في الوقت الحالي تبدو إدلب وكأنها إحدى الخطوات النهائية في إطار الحرب السورية، ولكن في الواقع لا يمكن القول إنها المرحلة الأخيرة لهذه الحرب، نعم إدلب هي المنطقة الأخيرة من بين المناطق التي تتقاسمها القوى المتدخّلة في الساحة السورية، ولكن يجب أن لا ننظر إلى الحرب الداخلية السورية على أنها مرحلة على المدى القصير، لأن تقسيم المناطق لا يعني نهاية الحرب وبدء المفاوضات من أجل تحقيق السلام بشكل سريع، كما ذكرت مسبقاً أصبحت سوريا أشبه بمتاهة كبيرة، والخروج من هذه المتاهة ليس بالأمر السهل، بل أصبح الأمر يزداد تعقيداً يوماً تلو الآخر.
قد تكون إدلب إحدى فترات هذه المرحلة، ولكن لن تكون نهاية المرحلة أبداً، إذ أدت مواقف أمريكا إلى مواجهة طرق مسدودة داخل المتاهة السورية، وقد توضّح أن هذه الطرق ستصبح مسدودة منذ أن دافعت أمريكا ودول الغرب عن الاستبداد بدلاً من الديمقراطية في سوريا، وكذلك عندما تغاضت أمريكا عن التدخّلات الروسية لصالح الاستبداد الذي نشهده في سوريا.
كانت أمريكا تستطيع الضغط من أجل الوصول إلى حل لصالح طرفها من خلال دفع الأسد للرحيل وتنصيب شخص آخر قريب للأسد أو معارض له ليؤسس حكومة جديدة، وبذلك كانت روسيا ستضطر للاكتفاء بالمشاهدة من بعيد، لكن أمريكا لم تفعل ذلك، بل دعمت هذه المتاهة وأدت إلى زيادة الطرق المسدودة، وعندما تدخّلت روسيا في مجرى الأحداث انتقلت الحرب السورية إلى منحى مختلف تماماً عن السابق.
عند دخول أي دولة تملك قوة نووية إلى دولة أخرى يُصبح إخراجها أمراً صعباً مهما كان مدى القوة الاقتصادية والعسكرية للدولة المدخول إليها، وخصوصاً إذا كانت الدولة المتدخّلة دولةً ذات قوة نووية ضخمة وقدرة عسكرية عالية مثل روسيا، عندها تُصبح استراتيجية أمريكا التي تعتمد على الضغط لصالح طرف واحد مستحيلة وغير نافعة ولن تحقق نتائج ملموسة.
منذ دخول الجيش الروسي إلى الساحة السورية أصبحت روسيا تملك الفرصة لتكون جزءاً من جميع أنواع المفاوضات والمباحثات لإيجاد حل للقضية السورية، وكذلك أخذت إيران وتركيا وأمريكا موقعها في المنطقة أيضاً، وبذلك تشّكلت أجواء تعيق مهاجمة أي قوة لقوة أخرى، وفي هذا السياق تزعم بعض الجهات المؤيدة لروسيا أن الأخيرة تستطيع إجبار تركيا على الانسحاب من المناطق التي سيطرت عليها القوات المسلّحة التركية من خلال عمليات درع الفرات وغصن الزيتون، لكن هذه المزاعم ليست واقعية، إذ يمكن لروسيا أن تهاجم تركيا في الساحة السورية عن طريق الغلط فقط، لكن ليس هناك أي احتمال يدور حول مهاجمة روسيا لتركيا بشكل مقصود، ويتوضّح ذلك من خلال النظر إلى مسار المفاوضات التي تجري بين الدولتين التركية-الروسية فيما يتعلّق بمدينة إدلب.
تحاول روسيا وشركائها الضغط من أجل تنفيذ عملية عسكرية في إدلب، لكن لا أحد ينظر إلى هذه المسألة على أنها المرحلة الأخطر أو الأهم في الخصوص السوري، لأن روسيا لن ترغب في خسارة كل ما اكتسبته منذ البداية إلى الآن فقط من أجل تنفيذ عملية عسكرية في إدلب، من جهة أخرى قد تكون إيران أكثر جرأة من روسيا في الصدد ذاته، ولكن نظراً إلى ارتباط إيران بروسيا بشكل كبير يمكن القول إنّ العامل المحدد في هذه النقطة هي القيمة التي يعطيها الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين" لشروط مرحلة أستانة، وفي هذا السياق يمكن لتركيا أن تُظهر لباقي القوى أن التدخّل العسكري في إدلب قد يؤدي لخسارة دعم وصداقة تركيا بشكل نهائي، ولكي تكتسب هذه المسألة جديّة أكبر يجب على أمريكا والدول الأوروبية أن تدخل في الساحة بشكل أبرز، لكن مع الأسف لم تُظهر هذه الدول الاهتمام المفروض للمسألة، لذلك يجب على تركيا أن تكون مستعدّة لجميع الاحتمالات خلال المراحل المقبلة، كما يمكن للأخيرة أن توضّح أنها قد تبادر بتدخّل إنساني والدخول إلى شمال إدلب في حال بدء العملية العسكرية على أرض الواقع.
نشرت صحيفة «الغارديان» البريطانية تقريراً لمارتن شلوف عن اللاجئين في إدلب الذين ينتظرون الهجوم عليهم ولا مكان للفرار.
وأكدت الصحيفة أن إدلب، الواقعة في شمال غربي سوريا، والمحاصرة من جميع الجهات، ويعيش فيها نحو 3 ملايين شخص، تتوقع هجوماً عسكرياً لا مفر منه على يد القوات الروسية التي تسعى لتحقيق النصر واستعادة آخر المعاقل الرئيسية للمسلحين. وأكد التقرير أن روسيا حشدت بوارجها الحربية في منطقة شرق المتوسط، وواكبت ذلك استعدادات لدول أخرى حول إدلب؛ إذ أرسل الجيش التركي قافلة مسلحة إلى العمق السوري، وتمركزت الميليشيات المدعومة من إيران في الجنوب، ووضع الجيش السوري على أهبة الاستعداد. وأردفت الصحيفة أن لجميعهم حصته في هذه المعركة التي ستكون الأخيرة لصراع هز بنية البلاد والذي قد ينتهي بإعادة ترسيم لحدود سوريا.
ما نشهده اليوم في سوريا هو سياسة روسية هجومية اتبعتها في سوريا منذ عام 2015، وانكفاء أميركي أمامها لم تشهده هذه الدولة منذ الحرب العالمية الثانية.
سوريا المنكوبة يُجرب في شعبها أحدث أساليب القتل والتهجير والتشريد والتجويع على مرأى ومسمع من كل دول العالم منذ عام 2011 حتى الآن، وما بقي من إنسانية، ومنظمات دولية عاجزة يستغيث بعضها ويصرخ بعضها الآخر ويتواطأ القليل منها.
لقد تدخل الروس في سوريا عام 2015 تحت ذريعة محاربة إرهاب «داعش»، وقد نسقت روسيا في البداية تدخلها مع الولايات المتحدة لتفادي أي مواجهات للمقاتلات العسكرية الروسية والأميركية.
من أهم أسباب تفاقم الأزمة السورية على مدى 7 سنوات، تدخل القوى الكبرى؛ وتحديداً روسيا والولايات المتحدة، حيث ألقى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ثقل روسيا وراء النظام، الذي بلغ مداه بالتدخل العسكري الشامل عام 2015.
التدخلات الروسية والأميركية في سوريا ليس الهدف منها محاربة الإرهاب كما يدّعون، فهم مدفوعون في المقام الأول بمصالحهم الذاتية وتنافسهم على القوة والنفوذ في المنطقة، فالرئيس بوتين مصمم على استعادة مكانة روسيا دولياً بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، وعلى مقاومة اعتبار أميركا والغرب أن روسيا ليست إلا قوة إقليمية.
واضح أن الدور الروسي في سوريا جعل منها قوة على نطاق الشرق الأوسط، وملأت الفراغ الذي تركته الولايات المتحدة تحت إدارة أوباما.
السؤال: لماذا تراجع دور أميركا والدول الغربية في المنطقة؟ هنالك أسباب كثيرة، لكن من أهمها تنامي الإرهاب في المنطقة الذي أسهم في تعميق أزمة النظام الديمقراطي الغربي، لأنه أتاح ذريعة لتفسير التراجع عن القيم الإنسانية الجوهرية التي لا تقوم لهذا النظام قائمة من دونها، فتخلت معظم الدول الغربية عن أهم المقومات الإنسانية للنموذج الديمقراطي عندما أغلقت حدودها أمام المهاجرين السوريين، وتخلت عن مواقف كانت تتبناها في شأن الأزمة السورية، وذلك في سلوك لا سابقة له في تاريخ الحروب الداخلية والحروب بالوكالة في العصر الحديث.
السؤال: لماذا كل هذا التدخل والتكالب العالمي على سوريا وشعبها، وما مدى تداعياته على جهود التسوية؟
تنبع أهمية سوريا من موقعها الجغرافي؛ حيث تحتل قلب المشرق العربي، وهي مجاورة لثلاث دول عربية؛ هي العراق ولبنان والأردن، ودولتين غير عربيتين هما تركيا وإسرائيل؛ اللتان تعدّان من أقوى دول المنطقة عسكرياً. بالنسبة لموسكو، تمثل سوريا حليفاً لها منذ الاتحاد السوفياتي السابق، حيث باشرت بكسر الاحتكار الغربي للتسليح في الشرق الأوسط. اليوم تتعاون موسكو مع كل من تركيا وإيران لدعم نظام بشار الأسد ومنع سقوطه وتأكيد استمراره في الحكم.
