الهجرة بالنسبة للسوري ليست بالأمر الجديد، فهناك أعداد كبيرة منهم موجودة في أعداد غير محدودة من دول العالم في كافة القارات منذ زمن غير بسيط؛ يعملون في مجالات التجارة والصناعة بنجاح واضح. ولكن ما حصل في آخر ثماني سنوات منذ اندلاع أحداث الثورة السورية بوجه نظام الأسد الطاغية، ومئات الآلاف من الشعب السوري خرجوا إلى بلاد العالم ما بين مهاجر ولاجئ، كل الدول التي استقبلتهم وصل إليها السوري الذي فر بحياته لينجو من الهلاك والموت على أيدي أسوأ نظام عرفته البشرية في الزمن الحالي.
ما حصل بعد ذلك كان تحولاً لافتاً ومهماً؛ فبالإضافة إلى قصص المآسي والكوارث الإنسانية التي تدمع العين، وينفطر لها القلب، هناك قصص نجاح أقل ما يقال عنها إنها مبهرة وباعثة للأمل لآلاف السوريين حول العالم، الذين تمكنوا من تحويل الحزن واليأس إلى أمل، والتغلب على ظروف القهر بالجدية والعمل، لينسجوا قصصاً رائعة من التفوق والتميز في كل المجالات من الصناعة للفنون، ومن الطهي إلى الأدب، ومن التجارة إلى الغناء، وكافة أشكال التميز.
لقد أصبح السوري اليوم في دول مثل مصر والسودان والأردن وألمانيا والسويد وتركيا وكندا واليونان وغيرها من الدول، مضرباً للمثل في الأمانة والجودة والخدمة والالتزام، دون أن يكون «عالة» على المجتمع الموجود فيه. إنه الضعف الذي يُولد القوة، والحياة التي تخرج من رحم الموت، والأمل الذي يأتي بعد اليأس.
هناك جيل سوري جديد يتكون في المهجر، يكوِّن قيماً ومعاني وأهدافاً فيها اعتماد على النفس نتاج تجربة قاسية ومريرة وصعبة، وهذا الجيل تحرر من قيود الخوف والذعر والقلق والتخوين التي كانت تهيمن على أفكاره تحت مظلة حكم الأسد المرعب... هذا الجيل الذي يتسلح بالعلم والمعلومات والاطلاع، واتساع الآفاق، وزيادة الاحتكاك والتجربة، لم يعد هو نفسه الذي خرج من سوريا وهو في حالة رعب وخوف غير عادي. هذا الجيل الكبير عدداً وحجماً وروحاً قادر على التغيير في سوريا، وهو تماماً مثل الذي حصل مع الصينيين والهنود والأرمن في المهجر؛ إذ تمكن جميعهم من تغيير أنظمة وقوانين وأساليب الحياة في بلادهم، وكشف الممارسات المريبة والخاطئة التي كانت تتم في السابق.
الوجود العددي الكثيف للهجرة السورية تحوَّل في الكثير من الحالات إلى عامل ذي قيمة مضافة اقتصادية، لا يمكن الإقلال منها، ولا الاستخفاف بها، وبالتالي بالتدريج تحول إلى قوة «ناعمة» مؤثرة (الأردن، والسودان، ومصر، وتركيا كنماذج) تحتسب على الاقتصاد الكلي وتكملة في هذه الدول وغيرها.
قد يكون ضرباً من الخيال وحتى الجنون أن نرى في القبح جمالاً، وبالتالي نرى الإيجابية التي من الممكن أن تنتج من وضع السوريين في المهجر، ولكن دورات التاريخ والعبر المستنتجة منه تعلمنا ذلك، ولا بد من الاتعاظ بها ومنها.
الجينات السورية قوية، وهي مبرمجة سلفاً على البقاء والنجاح في وجه كافة أنواع المخاطر مهما صعبت، ولذلك رهاني على السوري في المهجر ليكون أهم وسائل التغيير في بلاده.
قد لا يحتاج إلى تأكيد قول إن إيران تواجه تحديات حقيقية ومباشرة في سوريا لم تواجهها من قبل أبداً. وأساس التحديات يتمثل في التطورات السياسية والميدانية الحاصلة في سوريا، والتي غيّرت علاقات القوى من جهة، وفرضت وقائع جديدة من جهة أخرى، يضاف إليها ما تشهده إيران من اختلاجات سياسية واقتصادية واجتماعية، ناتجة في الأهم من أسبابها عن تدخلات إيران وسياساتها الإقليمية، ولا سيما تدخلها العميق في سوريا، وما ترتب عليه من نتائج وتفاعلات في الداخل الإيراني.
وتنتظم التحديات الإيرانية، ضمن ثلاث دوائر، أولاها تتعلق بحلفاء إيران وأصدقائها، والإشارة الأهم في هذا السياق ما يظهر من حساسيات العلاقة بين طهران وموسكو، وقد تكرست في تفاوت مواقف الطرفين واختلافهما مرات حول سياسات ومواقف إيران وطبيعتها في السنوات الأخيرة، قبل أن تتصاعد تلك الحساسية من خلال إعلان روسيا ضرورة مغادرة إيران وميليشياتها سوريا مع بقية القوى الأجنبية المسلحة الأخرى للمساعدة في حل القضية السورية، وهو إعلان ما كان لإيران أن تسكت عنه، فقامت بالرد عليه علانية، وأكدت أن وجودها في سوريا مستند إلى طلب رسمي من حكومة الأسد، مما يعني أن وجودها يماثل في مشروعيته الوجود الروسي، مما يوضح موقف طهران دون أن يذهب إلى التصعيد مع موسكو في ملف مرشح لأن يشهد تطورات، قد تكون أكثر أهمية وخلافاً في علاقات الحليفين.
والدائرة الثانية تتصل بالخلاف الإيراني - الإسرائيلي، حول انتشار إيران وميليشياتها في الجنوب السوري، ولا سيما اقترابها من خط وقف إطلاق النار بين سوريا وإسرائيل في مرتفعات الجولان السورية المحتلة، وهو ما تعارضه إسرائيل بصورة حاسمة، وبسببه تصادم الطرفان، ثم صعّدت إسرائيل من عملياتها ضد مواقع إيران وميليشياتها في سوريا، ومررت إيران الهجمات الإسرائيلية دون أن تعلن عن تغييرات جوهرية في سياساتها السورية.
ومما يزيد من أهمية هذه الدائرة في التحديات الإيرانية دخول الولايات المتحدة عليها من بوابة الانسحاب من الاتفاق النووي الإيراني، وشن حملات دبلوماسية وإعلامية ضد إيران وميليشياتها وتدخلاتها الإقليمية، وفرض عقوبات جديدة وأخرى على قيادات في «حزب الله» اللبناني ذراع طهران الأقوى، وجميعها سلوكيات تؤكد تناغماً أميركياً - إسرائيلياً من جهة، وتناغم واشنطن مع الأجواء الإقليمية الشرق أوسطية في مواجهة إيران وسياساتها في المنطقة من جهة ثانية، وكلها تقابَل بأقل قدر من الردود.
وتتصل الدائرة الثالثة من التحديات الإيرانية بانعكاسات سياسات طهران وتدخلاتها في سوريا، والتي كلفت الإيرانيين أكثر من ألفي قتيل من الحرس الثوري وحده، حسب المصادر الإيرانية، كما حمّلت الاقتصاد الإيراني من خلال المساعدات المقدّمة لنظام الأسد، وتكاليف الأنشطة العسكرية، ودعم الميليشيات التابعة لإيران، أعباء كان من نتائجها ارتفاع معدلات البطالة وتزايد الفقر، وانخفاض غير مسبوق في قيمة العملة الإيرانية مقابل الدولار بوصوله إلى قرابة 80 ريالاً، وهروب أكثر من 59 بليون دولار من العملات الصعبة في العامين الأخيرين وفق ما أعلن مركز بحوث تابع لمجلس الشورى، وكلها بين أسباب انتفاضة الإيرانيين في وجه حكم الملالي في ديسمبر (كانون الأول) ويناير (كانون الثاني) الماضيين، وسقط نتيجتها 25 قتيلاً، وفق أرقام رسمية، ولم يمنع قمع السلطات نهوض حركة احتجاج ومطالب جديدة، وقد سجل الأسبوع الأخير من مايو (أيار) الماضي، احتجاجات واسعة في 242 مدينة و31 محافظة، بلغ معدلها 69 تحركاً في اليوم، مما يؤشر إلى احتمال تجدد الانتفاضة الإيرانية في مواجهة النظام.
وسط حشد التحديات الخطرة، يبدو أن طهران اختارت اتباع سياسة تهدئة في معالجة ملفاتها، على نحو ما تعاملت مع سياسات ومواقف روسيا السورية، حتى لا تذهب إلى مواجهات معها، قد يكون من نتائجها توجه روسيا إلى إخراج إيران من المعادلة السورية، مما سيسبب كارثة استراتيجية لإيران، ويُخرجها من دائرة المكاسب المباشرة من إعادة إعمار سوريا، التي تراهن على المشاركة فيها باستعادة بعض ما دفعته هناك للحفاظ على نظام الأسد وحمايته، وتابعت طهران سياسة التهدئة في تصادمها مع إسرائيل في سوريا بالسكوت عن قصف مواقعها وحلفائها، وأخذت خطاً ليناً في التعامل مع الموقف الأميركي من إلغاء الاتفاق النووي، وتتابع جهودها مع الأوروبيين للحفاظ على دعمهم للاتفاق، إضافة إلى تخفيفها من ردّات فعلها على الحملات الدبلوماسية والإعلامية ضدها.
لعل التعبير الأوضح عن سياسة التهدئة الإيرانية في مواجهة التحديات، ما كرّسه المرشد الإيراني علي خامنئي عبر حدثين قام بهما قبل أيام، أولهما خبر اجتماعه ومساعديه في خطوة هي الأولى منذ عشر سنوات مع الرئيس الأسبق محمد خاتمي المحسوب على الإصلاحيين، حيث جرت مناقشة للأوضاع في ضوء ما يواجه البلاد من تحديات داخلية وخارجية. والآخر بث التلفزة الإيرانية لقطات من لقاء المرشد مع طلاب جامعيين خلال إفطار رمضاني في بيته، سمع منهم انتقادات عنيفة للنظام عن كبت الحريات العامة، وسوء إدارة البلاد والسلطة القضائية، وسياسة احتكار وسائل الإعلام.
