منذ بداية التدخل العسكري الروسي دعماً للنظام السوري في نهاية سبتمبر (أيلول) من عام 2015، أحسّ الإيرانيون الذين كانوا يوسّعون رقعة نفوذهم في دمشق، بأن هناك من يدخل على الخط ويمكن أن يسحب البساط السوري من تحت أرجلهم.
بدا ذلك واضحا تماما عندما قال حسن روحاني في 26 أيلول/سبتمبر من ذلك العام، «إن الجيش الإيراني هو القوة الرئيسية لمحاربة الإرهاب في المنطقة، التي عليها ألا تعتمد على القوى الكبرى… نحن ساعدنا سوريا والعراق على مكافحة الإرهاب». لكن بعد ذلك الحين بدا أن الوضع في سوريا صار عند موسكو تقريبا، وصارت لهجة الرئيس فلاديمير بوتين تتعامل مع المسألة السورية بمنطق «الأمر لي»، خصوصا في ظل سياسة التردد والحذر التي اتبعها الرئيس الأمريكي آنذاك باراك أوباما.
تعارُض المصالح بين الروس والإيرانيين كان واضحا تماما، وأذكر أنني كتبت في هذه الزاوية من «الشرق الأوسط»، أن الأمور ذاهبة حتما في النهاية إلى «قتال روسي إيراني على الجبنة السورية»، وهو ما يحصل الآن تماما، ففي 16 أيار/مايو الجاري، استقبل بوتين الرئيس بشار الأسد في سوتشي، ليبلغه بأنه مع تحقيق الانتصارات والنجاحات الملحوظة في الحرب على الإرهاب، ومع تفعيل العملية السياسية، لا بد من سحب كل القوات الأجنبية من سوريا، وفي هذا السياق قال بوتين إن الأسد سيرسل لائحة بأسماء المرشحين لعضوية مناقشة الدستور في أقرب وقت ممكن إلى الأمم المتحدة!
الحديث عن ضرورة سحب كل القوات الأجنبية من سوريا نزل على طهران مثل صاعقة، فبعد يومين وفي 20 أيار/مايو ردّ المتحدث باسم الخارجية الإيرانية بهرام قاسمي على بوتين بالقول: «لا أحد يستطيع إخراج إيران من سوريا، وإن وجودها العسكري سيستمر ما دام هناك طلب من الحكومة السورية، وإيران دولة مستقلة تتابع سياساتها على أساس مصالحها».
ووصل التحدي إلى مخاطبة الروس بالقول: «هم الذين يجب أن يخرجوا من سوريا، هؤلاء الذين دخلوا دون إذن من الحكومة السورية، ونحن سنبقى إلى الوقت الذي تحتاج إليه الحكومة السورية». وعلى خلفية هذا التراشق اشتعلت التحليلات التي تكذّب كلام قاسمي، على خلفية التذكير بتصريحات سيرغي لافروف في 17 كانون الثاني/يناير من عام 2016 التي قال فيها، «إننا واثقون بأن قرارنا كان صائبا عندما استجبنا لطلب الحكومة السورية الشرعية التدخل العسكري، ومن الضروري التذكير بأن هذه الدولة العضو في الأمم المتحدة، كان يفصلها أسبوعان أو ثلاثة أسابيع عن السقوط في أيدي الإرهابيين»!
طبعا هذا الكلام يذكّر أيضا بتصريحات بوتين التي كرر فيها أن دمشق كانت على وشك السقوط، بما يوحي ضمناًبأن إيران وأذرعها العسكرية في قتالها إلى جانب النظام السوري، كانت آيلة إلى الهزيمة لولا التدخل الروسي. وهو ما عاد وأكّده نائب رئيس الوزراء السوري الأسبق قدري جميل، معارض الداخل المقرب من الأسد، عندما قال في 26 آذار/مارس 2017: «لولا تدخل روسيا لكانت دمشق سقطت في يد (داعش) و(جبهة النصرة)». ومن الواضح أن هذه التصريحات سبق أن شكّلت صدمة لإيران لأنها تعبّر ضمنا عن قناعة بشار الأسد!
جاءت هذه المواقف المتتابعة التي تدعو إلى خروج الإيرانيين من سوريا، في وقت كان المسؤولون في طهران غارقين في المباهاة الواهمة طبعا بأنهم باتوا يسيطرون على أربع عواصم عربية: بغداد ودمشق وصنعاء وبيروت، لكن التطورات الميدانية والسياسية وصلت الآن إلى ما يُسقط كل هذه الأوهام.
ففي العراق يكفي أن يتأمل المرء في نتائج الانتخابات التي كرّست زعامة مقتدى الصدر الذي يدعو صراحة إلى رفع اليد الإيرانية عن العراق، وعندما يقول يجب أن نكسر البندقية، وندخل العراق في حال من الديمقراطية والاستقرار والأمن، فمن الواضح تماما أنه يدعو إلى كسر الهيمنة الإيرانية المتمادية على العراق منذ أيام نوري المالكي!
وفي سوريا، واضحٌ أن حسابات طهران آخذة في التداعي، فروسيا لا تتوقف عند حدود المطالبة بخروج الإيرانيين وأذرعهم العسكرية فحسب، بل يبدو أنها بعد زيارات بنيامين نتنياهو الأربع إلى موسكو ومحادثاته مع بوتين، باتت تقف موقف المتفرّج من الغارات الإسرائيلية المتتالية على المواقع والمخازن الإيرانية في سوريا. وفي السياق، من اللافت أنه بعد الغارات الأخيرة التي قال وزير الدفاع الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان، إنها دمّرت كل المواقع الإيرانية في سوريا، حملت الوكالات تصريح حسن روحاني عن أن إيران لا تريد تصعيد الموقف في سوريا!
تأتي هذه التطورات في وقت بدأت الشركات الأوروبية بالفرار من إيران بعد «وصايا ترمب الـ12 العقابية ضد النظام الإيراني»، وفي وقت تغرق البلاد في أزمتين خانقتين؛ الأولى استمرار المظاهرات ضد النظام بسبب الوضع الاقتصادي المتردي والفساد، حيث إن نصف الشعب الإيراني عند خط الفقر، كما تعترف الحكومة العاجزة عن معالجة الأمر في حين تصرف المليارات على سياساتها التدخلية التخريبية في المنطقة، والأخرى انهيار قيمة العملة الإيرانية خصوصا منذ قرار ترمب الانسحاب من الاتفاق النووي، ورغم أن الحكومة حددت سعر الدولار الواحد بـ42 ألف ريال إيراني، فإن سعره بلغ 74 ألفا، وبعد حملة اعتقالات شملت 180 من عملاء الصرافة، كتبت إحدى الوكالات تقول إن تهريب الدولار في طهران بات أشبه بتهريب المخدرات!
بالعودة إلى الصراع الروسي الإيراني على الجبنة السورية، يبدو الموقف الروسي حازما عندما يقول مبعوث بوتين الخاص إلى سوريا، ألكسندر لافرينتيف نهاية الأسبوع الماضي، «إن انسحاب القوات الأجنبية من سوريا يجب أن يتمّ بشكل كامل، والحديث هنا يشمل كل القوات الأجنبية بمن في ذلك الأمريكيون والأتراك و(حزب الله) وبالطبع الإيرانيون» في ما يشبه الرد الحاسم على الموقف الإيراني.
بعد قمة بوتين والأسد في سوتشي والدعوة إلى خروج كل القوات الأجنبية من سوريا، نشر موقع «تابناك» الإيراني التابع لأمين مصلحة تشخيص النظام محسن رضائي، تقريرا غاضبا جاء فيه، أن النظام السوري وموسكو اتفقا على إقصاء إيران في مقابل إشراك الدول الغربية في الحل السياسي للأزمة السورية، واعتبر الموقع أن قبول موسكو والنظام بالعودة إلى مفاوضات جنيف، يدل على وجود توافقات مع الدول الغربية حول إنهاء النزاع في سوريا بطرد إيران ومليشياتها.
ويقول موقع «تابناك»، إن «هناك تفاهما مستجدا بين موسكو ودمشق هدفه إقامة شراكة اقتصادية تُقصى بموجبه الشركات الإيرانية من النشاط الاقتصادي، خصوصا في مرحلة إعادة الإعمار في سوريا، ولكن يجب ألا نسمح بأن تتحقق أهداف بشار الأسد وأي طرف يريد إبعاد اليد الإيرانية… إن محاولاتنا لحفظ الأسد كانت مكلفة على صعيد الخسائر اللوجيستية وفي الأرواح، وليحذروا من اللعب في أرض تمّ اختبارها سابقا»، في إشارة واضحة إلى الصراع المستجدّ من الروس!
على حين غفوة من الزمن، اجتمعت بقايا أنقاضهم التائهة في التاريخ، لملموا جُندهم المبعثرين، ونفضوا ركام السنين ونهضوا يريدون الثأر لكبيرهم الذي حُطِّم بفأس إبراهيم تنامى إصرارهم في وأد كل يدٍّ حملت (معول الحق) عليهم وأثخنت بهم، ونكلّت بأكابِرهم، فشقوا الزمان عابرين بمسميات جديدة، تُزيل الشبهة عنهم وتُحيلهم لمارين على أرصفة النفوس لكنهم ضربوا جذورهم بأعماق العقول ليكونوا (أوثان العالم الجديد) فأين فأس إبراهيم؟ لم تكن (الفأس) لتُحدِث هذا التغيير الجذري في عمق التاريخ لولا أن من حملها كان (أُمَّة)، فصلاح حال أمةٍ بأسرها تمثل بفردٍ اجتمعت عنده مقومات الإصلاح وسبيل الصلاح فكان أُمة بحقِه والبقية أشباه أفراد بباطلهم..
المقياس هُنَا أهمية الفرد وإمكانية تغييره لمعادلة الواقع وتبديل المعطيات المحسوسة بإدراك المرء ضرورة إحداث التغيير، بدءاً من هدم طواغيت الذات التي جُعلت أرباباً تُعبد من دون الله بالباطل، فمن غلب هوى نفسه وأمسك جمرة فؤاده يقلبها في كفه كيفما شاء، جُعلت الدنيا أمامه يُغالبها فيغلبُها، فتطوعُ له سيداً عليها قد كفر بأصنامها فأمسى حُراً يُمسك فأس حقه بيمناه، وفسيلة مجده بيسراه، لتطيح أوثان العبودية على وقع هُتاف فردٍ أصبح أُمَّة، وأما من عبدَ وركع وسجد لوحش ذاته الذي اقتات على بقية إنسانيته المتمثلة بحريته ونال من بصيص روحه الذي بهت وخفت فاختفى لأن النور لا يليق بالعبيد، هذا العبد لن تسؤوه عبوديته فهو من ينصب صنماً ويزينه لنفسه ومن ثم يبدأ بعبادته، فقد سُلبت إرادته عند خضوعه واستكانته لطاغوت ذاته الذي يجعل منه ظِل فرد وشبيه إنسان، لا يَفَعل بالواقع بقدر ما يُفعل به..
وعلى سَبِيلِ إيقاظ سُجناء أنفُسِهم وإيقاد شعلة أرواحهم واستنقاذهم من نيران العبودية كان (الوعي) غيثاً مُغيثاً يُحيي من رماد الفكرة، ثمار الأفعال، ونِتاج الأعمال، ولذلك مثّلت عملية الوعي الثوري المفصل الأساسي في تحقيق الغاية من حُرية المرء وتوظيف أفعاله بما يعود بالنفع على أمته، حيث أن التغيير الذي بدأ بدماء "حمزة الخطيب" لن يُؤتي ثماره إن ضاعت أهداف الثورة بمتاهات تغييب الفرد عن واقعه وإحداث شرخ واسع بينه وبين ثورته فضبابية الرؤية وانعدام البصيرة لا يجلوها إلا التعبئة الثورية بأحقية المطالَب والوعي بأن السائر في ركب الثورة لا يمكن أن يتملص من واجباته تجاهها بدءاً من معرفة حقيقة المعركة الحاصلة مروراً بأهمية الروح المعنوية وانتهاءً بجاهزية البناء في حين الهدم وتمام القناعة أن تجربتنا منتصرة بوعد من الله سواءً كان نصراً على طريقة (فتح مكة) أو نصر (أصحاب الأخدود)، بمقدار تكاتف (المشروع السامي) و(الأفراد المخلصين) و(الوعي الكافي لتجاوز تحديات المرحلة الراهنة) نبلغ الفتح المبين والانتصار العظيم الذي يُحيي من يباب آلامنا أصوات الأولين.
