هل أصبحت إيران الهدف بعد أن كانت الأداة؟
وحدها الصدفة هي التي وضعتني إلى جانب شخصين كانا يتحدثان العربية. لم أشأ أن اقتحم عالمهما، وذلك احتراما للخصوصية، وتحاشيا لأي إحراج.
ولكن بعد عملية الإقلاع، واستقرار الطائرة في مسارها، نظر أحدهما بتمعن نحوي قائلا: أعتقد أنني أعرفك أو أنك تشبه أحدهم. قلت له: ربما. أهلا وسهلا على كل حال. ثم عدت إلى الرواية التي كنت أقرأها.
غير أن صاحبي لم يتركني وشأني، في إصرار واضح على الحديث. سألني: ألست فلان؟ وبدأ الكلام. بداية قدّم نفسه، وذكر أنه من البصرة. ثم تناول مباشرة مفاسد الأحزاب السياسية هناك. وتحدث بمرارة عن التدخلات الإيرانية، ثم اردف قائلا: ما تسمعونه عن حماية النظام الإيراني للشيعة، ودعمه لهم مجرد خداع وتضليل. فهذا النظام يستخدم ورقتنا لبلوغ أهدافه في العراق والمنطقة كلها، لا سيما في سورية التي نتألم كثيرا لما يحدث فيها.
ثم تحدث زميله، الذي ذكر بأنه من الأحواز، فأكد المضمون ذاته الذي تمحور حوله حديث الأول. ما ذهب إليه أنهم يتعرضون لتمييز عنصري قومي سافر من قبل النظام الإيراني. هذا على رغم اشتراكهم معه في المذهب. ومما ذكره في هذا المجال: نحن بالنسبة إلى النظام عرب، وعلينا أن نلتزم حدود التهميش المفروض علينا من جانبه.
وتشعب الحديث، ولكن في الحصيلة توافقنا حول أهمية أن يتصدّر أبناء بلداننا لتحدياتهم الوطنية، وذلك من أجل مستقبل أفضل لأجيالهم المقبلة. وأمر من هذا القبيل لن يكون من دون تجاوز حساسيات الانتماءات ما قبل الوطنية بكل أوهامها وهواجسها. وتكون الخطوة الأولى بالمصادرة على جهود الجهات المتربصة، تلك التي تبني استراتيجياتها على أساس استغلال هذا التنوّع الديني والمذهبي والإثني الذي كان على مر العصور سمة رئيسة من سمات هوية مجتمعاتنا.
كان اللافت بالنسبة لي في حديث الرجلين موقفهما الواضح من النظام الإيراني، وتوصيفهما للمعاناة الداخلية ضمن المجتمع الشيعي في منطقتي البصرة والأحواز. أمّا ما يخص الاستراتيجية الإيرانية فإن خطوطها الأساسية باتت واضحة للجميع، ولكن بعد ماذا؟ بعد «خراب البصرة» كما يقول المثل العراقي. فهذا النظام استثمر، وما زال، في ورقة الشيعة منذ بداية مجيء الخميني إلى الحكم في إيران، وكان الاستثمار الأول في لبنان، ومن ثم في سورية، وفي العراق. وامتد لاحقا، ليشمل منطقة الخليج، واليمن تحديدا.
إلا أن الذي كان يستوقف، ويثير التساؤل، هو الصمت العربي الرسمي والشعبي، وذلك في مواجهة الجهود الإيرانية الحثيثة الرامية إلى التغلغل المستمر في دول المنطقة ومجتمعاتها عبر النافذة المذهبية، والإسلامية العامة.
وأذكر، في هذا السياق، أنني تناولت هذا الموضوع مع مفكر عربي إسلامي مؤثر، قلت له: كم كنا نشعر بخيبة أمل كبرى ونحن نتابع مواقف الدول العربية والإسلامية بخصوص مشروع حزب الله وتحالفه الوثيق مع النظام في سورية. كما كنا نشعر بألم كبير ونحن نتلمس الدعم العربي والإسلامي لنظام بشار الأسد الذي كان يضطهد الشعب السوري في الداخل، وينسق مع النظام الإيراني في العراق ولبنان، ويخطط لتهديد أمن واستقرار الدول العربية الأخرى. ألم تكن هذه الحقائق معروفة لديكم؟ ولماذا كنتم تتجاهلون معاناة السوريين؟
وكان جوابه غير المقنع: كنا نعرف. ولكننا كنا نقول طالما أن السوريين صامتون، وربما راضون، فليس من المصلحة أن نتدخل، ونثير قضايا كهذه.
