إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً..
على حين غفوة من الزمن، اجتمعت بقايا أنقاضهم التائهة في التاريخ، لملموا جُندهم المبعثرين، ونفضوا ركام السنين ونهضوا يريدون الثأر لكبيرهم الذي حُطِّم بفأس إبراهيم تنامى إصرارهم في وأد كل يدٍّ حملت (معول الحق) عليهم وأثخنت بهم، ونكلّت بأكابِرهم، فشقوا الزمان عابرين بمسميات جديدة، تُزيل الشبهة عنهم وتُحيلهم لمارين على أرصفة النفوس لكنهم ضربوا جذورهم بأعماق العقول ليكونوا (أوثان العالم الجديد) فأين فأس إبراهيم؟ لم تكن (الفأس) لتُحدِث هذا التغيير الجذري في عمق التاريخ لولا أن من حملها كان (أُمَّة)، فصلاح حال أمةٍ بأسرها تمثل بفردٍ اجتمعت عنده مقومات الإصلاح وسبيل الصلاح فكان أُمة بحقِه والبقية أشباه أفراد بباطلهم..
المقياس هُنَا أهمية الفرد وإمكانية تغييره لمعادلة الواقع وتبديل المعطيات المحسوسة بإدراك المرء ضرورة إحداث التغيير، بدءاً من هدم طواغيت الذات التي جُعلت أرباباً تُعبد من دون الله بالباطل، فمن غلب هوى نفسه وأمسك جمرة فؤاده يقلبها في كفه كيفما شاء، جُعلت الدنيا أمامه يُغالبها فيغلبُها، فتطوعُ له سيداً عليها قد كفر بأصنامها فأمسى حُراً يُمسك فأس حقه بيمناه، وفسيلة مجده بيسراه، لتطيح أوثان العبودية على وقع هُتاف فردٍ أصبح أُمَّة، وأما من عبدَ وركع وسجد لوحش ذاته الذي اقتات على بقية إنسانيته المتمثلة بحريته ونال من بصيص روحه الذي بهت وخفت فاختفى لأن النور لا يليق بالعبيد، هذا العبد لن تسؤوه عبوديته فهو من ينصب صنماً ويزينه لنفسه ومن ثم يبدأ بعبادته، فقد سُلبت إرادته عند خضوعه واستكانته لطاغوت ذاته الذي يجعل منه ظِل فرد وشبيه إنسان، لا يَفَعل بالواقع بقدر ما يُفعل به..
وعلى سَبِيلِ إيقاظ سُجناء أنفُسِهم وإيقاد شعلة أرواحهم واستنقاذهم من نيران العبودية كان (الوعي) غيثاً مُغيثاً يُحيي من رماد الفكرة، ثمار الأفعال، ونِتاج الأعمال، ولذلك مثّلت عملية الوعي الثوري المفصل الأساسي في تحقيق الغاية من حُرية المرء وتوظيف أفعاله بما يعود بالنفع على أمته، حيث أن التغيير الذي بدأ بدماء "حمزة الخطيب" لن يُؤتي ثماره إن ضاعت أهداف الثورة بمتاهات تغييب الفرد عن واقعه وإحداث شرخ واسع بينه وبين ثورته فضبابية الرؤية وانعدام البصيرة لا يجلوها إلا التعبئة الثورية بأحقية المطالَب والوعي بأن السائر في ركب الثورة لا يمكن أن يتملص من واجباته تجاهها بدءاً من معرفة حقيقة المعركة الحاصلة مروراً بأهمية الروح المعنوية وانتهاءً بجاهزية البناء في حين الهدم وتمام القناعة أن تجربتنا منتصرة بوعد من الله سواءً كان نصراً على طريقة (فتح مكة) أو نصر (أصحاب الأخدود)، بمقدار تكاتف (المشروع السامي) و(الأفراد المخلصين) و(الوعي الكافي لتجاوز تحديات المرحلة الراهنة) نبلغ الفتح المبين والانتصار العظيم الذي يُحيي من يباب آلامنا أصوات الأولين.
"ويحك يا أبا سفيان! ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلا الله" قالها الحبيب عليه أفضل الصلاة والتسليم مُسلِماً مفاتيح الخلاص لأبي سفيان رضي الله عنه وأرضاه مخبراً إياه أن بـ (لا إله إلا الله) فُتحت مكة حيث كانت الغاية النبيلة والحقيقة الجلية والفأس الذي سُلط على أعناق أصنام الظلمة، بـ (جند لا إله إلا الله) كُلل الفتح المكي بفتوحات امتددت إلى مشارق الأرض ومغاربها، بـ (أتباع لا إله إلا الله) بُنيت حضارات دول أثبتت لابناء الواقع المعاش أن "فأس إبراهيم" لن تهِن بوجود جُندٍ يحملونها (ثورة شعبٍ) على أوثان الباطل بتعدد مسمياتهم واختلاف مقاصدهم، و(مشروع أمة) لِبذر الوعي وريَّ الإخلاص ليكونوا سبيل الخلاص، فنلوذ من حِمى فأس أبينا إبراهيم عليه السلام إلى "إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً" نجد بها ظلاً تفيء إليه أرواحنا المحترقة في صحارى الآلام أن برداً وسلاماً عَلَيْكِ يا شآم..