تستخدم روسيا اتفاق خفض التصعيد الموقع حول جنوب سورية في شهر تشرين ثاني (نوفمبر) من العام الماضي كمصيدة لإيران من جهة، وللولايات المتحدة الأميركية من جهة ثانية، وللنظام السوري من جهة ثالثة، وهو الذي لا يزال يعتمد حالة العناد والتحايل والتلاعب بين الرغبة الإيرانية، والإرادة الروسية، في تنفيذ متطلبات التسوية الروسية المقترحة، فتأزيم الأوضاع في منطقة خفض التصعيد في الجنوب (وهي الطرف الضامن المقابل للطرف الأميركي) من شأنه أن يمارس ضغطاً باتجاهين: الضامن (الولايات المتحدة والأردن) والمضمون (فصائل الجنوب المسلحة والنظام)، كما أنه قد يثير شهية التساؤلات لدى المعارضة عن فاعلية اعتمادهم على الجانب الأميركي في إجراءات التسوية العسكرية والسياسية في آن معاً.
وتعتقد موسكو أن التهديد بانفجار الوضع في الجنوب السوري من شأنه أن يلزم كل الأطراف المتضررة (المعارضة والأردن وإسرائيل) للتحرك باتجاه تسوية قابلة للتطوير، من شأنها أن تنهي حالة الركود السياسي التي تخشاها موسكو، نتيجة الموقف الأميركي المتحفظ على نتائج جولات آستانة التسعة، واعتبارها مساراً جانبياً لن يفضي إلى حلول شاملة، حيث إيران الطرف الثالث فيها إلى جانب روسيا وتركيا. ما يعني أن عدم التزام كامل المعارضة بمشروع موسكو في آستانة وسوتشي ترده روسيا إلى الموقف الأميركي، الذي يرفض انفرادها بالحل من دون النظر إلى مصالحها مع بقية الشركاء من الأوروبيين، وعلى ذلك فإن إثارة المخاوف لدى المعارضة، عن إمكانية خرق اتفاق خفض التصعيد من قبل النظام السوري، وإعادة التجربة الأليمة التي حدثت في الغوطة والقلمون، وقبلها حلب وحمص، يجبرهم على البحث في حلول توفر على منطقة حوران «مهد الثورة» ما ينتظرها من تدمير وقتل وتشريد لأهاليها من ناحية، ومن ناحية أخرى يحفز الجانب الأردني المتضرر من أي حرب تقوم بمحاذاة حدوده على تسريع عجلة التفاوض، والوصول إلى تسويات توفر له استقرار معابره مع سورية، وكذلك يثير شهية «إسرائيل» في ترتيب أوضاع حدودها التي تريدها خالية من الوجود الإيراني.
إذاً تلويح النظام بالمعركة المقبلة في درعا ليس من بنات أفكاره، على رغم أنها تمثل رغبته في استعادة السيطرة على الحدود مع كل من الأردن وكذلك دولة الاحتلال، لما يوفره ذلك من مردود اقتصادي عبر فتح المعبر الذي حرم منه النظام لسنوات طويلة إثر سيطرة فصائل الجيش الحر عليه عام 2013، ومن مردود سياسي يعيده إلى ممارسة دوره الوظيفي في الحفاظ على الهدنة البينية مع إسرائيل، إلا أن ما يترتب عن إعلان هذه المعركة «الإعلامية» من نتائج، يأتي ضمن سياق «اضطراره» تنفيذ رغبة روسيا في الالتزام بالمطالب الأميركية، والتي تصب في مصلحة موسكو، بينما تقوض آمال النظام في الإبقاء على حليفته إيران كعامل توازن له في مواجهة الغطرسة الروسية عليه، حيث كان يعول على المساندة الإيرانية لاستعادة كامل سورية، لخلق تسوية شكلية مع المعارضة تنهي فيها مفاعيل الثورة التي اندلعت عام 2011، وتؤسس لإعادة إنتاج النظام وفق مبادرة سوتشي ذات الضمانات الروسية والإيرانية والتركية.
وهذا ما جعل موسكو تقر أكثر من مرة أنها لا تستطيع أن تلوي يد النظام السوري وحدها، بسبب الوجود الإيراني في سورية، ودعمه منقطع النظير لحليفه الأسد، ما مكّنه من التواطؤ مع إيران ضد روسيا خلال عقدها اتفاقيات التسوية مع المعارضة، والتي يعتبرها النظام تقوض من صلاحياته في مناطق خفض التصعيد، ما وفر له بالتعاون مع إيران المرغمة على القبول بآستانة، القدرة على التحلل من هذه الاتفاقات ذات الضمانة الثلاثية المشتركة بين حليفيه، وتركيا حليفة الفصائل المحسوبة على المعارضة، وأن يخوض معاركه الوحشية التي أدت إلى استرجاع تلك المناطق بعمليات عسكرية، قتل فيها المئات وشرد عشرات الآلاف من السوريين داخل وخارج سورية، إلا أن النظام يدرك الآن أن اللعب مع الولايات المتحدة ضمن منطقة خفض التصعيد في الجنوب من دون التنسيق مع روسيا يعني انتهاء مرحلة الصمت عليه، أميركياً وإسرائيلياً، ما يعني أن المعركة «في حال وقوعها» يجب أن تكون وفقاً للشروط التي تريدها إسرائيل أي خالية من المشاركة الإيرانية، وغير ذات ضجيج يقلق المستوطنين فيها، وتضمن المصالح الأردنية في ذات الوقت ما يجعل خيار التسوية أسهل من خيار الحرب على الطرفين: النظام العاجز والمعارضة المقيدة.
ومن هنا فإن النظام الذي تكبله إيران بجملة اتفاقيات ومديونية كبيرة، يصعب عليه أن يطلب من إيران الخروج من سورية حسب الرغبة الإسرائيلية، التي نقلها الرئيس بوتين خلال لقائه ببشار الأسد في سوتشي في 17 أيار (مايو)، ما يعني أن التحضيرات لمعركة الجنوب هي مجرد مسرحية هدفها التحرش بإسرائيل، لوضعها في حالة المواجهة المباشرة مع إيران، وبالتالي اتخاذ الإجراءات اللازمة من قبلها مع حليفتها الولايات المتحدة لممارسة ضغوطهما على النظام الإيراني، للخروج بإرادتها من مسرح الوقائع السورية، ما يوفر على النظام الحرج، وعلى موسكو المواجهة مع إيران، وإضعاف تحالفها معها، الذي تعتبره روسيا أحد أوراقها الرابحة في التفاوض مع كل من أميركا والغرب.
وبالعودة إلى الاتفاق الموقع بين الجانبين الروسي والأميركي، فإنه أساساً يضمن الخروج الإيراني وفق بنوده، التي شاركت الأردن فيه كضامنة لفصائل الجيش الحر الملتزمة بتنفيذه حتى اليوم، وهذا ما حركه من جديد الضغط الإسرائيلي من جهة، والحصار الأميركي على إيران من جهة أخرى، ونتج عنه التصريحات الإيرانية التي جاءت على لسان السفير الإيراني في الأردن مؤكدة خلو المنطقة من الوجود العسكري الإيراني، ليكون ذلك مقدمة لإذعان إيران للمطالب الأميركية، ولخوض اتفاقات من نوع جديد مع كل من الولايات المتحدة وإسرائيل، لترتيب أوضاعها في كل من سوريا ولبنان والعراق واليمن، وانكفائها من دور القوة التوسعية في المنطقة، إلى دور الشريك الأمني في حفظ حدود إسرائيل كوظيفة مستقبلية، وضمان استقرار الحدود مع جيرانها لإنعاش الواقع الاقتصادي الذي تلعب المصالح الأميركية الدور الرئيسي فيه، أي أن ما يتم اليوم عقد التفاهمات عليه، من تسليم المعارضة لسلاحها الثقيل، ودخول الشرطة الروسية إلى المنطقة، وكذلك استعادة النظام لمعبر نصيب، وعودة مؤسسات الدولة للعمل تدريجاً، ما هو إلا جزء من الاتفاق الذي يعرف تفاصيله قادة الفصائل الملتزمة باتفاق خفض التصعيد، كما تعرفه المعارضة السياسية التي أعلن قادتها انتهاء الصراع مع النظام منذ إعلان البيان المشترك للرئيسين ترامب وبوتين، بعد حديث وصف آنذاك «بالمقتضب» خلال قمة أبك في فيتنام تشرين الثاني (نوفمبر) 2017.
إن استمرار نجاح الاتفاق المعلن في الجنوب، إنما يعبر عن حقيقة مفادها: أن الصراع في سوريا على رغم تعدد الجهات الدولية المتورطة فيه، وتحول الأطراف السورية المعارضة منها أو النظام على حد سواء إلى مجرد أدوات مقيدة بمصالح مشغليها، إلا أنه في النهاية يبقى بين طرفين أساسيين هما الولايات المتحدة وروسيا، وما لم يتوصلا إلى اتفاق سياسي مماثل للصراع في سوريا يفرض بقوة الوجود العسكري والدبلوماسي لهما، فإن كل حديث عن تفاوض مقبل يبقى في إطار التسويق الإعلامي للجهات الراعية له، حتى ولو كانت الأمم المتحدة نفسها، فهل تكون درعا هي اختبار المصالحة الفعلية بين الإرادتين الأميركية والروسية حول سورية.
