالي حيالهم من عنفٍ وقتل وابتزاز، مثاله الأهم سورية، حيث أعملوا سكاكينهم في عنق شعب مؤمن مسالم، أقام الإسلام نظام أمن كامل لحمايته وأمثاله من شطط إخوته في الدين، فأتت جموع إيران المسلحة لقتله وحماية سفاح أشر، لو كانوا مسلمين حقا لبادروا إلى رد ظلمه وأذيته عن الناس. كان هؤلاء الجيران دوما دريئة تحمي العالم الإسلامي. أما اليوم، وبعد أن فعلت إيران بهم ما فعلته، فإنهم سيؤيدون أي إجراء يتخذ ضد ملاليها، من شأنه رفع ظلمهم عن شعبها وعنهم.
ليست أوروبا نقطة قوة لإيران، لكونها تتبنى مطالب ترامب الثلاثة: نزع سلاحها الصاروخي الذي يمكن أن يحمل أسلحة نووية، وخروجها من الدول المجاورة ووقف اعتداءات مرتزقتها على شعوبها، والتزامها بفتح مفاعلاتها ومراكز أبحاثها وثكناتها ومرافقها الخاصة والرسمية أمام تفتيشٍ دوليٍّ غير محدود زمانا ومكانا، ولفترة مفتوحة تتخطى عام 2025 في هذه النقاط، لا يختلف موقف أوروبا عن موقف أميركا، بل هو يتبناه. لذلك، يقترح على إيران قبول التفاوض حوله، ويعلن أن أوروبا لا تستطيع حماية طهران، والاتفاق من دون تنازلاتٍ تقدمها، كما قال أوروبيون عديدون. وأيدهم نائب وزير خارجية روسيا، حليفتهم المفضلة. صحيح أن لأوروبا مصالح في إيران، لكنها لا تقارن إطلاقا بمصالحها في أميركا. ولو أخذنا فرنسا مثالا لوجدنا أن استثماراتها هناك تبلغ 300 مليار دولار، فكم هو حجم استثماراتها في إيران، وهل تضحي بمصالحها من أجلها؟ لا تستطيع روسيا أيضا حماية الملالي من واشنطن، بسبب تناقضات استراتيجيات البلدين، وأهدافهما ومصالحهما، وما صار معلوما من تنافسٍ بينهما في سورية وصل أحيانا إلى حد استخدام السلاح.
والنتيجة، طرحت إيران الملالي على نفسها مهمةً تتخطّى كثيرا قدراتها، يستحيل عليها القيام بها، هي الاستيلاء على الدول العربية أو إخضاعها، وبلغ الشطط بها حدّا جعل أحد كبار مسؤوليها، أحمد يونسي، يتفاخر بقيام أمبراطورية فارسية عاصمتها بغداد! مشكلة الملالي أنهم لا يعلمون أن مكرهم ليس أكبر من مكر التاريخ، وأن استغفال الشعوب، بمصادرة قضاياهم، لا يدوم، خصوصا إن كانت نتيجته الوحيدة اضطهادها وقتلها واحتلال أوطانها. مشكلة إيران ومشكلة العالم مع إيران تكمن في عيش ملاليها خارج عصرنا، واعتمادهم وسائل عنيفة لتحقيق أهدافهم، وأفكارا عفا عليها الزمن لبلوغ غاياتهم، عائدها الوحيد إثارة حروبٍ أهلية في العالم الإسلامي، وتمكين أعدائه منه. ومشكلة إيران أنه لن يحميها غير مصالحة تاريخية مع العرب، إخوتها في الدين والدنيا، وإلا فإنها ستنصاع من الآن فصاعدا لما تطالبها به واشنطن، بما يعنيه من سقوط لأوهامها الأمبراطورية، وربما لنظامها نفسه.