"ويحك يا أبا سفيان! ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلا الله" قالها الحبيب عليه أفضل الصلاة والتسليم مُسلِماً مفاتيح الخلاص لأبي سفيان رضي الله عنه وأرضاه مخبراً إياه أن بـ (لا إله إلا الله) فُتحت مكة حيث كانت الغاية النبيلة والحقيقة الجلية والفأس الذي سُلط على أعناق أصنام الظلمة، بـ (جند لا إله إلا الله) كُلل الفتح المكي بفتوحات امتددت إلى مشارق الأرض ومغاربها، بـ (أتباع لا إله إلا الله) بُنيت حضارات دول أثبتت لابناء الواقع المعاش أن "فأس إبراهيم" لن تهِن بوجود جُندٍ يحملونها (ثورة شعبٍ) على أوثان الباطل بتعدد مسمياتهم واختلاف مقاصدهم، و(مشروع أمة) لِبذر الوعي وريَّ الإخلاص ليكونوا سبيل الخلاص، فنلوذ من حِمى فأس أبينا إبراهيم عليه السلام إلى "إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً" نجد بها ظلاً تفيء إليه أرواحنا المحترقة في صحارى الآلام أن برداً وسلاماً عَلَيْكِ يا شآم..
«هذا بيت هيثم ومحلاته وهذا محل النت على زاوية بيت حماي والعفيشة ينزلون الغسالات والاغراض من بيوتنا!».
هذا مقطع من شريط فيديو تداوله كثيرون على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك ويصوّر محاولة من إعلامي في «لواء القدس»، الموالي لنظام الرئيس السوري بشار الأسد، تصوير بيته في مخيم اليرموك فيما أفراد من «الجيش العربي السوري» يقومون بسرقة أغراض بيته وبيوت جيرانه ضمن عملية ممنهجة شاملة لنهب ما بقي في بيوت سكان مخيم اللاجئين الفلسطينيين الأكبر في سوريا بعد تدميره وتهجير سكانه.
يحتج أحد «العفيشة» (كما يسميهم المصوّر) على تصويرهم يسرقون فيغضب صاحب البيت لكن احتجاجه لا ينصب على سرقة بيته: «خذ الحارة بما فيها»، يقول لقطيع اللصوص العسكري، ويتابع مونولوجه الخاص عن «خزانة أم حسن الهندي ومكوايتها»، و«بيت فادي ويوسف»، ويشير، من دون تعليق، إلى البرميل المتفجر الواقع على مدخل بنايتهم، كما لو أن تدمير المخيم عن بكرة أبيه، وسقوط البراميل المتفجرة، والسرقة المعلنة لعناصر الأسد للمخيم الذي «حرّروه»، كلّها حوادث طبيعية، فالإعلاميّ، في النهاية، محسوب على هذه السرديّة التي دمّرت بيته وذكرياته وحوّلتها إلى هشيم، وهو مضطرّ لقبولها، إن لم يكن قادرا على التواطؤ الكلي معها.
لا يفعل النظام السوري في تدميره للمخيم وتهجير سكانه و«تعفيش» ما بقي من أغراضهم غير أن يتابع مسارا دمويا طويلا يمكن تتبعه من العام 1976 حين قاد ضباط جيشه الهجوم على مخيم تل الزعتر شرق بيروت، مما أدى لمقتل قرابة ألفي فلسطيني وتهجير ما تبقى من سكانه إلى الأبد، وكان في ذلك تأكيد من النظام، الذي كان يرأسه حافظ الأسد، للأمريكيين والإسرائيليين بأن الهدف من دخوله للبنان هو ضبط منظمة التحرير الفلسطينية، قبل أن يسلّم المهمة، عمليّاً، لإسرائيل التي اجتاحت لبنان عام 1982، لينهمك بقمع الداخل السوري بمجزرة رهيبة في مدينة حماه، وليعود بعدها للمشاركة العسكرية المباشرة ودعم «حركة أمل» في حصار مخيمات صبرا وشاتيلا (التي تعرّضت لمجزرة إسرائيلية عام 1982) وبرج البراجنة عام 1985، ما أدى إلى تدمير شبه كامل لمخيمي صبرا وشاتيلا.
لتجريف «عاصمة» الشتات الفلسطيني عبر محو مخيم اليرموك ماديا ومعنويا أهداف لا يمكن فهمها من دون قراءة تاريخ الارتباط بين فلسطين وسوريا، حيث تمت العودة إلى قرارات المؤتمر العربي الفلسطيني في القدس عام 1919 وكان من أشهرها «إعلان عروبة فلسطين واعتبارها جزءا لا يتجزأ من بلاد الشام»، وتكرار ذلك في المؤتمر السوري العام في دمشق عام 1920، بتأكيده على «استقلال سوريا بحدودها الطبيعية ومنها فلسطين ورفض جعلها وطنا لليهود»، وتم التذكير بتكليف المؤرخ الفلسطيني محمد عزة دروزة بإلقاء بيان الاستقلال السوري كإشارة رمزية لمعنى فلسطين في الوعي السوري التاريخي، وبعز الدين القسام، ابن سوريا، الذي كان قائدا بارزا للثورة الفلسطينية الكبرى عام 1935.
إنهاء وجود الفلسطينيين في سوريا، بهذا المعنى، هو تأكيد عضويّ للعلاقة بين نظام الاستيطان الإسرائيلي ونظام الاستبداد الوحشي في سوريا، والبطش بالثورة السورية، حسب هذا النظام، لا يكتمل، إلا بالبطش بالعلاقة السورية ـ الفلسطينية، وهو لا يقتصر على مخيم اليرموك، بل طال مخيمات درعا واللاذقية والسبينة والحسينية والسيدة زينب وخان الشيخ وحمص وحندرات.
يمكن النظر إلى إنهاء عملية اجتثاث ومحو أثر الفلسطينيين في سوريا أيضا ضمن ترتيبات سياسية وديمغرافية كبرى تبدأ من فلسطين نفسها، تحت مسمى «صفقة القرن»، وتمر بالضرورة بأماكن سيطرة نظام الأسد وتاريخه الطويل في تدمير القضية الفلسطينية باعتبارها بؤرة التمرد على الاستبداد والاحتلال.
تنتاب القارئ لأول تصريحات إعلامية لـ "الدكتور يوسف الهجر" مدير المكتب السياسي المحدث مؤخراً في هيئة تحرير الشام، حالة من الذهول للوهلة الأولى بعد قراءتها، كونها تحمل في طياتها تناقضات كبيرة، وتبرز بشكل واضح حالة الانقلاب على النفس مع الحفاظ على عقلية العسكر والقوي والفصيل القويم وحده.
تصريحات "الهجر" في كل كلمة قالها تعكس ذات العقلية العسكرية التي عودتنا هيئة تحرير الشام عليها في انهم الفصيل القوي والوحيد القادر على حماية ثورة السوريين، وأنها هي وحدها الوصية على الشمال السوري، وجه من خلاله رسائل عدة أبرزها أن حل الهيئة ضرب من الخيال وأنها ستبقى القوة المسيطرة ولكن بالشكل الجديد القائم على الانفتاح أكثر على ماكانت تحاربه سابقاً.
حرص الهيئة على ثوابت الشعب السوري هي السمة البارزة، والهيئة لم تفاوض ولم تقبل بأي من مخرجات أستانة أو اتفاقيات الدول المعنية بالشأن السوري ولكنه أغفل أن يعترف أنها هي من نفذت الانسحاب من شرقي السكة وسلمت أرضاَ واسعة تقدر بربع مساحة إدلب تطبيقاً لهذه المخرجات، يعكس في كلامه ذات التبريرات التي ساقها "الجولاني" إبان حديثه عن قضية شرقي السكة.
العلاقة بين الهيئة وتركيا متوازنة ومستمرة بحسب كلام "الهجر" أما الحرب الإعلامية والتجييش العسكري واستعراض الأرتال على الحدود السورية التركية وتعزيز مواقع الهيئة لأشهر وأعوام طويلة، وإنهاء فصائل عديدة باسم التعاون مع الغرب وتركيا ليس بأخرها أحرار الشام هو مانسي "الهجر" استعراضه في تاريخ الهيئة مع تركيا.
واعتبر "الهجر" أن نشر النقاط التركية في شمال إدلب ليس تطبيقاً لمخرجات أستانة بل هو موقف يطابق موقف الثورة السورية لتحقيق مصالح عليا، في وقت ليس ببعيد وحتى اليم لاتزال قيادات وعناصر الهيئة وفي جل أحاديثها بين العوام تعتبر دخول تركيا "احتلال" وتنكر حتى أن تنسيق دخولها كان بالتنسيق معها لاسيما أنها كانت تدخل وفود الاستطلاع والأرتال تحت جنح الظلام وتؤمن حمايتها.
ولم ينس "الهجر" التأكيد من جديد على أن الهيئة هي شعب الله المختار وهي صمام الأمان والاستمرار للثورة السورية وجهاد أهل الشام، وعن توقف العمليات العسكرية ضد النظام منذ اكثر من عام والالتزام بمخرجات الاتفاقيات الدولية حول وقف العمليات هذه استدرك الهجر بالقول إن انتشار النقاط التركية لن يمنع من إسقاط الطاغية وأن السلاح لازال موجود.
مواكبة عمليات التهجير يستلزم وضع خطة من قبل الهيئة نفسها لإنقاذ الحواضن الثورية وحماية شعب الثورة المهجر للشمال السوري، كيف لا وهي من قامت باعتقال خيرة قادة الثورة الذين قدموا التضحيات أبرزهم "النقيب سعيد نقرش" وعشرات النشطاء الخارجين من حصار النظام لسنوات بعد كل مابذلوه، وهي من حاولت إخضاع ثوار الزبداني وقيادات داريا وثوارها.
وعن الصراع الدولي ونقله للداخل السوري كان جواب "الهجر" بالرفض المطلق له، متناسياً ماقامت به الهيئة من تصفية حسابات الدول العربية والغربية من خلال إنهاء عشرات المكونات الثورة من فصائل الجيش السوري الحر وغيرها من الفصائل تبعاً للمتغيرات الدولية والمصلحة الرئيسية للهيئة في التسلط وبناء الكيان على حساب الجميع حتى اصتدمت مؤخراً بمواجهة كبيرة من قبل صقور الشام وجبهة تحرير سوريا وضعت لتمردها ضد الجميع حداً فاصلاً.
تحقيق المصلحة العليا بحسب "الهجر" وتحقيق الأمن المفقود منذ سنوات وبناء الدولة هي ماتقوم عليه تحرير الشام من خلال تمكين سلطتها في المحرر وبناء كيانها المدني والعسكري على حساب المدنيين وأرزاقهم وعذاباتهم باسم نصرة الشعب وحمايته.
هذا الانقلاب الواضح والاعتدال الذي فاق الوصف بحسب مراقبين يرسم معالم مشهد جديد من مشاهد عمليات الالتفاف التي ينتهجها الجولاني وجماعته لتحقيق مصالحهم ولو على حساب أبناء الثورة، تخلت الهيئة على جل مبادئها وشعاراتها التي رفعتها اليوم في سبيل الاستمرار ضمن المرحلة القادمة، لاتغير إلا بالشعارات والتقرب أكثر للثورة فمتى سيرفع الجولاني علم الثورة ويقول هذه كانت رايتنا...!؟
ظل الأوروبيون متمسكين بالاتفاق النووي مع إيران على أساس أنه ليس لدى الولايات المتحدة «خطة - ب»، حتى جاء يوم الاثنين الماضي، وكشف مايك بومبيو وزير الخارجية الأميركي عن «الخطة ب»، البعض سماها طلب استسلام من إيران، وسماها آخرون تنازلات من أميركا. قال إن أميركا ستمارس ضغوطاً مالية غير مسبوقة على طهران، وستلاحق عملاءها ورديفها «حزب الله» حول العالم لسحقهم، حسب تعبيره. ثم أضاف أن بلاده مستعدة لرفع العقوبات في نهاية المطاف، مطالباً حلفاء أميركا بالدعم، خصوصاً الأوروبيين، محذراً في الوقت نفسه الشركات التي ستقوم بأعمال في إيران في قطاعات تحظرها العقوبات الأميركية، بأنها ستتحمل المسؤولية.