تنشغل وسائل إعلام، عربية خاصة، منذ فترة، بسؤال خروج إيران أو إخراجها من سورية، وقد ازداد الشغف بإثارة هذا السؤال، ومحاولة الإجابة عليه أخيراً بفعل ثلاثة مستجدات. الأول: اشتداد الضغوط الأميركية على إيران، خصوصاً بعد انسحاب الرئيس ترامب من الاتفاق النووي، وتبنّي سياسة تهدف الى تطويق النفوذ الإقليمي الإيراني وتحجيمه، ابتداء من سورية (واليمن أيضاً). وقد عزّز هذا التوجه ورود أخبار عن استهداف قوات التحالف الدولي، بقيادة واشنطن، قاعدة عسكرية يستخدمها الحرس الثوري الإيراني ومليشيات تابعة له في منطقة حميميم في محافظة دير الزور، شرق سورية. وتعد هذه المرة الأولى التي تستهدف فيها الولايات المتحدة قواتٍ تابعة لإيران بشكل مباشر، منذ انطلاق الحرب على تنظيم الدولة الإسلامية خريف العام 2014، بعد أن كانت هذه المليشيات حليفاً موضوعياً لها في الحرب على التنظيم (وإن على الجانب العراقي من الحدود). المستجد الثاني، تصاعد الاستهداف الإسرائيلي قواعد ومقرات إيرانية على امتداد الجغرافية السورية، في تغير واضح في السياسة الإسرائيلية تجاه الصراع في سورية، فبعد أن كانت إسرائيل تتقبل الوجود الإيراني في سورية، طالما ظل محصوراً في دعم النظام، ومرتبطاً بموازين الصراع السوري، أخذت إسرائيل تستهدفه، بعد أن أخذ يتحول إلى وجود عسكري دائم لإيران في سورية، يهدف إلى التأثير في معادلات الصراع الإقليمي. أما العامل الثالث، والذي أجج النقاش بشأن مستقبل الوجود الإيراني في سورية، فهو التصريحات التي أدلى بها مسؤولون روس، وفي مقدمتهم الرئيس فلاديمير بوتين، حول ضرورة خروج كل القوات الأجنبية من سورية، وإيران هي من ضمن هذه القوات بطبيعة الحال.
تدفع هذه المستجدات إلى الاعتقاد بوجود تنسيق روسي - إسرائيلي، ليست واشنطن بعيدةً عنه، هدفه إخراج إيران من سورية، وإذا أخذنا بالاعتبار تصريحات نائب وزير الخارجية الروسي، سيرغي ريباكوف، أن الحفاظ على الاتفاق النووي الإيراني غير ممكن، من دون أن تقدم إيران تنازلاتٍ، يتنامى الاعتقاد بوجود "طبخة" يقدم فيها بوتين إيران قرباناً لتصحيح العلاقات مع واشنطن من جهة، ومنع حصول مواجهة إيرانية – إسرائيلية - أميركية في سورية، تودي بكل الاستثمارات الروسية فيها، من جهة أخرى. وقد تردّد أخيراً، أن تفاهماً روسياً - إسرائيلياً، بمشاركة الأردن، تواكبه واشنطن لترتيب الوضع على حدود سورية الجنوبية، قيد الإنجاز، يتم بموجبه السماح للنظام السوري باستعادة السيطرة على معبر نصيب، وإعادة فتح الطريق الدولي بين دمشق والحدود الأردنية، في مقابل إبعاد إيران مسافة 60 كم عن الحدود، فيما يتحدث الروس عن تفاهم أوسع، يتضمن انسحاباً إيرانياً - أميركياً متزامناً من جنوب سورية.
يشير ذلك كله إلى أن معركة اخراج إيران من سورية، بعد أن أتمت مهمتها في تثبيت النظام هناك، قد بدأت فعلاً، وأننا نشهد الآن بعض تجلياتها، لكن كل هذه التحليلات تنحو إلى تجاهل موقف إيران من المساومات التي تجري على رأسها في سورية، فمن الخطأ الاعتقاد أن الإيرانيين سوف "يضبضبون" أشياءهم، بمجرد أن يُطلب إليهم، ويخرجون من سورية بهدوء، أخذاً بالاعتبار ما فعلوه من أجل الاحتفاظ بالسيطرة عليها.
الحكمة السائدة أن العراق ولبنان هما البلدان الأكثر أهمية لإيران في المنطقة، وأن سورية بعدهما. هذا صحيح من دون شك، فليس هناك هدف أعظم قيمة في سياسة إيران الخارجية من إبقاء العراق ضعيفاً وتحت هيمنتها. أما لبنان فهو الركن الأهم في استراتيجية إيران الدفاعية حال تعرّضها لهجوم إسرائيلي أو أميركي. لكن الاحتفاظ بالعراق ولبنان غير ممكن من دون سورية، بدليل أن تنظيم الدولة الإسلامية غزا العراق من سورية عام 2014. وحتى لو فقدت إيران السيطرة على العراق، فإن احتواءه لا يكون إلا عبر سورية، على ما دلت حرب الثماني سنوات بين العراق وإيران.
وبحسب مستشار المرشد علي أكبر ولايتي، فإن سورية هي "واسطة العقد في محور المقاومة، وخروجها يعني سقوط المحور بكامله". وإذا لاحظنا أن إيران تخلت عن برنامجها النووي، لقاء الاحتفاظ بنفوذها الإقليمي، على اعتبار أن السلاح النووي يمكن الحصول عليه دائماً، طالما توفرت المعرفة النووية، بينما "إذا خسرت إيران سورية لا تستطيع الحفاظ على طهران"، على ما قال القيادي في الحرس الثوري، مهدي طيب. لذلك ستكون المعركة مع إيران في سورية أطول وأعقد مما يعتقد كثيرون.
انتهى زمن الحروب السهلة في سورية، التي كانت تقرّرها الأطراف المحلية، وتلك التي كانت تديرها الأطراف الإقليمية، وحتى التي أدارتها روسيا منفردة. هي مرحلة وانتهت. ولأن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، كان يعرف هذه الحقيقة، استدعى وكيله في سورية، بشار الأسد، ليطلب منه الاستعداد للبدء في مرحلة جديدة، إطلاق عملية السلام.
لكن، ماذا عن جنوب سورية، درعا والقنيطرة، وعن إدلب وأجزاء من شمال سورية، وعن كامل شرقها؟ ماذا عن المعابر مع الأردن وتركيا وحقول النفط والغاز والقمح والقطن في الجزيرة السورية، ألا تستحق تلك المناطق والبقاع أن يجرّد نظام الأسد الحملات العسكرية لإخضاعها، وإذا بقيت خارج حدود سيطرته، فما الذي ستكون حققته انتصاراته، بمساعدة كل جيوش إيران البرية في المنطقة، وكامل سلاح الجو والصواريخ لثاني قوّة عسكرية في العالم؟
ليس خافياً أن الأسد وبوتين غير راضيين عن هذه النتائج، بعد أن خلصا إلى حكم عاصمةٍ، وبضعة مدن ليس لديها ما تقدمه لهما سوى المطالبة بميزانيات إنفاق لتسيير شؤونها اليومية، وإصلاح الأعطاب الهائلة في بناها التحتية، من دون أن يكون في استطاعتها المساهمة في توفير الموارد التي يحتاجها نظامٌ يعيش على قنوات التغذية التي تمدّها له إيران، في مقابل بيعها أصول سورية الاقتصادية، وجزءا كبيرا من ثروتها التاريخية.
لكن، وبما أن بوتين لم يكن بمقدوره السيطرة على المساحة التي يقف عليها الآن، من دون إجراء شبكة معقّدة من الترتيبات والوعود للأطراف الإقليمية، بما تضمّنه ذلك من تفاهماتٍ شفوية واتفاقات مكتوبة في أحيان كثيرة (مناطق خفض التصعيد)، وبما أن الدول ليست ساذجةً بالقدر الذي يجعلها تتنازل بالسياسة عمّا حصّلته تحت ضغط النيران، فإن بوتين يدرك مدى صعوبة المرحلة، وخطورة أي حساباتٍ خاطئة.
جرّب، في مرّة سابقة، تغيير المعادلات والخروج عن التوافقات، فكانت مذبحة دير الزور التي قتل فيها مئاتٌ من المرتزقة الروس، ثم لم يستطع إعلام روسيا، بكل قدرته على التحريف والتلفيق، إخفاء الفضيحة، وصمتت الدبلوماسية الروسية في هذا الشأن، ووحدهن أمهات القتلى وزوجاتهم من كشفوا فظاعة الكارثة.
واليوم يبدو أن بوتين يحاول اختبار طريقة مختلفة في درعا، باتباع أسلوب التهويل والوعيد، على فصائل المعارضة. وكانت النية أن يتم إفراغ اتفاق خفض التصعيد من داخله، من دون حاجة إلى إعلان صادم مع القوى الراعية، فقد أرادت روسيا دفع فصائل الجنوب إلى الاستسلام، عبر آلية إجراء المصالحات وتسوية أوضاع الراغبين في البقاء في مناطقهم، وترحيل غير الراغبين إلى إدلب. وعند ذلك الحين، لن تبقى لأميركا، الراعي اتفاق خفض التصعيد، ذريعةً للدفاع عن هذا الاتفاق، ما دام أصحاب الأرض قبلوا بالحل الذي اقترحه الروس عليهم.
واشتغلت مكائن الروس ونظام الأسد لإنجاز الأمر، قبل أن يعي الطرف الأميركي حقيقة ما يجري، واجتمع ضباط قاعدة حميميم، برفقة مخابرات الأسد، مع عشرات الوفود من درعا والقنيطرة وأريافهما، ووضعوا على الطاولة ما حصل في الغوطة الشرقية بكل تفاصيله، من التدمير الذي تنقّل من حي إلى آخر، إلى الضربة الكيميائية، وصولاً إلى التهجير، وكيف أن العالم لم يستطع فعل شيء لفصائل الغوطة وسكانها. كما ضربوا لهم أمثلة القلمون وريف حمص الشمالي، داعين الوفود إلى الاتعاظ بما حصل للغوطة، وتقليد فصائل القلمون وريف حمص الشمالي، والاستفادة من الفرصة المتاحة التي تتضمن ضمانة روسيا اتفاق المصالحة وتسوية الأوضاع.
ولم يتم الاكتفاء بذلك، بل شغّل نظام الأسد منظومة عملائه وخلاياه النائمة في الجنوب، وهم بقايا البعثيين وعملاء المخابرات، بالإضافة إلى أثرياء الحرب الجدد، لتوهين نفسية البيئة الجنوبية، وتشكيك الأهالي في قدرات الفصائل على مواجهة النظام، ودفعهم إلى البحث عن خياراتٍ بديلة، مثل قبول المصالحة بشروطها المجحفة، وعودة نظام الأسد إلى السيطرة على الجنوب، من منطلق أنها عودة متحقّقة برضى أهل المنطقة أو من دونه، لكن الفارق يبقى في تجنّب درب الآلام أو خوض مخاض عسير يمكن تجنبه.