الولايات المتحدة تخلت عن مبادئها لعدم مقدرة النظام الديمقراطي على تجديد نفسه وتوسيع نطاق تفاعلاته لاستيعاب المستجدات الجديدة... كل ما يهم الولايات المتحدة تحت رئاسة ترمب هو حماية مصالحها ومصلحة إسرائيل وتوسع هيمنتها. الوضع في سوريا يزداد تعقيداً بعد تهديدات أميركا بالتدخل في حال استعمال الأسلحة البيولوجية في إدلب، ومزاحمتها النفوذ الروسي.
ما نتخوف منه هو استمرار المأساة السورية، والفشل في فرض تسوية سياسية، مما سيعود حتماً بأفغنة سوريا واستمرار الحرب... وزيادة مأساة الشعب السوري.
نشهد في الآونة الأخير تصاعدًا في الاقتتال الإقليمي، وبالتوازي معه مرحلة من اللامبالاة العالمية إزاء هذا الاقتتال. ولهذا يقف المجتمع الدولي غير عابئ بملايين النازحين من ديارهم، ومئات الآلاف من القتلى.
من الواضح عدم اكتراث الرأي العام العالمي إزاء دوامة الظلم والمجازر والاقتتال المستمرة في سوريا منذ عام 2011.
العالم الغربي فضل التعامي عن ديكتاتور يستخدم السلاح الكيميائي، خشية من أن يكون البديل الإسلام والمسلمين.
تغاضى العالم الغربي من أوروبا وحتى أمريكا عن جميع المجازر المرتكبة في سوريا، تحسبًا لتسلم معارضة مسلمة زمام الحكم.
تتصدر إدلب حاليًّا قائمة قضايا الساعة. إدلب مدينة صغيرة بدأت قوات النظام السوري ورسيا بقصفها شيئًا فشيئًا، وجراء القصف يسقط ضحايا بين المدنيين.
أضحت هذه المدينة التي أصبح عدد سكانها 3.5 مليون نسمة وتبعد عن تركيا 100 كم، ساحة مهيئة لارتكاب المجازر فيها.
تابعنا مباشرة القمة الثلاثية في طهران. دافع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بإصرار عن وقف إطلاق النار في مواجهة نظيريه الإيراني والروسي، لكن القمة انفضت عن حقيقة ظهرت مجددًا وهي أن تركيا هي المدافع الوحيد عن المظلومين والأبرياء.
أكد بيان القمة المكون من 12 مادة على أهمية مسار أستانة، ولفت إلى عزم البلدان الثلاثة على الوقوف في وجه الأجندات الانفصالية الرامية إلى إضعاف بلدان الجوار بحجة مكافحة الإرهاب.
وجدد البيان عزم البلدان الثلاثة على مواصلة الجهود المشتركة الرامية لدفع مسيرة التوصل إلى حل سياسي بقيادة الشعب السوري، وأكد على التعهدات بشأن المساعدة في إطلاق العمل على تشكيل لجنة صياغة الدستور.
وشدد البيان على أهمية مسألة المساعدات الإنسانية، وعلى فكرة عقد مؤتمر دولي بخصوص اللاجئين.
قمة طهران كانت هامة، لكننا رأينا كيف كانت الاستجابة إلى جهود تركيا الرامية إلى الحيلولة دون اقتران ذكر إدلب بمجزرة جديدة.
لكن بينما تسعى تركيا بكل طاقتها من أجل منع وقوع كارثة في إدلب، ماذا يفعل صناع القرار في العالم؟
تمامًا كما فعلوا منذ اندلاع الحرب السورية حتى اليوم.. يفشلون في اجتياز اختبار الضمير الإنساني..
ليحمي الله جميع الأبرياء من القصف العشوائي..
عاد التصعيد الإسرائيلي ضد الوجود العسكري الإيراني في سورية، بعد فترة قصيرة من الصمت الإعلامي الذي يبدو أنه كان لإتاحة المجال أمام الروس، للتوصل إلى حلّ لهذه المشكلة، بالتفاهم مع حلفائهم الإيرانيين. عودة التهديدات الرسمية مترافقةً مع عودة الهجمات الجوية الإسرائيلية على أهدافٍ عسكريةٍ في سورية دليل على أمرين: خيبة أمل إسرائيلية مما أسفرت عنه الجهود الروسية من مسألة لجم الوجود الإيراني؛ وإعلانٌ عن بداية مرحلةٍ جديدةٍ في التعاطي الإسرائيلي مع المشكلة.
يدرك الإسرائيليون أن روسيا مشغولة الآن بالمعركة التي يجري تحضيرها ضد إدلب، المعقل الأخير للمعارضة السورية، لكنهم، منذ الآن، وبغض النظر عن نتائج المعركة يريدون أن يوضحوا للروس أن انتصار الأسد، وحليفته إيران، لن يكون على حسابهم. وهم يتخوّفون من أن يضطروا إلى دفع أثمان هذا الانتصار. وبحسب المختص في شؤون سورية، إيال زيسر، ستساعد دولٌ غربيةٌ عديدةٌ الأسد في إعادة إعمار بلاده، على أمل أنه سيُخرج الإيرانيين، وستضغط هذه الدول على إسرائيل، لتكبح عملياتها داخل سورية، حفاظاً على استقرارها. ولا يخدم هذا كله الهدف الاستراتيجي الأساسي لإسرائيل: التخلص من الوجود العسكري الإيراني في سورية.
"معارك بين الحروب" هو عنوان المرحلة المقبلة في المواجهة الإسرائيلية مع الوجود العسكري الإيراني في سورية، والمقصود عمليات عسكرية محدودة جراحيّة، تستهدف، بحسب مدير معهد دراسات الأمن القومي في إسرائيل، عاموس يادلين، "منع إيران من بناء قوة عسكرية متقدّمة لها في سورية ولبنان، وحتى العراق، بمنع تعاظمها العسكري، وضرب قدراتها الصاروخية المتقدّمة".
لكن التحدّي الذي تواجهه إسرائيل في تطبيق هذه الاستراتيجية الجديدة - القديمة في سورية مزودج: الخشية من أن تؤدّي هذه الاستراتيجية إلى تردّي علاقاتها مع الروس؛ والخوف من خروج الأمور عن السيطرة، وتدهورها إلى مواجهةٍ واسعةٍ مع الإيرانيين في سورية، وربما خارجها أيضاً. بالإضافة إلى أن هناك حرصا إسرائيليا على عدم التورّط في الصراع العسكري في سورية الذي تدّعي أنها وقفت منه موقف المتفرّج، واقتصر تدخّلها على تقديم مساعداتٍ إنسانيةٍ وطبيةٍ لمدنيين من سكان مناطق قريبة من حدودها، على الرغم من تقارير في الإعلام الأجنبي بشأن تسليح إسرائيل بعض التنظيمات المسلحة السورية المعارضة.
يعوّل الإسرائيليون في تطبيق هذه الاستراتيجية على أمرين: حاجة الأسد، في المرحلة المقبلة، إلى توطيد حكمه، الأمر الذي قد يمنعه من الانزلاق إلى مواجهةٍ مباشرةٍ مع إسرائيل، وتوقّعهم أن يواصل ممارسة سياسة الستاتيكو في الجولان التي كانت وراء السنوات الطويلة من الهدوء الذي ساد الحدود. وحاجة الروس إلى إنجاح مساعيهم في التوصّل إلى تسويةٍ سياسيةٍ بعيدة الأمد، لأن الانتصار في الحرب من دون تحقيق السلام سيجعل الإنجاز الروسي منقوصاً. وضمن هذا الإطار، يُطرح السؤال: هل المرحلة المقبلة من استراتيجية "معركة بين الحروب" يمكن أن تزيد من احتمال اندلاع مواجهةٍ جديدةٍ بين حزب الله وإسرائيل؟
على الرغم من التأكيد مرّاتٍ على عدم وجود نيّةٍ لدى أيٍّ من الطرفين التسبّب باندلاع حربٍ جديدةٍ، فإن ثمّة أجواء تصعيد إسرائيلي ضد إيران وحلفائها، واستعدادات حثيثة يجريها الجيش ضمن إطار "خطة جدعون"، المتعدّدة السنوات التي نشرها رئيس الأركان، غادي أيزنكوت، سنة 2015، ثم أعاد تحديثها هذا العام، وتركّز على دور القوات البرّية في أي مواجهةٍ عسكريةٍ مستقبلية، والتدريبات التي تُجريها هذه القوات لمحاكاة حربٍ جديدة ضد حزب الله، وذلك كله لا يبعث على الاطمئنان.
بعد الهدوء النسبي الذي ساد جبهة غزّة، يتوجّه الاهتمام الإسرائيلي اليوم إلى الجبهة الشمالية، وخصوصاً إلى انعكاسات معركة إدلب المحتملة وتطورات الوضع في سورية، وإلى الطريقة التي سيتعامل بها الروس، بعد انتصار الأسد النهائي، مع الوجود العسكري الإيراني. لقد سبق وأعلن رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، أن المرحلة المقبلة هي مواجهة النفوذ الإيراني في سورية والمنطقة.
وقد بدأ يتضح فيه أكثر فأكثر التناغم الإسرائيلي - الأميركي في الموقف من الوجود العسكري الإيراني في سورية، مع إعلان مسؤولين في إدارة الرئيس دونالد ترامب عن استراتيجيةٍ جديدةٍ أميركية في سورية، وتمديد وجود القوات الأميركية هناك، حتى تحقيق أهدافٍ جديدة، في طليعتها خروج القوات الإيرانية والمليشيات التابعة لها من سورية.