عندما أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترمب انسحاب بلاده من الاتفاق النووي، قال الإيرانيون بتشاؤم إن الأوروبيين عندما كانت أميركا لا تزال في الاتفاق عجزوا عن إقناعها بتوسيع قاعدة التعامل مع إيران، فكيف الآن.
الأوروبيون يشاركون الأميركيين القلق من برنامج إيران الصاروخي، ودورها في المنطقة ودعمها للمجموعات المسلحة، إنما يختلفون في التوجه. هم يريدون أن توافق إيران على العمل معهم حول هذه القضايا انطلاقاً من حمايتهم للاتفاق النووي. بومبيو يوم الاثنين الماضي رفض هذه المعادلة، فالاتفاق قائم منذ عام 2015 ولم تتغير تصرفات إيران.
يقول الدبلوماسيون الأوروبيون في واشنطن إن حملة الضغوط على كوريا الشمالية دفعتها إلى طاولة المفاوضات، وقد حصل هذا مع إيران عندما تم التوصل إلى الاتفاق النووي، لكن لم تكن حملة الضغوط على كوريا الشمالية هي العامل الوحيد، وكذلك الحملة السابقة على إيران، كانت هناك حملة عالمية. الآن هل بإمكان الأميركيين إعادة تجميع حملة عالمية؟ يمكن ذلك بسبب ضعف أوروبا.
عندما أعلن ترمب الانسحاب من الاتفاق قالت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل رسمياً إنه من الآن وصاعداً سيكون على أوروبا أن تأخذ مصيرها بأيديها، وعندما زار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، واشنطن، قال إثر ذلك إنه يقبل ألا تزيد إيران مدى صواريخها عن 2000 كلم، غير عارف أن نشر إيران صواريخها في سوريا ولبنان تقرب المسافة من أوروبا، ولا تحتاج إلى حسبة المدى من إيران، بل من الدول الحليفة لها.
قبل خطاب بومبيو، طالب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بانسحاب كل القوات الغربية من سوريا، إذ ترى موسكو أن الحرب الأهلية في سوريا انتهت، ولماذا بالتالي الانتشار المكثف للإيرانيين فيها، هو الآخر يتجاهل أن إيران تريد أن تفعل في سوريا ما فعلته الأخيرة في لبنان. صارت سوريا مصدر أموال لإيران، إذ بعد اتفاق الأكراد والحكومة العراقية إثر الاستفتاء أعاد الأكراد حقول نفط للعراق، عوائدها تذهب مباشرة إلى إيران، والقاطنون في مدينة البصرة يرون الشاحنات الإيرانية تنقل يومياً نفطاً منها إلى إيران.
في سوريا 3 شركات للهاتف الجوال، تريد إيران شراء واحدة منها، كما أنها صارت تملك بعض مناجم الفوسفات في سوريا، وتنقل عائداتها إلى إيران. وتتطلع إيران إلى الزراعة في سوريا وإلى شراء مناطق سياحية، يرون كنوزاً متدفقة من إعادة بناء سوريا، لكن المنافس الكبير لإيران يبقى روسيا، وهناك الصينيون الخبراء في بناء الجسور والطرق. إذن مشروع سوريا لإيران مهم جداً عسكرياً واقتصادياً. ثم جاء بومبيو ليقول إن الاستراتيجية الأميركية تجاه إيران الآن هي العقوبات.
قبل اتخاذ ترمب القرار كثر الحديث عن الطرق التي قد تتجنب بها أوروبا، أو تحرّف، أو تتصدى للعقوبات الثانوية الأميركية - التي لا تستهدف إيران فحسب بل أي كيانات تتعامل معها، وذلك للسماح للشركات الأوروبية بدخول السوق الإيرانية، مما يوفر حوافز كافية لإيران للبقاء في الاتفاق، وبعد إعلان ترمب قام الموقعون الأوروبيون الثلاثة: فرنسا وألمانيا وبريطانيا بإجراء محادثات مع إيران لإنقاذ الاتفاق. لكن من غير المرجح أن تغامر الشركات الأوروبية بإمكانية الوصول إلى السوق الأميركية مقابل إيرادات هامشية إيرانية. وقد شعرت الشركات الأوروبية الكبرى بالخطر المقبل عندما وضعت الخزانة الأميركية حاكم البنك المركزي الإيراني على قائمة العقوبات. فهمت الشركات أن الضربة القاضية ستأتي قريباً، وبدأت بالانسحاب، وعلى رأسها شركة «توتال». لن يبقى أمام إيران من حوافز كي تبقى ملتزمة سوى وعود ومشاريع من الصين وروسيا والهند. وإذا بقي الاتفاق حياً، فإن أوروبا التي لعبت دوراً أساسياً في مفاوضات شاقة أسفرت عن الاتفاق ستراقب الأرباح التجارية تتحول إلى الشرق.
ببساطة تحتاج أوروبا إلى الولايات المتحدة أكثر من حاجة الأخيرة لها، وفي كثير من الحالات فإن الانقسامات الداخلية الأوروبية تجعل الولايات المتحدة شريكاً أكثر قيمة للدول الأعضاء من الاتحاد الأوروبي نفسه.
وعندما يتعلق الأمر بالاتفاق الإيراني، هناك ضعفان أساسيان يعرقلان قدرة أوروبا نفسها على الالتزام.
الضعف الأول يتعلق بعيوب تصميم اليورو، والعقوبات الثانوية لا تستمد قوتها فقط من جاذبية السوق الأميركية، بل بسبب القوة التي تأتي من الدولار كونه عملة الاحتياط العالمية. ولشركة متعددة الجنسيات تعمل في نطاق الأعمال التجارية في إيران، فإن عملها دون الوصول إلى النظام المالي الأميركي، أو دون التعامل مع كيانات مثل البنوك والموردين المنفتحين على النظام المالي الأميركي، سيكون من الصعب عليها تحقيق المقاصد والأغراض، ومن الأصعب تجنب التعرض للعقوبات الأميركية.
يشكل اليورو حالياً ما يقرب من 20 في المائة من احتياطيات العملات الأجنبية على مستوى العالم، مقارنة بما يقرب 65 في المائة بالنسبة إلى الدولار.
على المدى القصير، فإن أوروبا في وضع غير ملائم في المواجهة الحالية بشأن الاتفاق الإيراني. أما الضعف الهيكلي الآخر الذي يقيد أوروبا، وفي الاتفاق الإيراني على الأخص، فهو افتقارها إلى قدرة منسقة لعرض قوتها العسكرية في الخارج، وعلى الرغم من وجود مئات الآلاف من الجنود الأوروبيين تحت السلاح، لا يمكن للجيوش الأوروبية القيام بعملية خارج حدودها بشكل مستقل، باستثناء فرنسا وبريطانيا.
إن عودة ظهور الجغرافيا السياسية المقترنة بسلسلة الأزمات الوجودية للاتحاد الأوروبي على مدى العقد الماضي، كشفت أنه على الرغم من أن القوة العسكرية لا تقدم بالضرورة الحلول، إلا أنها تزيد من القوة على طاولة المفاوضات، حيث يتم طبخ الحلول. وبالتالي تبقى الولايات المتحدة في مقعد السائق في المناطق التي لا يزال فيها للقوة العسكرية أو للتهديد بها، دور في الحفاظ على النفوذ.
قال الاتحاد الأوروبي أن لا بديل عن الاتفاق النووي، وبموجب كل الحقوق لا ينبغي أن يصبح الموقعون الأوروبيون على الاتفاق، رهينة لمزاج الرئيس ترمب أو أي رئيس أميركي آخر، لكن، للأسف، حتى تعالج أوروبا كل مشاكلها الداخلية ستكون كذلك.
النظام الإيراني ينهار، أولاً لأنه تحت أي ظرف من الظروف لا يمكن ولن يقبل مطالب الولايات المتحدة لوقف الدعم المالي والعسكري لمختلف الميليشيات الشيعية التي استثمر بها كثيراً، ثم إن «محور المقاومة» ضد إسرائيل وأميركا والغرب هو أساس العقيدة الإقليمية والدولية للنظام. إن وضع النظام في بغداد بعد الانتخابات صار معرضاً، و«حزب الله» في لبنان لا يريد أن تجره إيران إلى الحرب مع إسرائيل، فهو خفف من وجود قواته في سوريا، وقد يكون هدفه السيطرة سياسياً على لبنان.
تريد إيران تغيير أنظمة بلدان أخرى، لكنها لا تريد أن تصغي لمن يطلب منها تغيير سلوكها هذا. لا اتفاق نووياً من دون أميركا. علق المرشد الإيراني علي خامنئي أنه لا يقبل أن تقرر أميركا سياسة إيران، وكذلك الدول المحيطة بإيران لا تقبل بأن تقرر إيران سياستها. ولن تنفع بعد الآن حملة محمد جواد ظريف وزير الخارجية بأن إيران لم تعتدِ على أحد. ومن أجل مستقبل الشعب الإيراني، الأفضل لإيران أن تحمل ميليشياتها وتنسحب. لقد طال وقت تدخلها من دون أن تكسب معركة، ربحت في تقسيم الشعوب وفي تدمير مستقبل المنطقة، وآن الأوان لينتهي كل ذلك!
من السذاجة بمكان الاعتقاد أن ايران لعبت دورها الحالي خلال الأعوام الأربعين الماضية رغما عن العالم، واختارت هذا الدور تعبيرا عن إرادتها المستقلة التي فرضتها على الشرق والغرب، بدهاء ملاليها وقوتهم.
لإيران في استراتيجية واشنطن دور محدّد، هو تخويف دول الخليج إلى الحد الذي تطلب معه حماية واشنطن التي نالتها دوما في مقابل حصول البيت الأبيض على ما يريده: نفطها وبترودولاراتها، فإن اشتطت طهران، وتوهّمت أنها تستطيع تخطّي خط الاستئثار الأميركي بالخليج، وانتزاع حصةٍ من خارج الحدود التي رسمتها أميركا لعلاقاتها بالعالم، ولعلاقات العالم معها، جرى تصحيح شططها، بردّها إلى جادة الصواب وحجمها الطبيعي. توهّم الشاه أنه صار شريك واشنطن، ففقد عرشه، بعد أن كبل البنتاغون (وزارة الدفاع الأميركية) أيدي المخلصين من جنرالات جيشه، لتمكين الحراك الشعبي من إسقاط نظامه، وتمكين الملالي من الاستيلاء على السطة. وإذا كان هناك من نسي كيف أخرج الشاه من طهران، فذاكرة العالم السياسية لم تنس تصريح وزير خارجية واشنطن، سايروس فانس، إن على الشاه أن يغادر بلاده.. فغادرها.
لعب الملالي الدور التخويفي ذاته الذي مارسة الشاه، لكنهم بالغوا فيه إلى الحد الذي أرعب العالم العربي بأسره، ولم يقتصر رعبه على الخليج وحده، في حقبةٍ كان من الأهمية بمكان، بالنسبة إلى واشنطن وربما الغرب، أن تستخدم فيها قوى جديدة لصراعٍ من طبيعة جديدة، أوسع بكثير مما كان الشاه يستطيع خوضه. لذلك، جيء بالملالي كي يقوموا به، فمارسوه بحماسةٍ من خلال الصراع المذهبي داخل الصف الإسلامي الذي شطره إلى فريقين، يراد لهما أن يصيرا متنافيين: أحدهما تقوده طهران، لكنه منظم وممول ومتعسكر من رأسه إلى أخمص قدميه، والآخر فضفاض ومتسيب، ويفتقر إلى قياده ونهج، معظم أتباعه من المعدمين الخاضعين لنظم متهالكة ومستبدة، يرغمها عجزها عن حماية نفسها من الفريق الأول على طلب حماية واشنطن التي تقرّر اليوم رد نظام طهران إلى حدودٍ لا تمكنه من وضع يده على ما لا يجوز له الاستيلاء عليه، من دون الحؤول بينه وبين ممارسة دورٍ من شأنه دفع النظم المجاورة إلى الارتماء في حضن أميركا الحنون.