إن سياسة التهدئة التي يسعى الإيرانيون إليها في التعامل مع التحديات المحيطة، يمكن أن تخفف الاحتدامات بصورة مؤقتة ومحدودة، لكنها لا تعالج التحديات القائمة، لأنها مرتبطة بطبيعة الدولة الإيرانية واستراتيجيتها القائمة على استخدام القوة والتمدد والسيطرة الإقليمية، وما لم تتغير طبيعة الدولة واستراتيجيتها، فلن تنجح سياسة التهدئة ولن تستمر، مما يعني سقوط إيران في الاختبار الذي تطرحه على نفسها.
السياسة الخارجية للإدارة الأمريكية أصبحت متسقة التوجه بانسجام أفكار الرئيس مع وزير خارجيته ومستشاره للأمن القومي.. إنه انسجام الصقور، بدلاً مما كان عليه الوضع السابق من اختلاف التوجهات بين الرئيس ووزير الخارجية السابق. الآن أصبح أسلوب ترامب واضحاً في إدارة العلاقات الخارجية.. فما هو؟
هذا الأسلوب لن يكون على الطريقة السياسية الأمريكية المعهودة للصقور من الجمهوريين كما يتوقع كثيرون، فعندما نتحدث عن الرئيس ترامب فإننا نتحدث عن رجل قادم من خارج المؤسسات السياسية الأمريكية وتقاليدها المعروفة في الحزب الجمهوري أو الديمقراطي، إنه رجل أعمال من نوعية خاصة يجيد إدارة الصفقات التجارية، كما يقول عن نفسه إنه نجح في كل صفقة دخل فيها، ولم يفشل أبدا. فما هي الطريقة التي يعمل بها؟
سنرى بالأمثلة القادمة عن مواقف الخارجية الأمريكية بإدارة ترامب أنها تعمل بآلية الصفقات «الصفرية» مع فتح منفذ مغري للآخر كي يقبل الصفقة: حيث تعلن أقصى درجات المواجهة في التفاوض، ولكنها بنفس الوقت تفتح باباً لمكافأة مجزية للآخر إذا قدم تنازلات تحقق أهم المطالب الأمريكية، وليس شرطاً كلها. هذه الطريقة التفاوضية تتوعد بأقسى التهديدات بما لم يسبق للصقور أن هددوا به، لكن بنفس الوقت تمنح مكافآت هي الأوسع بما لم يسبق للحمائم أن قدموه.. إنه أسلوب مختلف عن كافة الإدارات الأمريكية السابقة من صقور وحمائم..
فمع كوريا الشمالية، رغم ما قيل من انتقادات لأسلوب ترامب الصدامي معها التي قد تقود العالم لحرب نووية.. فبعد أقصى درجات التهديد لكن مع طمأنة الزعيم الكوري الشمالي بأن تقبله المطالب الأمريكية بنزع السلاح النووي سيجلب لبلاده رخاءً وأمناً، فضلا عن تأكيد بقاء النظام. هذه الطريقة أثمرت حتى الآن، ونتج عنها أن دمرت كوريا الشمالية موقع التجارب النووية تحت الأرض، وأطلقت سراح ثلاثة سجناء أمريكيين، وعقدت قمتين إيجابيتين مع الرئيس الكوري الجنوبي والتوقف عن تهديداتها، ودعت وزير الخارجية الأمريكي لزيارتها، مع تهيئة الفرص لإجراء المزيد من الإصلاحات. وأخيراً، ثمة تجهيز للقاء قريب لقمة تاريخية تجمع الرئيسين الأمريكي والكوري الشمالي في سنغافورة.
وحتى تجارياً مع الصين، بعدما أطلق ترامب مطالبه القاسية وكادت توصل لحرب تجارية تهدد الاقتصاد العالمي، انتهت بالتوصل لاتفاقات بين واشنطن وبكين بما يرضي الإدارة الأمريكية، مما اعتُبِر «خضوعاً» من الصين لأمريكا؛ أو كما كتب نيكيتا كوفالينكو، في «فزغلياد» بعنوان «ترامب أجبر الصين على الاستسلام». حتى مع الاتفاقات الدولية كالسعي للخروج من اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية، والتخلي عن الشراكة العابرة للمحيط الهادئ، والانسحاب من اتفاق باريس للمناخ.. الخ؛ فقد نشهد عودة أمريكا لهذه الاتفاقات التي هددت بالانسحاب منها أو التي انسحبت منها، كما أعلنت مراراً بأنها قد تعود لها. رئيس مركز الاتصالات الاستراتجية الروسي ديمتري ابزالوف، يقول: «إن أسلوب ترامب القاسي هذا يعمل.. وإنه يمكن أن يعمل مع كوريا الشمالية، ومع الصين، والاتحاد الأوربي، والآن الدور على إيران».
إدارة ترامب قررت المواجهة الحادة مع إيران بالانسحاب من الاتفاق النووي، وما شملها من عقوبات اقتصادية هي «أشد العقوبات صرامة في التاريخ»، ووضع اثني عشر شرطاً صعباً للعودة لاتفاق جديد. وفي نفس الوقت أوضح ترامب أنه «مستعد وراغب وقادر» على عقد «صفقة جديدة ودائمة» مع القيادة الإيرانية الحالية إذا عدلت من سلوكها العدواني. هذه الصفقة الجديدة ستشمل ليس فقط نهاية العقوبات الأمريكية، بل ترميم العلاقات كاملة، والوصول للتكنولوجيا المتقدمة والدعم الأمريكي لتحديث الاقتصادي الإيراني وإعادة دمجه في الاقتصاد العالمي، بما لم تسبقه لذلك أية إدارة أمريكية، كما يذكر الباحث الاستراتيجي الأمريكي جون هانا (مستشار سابق في الأمن القومي).
يتساءل جون هانا: هل هذا نوع من الحيل الذكية؟ ثم يجيب: «عندما نتحدث عن ترامب هنا، فكل مهارته هي في عقد الصفقات. هذا هو الحمض النووي الخاص به. الذهاب في تحديد مطالب متطرفة إلى أعلى المستويات ومن ثم التراجع لتحجيمها عند الضرورة عندما يلبي الجانب الآخر احتياجاتك الأساسية. ثم إعلان النصر والمبالغة في تسويقه». بالطبع، قد تكون الشروط الأمريكية تعجيزية، لكنها ستكون مقبولة في نطاق ترتيب الأولويات إذا قدمت إيران بعضها. على الأقل، العمل على إجبار إيران على سحب أبواقها وتقليل تهديدها الحالي للمصالح الأمريكية، وإجبارها إن أمكن، على العودة لطاولة المفاوضات والحصول على موافقة على صفقة كبرى تعالج بشكل شامل سلوكيات إيران التهديدية، النووية وغير النووية. ولكن إذا لم تستجب إيران، فستحتاج أمريكا إلى أن تكون مستعدة لمواصلة الضغط حتى يتمزق النظام، أو تُطيح به انتفاضة شعبية، أو توجد خليفة أكثر اعتدالا، حسب رأي جون هانا.
كثيرون داخل وخارج أمريكا اعتبروا أسلوب ترامب قاسياً أو حتى همجياً، وأن عالم السياسة ليس كعالم المال والأعمال التجارية، فيما اعتبره قلة أسلوباً ماهراً لتقوية النفوذ الأمريكي الذي تراجع إبان الفترة السابقة من إدارة أوباما. بغض النظر عن الانتقاد أو التأييد، فإن أسلوب ترامب يبدو أنه ينجح حتى الآن.. فسواء أعجبنا أم لم يعجبنا، فالعبرة بالنتائج.
أمور غريبة تحدث في سوريا. يبدو أن ثلاثي روسيا- إيران- الأسد الذي عرفناه مكونًا من شركاء، أخذ يتشتت. الأسد اتفق مع موسكو وكأن الاثنين يسعيان للتخلص من إيران!
الأسبوع الماضي صرح وزير الخارجية الروسي بأن "الجيش السوري فقط ينبغي أن يحمي جنوب البلاد". وكأنه يقول لإيران التي وقف معها إلى جانب الأسد طوال سنوات، أن تغادر الجنوب.
وفي أعقاب ذلك مباشرة، وردت أنباء عن اتفاق بين إسرائيل وروسيا، تنسحب بموجبه إيران من جنوب سوريا، ويسيطر الأسد على المنطقة.
وبينما ظن الجميع أن روسيا والأسد يطردان إيران، وقع خبر توصل مسؤولين إسرائيليين وإيرانيين إلى اتفاق وقع الصاعقة. وبموجب الاتفاق قرر العدوان اللدودان عدم الاقتتال جنوبي سوريا. فما معنى كل هذه التعقيدات؟
الغزل الروسي الإسرائيلي
لنبدأ مع روسيا. لم تكن إيران حليفًا وثيقًا لموسكو أبدًا. عمل البلدان معًا على دعم الأسد من أجل حماية مصالحهما في سوريا، وهذا ما تحقق لروسيا، التي تسعى الآن لمفارقة إيران.
فإيران بالأساس منافس إقليمي لروسيا، وفوق ذلك فهي هدف رئيسي للولايات المتحدة وإسرائيل. تدرك موسكو أن هذا التوتر سيتصاعد ما بقيت طهران في سوريا، وهذا ما يهدد المصالح الروسية.
وكذلك الأمر بالنسبة لإسرائيل، التي زادت من وتيرة هجماتها على المواقع الإيرانية في سوريا. كما أن ضغوط الرئيس الأمريكي على إيران تزيد من ارتباطها بروسيا، ولهذا أصبح الرئيس الروسي في وضع أقوى مما سبق في مواجهة إيران.
هل يبيع الأسد إيران؟
نأتي إلى الأسد. كان بحاجة إيران في مواجهة داعش، لكن هذه الحاجة تكاد تنتهي. ويدرك الأسد أن وجود إيران سيستدعي تدخلًا إسرائيليًّا وأمريكيًّا. كما أنه يسعى لإقامة توازن بين موسكو وواشنطن. لكن كل ذلك لا يعني أنه سيتخلى تمامًا عن إيران على حين غرة.
الأسد عدو معروف بالنسبة لإسرائيل، لكن وقوفه على مسافة من إيران يجعل منه حلًّا مثاليًّا بالنسبة لتل أبيب.
وماذا عن إيران؟ بعد كل هذا الاستثمار منذ سنوات لن تخرج إيران بسهولة من سوريا. بيد أنها مشغولة الآن بمشكلتها لأن الولايات المتحدة وإسرائيل تستهدفانها. الحرب السورية مكلفة جدًّا من جميع النواحي وطهران تعرضت لخسائر في الهجمات الإسرائيلية الأخيرة.
