أبعد من هذا التعفيش
كأنّ بشار الأسد لم يقرأ بعد رسالة عضو لجنة المصالحة الوطنية في مخيم اليرموك ومنطقة جنوب دمشق، الشيخ محمد العمري، وقد ناشده فيها هذا، بعد أن بارك له النصر الذي تمّ هناك، بأن يوقف ظاهرة التعفيش التي "أصبحت تجرح شعور الكثير من الشعب، وخصوصاً عوائل الشهداء والجرحى الذين ارتقوا دفاعا عن البلاد والعباد". خاطب هذا الرجل، عضوُ اللجنة المذكورة أعلاه، الرئيس المشار إليه، بمقادير ظاهرةٍ من التوسّل، ".. ونظرا لمحبّتنا شخصكم الكريم، ولنا عندكم حظوة، كلنا أملٌ بكم، أيها القائد، في إيقاف هذه الظاهرة التي لا تتناسب مع التضحيات الجسام لجيشنا العظيم وصموده الأسطوري". إما أن الأسد صادف هذه الرسالة، ولم يحفل بالأمل الذي فيها عليه، أو أنه لم يقرأها. وأغلب الظن أن رئيس سورية (المنتخب بحسب أدونيس) لا يُشغل باله بمسألةٍ صغرى مثل هذه، فيما التحدّيات قدّامه ليس أولها مجابهة قوى التآمر على سورية، ولا آخرها تلبيةُ إرادة سلطة الانتداب الروسية بكتابة دستورٍ جديد. والدليل على أن مناشدة الشيخ العمري لم يُكترث بها أن "التعفيش" مستمرٌّ وباضطراد في مخيم اليرموك. والمفردة تعني، لمن لم يعرف بعد، سرقة الأثاث والكهربائيات وغيرهما من المنازل والبيوت والمحال التجارية التي نزح عنها أهلوها وأصحابها وساكنوها، بل حدث، بعد رسالة الشيخ عضو لجنة المصالحة الوطنية، أن عساكر يتبعون الجيش المنتصر، والذي تقول الرسالة إن بشار الأسد يقوده، قتلوا طفليْن حاولا منعهم من سرقة منزليْهما.
لقد أوسع الجيش الهُمام مخيم اليرموك "تحريرا" من الداعشيين، وأخرجهم سالمين. وبالتزامن والتوازي، شرّد أهل المخيم، اللاجئين الفلسطينيين وبعض أشقاء سوريين لهم. وما أن أنجز المهمتين، بعد بسالةٍ في تدمير المخيم، بشكلٍ كامل على ما قالت الأمانة العامة للأمم المتحدة، حتى باشر مرحلة التعفيش، بمواظبةٍ نشطة، دلّت عليها صور غير قليلة لعناصر منه غير قليلين، نطقت، وهم يحملون ويحمّلون مسروقاتهم، بانكشاف من يصدّقون أن هؤلاء من جيش نظامٍ ممانعٍٍ مقاوم، في عهدته تحرير الجولان، وفلسطين تاليا. ... تُرى، ألم يكن ممكنا إحداث الهزيمة بالإرهابيين، من تنظيم الدولة الإسلامية وغيره، بل وأيضا بالثوار الذين يزدرون نظام الأسد، أباً وابناً، بغير إحداث هذا التدمير المهول للمخيم الذي كان يضجّ بالحياة، وبالانتماء إلى فلسطين، منذ صار في 1957؟ ألم يكن في مقدور جيش السارقين هذا أن يحقّق انتصاراته من دون براميل متفجرةٍ وصواريخ ارتجاجيةٍ وفراغية؟ ما هي العقيدة التي تستوطن مدارك ضباط الجيش العربي السوري الباسل، وهم يأمرون بأفدح قوةٍ ضد المخيم؟.
نكون في منزلةٍ كبرى من السذاجة، لو صدّقنا أن القصة هنا.. لا، إنها ليست في "ترحيل" الداعشيين من عاصمة شتات اللاجئين الفلسطينيين، مخيم اليرموك، آمنين إلى السويداء أو إدلب. وإنما في اعتناق نظام الأسد، منذ أولى حروبه التدميرية ضد مخيمات الفلسطينيين، في العام 1976، في لبنان، أن هؤلاء الناس، أي الفلسطينيين، لاجئين أو في أي حالةٍ كانوا، إما أن يكونوا في جيب حافظ الأسد وورثته، أو لا مشكلة في الإجهاز على أي رمزٍ يدلّ على كينونتهم، أكان منظمة تحرير أو سلطة حكم ذاتي أو لجنةً من أجل حق العودة في مخيم البداوي في طرابلس. على الفلسطينيين أن يكونوا على طراز أحمد جبريل، أو أن يتحملوا الإبادة في "تل الزعتر"، أو القتل والتعفيش معا في "اليرموك". هذه هي معادلة نظام الأسد الخالدة، فمن هم هؤلاء اللاجئون الذين يرتضون بدعة ياسر عرفات عن عنوانٍ سياسيٍّ لهم؟ فيما الأصل أن تمثّلهم سورية الأسد، وتأخذهم إلى السلام الذي تريد، أو إلى الهزائم المعلومة في الحروب التي تعرف إسرائيل بداياتها ولا تعرف نهاياتها، كما ما زالت "تشرين" ومشتقاتها تكتب، ويعتنق خراريفَها مثقفون فلسطينيون، عراةٌ من أي أخلاقٍ، وهم صامتون، كما رئاسات حركة فتح ومنظمة التحرير والسلطة الوطنية، عن جرائم المحو المهولة التي استأنفها نظام الأسد في مخيم اليرموك، في غضون الذكرى السبعين للنكبة.
كان مخيم اليرموك شاهدا على تلك النكبة، وواحدًا من فضاءات الوجدان الفلسطيني المقاوم الموحد. وصار، بحسب رسالة عضوٍ في لجنةٍ مصالحةٍ سقيمةٍ إلى القائد بشار الأسد، أرض "تضحياتٍ جسام" لجيش التعفيش المغوار.