قال وزير خارجية واشنطن، مايك بومبيو، في نقاطه الاثنتي عشرة للملالي: لن يكون بيننا وبينكم أية مشكلة، ولن نعاقبكم إن عدتم إلى تقسيم العمل الذي يضمن أمنكم من جهة، وإقلاعكم عن اختراق جيرانكم، والسعي إلى وضع يدكم على بلدانهم، والإمساك، في الوقت نفسه، بالمفاصل والممرات البرية والبحرية لمنطقة الشرق الأوسط عموما، والبلدان العربية خصوصا، من جهة أخرى. عودوا عن سياساتكم التي تتخطى المشكلات التي أنتجتها قدرتنا على التحكّم فيها، وتعالوا إلى عقد سياسي جديد بيننا وبينكم، كي لا نضطر إلى العمل لاستبدالكم بغيركم، مثلما عملنا لاستبدال الشاه بكم، عبر بنودٍ أعلنها الوزير بومبيو للعالم ولكم، فيها عصا التهديد بالعقوبات الأقسى في التاريخ التي ستقوّض قدراتكم بأكثر الصور إضرارا بكم، وجزرة الوعد بتطبيع علاقاتكم مع أميركا، إن وافقتم على الجلوس حول طاولة المفاوضات، وبدأتم نقاشا جدّيا يتجاوز الاتفاق النووي إلى السياسات التي تعتقدون أنها تستطيع تقليص دور واشنطن في المنطقة، وهذا لن يكون متاحا لكم تحت أي ظرف أو سبب. لذلك، لا بد أن تقبلوا علاقات جديدة بينها وبينكم، تتحدّد حركتكم فيها بما تتيحه هي لكم منها.
وتمتلك إيران مجموعة من الأوراق، أولها القوة العسكرية التي اعتمدتها وسيلةً رئيسةً لتحقيق استراتيجيتها القومية ذات الغطاء المذهبي، ووضعت ديبلوماسيتها متنوعة الموارد والجوانب في خدمتها، دامجة بذلك وموحدة أجهزة وأنشطة السلطة والدولة في كيانٍ يستمد قدراته من مؤسسته العسكرية/ الأمنية التي يقف في مقدمتها الولي الفقيه، مرشد ما تسمى الثورة علي خامنئي، الذي تجتمع في يده السلطات المذهبية والعسكرية والسياسية، ويعتبر المسؤول عن رسم أهداف إيران ومتابعتها وسبل بلوغها. وقد فشلت هذه القوة في الحرب ضد العراق، ولم تختبر بعد في أي سياقٍ يتخطى معارك محلية تلعب عسكريتاريا إيران فيها دور الداعم والموجه، وتخوضها بالوساطة: في لبنان والعراق واليمن وسورية. ولا يعرف أحد بعد إن كانت تستطيع مواجهة جيوشٍ على درجةٍ رفيعة من التنظيم والتقدم التقني والتدريب والتسليح، كجيش أميركا وإسرائيل اللذين يتفوقان تفوقا ساحقا على جيشها، لافتقاره إلى أسلحة جو وبر وبحر حديثة وكافية، واعتماده على الصواريخ قوة ردع، وعلى موقع إيران المحمي نسبيا بقواتٍ تابعةٍ لها، لكنها ترابط خارجها، مثالها الأشهر حزب الله في لبنان، والحشد الشعبي في العراق، والحوثيون في اليمن، وجيش الأسد في سورية، فهل تستطيع هذه القوى حماية إيران بما لديها من قدراتٍ متفاوتةٍ ومحدودة بالمقارنة مع قدرات أعداء إيران؟ وإلى أي حد يمكن أن تتحول هي إلى نقاط ضعف قاتلة للمركز الإيراني؟ ومن سيحمي الحوثيين، إيران أو أنفسهم، في حال استهدفهم الأميركيون والخليجيون بغرض استئصالهم من اليمن؟ وماذا ستفعل إيران لهم، وفي حال ظلت خارج الحرب، أية انعكاسات سيكون لهزيمتها في اليمن على داخلها؟ هناك أيضا نقاط ضعف إيرانية، منها مثلا عجزها عن منع أعدائها من تعطيل إنتاجها من النفط، بإغلاق ومحاصرة طرق تصديره وممراته، واستيراد ما تحتاجه من الخارج. ومنها عجزها عن ردم أو تحييد الهوة التقنية الهائلة بين اعدائها وبينها التي يرجّح أن تعطل أسلحتها الصاروخية أو تدمرها. ومنها عداء جيرانها لها الذي لم يعد يقتصر بعد مجازر طهران في سورية على الحكام، وإنما تكنه الشعوب أيضا ضدها، بسبب ما مارسه الملالي حيالهم من عنفٍ وقتل وابتزاز، مثاله الأهم سورية، حيث أعملوا سكاكينهم في عنق شعب مؤمن مسالم، أقام الإسلام نظام أمن كامل لحمايته وأمثاله من شطط إخوته في الدين، فأتت جموع إيران المسلحة لقتله وحماية سفاح أشر، لو كانوا مسلمين حقا لبادروا إلى رد ظلمه وأذيته عن الناس. كان هؤلاء الجيران دوما دريئة تحمي العالم الإسلامي. أما اليوم، وبعد أن فعلت إيران بهم ما فعلته، فإنهم سيؤيدون أي إجراء يتخذ ضد ملاليها، من شأنه رفع ظلمهم عن شعبها وعنهم.
ليست أوروبا نقطة قوة لإيران، لكونها تتبنى مطالب ترامب الثلاثة: نزع سلاحها الصاروخي الذي يمكن أن يحمل أسلحة نووية، وخروجها من الدول المجاورة ووقف اعتداءات مرتزقتها على شعوبها، والتزامها بفتح مفاعلاتها ومراكز أبحاثها وثكناتها ومرافقها الخاصة والرسمية أمام تفتيشٍ دوليٍّ غير محدود زمانا ومكانا، ولفترة مفتوحة تتخطى عام 2025 في هذه النقاط، لا يختلف موقف أوروبا عن موقف أميركا، بل هو يتبناه. لذلك، يقترح على إيران قبول التفاوض حوله، ويعلن أن أوروبا لا تستطيع حماية طهران، والاتفاق من دون تنازلاتٍ تقدمها، كما قال أوروبيون عديدون. وأيدهم نائب وزير خارجية روسيا، حليفتهم المفضلة. صحيح أن لأوروبا مصالح في إيران، لكنها لا تقارن إطلاقا بمصالحها في أميركا. ولو أخذنا فرنسا مثالا لوجدنا أن استثماراتها هناك تبلغ 300 مليار دولار، فكم هو حجم استثماراتها في إيران، وهل تضحي بمصالحها من أجلها؟ لا تستطيع روسيا أيضا حماية الملالي من واشنطن، بسبب تناقضات استراتيجيات البلدين، وأهدافهما ومصالحهما، وما صار معلوما من تنافسٍ بينهما في سورية وصل أحيانا إلى حد استخدام السلاح.
والنتيجة، طرحت إيران الملالي على نفسها مهمةً تتخطّى كثيرا قدراتها، يستحيل عليها القيام بها، هي الاستيلاء على الدول العربية أو إخضاعها، وبلغ الشطط بها حدّا جعل أحد كبار مسؤوليها، أحمد يونسي، يتفاخر بقيام أمبراطورية فارسية عاصمتها بغداد! مشكلة الملالي أنهم لا يعلمون أن مكرهم ليس أكبر من مكر التاريخ، وأن استغفال الشعوب، بمصادرة قضاياهم، لا يدوم، خصوصا إن كانت نتيجته الوحيدة اضطهادها وقتلها واحتلال أوطانها. مشكلة إيران ومشكلة العالم مع إيران تكمن في عيش ملاليها خارج عصرنا، واعتمادهم وسائل عنيفة لتحقيق أهدافهم، وأفكارا عفا عليها الزمن لبلوغ غاياتهم، عائدها الوحيد إثارة حروبٍ أهلية في العالم الإسلامي، وتمكين أعدائه منه. ومشكلة إيران أنه لن يحميها غير مصالحة تاريخية مع العرب، إخوتها في الدين والدنيا، وإلا فإنها ستنصاع من الآن فصاعدا لما تطالبها به واشنطن، بما يعنيه من سقوط لأوهامها الأمبراطورية، وربما لنظامها نفسه.
لدى ملالي إيران فرصة تاريخية، هي تصحيح علاقاتهم مع شعبهم وجيرانهم، ودعم حق شعوب المنطقة جميعها في الحرية، بما في ذلك شعبهم نفسه، فهل يفيدون من هذه السانحة، فيربحوا معركتهم ضد أميركا، أم يواصلون تجبرهم الاستعلائي فيهزمون؟
أُثير في الآونة الأخيرة جدل على نطاق واسع حول ما إذا كان الخطر الإيراني علينا كعرب، وبالطبع فإن المقصود ودائماً وأبداً هو هذا النظام الرجعي حقاً والمصاب بعُقَد التاريخ القديم والحديث كلها، الصغيرة والكبيرة، وليس الشعب الإيراني الشقيق الذي ما يجمعنا به ويجمعه بنا أكثر كثيراً مما يفرّقنا، هو - أي خطر إيران - أشد وأسوأ من الخطر الإسرائيلي، وحقيقة أن مجرد اللجوء إلى هذه المقارنة يعني أنَّ هناك إحساساً عربياً، لا بل قناعة بصورة عامة أن هذه الدولة التي من المفترض أنها ليست مجاورة وصديقة فقط بل شقيقة أيضاً، مثلها مثل أي دولة عربية من «دولنا» غير المصابة بداء العظمة وبعقدة الارتماء في أحضان الذين ينظرون إلى العرب نظرة دونية.
ولعل ما يوجع القلوب فعلاً أن مجرد اللجوء إلى عَقْد مثل هذه المقارنة، التي ما كانت واردة حتى في عهد النظام الشاهنشاهي قبل عام 1979 ولا في عهد ومرحلة مصطفى كمال (أتاتورك) في تركيا، يعني أن «الملالي» الذين باتوا يسيطرون على الحكم منذ نحو أربعين عاماً قد حوّلوا إيران من دولة من المفترض أنها مجاورة وشقيقة، يربط العربَ بها ويربطها بالعرب تاريخٌ مشترك طويل، إلى دولة معادية ذات أطماع تمددية واحتلالية وأيضاً توسعية ليس في الدول المجاورة والمحاددة فقط، وإنما في المنطقة العربية كلها، من تطوان في الغرب حتى سيف سعد في آخر نقطة شرقية على الحدود العراقية – الإيرانية، وهذا هو ما بدأ يحصل منذ أن انتزع «المعممون» عرش الطاووس، وأجلسوا فوقه «آية الله العظمى» روح الله الخميني... رحمه الله على أي حال.
كان الاعتقاد حتى قبل انتصار الثورة الخمينية في فبراير (شباط) عام 1979، أنّ إزالة عرش الطاووس وإسقاط نظام الشاه محمد رضا بهلوي سيضع هذا البلد الإسلامي بكل إمكاناته وبكل تأثيره الإقليمي والدولي إلى جانب العرب في صراعهم مع إسرائيل وإلى جانب الثورة الفلسطينية تحديداً. وهنا لعل هناك مَن لا يعرف أن حركة «فتح» كانت قد أرسلت وفداً من كبار مسؤوليها للقاء الخميني عندما كان لا يزال يقيم في النجف في العراق، لإبلاغه بتأييد الشعب الفلسطيني له، ويومها أصدر قائد الثورة الإيرانية هذا فتوى، من قبيل رد الجميل، تجيز دفع الزكاة لـ«المجاهدين الفلسطينيين».
والمعروف أن (أبو عمار) بقيَ على تواصل مع الخميني خلال وجوده في النجف ثم بعد انتقاله إلى نوفيل لوشاتو في فرنسا التي انتقل منها إلى إيران الثائرة، وأنه، أي عرفات، كان قد ترأس وفداً كبيراً إلى طهران كان من بين أعضائه الأساسيين الرئيس الحالي محمود عباس (أبو مازن) بعد انتصار الثورة الخمينية مباشرةً، وحقيقة أن القيادة الفلسطينية ومعها الشعب الفلسطيني بغالبيته كانت تراهن على أن هذه الثورة ستضع كل إمكاناتها إلى جانبها وأنها ستعزز التفاف الشيعة اللبنانيين حولها، وكما بقي الوضع عليه منذ عام 1965 وعلى مدى نحو عشرين عاماً وإلى أن ظهر «حزب الله» الذي أعلنه حسن نصر الله لاحقاً فصيلاً مقاتلاً في «فيلق الولي الفقيه».