استراتيجية "معارك بين الحروب" طبّقتها إسرائيل ضد حزب الله منذ حرب يوليو/ تموز 2006، ونتائجها معروفة وملموسة. صحيحٌ أنه، منذ ذلك التاريخ، يسود هدوءٌ هشٌّ على الحدود مع لبنان، لكن هذه الاستراتيجية لم تنجح في لجم التعاظم العسكري للحزب، ولم تمنعه من تعزيز ترسانته الصاروخية. من هنا، يمكن القول إن الضجيج الإسرائيلي محاولة لجذب انتباه الروس والأميركيين إلى أهمية المحافظة على مصالح إسرائيل، في مرحلة ما بعد انتصار الأسد.
ما تزال سوريا في أوج العاصفة وفي نزيف حاد يتقطر منها الدماء من كل منحى جغرافيتها مقطعة مقسمة، مجتمعاتها مفتتة، بلى فيها الإنسان والحياة وطُمست الحضارة والعراقة وفُقد التراث وضاع التاريخ بين ركام بيوتها الذي بات غطاء أشلاء شعبها، كل شيء مُلطخاً بالدماء، حياة حمراء تجلى فيها الرعب والخوف وأنين الألم، اغتيلت الطفولة وتفشى الجهل وانحسر التعليم وماتت الأحلام وضاع المستقبل ومَنْ ذا الذي سيحمل على عاتقه رسم حاضر اليوم تاريخاً يُفتَخر به على مر السنين!
تموضعت في ذاكرتنا ساعة زوال الألم وانتهاء المأساة وعيش نشوة الانتصار التي باتت أشبه بالمستحيل، سبعة أعوام وسوريا في نفق مظلم بلا نهاية ويكثر في هذا النفق الجلادون والجزارون ولكلٍ له فرائسه تقضم من أجسادنا وتشرب من دمائنا ثم تندد وتستنكر ثم يمشي هؤلاء مشيعون في جنائزنا، حدودنا لم تكن سوى أبعد من حدود بلادنا في حين كان فخري البارودي يكتب والشعوب تردد ما كتبه.. بلاد العرب أوطاني، عذراً يا فخري فليس لدي سوى وطن أول وأخير وهو ذلك الكفن بهمة ونخوة من أغلقوا كل منافذ الفرار من الجحيم الذي يفعله الغزاة والمحتلون في بلادنا وأهلنا، في حين كانوا عاجزين عن إغاثتنا ودعمنا، ليجثو الجميع على ركبتيه ويرفع يديه إلى السماء ويصرخ يا رب مالنا سواك وكل الأبواب أُغلقت إلا بابك مفتوحاً لا يرد خائباً.. فرج كربتنا.
لقد خنقت سوريا خنقاً وحوصرت حصاراً وكان الأسد كفيلاً بأن يعيد تاريخ عائلته في الإجرام ويحوّلها إلى مسلخ بشري وسجن كبير وغرفة تعذيب حمقاء لا يمكن أن يُغادرها حيّ، فالتاريخ لا يمكن أن يُمحى وفي صفحاته تأرخت دكتاتورية آل الأسد وإجرامهم، مدينة حماة التي غرقت بالدماء والدمار سنة 1982 كانت كفيلة بأن تُظهر مدى إجرام هذه العائلة، مجزرة حماة أو مجزرة العصر كما يقال عنها كانت بكفالة بيت الأسد الذي لم يتوانى حينها حافظ الأسد بقتل عشرات الآلاف في غضون 27 يوما والتي كانت فترة المجزرة حينها، عندما قام بحملة عسكرية كبرى قامت بها المخابرات وجيش الأسد والمخابرات الجوية والتي منحها الأسد الأب حينها كامل الصلاحيات في توجيه الضربات للمعارضين حينها واجتثاثهم وقتل حتى المتعاطفين معهم، لقد كانت مجزرة مُرعبة ألقت تعتيماً إعلامياً ولكن! ما الفائدة من الإعلام إن كان الأسد الابن اليوم ارتكب وما زال يرتكب مجازراً أكثر عنفاً ودموية مما فعله أبوه في حماة وعلى مرآى العالم وكما يُقال وعلى عينك يا تاجر، حتى أثبت هذا العالم مدى تخاذله واستهانته بدماء الشعوب البريئة التي أيقظت ربيعاً عربياً في المنطقة ولكن نالت الشعوب أكثر مما تَوَقَّعتْه.
قبل فترة ليست بالبعيدة شاهدت عدة رسومات لفنان سوري يُدعى نجاح البقاعي والرسومات تُجسد حقيقة ما يحدث في داخل السجون والمعتقلات الأسدية والتي أُطلق على أكبر السجون فيها مسمى المسلخ البشري وهو سجن صيدنايا العسكري، ويحاول البقاعي من خلال هذه الرسوم أن يروي معاناة المعتقلين في سجون الأسد مع التعذيب وعكس واقع هذه السجون من الداخل وتوضح الرسومات أيضاً مدى الإجرام الذي فاق أي إجرام يحدث في أية سجون في العالم وحقيقة ما يحدث فيها من تعذيب للمعتقلين وإذلالهم وحتى إجبارهم على العمل الشاق.
إحدى الرسوم لم تغادر ذاكرتي لفظاعة الألم فيها والتي كانت عبارة عن رسم فكيف لو كانت بالحقيقة!، لم يكن الأسد شجاعاً بكل هذه الدرجة لو لم يكن يعلم يقيناً أنه لن يقف أحداً في وجهه ويردعه ويحاسبه على جرائمه، أتذكر أحد العناوين الذي قرأته في إحدى الصحف العربية ويقول ما كان يفعله حافظ بالخفاء يرتكبه بشار اليوم بالعلن، عنواناً في مضمونه آلاف الكلمات بل تستطيع أن تكتب كتاباً منه لفظاعة ما يفعله الأسد اليوم بدون رادع! أين المحاكم الدولية! ماذا فعل مجلس الأمن الذي حصّنه بـ 12 فيتو برعاية روسيا، ماذا تفعل الأمم المتحدة! هي متحدة ولكن على كل شيء ضد الشعوب التي تريد أن تمارس حقوقها الطبيعية في بلادها وهذا يُظهره جلياً أفعالها التي انعكست اتجاه الشعوب التي عانت وتعاني من القمع والاضطهاد والقتل على أرضها، هكذا حوّل الأسد سوريا بلد الياسمين إلى سجن كبير لا يمكن الخروج منه ويحاول تعذيب وتصفية كل من قال لا في وجه عنجهيته وغطرسته.
سجن صيدنايا العسكري سيء الصيت قرب العاصمة دمشق الذي بات يُعرف بالمسلخ البشري بعد تقرير أصدرته منظمة العفو الدولية تحت عنوان المسلخ البشري والذي كشف عن حملات نفذتها سلطات الأسد بحق المعتقلين وهي حملات إعدام خارج القانون بحق هؤلاء الذين لا يحملون أية تهمة سوى التظاهر أو التكلم وحتى البعض بلا أي تهمة، والذي كان لا يمر يوما فيه إلا ويتم اعدام فيه عدد من المعتقلين والذي أقام نظام الأسد بذات السجن محرقة لجثث المعتقلين بعد تصفيتهم وهذه الأدلة كشفت عنها الخارجية الأمريكية بحسب تقرير للجزيرة في 2017.
ولا يمكن أن ننسى الـ 13 ألف ضحية الذين قضوا في هذا السجن إعداماً وشنقاً خلال ما يقارب خمسة سنوات ثم تم دفنهم في مقابر جماعية، في حين يُلقي في ظلاله العالم على هذه الجريمة التي ارتكبها هتلر العصر بشار الأسد بالتنديد والاستنكار يستمر الأسد بالقتل بكل أنواعه ولا أذكر صراحة إن استخدموا فعلاً حينها هذه الخطوات الجدية التي أربكت الأسد ونظامه التي لا تتخطى التنديد ولا يمكن أن تصل حتى التحذير.. وأسفاه بِتنا مجرد أرقام تتناقص ولا كأن الذي يضمه التراب أجساد فارقتها الروح بعد عناء التعذيب والتنكيل بدون أي ذنب، جريمتهم وتهمتهم كانت المطالبة بالحرية والكرامة فقط.
ما ذكرته قد يكون لا شيء أمام ما يجري فعلياً ووصف بسيط للقليل مما يحصل والذي أعرفه أنا أو نحن أو ما تعرفه الصحافة وتنشره ولكن أثق تماماً أن هناك أفعال وأمور لا أحد يعلم بها وتجري في غياهب هذه المسالخ بشكل خاص وما يجري على الارض السورية عامة ولكن لا يوجد عدسة كاميرا توثقها، عدا النهج الذي يستخدمه المحتلون والطغاة ضد الشعب والذي بات روتيناً يومياً من القصف المدفعي والصاروخي من السماء والأرض والذي يستهدف المراكز الحيوية والمشافي والنقاط الطبية والمدارس، مما أدى إلى ازدياد المعاناة أكثر وتوليد حركة النزوح والتهجير إلى حدود البلاد المجاورة والتي كانت سد منيع في وجه أهلنا في كل وقت مما جعلهم دائماً تحت سماء تُمطر قذائف وصواريخ روسية أسدية تحاول إجبارهم على الخنوع والرجوع إلى زريبة الطاعة الأسدية التي لا تميز بين رجل أو امرأة أو طفل ليكون مصيرهم إلى غرفة التعذيب المظلمة ليعاني ويعاني حتى يُسجّى جسده بالتراب.
