التقيت مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة إلى سورية، ستيفان دي ميستورا، أربع مرّات. كانت الأولى بصفتي مديرا تنفيذيا لمنظمة اليوم التالي، حيث دعانا، الدبلوماسي السابق والأستاذ الجامعي مرهف جويجاتي وأنا، للقائه في جنيف. وصلنا في الموعد، ولكنه وصل متأخرا نحو ربع ساعة، واعتذر بقوله: "كنت أتحدث مع مديري"، في إشارة إلى الأمين العام السابق للأمم المتّحدة، بان كي مون، "لذلك، جئت أستقبلكما في البهو للتعبير عن أسفي"، قبل أن يصحبنا إلى قاعة الاجتماع، حيث كان نائبه المصري، رمزي عزّ الدين رمزي، ونحو عشرة أعضاء آخرين في فريقه.
استمع دي ميستورا إلينا مطوّلا، ونحن نعرض له ولفريقه وجهة نظرنا في الأزمة السورية، ثمّ راح يُمطرنا بأسئلة دقيقة بشأن دور المجتمع المدني في العملية التفاوضية في جنيف، وإمكانية السوريين التعايش مع فكرة بقاء الأسد في المرحلة الانتقالية، وموقفنا من تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) وجبهة النصرة. وكان جوابنا واضحا ومحدّدا: نحن مع مشاركة المجتمع المدني مراقبا وضامنا للاتفاق، وضدّ فكرة بقاء الأسد في المرحلة الانتقالية، ومع استئصال التنظيمات الراديكالية الإسلامية، مع ضرورة تمييزها عن محيطها المدني.
التقيت به ثانية في جنيف أيضا مع وفد من ممثلي منظمات المجتمع المدني، ثم حدث أن جمعني لقاءان آخران به في مناسبتين، إحداهما العام الماضي في نيويورك. وفي كلّ مرة بدا لي دي ميستورا مثقفا وذكيا وشديد التهذيب. وأسجّل له سعة صدره ورغبته في إشراك المجتمع المدني في العملية التفاوضية، وتأسيسه مجموعة النساء الاستشارية الخاصة في مكتبه. بيد أن ذكاءه وتهذيبه لم يُخفيا، منذ اللقاء الأول، أنه لا يقف في الوسط تماما من أطراف النزاع في سورية.
اليوم وبشكل خاص، يثير دي ميستورا إشكالا سياسيا وأخلاقيا بتصريحاته المثيرة للجدل بشأن إدلب. ففي وقت يتحدث فيه نظام بشار الأسد، ومن ورائه روسيا وإيران، عن اقتحام إدلب، وقد مهّدتا لذلك بالبدء بضربات جوية وصاروخية وببراميل متفجرة، يدلي دي ميستورا بتصريحات غريبة، بدت وكأنها تبرّر تحضيرات الأسد - بوتين بشأن ضرب إدلب.
وقبل أيام، أعادت القوّات الروسية مشاركتها المباشرة بضرب المدينة، مباشرة بعد خروجها من القاعة التي جمعت رئيسها بوتين مع الرئيسين التركي أردوغان والإيراني حسن روحاني في طهران، لمناقشة الوضع في إدلب، حيث أعلنت وزارة الدفاع الروسية أن أربع مقاتلات تابعة لها وجهت ضرباتٍ "عالية الدقة" إلى مواقع لتنظيم جبهة النصرة في محافظة إدلب، مستخدمةً ذخيرة فائقة الدقة.
وتبجّح بشار الجعفري، ممثل بشار الأسد في الأمم المتحدة، بأن دمشق عازمة على "استعادة جميع الأراضي السورية وتحريرها من الإرهاب والاحتلال الأجنبي"، وشدّد على أن أي تحرّك تقوم به حكومته في إدلب "حق سيادي مشروع تكفله مبادئ القانون الدولي وأحكام الميثاق وقرارات مجلس الأمن الخاصة بمكافحة الإرهاب وتفاهمات أستانة".
في هذا الوقت بالضبط، اختار دي ميستورا أن يدلي بتصريحاتٍ عن إدلب، ورد فيها إن المدينة تضمّ عددا كبيرا جدّا من مقاتلي جبهة النصرة، نحو عشرة آلاف، مضيفا أن الحق في مقاتلة المتطرفين لا خلاف حوله، قبل أن يستدرك أن ذلك لا يبرّر طبعا استهداف 2.9 مليون سوري هناك. ثمّ سارع إلى عرض خدماته في تأمين خروج آمن للمدنيين في المحافظة، وقال إنه مستعد للسفر شخصيا إلى إدلب للمساعدة في ضمان خروج المدنيين عبر ممر إنساني. بيد أنه لم يقل إلى أين سيَخرُج هؤلاء المدنيون، ولا كيف سيعيشون، وماذا سيحل ببيوتهم وأرزاقهم حين خروجهم. كما أنه لم يقل كيف سيعمل على إخراجهم، وكيف سيقنع جبهة النصرة وأخواتها على ترك المدنيين يخرجون من دون أن يستخدموهم دروعا بشرية، كما فعل جيش الإسلام وفيلق الرحمن في الغوطة الشرقية. كان المهجّرون جميعا يجدون ملاذا في إدلب. ومن القصير والوعر والمعضمية وداريا ودوما، حمل المهجّرون أسمالهم وأطفالهم ورحلوا إلى إدلب، فإلى أي مكانٍ يستطيع دي ميستورا أخذهم الآن؟
لم يكتفِ المبعوث الأممي بذلك، بل ساوى بين نظام الأسد الذي استخدم الأسلحة الكيميائية ضدّ شعبه مرات ومرات وجبهة النصرة، في ترويج الرواية الروسية البائسة عن استعداد الأخيرة للقيام بمسرحية هجوم كيميائي، واتهام النظام بذلك.