يتضح من إبرامها اتفاقًا مع إسرائيل الأسبوع الماضي بأن إيران ستنسحب مع مرور الوقت من بعض المناطق.
بالنسبة لتركيا، إيران حليفة في سوريا من جهة، ومنافسة إقليمية من جهة أخرى. ليس سرًّا انزعاج أنقرة من سياسات طهران التوسعية، ولهذا فإن تحجيم إيران من مصلحتها.
كما أن إقامة توازن بين الولايات المتحدة من جهة وروسيا- الأسد من جهة أخرى، سيعزز موقف تركيا في مكافحة وحدات حماية الشعب.
السوريون في مزاج سيئ، لأنهم يخافون الخروج صفر اليدين من ثورةٍ قدموا ملايين الشهداء والجرحى فيها لتحقيق وعودها: الحرية والعدالة والمساواة.
... وقد ترك سقوط الغوطة الشرقية، ثم ريف حمص الشمالي، أثراً سلبياً عليهم، وأرهقتهم صور الأطفال والنساء، وهم يُهجّرون إلى خارج مناطقهم، وأتعبتهم مشاهد البؤس على وجوه من حملوا السلاح بالأمس، ويقفون الآن في طابور العائدين إلى "حضن وطنٍ"، يعدهم بأحد خيارين: أن يحاربوا رفاقهم في المناطق الأخرى، أو يقتلهم، وليس في قاموسه كلمة شعب، كي يحترم حياته وممتلكاته، أو يتوقف عن التباهي بـ "تحريره" من الذين دافعوا عنه وحموه طوال أعوام عجاف من عصابات القتل والتعفيش.
وزاد من تعب السوريين القتل المنهجي الذي تمارسه دولتان تتباريان في العدوان عليهم، لم تُقرّا يوماً بشرعية أيٍّ من مطالبهم، أو تتعاطفا معهم، بل نافستا الأسد في اتهامهم بالإرهاب، وارتكبتا جرائم منظمة ضدهم، انسجاماً مع تاريخ استبدادي مديد وسم حكم أكاسرة فارس وقياصرة روسيا!.
لا ينسى السوريون أيضاً دور المذهبية/ المتعسكرة في هزائمهم، وتقويض سعيهم إلى مجتمع حر ونظام ديمقراطي. ولَكَمْ عبّروا عن رفضها في التظاهرات التي طالبتها بالرحيل عنهم، واستهدفت قادتها بأسمائهم في هتافات اتهمتهم بالخيانة، وبالقضاء على تفوّق الثورة الأخلاقي والقيمي على النظام، وهو تفوقٌ لعب دوراً بارزاً في إخراج الأسدية من ثلثي سورية، بالضغط الشعبي، قبل أن يعيده طيران الروس ومرتزقة إيران، والإرهابيون المحسوبون زوراً وبهتاناً على ثورةٍ هم ألدّ أعدائها.
هل ضاعت فرصة بلوغ ما أراده السوريون من ثورة تكالب عليها حلف دولي/ إقليمي/ محلي، استقدم أرهاطاً من مجرمي أفغانستان وباكستان والعراق ولبنان وإيران وروسيا إلى سورية لمحاربتهم وارتكاب أشنع الفظائع ضدهم؟. لا أعتقد شخصياً أنها الفرصة، لو كانت حقوقنا مرتبطةً بالمعارضة السياسية والعسكرية، وما هما فيه من تهافت وعجز، لقلنا: نعم خسرنا المعركة، وضاعت منا سانحة الحرية التي صنعها ملايين مواطناتنا ومواطنينا بتضحياتهم، خصوصاً وأن العالم لا ولن يقر بالحق في الحكم أو بالسيطرة على المجال السياسي الوطني لمعارضةٍ أثبتت، خلال سبعة أعوام ونيف، أنها ليست، ولا تنوي أن تكون ثورية، ولا ترغب في امتلاك نهجٍ يقرّبها من الواقع ومصالح الشعب العليا، تخبطت طوال هذه المدة الطويلة نسبياً في أخطاء ترفض تصحيحها، وأدمنت الارتجال، وتبنّي سياسات متقطعة ولحاقية، جزئية ومليئة بالأخطاء.
لكن الثورة لم تكن هذه المعارضة التي همشت نفسها إلى حدٍّ جعل أصدقاءنا القلقين على حقوقنا يتساءلون بمرارة: هل ما زالت المعارضة موجودة حقاً جهة تمثل السوريين؟. لم تتطابق الثورة مع المعارضة، ولم تكن المعارضة مساويةً للثورة أو ممثلة لها في معظم سنوات النضال في سبيل الحرية. الثورة هي الشعب الذي هتف للحرية، وهي أيضاً الحرية التي عبرت عن نفسها في هتافات وتضحيات الملايين الذين نزلوا إلى الشوارع، مطالبين بها للشعب السوري الواحد الذي لن يستطيع أحد تجاهل تضحياته من أجل حقوقهم، وطول المدة التي قاوم خلالها الأسدية، وواجه خلالها حملات الإبادة، لكنه استمر في ثورته، على الرغم من افتقاره قيادة ثورية.
لن يستطيع العالم تجاهل تضحيات الشعب السوري. ولن يغامر أحد بإخراجه صفر اليدين من تمرّد سقى خلاله ورود حريته بزكيّ دمائه، وواجه سنواتٍ استبداداً لم يواجه أحد قبلهم ما يماثله، من دون أن يستسلموا، فهل يعقل أن يقبلوا الرضوخ من جديد، ومن دون مقاومة نظام أخرجوه من أنفسهم وواقعهم، لا تعني عودته إلى مناطقهم إطلاقاً عودتهم إليه.
مع بدء تسريب تفاصيل عن صفقة الجنوب السوري، والتي تعقدها كل من روسيا وأميركا وإسرائيل، تتضح أكثر العلاقة المضطربة بين الحليفين الروسي والإيراني، والأولويات التي تضعها موسكو نصب عينيها في التعاطي مع الملف السوري، والتي تأتي إسرائيل على ما يبدو في مقدمتها، حتى وإن حاولت اللعب على وتر الابتزاز ومحاولة تحصيل أثمانٍ من الأميركيين في مقابل تحقيق المطلب الإسرائيلي، والروسي أيضاً، في إبعاد الإيرانيين عن الحدود الجنوبية السورية المحاذية للجولان وفلسطين المحتلة، فالحسابات الروسية في سورية تختلف كلياً عن تلك الإيرانية، وإن تم جمع الطرفين ضمن تحالف ظرفي، إلا أنهما مختلفان كلياً على الصعيد الاستراتيجي، وحتى يمكن القول إنهما على طرفي نقيض، كذلك فإن الروس لا ينظرون بعين الرضى إلى التمدّد الإيراني في المنطقة ومحاولة بسط نفوذ في سورية وغيرها. وعلى هذا الأساس، فإن فكرة إضعاف الإيرانيين في سورية تروق لموسكو بشكل أساسي، حتى وإن لم تجاهر بذلك. في المقابل، فإن الحاجة الإيرانية للحليف الروسي الظرفي، وخصوصاً في ظل الهجمة الأميركية على طهران، والانسحاب من الاتفاق النووي، والعودة إلى سياسة العقوبات، تجعلها خاضعةً لرغبات موسكو، حتى لو جاءت متناقضةً مع أهدافها ومصالحها. هذا الأمر تدركه روسيا جيداً. وعلى هذا الأساس، كانت مفاوضاتها وقراراتها نيابةً عن الإيرانيين الذين سيكون عليهم التنفيذ من دون اعتراض. حتى أن الإيرانيين استبقوا التنفيذ بنفي وجود قوات لهم أساساً في الجنوب، تماماً كما سبق لهم أن نفوا تعرّض مواقع لهم في سورية لغارات إسرائيلية.
الأمر نفسه بالنسبة إلى النظام السوري الذي يترقب تفاصيل الاتفاق، لتطبيق ما يخصه منه، وخصوصاً الدخول في مواجهةٍ مع الفصائل السورية في الجنوب، وتولي حماية الحدود مع إسرائيل، برعاية روسية، وذلك بعدما استطاعت موسكو انتزاع المعلوم المجهول دائماً، وهو أنه ليس لدى إسرائيل مشكلة في بقاء بشار الأسد، بل على العكس هي تفضّله حارساً للحدود على أن تكون هناك فصائل غير منضبطة عسكرياً على تخوم فلسطين المحتلة، وهو ما حدث عندما وجد "داعش" في تلك المنطقة قبل فترة.
كذلك الأمر بالنسبة إلى الولايات المتحدة، فإذا كان الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، وصف الأسد في إحدى تغريداته بأنه "حيوان"، إلا أن ذلك لا يعني أنه في وارد إسقاطه، وخصوصاً في ظل فراغ الخيارات البديلة، فالتدجين هو الخيار الأمثل بالنسبة إلى واشنطن، ليس في عهد إدارة ترامب فقط، بل في كل العهود التي سبقت وحاولت إدخال النظام السوري ضمن الحظيرة الغربية. يبدو هذا الأمر اليوم أقرب من أي وقت مضى إلى التحقيق، خصوصاً أن الأسد أبدى استعداده ضمنياً لأن يضمن سلامة الحدود مع إسرائيل، ويمنع تحول الجولان إلى جنوب لبنان ثان، كما كان مخطط إيران وحلفائها. وهذا الأمر حالياً هو أكثر ما يهم الإدارة الأميركية، إضافة إلى استغلال نظام الأسد في "محاربة الإرهاب"، وإبقائه بعيداً عن الأراضي الغربية.
بناء عليه، فإن صفقة الجنوب السوري ليست مجرّد اتفاق عسكري بين الدول الضامنة لمناطق خفض التصعيد، إضافة إلى أميركا وإسرائيل، بل هو مؤسّس لمرحلةٍ جديدة في الحرب السورية وفاتحة ضوء أخضر لقوات الأسد وروسيا للسيطرة على ما تبقى من أراضٍ في يد المعارضة، شرط أن يبدي النظام الولاء والطاعة، ويحيد نفسه عملياً عن "محور الممانعة"، مع الإبقاء عليه ضعيفاً محتاجاً إلى الحلفاء الجدد والقدامى لضمان البقاء.
قد يكون هامش المناورة التي يجيدها العقل الفارسي ما زال قائماً بمساحة واسعة باتساع الرقعة الجغرافية العربية التي سبق أن اكتسبتها طوال ٣ عقود وأكثر من التوظيف المتعدد الألوان، العسكرية والدينية والإيديولوجية والمالية والاقتصادية. هذا فضلا عن الدهاء في استغلال المتغيرات الدولية كما فعل مع إدارة باراك أوباما. إلا أن هذا الهامش سيضيق مع الوقت بوجود إدارة من نوع إدارة دونالد ترامب، ومع وجود قرار عربي، ولا سيما سعودي بمواجهة توسعها وتمدد أذرعها في الدول العربية.