وأخيراً، جاءت مناورة إخراج المليشيات الإيرانية من مناطق في الجنوب، في محاولةٍ بدا غرضها سد ذرائع أميركا وإسرائيل، والالتفاف على اعتراضهما على أي تحرّك في جنوب سورية. وكانت روسيا ترغب في طرح القضية في قالبٍ جديد، قضية محلية وترتبط بالسيادة، طالما أن أميركا لا تعترض على المسألة، وطالما أن إسرائيل ترحب ببقاء الأسد، وترسيخ سيطرته على جنوب سورية، ما دامت إيران خارج اللعبة.
بيد أن الفيتو الأميركي أعاد الأمور إلى مربعها الأول، فالمسألة أعقد بكثير من حسابات الروس، وأكبر من ألعاب وكيلهم السوري الساذجة. إنها مرتبطةٌ بدرجة كبيرة بمصير سورية والإقليم والتشكّلات الجديدة والمعادلات المرتسمة، والتي وافقت عليها روسيا التي تتلطى خلف حشود الأسد الذاهبة إلى الجنوب، وحصلت في مقابل ذلك على تسهيلاتٍ ساعدتها في السيطرة على حلب والغوطة، بل والقضاء على جزءٍ مهم من جسم فصائل المعارضة.
إلى ذلك، تدخل درعا في خانة المناطق التي لها حساب خاص ومختلف، تماما كما تم تصنيف شرق سورية وشمالها، وهنا تصبح القوّة الروسية محدودة، وفعاليتها ليست كاملة. وفي وقت تصبح فيه أوزان القوى الدولية على المحك، تطلق صفارات الإنذار في وجه الحشود المتجهة جنوباً، معلنةً عن وجود حالة تسلل واضحة.
انتشر منذ عدة أيام فيديو مصور لجنود روس وهم يعتقلون عناصر للنظام كانوا يسرقون المنازل في أحياء دمشق الجنوبية التي انسحبت منها المعارضة المسلحة مؤخرا، ويظهر في الفيديو عناصر الشرطة العسكرية الروسية وهم يقومون بإهانة وإذلال عناصر النظام وسط فرح و شماتة من الأهالي الذين سارعوا لتصوير المشهد وتوثيقه.
مشهد كأنه يصور الجانب الروسي على أنه حمامة السلام وحامي الديار من المجرمين واللصوص، وكأن المصفقين نسوا أو تناسوا لبرهة أن روسيا هي المجرم الأول الذي دمر البشر والحجر وهجر السوريين من أرضهم بقوة السلاح وبطشه، وإن كان عناصر النظام قد سرقوا براد أو غسالة فإن روسيا قد سرقت وطنا بأكمله وعبثت بنسيجه الاجتماعي وسوت عشرات البلدات والمدن بالأرض بفعل بطشها العسكري.
لا يخفى على أحد أن بلدات دمشق الجنوبية (يلدا .ببيلا) هي من أكثر الأحياء التي تشكل حاضنة اجتماعية للثورة والتي ساهمت في صمود الثوار فيها لأكثر من سبع سنين عجاف تحمل فيها الأهالي القصف والحصار والجوع والكثير منهم قبل المصالحة مع النظام على مضض مفضلا البقاء بأرضه على التهجير السكاني الذي يعمل عليه نظام الأسد المجرم لإفراغ الحزام الجنوبي للعاصمة من سكانه السنة على حساب الميليشيا الشيعية الطائفية العابرة للحدود.
روسيا أكثر اللاعبين إدراكا لخطر الحاضنة الثورية على مشاريعها المستقبلية في سوريا وخاصة بعد تكون فكر عدائي للروس في المجتمع السوري السني، فهي ستعمل على محو تلك الصورة الإجرامية من ذاكرة الشعب السوري بعد وسائل كاختيار الشرجة العسكرية الشيشانية المسلمة والتي ظهر احد عناصرها وهو يؤدي الصلاة مع مهجري حمص قبيل ركوبهم بالباصات باتجاه الشمال و إنشاء نقاط المراقبة ومناطق خفض التصعيد والقيام بنشاطات إغاثية وخدمية في المناطق التي سيطروا عليها مؤخرا في جنوب دمشق والغوطة الشرقية والعمل على تعويم بعض المرتزقة على أنهم رجالات المصالة ودعاة السام والاستقرار في مدن دمرها المحتل الروسي على أهلها و إثارة الضجة الإعلامية العالمية لموضوع إعادة الإعمار وكأن الروس هم رعاة السلام في سوريا.
فهي ،أي روسيا، ستعمل جاهدة على هذه السياسية الجديدة تساهم في محو صورتها المجرمة من ذاكرة الشعب السوري مراهنة على سرعة النسيان لدى الشعب، و أكبر دليل على ذلك هو الفيديو الذي يصور عناصر الشرطة العسكرية الروسية أثناء اعتقال و إذلال لصوص جيش النظام وسماحهم للمواطنين بتصوير عملية الاعتقال بكل أريحية.
وليس بعيدا عن يلدا وببيلا نجد مخيم اليرموك الذي ظهرت به داعش في معاركها مع النظام و كأنها الثلة الصادقة الصابرة حيث عملت الماكينة الإعلامية للروس والنظام على تضخيم المعركة هناك لرفع أسهم داعش على حساب فصائل الجيش الحر ، تلك المعركة التي انتهت في أقل من شهر ضمن اتفاق مخابراتي قذر شبيه باتفاق الرقة الذي أفضى بخروح الدواعش بالشاحنات نحو البادية في كلا المعركتين (الرقة واليرموك).
لا فرق بين الأنظمة المخابراتية وبين فصائل القاعدة ذات النشأة المخابراتية في التعامل مع الثورة وحاضنتها الشعبية في تلميع بعض الأحداث هنا وهناك لتغطية جرائمهم و غسل عقول الناس بما يتماشى مع مخططاتهم.
سمعنا جميعا تلك الأصوات التي بدأت تتصاعد هنا وهناك التي تخون الجيش الحر وتمتدح داعش بشكل مباشر أو غير مباشر متنانسين معارك المنطقة الشرقية التي سلمت فيها داعش عشرات المدن والبلدات الممتدة من مسكنة في شرق حلب وصولا للبوكمال مرورا بريف الرقة الجنوبي في بضعة اشهر. وكأن إصدارا إعلاميا للدواعش يكفي ليغطي عن جرائمهم ضد الثورة السورية وينسي الشعب السوري جرائمهم ضد الثورة السورية التي خسرت خيرة قادتها والآلاف من شبابها بمفخخات داعش وأحزمتهم الناسفة.
وبما أن الشيء بالشيء يذكر، نذكر الجولاني وجبهته الباغية التي كلما هاجمت فصيلا للجيش الحر ونهبت سلاحه وقتلت شبابه، سارعت لفتح معركة مع النظام وكما يقول شرعيو الجولاني (غدا مفخختين عالنظام تنسي الناس ما عملنا بالفصيل الفلاني).
وبهذه العقلية فككوا وقضوا على أكثر من عشرين فصيل للجيش الحر مراهنين على سرعة نسياننا.
فهل ستنجح روسيا وصبيان القاعدة التي تخرجت من مدرسة علي مملوك بالرهان على ذاكرة الحاضنة الثورية التي يعتبرونها بنظرهم سريعة النسيان كذاكرة السمك أم للشعب السوري قولا آخر في ذلك.
الاتفاق النووي (JCPOA) الذي وقعه الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، وخمس حكومات غربية أخرى، مع نظام إيران، سيظل محل نقاش طويل ولسنين مقبلة. هل ولد من ضرورات الاعتراف بالواقع النووي الذي حققته إيران، أم أنه نتيجة لعملية قيصرية لمفاوضات سيئة غير كفؤة؟
دينيس روس، دبلوماسي عريق يعرف المنطقة، وسبق أن عمل في إدارة أوباما، يرى العالم أفضل بوجود الاتفاق، ويعتقد أن الفوضى وقعت مع تسلم دونالد ترمب الرئاسة، وشنه حرباً على الاتفاق. ربما هناك آراء تختلف على الاتفاق، هناك من يمدحه ويرى أنه يقيد مشروع إيران العسكري النووي، وهناك من ينتقده لأنه ترك المنطقة مسرحاً لنظام طهران الذي دمرها.
في نظري الاتفاق نووياً له إيجابياته؛ لكن لا يمكن تبرئة الاتفاق من جرائم إيران. فالمفاوضون بكل أنانية فكوا قفل العقوبات لقاء وقف التخصيب. فجأة وجدت طهران الباب مفتوحاً، وتسللت إلى خارج القفص. الآلاف من قواتها ومقاتلي ميليشياتها انتقلوا للحرب في الخارج. انهار السد الدولي الذي أسس للعقوبات الاقتصادية والعسكرية، انتهت الحدود المرسومة في الرمل، وكانت تحدد مواقف دول المنطقة والعالم من تصرفات إيران.
النظام الإقليمي انهار في اليوم الذي رأينا فيه وزير خارجية إيران يقفز من الفرح، ممسكاً بأوراق الاتفاق، من شرفة غرفته في فندق «بالاس كوبورغ» في العاصمة النمساوية. خلال التفاوض وبعده انتشرت قوات إيران بشكل غير مسبوق في المنطقة، بعد أن كانت تكتفي بالعمل في محيط لبنان وغزة. صارت تملك أكبر قوة على الأرض في سوريا، وقياداتها تظهر تقود المعارك في العراق، وتطلق صواريخها على جدة ومكة والرياض، وعززت سيطرتها السياسية في لبنان.
