لا يصح إلا الصحيح
من السذاجة بمكان الاعتقاد أن ايران لعبت دورها الحالي خلال الأعوام الأربعين الماضية رغما عن العالم، واختارت هذا الدور تعبيرا عن إرادتها المستقلة التي فرضتها على الشرق والغرب، بدهاء ملاليها وقوتهم.
لإيران في استراتيجية واشنطن دور محدّد، هو تخويف دول الخليج إلى الحد الذي تطلب معه حماية واشنطن التي نالتها دوما في مقابل حصول البيت الأبيض على ما يريده: نفطها وبترودولاراتها، فإن اشتطت طهران، وتوهّمت أنها تستطيع تخطّي خط الاستئثار الأميركي بالخليج، وانتزاع حصةٍ من خارج الحدود التي رسمتها أميركا لعلاقاتها بالعالم، ولعلاقات العالم معها، جرى تصحيح شططها، بردّها إلى جادة الصواب وحجمها الطبيعي. توهّم الشاه أنه صار شريك واشنطن، ففقد عرشه، بعد أن كبل البنتاغون (وزارة الدفاع الأميركية) أيدي المخلصين من جنرالات جيشه، لتمكين الحراك الشعبي من إسقاط نظامه، وتمكين الملالي من الاستيلاء على السطة. وإذا كان هناك من نسي كيف أخرج الشاه من طهران، فذاكرة العالم السياسية لم تنس تصريح وزير خارجية واشنطن، سايروس فانس، إن على الشاه أن يغادر بلاده.. فغادرها.
لعب الملالي الدور التخويفي ذاته الذي مارسة الشاه، لكنهم بالغوا فيه إلى الحد الذي أرعب العالم العربي بأسره، ولم يقتصر رعبه على الخليج وحده، في حقبةٍ كان من الأهمية بمكان، بالنسبة إلى واشنطن وربما الغرب، أن تستخدم فيها قوى جديدة لصراعٍ من طبيعة جديدة، أوسع بكثير مما كان الشاه يستطيع خوضه. لذلك، جيء بالملالي كي يقوموا به، فمارسوه بحماسةٍ من خلال الصراع المذهبي داخل الصف الإسلامي الذي شطره إلى فريقين، يراد لهما أن يصيرا متنافيين: أحدهما تقوده طهران، لكنه منظم وممول ومتعسكر من رأسه إلى أخمص قدميه، والآخر فضفاض ومتسيب، ويفتقر إلى قياده ونهج، معظم أتباعه من المعدمين الخاضعين لنظم متهالكة ومستبدة، يرغمها عجزها عن حماية نفسها من الفريق الأول على طلب حماية واشنطن التي تقرّر اليوم رد نظام طهران إلى حدودٍ لا تمكنه من وضع يده على ما لا يجوز له الاستيلاء عليه، من دون الحؤول بينه وبين ممارسة دورٍ من شأنه دفع النظم المجاورة إلى الارتماء في حضن أميركا الحنون.
قال وزير خارجية واشنطن، مايك بومبيو، في نقاطه الاثنتي عشرة للملالي: لن يكون بيننا وبينكم أية مشكلة، ولن نعاقبكم إن عدتم إلى تقسيم العمل الذي يضمن أمنكم من جهة، وإقلاعكم عن اختراق جيرانكم، والسعي إلى وضع يدكم على بلدانهم، والإمساك، في الوقت نفسه، بالمفاصل والممرات البرية والبحرية لمنطقة الشرق الأوسط عموما، والبلدان العربية خصوصا، من جهة أخرى. عودوا عن سياساتكم التي تتخطى المشكلات التي أنتجتها قدرتنا على التحكّم فيها، وتعالوا إلى عقد سياسي جديد بيننا وبينكم، كي لا نضطر إلى العمل لاستبدالكم بغيركم، مثلما عملنا لاستبدال الشاه بكم، عبر بنودٍ أعلنها الوزير بومبيو للعالم ولكم، فيها عصا التهديد بالعقوبات الأقسى في التاريخ التي ستقوّض قدراتكم بأكثر الصور إضرارا بكم، وجزرة الوعد بتطبيع علاقاتكم مع أميركا، إن وافقتم على الجلوس حول طاولة المفاوضات، وبدأتم نقاشا جدّيا يتجاوز الاتفاق النووي إلى السياسات التي تعتقدون أنها تستطيع تقليص دور واشنطن في المنطقة، وهذا لن يكون متاحا لكم تحت أي ظرف أو سبب. لذلك، لا بد أن تقبلوا علاقات جديدة بينها وبينكم، تتحدّد حركتكم فيها بما تتيحه هي لكم منها.