إن هذا هو «التصور» الفلسطيني والعربي أيضاً لدى انتصار الثورة الإيرانية لكن كل هذه الآمال العريضة ما لبثت أن انقلبت إلى إحباط شديد وذلك مع أن الفلسطينيين والعرب، بمعظمهم قد انحازوا وجدانياً وسياسياً كشعوب وكتنظيمات سياسية إلى إيران حتى بعدما اندلعت حرب الأعوام الثمانية المريرة بينها وبين العراق، ويقيناً إن هذا الانحياز كان بالإمكان أن يبقى متواصلاً ومستمراً حتى بعد الغزو الأميركي وإسقاط نظام صدام حسين لو لم يبدأ الإيرانيون سعيهم المبكر لتحويل الشيعة العرب في كل أماكن وجودهم إلى بؤر مسلحة، وكما أصبح عليه وضع «حزب الله» اللبناني، و«قوات بدر» العراقية، والحوثيين في اليمن، وكل هذه الفصائل الطائفية التي تكاثرت لاحقاً بإشراف حراس الثورة الإيرانية وما يسمى «فيلق القدس» بقيادة الجنرال، الطرزاني، قاسم سليماني.
ثم وإن الأخطر أن إيران، بدل أن تتحول إلى «مثابة» إسلامية عامة وللمسلمين كلهم، السنة والشيعة، قد بادرت باكراً بعد انتصار ثورتها مباشرةً، إلى عملية فرز طائفي يتّكئ على أحقاد مذهبية قديمة غالبيتها، إنْ ليس كلها، مصطنعة وغير حقيقية أدت إلى كل هذا التناحر الدموي من طرف واحد وبرعاية قاسم سليماني وحسن نصر الله وهادي العامري الذي رأيناه وللأسف ولا نزال نراه في العراق وفي سوريا وفي اليمن وفي لبنان والذي بدأ يتمدد في اتجاه المغرب العربي، حيث تحدثت معلومات بما يشبه التأكيد عن أن الإيرانيين باتوا يحشرون أنفسهم في خلاف الـ«بوليساريو» والصحراء الغربية بين الدولتين العربيتين الشقيقتين، الجزائر والمملكة المغربية.
والأخطر حقاً أن إيران لم تكتفِ بمجرد التدخل العسكري في العراق وفي سوريا وفي لبنان واليمن ولم تكتفِ بكل عمليات الحقن الطائفي بين السنة والشيعة بل إنها ذهبت بعيداً في تآمرها باللجوء إلى سياسة تفريغ «ديموغرافي» مذهبي وبقوة السلاح إنْ في سوريا وإنْ في العراق أيضاً، وهذا واضح ومعلن وإلى حدّ أنه صدر ومن طهران نفسها تأكيد أن إيران باتت تحتل أربع عواصم عربية، والمقصود هنا: بغداد ودمشق وصنعاء وبيروت... تضاف إليها كابل، العاصمة الأفغانية.
لقد بات واضحاً ومعروفاً، وهذا يفاخر به الطائفيون الإيرانيون وعلى رؤوس الأشهاد وبلا أي خجل ولا وجل، أنَّ إيران تسعى وبالقوة إلى «مذهبة» هذه المنطقة كلها وإلى إضفاء ردائها الطائفي على المشرق العربي بأسره، وعلى غرار ما كان عليه الوضع في عهد «القرامطة» و«الحشاشين» بقيادة الحسن الصباح الذي اتخذ من قلعة «ألْموت» مركزاً لعملياته الإرهابية.
إنَّ هذا ليس نكأً للجراح، بل إنها عودة للإشارة إلى بعض حقائق التاريخ، لتأكيد أنَّ إيران، وليس الشيعة ولا الطائفة الشيعية العربية الكريمة التي لها التقدير والاحترام، قد دأبت على أن تلعب لعبة خطيرة وأنها من خلال كل هذا الذي تفعله تسعى لإقحام هذه المنطقة وأهلها في صراع طائفي مدمّر قد لا ينتهي إلا بعد سنوات طويلة، وهو لن يكون إلا في مصلحة إسرائيل ومصلحة هذه الدولة الإسرائيلية التي هي بدورها دولة عنصرية لا تقبل بالآخرين مثلها مثل هذه الدولة الإيرانية في هذا العهد وفي هذه المرحلة.
وعليه، فإن المقصود بهذا السرد كله هو الإجابة عن السؤال الذي تم تداوله في الآونة الأخيرة وهو: «مَن الأخطر علينا كعرب يا تُرى... هل هي إسرائيل أم إيران»؟! وحقيقةً، إن ابتلاع هذا السؤال هو أصعب وأكثر إيلاماً من ابتلاع الشوك، فالمفترض أن الجواب يجب أن يكون تلقائياً... أنه لا خطر علينا أشد من هذا الخطر الصهيوني الذي هو خطر وجودي، لكن ما العمل ما دام هذا النظام الإيراني المنتفخ بالأورام المذهبية وبالعُقَد التاريخية، لم يترك أمامنا أي مجال إلا القول وبصوت مرتفع إنه بتطلعاته الحالية والمستقبلية لا يقل خطراً على العرب من الخطر الإسرائيلي، وهذا إنْ هو لا يتجاوزه ما دام أن استهدافه لنا أخطر من استهداف الحركة الصهيونية وما دام أن عمليات التفريغ على الأسس الطائفية والمذهبية الجارية في سوريا والتي كانت قد جرت في العراق ستقحم هذه المنطقة كلها في حروب قذرة كالحروب التي أشعلتها حركة حمدان قرمط وكانت نتائجها كارثية.
أمّا لماذا...؟ فإن الجواب واضح ومعروف، وهو أن إسرائيل مهما حاولت ومهما فعلت ومهما وظّفت من إمكانات فإنها لا تستطيع اختراق نسيجنا العربي الاجتماعي ولا نسيجنا الإسلامي، لا السني ولا الشيعي، اللهم إلا بحدود اصطياد بعض الجواسيس والمأجورين... أما إيران فإن لديها من المعطيات والإمكانات ما يجعلها قادرة على اختراق لُحمتنا الدينية والاجتماعية، والدليل هو هذا الذي فعلته وتفعله في سوريا وفي العراق وفي اليمن... وفي لبنان، مما يعني، إذا أردنا أن نكون صرحاء ونقول الحقيقة، أنها بهذا الذي تفعله أكثر خطراً علينا من الخطر الإسرائيلي مع أن إسرائيل لا تزال وهي ستبقى خنجراً مسموماً في قلب الأمة العربية... وإلى أبد الآبدين!
وحدها الصدفة هي التي وضعتني إلى جانب شخصين كانا يتحدثان العربية. لم أشأ أن اقتحم عالمهما، وذلك احتراما للخصوصية، وتحاشيا لأي إحراج.
ولكن بعد عملية الإقلاع، واستقرار الطائرة في مسارها، نظر أحدهما بتمعن نحوي قائلا: أعتقد أنني أعرفك أو أنك تشبه أحدهم. قلت له: ربما. أهلا وسهلا على كل حال. ثم عدت إلى الرواية التي كنت أقرأها.
غير أن صاحبي لم يتركني وشأني، في إصرار واضح على الحديث. سألني: ألست فلان؟ وبدأ الكلام. بداية قدّم نفسه، وذكر أنه من البصرة. ثم تناول مباشرة مفاسد الأحزاب السياسية هناك. وتحدث بمرارة عن التدخلات الإيرانية، ثم اردف قائلا: ما تسمعونه عن حماية النظام الإيراني للشيعة، ودعمه لهم مجرد خداع وتضليل. فهذا النظام يستخدم ورقتنا لبلوغ أهدافه في العراق والمنطقة كلها، لا سيما في سورية التي نتألم كثيرا لما يحدث فيها.
ثم تحدث زميله، الذي ذكر بأنه من الأحواز، فأكد المضمون ذاته الذي تمحور حوله حديث الأول. ما ذهب إليه أنهم يتعرضون لتمييز عنصري قومي سافر من قبل النظام الإيراني. هذا على رغم اشتراكهم معه في المذهب. ومما ذكره في هذا المجال: نحن بالنسبة إلى النظام عرب، وعلينا أن نلتزم حدود التهميش المفروض علينا من جانبه.
وتشعب الحديث، ولكن في الحصيلة توافقنا حول أهمية أن يتصدّر أبناء بلداننا لتحدياتهم الوطنية، وذلك من أجل مستقبل أفضل لأجيالهم المقبلة. وأمر من هذا القبيل لن يكون من دون تجاوز حساسيات الانتماءات ما قبل الوطنية بكل أوهامها وهواجسها. وتكون الخطوة الأولى بالمصادرة على جهود الجهات المتربصة، تلك التي تبني استراتيجياتها على أساس استغلال هذا التنوّع الديني والمذهبي والإثني الذي كان على مر العصور سمة رئيسة من سمات هوية مجتمعاتنا.
كان اللافت بالنسبة لي في حديث الرجلين موقفهما الواضح من النظام الإيراني، وتوصيفهما للمعاناة الداخلية ضمن المجتمع الشيعي في منطقتي البصرة والأحواز. أمّا ما يخص الاستراتيجية الإيرانية فإن خطوطها الأساسية باتت واضحة للجميع، ولكن بعد ماذا؟ بعد «خراب البصرة» كما يقول المثل العراقي. فهذا النظام استثمر، وما زال، في ورقة الشيعة منذ بداية مجيء الخميني إلى الحكم في إيران، وكان الاستثمار الأول في لبنان، ومن ثم في سورية، وفي العراق. وامتد لاحقا، ليشمل منطقة الخليج، واليمن تحديدا.
إلا أن الذي كان يستوقف، ويثير التساؤل، هو الصمت العربي الرسمي والشعبي، وذلك في مواجهة الجهود الإيرانية الحثيثة الرامية إلى التغلغل المستمر في دول المنطقة ومجتمعاتها عبر النافذة المذهبية، والإسلامية العامة.
وأذكر، في هذا السياق، أنني تناولت هذا الموضوع مع مفكر عربي إسلامي مؤثر، قلت له: كم كنا نشعر بخيبة أمل كبرى ونحن نتابع مواقف الدول العربية والإسلامية بخصوص مشروع حزب الله وتحالفه الوثيق مع النظام في سورية. كما كنا نشعر بألم كبير ونحن نتلمس الدعم العربي والإسلامي لنظام بشار الأسد الذي كان يضطهد الشعب السوري في الداخل، وينسق مع النظام الإيراني في العراق ولبنان، ويخطط لتهديد أمن واستقرار الدول العربية الأخرى. ألم تكن هذه الحقائق معروفة لديكم؟ ولماذا كنتم تتجاهلون معاناة السوريين؟
وكان جوابه غير المقنع: كنا نعرف. ولكننا كنا نقول طالما أن السوريين صامتون، وربما راضون، فليس من المصلحة أن نتدخل، ونثير قضايا كهذه.
وهو جواب كما تلاحظون ينم عن قصر نظر مرعب في القضايا الاستراتيجية. ويجسّد حالة التهرب من المسؤولية عبر عقلية اتكالية، من علائمها البارزة الرهان على ما يُعتقد أنه الحصان الفائز.
ولكن على رغم كل شيء، ما زالت المواقف الصامتة على المستويين الرسمي والشعبي عربيا في مواجهة ما تعرض، ويتعرض، له الشعب السوري مستمرة، فلم تخرج تظاهرة واحدة في طول البلاد العربية وعرضها تتضامن مع السوريين. هذا في حين أن النظام الرسمي العربي تصرف بصورة عامة وكأن الموضوع لا يعنيه. وانطوت كل دولة على ذاتها، أملا في الإفلات من التسونامي العارم الذي كان نتيجة انطلاقة ثورات الربيع العربي. وهكذا تُرك السوريون لمصيرهم.