ما يراه روس من تنمر جريء من إيران في عهد ترمب، مثل إطلاقها صواريخ وإرسالها طائرات «درون» في فضاء إسرائيل، وصواريخها باتجاه المدن السعودية، أنه كان ردة فعل إيرانية على مواقف ترمب العنيفة ضد طهران. الحقيقة التي نراها هنا من داخل المنطقة تقول عكس ذلك. جزء أساسي من رفع إيران مستوى المواجهة هو الضغط على إدارة ترمب، وذلك على غرار ما كانت تفعله مع إدارة أوباما، التي كانت تتراجع أمام كل أزمة مع نظام طهران، الذي وجد أنه يستطيع أن يبتزها بالتصعيد في العراق وسوريا، ووصل الأمر إلى درجة اعتقال البحّارة الأميركيين ثم إطلاق سراحهم بإذلال مهين.
صحيح أن ترمب اختار ألا يحارب الإيرانيين عسكرياً في سوريا؛ لكنه نجح في بناء تحالف سياسي وعسكري للضغط على إيران، بعدما كان الإيرانيون يحتفلون واثقين بأنهم كسبوا الحرب نهائياً في سوريا. ترمب فتح المجال لإسرائيل، ودعم الجماعات المعارضة المسلحة السورية، وضغط على روسيا، وحذر نظام الأسد بأنه لن يبقى إن بقي الإيرانيون وميليشياتهم في سوريا.
هكذا فتحت أبواب جهنم على إيران ووكلائها في العراق وسوريا وغزة واليمن، المناطق التي كانت إيران تكسب المعارك فيها قبل ذلك. إدارة ترمب قررت مواجهة إيران دون التورط عسكرياً مباشرة في مناطق النزاع في الشرق الأوسط. ثم توج ذلك بقراره الانسحاب من الاتفاق النووي، الذي كان أكبر نكسة تمر بها إيران منذ قيام الثورة في أواخر السبعينات، بما شملها من قرارات تعيد العمل بالعقوبات الاقتصادية، ووضع اثني عشر شرطاً أميركياً صعباً للقبول بالعودة للاتفاق.
يظن روس أن ترمب يقود المنطقة نحو انفجار هائل، حروب كبيرة، ومن المحتمل فعلاً أن تعمد إيران إلى التصعيد، ورفع مستوى درجة المواجهات؛ لكنها تعرف أن الثمن عليها صار أغلى من السابق. ترمب من دون أن يطلق رصاصة واحدة أوجع النظام، قيوده سببت انهيار العملة الإيرانية، التي صارت مصدر قلاقل داخلية خطيرة على وجود النظام كله.
يبدو أن نظام الملالي الإيراني بات، في أيامنا هذه، في وضع لا يحسد عليه، وأقل ما يمكن وصفه أنه وضع حرج، خصوصا بعد حديث الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، عن ضرورة انسحاب كل القوات والمليشيات الأجنبية من سورية، خلال استدعائه بشار الأسد إلى سوتشي، وإبلاغه أوامر بضرورة النأي بنفسه عن النظام الإيراني، وعدم القيام بأي رد فعل حيال الضربات الإسرائيلية لمواقع الحرس الثوري والمليشيات الإيرانية في الأراضي السورية. والأهم هو تزامن أو تناغم حديث بوتين مع انسحاب إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب من الاتفاق النووي، وإعلان وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، تفاصيل الاستراتيجية الأميركية لمرحلة ما بعد هذا الانسحاب، والتي تضمنت 12 بنداً، ثلاثة منها تتعلق بالبرنامج النووي الإيراني، والباقية تتعلق بالنفوذ الإيراني في المنطقة، مع التلويح بتطبيق أقسى عقوبات في التاريخ على نظام الملالي في طهران.
ويظهر مما أعلنه بومبيو أن خطة تعامل الإدارة الأميركية الحالية مع إيران ستتمحور على ثلاثة مجالات، تبدأ بمجال اقتصادي من خلال فرض عقوبات اقتصادية ستلقي ظلالها الثقيلة على الاقتصاد الإيراني المتهالك وقطاع المال فيه، مع التهديد بأنها ستكون العقوبات الأقسى في التاريخ، ومستوى دبلوماسي سياسي، يعتمد على دفع حلفاء الولايات المتحدة وأصدقائها على التعاون من أجل الحدّ من تدخلات نظام الملالي الإيراني في المنطقة، والمطالبة بسحب قواته ومليشياته من سورية، والمستوى الثالث ينهض على الوقوف إلى جانب الشعب الإيراني وحراكه الاحتجاجي ضد ممارسات نظام الملالي وسياساته.
غير أن صيغة المطالب الأميركية من طهران جاءت على شكل اشتراطات وتهديدات، مثل الانسحاب من سورية ووقف دعم حزب الله اللبناني، وعدم التدخل في شؤون العراق واليمن، والامتناع عن تهديد إسرائيل والسعودية، ووقف عمليات تخصيب اليورانيوم نهائياً، وإلغاء برامج تطوير الصواريخ البالستية، بما يفضي إلى إنهاء التدخلات الإقليمية التي اعتاش عليها نظام الملالي، ما يعني ببساطة إنهاء هذا النظام برمته.
وليست مصادفة أن يلتقي تقاطع المصالح ما بين روسيا والولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل على انسحاب قوات نظام الملالي ومليشياته الطائفية والمتعدّدة الجنسيات من سورية، على الرغم من أن لكل طرف أجندته ودوافعه الخاصة المرتبطة بمصالحه، إذ تريد روسيا أن تكون القوة الوحيدة في سورية، ولا تريد لإيران أن تشكل منافساً حقيقياً لها على الأرض، وفي أي تسوية مقبلة، فيما تسعى الولايات المتحدة إلى الحدّ من النفوذ الإيراني في المنطقة ضمن مساعيها الضاغطة على نظام الملالي، بعد الانسحاب من الاتفاق النووي. أما إسرائيل، بوصفها مشروعاً احتلالياً استيطانياً، فلا تريد للمشروع الإيراني التوسعي أن يكون منافساً لها، ولذلك تعتبر تغلغل مليشيات نظام الملالي في سورية خطراً يهدّد أمنها، ووجهت ضربات عسكرية موجعة لمواقعه وقواعده فيها من دون أي رد فعل من منظومات الصواريخ الروسية، الأمر الذي يطرح أسئلة بشأن ما يقال من تحالف وتفاهم روسي إيراني في سورية، إذ يفسر الصمت الروسي رغبة موسكو في التخلص من التغلغل الإيراني، أو على الأقل تحجيمه، ويدخل ضمن تفاهماتٍ روسية أميركية إسرائيلية بشأن الوضع السوري.
غير أن واقع الحال يكشف أن التغلغل الإيراني في المنطقة العربية كان يتم تحت مرأى ساسة الولايات المتحدة الأميركية، بل وأحياناً بتسهيل منهم، خصوصاً بعد الغزو الأميركي للعراق عام 2003 والسياسات الهوجاء لإدارة الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الابن، حتى أن الفترة الذهبية للتغلغل الإيراني تمتّ برعاية إدارة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، الذي لم يكن يكترث مطلقاً لهذا التغلغل وازدياد نفوذه في كل دول المنطقة، وليس في سورية والعراق ولبنان واليمن فقط، بل وصمت أوباما عما جرى في سورية أكثر من سبع سنوات، خاض خلالها نظام الملالي معركة الدفاع عن نظام الأسد الإجرامي ضد غالبية السوريين وثورتهم. ولذلك فإن السؤال الذي يطرح، في هذا السياق، هو كيف يمكن أن يتحقق انسحاب نظام الملالي من سورية، خصوصاً بعدما تغلغل فيها إلى مختلف مفاصل النظام والمجتمع، وصرف كثيراً من المال والرجال فيها، وبات بحاجة إلى عملية اجتثاث واسعة؟
وبشأن الوضع في سورية، فإنه خلال سنوات التدخل العسكري المباشر لنظام الملالي دفاعاً عن نظام الأسد، تغلغلت أذرع إيران الأخطبوطية في مختلف مفاصل هذا النظام، وفي المجتمع السوري أيضاً، حيث زجت إيران بضباط وخبراء من الجيش الإيراني ومن الحرس الثوري، وخصوصاً فيلق القدس، إلى درجة بات معها قائد هذا الفيلق، قاسم سليماني، يظهر في معظم المعارك التي شنها تحالف نظام الملالي جنباً إلى جنب مع مليشيات النظام الأسدي والنظام الروسي الذي زجّ ضباطه ومستشاريه العسكريين، مع دكّ مقاتلاته الحربية وقاذفاته وصواريخه الاستراتيجية أماكن فصائل المعارضة السورية، وقصف مختلف مرافق البنى التحتية للمناطق التي كانت تحت سيطرتها.
وتفيد تقارير موثوقة بأن عدد مرتزقة نظام الملالي ومليشياته المتعدّدة الجنسيات بلغ أكثر من سبعين ألفاً، فضلاً عن مليشيات حزب الله اللبناني. ولعل الأخطر في تغلغل نظام الملالي هو عمليات شراء الأراضي والمساكن في العاصمة دمشق، وسواها من المدن والبلدات السورية التي يقوم بها تجار إيرانيون، إلى جانب منح النظام هويات سورية لبعض أفراد وعائلات المليشيات وإسكانهم محل السوريين المهجرين قسرياً، وخصوصاً في المعضمية وداريا والزبداني وسواها، إلى جانب عمليات التشيع وبناء الحوزات والحسينيات في معظم المدن والبلدات السورية، فضلاً عن تغلغل نظام الملالي في أجهزة الاستخبارات السورية ووحدات جيش النظام، ما يعني أن تغلغل نظام الملالي كان يتمّ ضمن مشروع توسعي استيطاني، له وجوده متعددة، وبحاجة إلى عمليات اجتثاث واسعة. والسؤال هو كيف يمكن اجتثاث هذا التغلغل؟
باتت مصطلحات مثل «اللجنة الدستورية» و «الانتخابات بإشراف الأمم المتحدة» و «مناطق خفض التصعيد» مجرّد عناوين في الخطّة الروسية لإنهاء الحرب والإيهام بوجود حلٍّ سياسي في سورية، أو بكلام أكثر دقّة لتصفية المعارضة عسكرياً وسياسياً بموازاة إعادة إنتاج النظام... مع شيء من التنقيح. ومن بين الأطراف المعنية جميعاً هناك فقط اثنان مستاءان، النظام السوري وحليفه الإيراني، إذ يتشاركان الاقتناع بعدم تحريك الحلّ السياسي قبل إنجاز السيطرة العسكرية الكاملة، بما في ذلك مناطق تخضع حالياً للوجود التركي أو الأميركي. لكن بشار الأسد الذي التقى الرئيس الروسي أخيراً في سوتشي عاد بمقدار من الإحباط والقلق لأنه تلقّى أمراً بالتخلّي عن إصراره على تعيين جميع أعضاء «اللجنة الدستورية» والاكتفاء بتعيين ممثلي النظام فيها، وهو ما فعله، أما بقية الأعضاء فيتوقف تعيينهم على مشيئة موسكو سواء بتشاور شكليّ مع أنقرة وطهران أو بأخذها آراء الأطراف الأخرى في الاعتبار.
