العقدة الأميركية
تنشغل وسائل إعلام، عربية خاصة، منذ فترة، بسؤال خروج إيران أو إخراجها من سورية، وقد ازداد الشغف بإثارة هذا السؤال، ومحاولة الإجابة عليه أخيراً بفعل ثلاثة مستجدات. الأول: اشتداد الضغوط الأميركية على إيران، خصوصاً بعد انسحاب الرئيس ترامب من الاتفاق النووي، وتبنّي سياسة تهدف الى تطويق النفوذ الإقليمي الإيراني وتحجيمه، ابتداء من سورية (واليمن أيضاً). وقد عزّز هذا التوجه ورود أخبار عن استهداف قوات التحالف الدولي، بقيادة واشنطن، قاعدة عسكرية يستخدمها الحرس الثوري الإيراني ومليشيات تابعة له في منطقة حميميم في محافظة دير الزور، شرق سورية. وتعد هذه المرة الأولى التي تستهدف فيها الولايات المتحدة قواتٍ تابعة لإيران بشكل مباشر، منذ انطلاق الحرب على تنظيم الدولة الإسلامية خريف العام 2014، بعد أن كانت هذه المليشيات حليفاً موضوعياً لها في الحرب على التنظيم (وإن على الجانب العراقي من الحدود). المستجد الثاني، تصاعد الاستهداف الإسرائيلي قواعد ومقرات إيرانية على امتداد الجغرافية السورية، في تغير واضح في السياسة الإسرائيلية تجاه الصراع في سورية، فبعد أن كانت إسرائيل تتقبل الوجود الإيراني في سورية، طالما ظل محصوراً في دعم النظام، ومرتبطاً بموازين الصراع السوري، أخذت إسرائيل تستهدفه، بعد أن أخذ يتحول إلى وجود عسكري دائم لإيران في سورية، يهدف إلى التأثير في معادلات الصراع الإقليمي. أما العامل الثالث، والذي أجج النقاش بشأن مستقبل الوجود الإيراني في سورية، فهو التصريحات التي أدلى بها مسؤولون روس، وفي مقدمتهم الرئيس فلاديمير بوتين، حول ضرورة خروج كل القوات الأجنبية من سورية، وإيران هي من ضمن هذه القوات بطبيعة الحال.
تدفع هذه المستجدات إلى الاعتقاد بوجود تنسيق روسي - إسرائيلي، ليست واشنطن بعيدةً عنه، هدفه إخراج إيران من سورية، وإذا أخذنا بالاعتبار تصريحات نائب وزير الخارجية الروسي، سيرغي ريباكوف، أن الحفاظ على الاتفاق النووي الإيراني غير ممكن، من دون أن تقدم إيران تنازلاتٍ، يتنامى الاعتقاد بوجود "طبخة" يقدم فيها بوتين إيران قرباناً لتصحيح العلاقات مع واشنطن من جهة، ومنع حصول مواجهة إيرانية – إسرائيلية - أميركية في سورية، تودي بكل الاستثمارات الروسية فيها، من جهة أخرى. وقد تردّد أخيراً، أن تفاهماً روسياً - إسرائيلياً، بمشاركة الأردن، تواكبه واشنطن لترتيب الوضع على حدود سورية الجنوبية، قيد الإنجاز، يتم بموجبه السماح للنظام السوري باستعادة السيطرة على معبر نصيب، وإعادة فتح الطريق الدولي بين دمشق والحدود الأردنية، في مقابل إبعاد إيران مسافة 60 كم عن الحدود، فيما يتحدث الروس عن تفاهم أوسع، يتضمن انسحاباً إيرانياً - أميركياً متزامناً من جنوب سورية.
يشير ذلك كله إلى أن معركة اخراج إيران من سورية، بعد أن أتمت مهمتها في تثبيت النظام هناك، قد بدأت فعلاً، وأننا نشهد الآن بعض تجلياتها، لكن كل هذه التحليلات تنحو إلى تجاهل موقف إيران من المساومات التي تجري على رأسها في سورية، فمن الخطأ الاعتقاد أن الإيرانيين سوف "يضبضبون" أشياءهم، بمجرد أن يُطلب إليهم، ويخرجون من سورية بهدوء، أخذاً بالاعتبار ما فعلوه من أجل الاحتفاظ بالسيطرة عليها.
الحكمة السائدة أن العراق ولبنان هما البلدان الأكثر أهمية لإيران في المنطقة، وأن سورية بعدهما. هذا صحيح من دون شك، فليس هناك هدف أعظم قيمة في سياسة إيران الخارجية من إبقاء العراق ضعيفاً وتحت هيمنتها. أما لبنان فهو الركن الأهم في استراتيجية إيران الدفاعية حال تعرّضها لهجوم إسرائيلي أو أميركي. لكن الاحتفاظ بالعراق ولبنان غير ممكن من دون سورية، بدليل أن تنظيم الدولة الإسلامية غزا العراق من سورية عام 2014. وحتى لو فقدت إيران السيطرة على العراق، فإن احتواءه لا يكون إلا عبر سورية، على ما دلت حرب الثماني سنوات بين العراق وإيران.
وبحسب مستشار المرشد علي أكبر ولايتي، فإن سورية هي "واسطة العقد في محور المقاومة، وخروجها يعني سقوط المحور بكامله". وإذا لاحظنا أن إيران تخلت عن برنامجها النووي، لقاء الاحتفاظ بنفوذها الإقليمي، على اعتبار أن السلاح النووي يمكن الحصول عليه دائماً، طالما توفرت المعرفة النووية، بينما "إذا خسرت إيران سورية لا تستطيع الحفاظ على طهران"، على ما قال القيادي في الحرس الثوري، مهدي طيب. لذلك ستكون المعركة مع إيران في سورية أطول وأعقد مما يعتقد كثيرون.