لدى ملالي إيران فرصة تاريخية، هي تصحيح علاقاتهم مع شعبهم وجيرانهم، ودعم حق شعوب المنطقة جميعها في الحرية، بما في ذلك شعبهم نفسه، فهل يفيدون من هذه السانحة، فيربحوا معركتهم ضد أميركا، أم يواصلون تجبرهم الاستعلائي فيهزمون؟
أُثير في الآونة الأخيرة جدل على نطاق واسع حول ما إذا كان الخطر الإيراني علينا كعرب، وبالطبع فإن المقصود ودائماً وأبداً هو هذا النظام الرجعي حقاً والمصاب بعُقَد التاريخ القديم والحديث كلها، الصغيرة والكبيرة، وليس الشعب الإيراني الشقيق الذي ما يجمعنا به ويجمعه بنا أكثر كثيراً مما يفرّقنا، هو - أي خطر إيران - أشد وأسوأ من الخطر الإسرائيلي، وحقيقة أن مجرد اللجوء إلى هذه المقارنة يعني أنَّ هناك إحساساً عربياً، لا بل قناعة بصورة عامة أن هذه الدولة التي من المفترض أنها ليست مجاورة وصديقة فقط بل شقيقة أيضاً، مثلها مثل أي دولة عربية من «دولنا» غير المصابة بداء العظمة وبعقدة الارتماء في أحضان الذين ينظرون إلى العرب نظرة دونية.
ولعل ما يوجع القلوب فعلاً أن مجرد اللجوء إلى عَقْد مثل هذه المقارنة، التي ما كانت واردة حتى في عهد النظام الشاهنشاهي قبل عام 1979 ولا في عهد ومرحلة مصطفى كمال (أتاتورك) في تركيا، يعني أن «الملالي» الذين باتوا يسيطرون على الحكم منذ نحو أربعين عاماً قد حوّلوا إيران من دولة من المفترض أنها مجاورة وشقيقة، يربط العربَ بها ويربطها بالعرب تاريخٌ مشترك طويل، إلى دولة معادية ذات أطماع تمددية واحتلالية وأيضاً توسعية ليس في الدول المجاورة والمحاددة فقط، وإنما في المنطقة العربية كلها، من تطوان في الغرب حتى سيف سعد في آخر نقطة شرقية على الحدود العراقية – الإيرانية، وهذا هو ما بدأ يحصل منذ أن انتزع «المعممون» عرش الطاووس، وأجلسوا فوقه «آية الله العظمى» روح الله الخميني... رحمه الله على أي حال.
كان الاعتقاد حتى قبل انتصار الثورة الخمينية في فبراير (شباط) عام 1979، أنّ إزالة عرش الطاووس وإسقاط نظام الشاه محمد رضا بهلوي سيضع هذا البلد الإسلامي بكل إمكاناته وبكل تأثيره الإقليمي والدولي إلى جانب العرب في صراعهم مع إسرائيل وإلى جانب الثورة الفلسطينية تحديداً. وهنا لعل هناك مَن لا يعرف أن حركة «فتح» كانت قد أرسلت وفداً من كبار مسؤوليها للقاء الخميني عندما كان لا يزال يقيم في النجف في العراق، لإبلاغه بتأييد الشعب الفلسطيني له، ويومها أصدر قائد الثورة الإيرانية هذا فتوى، من قبيل رد الجميل، تجيز دفع الزكاة لـ«المجاهدين الفلسطينيين».
والمعروف أن (أبو عمار) بقيَ على تواصل مع الخميني خلال وجوده في النجف ثم بعد انتقاله إلى نوفيل لوشاتو في فرنسا التي انتقل منها إلى إيران الثائرة، وأنه، أي عرفات، كان قد ترأس وفداً كبيراً إلى طهران كان من بين أعضائه الأساسيين الرئيس الحالي محمود عباس (أبو مازن) بعد انتصار الثورة الخمينية مباشرةً، وحقيقة أن القيادة الفلسطينية ومعها الشعب الفلسطيني بغالبيته كانت تراهن على أن هذه الثورة ستضع كل إمكاناتها إلى جانبها وأنها ستعزز التفاف الشيعة اللبنانيين حولها، وكما بقي الوضع عليه منذ عام 1965 وعلى مدى نحو عشرين عاماً وإلى أن ظهر «حزب الله» الذي أعلنه حسن نصر الله لاحقاً فصيلاً مقاتلاً في «فيلق الولي الفقيه».