ما الذي جعل من «اللجنة الدستورية» مفتاحاً وعنواناً وحيداً مقبولاً لاستئناف البحث عن حلّ سياسي؟ ثمة أسباب - أو بالأحرى أوهام - عدّة: أولها، أن الدول المناوئة للنظام وتعتبر أن قتله أبناء شعبه ألغى نظرياً شرعيته لم تستطع نزع شرعيته عملياً، وبما أنها استبعدت باكراً الحل العسكري فإنها قيّدت نفسها بالحاجة الى رئيس النظام وتوقيعه لتمرير أي حل سياسي. والثاني، أن وجود إيران ثم روسيا على الأرض مكّنهما من التمسّك بالأسد واستخدام «شرعيّته» الى أقصى حدّ، واستطاعت روسيا توظيف مشاركتها في الحلَّين معاً بغية إخضاع الحل السياسي لمخرجات الحل العسكري. لذلك برز المبرّر الثالث، وهو أن استحالة انضواء المعارضة في كيان جامع يختزل «قوى الثورة» ويحظى بقبول واسع وتمتثل له الفصائل المقاتلة لم تحلْ فقط دون وجود «بديل» من النظام بل جعلت الدول التي تساند المعارضة في موقف تفاوضي ضعيف أمام المحاججة الروسية بأن النظام هو ضمان الدولة والمؤسسات في مواجهة مشاريع اقتتال فوضوية، فضلاً عن مواجهة الإرهاب واستشرائه.
كل ذلك لا ينفي حقائق مؤلمة ومؤسفة، أهمها أن داعمي المعارضة، أو «أصدقاء سورية»، يعرفون أن النظام هو مَن سعى الى عسكرة الانتفاضة الشعبية مستغلّاً إحجام المجتمع الدولي عن حماية الشعب السوري، وهو مع حليفه الإيراني مَن هندس انتشار الإرهاب باجتذاب تنظيمي «القاعدة» و «داعش». الحقيقة الأخرى هي أن تباينات المعارضة وعدم قابليتها للانتظام سرعان ما عكست تباينات «الأصدقاء» الذين لم تكن لديهم معرفة مسبقة بالمعارضين وعندما بدأوا يتعرّفون اليهم تناقضت استنتاجاتهم بين قوى إقليمية تتنافس على استقطاب الإسلاميين وقوى غربية تخشى هيمنة الإسلاميين وتطالب بضمانات مبكرة لـ «حقوق الأقلّيات» الدينية. كانت هذه المطالبة بـ «حقوق الأقلّيات» محقّة بلا شك، بل كانت مؤشّراً الى اقتناع راسخ لدى القوى الغربية بأن بعثية/ «علمانية» النظام ضمانٌ لتلك الحقوق، وهي ارتكبت بذلك تجاهلاً مبكراً أيضاً لأهمّ أسباب الانتفاضة وهو التاريخ الطويل من انتهاك النظام «حقوق الغالبية» بمختلف انتماءاتها الطائفية.
هذا يعيد الى حقبتَين، ما قبل الأزمة وما بعد الانتفاضة. في الأولى، كان المجتمع الدولي معتمداً على أن النظام بنى نموذجاً «مستقرّاً» لـ «حكم الأقلية» في سورية على رغم أن الغرب كان يوجّه انتقادات موسمية وشكلية لانتهاكات حقوق الإنسان.
وفيما تغاضى العرب عن كل ارتكاباته لتكريسه إحدى الركائز الثلاث للنظام العربي الإقليمي، كانت إسرائيل مرتاحة عموماً الى سلوكه ومتهادنة معه وإنْ حصلت بينهما مواجهات غير مباشرة في جنوب لبنان. أمّا في بدايات الأزمة وطوال الشهور الأولى، فكان الرهان الخارجي على النظام واضحاً، وذلك استناداً الى تجارب سابقة أبدى فيها حنكة وبراغماتية متأتّيتين عن حسّ مصلحة سلطوية، وكان معظم المواقف والاتصالات المباشرة وغير المباشرة يتمحور حول عبارة وردت في تصريح لباراك اوباما طالب فيها الأسد بأن يطرح الإصلاحات الضرورية ويقود تحقيقها.
لم يسقط هذا الرهان الخارجي على الأسد حتى بعد انتشار اليأس من «حكمته» وإفشال المحاولة الجدّية الأولى لإسقاطه عسكرياً (منتصف 2012). هناك من توهّم بعد ذلك بأن حليفه الإيراني يمكن أن يؤثّر «ايجاباً» في خياراته، وهو طرح فعلاً نقاطه الستّ التي روعيت لاحقاً في صوغ أسس الحل السياسي الذي أصبح القرار 2254، لكن الإيراني أصبح في ذلك الوقت مأخوذاً بالفرص الكثيرة التي فُتحت أمامه سواء لمشروع «تصدير الثورة» أو للدعوة الى التشيّع والسيطرة على سورية بتغيير التركيبة الديموغرافية لدمشق ومحيطها وباختراق مذهبي للمدن ذات الغالبية السنّية بهدف إضعاف طابعها السابق الذي جعل منها حواضر متكاملة الإمكانات الاقتصادية والعمرانية والثقافية. ووسط انشغال إيران بمشروعها وتفاصيله على نمط المستوطنات الإسرائيلية، إذا بالمعارضة تتمكّن من طرد النظام من ادلب والسيطرة على أجزاء كبيرة من حلب بالإضافة الى تهديد معقل النظام في الساحل. قبل ذلك، كان تنظيم «داعش» انتشر شمالاً وبدأ يتوسّع جنوباً وغرباً، وفيما كان النظام وإيران يراهنان على أن المساعدة التي قدّماها لـ «داعش» تضمن أن يلعب لمصلحتهما فحسب، إذا به ينقلب لمصلحة مشروعه و «دولته»، ما أنشأ استطراداً واقع الحرب على الإرهاب وأولويتها.
مع وجود تحالف دولي واسع بقيادة الولايات المتحدة على حدود سورية، تعاظمت مخاوف إيران من استخدام هذه القوة الخارجية ضد النظام السوري وبالتالي ضدّها وضدّ ميليشياتها. بعد التجربة العراقية صار مستبعداً أي تدخّل عسكري مباشر للأميركيين في الأزمة السورية، لكن مجرّد وجودهم على الحدود كان كافياً لإنذار روسيا بأن الوقت حان للتدخّل المباشر، أولاً لحماية ما لديها من مصالح والاستزادة منها ثم لإنقاذ النظام وتوسيع سيطرته تمهيداً لإعادة تأهيله وفرضه كأمر واقع دولي. ومن أجل ذلك لم يتردّد الروس باللجوء الى الوحشية في حلب والغوطة الشرقية، أو بالشدّة ثم الخدعة لاستقطاب تركيا واستخدام نفوذها لدى المعارضة لفرض ما سمّي «مناطق خفض التصعيد»، أو أخيراً بابتزاز القوى الخارجية الأخرى. وفي كل المراحل العسكرية كان يبدو الروس والأميركيون على خلاف، لكن الالتزام الروسي بالدفاع عن النظام لم يكن يوماً بمستوى الدفاع الأميركي - الغربي عن المعارضة، بل إن التفاهمات بين الدولتين انتقلت بثبات من إدارة اوباما الى إدارة ترامب.
كان لا بدّ من هذه المراجعة السريعة لإظهار الخطّ الانحداري للحل السياسي من طموحات جنيف (هيئة حكم انتقالي كاملة الصلاحيات ثم «السلال الأربع») الى إملاءات آستانة - سوتشي (لجنة دستورية ثم «انتخابات»)، وكيف أن هذا الخط كان يمعن في الهبوط بموازاة ارتفاع خط التوسّعات الميدانية لروسيا وحليفيها وبنمط احتلالي معادٍ للشعب. الأكيد أن الدستور مسألة كانت تتطلّب التفاوض عليها، لكن تلاعب روسيا بشكل المفاوضات واختيارها عدداً من أتباعها «المعارضين» وآخرين معروفين بموالاتهم للنظام لعضوية اللجنة وتحكّمها بالتمثيل الضئيل للمعارضة فيها تنبئ بأن لدى موسكو نسخة شبه جاهزة للدستور تريد تمريرها، بما يعنيه ذلك من تضييع وإفساد لفرصة حل حقيقي للمسألة السورية. وبطبيعة الحال، فإن الانتخابات يجب أن تكون تجسيداً للعملية السياسية وحافزاً على إنجاحها، لكن الروس والنظام يدافعون عن إجراء انتخابات في ظروف هيمنة للأسد وشبّيحته ولا يمكن لإشراف الأمم المتحدة أن يحول دون التزوير المسبق للعملية الانتخابية أو دون الترهيب قبل الاقتراع وأثناءه وبعده، ومَن لا يصدّق ذلك فليسأل خبراء المنظمة الدولية بعيداً من الكاميرات والميكروفونات وليتعرّف الى لائحة الصعوبات أمام انتخابات حرّة ونزيهة في بلد نصف شعبه في الخارج ولن تكون له مشاركة فاعلة في اختيار ممثليه، بل أن مرشّحيه لن يتمكّنوا من مخاطبة الناخبين في ظروف صحيحة ومناسبة.