وكانت فزاعة داعش، الكوكتيل الاستخباراتي، الذي ساهم فيه الجميع تقريبا بهدف التغلغل ضمن الجغرافيا السورية، والإمساك بمختلف المفاصل. وبعد انتهاء مرحلة الحرب بالوكالة، يبدو أننا دخلنا مرحلة المواجهة المباشرة بين القوى المتنافسة التي تكاملت أدوارها، وتقاطعت مصالحها في وقت من الأوقات. أما الأسباب الكامنة وراء ذلك فهي تتمثل في التحسب من الاحتمالات المستقبلية، لا سيما ما يتصل منها بالنزوع التوسعي الإيراني المعلن، المترجم واقعا على الأرض في هيكلية الميليشيات المذهبية بأسمائها المختلفة.
ولعل هذا ما يفسر الحسم الأميركي الخاص بالخروج من الاتفاقية النووية الإيرانية، على رغم المعارضة الأوروبية الشديدة. وكان من بين الأسباب التي قدمت لتسويغ هذا القرار الدور الإيراني التخريبي في المنطقة، هذا الدور الذي بات يمثل خطرا لا بد من مواجهته، وتحجميه، حتى تستقيم معادلات المنطقة وفق المسارات والحسابات الجديدة.
ويبدو أن الهجمات الإسرائيلية المتكررة على القواعد الإيرانية في سورية تتكامل مع التوجه الأميركي الجديد.
وما يستشف من هذه المقدمات والمؤشرات والمتغيرات المتلاحقة، لا سيما في ضوء لقاءات بوتين مع كل من الأسد ومركل، هو أن الدور الإيراني في سورية سيتضاءل إلى حدٍ كبير، مقابل بروز أقوى للدور الروسي، ولكن من دون أن يُعطى الأخير الكلمة الفصل في الشأن السوري. فالوجود الأميركي– الغربي سيبقى إلى أمدٍ أطول. وستكون هناك ترتيبات جديدة مع تركيا، تأخذ هواجسها في الاعتبار، مقابل إعطاء مساحة أكبر للدور العربي ربما في مناطق الرقة ودير الزور والجنوب السوري. وبطبيعة الحال، لن تكون إسرائيل بعيدة من هذه التفاهمات، خصوصا تلك التي ستكون في الجنوب.
ولكن ماذا عن مستقبل السوريين الذين يدعي الجميع حرصهم عليهم، ورفضهم لأي تقسيم يطاول بلدهم ومجتمعهم؟
وضعية مناطق النفوذ الحالية ستستمر على الأغلب. وليس من المستبعد أن يستخدم نظام بشار الأسد واجهة من أجل إضفاء بعض الشرعنة على الجهود الخارجية الرامية إلى تحجيم الدور الإيراني. ولكن على المدى البعيد سيكون من المستحيل لمثل هذا النظام أن يكون عامل توحيد للبلد، حتى ولو في حدوده الدنيا، وذلك ضمن نظام فيديرالي أو حتى كونفيديرالي.
وهذا مؤداه على الأرجح أحد أمرين: إما التخلص من بشار، والمحافظة على صيغة من صيغ الوحدة السورية، وبتوافق دولي إقليمي بطبيعة الحال. أو أن تستمر الصيغة الحالية، صيغة مناطق النفوذ، التي ستكون على الأرجح مقدمة لتقسيم فعلي، ليس بالضرورة أن يُشرعن دوليا، هذا إذا أخذنا النتائج المترتبة على مثل هذه الشرعنة في واقع المنطقة في الحسبان.
ولكن مع ذلك ففي أجواء التعقيدات والتفاعلات والتطورات السريعة التي نعيشها، تبقى كل الاحتمالات مادة صالحة للتفكير والمناقشة.
لم يسبق أن اتحد الغرب مع روسيا والصين وإيران ودول أخرى في قضية مثيرة للجدل كما يحدث اليوم في سعيهم الجماعي للحفاظ على بشار الأسد وحكم العائلة العلوية في سوريا. وقد سمح الغرب للسنة السابعة على التوالي، أو تغاضى بطريقة أو بأخرى، عن سياسات القتل الجماعي، والتعذيب حتى الموت، والقصف العشوائي بالبراميل المتفجرة والأسلحة الكيماوية، وسياسة الحصار والتجويع والتهجير الجماعي، المصنفة تحت بند الإبادة الجماعية، ولم يتخذ أية أجراءات جادة لوقف هذا الجنون الدموي، على الرغم من مواقف الشجب والإدانة المتكررة، والتي تصل أحيانا إلى التهديد والوعيد، لكنها من الناحية العملية فشلت في منع أي من ممارسات النظام ووضع حد لها.
بالمقابل فإن كواليس الدبلوماسية الغربية لم تخف رفضها لفكرة تغيير النظام، بخلاف الكثير من الصريحات والمواقف المعلنة، وأيدت فكرة إدخال تعديلات (ما) على بنيته المؤسسية، وعقدت لأجل ذلك العديد من المؤتمرات، لكنها في كل ذلك لم تمارس أي ضغط حقيقي للوصول إلى نتائج ملموسة. ويحاول الغرب تبرير تمسكه الشديد بنظام بشار الأسد والمحافظة على استمراره، بذريعة مكافحة الإرهاب، وغياب البديل المناسب للنظام، ولا تبدو هذه الذرائع مقنعة وصادقة، في ظل الكلفة الباهظة الناجمة عن استمرار الصراع تبدو هذه المواقف الغربية مثيرة للاستغراب.
وفي ظل هذه المواقف والسياسات غير الحاسمة، يرى عدد من المحللين أن استمرار الصراع لهذه المدة الطويلة، يبدو وكأنه يلبي رغبة ضمنية لدى القوى الدولية، بل إن بعض هذه القوى يقدم الدعم الفعلي الذي يضمن استمرار النظام، كما هو الحال بالنسبة لروسيا وإيران، ودول أخرى تقدم دعما غير معلن، دون اعتبار يذكر لحجم الخسائر والضحايا الذين لا زالوا يتساقطون يوميا.
وبالنسبة للسوررين وأمام عجزهم عن تغيير النظام كخطوة مهمة على طريق تحقيق أهدافهم، وفشلهم في إقناع الغرب برفع الغطاء الدولي عنه، وإتاحة الفرصة أمامهم لتقرير مصيرهم، فهم يجدون أنفسهم أمام طريق مسدود، وحالة مستعصية، لا خيار فيها سوى القبول والتسليم بـ"الأمر الواقع"، أو ما يُطلق عليه تلطيفا ودبلوماسية "الحل السياسي"، وإذ لم تتبلور بعد أية ملامح واضحة لمثل هذا الحل، فإن الحقيقة الوحيدة الملموسة بالنسبة لملايين السوريين، هي استمرار المأساة حتى إشعار آخر.
يذكر أنه في سياق البحث عن "الحل السياسي"، بناء على فكرة "الأمر الواقع"، اقترحت مؤسسة "راند" منذ عام 2015 خطة قدمتها في ثلاثة أجزاء، تقوم على "إنهاء الجدل حول مسألة بقاء الأسد أو ذهابه في المدى القريب"، وأن البحث في "الفوائد المترتبة على إسقاط الأسد تستحق هذه التضحيات البشرية والتكاليف الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية لتحقيق هذا الهدف، قد انتهى وقته منذ أمد بعيد"، وأنه "ينبغي أن ينظر إلى هذه المسألة من "منطلق النفعية البحتة"، والتي تعني هنا "الوقف السريع للقتال"، ثم البحث بعد ذلك فيما يمكن فعله. و تأسيسا على هذه الفكرة قدم الباحثون في مؤسسة "راند" (جيمس دوبينز، وفيليب غوردن، وجيفري مارتيني) خطتهم التي تتضمن ترتيبات وأفكارأ يمكن أن تقود إلى مسارات السلام الممكنة. وإذ يدرك الباحثون صعوبة الموافقة على هذا الأسلوب في الحل، فإنهم يصرون على كونه "الأكثر واقعية"، وأن تحقيقه أفضل بكثير من "البديل الرئيسي" المتاح، وهو الاستمرار في الصراع إلى أجل غير مسمى، أو التصعيد لحرب مدمرة.
وبعد مرور ثلاث سنوات على عرض فكرة "راند" لأول مرة، وعلى الرغم من التحولات الكبيرة التي طرأت على مسارات الصراع، فلا زال من غير الواضح ما إذا أصبحنا اليوم على عتبة الحل المنشود أم أن الوقت لا زال مبكرا على ذلك. والحقيقة الوحيدة التي يمكن التأكد منها، هي أن مستقبل السوريين لا زال مفتوحا على المزيد من القتل والدمار ومضاعفة أعداد الضحايا، قبل الوصول إلى الحل المنشود، وفي ظل التراجع الكبير للمعارضة، وقد أصبحت عمليا خارج دائرة الفعل، وتحت سيطرة وتحكم القوى الكبرى، من الناحية المادية على الأقل، لا يبقى من سبب ظاهر لاستمرار المأساة السورية سوى تقاعس المجتمع الدولي وعدم رغبته ببذل جهود حقيقية للوصول إلى حل "الأمر الواقع" الذي بات مفروضا على الجميع.
تثير العقوبات التي أعاد الرئيس الأميركي دونالد ترامب فرضها على إيران سؤالين على قدر عظيم من الأهمية وليس لهما إجابات مقنعة. فأولاً؛ هل سيجعل هذا التصرف العالَم مكانا أكثر أمانا -كما يزعم ترامب- أم إنه سيزيد زعزعة الاستقرار بالشرق الأوسط، ويقوض أي جهود تبذل مستقبلا للحد من انتشار الأسلحة النووية، كما يزعم أغلب الخبراء الجيوسياسيين الذين لا توظفهم مباشرة أميركا أو إسرائيل أو السعودية؟
وثانيا؛ هل ستكون الجهود الأميركية لإرغام الشركات الأجنبية على احترام العقوبات التي تفرضها واشنطن على إيران شرسة بقدر خطاب ترامب المولع بالقتال؟
بطبيعة الحال؛ ربما يتبين أن العقوبات ضد إيران مجرد بادرة فارغة. فعلى حد تعبير سفير صيني سابق بإيران: "من الواضح أن دبلوماسية ترامب طوال أكثر من عام (بدءا من اتفاقية التجارة الحرة لأميركا الشمالية، واتفاق الشراكة التجارية عبر المحيط الهادئ، واتفاق باريسالمناخي، إلى القضية النووية بشبه الجزيرة الكورية، والحرب الأهلية السورية؛ ينطبق عليها المثل القائل: أسمع جعجعة ولا أرى طحنا".
ومع ذلك؛ يظل من المستحيل الإجابة عل السؤال بشأن الحرب والسلام؛ فبعد 15 عاما من الفوضى بالشرق الأوسط التي أطلقتها حرب العراق (غزو العراق) 2003، استوعب العالَمُ درسا واحدا لا جدال فيه: لا أحد بالبيت الأبيض، أو وكالة الاستخبارات المركزية، أو الموساد، أو أجهزة الاستخبارات السعودية، لديه أدنى فكرة عما قد يحدث في المنطقة الآن.
من الصعب أيضا الإجابة على السؤال التجاري، ولسبب أبسط: فلن يكون المدى الحقيقي لفرض العقوبات واضحا حتى المراحل الأخيرة من "فترة تخفيف النشاط" التي تمتد لستة أشهر، والتي تنص عليها الضوابط التنظيمية الأميركية الجديدة لتفكّ الشركات ارتباطها بإيران.
لكن في هذه المرحلة المبكرة من المواجهة بين الولايات المتحدة وإيران؛ ينشأ سؤال اقتصادي آخر أكثر أهمية: على أي نحو قد تؤثر العقوبات الأميركية على سعر النفط؟
للوهلة الأولى؛ تبدو الإجابة أوضح من أن نكلف أنفسنا عناء المناقشة: فمن المؤكد أن سعر النفط سيرتفع مع تسبب العقوبات في الحد من إنتاج إيران وصادراتها من النفط، في حين يستعد البائعون لحرب محتملة، لكن الأسواق المالية لديها عادة مقلقة: فالتنبؤات التي يعتبرها المستثمرون واضحة تماما كثيرا ما يتبين أنها كانت مخطئة.
وقد يتبين أن التوقعات بشأن أسعار النفط حالة مماثلة، لعدة أسباب: فأولاً؛ أسعار النفط الآن أعلى بنحو 70% فعلا عن مستوياتها في الصيف الماضي، وكانت التوقعات بفرض عقوبات أميركية على إيران محركا مهما لهذه الزيادة. ويُعَد "الشراء عند الشائعة والبيع عند الخبر اليقين" من مبادئ المضاربة المالية الثابتة على مر الزمن.