إن هذا هو «التصور» الفلسطيني والعربي أيضاً لدى انتصار الثورة الإيرانية لكن كل هذه الآمال العريضة ما لبثت أن انقلبت إلى إحباط شديد وذلك مع أن الفلسطينيين والعرب، بمعظمهم قد انحازوا وجدانياً وسياسياً كشعوب وكتنظيمات سياسية إلى إيران حتى بعدما اندلعت حرب الأعوام الثمانية المريرة بينها وبين العراق، ويقيناً إن هذا الانحياز كان بالإمكان أن يبقى متواصلاً ومستمراً حتى بعد الغزو الأميركي وإسقاط نظام صدام حسين لو لم يبدأ الإيرانيون سعيهم المبكر لتحويل الشيعة العرب في كل أماكن وجودهم إلى بؤر مسلحة، وكما أصبح عليه وضع «حزب الله» اللبناني، و«قوات بدر» العراقية، والحوثيين في اليمن، وكل هذه الفصائل الطائفية التي تكاثرت لاحقاً بإشراف حراس الثورة الإيرانية وما يسمى «فيلق القدس» بقيادة الجنرال، الطرزاني، قاسم سليماني.
ثم وإن الأخطر أن إيران، بدل أن تتحول إلى «مثابة» إسلامية عامة وللمسلمين كلهم، السنة والشيعة، قد بادرت باكراً بعد انتصار ثورتها مباشرةً، إلى عملية فرز طائفي يتّكئ على أحقاد مذهبية قديمة غالبيتها، إنْ ليس كلها، مصطنعة وغير حقيقية أدت إلى كل هذا التناحر الدموي من طرف واحد وبرعاية قاسم سليماني وحسن نصر الله وهادي العامري الذي رأيناه وللأسف ولا نزال نراه في العراق وفي سوريا وفي اليمن وفي لبنان والذي بدأ يتمدد في اتجاه المغرب العربي، حيث تحدثت معلومات بما يشبه التأكيد عن أن الإيرانيين باتوا يحشرون أنفسهم في خلاف الـ«بوليساريو» والصحراء الغربية بين الدولتين العربيتين الشقيقتين، الجزائر والمملكة المغربية.
والأخطر حقاً أن إيران لم تكتفِ بمجرد التدخل العسكري في العراق وفي سوريا وفي لبنان واليمن ولم تكتفِ بكل عمليات الحقن الطائفي بين السنة والشيعة بل إنها ذهبت بعيداً في تآمرها باللجوء إلى سياسة تفريغ «ديموغرافي» مذهبي وبقوة السلاح إنْ في سوريا وإنْ في العراق أيضاً، وهذا واضح ومعلن وإلى حدّ أنه صدر ومن طهران نفسها تأكيد أن إيران باتت تحتل أربع عواصم عربية، والمقصود هنا: بغداد ودمشق وصنعاء وبيروت... تضاف إليها كابل، العاصمة الأفغانية.
لقد بات واضحاً ومعروفاً، وهذا يفاخر به الطائفيون الإيرانيون وعلى رؤوس الأشهاد وبلا أي خجل ولا وجل، أنَّ إيران تسعى وبالقوة إلى «مذهبة» هذه المنطقة كلها وإلى إضفاء ردائها الطائفي على المشرق العربي بأسره، وعلى غرار ما كان عليه الوضع في عهد «القرامطة» و«الحشاشين» بقيادة الحسن الصباح الذي اتخذ من قلعة «ألْموت» مركزاً لعملياته الإرهابية.