ليس معروفاً متى يقتنع الروس بأن المنظومة العسكرية والأمنية الراهنة كفيلة بإحباط أي حلّ حتى لو كان الدستور مثال العدل والإنصاف، وأن إهمال ملف العودة الآمنة للنازحين والمهجّرين ومفاقمته بـ قوانين» خرقاء كالقانون الرقم 10 الذي يشرّع سرقة الممتلكات لا يمكن أن يمهّدا لأي عملية سياسية سليمة.
أعلن ميخائيل بوغدانوف نائب وزير الخارجية الروسي عن توافق بين الولايات المتحدة وروسيا والأردن لعقد اجتماع ثلاثي مكرس للحفاظ على التهدئة العسكرية في محافظات درعا والقنيطرة والسويداء جنوب سوريا، وتجديد الالتزام باتفاق خفض التصعيد الذي توصلت إليه الدول الثلاث في تشرين الثاني/ نوفمبر 2017. ونقلت وكالة رويترز تصريحات لمصدر رسمي أردني ذهبت في الاتجاه ذاته، وأشارت إلى أن وقف إطلاق النار في الجبهة الجنوبية أعطى «أفضل النتائج» خلال الفترة السابقة.
يأتي هذا التطور في أعقاب مؤشرات على اعتزام النظام السوري فتح معركة درعا، بينها إرسال تعزيزات عسكرية إلى خطوط التماس مع فصائل المعارضة في المحافظة، وإلقاء منشورات تدعو المقاتلين إلى إلقاء السلاح. لكن تطورات لاحقة تكفلت بتجميد مشروع النظام، ومهدت لعقد الاجتماع الثلاثي.
فمن جهة أولى وجهت الخارجية الأمريكية إنذاراً واضحاً إلى النظام السوري، مفاده أن الولايات المتحدة سوف تتخذ «إجراءات حازمة ومناسبة» في حال انتهاك وقف إطلاق النار في مناطق خفض التصعيد في جنوب سوريا وشمالها. ومن جهة ثانية، ذكرت تقارير أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أبلغ رئيس النظام السوري بشار الأسد ضرورة تفادي وقوع مواجهة عسكرية بين إسرائيل وإيران على الأراضي السورية، مع تشديد على عدم ممانعة تل أبيب في عودة جيش النظام إلى احتلال مواقعه على الحدود مع الاحتلال وفق ما كانت عليه قبل آذار/ مارس 2011 تاريخ اندلاع الاحتجاجات الشعبية في سوريا.
وليس مستبعداً أن تكون موسكو قد توصلت إلى تفاهم مع طهران وتل أبيب حول هذا الأمر، بدليل أن عناصر «حزب الله» والميليشيات التي تسيرها إيران بدأت تنسحب بالفعل من المنطقة، وإعلان السفير الإيراني في الأردن أن بلاده لا تشارك حالياً ولا تنوي المشاركة مستقبلاً في أي عملية عسكرية يمكن أن تشهدها هذه الجبهة. وبذلك فإن دولة الاحتلال الإسرائيلي سوف تكون الغائب الحاضر في الاجتماع الثلاثي المقبل، بالنظر إلى أن مصالحها سوف توضع على رأس جدول الأعمال.
وقد تكون الخلاصة الأبرز في قراءة هذه الأنباء عن الجنوب السوري هي انكشاف المزيد من أوهام أكذوبة «السيادة» التي يتشدق بها النظام السوري بين حين وآخر، إذْ أن الدول الثلاث تجتمع وتعقد اتفاقيات وتسهر على تنفيذها وتحذر من انتهاكها، دون أن يكون للنظام السوري أي دور في إبرامها أو أدنى مشاركة في صياغة بنودها. والحال ذاتها تنطبق على التفاهمات الأمريكية ـ التركية في عفرين ومنبج، والإشراف العسكري الأمريكي على «قوات سوريا الديمقراطية» شرق الفرات.
الخلاصة الثانية هي ابتداء مرحلة تضارب المصالح بين القوى الداعمة للنظام السوري، والتي تجلت مؤخراً في تصريح بوتين حول انسحاب القوات الأجنبية من سوريا والرد الإيراني بأن لا أحد يمكن أن يجبر إيران على الخروج من سوريا، وتجلت أيضاً في التلميحات التي تشهدها الصحافة الروسية والإيرانية بصدد المنازعة حول عقود إعادة بناء سوريا بعد إنجاز التسوية السياسية.
ولا يخفى أن صمت محور «الممانعة»، حول افتضاح المفضوح في هذه الملفات، يظل أبلغ من أي ضجيج.
كما كان متوقّعاً، فإنّ الجنوب السوري أصبح محور اهتمام النظام السوري وحلفائه، بعدما تمّ تأمين دمشق وريفها، فبدأ النظام يحشد ويعدّ بكثافةٍ لعمليةٍ كبرى في محافظة درعا، بينما تتضارب الأنباء بشأن حقيقة الموقف الأميركي مما يحدث، بين تحذير شديد من جهة وتسريباتٍ عن اتفاق جديد من جهةٍ أخرى!
الوضع الراهن للجنوب السوري، خصوصا درعا، أنّها خاضعةٌ لاتفاق "خفض التصعيد" بين الولايات المتحدة وروسيا، وبدور أردني فاعل في هذا الاتفاق، والاتفاقيات اللاحقة عليها التي تضمنت آليات تنفيذه ومراقبة وقف إطلاق النار، ومنها إبعاد المليشيات غير السورية مسافة تصل إلى 25 كم عن الحدود السورية - الأردنية، ووقف دعم المعارضة المسلحة في درعا بالسلاح (الجبهة الجنوبية التي يقدّر عددها بـ35 ألف مقاتل)، والتخلص من نفوذ جبهة النصرة وجيش خالد بن الوليد (التابع لتنظيم داعش).
يؤكد المسؤولون الأردنيون على استمرار تعهّد المسؤولين الروس والأميركيين بالالتزام بالاتفاق، بمعنى وقف إطلاق النار، وتجنيب المحافظة (التي حصلت على هدوء قرابة عام ونصف) أي تبعات لعمل عسكري شبيه بما حصل في الغوطة الشرقية وريف دمشق.
لكن هذه "الضمانات" الأميركية - الروسية لا يبدو أنّها تنسجم كثيراً مع الواقع، ومع بعض التسريبات عن توجهات أميركية تذهب نحو إعادة صوغ الاتفاق، ولا حتى مع ارتفاع وتيرة الخلافات الأميركية الروسية، ولا مع التباين في الأجندتين الإيرانية - الروسية في سورية، بما يحمل، في طيّاته، احتمالات لسيناريوهات أخرى.
ما هي الخطوط العريضة للسيناريوهات المتوقعة؟ السيناريو الأول، بالفعل بقاء الاتفاق الروسي - الأميركي، خصوصا أنّ هنالك "العامل الإسرائيلي" موجود بقوة في هذه المعادلة، وتنفيذ الوعيد الأميركي برد فعل عنيف على أي هجوم متوقع على درعا، من الجيش النظامي والمليشيات المؤيدة له.
السيناريو الثاني، انهيار "المعادلة" كاملة، وتفكّك الاتفاق الروسي - الأميركي، مع تصاعد حجم الخلافات، وانتهاء عمل غرفة المراقبة المشتركة في عمّان، وبالتالي الدخول في مسار حرب داخلية - إقليمية في هذه المنطقة. وهذا يعني تحدياتٍ جديدة على كل من الأميركيين والأردنيين والإسرائيليين، في كيفية التعامل مع الهجوم المتوقع، بعدما توقف دعم المعارضة المسلّحة منذ قرابة نصف عام.
السيناريو الثالث، إعادة تصميم اتفاقٍ جديد على أساس أفكار نائب وزير الخارجية الأميركي، ديفيد ساترفيلد، وتقتضي إعادة تسليم درعا إلى النظام، مع ترحيل المعارضة المسلّحة المتشددة إلى إدلب، وضمانات دولية بتجنب سيناريوهات ما حصل في مناطق أخرى، مع وصول قوات الجيش النظامي إلى الحدود، وعودة مؤسسات الدولة إلى درعا، وتسليم المعارضة السلاح الثقيل، والوصول إلى صيغةٍ تعتبر آلاف المقاتلين جزءاً من الشرطة المحلية.
قد لا يكتب لمثل هذه الأفكار الاستمرار مع وجود خط متشدد في الإدارة (بومبيو - بولتن) يرفض هذه الصيغة، وهنالك احتمال مغادرة ساترفيلد نفسه موقعه قريباً.
الموقف الأردني مرتبط جوهرياً بالموقف الأميركي، وإن كان في دوائر القرار الأردنية أكثر من رأي أيضاً. يتبنّى الأول الموقف الذي يؤكد على ضرورة الحفاظ على الاتفاق الحالي، وعدم وجود أي ضماناتٍ حقيقية مستقبلاً بألا يجد الأردن على حدوده قوات الحرس الثوري الإيراني وحزب الله اللبناني، ويرى في الاتفاق الراهن الصيغة الفضلى. ويميل الرأي الثاني إلى فتح القنوات مع النظام السوري بصورة أفضل، وتسهيل عودته إلى الحدود، وفتح معبر نصيب الحدودي، وإعادة تشغيل خط التجارة بين عمّان ودمشق.
تبدو المسألة أكثر تعقيداً من التفضيلات الأردنية، لأنّها أصبحت مرتبطةً بمعادلة دولية - إقليمية. وفيها رأي إسرائيلي أيضاً، وخطوط حمراء بعدم القبول باقتراب قوات إيرانية من المناطق المحاذية للجولان، وهو الأمر الذي يفسّر إلى الآن بقاء جيش خالد بن الوليد (الموالي لداعش، والموجود في حوض اليرموك الموازي للجولان) خارج دائرة الاستهداف الدولي والإسرائيلي، إذ تحوّل إلى ما يشبه "المنطقة العازلة" للقوات الإيرانية عن مرتفعات الجولان المحتلة.
على أيّ حال، هنالك تحرّكات عسكرية كبيرة وطبخات سياسية بالتزامن والتوازي، لكن على الأغلب فإنّ الاتفاق الراهن يواجه تحدّياً حقيقياً في الاستمرار والصمود.