لم يحتَجْ الجيش السوري إلى إذنٍ من الولايات المتحدة قبل البدء بالمعارك التي خاضها، على مر السنوات السابقة، من أجل إعادة فرض سيطرته على المدن التي كانت تحت سيطرة المعارضة السورية المسلحة، أو حتى تنظيم داعش الإرهابي. لكن، هذه المرّة، مع معركة إدلب، المحتملة، ومع معركة درعا التي سبقتها، قبل أشهر، أطلَّ الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، ليُدلي بما يشبه الإذن لهذا الجيش من أجل البدء بعملياته العسكرية. كما تَبِعَ إطلالتَه صدور كلامٍ من مسؤولين أميركيين آخرين تندرج ضمن السياق ذاته. وكان اللافت، هذه الأيام، كلام ترامب عن أن الهجوم على إدلب يجب ألا يكون متهوّراً، ما يشبه التسليم بالهجوم المتوقع.
وكان ترامب قد قال، في تصريحه الذي حملته تغريدته على موقع تويتر، في 4 سبتمبر/ أيلول الجاري: "لا يجب على الرئيس السوري بشّار الأسد مهاجمة محافظة إدلب بتهور"، بمعنى ألا يستخدم في الهجوم الأسلحة المحرّمة دولياً، ما قد يُحرج الإدارة الأميركية. وهي مفارقةٌ، حيث إنه لم يصرِّح بما يدلّ على رفضه الهجوم، كما اعتاد أن يفعل. ولم يدلِ ترامب بهذا التصريح حين كان الجيش السوري يُعزِّز قواته على حدود المحافظة. وهي حشودٌ، يرى غير المختص، في ضخامتها وعديدها ملامح معركةٍ كبيرةٍ على وشك الوقوع، لكنه انتظر حتى بات الاستعداد تامّاً للبدء بالهجوم، فأطلق تصريحه ذاك، ربما ليوقف الشكوك لدى طرفي المعارضة والنظام، بشأن موقف إدارته منه، إذ يشكل غياب موقفٍ كهذا إرباكا لكليهما.
ولكن، ما الذي طرأ حتى يُطلق ترامب تصريحاتٍ على هذه الشاكلة؟ بل لماذا أتبعه رئيس هيئة الأركان المشتركة الأميركية بالتوصية بتنفيذ عملياتٍ محدّدة، وعلى نطاق ضيقٍ ضد المتشدّدين في إدلب، لأن عملية عسكرية كبيرة ستؤدي إلى كارثة إنسانية، حسب قوله؟ إلا أن الاستغراب يزداد مع التصريح الأكثر إثارة، على لسان مندوبة واشنطن في مجلس الأمن، نيكي هيلي، في مؤتمر صحافي عقدته في الأمم المتحدة في اليوم نفسه. إذ بعد التوطئة بالكلام عن الإرهاب في سورية، قالت إن بإمكان قوات النظام المضي للسيطرة على كامل الأراضي السورية، شريطة عدم استخدامها السلاح الكيماوي.
وتعيد هذه التصريحات إلى الذاكرة تصريحات الإدارة الأميركية، وترامب نفسه، بشأن معركة درعا والجنوب السوري، وطريقة تعاطيهم معها التي لا تشبه طريقة تعاطيه مع معركة إدلب المحتملة. فبالنسبة إلى معركة درعا، بدايةً، حذَّرت الخارجية الأميركية في بيان لها، في 14 يونيو/ حزيران الماضي، النظام من القيام بعملية عسكرية تخرق الاتفاق الثلاثي الروسي الأميركي الأردني، الخاص بوقف إطلاق النار في المنطقة الجنوبية، وتوعَّدت بعواقب وخيمة. لكن، فيما بعد، امتنعت الخارجية عن إضافة أي معلوماتٍ إلى بيانها ذاك، أو أي تفصيلٍ بشأن نوعية الرد. ثم بعد أيام، أعرب ترامب عن قلقه حيال العمليات في المنطقة، محذِّراً من الدور الإيراني في سورية. وتزامنت تلك التحذيرات مع حشود الجيش السوري، وتتالت حين كان هذا الجيش يُحكم سيطرته على المنطقة، ويُجري المصالحات المعتادة.
يرى كثيرون أن هذا النوع من التصريحات والتحذيرات ليس سوى تخلٍّ رسميٍّ عن المعارضة السورية المسلحة، وعن المعارضة السياسية معاً، وهو ما كان أعضاء بارزون في هذه المعارضة يستنتجونه، ويلفتون النظر إليه، بعد كل معركةٍ يربحها الجيش السوري. وتأتي تلك التصريحات المتضاربة بعدما ثبت إيقاف واشنطن دعمها العسكري لعدد من الفصائل السورية، بداية هذا السنة، خصوصاً في الجنوب السوري. وربما يكون كلام نيكي هيلي عن الإرهاب في سورية تعبيراً عن عدم قدرة واشنطن على تطويع فصائل سورية معارضة والتحكّم بها، كذلك بسبب حاجة حليفتها، إسرائيل، إلى نظامٍ قويٍّ ينهي حالة الفلتان في البلاد، ويبعد إيران عن المنطقة.
ترافقت حشود الجيش السوري على تخوم إدلب بمساعٍ روسيةٍ من أجل عقد "مصالحاتٍ" تُجَنِّب المدينة معركة كبيرة لا يعرف أحدٌ عواقبها أو ارتداداتها، خصوصاً مع تمركز فصائل سورية كثيرة قصدت إدلب وتمركزت فيها، بعد مصالحاتٍ جرت في مدن سوريةٍ كثيرة، حتى باتت هذه المدينة المعقل الأكثر كثافة بالمقاتلين والنازحين في سورية. كما إنها تعدّ المعقل الأخير للمعارضة السورية، والتي قال عنها قائد هيئة تحرير الشام، أبو محمد الجولاني، نهاية شهر أغسطس/ آب الماضي، إنها ستكون منطلقاً لـ "تحرير كامل سورية"، من دون معرفة القدرة الفعلية على تنفيذ أجندةٍ من هذا النوع. وإدلب التي إن تلقت ضرباتٍ من الجيش السوري فستكون الكثافة السكانية فيها سبباً في سقوط آلاف الضحايا، بل كان ترامب أكثر تشاؤما، حين تحدّث، في تغريدته تلك، عن عشرات الآلاف، فما بالك بهجوم واسع النطاق؟
طبعاً، ليست مسألة سقوط الضحايا في الحروب والمعارك، وخصوصاً معركة إدلب المحتملة، من أولويات ترامب، أو حتى مما يقلقه، ويبعد النوم عن عينيه. كما لا تقلقه عودة النظام السوري إلى فرض سيطرته على كامل أراضي البلاد. ما يقلقه هو تجذّر إيران في سورية التي تساعدها المعارك على تعزيز هذا التجذّر وتكريسه، وتشكيل وجودها في سورية تهديداً للكيان الإسرائيلي. لذلك من المحتمل أن تكون تغريدتُه بمثابة غضّ النظر عن معركة إدلب، إن لم تنجح القمة الثلاثية الروسية التركية الإيرانية في تجنيب المدينة إيّاها، وإدخالها في عملية المصالحات التي سبقتها إليها مدن ومناطق سورية أخرى.
الخامس من سبتمبر سنة ٦٣٥م كان يوما فارقا في تاريخ الإسلام وتاريخ الشام تحديدا، كان صاحبنا يتحرك في هذا اليوم دون تعب أو ملل في كل الاتجاهات يبحث عن ثغرة تمكنه من النصر وفتح درة الشام وتاجها، لم يكن ينام ولا يسمح لأحد بالنوم حتى يجد الثغرة ويبتكر الوسيلة ويحقق الغاية. ولأن النفوس العظيمة والهمم العالية تعرف طريقها جيدا، فقد تحقق له ما أراد بعون الله، ووجد الثغرة التي ينتظرها، والعجيب أن هذه الثغرة التي كانت السبب في النصر على الأعداء وقتها هي نفسها ثغرتنا التي نؤتى من قبلها اليوم من نفس العدو!
كان بطلنا خالد بن الوليد يحاصر دمشق من بابها الشرقي بعد أن استعصى على جيوش المسلمين فتحها فأضرموا الحصار حولها حتى يستسلم جيش الروم المرابط داخلها بقيادة توماس زوج ابنة الإمبراطور هرقل، والذي رفض الاستسلام للجيش الإسلامي معتمدا على تحصينات المدينة العالية والقوية والتي يصعب اختراقها ومنتظرا التعزيزات التي سيبعثها إليه إمبراطور الروم من حمص لتحاصر جيش المسلمين من الخلف ويقع الجيش الإسلامي في مصيدة الروم من الأمام برماة الرومان المتحصنين بالمدينة وأسوارها الشاهقة ومن الخلف بالجيش القادم من حمص.
وفهم سيدنا أبو عبيدة بن الجرّاح قائد الجيش الخطة التي يحيكها الروم فأمر بتحريك لواءات من الجيش لانتظار التعزيزات الرومية القادمة من حمص بعيدا عن دمشق وأسوارها، وفعلا وقعت معركة كبيرة بين الطرفين انتهت بانتصار المسلمين وتراجع الجيش الروماني أو من تبقى منه إلى حمص مرة أخرى. لكنّ دمشق لا تزال مستعصية على الفتح الإسلامي، ولا يزال قائدها تومس يناوش المسلين المحاصرين للمدينة بين الحين والآخر بالسهام والنبال ويخرج مع فرسانه مرة تلو الأخرى من أبواب دمشق ليشتبك مع الجيش الإسلامي وتقع معارك طويلة بينهما ينتصر فيها المسلمون ويعود الجيش الروماني أدراجه إلى داخل المدينة ويغلق أبوابها من جديد في وجه الجيش المسلم.