إنَّ هذا ليس نكأً للجراح، بل إنها عودة للإشارة إلى بعض حقائق التاريخ، لتأكيد أنَّ إيران، وليس الشيعة ولا الطائفة الشيعية العربية الكريمة التي لها التقدير والاحترام، قد دأبت على أن تلعب لعبة خطيرة وأنها من خلال كل هذا الذي تفعله تسعى لإقحام هذه المنطقة وأهلها في صراع طائفي مدمّر قد لا ينتهي إلا بعد سنوات طويلة، وهو لن يكون إلا في مصلحة إسرائيل ومصلحة هذه الدولة الإسرائيلية التي هي بدورها دولة عنصرية لا تقبل بالآخرين مثلها مثل هذه الدولة الإيرانية في هذا العهد وفي هذه المرحلة.
وعليه، فإن المقصود بهذا السرد كله هو الإجابة عن السؤال الذي تم تداوله في الآونة الأخيرة وهو: «مَن الأخطر علينا كعرب يا تُرى... هل هي إسرائيل أم إيران»؟! وحقيقةً، إن ابتلاع هذا السؤال هو أصعب وأكثر إيلاماً من ابتلاع الشوك، فالمفترض أن الجواب يجب أن يكون تلقائياً... أنه لا خطر علينا أشد من هذا الخطر الصهيوني الذي هو خطر وجودي، لكن ما العمل ما دام هذا النظام الإيراني المنتفخ بالأورام المذهبية وبالعُقَد التاريخية، لم يترك أمامنا أي مجال إلا القول وبصوت مرتفع إنه بتطلعاته الحالية والمستقبلية لا يقل خطراً على العرب من الخطر الإسرائيلي، وهذا إنْ هو لا يتجاوزه ما دام أن استهدافه لنا أخطر من استهداف الحركة الصهيونية وما دام أن عمليات التفريغ على الأسس الطائفية والمذهبية الجارية في سوريا والتي كانت قد جرت في العراق ستقحم هذه المنطقة كلها في حروب قذرة كالحروب التي أشعلتها حركة حمدان قرمط وكانت نتائجها كارثية.
أمّا لماذا...؟ فإن الجواب واضح ومعروف، وهو أن إسرائيل مهما حاولت ومهما فعلت ومهما وظّفت من إمكانات فإنها لا تستطيع اختراق نسيجنا العربي الاجتماعي ولا نسيجنا الإسلامي، لا السني ولا الشيعي، اللهم إلا بحدود اصطياد بعض الجواسيس والمأجورين... أما إيران فإن لديها من المعطيات والإمكانات ما يجعلها قادرة على اختراق لُحمتنا الدينية والاجتماعية، والدليل هو هذا الذي فعلته وتفعله في سوريا وفي العراق وفي اليمن... وفي لبنان، مما يعني، إذا أردنا أن نكون صرحاء ونقول الحقيقة، أنها بهذا الذي تفعله أكثر خطراً علينا من الخطر الإسرائيلي مع أن إسرائيل لا تزال وهي ستبقى خنجراً مسموماً في قلب الأمة العربية... وإلى أبد الآبدين!
وحدها الصدفة هي التي وضعتني إلى جانب شخصين كانا يتحدثان العربية. لم أشأ أن اقتحم عالمهما، وذلك احتراما للخصوصية، وتحاشيا لأي إحراج.
ولكن بعد عملية الإقلاع، واستقرار الطائرة في مسارها، نظر أحدهما بتمعن نحوي قائلا: أعتقد أنني أعرفك أو أنك تشبه أحدهم. قلت له: ربما. أهلا وسهلا على كل حال. ثم عدت إلى الرواية التي كنت أقرأها.
غير أن صاحبي لم يتركني وشأني، في إصرار واضح على الحديث. سألني: ألست فلان؟ وبدأ الكلام. بداية قدّم نفسه، وذكر أنه من البصرة. ثم تناول مباشرة مفاسد الأحزاب السياسية هناك. وتحدث بمرارة عن التدخلات الإيرانية، ثم اردف قائلا: ما تسمعونه عن حماية النظام الإيراني للشيعة، ودعمه لهم مجرد خداع وتضليل. فهذا النظام يستخدم ورقتنا لبلوغ أهدافه في العراق والمنطقة كلها، لا سيما في سورية التي نتألم كثيرا لما يحدث فيها.