هذه السنة تحلّ الذكرى الثلاثون لـنهاية «حرب المخيّمات» التي استمرّت ثلاث سنوات في جنوب بيروت والجنوب. الحرب رتّبت أكلافاً إنسانيّة تفوق الأكلاف التي نجمت عن اقتحام مخيّم تلّ الزعتر في 1976 ومذبحة مخيّمي صبرا وشاتيلا في 1982. إحدى الروايات تقول إنّ المرجع الدينيّ الراحل السيّد محمّد حسين فضل الله أفتى يومها بالتالي: يجوز لسكّان المخيّمات المحاصَرة أكل لحوم الحيوانات النافقة.
«حرب المخيّمات»، مع هذا، حظّها قليل: لا أحد يتذكّر. لا أحد يذكّر.
قد نقع على إجابة رمزيّة تفسّر هذا التجاهل في حدث آخر شهدناه قبل أسبوع: تجديد انتخاب نبيه برّي رئيساً للمجلس النيابيّ اللبنانيّ للمرّة السادسة. برّي كان، ولا يزال، زعيم التنظيم الذي خاض حرب المخيّمات. النصر على المخيّمات، إذاً، مستمرّ سنةً بعد سنة بعد سنة. مع كلّ «نصر» يتحقّق على إسرائيل، يتأكّد النصر على المخيّمات ويتكرّس.
التذكّر والتذكير ليس هدفهما نكء جراح الماضي. هدفهما، في المقابل، التوكيد على الكذب والانتقائيّة في العواطف اللذين يُظهرهما البعض حيال الفلسطينيّين وحيال العداء لإسرائيل. ذاك أنّ العنصر المقرّر ليس تلك المشاعر المزعومة حيال الفلسطينيّين، بل المشاعر المضادّة حيال من قاوموا النظام السوريّ ومطامعه الإقليميّة، أكانوا مسيحيّين أم فلسطينيّين. وهذه عيّنة صغيرة على ما تمّ التعارف على تسميته «قوميّة» و «وطنيّة» في لبنان، وعلى كونه غطاءً لعصبيّات أهليّة محتقنة.
واقع الحال أنّنا إذا راجعنا تلك الصفحات القديمة، بهدف فهم الحاضر، لاحظنا كيف أنّ نظام دمشق كان يضرب المخيّمات بيد، وباليد الأخرى يحول دون نشأة سلطة مركزيّة لبنانيّة. انشقاق «اللواء السادس» ومشاركته يومذاك في حروب تصديع السلطة المركزيّة، ثمّ في حرب المخيّمات، دليل لا يخطئ على الهدف المزدوج هذا.
بالطبع، وراء «أمل» و «اللواء السادس»، كانت هناك رغبة النظام السوريّ في الاجتثاث السياسيّ للفلسطينيّين، في طرابلس كما في البقاع والجنوب، وبالتأكيد في بيروت. إنّها، لمن يذكرون، المعركة ضدّ «العرفاتيّة» أو ضدّ «القرار الوطنيّ الفلسطينيّ المستقلّ».
صحيح أنّ معاملة الفلسطينيّين لم تكن مرّةً معاملة كريمة في لبنان، لكنّهم لم يحظوا مرّةً بمعاملة لئيمة كالتي عرفوها في عهد الوصاية السوريّة حين كانت تخفق رايات «عروبة لبنان» و «وحدة المسارين». وليُسأل عن ذلك خصوصاً وزراء الشؤون الاجتماعيّة والعمل الذين كانوا دوماً الأقرب إلى قلب المسؤول الأمنيّ في عنجر.
اليوم، يذكّرنا انتخاب برّي مجدّداً وعودة «رموز الوصاية» بمدى نجاح حرب المخيّمات في إخضاع الفلسطينيّين، وبتوطّد نظام هو، على رغم كلّ تقلّباته، لا صلة له بفلسطين. أكثر ما يذكّرنا بذلك أنّ الذاكرة السائدة لم تعد تتذكّر شيئاً عن تلك الفترة. الانتصار على الفلسطينيّين وصل إلى حدّ المحو والاستئصال. ما هو أبعد، أنّ النظام السوريّ الذي يستعين بالروس والإيرانيّين وميليشياتهم على شعبه يستطيع أن يبقى منتصراً في لبنان ومنتصراً على الفلسطينيّين. لكنّ نسيان حرب المخيّمات لا يكفي لحجب تدمير مخيّم اليرموك...
بالطبع، «ولّى زمن الهزائم».
كعادته في مثل هذه الأيام من كلّ سنة، عقد “بيت المستقبل”، الذي أسسه الرئيس اللبناني السابق أمين الجميّل في ثمانينات القرن الماضي، مؤتمره السنوي بحضور شخصيات لبنانية وعربية ودولية تتعاطى الشأن العام. معظم هذه الشخصيات تمتلك خبرة في الموضوع الذي تتناوله، كما تمتلك ثقافة تسمح لها بالتحدث في الشأن الإقليمي والربط بين الأحداث الشرق أوسطية من جهة، وما يدور في العالم من جهة أخرى.
ما جمع بين مؤتمر السنة الذي كان عنوانه “الأمن في خضمّ الانحلال”، والمؤتمرات التي انعقدت في السنوات الماضية هو الجرأة في طرح قضايا تتناول المنطقة ككلّ. كان في الماضي تطرّق إلى الوضع الإقليمي في ذكرى مرور مئة عام على اتفاق سايكس- بيكو. وكان هناك مؤتمر خصّص لخيار الدولتين على أرض فلسطين (دولة إسرائيل والدولة الفلسطينية) وما إذا كان هذا الخيار لا يزال قائما في ظل الزحف الإسرائيلي في اتجاه ضمّ الضفة الغربية، بما في ذلك القدس الشرقية.
كان المؤتمر الذي انعقد قبل أيّام قليلة “لقاء في خضم حال الانحلال التي طالت أكثر من صعيد وتأثيرات التفكك على أمن المنطقة واستقرارها. وكأنّ عالمنا العربي لم يتغيّر من عام إلى عام، من عقد إلى عقد، بل ينحدر من سيّء إلى أسوأ”. هذا ما أشار إليه أمين الجميّل في افتتاح المؤتمر متحدثا عن “نزاعات تحوّلت إلى معارك عبثية وانتحارية دمّرت البشر والحجر”. تحدث أيضا عن “نزاعات سياسية في الإقليم لم توفّر أيّ جانب من حياة المجتمع ولم تقتصر على النزاعات السياسية بين الأنظمة، بل استهدفت بشكل أساس المجتمع والإنسان في وجوده وحرياته وسلامته ورفاهه، فكانت نزاعات سياسية وإقليمية: عربية- عربية، عربية- إسرائيلية، عربيّة- إيرانية، إسرائيلية- إيرانية”.
ارتدت هذه النزاعات طابعا دوليا، خصوصا في ظلّ الوجودين الروسي والأميركي في سوريا. هذا ما أشار إليه غير مشارك في الندوات المختلفة التي استضافتها سرايا بكفيا، وهي ندوات كان محورها ما العمل في مواجهة التهديدات التي تواجه الكيانات القائمة وحال الانحلال التي تعاني منها.
لعلّ الندوات الأهمّ في مؤتمر “الأمن في خضم الانحلال” الذي شاركت في تنظيمه “مؤسسة كونراد اديناور” وجامعة تافت الأميركية وجامعة كيبيك الكندية وبلدية بكفيا- المحيدثة، تلك التي تناولت أبعاد التدخل الإيراني في المنطقة. هل يمكن التعايش بين مؤسسات الدولة وميليشيات مذهبية تستخدمها إيران في عدد لا بأس به من دول المنطقة، في العراق وسوريا ولبنان واليمن، على سبيل المثال وليس الحصر…
كان لبنان منطلقا للمشروع التوسّعي الإيراني القائم على إيجاد ميليشيا مذهبية تعمل في موازاة مؤسسات الدولة. استفادت إيران من تجربة “حزب الله” في لبنان لتعممها في المنطقة. ما لم يشر إليه المشاركون في الندوات أن “داعش” الذي تحرّك في سوريا والعراق ابتداء من العام 2014، لم يكن التنظيم الوحيد الذي تجاهل الحدود بين الدول. كان تدخل “حزب الله” في سوريا ابتداء من العام 2011 مباشرة بعد اندلاع الثورة الشعبية فيها، دليلا على تقديم الرابط المذهبي على كلّ ما عداه، بما في ذلك سيادة الدولة على أرضها.
هناك بكل بساطة إطار جديد للنزاعات الدائرة في كل دولة من دول الشرق الأوسط وفي المنطقة كلّها. هذا الإطار هو الثنائية بين الدولة والميليشيا. كان الناطق السابق باسم الحكومة العراقية علي الدباغ في غاية الوضوح لدى تشريحه الوضع في بلده في ضوء نتائج الانتخابات التي أجريت في الثاني عشر من أيار- مايو الجاري.
شرح خطورة ما تشكله الميليشيات الموالية لإيران والمنضوية تحت تسمية “الحشد الشعبي”. قال الدبّاغ في سياق مداخلة له تطرّق فيها إلى التحدي الكبير الذي خلقه وجود مجموعات الحشد الشعبي”، إن “المشكلة الكبرى تكمن في كيفية صهر هذا الوجود المؤدلج الذي يعود في مرجعيته السياسية إلى إيران (…) والممانعة الكبيرة في تذويبه في مؤسسات الـدولة بعد قرار دمجه بالقوات الحكومية”. لاحظ أيضا “أن ما تبقى من هذا الحشد تحول إلى مجموعة ميليشيات دخلت التنافس السياسي وأصبح لها وجود في صنع القرار”.