وعمليات الشراء الأخيرة غير المسبوقة لعقود النفط من قِبَل مضاربين غير تجاريين في أسواق العقود الآجلة في نيويورك ولندن؛ تشير إلى أن العقوبات ربما تكون داخلة فعلا في حسبان السعر الحالي، حيث بلغ سعر البرميل من خام النفط برنت 78 دولارا.
لم يرتفع هذا السعر فوق مستوى السبعين دولارا قط منذ عام 2014، عندما أدى الارتفاع المفاجئ في إنتاج النفط الصخري في أميركا إلى انهيار أسعار النفط. ولا يزال التسليم الآجل للنفط لعام 2020 يكلف أقل من 70 دولارا، مما يخلق حالة غير عادية في الأسواق تسمى "السوق المقلوبة العميقة"، والتي لم تُر منذ خريف 2014، وكثيرا ما تفرض انخفاضا حادا في الأسعار.
إذا انتقلنا من ظروف المضاربة إلى أساسيات إنتاج النفط؛ فإننا نجد أنه ليس واضحا على الإطلاق ما إن كانت العقوبات قد تؤدي إلى تقليص صادرات إيران بالقدر الكافي للتأثير على التوازن العالمي للعرض والطلب.
فرغم تضاعف صادرات إيران تقريبا -بعد رفع العقوبات السابقة عام 2015- من 1.5 مليون برميل يوميا إلى نحو 2.5 مليون برميل حاليا؛ فإن أغلب هذا النفط كان يباع للصين والهند وتركيا، وجميعها من المرجح أنها ستتجاهل العقوبات الأميركية أو تتحايل عليها.
أما الجزء المعرَّض للخطر حقا من تجارة النفط الإيرانية فهو لا يتجاوز 750 ألف برميل، ترسل يوميا إلى الاتحاد الأوروبي وكوريا الجنوبيةواليابان، وقد وعد الاتحاد الأوروبي بحماية تجارته مع إيران.
ولكن حتى لو تعذر هذا إلى حد الاستحالة؛ فإن قدرا كبيرا من النفط الإيراني -الذي يتدفق الآن إلى أوروبا أو اليابان أو غير ذلك من حلفاء أميركا- سيجري تحويله دون أدنى شك إلى دول مثل الهند والصين، وهذا من شأنه أن يحرر المزيد من النفط السعودي أو العراقي أو الروسي الموجه إلى أوروبا واليابان.
وحقيقة أن تجار النفط يعيدون توجيه شحنات النفط على نحو مستمر حول العالَم تفسر لنا لماذا يتوقع أغلب المحللين أن تعمل العقوبات على خفض إمدادات النفط العالمية بما لا يتجاوز 500 ألف برميل يوميا.
والتحول بهذا الحجم سيكون أقل من انهيار صادرات النفط الفنزويلية بنحو 700 ألف برميل يوميا منذ العام الماضي، وأقل كثيرا من الزيادة المتوقعة في الناتج اليومي الأميركي بنحو 1.1 مليون برميل على مدى الأشهر الاثني عشر المقبلة، ناهيك عن الانخفاض المحتمل في الطلب العالمي على النفط نتيجة للزيادة الحادة في الأسعار منذ الصيف الماضي.
وباختصار؛ من المتوقع أن يكون تأثير العقوبات المفروضة على إيران على التوازن العالمي بين العرض والطلب أقل من تأثير أداء الاقتصاد العالمي وسلوك بقية منتجي النفط.
ويشير هذا إلى سبب آخر ربما يجعل المواجهة بين أميركا وإيران تؤدي إلى انخفاض -وليس ارتفاع- أسعار النفط: فالآن أصبح الحافز السياسي لدى ترامب وحلفائه السعوديين قويا للغاية لمقاومة المزيد من الضغوط التي تدفع أسعار النفط إلى الارتفاع. فقد أهدرت تكاليف البنزين المتزايدة الارتفاع بالفعل ما يقارب نصف المكاسب الناجمة عن تخفيضات هذا العام الضريبية لصالح الأميركيين المنتمين إلى الطبقة المتوسطة.
وإذا ارتفعت أسعار النفط بشكل أكبر خلال "موسم القيادة" الصيفي الذي يبدأ في أميركا الآن تقريبا فسيلوم الناخبون ترامب، وقد يعاني الجمهوريون في انتخابات التجديد النصفي في الكونغرس، وخاصة في ولايات الغرب الأوسط المـرُجِّحة.
على افتراض أن ترامب يجد من المناسب سياسيا الحد من ارتفاع أسعار النفط؛ فمن المتوقع أن تقدم له القيادة السعودية أي قدر يطلبه من الدعم. ومن ناحية أخرى؛ ربما تتحول إيران وروسيا -اللتان كانتا سابقا أقل تشددا من السعودية بشأن تسعير منظمة الأوبك- إلى تأييد فرض قيود أكثر صرامة على العرض، خاصة أن أي ارتفاع حادّ في أسعار النفط ربما يؤدي إلى ردة فعل عقابية ضد ترامب.
تشير تجارب سابقة مشابهة إلى أن الغَلَبة -على الأقل في الأمد القريب- تكون على الأرجح لمصالح أميركا والسعودية السياسية؛ فذلك ما كان صحيحا بكل تأكيد بعد حربين في العراق.
فقد هبطت أسعار النفط عام 1991 (حرب الخليج الثانية) بنحو 45%، وبنحو 35% عام 2003 (غزو العراق)، في غضون شهر واحد من شن أميركا لهجماتها. ربما يبدو الانخفاض إلى هذا المستوى أمرا غير متصور اليوم، لكن أسعار النفط من المرجح أن تتجه إلى الهبوط، رغم العقوبات المفروضة على إيران أو ربما بسببها.
أدرج وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو خروج إيران من سوريا في خانة الشروط المطلوب من طهران تنفيذها في حال تريد إقامة علاقات طبيعية مع المجتمع الدولي وعلى رأسه الولايات المتحدة. جاءت كل الشروط التي وضعها بومبيو في سياق تحديد الإستراتيجية الأميركية الجديدة في المواجهة مع إيران، في ضوء قرار الرئيس دونالد ترامب القاضي بالانسحاب من الاتفاق في شأن الملف النووي الإيراني الموقع صيف العام 2015.
سمح الاتفاق لإيران في الحصول على ما يكفي من المال الذي أغدقته عليها إدارة الرئيس السابق باراك أوباما كي تتابع تنفيذ مشروعها التوسّعي القائم على الاستثمار في إثارة الغرائز المذهبية في المنطقة العربية كلها، فضلا بالطبع عن المتاجرة بالقضيّة الفلسطينية والفلسطينيين، والتشجيع على إنشاء ميليشيات مذهبية تكون ذراعا لها في هذا البلد العربي أو ذاك.
يتبيّن من خلال قراءة سريعة لكلام وزير الخارجية الأميركي أن هناك وعيا حقيقيا لخطورة المشروع الإيراني وأدواته. أشار بومبيو صراحة إلى “حزب الله” وإلى الحوثيين الذين يطلقون صواريخ باليستية إيرانية في اتجـاه الأراضي السعودية انطلاقا من اليمن. أشار أيضا إلى الوضع الداخلي الإيراني، وإلى توق الشباب في هذا البلد ذي الحضارة القديمة إلى الانتماء إلى ما هو عصري في هذا العالم، أي إلى ثقافة الحياة التي يكرهها النظام الإيراني وكلّ الذين يسيرون في ركابه. انطوى كلام بومبيو على دعوة مباشرة إلى تغيير النظام في إيران.
يظلّ أهم ما في كلام وزير الخارجية الأميركي شرط الانسحاب الإيراني من سوريا. هل في استطاعة النظام إيران الانسحاب من سوريا من دون أن ينسحب من طهران. سيكون ذلك صعبا عليه لأسباب عدّة. من بين هذه الأسباب حجم الاستثمار الإيراني في سوريا وفي المحافظة على رأس النظام المتمثل ببشّار الأسد. باعتراف المسؤولين الإيرانيين أنفسهم، صرفت إيران في سوريا منذ اندلاع الثورة الشعبية في العام 2011 ما يزيد على خمسة وعشرين مليار دولار. دافعت إيران عن بقاء بشّار الأسد في دمشق. جندت مئات الخبراء العسكريين وعناصر “الحرس الثوري” وآلاف من عناصر “حزب الله” و“الحشد الشعبي” في العراق والميليشيات الأفغانية في حربها على الشعب السوري. فعلت كلّ ذلك من منطلق مذهبي ليس إلا، وتحت شعارات طائفية من نوع الدفاع عن مقام السيّدة زينب ومقامات أخرى وما شابه ذلك.
كانت النتيجة فشلا إيرانيا ذريعا على كل صعيد والتضحية بمئات الشبان اللبنانيين الذين جندهم “حزب الله” وأرسلهم إلى سوريا. فوق ذلك كله، لم تستطع إيران إبقاء بشّار في دمشق لولا استعانتها بروسيا التي باشرت التدخّل المباشر في الحرب التي يشنها النظام السوري على مواطنيه منذ أواخر أيلول – سبتمبر 2015. لولا سلاح الجوّ الروسي، لكان بشار خارج دمشق منذ فترة طويلة، ولكان الساحل السوري كلّه في يد المعارضة.
تكمن مشكلة إيران في أنّها ترفض دفع ثمن سياسة عاجزة عن متابعتها بمفردها، خصوصا في سوريا. لم تأخذ في الاعتبار أنّه سيأتي يوم يتغيّر فيه باراك أوباما ويأتي دونالد ترامب الذي يعرف الذين يصيغون خطاباته ماذا فعل النظام الإيراني بالإيرانيين أوّلا، وما ارتكبه من جرائم في حق الولايات المتحدة. ليس صدفة استعادة الرئيس الأميركي، بين وقت وآخر، احتجاز دبلوماسيي السفارة الأميركية في طهران 444 يوما في العامين 1979 و1980، وتفجير مقر المارينز قرب مطار بيروت في الثالث والعشرين من تشرين الأول – أكتوبر 1983، وخطف أميركيين في لبنان في ثمانينات القرن الماضي. هذا غيض من فيض ما لدى الإدارة الأميركية من مآخذ على إيران التي لم تدرك أن وقت الحساب جاء.
هناك واقع يتمثل في حلول وقت الحساب. تحاول إيران الإفلات من هذا الواقع، بما في ذلك التحالف الأقوى في المنطقة القائم بين روسيا وإسرائيل. هذا تحالف لم تعد من حاجة إلى تأكيد متانته بعد حلول بنيامين نتانياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلي، ضيف شرف على روسيا في ذكـرى احتفالها بالانتصار على النازية. هنـاك ما يزيد على مليون روسي صاروا مواطنين في إسرائيل. ما زال المسؤولون في موسكو يسمون هؤلاء “مواطنين في إسرائيل”. ينتمي الروس الذين انتقلوا إلى إسرائيل، على دفعات، منذ منتصف ثمانينات القرن الماضي إلى الأحزاب اليمينية التي تشكل العمود الفقري للحكومة الإسرائيلية الحالية.
عندما يُبلغُ فلاديمير بوتين بشّار الأسد أنّه بات على القوات الأجنبية، بما في ذلك الخبراء والمستشارون الإيرانيون وعناصر التابعة لـ“حزب الله” ولغيره من الميليشيات المذهبية، الانسحاب من الأراضي السورية، يُفترض في طهران فهم معنى الرسالة والاستيعاب التام للمعطيات الجديدة التي تفرض عليها تغيير نمط سلوكها.