ثم تحدث زميله، الذي ذكر بأنه من الأحواز، فأكد المضمون ذاته الذي تمحور حوله حديث الأول. ما ذهب إليه أنهم يتعرضون لتمييز عنصري قومي سافر من قبل النظام الإيراني. هذا على رغم اشتراكهم معه في المذهب. ومما ذكره في هذا المجال: نحن بالنسبة إلى النظام عرب، وعلينا أن نلتزم حدود التهميش المفروض علينا من جانبه.
وتشعب الحديث، ولكن في الحصيلة توافقنا حول أهمية أن يتصدّر أبناء بلداننا لتحدياتهم الوطنية، وذلك من أجل مستقبل أفضل لأجيالهم المقبلة. وأمر من هذا القبيل لن يكون من دون تجاوز حساسيات الانتماءات ما قبل الوطنية بكل أوهامها وهواجسها. وتكون الخطوة الأولى بالمصادرة على جهود الجهات المتربصة، تلك التي تبني استراتيجياتها على أساس استغلال هذا التنوّع الديني والمذهبي والإثني الذي كان على مر العصور سمة رئيسة من سمات هوية مجتمعاتنا.
كان اللافت بالنسبة لي في حديث الرجلين موقفهما الواضح من النظام الإيراني، وتوصيفهما للمعاناة الداخلية ضمن المجتمع الشيعي في منطقتي البصرة والأحواز. أمّا ما يخص الاستراتيجية الإيرانية فإن خطوطها الأساسية باتت واضحة للجميع، ولكن بعد ماذا؟ بعد «خراب البصرة» كما يقول المثل العراقي. فهذا النظام استثمر، وما زال، في ورقة الشيعة منذ بداية مجيء الخميني إلى الحكم في إيران، وكان الاستثمار الأول في لبنان، ومن ثم في سورية، وفي العراق. وامتد لاحقا، ليشمل منطقة الخليج، واليمن تحديدا.
إلا أن الذي كان يستوقف، ويثير التساؤل، هو الصمت العربي الرسمي والشعبي، وذلك في مواجهة الجهود الإيرانية الحثيثة الرامية إلى التغلغل المستمر في دول المنطقة ومجتمعاتها عبر النافذة المذهبية، والإسلامية العامة.
وأذكر، في هذا السياق، أنني تناولت هذا الموضوع مع مفكر عربي إسلامي مؤثر، قلت له: كم كنا نشعر بخيبة أمل كبرى ونحن نتابع مواقف الدول العربية والإسلامية بخصوص مشروع حزب الله وتحالفه الوثيق مع النظام في سورية. كما كنا نشعر بألم كبير ونحن نتلمس الدعم العربي والإسلامي لنظام بشار الأسد الذي كان يضطهد الشعب السوري في الداخل، وينسق مع النظام الإيراني في العراق ولبنان، ويخطط لتهديد أمن واستقرار الدول العربية الأخرى. ألم تكن هذه الحقائق معروفة لديكم؟ ولماذا كنتم تتجاهلون معاناة السوريين؟
وكان جوابه غير المقنع: كنا نعرف. ولكننا كنا نقول طالما أن السوريين صامتون، وربما راضون، فليس من المصلحة أن نتدخل، ونثير قضايا كهذه.
وهو جواب كما تلاحظون ينم عن قصر نظر مرعب في القضايا الاستراتيجية. ويجسّد حالة التهرب من المسؤولية عبر عقلية اتكالية، من علائمها البارزة الرهان على ما يُعتقد أنه الحصان الفائز.
ولكن على رغم كل شيء، ما زالت المواقف الصامتة على المستويين الرسمي والشعبي عربيا في مواجهة ما تعرض، ويتعرض، له الشعب السوري مستمرة، فلم تخرج تظاهرة واحدة في طول البلاد العربية وعرضها تتضامن مع السوريين. هذا في حين أن النظام الرسمي العربي تصرف بصورة عامة وكأن الموضوع لا يعنيه. وانطوت كل دولة على ذاتها، أملا في الإفلات من التسونامي العارم الذي كان نتيجة انطلاقة ثورات الربيع العربي. وهكذا تُرك السوريون لمصيرهم.