لكن خالد لا يهدئ ولا ينام وجعل عيونه ورجاله يستطلعون ما يحدث داخل المدينة يجمع منهم المعلومات ويحللها ويحدد بناءا عليها التوقيت المناسب للهجوم واختراق تحصينات المدينة، حتى جاءته المعلومة المنتظرة والثغرة التي يؤتي الجميع من قبلها "الغفلة واللهو" بلغه أن حامية دمشق مشغولة في حفل عند بطريرك المدينة الذي رزق بمولود جديد؛ فدعا الجميع إلى الاحتفال بتلك المناسبة، فأفرطوا في الشراب والسكر والعربدة وتخلى كثير منهم عن مواقعهم على الأسوار.
الإيمان المستعلي والحماسة المتقدة والتضحية بكل شيء في سبيل الله، هو وحده عربون النصر وحافظ بنيان هذه الأمة، فكم فينا من رجل لا ينام ولا ينيّم حتّى نعلي كلمة الحق والدين؟
وهنا اقتنص بطلنا الفرصة التي استعد لها من قبل فجهز السلالم والحبال وارتقى ورجاله إلى أعلى الأسوار في ظلمة الليل البهيم حتى نجحوا في الدخول الى المدينة بعد تسلق اسوارها وفتحوا باباها وارتفعت التكبيرات تشق سكون الليل وتبعث الحماسة في الجيش المسلم من جديد فينقض على المدينة ويشتبك مع حاميتها الغافلة اللاهية عن مهامها ويحقق النصر عليها وتفتح دمشق عروس الشام وتاجها في الخامس من سبتمبر سنة ٦٣٥م الموافق 16 من رجب 14 هـ.
دمشق التي يسكنها الآن جزّار سوريا بشّار الأسد وتعيث فيها ميليشيات الشيعة فسادا ومحوا لمعالمها الحضارية وتاريخها العريق ويتحول حاميها الى عبد ذليل لدى الرومان الجدد من الروس وغيرهم، هي خير شاهد على أن الثغرة التي فتحتها هي ذاتها الثغرة التي أسقطتها وجعلتها مرتع ومسكن للشيطان وأبالسة البشر.
دروس فتح دمشق لا تتوقف على هذه الثغرة التي أوتينا من قبلها، فسيدنا أبو عبيدة بن الجرّاح في بداية الفتح واجهته مقاومة شرسة من جيوش الروم قبل أن يصل إلى دمشق رغم أن السادة عكرمة بن أبي جهل ويزيد بن معاوية وعمرو بن العاص كانوا على رؤوس جيوشهم كذلك واختاروا أبو عبيدة أمير للجيوش الأربعة مجتمعة، ولمّا لم تكن القيادة والزعامة مطلب لذاتها فإن أبو عبيدة بعث في طلب خالد بن الوليد من العراق ليقود هو الجيوش ويحققون معه النصر.
وجاء خالد واستقر بجنوده على ضفة اليرموك نحو شهر ولم يتعرض لهم الرومان، لكن سيدنا أبوبكر رضي الله عنه انتقل إلى جوار ربه وجاء الفاروق عمر فكان أوّل ما أمر به هو عزل خالد وتعيين أبو عبيدة قائدا للجيوش مخافة أن يفتتن الناس بخالد بعد أن شاعت انتصاراته وبطولاته على ألسنة الناس. لكنّ أبو عبيدة حين جاءه خبر عزل خالد كتمه حتى لا يتسبب في ارتباك القيادة مع اقترابهم من معركة كبيرة وهي اليرموك والتي حقق فيها الجيش انتصارا عظيما على الروم، وحينما علم خالد بنبأ عزله لم يتأثّر أو يغضب فهو سيف الله المسلول وفارس من فرسان الحق لا يهمه أين موقعه مادام يعمل في سبيل رفع راية الإسلام ومادامت الشهادة لا المنصب غايته، واستمر الجيش بالتحرك مواجها الرومان في أكثر من موقعه حتّى وصلوا إلى ما بدئنا به قصتنا وهو حصار دمشق وفتحها على يد هذه الثلّة المؤمنة التي اختارت أن تعيش لدينها وأمّتها لا لنفسها وعالمها الخاص.
كانوا يحققون الانتصارات ويقوّضون الحصون بإيمان تشربت به قلوبهم، وتجرّد عمرت به أفئدتهم وقوة في الحق لا تلين ولا تستكين. إنّ هذه السمات هي أكثر ما نحتاجها اليوم لتحرير دمشق وسوريا وكل بلاد الإسلام من الرومان الجدد وأذنابهم، إنّ هذا الإيمان المستعلي والحماسة المتقدة والتضحية بكل شيء في سبيل الله، هو وحده عربون النصر وحافظ بنيان هذه الأمة، فكم فينا من رجل لا ينام ولا ينيّم حتّى نعلي كلمة الحق والدين؟
شارك الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أمس في القمة الثلاثية، التي اتجهت إليها أنظار العالم، وانعقدت في طهران بخصوص إدلب.
قبيل انعقاد القمة على مستوى الوفود، اجتمع أردوغان على انفراد بنظيريه الإيراني حسن روحاني أولًا، ثم الروسي فلاديمير بوتين.
يبدو من التصريحات الصادرة عقب القمة أن روسيا وإيران مستمرتان في تحفظاتهما "المعروفة" بخصوص النظام السوري.
موقف كلا البلدين بشأن إدلب يتمحور بشكل عام حول توسيع مجال نفوذهما في مواجهة الولايات المتحدة بسوريا.
أما موقف الجانب التركي على طاولة المباحثات فهو يولي الأهمية إلى "الوضع الإنساني" في المدينة التي يقطنها أكثر من 3 ملايين نسمة.
كما أن تركيا، التي تحملت عبء إقامة 12 نقطة مراقبة في إدلب، أظهرت أنها لن تتهرب من أي مسؤولية في سبيل تحقيق السلام الداخلي في سوريا.
***
من الملاحظ بوضوح أن عزم أردوغان في مسألة إدلب خفف جزئيًّا من لهجة تصريحات بوتين وروحاني.
فالزعيمان، وعلى الأخص روحاني، أشارا إلى "حق المدنيين بإدلب في الحياة"، خلال تأكيدهما على التفاوض مع الأسد.
لكن نعلم جميعًا أن التصريحات الرسمية لا تتطابق في معظم الأحيان مع ما يحدث في الميدان. وأعتقد أن قصف روسيا لإدلب قبل القمة كان أوضح مثال على ذلك.
علاوة على ذلك، فإن أخطارًا قريبة من قبيل أحداث إدلب وموجة النزوح الجديدة المحتملة لا تتعلق فقط بموقف البلدان الثلاثة المشاركة في قمة طهران.
ففي سوريا، وعلى الأخص شرقي الفرات، تقف أنشطة الولايات المتحدة، الداعمة علنًا لإرهابيي وحدات حماية الشعب، حجر عثرة أمام حل المشكلة.
وكان جديرًا بالملاحظة في قمة أمس الموقف المتفهم جزئيًّا لإيران إزاء مسألة أمن تركيا، والتحول الديمقراطي في سوريا.
***
أظهرت القمة الثلاثية في طهران مرة أخرى للعالم بأسره أن تركيا تلعب دورًا محوريًّا في مسألة مستقبل سوريا.
وما يقع على عاتق العالم المعاصر من الآن فصاعدًا هو دعم تركيا، التي تمثل القيم الإنسانية المشتركة في المنطقة، من أجل زيادة فعاليتها في سوريا كعنصر توازنن وإلا فإن أكبر تحرك ديموغرافي شهده التاريخ سوف يتزايد على نحو خطير، ويؤثر على أوروبا بأسرها، وبشكل غير مباشر على الولايات المتحدة..
ولن يكون من المفاجئ أن تلجأ تركيا، التي استنفذت قدرتها على استيعاب المهاجرين تمامًا، إلى "بدائل" في مواجهة هذا التحرك.
كان من اللافت للنظر في مظاهرات الشمال السوري الأخيرة، التي نظمت في مواجهة احتمال الحرب على إدلب، أن خص المتظاهرون المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا ببعض هتافاتهم، كما خصوه ببعض اللافتات، التي رفعوها، وفي الحالتين اعترضوا على سياساته، كما انتقدوا تصريحاته، لا سيما تصريحه بإمكانية حضوره إلى إدلب لتأمين ما سماه «الممر الإنساني» لإخراج سكان إدلب البالغ عددهم قرابة أربعة ملايين نسمة إلى «منطقة آمنة» قبل اندلاع الحرب التي ينوي نظام الأسد بدعم روسي - إيراني شنها، متجاهلاً ما يقوم به النظام من إرهاب في تعامله مع سكان المناطق الخارجة عن سيطرته من قتل واعتقال، واعتبر بعض المشاركين في مظاهرات إدلب، أن تصريح دي ميستورا، مشاركة غير معلنة في الحرب المحتملة على إدلب، والعمل على إفراغ المنطقة من سكانها، وتشجيع النظام وحلفائه على المضي في حربهم هناك.
وللحق فإن موقف المتظاهرين من المبعوث الدولي في إدلب، لا يمثل سابقة في موقف السوريين منه، إنما هو موقف تكرر كثيراً في السنوات الأربع الماضية، التي أمضاها دي ميستورا حتى الآن في موقعه مبعوثاً للأمم المتحدة في سوريا، بل إن فعاليات سورية سياسية ومدنية وكتاباً سوريين، طالبوا مرات بإقالته، وتعيين بديل له بسبب ما يعتبرونه «خروجاً» عن مهمته كوسيط دولي، وانحيازه إلى جانب نظام الأسد وحلفائه الروس والإيرانيين في الصراع السوري.