إنّ دعوة روسيا إيران إلى الانسحاب من سوريا أكثر من جدّية. جاء وزير الخارجية الأميركي ليؤكّد ذلك وليؤكد خصوصا أنّ الضربات “المجهولة” المصدر التي تتلقاها المواقع الإيرانية في سوريا لن تتوقف غدا. تمثل هذه الضربات ما يمكن تسميته، باللغة المتداولة في الأوساط الرسمية السورية “التعليمات التنفيذية”. تعني هذه “التعليمات” أنه آن أوان تنفيذ ما تقرّر على أعلى مستويات. فالقانون والمرسوم والقرار الرئاسي في سوريا يبقى حبرا على ورق في المجال الداخلي إلى أن تأتي “التعليمات التنفيذية”. وفي ما يخص الموضوع السوري، صدرت “التعليمات التنفيذية” من أعلى المستويات، أي من التفاهم الأميركي – الروسي الذي يشمل إسرائيل التي انتقلت إلى مرحلة لم يعد فيها مجال لقبول الوجود العسكري الإيراني المباشر أو غير المباشر في الأراضي السورية، خصوصا في الجنوب السوري.
هل تستطيع إيران التكيّف مع هذا الواقع الجديد المتمثّل في صدور “التعليمات التنفيذية” من دون الذهاب إلى تفجير الوضع في المنطقة كلّها، على الرغم من أن ذلك مجازفة كبيرة بالنسبة إليها، خصوصا إذا طلبت من “حزب الله” إعادة فتح جبهة جنوب لبنان؟
الأكيد أن إيران تزن هذه الأيام الموقف وما سيكلفها الانسحاب من سوريا أو قرار البقاء فيها. الأكيد أن في ذهن كلّ مسؤول إيراني أن الانسحاب السوري من لبنان في نيسان – أبريل 2005، أدى إلى خروج النظام من دمشق، حتّى لو بقي بشار فيها شكليا. ترجمة هذا الكلام على أرض الواقع أن البقاء في سوريا مجازفة والانسحاب مجازفة. على أي مجازفة من المجازفتين ستقدم إيران بعدما وضعت نفسها في موقف لا تحسد عليه؟ من أبرز ما تنطوي عليه أي مجازفة إيرانية، في أي اتجاه كان، مستقبل النظام الذي بنى كلّ قوته على الهرب المستمر إلى خارج الأرض الإيرانية.
هناك جديد في الأزمة السورية يؤكّد أن تفاهمات الولايات المتحدة وروسيا لم تسقط، وأهمها العمل على حلّ سياسي يتأسس على دستور جديد وانتخابات في السنة 2021. وما الغياب الأميركي عن اجتماع «آستانة 9» سوى مؤشّر آخر الى أن واشنطن موافقة على النهج الروسي في إنهاء الحرب، ولم تعد معنيّة بما يجري طالما أن موسكو تراعي الشروط التي حدّدتها سابقاً، ومنها أن لا تكون إيران جزءاً من الحل وأن يقلّص الدستور المقبل صلاحيات الرئيس وأن تُجرى الانتخابات بإشراف دولي صارم وفي ظروف مواتية. هذا لا يستبعد الصعوبات في المرحلة «الانتقالية»، إذ سيبقى بشار الأسد خلالها ممارساً صلاحياته المطلقة، وسيواصل حليفه الإيراني تحريضه على عدم المضيّ الى حلٍّ سياسي حتى في صيغته الروسية.
بدأ موفدون أميركيون الى شمال سورية الدراسات الميدانية تحضيراً لانسحاب يقولون إنه يجب أن يتم بحلول تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل، وهو موعد يكسب في واشنطن وموسكو أهمية خاصة، إذ يفترض فريق دونالد ترامب أن الشهور الستة المقبلة ستكون حاسمة في تحرير الرئيس نهائياً من الاشتباه بتعاونه مع التدخّل الروسي في الانتخابات الرئاسية، وبالتالي فإن هذا المُعطى سينعكس إيجاباً على مرشحي الحزب الجمهوري في انتخابات التجديد النصفي لأعضاء الكونغرس. بموازاة ذلك، ستتضح أكثر نتائج القمة الأميركية - الكورية الشمالية وما إذا كانت توصّلت الى إزالة أي تهديدات نووية مستقبلية، وستكون العقوبات المجدَّدة على إيران بلغت ذروتها في التشدّد إذا لم تقدّم طهران تنازلات قبل ذلك. في المقابل، يأمل الروس أن يكون مناخ «ما بعد نوفمبر» مناسباً لمعاودة الحوار والتعاون ولإنهاء شبه القطيعة الحالية بين الدولتَين. وبالتزامن مع هذا الموعد، يُفترض أن تكون مفاعيل الانتخابات الأخيرة في العراق اتّضحت في تشكيل حكومة جديدة غير خاضعة لطهران، وأن يكون الضغط الميداني على الحوثيين قد أنضج وضعاً مناسباً لطرح تسوية سياسية في اليمن، وأن تكون الضربات الإسرائيلية المتلاحقة (بموافقة روسية) قد فرضت على الإيرانيين وأتباعهم خيارات أخرى في سورية.
في هذا السياق، جرى لقاء فلاديمير بوتين مع الأسد لوضع خريطة الطريق الجديدة أمام رأس النظام، وإبلاغه أن الأمر من الآن فصاعداً سيكون لموسكو. فلا الأميركيون ولا الأوروبيون، ولا العرب أو الأتراك، يعترضون على ذلك، لكنهم يدعمون الدور الروسي في سورية بشروط حان الوقت لإيفائها «بعد الانتصارات المهمة التي تمّ تحقيقها». وأبرز تلك الشروط أن الدور الروسي لن يكون مقبولاً في حالات ثلاث: 1) إذا ساهم في تثبيت الوجود الإيراني في سورية، و 2) إذا لم يدفع النظام الى تفاوضٍ جدّي على الحلّ، و3) إذا لم يكن هناك حلّ سياسي حقيقي فلن تكون هناك أي مساهمة دولية في عملية إعادة الإعمار... عاد الأسد من سوتشي مكبّلاً بخيار صعب كان يعرف أنه سيواجهه يوماً لكنه لم يظنّه وشيكاً: التحالف مع إيران لم يعد متاحاً. وبسرعة البرق انعكس هذا التوجّه على أوساط النظام بمقدار ما كان ظهور الشرطة الروسية ازداد كثافةً في شوارع دمشق، وحتى في أوساط الإيرانيين وأتباعهم الذين تابعوا سلسلة إعادات الانتشار التي باشروا بها لقواتهم بل نُقل عن مصادر أنهم أقفلوا «حوزات» عدة في ريفَي اللاذقية وطرطوس. ولم يعد صعباً استشعار انتعاش الأجنحة العسكرية العاملة مع الروس في مقابل إحباط انتاب الأجنحة المتعاونة مع الإيرانيين ولا سيما الاستخبارات الجوية، فضلاً عن الميليشيات التي أنشأوها ولا تزال مرتبطة بهم.
لكن روسيا استخدمت كل إمكاناتها وابتزازاتها للدول المعنيّة وكل وحشيتها العسكرية ضد المعارضة وفصائلها المقاتلة لتعدّل أحد تلك الشروط، وأهمّها بالمنظور المستقبلي، وهو الحلّ السياسي شكلاً ومضموناً. لذلك، لم يعد مستغرباً أن يُسمع في اللقاءات الدولية من يقول لوفود «الهيئة العليا للمفاوضات» و «الائتلاف» إن على المعارضة أن تنسى «بيان جنيف» و «مفاوضات جنيف» وأخيراً بات يقال أيضاً للمعارضة «انسوا القرار 2254» فهو مجرد ورقة يمكن الاسترشاد بها عند الاقتضاء. وليس في ذلك جديد مفاجئ، فهذا كان فحوى اجتماع بين الوزير الأميركي السابق جون كيري مع المنسق السابق لهيئة المفاوضات رياض حجاب في العام 2016. وهذا أيضاً ما أبلغه المبعوث الأميركي الخاص مايكل راتني لاحقاً الى المعارضة عندما قال بوضوح إن «هيئة الحكم الانتقالي» (كما وردت في «بيان جنيف» وفي القرارين 2118 و2254) «ليست عملية ولا قابلة للاستمرار». وإذا كان مفهوماً أن تتمسك المعارضة بالقرارات الدولية، كونها ترجمت الاعتراف الدولي بها وبشرعية طموحاتها، إلا أن هذا الاعتراف ظلّ شكلياً ولم يمنع الدول المصنِّفة نفسَها «أصدقاء سورية» من أن تتخفّف من الشروط بغية تسهيل الآليات التي تطرحها روسيا وتصرّ عليها بكثير من الصلف والعناد.
الواضح في كلام بوتين للأسد أمران. الأول، أن ما تحقق عسكرياً كافٍ للبدء بـ «محادثات السلام سواء في آستانة أو في سوتشي». والآخر، أنه «مع بدء المرحلة النشطة من العملية السياسية ستنسحب القوات الأجنبية من الأراضي السورية». لم يشر الى جنيف، أما بالنسبة الى القوات الأجنبية المعنية فتولّى المبعوث الخاص ألكسندر لافرنتييف التوضيح أنها «الأميركية والتركية والإيرانية وميليشيا حزب الله». كان بوتين نفسه مَن دافع في مؤتمر صحافي عن وجود الإيرانيين بأنه مماثل للوجود الروسي بكونه تمّ بدعوة من نظام الأسد. لكن تشديده على الانسحابات ربما يشير الى «حماية» العملية السياسية من جهة، فيما يؤكّد من جهة أخرى ضرورة «إنعاش الاقتصاد» و «تقديم المساعدات الإنسانية»، أي أنه يقدّم روسيا كضامنة ومسؤولة عن «الاستقرار» في سورية.
ثمة طموح متضخّم في كلام الرئيس الروسي، وملمح «مسؤولية» لم يتبلور في السلوك الروسي طوال الأعوام الثمانية للأزمة. لذا فمن الطبيعي أن تدفع الشكوك المتراكمة الى طرح تساؤلات أولها وأهمها: هل بات بوتين مهتمّاً فعلاً بإنجاز حلٍّ في سورية، وهل تخلّى عن رهن هذا الحل بمساومات مع الأميركيين والأوروبيين على مصالح روسية خارج سورية، وهل نسيت الخارجية الروسية تصريحات للناطقة باسمها (خلال أزمة إيصال مساعدات إنسانية الى حلب) حين استبعدت أي تنسيق مع أميركا ما لم تُرفع العقوبات عن روسيا بسبب أزمة اوكرانيا؟ على رغم كل المآخذ، كان السؤال دائماً هل ستتصرّف روسيا بحسّ المسؤولية المفترض في دولة كبرى، ومتى ستفعل؟ لا شك في أن انسحاب القوات الأجنبية يضاعف مسؤوليتها ويستدعي ما لم يظهر أبداً منذ تدخلها المباشر، وهو الحكمة والعقلانية.
كان هناك دائماً مقدار كبير من الخفّة في التجاهل الروسي للمعارضة، فهذه ليست مثالية ولا كاملة الأوصاف لكن تجاهلها كان ولا يزال يُبطن تجاهلاً للشعب السوري، ومن شأنه إذا استمر خلال العمل على الحل السياسي أن يفجّر الوضع بين أيدي الروس، خصوصاً أن العودة الى الانتفاضة السلمية غير المعسكرة خيار موجود لدى المجتمع المدني السوري، تحديداً خلال ما يسمّيه بوتين «المرحلة النشطة» من العملية السياسية التي بات يقال الآن إنها «تبدأ مع الأسد ولا تنتهي به أو معه». الأسوأ في السلوك الروسي، وليس واضحاً أن موسكو تدركه وتريد تصحيحه، أنه لم يعترف يوماً بطموحات الشعب السوري وحقوقه، ولم يعترف استطراداً بأي معارضة، وهذا مطابق تماماً لتعامل بوتين مع معارضيه. لم يكن التوجّه الروسي مركّزاً فقط على أولوية هزم الفصائل المعارضة المقاتلة (قبل هزم «داعش») عسكرياً وتهجير سكان المناطق التي تسيطر عليها، بل اهتمّت أيضاً بكسر المعارضة السياسية وعاملتها باعتبارها عنصراً لم يكن له أن يوجد، حتى أن الوزير سيرغي لافروف انبرى أكثر من مرّة الى مهاجمة المعارضة السورية بلهجة غير مبررة ولا متناسبة مع مواقفها وضبطها للنفس إزاء كل الفظائع التي ارتكبتها روسيا. فهل تبقى هذه العقلية العدائية متحكمّة بالروس في إدارتهم الحل، وكيف ستتصرّف المعارضة بعدما أبلغها «الأصدقاء» أن مع «العملية السياسية الروسية» غدت اللعبة الوحيدة في المدينة.