وكانت فزاعة داعش، الكوكتيل الاستخباراتي، الذي ساهم فيه الجميع تقريبا بهدف التغلغل ضمن الجغرافيا السورية، والإمساك بمختلف المفاصل. وبعد انتهاء مرحلة الحرب بالوكالة، يبدو أننا دخلنا مرحلة المواجهة المباشرة بين القوى المتنافسة التي تكاملت أدوارها، وتقاطعت مصالحها في وقت من الأوقات. أما الأسباب الكامنة وراء ذلك فهي تتمثل في التحسب من الاحتمالات المستقبلية، لا سيما ما يتصل منها بالنزوع التوسعي الإيراني المعلن، المترجم واقعا على الأرض في هيكلية الميليشيات المذهبية بأسمائها المختلفة.
ولعل هذا ما يفسر الحسم الأميركي الخاص بالخروج من الاتفاقية النووية الإيرانية، على رغم المعارضة الأوروبية الشديدة. وكان من بين الأسباب التي قدمت لتسويغ هذا القرار الدور الإيراني التخريبي في المنطقة، هذا الدور الذي بات يمثل خطرا لا بد من مواجهته، وتحجميه، حتى تستقيم معادلات المنطقة وفق المسارات والحسابات الجديدة.
ويبدو أن الهجمات الإسرائيلية المتكررة على القواعد الإيرانية في سورية تتكامل مع التوجه الأميركي الجديد.
وما يستشف من هذه المقدمات والمؤشرات والمتغيرات المتلاحقة، لا سيما في ضوء لقاءات بوتين مع كل من الأسد ومركل، هو أن الدور الإيراني في سورية سيتضاءل إلى حدٍ كبير، مقابل بروز أقوى للدور الروسي، ولكن من دون أن يُعطى الأخير الكلمة الفصل في الشأن السوري. فالوجود الأميركي– الغربي سيبقى إلى أمدٍ أطول. وستكون هناك ترتيبات جديدة مع تركيا، تأخذ هواجسها في الاعتبار، مقابل إعطاء مساحة أكبر للدور العربي ربما في مناطق الرقة ودير الزور والجنوب السوري. وبطبيعة الحال، لن تكون إسرائيل بعيدة من هذه التفاهمات، خصوصا تلك التي ستكون في الجنوب.
ولكن ماذا عن مستقبل السوريين الذين يدعي الجميع حرصهم عليهم، ورفضهم لأي تقسيم يطاول بلدهم ومجتمعهم؟
وضعية مناطق النفوذ الحالية ستستمر على الأغلب. وليس من المستبعد أن يستخدم نظام بشار الأسد واجهة من أجل إضفاء بعض الشرعنة على الجهود الخارجية الرامية إلى تحجيم الدور الإيراني. ولكن على المدى البعيد سيكون من المستحيل لمثل هذا النظام أن يكون عامل توحيد للبلد، حتى ولو في حدوده الدنيا، وذلك ضمن نظام فيديرالي أو حتى كونفيديرالي.
وهذا مؤداه على الأرجح أحد أمرين: إما التخلص من بشار، والمحافظة على صيغة من صيغ الوحدة السورية، وبتوافق دولي إقليمي بطبيعة الحال. أو أن تستمر الصيغة الحالية، صيغة مناطق النفوذ، التي ستكون على الأرجح مقدمة لتقسيم فعلي، ليس بالضرورة أن يُشرعن دوليا، هذا إذا أخذنا النتائج المترتبة على مثل هذه الشرعنة في واقع المنطقة في الحسبان.
ولكن مع ذلك ففي أجواء التعقيدات والتفاعلات والتطورات السريعة التي نعيشها، تبقى كل الاحتمالات مادة صالحة للتفكير والمناقشة.