من الحديدة في اليمن حيث انكشف مدى ضعف المراهقة الحوثية، إلى نتائج الانتخابات العراقية التي تحاول طهران الالتفاف عليها في صراعها مع الهوية العربية لمكونات بلاد ما بين النهرين، وصولاً إلى الضغوط لانسحابها من سورية، وانتهاء بالعقوبات على ذراعها الرئيسية «حزب الله»، لا يبدو أن الإمبراطورية «الساسانية» التي تغنى مسؤولون إيرانيون بأنها عادت إلى التبلور مرة أخرى بعدما أفلت في القرن السابع الميلادي، بخير. والأهم أنها تعاني الضعف والمشكلات في الداخل. ويشهد على ذلك تدهور سعر صرف العملة في ظل عجز المصرف المركزي في طهران عن ضبط انخفاضها الدراماتيكي، وضمور الاقتصاد، وازدياد التحركات الشعبية، الاجتماعية والطبقية والعرقية، من داخل « الثورة الإسلامية « ومن معارضيها، ومن خصومها الداخليين قبل الخارجيين. ولا يكاد يمر يوم من دون تظاهرات في المدن الإيرانية التي ازدادت فيها البطالة. لم تكد مداخيل إيران ترتفع بحكم رفع العقوبات عن قطاعها النفطي الذي تعتمد عليه في شكل رئيسي، بعد الاتفاق على النووي عام 2015، حتى جاء انسحاب الولايات المتحدة منه وإعادتها العقوبات أشد قساوة وإيلاماً. لم يستفد الحكام من ارتفاع الدخل في السنوات الثلاث الماضية من أجل توسعة الاقتصاد، بل وظفوا المداخيل في التوسع الإقليمي.
وإذا صح خبر وكالة «إيلاف» الإلكترونية عن لقاء إيراني- إسرائيلي في الأردن قبل مدة، فإنه مؤشر أساسي إلى التأزم الإيراني، مقارنة بالعنجهية الفارسية المستندة إلى ذلك الشعور القومي الدفين بالتفوق على الجيران العرب وبازدرائهم.
قد تتمكن طهران من استيعاب خسارتها لمكون أو أكثر من المكونات العراقية التي أحسنت في السنوات الماضية تقسيمها وشرذمتها للاحتفاظ بنفوذها، أو التعايش مع بعض التغييرات في بغداد، وهذا ما تحاوله الآن. الساحة الأكثر حساسية لنفوذها ودورها الإقليمي هي الساحة السورية، صلة الوصل بين طهران مروراً بالعراق والساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط في لبنان، والتي وظفت فيها بلايين الدولارات، لا سيما بعد وصول بشار الأسد إلى السلطة عام 2000. هذه الساحة هي السبب الرئيس في نظر واشنطن للضغط على طهران من أجل الانسحاب منها، ووقف برنامجها للصواريخ الباليستية. من هذه الساحة تتهم واشنطن إيران بتهديد أمن إسرائيل، وزعزعة استقرار الدول العربية الحليفة. وفي هذه الساحة تناور موسكو في علاقاتها مع واشنطن، وتطلب من حليفها الإيراني الانسحاب من سورية، بموازاة تحضير الأميركيين للانسحاب من بلاد الشام قبل نهاية العام. وما تسرب لمجلة «نيوزويك» عن استعداد واشنطن لسحب بعض قواتها من محيط معبر التنف على الحدود العراقية السورية، يؤشر إلى جدية دعوة فلاديمير بوتين بعد اجتماعه مع بشار الأسد قبل أسبوعين، إلى انسحاب القوات الأجنبية من سورية، والمقصود به الانسحاب الإيراني، و «حزب الله» في الدرجة الأولى (إضافة إلى القوات التركية والأميركية). ولدى قادة «حرس الثورة» الإيرانية الكثير من الأسباب لعدم إدارة الظهر للنفوذ الروسي في سورية، مع التسويات التي قد تلجأ إليها موسكو مع واشنطن. فالأخيرة قد تزود موسكو بالأوراق مثل الاستعداد لسحب قوات لها، كي تساهم في الحد من النفوذ الإيراني، فبعض الميليشيات التي أنشأها الحرس جرى تقليم أظافرها في الآونة الأخيرة من قبل الشرطة العسكرية الروسية لدمجها في الوحدات العسكرية الواقعة تحت نفوذ قاعدة حميميم.
ولديهم أسبابهم أيضا كي لا يأمنوا لنظام الأسد المستعد للمساومة على الحليف الفارسي مقابل البقاء.
بين خياري المواجهة أو المساومة، قد تلعب القيادة الإيرانية ورقة التواصل مع إسرائيل لطمأنة الأخيرة إلى أمنها إذا كان هذا ما يدفع واشنطن إلى تصعيد الضغوط عليها، مقابل عدم المس بنفوذها في سورية. ليست المرة الأولى التي تلجأ فيها طهران إلى صفقة موضعية مع إسرائيل تحت مظلة العداء لها في العقدين الأخيرين. وهذه اللعبة الجهنمية لإنقاذ نفوذها، خاضعة للمراقبة في قابل الأيام.
تغيرت المعادلات في سوريا بدرجة كبيرة، ويمكن وصف ما حدث بالانعطافة الحادة، وعبر سلسلة من التكتيكات والخدع والإجراءات، المخالفة للمنطق والقوانين الإنسانية.. صار أبناء سوريا، إما مشردين ومنفيين، وإما مظلومين ومحاصرين بالقهر، في حين يصول قتلتهم ويجولون في البلاد، وها هم اليوم يفصلون الحلول السياسية على مقاساتهم ووفق مصالحهم وهواهم.
كيف ولماذا حصل ذلك؟ الحل السياسي في سوريا يجري اختصاره بإجراء تعديلات بسيطة على دستور صمّمه نظام الأسد سنة 2012، في حين حصلت الثورة ضده قبل ذلك بعام، فأي رابط بين المسألتين؟ ولماذا جرى لي عنق الوقائع بهذه الطريقة القاسية؟ والسؤال لماذا قبلت المعارضة بهذا التحريف أصلاً؟ ربما يقول البعض إن المعارضة لا تستطيع التأثير في هذا السياق، لكنها شريكة في آستانة وسوتشي وكل الفعاليات التي أوصلت الأمور إلى هذه المرحلة!
كيف استطاع بشار الأسد، الحفاظ على حكمه، من خلال تواطئه مع روسيا وإيران على قتل الشعب السوري والسماح لهما باتخاذ كل ما يلزم في هذا المجال، الذي شكل مسارا معمدا بالدم والتدمير والتهجير الديمغرافي، واليوم يثبت حكمه بالتواطؤ مع إسرائيل وأمريكا اللتين مسحتا له كل جرائمه مقابل إبعاد مليشيات إيران عن حدود الجولان؟ ترى أليست هذه لعبة إيرانية، بمعنى أن مليشياتها أدت دوراً وظيفيا نتج عنه في النهاية إعادة تعزيز نظام الأسد، تماما كالدور الوظيفي الذي لعبه تنظيم داعش عندما جعلت الأسد محاربا للإرهاب وهو ليس سوى قاتل وصانع لداعش؟
ماذا كانت فائدة مناطق خفض التصعيد إذا لم يكن استثمارها من المعارضة للوصول إلى حل سياسي متوازن؟ لماذا انتهى الأمر على هذه الشاكلة؟ بل أكثر من ذلك مع وجود حزمة قوانين، صدر بعضها والباقي قادم على الطريق تسعى إلى اجتثاث الأكثرية السورية وإفقارها وجعلها محطمة لعقود قادمة، فيما بشائر استمرار تناسل حكم عائلة الأسد عادت تنبعث فيها الحياة؟
اليوم تجري مهزلة جديدة مقدّر لها أن تنتهي باستعادة نظام الأسد السيطرة على جنوب سوريا، ومن دون قتال، لمجرد أن توافق الأطراف الإقليمية والقوى الدولية على هذا الحل. ومن الغريب أن فصائل الجنوب كانت تعتقد أن الدول "الداعمة" لن تسمح بأي تغيير في الجنوب قبل الوصول لحل سياسي شامل في سوريا، ولا نعرف أي دول تلك التي يمكن الاعتماد عليها لتحقيق مصلحة السوريين أكثر من مصالحها؟
لكن ماذا عن فصائل المعارضة نفسها؟ ورد في الأخبار أن الحشود العسكرية التي وصلت إلى الجنوب ليست سوى قوات نظام الأسد العائدة الى مواقعها، التي خرجت منها قبل شهرين، بعد أن حاربت في الغوطة والقلمون وحمص.. والمعارضة التي سمحت لقوات الأسد بإنهاء الثورة في مناطق أخرى ولم تستثمر الفرصة لتحسين مواقعها لا تستحق التعاطف معها، المعارضة التي وثقت بالوعود الروسية من الطبيعي أن تزيحها روسيا عن المشهد اليوم.
يوم طرحت روسيا فكرة "مناطق خفض التصعيد"، قبل عام من هذا التاريخ، لم يسألها أحد عن اليوم التالي، كان المطروح أن هذه الصيغة ستؤسس للحل السياسي في سوريا والذي سيقوم على قاعدة أن لا حل عسكري للأزمة السورية، فلماذا يجري القبول اليوم بالحل العسكري كأسلوب وحيد ممكن للأزمة السورية؟
الواضح أن ثمّة من يريد إيصال رسالة لكل الشعوب، القريبة والبعيدة، بأن لا جدوى من الثورة، وغير القهر والخسارة لن تكون هناك أي نتيجة واضحة
رغم عدم إيماني بالتفسير المؤامراتي، بيد أن ما حصل فعلاً لا يمكن تفسيره خارج نطاق التآمر. فالواضح أن ثمّة من يريد إيصال رسالة لكل الشعوب، القريبة والبعيدة، بأن لا جدوى من الثورة، وغير القهر والخسارة لن تكون هناك أي نتيجة واضحة. وها هم بالفعل يضعوننا اليوم أمام سؤال: ما الجدوى من الثورة ومن التضحيات ودرب الآلام القاسي إذا كان ما تحقق يمكن تحصيله بوقف احتجاجية ليوم واحد أمام البرلمان؟
والمقصود بكل ما تحقق هو تشكيل لجنة لن تعدّل الدستور؛ لأن حتى هذه المكرمة التافهة من روسيا والعالم، ملغومة ومفخخة، حيث حصة روسيا ونظام الأسد أكثر من ثلثي أعضاء اللجنة، وبالتالي استحالة موافقة هذه اللجنة على أكثر من قشور القشور. وماذا عن مئات آلاف القتلى وملايين المعاقين والجرحى، بالإضافة إلى الملايين الذين تجردوا من جنسيتهم وأصبحوا بلا وطن، هل عليهم قبول استمرار عائلة الأسد في السلطة ونسيان مأساتهم؟ هل بوتين عبقري إلى درجة استطاع أن ينوّم العالم مغناطيسياً ويمرّر مخططه كما رسمه بدقة متناهية، أم ان العالم كان يبحث عن مشعوذ يلهيه عن خجل الضمير؟
أنى لياسمين الشام أن يموت ولديه ذاكرة وقادة لا تذبل حتى و إن ذبُل الياسمين، سيبقى ينشر عبقه و طلعه وحَبَّه و حُبَّه مع كُلّ هَبّة نسيم شرقية أو غربية!