وهو جواب كما تلاحظون ينم عن قصر نظر مرعب في القضايا الاستراتيجية. ويجسّد حالة التهرب من المسؤولية عبر عقلية اتكالية، من علائمها البارزة الرهان على ما يُعتقد أنه الحصان الفائز.
ولكن على رغم كل شيء، ما زالت المواقف الصامتة على المستويين الرسمي والشعبي عربيا في مواجهة ما تعرض، ويتعرض، له الشعب السوري مستمرة، فلم تخرج تظاهرة واحدة في طول البلاد العربية وعرضها تتضامن مع السوريين. هذا في حين أن النظام الرسمي العربي تصرف بصورة عامة وكأن الموضوع لا يعنيه. وانطوت كل دولة على ذاتها، أملا في الإفلات من التسونامي العارم الذي كان نتيجة انطلاقة ثورات الربيع العربي. وهكذا تُرك السوريون لمصيرهم.
وكانت فزاعة داعش، الكوكتيل الاستخباراتي، الذي ساهم فيه الجميع تقريبا بهدف التغلغل ضمن الجغرافيا السورية، والإمساك بمختلف المفاصل. وبعد انتهاء مرحلة الحرب بالوكالة، يبدو أننا دخلنا مرحلة المواجهة المباشرة بين القوى المتنافسة التي تكاملت أدوارها، وتقاطعت مصالحها في وقت من الأوقات. أما الأسباب الكامنة وراء ذلك فهي تتمثل في التحسب من الاحتمالات المستقبلية، لا سيما ما يتصل منها بالنزوع التوسعي الإيراني المعلن، المترجم واقعا على الأرض في هيكلية الميليشيات المذهبية بأسمائها المختلفة.
ولعل هذا ما يفسر الحسم الأميركي الخاص بالخروج من الاتفاقية النووية الإيرانية، على رغم المعارضة الأوروبية الشديدة. وكان من بين الأسباب التي قدمت لتسويغ هذا القرار الدور الإيراني التخريبي في المنطقة، هذا الدور الذي بات يمثل خطرا لا بد من مواجهته، وتحجميه، حتى تستقيم معادلات المنطقة وفق المسارات والحسابات الجديدة.
ويبدو أن الهجمات الإسرائيلية المتكررة على القواعد الإيرانية في سورية تتكامل مع التوجه الأميركي الجديد.
وما يستشف من هذه المقدمات والمؤشرات والمتغيرات المتلاحقة، لا سيما في ضوء لقاءات بوتين مع كل من الأسد ومركل، هو أن الدور الإيراني في سورية سيتضاءل إلى حدٍ كبير، مقابل بروز أقوى للدور الروسي، ولكن من دون أن يُعطى الأخير الكلمة الفصل في الشأن السوري. فالوجود الأميركي– الغربي سيبقى إلى أمدٍ أطول. وستكون هناك ترتيبات جديدة مع تركيا، تأخذ هواجسها في الاعتبار، مقابل إعطاء مساحة أكبر للدور العربي ربما في مناطق الرقة ودير الزور والجنوب السوري. وبطبيعة الحال، لن تكون إسرائيل بعيدة من هذه التفاهمات، خصوصا تلك التي ستكون في الجنوب.
ولكن ماذا عن مستقبل السوريين الذين يدعي الجميع حرصهم عليهم، ورفضهم لأي تقسيم يطاول بلدهم ومجتمعهم؟
وضعية مناطق النفوذ الحالية ستستمر على الأغلب. وليس من المستبعد أن يستخدم نظام بشار الأسد واجهة من أجل إضفاء بعض الشرعنة على الجهود الخارجية الرامية إلى تحجيم الدور الإيراني. ولكن على المدى البعيد سيكون من المستحيل لمثل هذا النظام أن يكون عامل توحيد للبلد، حتى ولو في حدوده الدنيا، وذلك ضمن نظام فيديرالي أو حتى كونفيديرالي.
وهذا مؤداه على الأرجح أحد أمرين: إما التخلص من بشار، والمحافظة على صيغة من صيغ الوحدة السورية، وبتوافق دولي إقليمي بطبيعة الحال. أو أن تستمر الصيغة الحالية، صيغة مناطق النفوذ، التي ستكون على الأرجح مقدمة لتقسيم فعلي، ليس بالضرورة أن يُشرعن دوليا، هذا إذا أخذنا النتائج المترتبة على مثل هذه الشرعنة في واقع المنطقة في الحسبان.
ولكن مع ذلك ففي أجواء التعقيدات والتفاعلات والتطورات السريعة التي نعيشها، تبقى كل الاحتمالات مادة صالحة للتفكير والمناقشة.