لم يخف الخوف من نشوء “ثنائية” تتألف من “الحشد والدولة”. خلص إلى أن “هذا هو التحدّي الأكبر الذي سيواجه الحكومة القادمة والتي إن نجحت سيكون العراق قد عبر أزمة الوجود والهوية إلى الهوية الجامعة، وإذا فشلت سترسّخ الانقسام القائم الذي صاحب الوضع السياسي الجديد”. إلى جانب مداخلة الدبّاغ، كان راسل برمان الأستاذ في جامعة ستانفورد، وهي من أهمّ الجامعات في الولايات المتحدة، في غاية الدقّة عندما عرض نوعا جديدا من التحديات التي تلعب دورها في تغيير طبيعة الكيانات القائمة في الشرق الأوسط. أشار إلى خطورة العبارة التي وردت في خطاب لبشار الأسد في تموز – يوليو من العام 2015. قال بشار وقتذاك “سوريا ليست لمن يسكن فيها أو يحمل جنسيتها، بل لمن يدافع عنها ويحميها”.
أعطى بذلك إشارة الانطلاق لعملية تطهير ذات طابع عرقي، أو مذهبي. بالنسبة إلى برمان “لم تعد من حاجة إلى الذهاب إلى أبعد للتحقق من مدى الانحلال الذي تشهده سوريا”. ما لم يقله أنه صار هناك بلد لا يعترف فيه رئيس النظام بالمواطن حامل الجنسية. صار بشّار يقرر بنفسه من يجب أن يكون خارج سوريا ومن يستطيع البقاء فيها. من السوري ومن غير السوري.
نعم، هناك انتقال من السيء إلى الأسوأ. يمكن اختصار الوضع في الشرق الأوسط بأنّ اليوم الذي نعيش فيه أفضل من يوم غد…ويوم غد سيكون أفضل من اليوم الذي سيليه. هـذه حال الإقليم منذ بدأت الميليشيات المذهبية التابعة لإيران تحل مكان مؤسسات الـدولة. ما الذي سيحدث في السنة التي لا تزال تفصل عن المؤتمر المقبل لـ“بيت المستقبل”؟ ماذا بعد الانحلال؟ ماذا إذا أصرّت إيران على البقاء عسكريا في سوريا؟ ماذا إذا لم تفهم إيران معنى إعلان دونالد ترامب الانسحاب من الاتفـاق في شـأن ملفّها النووي؟ ماذا إذا لم يقرأ المسؤولون الإيرانيون بتمعّن النص الكامل للخطاب الذي ألقاه وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو والذي ضمّنه الشروط الـ12 التي يتوجب على النظام الإيراني تنفيذها في حال أراد العودة مجددا إلى المجتمع الدولي؟
الجواب عن كل هذه التساؤلات في غاية البساطة. عندما ينعقد مؤتمر 2019 لـ“بيت المستقبل”، ستبدو كلمة انحلال أقرب إلى مزحة، لا لشيء سوى لأن إيران لا تستطيع أن تكون دولة طبيعية من دول المنطقة. علّة وجود نظامها قائمة على أنها دولة غير طبيعية. سيدافع النظام عن نفسه حتّى آخر لبناني وسوري وفلسطيني وعراقي ويمني… قبل أن يدرك أن الميليشيات المذهبية تستطيع تدمير المنطقة العربية والكيانات القائمة فيها، لكنّها لا تستطيع أن تبني أيّ مؤسسة ناجحة في دولة ناجحة تضع نفسها في خدمة مواطنيها. وهذا ينطبق على إيران قبل غيرها.
إلى أي مدى يمكن الرهان على الخلافات الروسية الإيرانية في سوريا للوصول إلى تسوية سياسية حاسمة للأزمة هناك؟
الدعوة التي أطلقها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قبل أسبوعين بضرورة خروج القوات الأجنبية من سوريا، مثلت في نظر المراقبين انعطافة محتملة في التحالف الوثيق بين البلدين، الذي يرد له الفضل في حماية نظام بشار الأسد من السقوط.
لم يذكر بوتين صراحة إيران في دعوته، لكن مبعوثه لسوريا الكسندر لافرينتييف صرح في وقت لاحق بأن الانسحاب المطلوب يشمل إيران أيضاً.
النظام السوري المرهون للتحالف الإيراني الروسي، تبنى تفسيراً مغايراً لتصريحات بوتين وقال متحدث باسمه إن انسحاب أو بقاء القوات الأجنبية الموجودة بإذن من الحكومة السورية، هو شأن يخص دمشق وغير مطروح للنقاش.
كان واضحاً منذ بداية الأزمة في سوريا أن تحالف روسيا مع إيران، هو تعاون فرضته الوقائع الميدانية، ولم يكن خياراً لأي من الطرفين. بمعنى آخر كان تحالفاً إجبارياً اقتضته مصالح متباينة القاسم المشترك الوحيد لها الجغرافيا السورية بما تعنيه للجانبين في حسابات النفوذ والمصالح.
في لقاءات كثيرة جمعت بوتين بقادة عرب، كان يمكن التقاط إشارات كثيرة على تبرم الروس من دور إيران في سوريا، وسلوكها الطائفي في مناطق سيطرتها، وتحفظات كبيرة على نوايا الميليشيات الطائفية المرتبطة والممولة من طهران.
ويؤكد سياسيون على صلة وثيقة بمحادثات أستانة أن خلافات طهران وموسكو حول مناطق خفض التصعيد، ووقف إطلاق النار، كانت ظاهرة للمراقبين هناك.
عندما أجرى الأردن مباحثات مكثفة مع الجانبين الروسي والأميركي لإقامة منطقة خفض التصعيد في الجنوب السوري، ومركز لمراقبة إطلاق النار في عمان، لم تمانع روسيا في القبول بالشروط الأردنية والأميركية القاضية بإبعاد الميليشيات الإيرانية مسافة كافية عن الحدود مع الأردن، والتزام موسكو بمنع هذه الميليشيات مستقبلاً من التمركز قرب الحدود في حال تم التوصل لتفاهم على انسحاب قوات المعارضة وعودة السيطرة السورية على المعابر الحدودية مع الأردن.
طهران لم تكن معنية أبداً باحتواء قدرتها ونشاطها في كثير من المناطق السورية، وكانت ولا تزال تسعى لكسب المزيد من النفوذ في مختلف المواقع، لتعزيز وجودها في سوريا، وفرض أمر واقع يستحيل معه التفكير بتغيير المعادلة السياسية في البلاد.
وكان الاختبار الأهم للتحالف الروسي الإيراني مع دخول إسرائيل على خط العمليات العسكرية في سوريا.
لقد استثمرت إيران نفوذها على الأرض وبالحماية الروسية في السماء السورية، لتطوير مواقع عسكرية متقدمة، تؤهلها للاحتكاك بإسرائيل من موقع القوة. لم تكن إسرائيل لتسمح بمثل هذا التغيير في معادلة القوة، فشرعت في شن سلسلة من الهجمات المدمرة على القواعد الإيرانية ومخازن السلاح ووحدات الحرس الثوري.
لم تتدخل روسيا على الإطلاق، واكتفت راداراتها بالفرجة على الصواريخ الإسرائيلية وهي تعبر الأجواء السورية وتضرب المراكز الإيرانية.
وتذهب أغلب الروايات إلى تأكيد القول بأن موسكو كانت على علم مسبق بكل طلعة جوية للمقاتلات الإسرائيلية.
على المستوى السياسي، لم تكن إيران معنية أبداً بتقدم مفاوضات الحل السياسي في جنيف، وطالما عملت على إفشالها. روسيا فعلت الشيء ذاته في جولات كثيرة، لكنها كانت على قناعة بأن دوام الحال في سوريا غير ممكن لفترة طويلة، ولا بد من العمل على حل سياسي، يضمن مصالحها على المدى البعيد.. حل بوجود الأسد أو من دونه.
لروسيا مروحة واسعة من المصالح في الشرق الأوسط، وهي جزء غير قليل من حزمة قضايا دولية عالقة مع واشنطن والدول الغربية، ولا يمكنها التشبث بسوريا دون تصور أشمل لعلاقتها المعقدة مع العالم الغربي.
وروسيا ليست في وضع اقتصادي يسمح لها بالمناورة على جميع الجبهات لفترة طويلة. ينبغي عليها التفكير في تفكيك الأزمات والتخلص من الضغوط للتفرغ لتحديات أكبر تنتظرها مع توجه إدارة ترمب لإطلاق موجة جديدة من سباق التسلح، ودخول ميدان المنافسة القوية مع الصين.
في هذا السياق يمكن قراءة استدعاء بوتين للرئيس السوري منفرداً إلى سوتشي مؤخراً، والطلب منه تسمية وفده لتشكيلة اللجنة المقرر لها أن تناقش تعديلات الدستور السوري ضمن تفاهمات جنيف.
انصاع الأسد لطلب بوتين، وأعلن تسمية ممثليه تمهيداً لبدء جولة من المناقشات.
لا تبدو إيران مرتاحة أبداً لهذه التطورات، وتعمل خلف الكواليس لإفشالها، لأن أي تقدم على مسار الحل السياسي في سوريا، يعني بداية النهاية لنفوذها هناك.
لكن التباين في أجندة الطرفين حيال مستقبل سوريا، لم يبلغ مرحلة الصدام بعد، وهو ليس مرشحاً لبلوغها في الوقت الحالي.
روسيا تعلم بنوايا طهران، ورغبتها الجامحة في تعطيل مسارات الحل السياسي، لكن في المقابل لا تأمن القيادة الروسية بعد الجانب الأميركي، ولا تعرف حدود دوره في مستقبل سوريا، وتخشى أن يكون حاصل التضحية بالحليف الإيراني يصب في حساب واشنطن دون أن تنال شيئاً في المقابل.
على المدى المتوسط ستعمل موسكو على احتواء النفوذ السياسي لإيران في سوريا، فالأخيرة تخطط للاندفاع بشكل أكبر على كل الجبهات رداً على قرار ترمب الانسحاب من الاتفاق النووي وتحسباً لعقوبات غير مسبوقة تنتظرها. روسيا ورغم موقفها المعارض لقرار ترمب، فإنها غير معنية أبداً بتحويل سوريا لورقة مساومة في يد طهران.
ثمة اعتقاد لدى باحثين مختصين بالشؤون الدولية بأن البلدين روسيا وإيران سيستغلان بعضهما البعض بأكبر قدر ممكن ولأطول فترة ممكنة، إلى أن تحين لحظة الطلاق في سوريا، وهي مؤجلة لزمن غير معلوم.