ويعرف هذا كل من تنشق عبير الياسمين في حواري الشام، ذاك العبير الذي يكبلك طوعاً، ليسوقك إلى حدائق بني أمية و بستان هشام!
كنت في الثامنة من عمري عندما اقتحم عناصر "القوات الخاصة" الغرفة التي استأجرها والدي في أطراف حي الحيدرية الفقير!!
لم أعِ ما يحدث، كان ذلك في مطلع ثمانينيات القرن الماضي.
التصقت بجسد أمي رحمها الله، و احتضنتني وهي تُهديء من روعي وتقول لي: لا تَخف يا بُني... لا تَخف!
كنتُ مرعوباً ولم أستطع البكاء أو الصراخ و كانت عيناي ترقُبان حضور والدي الذي كان في عمله آنذاك!
بدأ عناصر القوات الخاصة ببعثرة أشيائنا القليلة، بغوغائية لم أعرفها إلا بعد حين بعد أن قرأت عن غزو المغول للبلدان التي اجتاحوها!
وفي خضم هذا المشهد المرعب، صدح صوتٌ غريب بلهجة فراتية ومن وسط حشد الجنود:
"شتسوون يا شباب؟ هذا بيت ابن عمي و آني ضامنوا إنه ما هو مخرب ولا لو علاقة بعصابة الإخوان، وبعدين هذا بيت عسكري متطوع بالجيش ورفيق حزبي، وهو هسه بداومه!".
كان صوت أبي غازي ابن قريتنا وعشيرتنا، و هو متطوع في جيش النظام (كما أخبرتني والدتي آنذاك رحمها الله).
توقف الجنود عن بعثرة أشيائنا وانتقلوا للغرف الأخرى في البناء الذي نسكنه، وكانت كل غرفة منه تضم عائلة فقيرة لا تقوى على استئجار أكثر من غرفة.
أعطاني صوت أبي غازي (شحنة شجاعة) فتركت حضن أمي وذهبت لمراقبة ما يحدث في حيّنا!
شاهدت جنود النظام وهم يضربون الشاب (سمير) ابن أبي سمير جارنا المسكين، وكان سميرٌ درويشاً ويصفه أهل الحي بأنه (على البركة).
لم يستوعب عقل سمير حملة التفتيش، فصرخ بوجه أحد الجنود وربما كان يظن أن الجندي سيستوعبه كما يفعل أبناء حيّه!
ولكن ما كل ما يتمنى المرء يدركه!!
فقد دفع سمير الثمن غالياً وتم ضربه وسحله ورأيت حفنة من شعره تخرج بيد أحد الجنود!
ورسمت دماء سمير في الشارع خطّاً بدأ من باب منزله ولما ينته بالطبع عند أبواب الحافلة العسكرية، التي اكتظ فيها شباب الحي المعتقلون!
لن أنسى نظرات سمير الدرويش وهو يُسحل في الشارع، وفي لحظة مرعبة التقت نظراتي بنظراته، اقشعر جسدي و حارت نظراتي بعدها تبحث عن أبي!
مرّ يوم أو يومان لا أذكر!
و عرض عليّ والدي أن يأخذني في مشوار!
كنت سعيداً ولا أعطي فرحتي لأحد، كحال معظم الأطفال الذين يذهبون في مشاوير ونزهات مع آبائهم، ولم أسأل والدي عن وجهتنا، المهم أن أرافق والدي حيثما يذهب!
لم أكن أدري أن مقصدنا حي المشارقة في حلب!
ولم أفهم سبب ازدحام الناس آنذاك في هذا الحي، شعرت بالتوجس وقبضت على يد والدي بقوة، ودخلنا أحد الأبنية كمعظم من حولنا، و صُدمت بما شاهدت!
بقع الدماء في كل مكان على الأرض والجدران ووصل رذاذها للسقوف!!
ثياب ممزقة وكمية هائلة من فوارغ الرصاص التي لفظتها البنادق، ولا أدري بنادق مَـن؟
أهي بنادق من قاوم أم من اقتحم؟
حدثني صديق من مدينة حماة، أن في المدينة منازل هجرها أهلها إبان مجازر حماة الشهيرة، ولا تزال تلك المنازل تحتفظ ببقع الدماء على جدرانها وسُقُفها حتى اللحظة!
كيف لمخلوق أن يعيش في مملكة الرعب والدم على مدى عقود طويلة؟
كُنا نقف في طابور المدرسة لترديد الشعارات الصباحية، وكنت أتساءل لما يجبروننا على ترديد هذه الشعارات، ولماذا في الصباح الباكر؟
وكنت أقف مع نفسي كثيراً حول معاني تلك الشعارات، وخاصة شعار (قائدنا إلى الأبد... الأمين حافظ الأسد)!
أي أبد يقصدون؟
أهو الخلود؟
كان يزعجني هذا الشعار، ولكنني وجدت طريقة لتجاوز هذا الإزعاج، فقد اتفقت مع صديقي حسان التركماني والذي يكره آل الأسد، بأن نردد عبارة:
(سيدنا محمد) بدلاً من (الأمين حافظ الأسد).
فعلناها سوية وضاع صوتنا بين زحمة الأصوات، وتخلصنا من أحد القيود القميئة.
لكن حسان فاجأني مرة بتساؤل مرعب، وقال:
تخيل يا صديقي لو أن الجميع صمت لحظة ترديد عبارة (الأمين حافظ الأسد) ولم يبق إلا صوتي وصوتك وشعار (سيدنا محمد) فما الذي سيحصل لنا؟
ضحكنا كثيراً حتى أدمعت عيوننا، وذاك هو المضحك المبكي!
ما زال في ذاكرة الياسمين الكثير من الألم والأمل وأي ذاكرة دموية يحملها الياسمين الفواح؟
ذاكرة زُرع فيها بذور غضب ستونع ياسميناً فواحاً دون ألم في وقت نُقش في علم الغيب!
يصح القول إن لحظة حرجة تزداد اقترابا من النظام السوري للاختيار بين حليفين مكّناه من الصمود، طرداً مع تسارع انكشاف التباينات بين المشروعين الإيراني والروسي في رسم المستقبل السوري وحصص النفوذ في المشرق العربي، تجلت في الآونة الأخيرة بتصريحات حادة لقيادة الكرملين تطالب بانسحاب كل القوات الأجنبية من سوريا، ردت عليها حكومة طهران برفض صريح وبعبارة تحد بأن لا أحد يمكنه إزاحة وجودها العسكري من المشهد السوري.
ثمة من لا يعطي قيمة لهذه التباينات وما يرافقها من افتراق في المواقف، عادّا أن ما تسمى خلافات بين طهران وموسكو هي مجرد مناورات، أو شكل من أشكال توزيع الأدوار بينهما، لا يصح البناء والتعويل عليها أمام قوة المصلحة المشتركة للطرفين في مواجهة الغرب وتربصه المزمن بهما، وأمام إدراكهما المخاطر الكبيرة الناجمة عن دفع خلافاتهما السياسية إلى آخر الشوط.
وفي المقابل، هناك دلائل ومؤشرات تضعف هذه الفكرة التآمرية وتؤكد جدية تلك التباينات وعمقها، التي إنْ لم تظهر في الماضي، فالسبب هو اضطرار الطرفين إلى طمسها لضمان أفضل أداء في مواجهة القوى المناهضة لهما، لكنها بدأت تتكشف وتتسع في الآونة الأخيرة مع انحسار العمليات الحربية في سوريا، وتنامي تنافس الطرفين على جني ثمار التقدم العسكري الذي أحرز ضد جماعات المعارضة.
بداية؛ يتفارق المشروعان الروسي والإيراني في أن الأخير يستند إلى البعد المذهبي في تمدده وفرض هيمنته، تحدوه رغبة مزمنة في إزاحة الكتلة الإسلامية السنّية من الوجود أو على الأقل إضعاف وزنها ودورها إلى أبعد الحدود، بينما تميل موسكو إلى أخذ مصالح هذه الكتلة في الاعتبار توخيا للاستقرار وديمومة نفوذها في سوريا والمشرق العربي؛ الأمر الذي تجلى بفتح خطوط مبكرة مع قوى معارضة ذات وجه إسلامي سنّي، وتهيئة الشروط لإنجاح اجتماعات آستانة، ومناطق خفض التصعيد، وقرارات وقف إطلاق النار المتكررة، وما تلاها من مفاوضات، خصوصا في أرياف دمشق وحمص، لنقل المعارضة الإسلاموية المسلحة إلى الشمال، رافق ذلك انفتاحها على الوجود الإقليمي السني؛ إنْ بفرض حكومة أنقرة بوصفها طرفا فاعلا في اجتماعات آستانة وأخذ مصالحها الأمنية في الاعتبار وإطلاق يدها في عفرين والشمال السوري، وإنْ بحرصها على إرضاء المجموعة العربية المتضررة من التمدد المذهبي الإيراني، التي يهمها محاصرة سياسة طهران التدخلية وتحجيم دورها المخرب في سوريا والمنطقة، فكيف الحال حين لا يخفى على موسكو الدور الخفي لإيران في تنمية الفكر الجهادي الإسلاموي وتغذية بعض أطرافه وعملياته، كي تبرر وجودها على أنها طرف يواجه هذا الإرهاب.