وبطبيعة الحال، فإن عمومية موقف السوريين من دي ميستورا، تستند إلى تفاصيل في مسار الرجل وتعامله مع القضية السورية، لا سيما في الملفات الرئيسية فيها. وإذا كانت العملية السياسية، هي الأهم في الملفات، فإن دي ميستورا، لم يحقق أي تقدم فيها منذ توليه مهمته في يوليو (تموز) 2014، بل ساهم في تراجع الإجماع الدولي على مسار جنيف وأساسه بيان جنيف لعام 2012 وما لحقه من قرارات دولية. وتجاوز ما سبق إلى طرح مبادرات غير ذات جدوى، كما في مبادرته حول الهدنة في حلب عام 2014، التي أدت إلى ارتباكات في صفوف المعارضة، وزاد عليها لاحقاً تحوله إلى مسايرة النظام ومحاباة الموقف الروسي بعد تدخل موسكو العسكري في سوريا أواخر عام 2015، ودعمه سياسة روسيا، سواء في مسار آستانة أو في مؤتمر سوتشي اللذين يعكسان مساراً مختلفاً عن مسار جنيف، وقد تبنى في واحدة من خطواته المطلب الروسي في موضوع دستور سوري جديد، مما يقزم القضية السورية بعد ثماني سنوات من حرب كلفت السوريين مليون قتيل وملايين الجرحى والمصابين، وأكثر من ستة ملايين لاجئ موزعين في العالم.
ويأخذ السوريون على دي ميستورا وفريقه إهماله لقضية المعتقلين والمختفين قسراً في سجون النظام، وقد قتل منهم أكثر من عشرين ألفاً تحت التعذيب، وامتناعه عن إدانة استخدام نظام الأسد للسلاح الكيماوي ضد المدنيين لأكثر من مائتي مرة، حسب ما أوردته تقارير سورية، وأثبتت كثيراً منها تقارير دولية موثقة، وكله يضاف إلى مشاركة فريق دي ميستورا بمفاوضات تحت القوة والحصار، أدت إلى ترحيل قسري لمدنيين سوريين من أماكن سكناهم، كما حدث في مفاوضات تبادل سكان الزبداني وكفريا والفوعة عام 2015 بما تعنيه من تغيير ديموغرافي، يصفه القانون الدولي بـ«الجريمة».
وثمة نقطة أخرى تتعلق بموقف دي ميستورا من المعارضة السورية، وهي الطرف الموازي للنظام في المفاوضات حول الحل السوري، وتركز جهد المبعوث الدولي في هذه النقطة على إضعاف دور المعارضة، ليس فقط عبر إضعاف دور كيانها الرئيسي ممثلاً بالائتلاف السوري الحائز اعترافاً دولياً واسعاً، بل في السعي إلى خلق أطر أخرى من قوى مصطنعة، كما حال منصة موسكو، التي صنعتها روسيا، وأخرى موالية لنظام الأسد، وقد تجاوز الأمر ذلك للسعي نحو توليد كيانات تمثل المجتمع المدني لإشراكها في مفاوضات مع النظام، كان من الواضح أنها لن تُعقَد، الأمر الذي كان يعني تشتيت المعارضة واستنزافها في موضوعات غير ذات جدوى ولا فائدة منها.
ويتبادل السوريون معلومات حول فريق دي ميستورا المعاون من العرب والأجانب وثيقي الصلة والارتباط المباشر وغير المباشر بنظام الأسد وحلفائه الروس، ويقارنون بين سياسة الرجل، التي يصفونها بأنها «إدارة للأزمة»، وسياسة سابقيه من مبعوثي الأمم المتحدة إلى سوريا كوفي أنان والأخضر الإبراهيمي على التوالي، وكان همهما معالجة القضية السورية، وعندما عجزا، بادرا إلى إنهاء مهمتهما، فيما يصر دي ميستورا على الاستمرار في مهمته، رغم مطالبات سورية له بالاستقالة، وللأمين العام بإقالته، وهذا ما تضمنه بيان أصدرته مجموعة من منظمات المجتمع المدني في سوريا، وطالب به الكثير من الكتاب والسياسيين السوريين، بعد تصريحات دي ميستورا الأخيرة حول الحرب المحتملة على إدلب.
ويستعيد السوريون في هذه الأيام، تصريح الأمين العام للأمم المتحدة السابق بان كي مون عشية تعيين ستيفان دي ميستورا لمهمة المبعوث الخاص وقوله إن «المبعوث الخاص سيوظف نواياه الحسنة من أجل وضع نهاية للعنف وانتهاكات حقوق الإنسان في سوريا والدفع باتجاه التوصل إلى حل سلمي للأزمة السورية»، ويؤكدون أن مسيرة الرجل في سنواته الأربع السابقة، لم تتطابق مع ما كلف لإنجازه.
من المؤكد أن السياسة الأمريكية تتعامل مع روسيا في سوريا على أسس استراتيجية، ومنها أن روسيا عدو استراتيجي أولاً، والعلاقة بين الأعداء هي إلحاق الهزيمة بالعدو في الفرصة السانحة لذلك، ولو أدت إلى الحرب بينهما، ولكن التجربة تقول، من أيام الحرب الباردة، إن هزيمة الاتحاد السوفييتي تمت خارج الأراضي الروسية، وان ذلك تم باستغلال أخطاء الاتحاد السوفييتي باحتلال أفغانستان، فكانت هزيمته في أهم ميادينها في استنزاف الهيبة السوفيتية الروسية في حرب أفغانستان في نحو ثماني سنوات، حتى اضطرت القيادة الروسية إعلان الانسحاب من أفغانستان.
وكما استغلت أمريكا ودول الغرب هزيمة الاتحاد السوفييتي خارج أراضيه، فقد استثمرت أعداء الاتحاد السوفييتي المعادي للأديان بمحاربته بأيد مؤمنة، وأسلحة أمريكية تعتمد على النوعية والتطور العلمي، فعجز الاتحاد السوفييتي عن الانتصار عليها، وكان في استنزافه لثماني سنوات في أفغانستان ضمانة لهزيمته في النهاية.
هذه الاستراتيجية الأمريكية عادت روسيا لتقع فيها مرة ثانية في سوريا، فقد بقي وزير الخارجية الأمريكية الأسبق جون كيري سنوات وهو يحث روسيا على التدخل العسكري في سوري للهدف نفسه، وهو استنزاف روسيا الاتحادية وهزيمتها في سوريا، وربما استخدمت أمريكا ضغوطها على القيادة الإيرانية في مباحثات النووي قبل توقيعه في يوليو/تموز 2015 لإغراء الروس بالتدخل العسكري في سوريا، بحجة أنه لن يطول تدخلها العسكري الجوي أكثر من ثلاثة أشهر، ثم يتولى الجيش الإيراني الرسمي، وليس المليشيات الايرانية فقط بالسيطرة على الأرض وإنهاء الثورة، وبالأخص ان إيران كانت في تلك اللحظة قد فشلت بكل إمكانياتها وميليشياتها في تصفية الثورة السورية قبل بدء التدخل الروسي، وكانت ايران بحاجة لمن يخرجها من هذا المأزق في سوريا أيضاً، فالتقت المصلحة الأمريكية والإيرانية على توريط روسيا بوتين في سوريا، ولكن بدون تمكين بوتين من النجاح في تحقيق أهدافه، وهذا ما حصل حتى الآن، فبعد ثلاث سنوات كاملة وليس ثلاثة أشهر تجد روسيا نفسها غارقة في أزمة سوريا، وانها لا تستطيع الانسحاب في هذا الوضع السيئ، وأنها عاجزة عن إيجاد حل سياسي، مهما انتقمت وقتلت ودمرت فيها.
وروسيا لم تأت لكي تدخل في حرب لا نهاية لها، ولذلك تمارس اليوم كل انواع ضغوطها وجنونها وجرائمها ومجازرها لإنهاء مشاهد الثورة السورية، وادعاء نهايتها وانتصارها وتحقيق أهدافها فيها، وإلا فإنها سوف تنهزم داخل روسيا وأمام شعبها أولاً، وداخل سوريا وأمام العرب والمسلمين ثانياً، وأمام أمريكا والغرب والعالم ثالثاً، وهذا ما يرهق التفكير الروسي اليوم، ويجعله في حالة اضطراب حتى لو دمر سوريا كاملة، إن استطاع ذلك، وهو يعلم أن لكل إجرام ثمنا، ولكن ما الحيلة وهو في أزمة أكبر من أزمته في أفغانستان في ثمانينيات القرن الماضي.