وتمتلك إيران مجموعة من الأوراق، أولها القوة العسكرية التي اعتمدتها وسيلةً رئيسةً لتحقيق استراتيجيتها القومية ذات الغطاء المذهبي، ووضعت ديبلوماسيتها متنوعة الموارد والجوانب في خدمتها، دامجة بذلك وموحدة أجهزة وأنشطة السلطة والدولة في كيانٍ يستمد قدراته من مؤسسته العسكرية/ الأمنية التي يقف في مقدمتها الولي الفقيه، مرشد ما تسمى الثورة علي خامنئي، الذي تجتمع في يده السلطات المذهبية والعسكرية والسياسية، ويعتبر المسؤول عن رسم أهداف إيران ومتابعتها وسبل بلوغها. وقد فشلت هذه القوة في الحرب ضد العراق، ولم تختبر بعد في أي سياقٍ يتخطى معارك محلية تلعب عسكريتاريا إيران فيها دور الداعم والموجه، وتخوضها بالوساطة: في لبنان والعراق واليمن وسورية. ولا يعرف أحد بعد إن كانت تستطيع مواجهة جيوشٍ على درجةٍ رفيعة من التنظيم والتقدم التقني والتدريب والتسليح، كجيش أميركا وإسرائيل اللذين يتفوقان تفوقا ساحقا على جيشها، لافتقاره إلى أسلحة جو وبر وبحر حديثة وكافية، واعتماده على الصواريخ قوة ردع، وعلى موقع إيران المحمي نسبيا بقواتٍ تابعةٍ لها، لكنها ترابط خارجها، مثالها الأشهر حزب الله في لبنان، والحشد الشعبي في العراق، والحوثيون في اليمن، وجيش الأسد في سورية، فهل تستطيع هذه القوى حماية إيران بما لديها من قدراتٍ متفاوتةٍ ومحدودة بالمقارنة مع قدرات أعداء إيران؟ وإلى أي حد يمكن أن تتحول هي إلى نقاط ضعف قاتلة للمركز الإيراني؟ ومن سيحمي الحوثيين، إيران أو أنفسهم، في حال استهدفهم الأميركيون والخليجيون بغرض استئصالهم من اليمن؟ وماذا ستفعل إيران لهم، وفي حال ظلت خارج الحرب، أية انعكاسات سيكون لهزيمتها في اليمن على داخلها؟ هناك أيضا نقاط ضعف إيرانية، منها مثلا عجزها عن منع أعدائها من تعطيل إنتاجها من النفط، بإغلاق ومحاصرة طرق تصديره وممراته، واستيراد ما تحتاجه من الخارج. ومنها عجزها عن ردم أو تحييد الهوة التقنية الهائلة بين اعدائها وبينها التي يرجّح أن تعطل أسلحتها الصاروخية أو تدمرها. ومنها عداء جيرانها لها الذي لم يعد يقتصر بعد مجازر طهران في سورية على الحكام، وإنما تكنه الشعوب أيضا ضدها، بسبب ما مارسه الملالي حيالهم من عنفٍ وقتل وابتزاز، مثاله الأهم سورية، حيث أعملوا سكاكينهم في عنق شعب مؤمن مسالم، أقام الإسلام نظام أمن كامل لحمايته وأمثاله من شطط إخوته في الدين، فأتت جموع إيران المسلحة لقتله وحماية سفاح أشر، لو كانوا مسلمين حقا لبادروا إلى رد ظلمه وأذيته عن الناس. كان هؤلاء الجيران دوما دريئة تحمي العالم الإسلامي. أما اليوم، وبعد أن فعلت إيران بهم ما فعلته، فإنهم سيؤيدون أي إجراء يتخذ ضد ملاليها، من شأنه رفع ظلمهم عن شعبها وعنهم.