ومن المفارقات، أن التدخل العسكري الروسي الذي كان له الدور الحاسم منذ معركة حلب، ربما اكتفى بما أحدثه من تحولات في توازنات القوى لتمرير رؤيته السياسية للمستقبل السوري، رافضا دعوات دمشق وطهران الإقصائية للاستمرار في الحسم العسكري حتى سحق الخصم بصورة نهائية، ومكررا إيعازاته بوقف عدة محاولات لتقدم المليشيات السورية والإيرانية في ريف إدلب، وتحذيراته من الاندفاعات السلطوية المعززة برغبة إيرانية في خوض معارك على الجبهة الجنوبية لاسترداد مدينة درعا وما حولها.
ونضيف أيضا أنه ليس من مصلحة موسكو الذهاب بعيدا في تغطية سياسة طهران التوسعية، وتاليا مواجهة الغرب الذي بدأ يتحسس وإنْ متأخرا خطورة هذه السياسة في المنطقة، كما ليس من مصلحتها جعل سوريا ورقة بيد إيران في معاركها لتغيير الاستاتيكو القائم في المشرق العربي وللرد على اشتراطات البيت الأبيض القاسية بعد انسحابه من الاتفاق النووي، مما يفسر تفهمها للمعلومات التي كشفتها تل أبيب عن مشروع عسكري سري لطهران يهدد استقرار المنطقة، وتاليا صمتها وحيادها تجاه الغارات المتكررة للطيران الإسرائيلي ضد مواقع لـ«الحرس الثوري» و«حزب الله» في سوريا.
وفي المقابل، لا يلمس المرء في تعاطي النظام السوري مع مروحة التباينات بين روسيا وإيران، حالة من الرضا والانسجام، ربما لأن انكشافها يحرجه ويفرض عليه مواقف مؤلمة كان يرغب في تجنبها وهو النظام الضعيف الذي لا يقوى على اتخاذ قرار منفرد دون ضمان دعم خارجي وازن، وربما لأن هناك مصالح واجتهادات متباينة بين صفوفه تشجع الميل نحو أحد الطرفين.
والحال أن ثمة في السلطة من يعتقد أن الدور العسكري الروسي قد استنفد ويحبذ وضع البيض كله في السلة الإيرانية، متوسلا مرة بعض مظاهر الازدراء والإذلال الروسي للجماعة الحاكمة، ومرة ثانية حقيقة أن إيران كانت الأكثر تضحية وحرصا على دعم النظام وتمكينه، وأنها الضامن الأمين والمجرب لحمايته من أي تغيير مهما يكن، ومن أي محاسبة عما ارتكبه بحق البلاد والعباد، ومرة ثالثة لأنه يرى في النفوذ الإيراني بهيئته المذهبية دعما لما كرسه من ترتيبات طائفية لامتلاك الدولة وإخضاع المجتمع. بينما يعتقد آخرون أن خسارة النظام ستكون فادحة إن تخلى عن الغطاء والدور الروسيين، وقد ثبت بالتجربة أن إيران عاجزة وحدها عن حمايته وتمكينه، وأيضا عن تأدية دور ناجع في إعادة الإعمار وهي الغارقة في أزماتها الاقتصادية، بينما يغدو تعزيز الدور الروسي والتحرر من النفوذ الإيراني، خيارا مجديا لتلطيف موقف الغرب وفتح نافذة حقيقية ومطمئنة لإعادة إعمار البلاد، هذا عدا الخشية من أن تفضي عنجهية التمدد الإيراني في سوريا إلى رد فعل عسكري إسرائيلي قد يطيح بالنظام ذاته، خصوصا أن أهل الحكم يدركون جيدا أهمية رضا تل أبيب في دعمهم الخفي وضمان استمرارهم.
"جنت على نفسها براقش" مثل يدرجه البعض لوصف حال النظام السوري الذي رفض المعالجة السياسية في إطارها الوطني، واستجر مختلف أشكال العنف والدعم الخارجي لسحق حراك الناس ومطالبهم المشروعة في الحرية والكرامة، فبات لعبة في أيادي الآخرين، مجبرا على الالتحاق بإيران أو روسيا كي يضمن سلامته، لكن ملحِقا أفدح الأضرار بمصالح الشعب ومستقبل الوطن.
لم تعد الشجاعة في مواجهة إيران والتصدي لسياساتها تقاس بما يصدر خارج إيران من مواقف وقرارات فقط. ثمة دول بالطبع قررت أن تتصدى مباشرة لتحديات الأمن القومي التي تشكلها سياسات إيران في المنطقة وأبعد، كالسعودية والإمارات والبحرين والولايات المتحدة، بالإضافة إلى الاتحاد الأوروبي وبريطانيا. وفي اليمن تتحلق حول قوى الشرعية نخب وأحزاب وتكتلات أهلية وقبلية تواجه إيران ومشروعها، وكذلك في العراق حيث أعاد السيد مقتدى الصدر تشكيل هويته السياسية على نحو مضاد لمشروع الهيمنة الإيرانية على بلاد الرافدين. قد يكون لبنان الأضعف في المواجهة، حيث الذراع الإيرانية أكثر تماسكاً وتجذراً عبر ميليشيا حزب الله، لكن بيروت تقاوم، ولو على طريقتها.
كل هذا مهم. إلا أن الأهم هو التصدي الداخلي للمشروع الإيراني، أو لتبعاته المباشرة على حياة وأمن الإيرانيين ورفاههم... ثمة اصطدام داخلي متنامٍ بين لغو الثورة وثوارها وبين نتائجه البائسة.
بكلمات بسيطة وضعت سحر محرابي، الطالبة الإيرانية، مضبطة اتهام مفصلة لنظام الثورة، وخاطبت المرشد وجهاً لوجه، على نحو غير مسبوق، خلال واحدة من الندوات التي ينظمها «مكتب القائد» في شهر رمضان.
تجاوزت محرابي في كلمتها الطعون الكلاسيكية، كالبطالة والتردي الاقتصادي ومسألة الحريات بمعناها العام. بذكاء ولباقة طرحت، تحت عنوان تعميق الديمقراطية، مسألة الوصاية السياسية للمرشد، وموقعه الإشكالي في النظام الإيراني، من زاوية أن المؤسسات التابعة له غير عرضة للمحاسبة كالحرس الثوري والقضاء وبعض الإعلام الرئيسي في إيران الذي أمعن في لعبة التخوين والتشهير.
خطاب محرابي، نزل كالصاعقة على رأس خامنئي الذي عاد وغرد عبر منصة «تويتر» أنه يتفهم «مشاعر تلك الصبية التي تقول إن الوضع بالغ السوء، ولكنني أختلف معها تماماً».
بين الخطاب والتغريدة فاصل هائل وهوة ثقة لا تردم، وطلاق يزداد شراسة بين قائد الثورة وشعبه. بينهما تلك المسافة التي يتوسع فيها ثقب أسود بات يبتلع كل اللغو الثوري والوعود المستقبلية، والبقية الباقية من ثقة الإيرانيين بالثورة ومستقبلها ومستقبلهم في ظلها.
بينما كانت محرابي تلقي خطابها في حضور المرشد، كان سائقو الشاحنات الإيرانيون، يمضون في إضرابهم المستمر حتى اليوم، من دون تغطية إعلامية إلا عبر مواقع التواصل الاجتماعي، احتجاجاً على ارتفاع أكلاف أعمالهم من أسعار الوقود إلى غلاء بوالص التأمين وتضخم أسعار قطع الغيار وأجرة الطرق الخاضعة لبدل، وهو التعبير الأحدث عن تردي الوضع الاقتصادي العام في البلاد. فالعملة الوطنية الإيرانية تعاني من خسارة مستمرة في قيمتها بلغت نحو 60 في المائة، من دون وجود أي حلول نقدية في أفق هذه الأزمة، فيما أرخى انسحاب الرئيس الأميركي دونالد ترمب من الاتفاق النووي بثقله على عموم النشاط الاقتصادي في إيران، في ضوء انسحاب كبريات الشركات الأجنبية كعملاق الشحن ميرسك بالإضافة إلى تحضير شركات أخرى للانسحاب أبرزها توتال الفرنسية.
وقد باتت مسألة هروب رؤوس الأموال من إيران موضوعاً يناقش علناً في البرلمان الإيراني من زاوية التحذير من مخاطر المؤشرات السلبية للاقتصاد والمرشحة لأن تزداد سوءاً. فبحسب النائب محمد رضا بور إبراهيمي، رئيس لجنة الشؤون الاقتصادية بالبرلمان الإيراني، هرب من إيران نحو 30 مليار دولار، في الأشهر الأخيرة من السنة الإيرانية المنتهية في 20 مارس (آذار) الماضي.
لا شك أن الأسباب الكامنة وراء التردي الاقتصادي الإيراني معقدة، ويختلط فيها السياسي بالبيئي بالعقوبات وبأسباب تتصل بواقع الاقتصاد العالمي.
إلا أن المواطن الإيراني الذي تزداد معاناته لا يملك رفاهية الفهم المركب لسوء حاله وأسبابها، وسيلقي باللائمة على ما تراه عينه المجردة، وأول ذلك الأكلاف الهائلة التي يرتبها المشروع السياسي والعسكري الإيراني خارج إيران، معطوفاً على شراسة المعارك السياسية بين أجنحة النظام والتي تتبادل فيما بينها اتهامات تستنزف سمعة نظام الثورة من المرشد نزولاً. فليس بسيطاً أن يتهم الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد المرشد بسرقة أكثر من مائة مليار دولار من المال العام أو أن يتهم قادة الحرس رئيس البلاد الحالي حسن روحاني بالعمالة، أو أن يرد روحاني بالتصويب على الدور الاقتصادي المافيوي للحرس. في الديمقراطيات تطوى صفحات كهذه بالتحقيق الجاد وعبر المؤسسات والمحاسبة والتغيير. أما في نظام الثورة الإيرانية الجامد، فتطوى سمعة النظام نفسه وهيبته وقدرته على كسب ثقة الناس.
المواطن الإيراني هو سحر محرابي وصرختها. وهو النشطاء الإلكترونيون الذين اخترقوا شاشات مطار مشهد قبل أيام ووضعوا عليها شعارات داعمة للعمال المضربين ومنتقدة لمقدرات إيران المهدورة في لبنان وغزة واليمن... ومشهد هي المدينة التي شهدت أعنف المظاهرات نهاية العام الفائت وأوسعها منذ إخماد الحركة الخضراء عام 2009.
ثمة شيء يتداعى في إيران. في الثقة بالغد، في قدرة النظام نفسه على الاستمرار، ولم يعد خافياً. في السابع من مايو (أيار) افتتحت مراسلة «الفايننشال تايمز» نجمة بزرغ مهر تقريرها من طهران بسؤال «هل بدأ العد العكسي لانهيار النظام الإيراني؟».
سحر محرابي لن تنتظر طويلاً لتتأكد من الجواب.
