معركة الجنوب السوري الممكنة
ثمة تطوران لا بد من التوقف عندهما، فيما يتعلق بموقف نظام الأسد من الوضع في الجنوب السوري. التطور الأول قيام نظام الأسد بتحشيد قواته وقوات حلفائه على نقاط التماس، بين المناطق التي يسيطر عليها والمناطق الخارجة عن سيطرته في الجنوب السوري، وخاصة على طول الخط الدولي الذي يصل بين دمشق ودرعا. والتطور الثاني، إطلاق تصريحات من أركان النظام بعزمهم التوجه نحو الجنوب لـ«تحريره من الإرهابيين»، واستعادة سلطة «الدولة» عليه.
وللحق، فإنه لا يمكن فصل التطورين السابقين عن التطورات الميدانية والسياسية الجارية في بقية المناطق، والتي كان أبرزها تقاسم السيطرة في المناطق الأخرى، حيث النظام أحكم سيطرته على منطقة القلب، الممتدة من السويداء جنوباً إلى دمشق وحمص وحماة وطرطوس واللاذقية، مع تعرج خاص يصلها بمدينة حلب متجاوزاً إدلب. ورغم أن النظام هو الحلقة الأضعف في تحالف ثلاثي يجمعه مع إيران وروسيا، فإن الأهداف العامة لهذا الحلف، وقدراته العسكرية المشتركة، تجعله الأبرز في قوى تقاسم السيطرة في سوريا.
القسم الثاني من السيطرة، هو سيطرة تركيا على الشمال الغربي، التي تشمل بصورة أساسية مناطق حملة «درع الفرات»، وتتمركز في منبج، وتمتد في أنحاء من محيط حلب، وصولاً إلى مناطق عملية «غصن الزيتون» التي اتخذت من عفرين قلباً لها، بل إن إدلب وجوارها، ليست أكثر من منطقة نفوذ تركي، بحكم سيطرة قوى سورية مسلحة هناك، يرتبط أغلبها بعلاقات وثيقة مع تركيا، وحتى المختلفين مع الأخيرة يسعون إلى تجنب معركة حاسمة معها. وقد عززت تركيا سيطرتها في المنطقة، ليس بتحالفها في إطار آستانة مع روسيا وإيران فقط؛ بل أضافت إليه مؤخراً اتفاقاً تم التوصل إليه في أنقرة مع الولايات المتحدة، حول استراتيجية مشتركة، تطمئن تركيا على مناطق سيطرة «قوات سوريا الديمقراطية»، حليفة واشنطن، والخصم الرئيس لتركيا في الشمال.
القسم الثالث من تقاسم السيطرة في سوريا، واقع تحت السيطرة الأميركية، شاملاً الجزيرة السورية، وخاصة الرقة، حيث تنتشر «قوات سوريا الديمقراطية»، التي يقودها حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي بدعم أميركي ظاهر. ولا تمثل خروقات النظام في المنطقة، على نحو ما هو عليه وجوده في الحسكة، أهمية تخفف من حقيقة السيطرة الأميركية، والحال في هذا تنطبق على أي وجود آخر جنوب نهر الفرات.
وسط تركيز تقاسم السيطرة في المناطق الثلاث، تبدو منطقة الجنوب الأقل تركيزاً؛ لكنها الأكثر تعقيداً. ففي الخط الواصل بين دمشق ودرعا، وفي بعض انفراجاته، يسيطر نظام الأسد وحلفاؤه من الإيرانيين وميليشيات «حزب الله» الراغبين في التمدد بالمنطقة، على أمل السيطرة الكلية عليها، فيما تنتشر في بقية الأرجاء تنظيمات المعارضة المسلحة الوثيقة العلاقة مع الأردن، إضافة إلى جيوب لجماعات التطرف والإرهاب من «داعش» و«النصرة» وأتباعهما، يعاديها الجميع علانية، ويدعمها الحلف الإيراني الروسي مع نظام الأسد ضمناً، ويستخدمها في تكتيكاته السياسية والميدانية.
وباستثناء تداخل السيطرة في الجنوب السوري بين النظام والمعارضة، فإن الجنوب موضع تقاسم سيطرة سياسية لهاتين القوتين مع قوى أخرى، أبرزها الولايات المتحدة وإسرائيل، من خلال نفوذهما وقدراتهما السياسية والعسكرية، وعلاقتهما المعقدة بالنظام والمعارضة من جهة، ومن جهة أخرى علاقتهما مع الطرف الأردني الذي يسعى لضمان مصالحه للاتفاق والتوافق مع كافة الأطراف بما فيها الروس، والتي أثمرت في إحدى نتائجها إلى وضع الجنوب السوري ضمن ترتيبات مناطق خفض التصعيد، التي يتمسك بها الأردن ليتجنب من خلالها أضرار أي حرب يشهدها الجنوب.
وسط تلك اللوحة المعقدة المحيطة بالجنوب، فإن مساعي النظام لاستعادة سيطرته على الجنوب تواجه باعتراضات من مختلف الأطراف، ولا سيما إسرائيل التي لا تعارض عودة قوات الأسد؛ لكنها ترى أن العودة سوف تعطي إيران و«حزب الله» فرصة اقتراب أكثر من خط وقف إطلاق النار على جبهة الجولان، وهو أمر تعارضه واشنطن، ليس من الناحية السياسية فقط؛ بل وصولاً إلى استخدام القوة أيضاً، الأمر الذي يمكن أن يؤدي إلى حرب تحاول إيران ونظام الأسد تجنبها، فيما يسعى الروس إلى عدم حصولها أصلاً.
الجنوب السوري على ما في وضعه من تعقيدات وتشابكات، حالة مؤجلة في حسم تقاسم السيطرة. ولأن الوضع على ما هو عليه، فإن الجنوب يفتح على بوابة مختلفة أساسها اتفاق وتوافق بين الأطراف المختلفة، وهو أمر إذا حدث في سياق حل تعقيدات وضع الجنوب، فإنه يمكن أن يكون بوابة في حل للقضية السورية، قبل أن يمتد من الجنوب إلى المناطق الأخرى، وما لم يحصل ذلك، فإن الوضع القائم سوف يستمر في الجنوب في المدى المنظور، وتستمر معه التعقيدات والتحديات، وبينها احتمالات الصراع العسكري وربما الحرب الشاملة.