النظام السوري و«تعفيش» فلسطين
«هذا بيت هيثم ومحلاته وهذا محل النت على زاوية بيت حماي والعفيشة ينزلون الغسالات والاغراض من بيوتنا!».
هذا مقطع من شريط فيديو تداوله كثيرون على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك ويصوّر محاولة من إعلامي في «لواء القدس»، الموالي لنظام الرئيس السوري بشار الأسد، تصوير بيته في مخيم اليرموك فيما أفراد من «الجيش العربي السوري» يقومون بسرقة أغراض بيته وبيوت جيرانه ضمن عملية ممنهجة شاملة لنهب ما بقي في بيوت سكان مخيم اللاجئين الفلسطينيين الأكبر في سوريا بعد تدميره وتهجير سكانه.
يحتج أحد «العفيشة» (كما يسميهم المصوّر) على تصويرهم يسرقون فيغضب صاحب البيت لكن احتجاجه لا ينصب على سرقة بيته: «خذ الحارة بما فيها»، يقول لقطيع اللصوص العسكري، ويتابع مونولوجه الخاص عن «خزانة أم حسن الهندي ومكوايتها»، و«بيت فادي ويوسف»، ويشير، من دون تعليق، إلى البرميل المتفجر الواقع على مدخل بنايتهم، كما لو أن تدمير المخيم عن بكرة أبيه، وسقوط البراميل المتفجرة، والسرقة المعلنة لعناصر الأسد للمخيم الذي «حرّروه»، كلّها حوادث طبيعية، فالإعلاميّ، في النهاية، محسوب على هذه السرديّة التي دمّرت بيته وذكرياته وحوّلتها إلى هشيم، وهو مضطرّ لقبولها، إن لم يكن قادرا على التواطؤ الكلي معها.
لا يفعل النظام السوري في تدميره للمخيم وتهجير سكانه و«تعفيش» ما بقي من أغراضهم غير أن يتابع مسارا دمويا طويلا يمكن تتبعه من العام 1976 حين قاد ضباط جيشه الهجوم على مخيم تل الزعتر شرق بيروت، مما أدى لمقتل قرابة ألفي فلسطيني وتهجير ما تبقى من سكانه إلى الأبد، وكان في ذلك تأكيد من النظام، الذي كان يرأسه حافظ الأسد، للأمريكيين والإسرائيليين بأن الهدف من دخوله للبنان هو ضبط منظمة التحرير الفلسطينية، قبل أن يسلّم المهمة، عمليّاً، لإسرائيل التي اجتاحت لبنان عام 1982، لينهمك بقمع الداخل السوري بمجزرة رهيبة في مدينة حماه، وليعود بعدها للمشاركة العسكرية المباشرة ودعم «حركة أمل» في حصار مخيمات صبرا وشاتيلا (التي تعرّضت لمجزرة إسرائيلية عام 1982) وبرج البراجنة عام 1985، ما أدى إلى تدمير شبه كامل لمخيمي صبرا وشاتيلا.
لتجريف «عاصمة» الشتات الفلسطيني عبر محو مخيم اليرموك ماديا ومعنويا أهداف لا يمكن فهمها من دون قراءة تاريخ الارتباط بين فلسطين وسوريا، حيث تمت العودة إلى قرارات المؤتمر العربي الفلسطيني في القدس عام 1919 وكان من أشهرها «إعلان عروبة فلسطين واعتبارها جزءا لا يتجزأ من بلاد الشام»، وتكرار ذلك في المؤتمر السوري العام في دمشق عام 1920، بتأكيده على «استقلال سوريا بحدودها الطبيعية ومنها فلسطين ورفض جعلها وطنا لليهود»، وتم التذكير بتكليف المؤرخ الفلسطيني محمد عزة دروزة بإلقاء بيان الاستقلال السوري كإشارة رمزية لمعنى فلسطين في الوعي السوري التاريخي، وبعز الدين القسام، ابن سوريا، الذي كان قائدا بارزا للثورة الفلسطينية الكبرى عام 1935.
إنهاء وجود الفلسطينيين في سوريا، بهذا المعنى، هو تأكيد عضويّ للعلاقة بين نظام الاستيطان الإسرائيلي ونظام الاستبداد الوحشي في سوريا، والبطش بالثورة السورية، حسب هذا النظام، لا يكتمل، إلا بالبطش بالعلاقة السورية ـ الفلسطينية، وهو لا يقتصر على مخيم اليرموك، بل طال مخيمات درعا واللاذقية والسبينة والحسينية والسيدة زينب وخان الشيخ وحمص وحندرات.
يمكن النظر إلى إنهاء عملية اجتثاث ومحو أثر الفلسطينيين في سوريا أيضا ضمن ترتيبات سياسية وديمغرافية كبرى تبدأ من فلسطين نفسها، تحت مسمى «صفقة القرن»، وتمر بالضرورة بأماكن سيطرة نظام الأسد وتاريخه الطويل في تدمير القضية الفلسطينية باعتبارها بؤرة التمرد على الاستبداد والاحتلال.