على الرغم من مرور نحو ثلاثين عاما على تطبيقها، لم تنجح سياسات طهران في تحقيق أي من أهدافها الاستراتيجية. لم تفكّ العزلة التي فرضت عليها من الغرب، وإزالة قرار العقوبات التي لا تزال تخضع لها من دون أفق واضح للخروج منها، ولم تحدّ من تغول إسرائيل ورفضها الاعتراف بحقوق الفلسطينيين. كما أنها لم تجعل من إيران الدولة الإسلامية المركز، ولا كرّست هيمنتها الإقليمية، وإنما زادت من عزلتها، وألبت عليها أكثر الدول العربية والإقليمية الخائفة من عملياتها التخريبية، ولم يساهم برنامجها العسكري الكبير واستراتيجيتها التوسعية في تعزيز أمنها القومي، ووقايتها من الانتفاضات الشعبية، ولكنه أطلق عنان أزمة إقليمية وحروب أهلية طويلة وعنيدة، لن يتأخر انتقالها إلى داخل إيران نفسها، ولم تفض سياسة تصدير الثورة "الإسلامية" إلى القضاء على نظم الطاغوت، وتحرّر شعوب المشرق العربية والإسلامية من الاستبداد العميم، لكنها أجهضت الجهود الهائلة التي قدمتها هذه الشعوب، من أجل التخلص من طغاتها، وأولهم حاكم سورية الحليف، وأدخلت المنطقة بأكملها في أزمةٍ تاريخيةٍ متعدّدة الأبعاد والمصادر، ليس هناك في الأفق بعد أمل بانحسار لهيبها، واقتراب نهايتها.
(1)
سواء جاء ذلك عن وعي أو من دون وعي، كانت الحصيلة النهائية لسياسات إيران الخمينية الموجهة نحو الخارج الإجهاز على توازنات المنطقة جميعا، الدينية والثقافية والسياسية والاستراتيجية والاقتصادية، وتحقيق أوسع عملية تدمير شهدتها المنطقة: تدمير نسيج مجتمعاتها الوطني أولا، وتدمير دولها وتقويض بنياتها المدنية والقانونية ثانيا، وتدمير العلاقات التاريخية بين شعوبها ثالثا، وتدمير صورتها ورصيدها الثقافي والديني والسياسي لدى الرأي العام العالمي والمجتمع الدولي، وتعريضها لجميع الشكوك والاتهامات الفاسدة رابعا، وتدمير حضارتها ومدنها وقراها وتشريد شعوبها، بالمعنيين المادي والمعنوي، للكلمة خامسا، وهي العملية التي كان لطهران ومليشياتها الطائفية الدور المباشر والأكبر فيها.
حصل ذلك ببساطة، لأن نظام ولاية الفقيه ذو البنية البابوية القيصرية، بدلا من العمل على امتصاص التوترات والانقسامات وتهدئة المخاوف من عواقب ثورة إيران الشعبية الكبرى، وتطوير التعاون الإقليمي، والسعي إلى بناء تفاهم عربي إسلامي في وجه سياسات الهيمنة الاستعمارية الغربية والروسية، ومحاصرة سياسة التسلط والعربدة التي تمارسها إسرائيل على المنطقة، أراد أن ينافس الغرب وتل أبيب على موقع الهيمنة والسيادة، ووضع نفسه ندّا للولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل، وقرر الركض المجنون وراء سراب بناء دولة خلافة إمبرطورية إيرانية على أشلاء البلدان والشعوب العربية الضعيفة.
واعتقدت إيران أنها لن تتمكّن من ذلك إلا بتركيز كل جهودها وموارد شعبها على تطوير صناعة الأسلحة الاستراتيجية الأكثر كلفةً وخطورة وتهديدا، وتمويل المليشيات التخريبية في كل بلد تجد فيه موطئ قدم لها، واختراق النظم السياسية والاجتماعية العربية وتضييق الخناق عليها، على أمل أن يمكّنها ذلك من السيطرة عليها، وتوجيه مواردها البشرية والمادية لتحقيق أهدافها التوسعية. ولم تتردّد من أجل الوصول إلى مبتغاها في إضرام نار حربٍ طائفيةٍ، سنية شيعية إقليمية، بذلت الأجيال المشرقية الماضية جهودا مضنية لإخمادها.
لكنها لم تنجح في أن تتحوّل، كما طمحت، إلى القوة الرئيسية المهابة في إقليمها، ولا أصبحت بفضل نفوذها العسكري وتهديداتها المحاور المفضل للغرب والمجتمع الدولي عن المنطقة كلها. لأنها استخدمت قوتها ومواردها لأهدافٍ سلبيةٍ أصبحت بالعكس البعبع الذي يبث الذعر في قلوب شعوب المشرق ودوله، ويفجر مخاوف الغرب على مصالحه، وعلى الاستقرار والسلام في أكثر المناطق تفجرا في العالم، بعدما صار تسعير النزاعات وإشعال الحروب وتصديرها بضاعة طهران الرئيسية في التعامل مع بلدان المنطقة والعالم. وهي الآن مقدمة عاجلا أم آجلا على دفع فواتير الكوارث التي تسببت بها في أكثر من دولة ومكان.
(2)
أول هذه الكوارث تعنى بالقضية الفلسطينية التي جعلت طهران من الدفاع عنها، بل من تبنّيها، عنوانا لسياستها التوسعية ومصدر شرعيةٍ لغزواتها المتكرّرة والمتعاقبة في أراضي من كان ينبغي أن تقف مدافعةً عن حقوقهم واستقلالهم.. لم تساعد سياسة إيران في هذا الميدان على تعزيز موقف الشعب الفلسطيني، ولكنها تحولت إلى تواطؤ موضوعي مع تل أبيب على تقسيم الحركة الوطنية الفلسطينية، وشقّ صفوفها، ومسخ سلطتها بين "شبه دولتين" في الضفة الغربية وقطاع غزة، وتحويل القطاع إلى أكبر معزل وساحة بؤس وموت سياسي ومعنوي، وأحيانا مادي، لمليوني فلسطيني يقطنونه.
وقدّم تحطيم الوحدة الوطنية الفلسطينية، والأزمة والصراعات الداخلية التي رافقتها ولا تزال، أكبر ذريعة لإسرائيل للتهرّب من أجندة المفاوضات الدولية المفترضة لإقامة الدولة الفلسطينية العتيدة. وسمحت لتل أبيب بالاستمرار، من دون أن تخشى أي ضغط سياسي أو عسكري، إقليمي أو دولي، في تطوير مشاريع الاستيطان، وتوسيع رقعة الاحتلال، على الرغم من ارتفاع نبرة المقاومة في طهران وبيروت والمليشيات الرديفة.
أما عن تأثير سياسة هذه المقاومة على وضع القضية الفلسطينية على الصعيد الدولي، فليس من المبالغة القول إن إسرائيل لم تكن تحظى برعاية شاملة وعمياء لدى الغرب، ولم يكن العالم أكثر احتضانا لها، وتسامحا مع مشاريعها الاستيطانية وممارساتها العنصرية، مثلما تحظى بها اليوم. هكذا لم يلق اعتراف واشنطن بالقدس أخيرا عاصمة أبدية لإسرائيل، ونقل سفارتها إليها، مخالفة لجميع القرارات الدولية حول الاحتلال، أي رد فعل عربي أو إسلامي أو دولي ذي معنى، ولم يثر غضب الشارع العربي الشعب، ولا حرّك أحزابه ومنظماته، فما بالك بموقف العواصم الغربية. لقد حوّلت الحروب والنزاعات والمخاوف، وطوفانات الدماء التي أسالتها مليشيات طهران ومناوراتها في عموم بلدان المشرق، أنظار العالم بأجمعه عن قضايا المجتمعات وحقوقها، وفي مقدمها قضية فلسطين، حتى لا تبقى هناك نافذة للإطلال على أزمات المنطقة ومآسيها، إلا من الزواية الإنسانية التي أصبح همها البحث عن حلول ومعالجات للآثار المأساوية لحروب الوكالة الإيرانية.
لم يساهم "خيار المقاومة"، ولا المحور الذي تبلور من حوله، والذي وضع نظام الأسد، قاتل شعبه، في صلبه، في ردع إسرائيل أو إضعاف موقفها الاستراتيجي ذرة واحدة. لقد ساعدها بالعكس على فك عزلتها السياسية، وقدّم لها شروط صعودها وطفورها إلى قوة إقليمية رئيسية قاهرة ومعترف بها. وهي تستطيع اليوم التنزه بطائراتها في فضاءات السيادة العربية والإيرانية كما تشاء، وتستعرض عضلاتها، وتخوض حربها الخاصة مع إيران نفسها على الأراضي السورية، ضد القواعد والمليشيات الإيرانية، من دون أن تخشى أي مضاداتٍ أو صواريخ باليستية إيرانية من أي نوع، ولا من يجرؤ، وخصوصا طهران، على تحدّيها، بل حتى الاعتراف بما تتكبده نتيجة غاراتها من خسائر وانهيارات.
ولا تقل كارثة سورية أهميةً عن كارثة تدمير القضية الفلسطينية وتخريبها، إن لم تفقها أضعافا مضاعفة. وهي حالة واحدة من بين حالاتٍ كارثية عديدة أخرى، لا تزال آثارها متواترة في العراق واليمن وغيرهما. فلا يغيب عن أحدٍ أن تدخل طهران في سورية جاء للحفاظ على نظام الأسد من السقوط أمام ثورةٍ شعبيةٍ سلميةٍ ومدنيةٍ أكثر من عادلة، وهو النظام الذي لا يكفّ الإيرانيون في الجلسات الخاصة عن الحديث عن عمق فساده وضلاله السياسي وحمقه واستهتاره بكل المصالح والقيم والمبادئ والقوانين. وهو كذلك بالفعل، كما هو الحال لدى أي عصابة إجرامية أخرى، مع فارق أن هنا عصابة تمتلك جهاز دولة كاملة.
ولا أحد ينكر أيضا أن هذا التدخل الإيراني المتعدد الأشكال للحفاظ على نظام الإبادة الجماعية كان السبب الرئيسي للوضع الذي وصلت إليه سورية، من انحلال الدولة، وتغول المليشيات الطائفية، وتدخل الجيوش الأجنبية، وتناسل المنظمات الإرهابية، في الوقت الذي كان من المفترض فيه أن تراهن إيران على قوة سورية، وتطوير قدراتها العسكرية والشعبية في الإعداد لأي مواجهة محتملة مع إسرائيل. كما لم يخف الإيرانيون ولا يخفون أن الهدف من هذا التدخل هو بناء هلال إمبرطوري شيعي، يمتد من قم في شرق إيران إلى شاطئ المتوسط، وأنهم مستعدون للقتال حتى آخر سوري وعراقي وأفغاني، وإيراني عندما يضطر الأمر، لتحقيق هذا الحلم التاريخي الكبير.