ليست أوروبا نقطة قوة لإيران، لكونها تتبنى مطالب ترامب الثلاثة: نزع سلاحها الصاروخي الذي يمكن أن يحمل أسلحة نووية، وخروجها من الدول المجاورة ووقف اعتداءات مرتزقتها على شعوبها، والتزامها بفتح مفاعلاتها ومراكز أبحاثها وثكناتها ومرافقها الخاصة والرسمية أمام تفتيشٍ دوليٍّ غير محدود زمانا ومكانا، ولفترة مفتوحة تتخطى عام 2025 في هذه النقاط، لا يختلف موقف أوروبا عن موقف أميركا، بل هو يتبناه. لذلك، يقترح على إيران قبول التفاوض حوله، ويعلن أن أوروبا لا تستطيع حماية طهران، والاتفاق من دون تنازلاتٍ تقدمها، كما قال أوروبيون عديدون. وأيدهم نائب وزير خارجية روسيا، حليفتهم المفضلة. صحيح أن لأوروبا مصالح في إيران، لكنها لا تقارن إطلاقا بمصالحها في أميركا. ولو أخذنا فرنسا مثالا لوجدنا أن استثماراتها هناك تبلغ 300 مليار دولار، فكم هو حجم استثماراتها في إيران، وهل تضحي بمصالحها من أجلها؟ لا تستطيع روسيا أيضا حماية الملالي من واشنطن، بسبب تناقضات استراتيجيات البلدين، وأهدافهما ومصالحهما، وما صار معلوما من تنافسٍ بينهما في سورية وصل أحيانا إلى حد استخدام السلاح.
والنتيجة، طرحت إيران الملالي على نفسها مهمةً تتخطّى كثيرا قدراتها، يستحيل عليها القيام بها، هي الاستيلاء على الدول العربية أو إخضاعها، وبلغ الشطط بها حدّا جعل أحد كبار مسؤوليها، أحمد يونسي، يتفاخر بقيام أمبراطورية فارسية عاصمتها بغداد! مشكلة الملالي أنهم لا يعلمون أن مكرهم ليس أكبر من مكر التاريخ، وأن استغفال الشعوب، بمصادرة قضاياهم، لا يدوم، خصوصا إن كانت نتيجته الوحيدة اضطهادها وقتلها واحتلال أوطانها. مشكلة إيران ومشكلة العالم مع إيران تكمن في عيش ملاليها خارج عصرنا، واعتمادهم وسائل عنيفة لتحقيق أهدافهم، وأفكارا عفا عليها الزمن لبلوغ غاياتهم، عائدها الوحيد إثارة حروبٍ أهلية في العالم الإسلامي، وتمكين أعدائه منه. ومشكلة إيران أنه لن يحميها غير مصالحة تاريخية مع العرب، إخوتها في الدين والدنيا، وإلا فإنها ستنصاع من الآن فصاعدا لما تطالبها به واشنطن، بما يعنيه من سقوط لأوهامها الأمبراطورية، وربما لنظامها نفسه.
لدى ملالي إيران فرصة تاريخية، هي تصحيح علاقاتهم مع شعبهم وجيرانهم، ودعم حق شعوب المنطقة جميعها في الحرية، بما في ذلك شعبهم نفسه، فهل يفيدون من هذه السانحة، فيربحوا معركتهم ضد أميركا، أم يواصلون تجبرهم الاستعلائي فيهزمون؟