أمريكا هي من خطط سياسيا وعسكريا لذلك، وقد استطاعت أن تجعل روسيا بوتين العدو الأول للعالم الإسلامي، بعد أن تربعت امريكا على هذا المقعد بعد حروبها في أفغانستان 2001 واحتلال العراق 2003، فأمريكا نجحت أولاً في وضع دولة روسيا الاتحادية على رأس قائمة الدول الكبرى التي تمارس القتل الجماعي وترتكب المجازر، ومع ذلك لا تزال أمريكا تشجع روسيا بوتين على اقتحام إدلب، والكرملين يقع في أخطائه التاريخية ضد المسلمين بتصوير الغرب أمام الشعب الروسي بانه يعرقل جهوده للقضاء على الارهاب في سوريا، فالكرملين ليس أمامه خيار آخر، إما أن يتورط بدماء المسلمين أكثر في سوريا أو يعلن هزيمته، ومحاولته في الاعتماد على إيران وتركيا في تخفيف هزيمته وإخراجها بصورة انتصار لن تنجح، بل دعوته لمؤتمر قمة رباعي تجمعه مع القيادة التركية والفرنسية والألمانية في اسطنبول لن تنجح أيضاً، فأمريكا لم تدعه إلى سوريا حتى يخرج بطلاً عالمياً، او حتى تصبح روسيا بوتين هي الدولة الأولى في العالم، وإنما دعته ليدخل المصيدة التي لا تسمح له بالخروج منها إلا مستسلما، ولكن ذلك لن يتحقق حتى يقوم بوتين بتحقيق أكبر وأكثر أهداف أمريكا وإسرائيل في سوريا، وهي تدمير الثورة السورية وتشتيتها أولاً، وتدمير مقومات الدولة السورية ثانياً، بدليل أن ترامب يهدد بالتعبير عن غضبه إذا قامت روسيا بارتكاب مجازر في إدلب، فهو يعرب عن غضبه لا أكثر، وهذه دعوة صريحة لبوتين كي يُغضب ترامب، فترامب لا يهدد روسيا بشيء غير الغضب لو قتلت عشرات الألوف من السوريين في إدلب، بشرط عدم استعمال السلاح الكيماوي، وقد قتلت روسيا عشرات الآلاف في سوريا ولم تغضب أمريكا منها من قبل، ولكن الاستراتيجية الأمريكية في سوريا هي عدم إنهاء الأزمة فيها لسنوات مقبلة وعقود أيضاً، وبناء أمريكا لأكثر من عشرين قاعدة عسكرية كبرى في شمال شرق سوريا شرق الفرات دليل على ذلك، فحتى لو تمكنت روسيا من إنهاء معركة إدلب لصالحها فلن تستطيع روسيا ادعاء نهاية الصراع في سوريا، والقواعد العسكرية الأمريكية تحتل أكثر من ثلث سوريا، وهي أغنى الأراضي السورية نفطاً وزراعة واقتصاداً.
لقد استطاعت أمريكا إيجاد مبررات تواجدها العسكري الكبير في سوريا، باستغلال التواجد الروسي فيها، وباستغلال ذريعة الحرب على الإرهاب باسم التحالف الدولي الستيني، وباستغلال ادعاء دعمها لحقوق الأكراد، وهي تدعم أحزاباً كردية إرهابية ولا تدعم الشعب الكردي، وهذه الأحزاب تقدم خدمات لوجستية لها على الأرض، مثل حراسة قواعدها العسكرية والانتشار العسكري في المدن السورية ومنع دخولها من ميليشيات أخرى، سواء من «داعش» او من ميليشيات ايران أو ميليشيات بشار أو غيرها، فمنطقة شمال شرق سوريا هي مناطق نفوذ أمريكي، لن تجرؤ روسيا التحرك فيها إطلاقاً، وهذا حجر عثرة أمام الحل الروسي، وحتى لا تفكر روسيا بهذه المنطقة، فإن أمريكا سوف تجعل من إدلب معركة مفتوحة لا نهاية لها، بل إن الأرجح أن تستغل أمريكا حرب روسيا على إدلب لإدخال روسيا في حرب استنزاف حقيقية وخطيرة، فروسيا تعول على الجنود والمليشيات الإيرانية أن تقوم باقتحام إدلب بينما الجيش الروسي سوف يستعمل مقاتلاته الحربية من الجو، وسيجنب جنوده الدخول في حرب عصابات أو ضد مقاومة شعبية.
فإذا وفرت أمريكا بطريقة ما أسلحة نوعية للمقاتلين في إدلب يتمكنون من خلالها إسقاط الطائرات الروسية وغيرها، فإن روسيا سوف تستخدم سفنها الحربية التي أتت بها إلى السواحل السورية لقصف إدلب من البحر، وفي كل الحالات لن تستطيع روسيا أن تحتل إدلب إلا وهي مدمرة، وهذا لا ينفي دخولها في حرب مرهقة مع المقاتلين السوريين داخل إدلب وخارجها، أي أن أمريكا قد لا تسمح لروسيا بالانتصار في إدلب، وبالأخص ان لدى امريكا أراضي واسعة لإمداد المقاتلين في إدلب، ولا يضير أمريكا أن تستمر المعارك في إدلب لسنوات مقبلة، فهذا يرهق روسيا وسوريا فقط، فالأمر في ادلب بخلاف القتال في منطقة جنوب سوريا ودرعا، حيث تخلت أمريكا عن دعمها لهم، لأن ذلك سوف يشعل الجبهة الجنوبية المحاذية لإسرائيل، وهو ما لم توافق عليه الدولة الإسرائيلية، وقد يضيف متاعب للدولة الاردنية، وأمريكا تفضل عدم ارهاقها فيه أولاً، مع عدم وجود رغبة أردنية لتبني معارك كهذه على حدودها أيضاً، وهي في النهاية ستؤثر على الأمن الاسرائيلي، وهو ما لا تراهن عليه أمريكا ولا الحكومة الاسرائيلية.
لا شك بأن في ضرب روسيا لإدلب تحقيقا لبعض الأهداف الأمريكية والإسرائيلية، فكل إضعاف لمقومات الشعب السوري هو مكسب للمشروع الغربي والصهيوني العالمي والاقليمي، ولكن انتصار روسيا في إدلب سيعني تقوية الدور الروسي والايراني وحزب الله اللبناني في سوريا والمنطقة، وهذا خلاف منطق الأمن الاسرائيلي، بينما سيكون لإنكسار روسيا في إدلب، أو ابتزازها في حرب طويلة الأمد، أو بمواجهتها بمقاومة شعبية قوية حتى بعد تدمير إدلب أو القسم الأكبر منها، فإن ذلك سوف يرهق روسيا في سوريا اكثر من ذي قبل، وامريكا تعول كثيراً على إغراق روسيا في سوريا أكثر، بل إن أمريكا اعلنت منذ أيام أن روسيا غارقة في سوريا، وهو ما اعترض عليه متحدث باسم الكرملين، رافضاً هذا الادعاء الأمريكي، فروسيا تخفي انزعاجها من غرقها في سوريا، ولكن امريكا على يقين بأن روسيا غارقة في سوريا، وتسعى لإغراقها أكثر حتى تطلب حبل النجاة من أمريكا وليس من إيران ولا من تركيا ولا من فرنسا ولا من ألمانيا، فالسيناريو الأرجح لمعركة إدلب ان تستخدمها أمريكا لإغراق روسيا في سوريا أكثر، وعدم تمكينها من تحقيق النصر فيها، وإن كلف ذلك أمريكا تبنيها الدعم المباشر للفصائل المقاتلة، كما حصل في أفغانستان، فالأزمة السورية في الرؤية والاستراتيجية الأمريكية عنوانها هزيمة روسيا بوتين تحديدا، مع السماح لروسيا بتدمير سوريا وقتل شعبها خدمة للمشروع الصهيوني.
حسب الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، سيشهد عامنا الحالي نهاية الجانب العسكري من الصراع في سورية، وانتفاء الحاجة إلى ما اختلقته الدبلوماسية الروسية بموافقة (أو تغاضي) واشنطن من مسارات بديلة لمسار جنيف، مثل أستانة وسوتشي، وتركيز المجتمع الدولي على تطبيق قرار مجلس الأمن 2254، باعتباره مرجعية لحل سياسي، يتم بمشاركة واشنطن.
وبما أن نص اتفاقيات خفض التصعيد اعتبرها جزءا من هذا الحل الدولي، وقرّر إبقاء مناطقه خارج سيطرة الأسدية إلى أن تبدأ مفاوضات السلام، فإن بقاء منطقة الخفض في الشمال السوري تحت إشراف إدارة حرّة منتخبة من سكانها، وفتح الطرق الدولية الموجودة بإشراف روسي/ تركي، انطلاقا من مواقع محدّدة كمدينة جسر الشغور، يعني موافقة روسيا على عدم عودة مليشيا النظام إلى كل شبر من الأرض السورية، وانتفاء حقها في مهاجمة المناطق المشمولة بالاتفاقيات، لإرضاء الأسد ووليد المعلم الذي أعلن، من موسكو، وصول نظامه إلى المرحلة الأخيرة من تحرير الأرض السورية. وللعلم، لا يقصد المعلم أرض هضبة الجولان السورية المحتلة التي سلمها االأسد الأب لاسرائيل قبل واحد وخمسين عاما، ولم تطلق رصاصة واحدة منها ضد إسرائيل منذ عام 1947، كما قال نتنياهو، في معرض ترحيبه بعودة مليشيا الأسد إلى حدوده، كما لا يقصد ما تحتله روسيا وإيران أو واشنطن من أرض سورية، وإنما تحرير الشمال من فصائل دافع معظمها عن السوريين ضد الإجرام الأسدي.
وكانت روسيا قد مرّرت مسار أستانة بالشراكة مع إيران وتركيا وموافقة ضمنية أميركية، على أن يهتم بالقضايا العسكرية وحدها، وحين تحدّث أحد مسؤوليها عن تحويله إلى مسار سياسي، قاطعته واشنطن، وكرّرت مواقفها من ضرورة احترام مناطق خفض التصعيد خارج النظام، والسماح لها بالاحتفاظ بقدراتها العسكرية وإدارة نفسها بنفسها، حسب نص الاتفاقيات. لكن روسيا التي تعهدت بالمحافظة علي المناطق، ما لبثت أن انقضّت عليها في الغوطة وريف حمص الشمالي ودمشق الجنوبي وسلمتها للأسد، في مخالفةٍ صريحةٍ لتعهدها، ثم تفاهمت مع إسرائيل على دخول مليشيا الأسد إلى حوران، وسط تحذيرات أميركية، سرعان ما تخلت واشنطن عنها بطلبٍ من تل أبيب، ومقابل تعهد روسي بإبعاد إيران مسافة تقارب المائة كيلومتر عن حدود فلسطين، وفتح بازار الوجود العسكري الإيراني في سورية، وموافقة موسكو غير المشروطة على فتح إسرائيل النار عليه، لتقويض ما هو موجود منه فيها.