(3)
ونتيجة ذلك يفقأ العين اليوم: التدمير شبه الكامل لسورية، دولة وشعبا وحضارة، وتشريد شعبها، في الداخل والخارج، والسعي المحموم إلى إعادة هندستها الديمغرافية لصالح المستوطنين الجدد، من أبناء المليشيات الأجنبية والمشردين غير السوريين، بحيث يضمن الفاتح الجديد استحالة عودة سكانها الأصليين، وبالتالي السيطرة النهائية عليها، والاستفراد بتقرير مصيرها. وفي سبيل ذلك، لم تتوقف طهران عن دسّ خبرائها ومستشاريها وعملائها في أجهزة الدولة السورية والتحكّم بها من الداخل، مدعمةً وجودها السياسي ببناء عشرات القواعد العسكرية في مناطق استراتيجية حساسة، تضمن سيطرتها على البلاد والإمساك القوي بها، وتعطيل أي مخرج سياسي للحرب، أو أي احتمال لعودة الحياة الطبيعية، اليوم وفي المستقبل، ما لم تنسجم مع أجندة هيمنتها الإقليمية والدينية، وتراعي مصالحها التوسعية.
لكن طهران وصلت اليوم إلى ساعة الحقيقة. وهي تواجه الانهيار الكامل لمشروعها، وتدرك أنها وقعت في الفخ الذي صنعته بيدها، وتجد نفسها في موقف السارق الذي ألقي القبض عليه بالجرم المشهود، في اللحظة التي همّ فيها بالخروج بغنيمته الكاملة تحت جنح الظلام، معتقدا أن لن يراه أحد. الدول الرئيسية المعنية بتقاسم الفريسة السورية التي أجهز عليها الإيراني تتفق في ما بينها على إخراج طهران وحدها من دون غنيمةٍ، وترى في طردها خارج سورية الطريق الوحيد إلى إنهاء الحرب الوحشية التي كانت طهران الموقد الرئيسي فيها منذ البداية إلى اليوم، والتي لا تملك حلا يرضي أطماعها من دون استمرارها.
من سخرية القدر المرّة أن يقع الاختيار، من أجل تدمير القواعد العسكرية، وتصفية النفوذ الايراني في سورية اليوم، على إسرائيل نفسها التي جعلت طهران من مقاومة غطرستها وسياستها في المنطقة فرس سباقها، لكسب عطف الجماهير الإيرانية والعربية وتأييدها، كما بنت على التحدي الظاهري لغرورها والاستهزاء بها عقيدة توسعها ومصدر شرعية حروبها في الأرض العربية.
لا تختلف نتائج سياسة ولاية الفقيه تجاه منطقة الخليج العربي التي طمحت طهران دائما أن تلعب دور الشرطي فيها، قبل الخمينية وبعدها، في كارثيتها عما كانت في الأمثلة السابقة، فبدل أن تحث ضغوط طهران المكثفة والمتواصلة، العسكرية والأمنية والطائفية والسياسية، على حكوماتها على التسليم لها والتعاون معها، أو أن تشجع الغرب، كما كان الحال في عهد الشاه البائد، إلى تليين موقفه من طهران، أو التفاهم معها كما أملت لتأمين مصالحه الإقليمية فيها، بدل ذلك زرعت الرعب في أوساطها، ودفعت بها إلى النقيض تماما مما سعت طهران لتحقيقه. شجعتها على الذهاب حيث لم يكن يخطر لعربي حصوله، أو حتى التفكير فيه: الرهان على إسرائيل لموازنة القوة الإيرانية ومواجهة تغول دولة الحرس الثوري ومخاطر عدوانها. وفي اعتقادي، لا يحول دون دخول بعض دول الخليج العلني في هذا الحلف ضد إيران سوى خشيتها من ردود الفعل الشعبية، واستفزاز الرأي العام الذي لا يثق بالنوايا الإسرائيلية أكثر مما وثق بنوايا طهران الخمينية، ويدرك بالسليقة ما تكنّه إسرائيل ومشروعها الاستيطاني والاستعماري من عداء مستدام وأصيل لحقوق الشعوب العربية، وفي مقدمها حقهم في الحرية والتخلص من طغاتهم.
هكذا فتحت إيران الخمينية بيدها الباب أمام صعود حقبة الهيمنة الإسرائيلية الإقليمية التي تعد نفسها للحلول محل الحقبة الإيرانية التي لن يتذكّر العرب والإيرانيون وجميع شعوب المنطقة منها، بعد سنوات أفولها، صورة أخرى غير تفجير الحروب بالوكالة وإدارتها، وتدمير الدول، واستنزاف المجتمعات، واستسهال القتل وسفك الدماء.
لا يخطئ الرأي العام العربي عندما يربط بين إسرائيل واستمرار نظم القمع وإرهاب الدولة القائمة في بلدانه. وهو مدرك أنه لا يوجد أي احتمال في أن يغير أفول الحقبة الإيرانية لصالح حقبة الهيمنة الإسرائيلية شيئا من الأوضاع القاسية الراهنة، أو يقدم مخرجا من الكوارث القائمة ويشهد ولادة مزيد من الأمن والسلام في هذه المنطقة المدانة. ستتابع إسرائيل الخارجة منتصرة على أنقاض أحلام الإمبرطورية الإيرانية الإسلاموية، بعدما خرجت منتصرة على أنقاض دول جامعة الدول العربية ورابطتها "القومية"، بحماسة وقوة أكبر، بسياسة الاستيطان وقطع الطريق نهائيا على أي تجسيدٍ للسلطة الفلسطينية في دولةٍ مهما كانت ناقصة. وسوف تستمر على الرغم من تفوقها العسكري الساحق، وسيطرتها الشاملة مع حلفائها الغربيين، في إضعاف الدول العربية وتفكيك مجتمعاتها وتفجيرها من الداخل، استكمالا لما قامت به طهران، وليس بالضرورة بوسائل أقل بدائية وفجاجة. ومنذ الآن، تسعى تل أبيب إلى انتزاع اعتراف واشنطن بضم الجولان والاشتراك معها في بسط السيطرة على جنوب سورية، والتحكم بمستقبله: منطقة محايدة وفاصلة محرمة على أي وجود عسكري لا يخضع لموافقتها.
لن يقلل مشهد الانهيار الاستراتيجي والسياسي والأخلاقي معا للعالمين العربي والإسلامي، وانهيار الحلم الإمبرطوري الإيراني آخر حلقاته، من شعور إسرائيل بالتفوق والحق في السيطرة والتحكم بجدول أعمال المنطقة والاستبداد بتقرير مصيرها، ولكنه سوف يدفعها علنا إلى وراثة الحلم الإيراني الإقليمي ذاته، والبناء عليه. ولن تجد العقلية العنصرية السائدة عند نخبتها الحاكمة اليوم، ومنطق الغيتو الذي يتحكّم بنفسية وثقافة القسم الأكبر من نخبها الاجتماعية، السياسية والثقافية، فائدة من استغلال الفرصة التي تقدمها هزيمة طهران، وفشلها في معركة السباق الإقليمي على السيادة والهيمنة، للتقرّب من شعوب المنطقة، والتفاهم معها، لإيجاد حلول للمشكلات والنزاعات القائمة، على سبيل السعي إلى دمج نفسها في المنطقة. سوف تنظر، على الأغلب، إلى خراب عالم العرب والمسلمين، باعتباره فرصتها التاريخية لتحقيق كل ما لم تنجح في تحقيقه حتى الآن. وسوف يضيف التفوق الاستراتيجي الذي جرّبته بمناسبة سحقها الوجود العسكري الإيراني في سورية عنجهية جديدة إلى عنجهيتها الطبيعية والمعتادة، ويفاقم من غطرسة القوة التي تدفعها إلى الاعتقاد بأنها قادرة اليوم، أكثر من أي وقت سابق، على استغلال النفوذ الذي كسبته لبسط سيطرتها الكاملة على المشرق، واستعادة التقاليد السياسية للنظم الاستبدادية في تقسيم المجتمعات، وتوسيع دائرة نزاعاتها واستخدامها حسابها، ما يهدّد بجعل المشرق العربي، سنوات طويلة قادمة، حاضنة لمشاريع المعازل العنصرية المتعادية والمتوازية، ومسرحا للصراعات الدائمة بين القوميات والطوائف والمناطق المتناحرة، وتربة خصبة لاستنبات وتكريس نظم الطغيان القرقوشية التي تضمن الأمن لإسرائيل على حدودها، والتي أصبح لديها نموذج حي تستطيع أن تستلهمه في إرث نظام الإبادة الجماعية الذي فهم بشار الأسد بالسليقة الوحشية أن التمسك به هو الضمانة الأكبر للتوافق مع أهداف إسرائيل، وتعظيم حظوظ بقائه في السلطة إلى أقصى ما تسمح به تجارة الإرهاب وسفك الدماء.
لا يقدّم أفول القوة الإيرانية أي عزاء، على الرغم من كل الكوارث التي تسببت بها للعرب وغيرهم. إنه يثير بالعكس الشعور بالسخط والأسى للفرص الضائعة لجمع الجهود العربية والإيرانية، ليس لمواجهة تسلط القوى الخارجية، وتغول القوة الإسرائيلية فحسب، ولكن بدرجة أكبر لشق طريق التنمية والنهوض والتقدم لشعوب المنطقة، وفي مقدمها الشعب الإيراني نفسه الذي عليه أن يواجه كارثةً لا تقل حجما عن الكوارث التي واجهتها الشعوب العربية في العقود الثلاثة الماضية. وسوف يحتاج هو أيضا إلى عقود طويلة قبل أن يزيل عن صدره أنقاض انهيار إمبراطوريةٍ مذهبيةٍ كبيرةٍ أصيبت بداء العظمة والجنون، وفقدت صوابها، ولم يعد أمامها أي أمل في البقاء سوى بالعودة إلى العمل مع إسرائيل، واستعادة التحالف معها، كما كان الأمر في عهد الشاه، وخلال الحرب الإيرانية العراقية. أما نحن الذين فقدنا توازننا، ولا نزال نسير على أرضٍ تميد من تحت أقدامنا، ولا أمل في أي بعثٍ أخلاقي يعيد إحياءنا، فمن كابوس إلى كابوس.111