أوراق صفقة الجنوب
مع بدء تسريب تفاصيل عن صفقة الجنوب السوري، والتي تعقدها كل من روسيا وأميركا وإسرائيل، تتضح أكثر العلاقة المضطربة بين الحليفين الروسي والإيراني، والأولويات التي تضعها موسكو نصب عينيها في التعاطي مع الملف السوري، والتي تأتي إسرائيل على ما يبدو في مقدمتها، حتى وإن حاولت اللعب على وتر الابتزاز ومحاولة تحصيل أثمانٍ من الأميركيين في مقابل تحقيق المطلب الإسرائيلي، والروسي أيضاً، في إبعاد الإيرانيين عن الحدود الجنوبية السورية المحاذية للجولان وفلسطين المحتلة، فالحسابات الروسية في سورية تختلف كلياً عن تلك الإيرانية، وإن تم جمع الطرفين ضمن تحالف ظرفي، إلا أنهما مختلفان كلياً على الصعيد الاستراتيجي، وحتى يمكن القول إنهما على طرفي نقيض، كذلك فإن الروس لا ينظرون بعين الرضى إلى التمدّد الإيراني في المنطقة ومحاولة بسط نفوذ في سورية وغيرها. وعلى هذا الأساس، فإن فكرة إضعاف الإيرانيين في سورية تروق لموسكو بشكل أساسي، حتى وإن لم تجاهر بذلك. في المقابل، فإن الحاجة الإيرانية للحليف الروسي الظرفي، وخصوصاً في ظل الهجمة الأميركية على طهران، والانسحاب من الاتفاق النووي، والعودة إلى سياسة العقوبات، تجعلها خاضعةً لرغبات موسكو، حتى لو جاءت متناقضةً مع أهدافها ومصالحها. هذا الأمر تدركه روسيا جيداً. وعلى هذا الأساس، كانت مفاوضاتها وقراراتها نيابةً عن الإيرانيين الذين سيكون عليهم التنفيذ من دون اعتراض. حتى أن الإيرانيين استبقوا التنفيذ بنفي وجود قوات لهم أساساً في الجنوب، تماماً كما سبق لهم أن نفوا تعرّض مواقع لهم في سورية لغارات إسرائيلية.
الأمر نفسه بالنسبة إلى النظام السوري الذي يترقب تفاصيل الاتفاق، لتطبيق ما يخصه منه، وخصوصاً الدخول في مواجهةٍ مع الفصائل السورية في الجنوب، وتولي حماية الحدود مع إسرائيل، برعاية روسية، وذلك بعدما استطاعت موسكو انتزاع المعلوم المجهول دائماً، وهو أنه ليس لدى إسرائيل مشكلة في بقاء بشار الأسد، بل على العكس هي تفضّله حارساً للحدود على أن تكون هناك فصائل غير منضبطة عسكرياً على تخوم فلسطين المحتلة، وهو ما حدث عندما وجد "داعش" في تلك المنطقة قبل فترة.
كذلك الأمر بالنسبة إلى الولايات المتحدة، فإذا كان الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، وصف الأسد في إحدى تغريداته بأنه "حيوان"، إلا أن ذلك لا يعني أنه في وارد إسقاطه، وخصوصاً في ظل فراغ الخيارات البديلة، فالتدجين هو الخيار الأمثل بالنسبة إلى واشنطن، ليس في عهد إدارة ترامب فقط، بل في كل العهود التي سبقت وحاولت إدخال النظام السوري ضمن الحظيرة الغربية. يبدو هذا الأمر اليوم أقرب من أي وقت مضى إلى التحقيق، خصوصاً أن الأسد أبدى استعداده ضمنياً لأن يضمن سلامة الحدود مع إسرائيل، ويمنع تحول الجولان إلى جنوب لبنان ثان، كما كان مخطط إيران وحلفائها. وهذا الأمر حالياً هو أكثر ما يهم الإدارة الأميركية، إضافة إلى استغلال نظام الأسد في "محاربة الإرهاب"، وإبقائه بعيداً عن الأراضي الغربية.
بناء عليه، فإن صفقة الجنوب السوري ليست مجرّد اتفاق عسكري بين الدول الضامنة لمناطق خفض التصعيد، إضافة إلى أميركا وإسرائيل، بل هو مؤسّس لمرحلةٍ جديدة في الحرب السورية وفاتحة ضوء أخضر لقوات الأسد وروسيا للسيطرة على ما تبقى من أراضٍ في يد المعارضة، شرط أن يبدي النظام الولاء والطاعة، ويحيد نفسه عملياً عن "محور الممانعة"، مع الإبقاء عليه ضعيفاً محتاجاً إلى الحلفاء الجدد والقدامى لضمان البقاء.