باختتام الجزء الرئيس من الصراع العسكري، يفترض أنه لن يبقى لمداولات أستانة ما تبحثه، وإن تواصلت اللقاءات الروسية التركية الإيرانية بعض الوقت، بطلب من روسيا التي ربما كان في خططها الاستقواء بالدولتين خلال فترة صراعات الحل المقبلة وتجاذباتها، وخصوصا إذا ما تمسّك البيت الأبيض بما حدّده وزير دفاعه الجنرال ماتيس من أهداف تتصل بتطبيق القرار 2254، أهمها إقامة وضع انتقالي محايد لا يقوده الأسد، سيكون تحقيقه نقيض الحل الذي يكرّس سيطرة موسكو على سورية، من خلال الإبقاء على نظامها الحالي الذي غزا جيشها سورية قبل ثلاثة أعوام لإنقاذه، بينما أعلن بشار الأسد، في المقابل، قبوله استمرار الاحتلال البوتيني الأراضي السورية إلى فترة غير محدّدة!
بتطبيق القرار 2254، لن يبقى هناك من مبرّر لالتفاف روسيا على القرارات الدولية عوض تطبيقها، وسترى موسكو أن حلّها العسكري سيضعها أمام تعقيداتٍ لن يكون في وسعها تخطّيها بمفردها، كإعادة إعمار ما دمرته، وعودة من هجرتهم إلى ديارهم، والتمسّك بالأسدية، وفرض نفسها قوة احتلال يرفضها السوريون. عندئذ، ستدرك موسكو مرغمةً أن ما حققته بالحرب كان الجزء السهل من "مهمتها" السورية، وأن تحدّيات السلام هي العقبة الحقيقية التي ستحول بينها وبين جني ثمار عدوانها الأحمق على سورية وشعبها!
لم يُكتب مصير إدلب يوم 7 سبتمبر 2018 مع انعقاد القمة الروسية- الإيرانية- التركية في طهران وجلسة مجلس الأمن الدولي لمتابعة الوضع في هذا الجزء من الشمال السوري، بل إن تطور مسار الحروب السورية منذ التدخل الروسي قبل ثلاثة أعوام، وميزان القوى الدولي والإقليمي، كانا يقودان نحو نتيجة لمصلحة المعسكر الداعم للنظام. لكن معركة إدلب لن تكون الأخيرة في حقبة تصفية الحروب السورية بل إن مصير المناطق التي تتواجد فيها قوات أميركية في شمال وشرق الفرات سيكون محور تجاذبات حساسة وأبرزها اختبار قوة بين موسكو وواشنطن.
ولذا فإن الفصل الجديد الذي سيدور في إدلب وجوارها يندرج في سياق رقصة الموت المتنقلة على الركام السوري منذ 2011، وسيزيد من انطباع المنظومة الحاكمة بتحقيق النصر الحاسم واستمرار بقائها إلى الأبد، لكن الانتصار في معركة السلام هو مسألة أخرى. أما مستقبل سوريا فيبقى مرهوناً بمسار إعادة تركيب الإقليم وعدم انتهاء الوظيفة الجيوسياسية للحروب السورية.
قبل قمة طهران وجلسة نيويورك، كانت كل الدلائل تشير إلى بدء العد العكسي لهجوم في جنوب وغرب إدلب، أو لترتيب روسي- تركي توافق عليه إيران، خاصة بعد إعلان أنقرة إدراج هيئة تحرير الشام على لائحة المنظمات الإرهابية.
ومع النجاحات في حسم معارك الغوطة والجنوب خلال هذا العام، بدأت روسيا في الاستعداد لما تعتبره المنازلة الأخيرة ضد آخر معاقل القوات المناهضة لبشار الأسد، ولهذه الغاية أمر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بتجميع أكبر حشود جوية وبحرية قتالية تنشرها روسيا من أجل عملية واحدة منذ الحرب العالمية الثانية، ويشكل ذلك رسالة لواشنطن وقفزة في مسعى فرض “الانتداب الروسي” وتحقيق إنجاز سياسي يترجم الإنجازات العسكرية. ومن جهة أخرى، أفادت مصادر سورية عن إرسال إيران، هذا الأسبوع، مجموعات إضافية من الحرس الثوري ومن الباسيج للمشاركة في معارك شمال غربي سوريا، وربما يمثل ذلك تطبيقاً لاتفاقية التعاون العسكري الإضافية التي وقعها وزير الدفاع الإيراني أمير خاتمي إلى دمشق في الأسبوع الماضي.
وهكذا تتماشى موسكو وطهران مع التزامهما السياسي والعسكري إلى جانب نظام الأسد لاستكمال الحسم العسكري. أما تركيا التي تعتبر أن أمنها القومي سيكون على المحك في حديقتها الخلفية في الشمال السوري فتوجد في الخط الأمامي، وتحاول معارضة هجوم واسع النطاق قرب حدودها ولكنها تحتفظ بموقف غامض، لا سيما في تعاملها مع الجماعات المتطرفة، وتبرر ذلك بسبب أولوية قتالها ضد الأكراد السوريين في حزب الاتحاد الديمقراطي (المرتبط بحزب العمال الكردستاني).
في مواجهة هذا الاستحقاق، تسعى أنقرة للاستفادة من اهتمام موسكو بزعزعة التزامها الأطلسي، ورغبة واشنطن في عدم خسارتها بالرغم من علاقاتها المتوترة مع أنقرة التي أثرت على الاقتصاد التركي. وكان من اللافت أن تصاعد الضغوط حول إدلب في الأيام الأخيرة أتاح استئناف الاتصالات الثنائية وقام الممثل الأميركي الخاص لسوريا جيمس جيفري بزيارة إلى أنقرة يوم الثلاثاء وأجرى محادثات مع وزير الدفاع التركي. ومن هنا يمكن لتركيا أن تراهن على تعزيز موقفها في قمة طهران في مواجهة الروس والإيرانيين لجهة اهتمام ترامب المفاجئ بالملف السوري وتغريداته التحذيرية حيال “مأساة في إدلب”، ودعوة واشنطن إلى عقد اجتماع خاص لمجلس الأمن الدولي في نفس يوم انعقاد قمة طهران. لكن لا يظهر أن موسكو سيلين تصميمها ويبدو كأنها لا تأبه بالتصريحات المشتركة أو المنفصلة لواشنطن وباريس ولندن، وتكرار توخي التدخل فقط في حالة استخدام الأسلحة الكيميائية من قبل النظام السوري في الهجوم. وفي هذا السياق اعتبر الكثير من المعارضين السوريين أن التحذيرات الأخيرة تشبه نوعاً من ضوء أخضر لهجوم بالأسلحة التقليدية، وتأكيدا لتخل أميركي وغربي منذ معركة حلب أواخر 2016.
عشية اجتماعي طهران ونيويورك تسرب توصل الروس والأتراك إلى اتفاق على خمس نقاط:
– تولّي تركيا حل هيئة تحرير الشام ومنحها الوقت الكافي لإتمام ذلك.
– إنشاء نقاط عسكرية روسية في المناطق التي تتواجد فيها النقاط التركية ودخول النظام لها إداريا وليس عسكريا.
– تعهد تركيا بعدم استهداف القوى المعارضة الموجودة في المناطق التي تسيطر عليها باستهداف مناطق النظام أو قاعدة حميميم والقوات الروسية.
– فتح الطرقات الدولية بضمانات الدول الثلاث حيث تقوم كل دولة بتأمين الطريق في مناطق سيطرتها.
– إرساء تعاون استخباري تركي مع روسيا وإيران ضد القوى الإرهابية.
بغض النظر عن مجمل المناورات الدبلوماسية للأطراف المنخرطة، لا يبدو أن العامل الإنساني في الحسبان لأن محافظة إدلب التي كانت تضم أقل من 900 ألف نسمة قبل 2011، يسكنها اليوم أكثر من ثلاثة ملايين نسمة بعد تدفق النازحين من كل سوريا إليها، وكذلك المقاتلين من حلب والغوطة والرقة والقنيطرة والقلمون ودرعا وغيرها. والمريع اليوم في حال إتمام الهجوم لن تكون هناك إدلب أخرى بعدما أراد البعض جعل إدلب الحالية “تورا بورا جهادية” لإتمام مخطط التدمير المنهجي والتغيير الديموغرافي. لن يكون هناك من مكان آمن للبؤساء والهاربين من الجحيم لأن تركيا بنت جداراً محصناً تحميه جندرمتها، ولأن ما تبشر به الأمم المتحدة من نزوح ممكن لـ800 ألف شخص لا يبدو أنه يحرك ما تبقى من ضمير عالمي إزاء قتل الإنسانية ونفيها في سوريا.
هكذا يمكن للترتيبات بين أطراف اتفاقيات أستانا وسوتشي تقرير مصير الفصائل المقاتلة. وفي هذا الإطار يقول مصدر سوري إن تأخر أنقرة في معالجة وضع جبهة النصرة كان يعود إلى رغبتها في استخدامها شرق الفرات ضد الأكراد وربما الأميركيين. ومن المعيب أن يتنبه البعض في العالم إلى أن بعض أنحاء إدلب تؤوي أهم مراكز تنظيم القاعدة، وكأن الدول الأطلسية وروسيا وتركيا وإيران لم تراقب وتسمح -بشكل أو بآخر- بتجمّع أطراف “حرب الجهاديين” من متطرفين وميليشيات موالية لإيران على السواء.
ضمن هكذا عبث عنفي واستخدام للأرض السورية كمسرح تصفية حسابات وصعود قوى دولية وإقليمية، لا يهم مصير إدلب صناع القرار في العالم، ويبدو أن أمرها متروك لثلاثي قمة طهران وخاصة لتفاهمات وتجاذبات موسكو وأنقرة.