معظم السوريين مع القضاء على جبهة النصرة وتنظيم داعش وكل التنظيمات الإرهابية السورية، فأفكار هذه التنظيمات وعقيدتها غريبة عن السوريين، المعروفين باعتدالهم ووسطيتهم في معظم الأمور، بما في ذلك القضايا الدينية. وقد سبّبت جبهة النصرة، ومعها "أحرار الشام" و"جيش الإسلام" وسواها كوارث للمدنيين السوريين ولسورية، ما يجعل السوريين سعيدين بإنهاء هذه الظاهرة الشاذّة. ولكن هذا شيء واستخدام جبهة النصرة ذريعة لاحتلال إدلب، والتنكيل بالمدنيين السوريين، وهو ما سيحدث قطعا في حال دخول مليشيا بشار إلى هناك، شيء آخر. ستكون معركة إدلب أسوأ كارثةٍ تتعرّض لها سورية على الإطلاق. ويتوقع أن يشكل انطلاق عملية عسكرية كبرى هناك كابوساً على الصعيد الإنساني، حيث لم تعد هناك مناطق قريبة خاضعة للمعارضة في سورية يمكن إجلاء السكان إليها.
وإذا استمعنا إلى طبيب سوري من إدلب، منذر الخليل، وهو يعمل جرّاح عظم ويترأس مديرية الصحة في المنطقة التي تسيطر عليها المعارضة في إدلب، فإن المحافظة سوف تشهد "كارثة قد تكون الأكبر". وقال في مقابلة أجرتها معه وكالة "فرانس برس" في جنيف: "أخشى من أن نكون على وشك أن نشهد الأزمة الأكثر كارثية في حربنا".
يتوقّع السوريون من الأمم المتحدة وأمينها العام ومندوبه الخاص أن يلعبوا دور المثبّط للهجوم الوشيك، ولذلك فإن تصريحات صبّ الزيت على النار التي أوردها دي ميستورا كانت صاعقة لهم. اليوم، لم يعد أمام السوريين من أمل سوى انتظار الطائرات والدبابات والبراميل لتنهي أحلامهم ببيت وعائلة وخبز يومي، فلا الأمم المتحدة المشلولة، ولا الولايات المتحدة المبتلاة برئيس تلاحقه الفضائح والمحققون في كلّ مكان، ولا أوروبا العاجزة، ولا المعارضة الفاسدة، قادرة على إنقاذهم من هذا المصير.
يتسع يوما بعد يوم رفض قطاع كبير من السوريين لوساطة دي ميستورا، وقد فقد الرجل بريقه ومصداقيته، بفعل استخفاف الروس به وبدوره. وسبق دي ميستورا رجلان كبيران، هما الأمين العام السابق للأمم المتحدة (الراحل حديثا) كوفي عنان، والدبلوماسي الجزائري المخضرم الأخضر الإبراهيمي، وقد أدركا أن النظام السوري ليس شريكا نزيها في الحوار، فآثر كل منهما استقالة مشرّفة على وساطة ملوّثة. وأحسب أن الأوان قد آن لكي يحذو دي ميستورا حذوهما، ويفكّر، وهو يدخل في عامه الثاني والسبعين، في تقاعدٍ مشرّفٍ له ولنا.
سعت الكثير من الدول الغربية وفي مقدمتها روسيا على إبراز الثورة السورية على أنها حركات متطرفة ذات طابع تخريبي وإرهابي، ومع بقاء الشمال السوري وحيدا في مواجهة أعتى نظام إجرامي وارهابي عرفته البشرية مدعوما من محور الشر (ايران، روسيا).
بدأت الأيادي الخفية (اليوم اثبتت عمالتها) بشكل واضح وصريح لتخريب المظهر الحضاري للثورة السورية والتي كانت أقوى رسالة للعالم ألا وهي التظاهر السلمي.
وعمدت هيئة تحرير الشام بمحاولة تشويه المظاهرات السلمية في مدينة إدلب بمؤازرة المجلس المحلي المشكل من قبل حكومة الإنقاذ من خلال رفع رايات الهيئة على الملأ أمام وسائل إعلامية غير سورية ليصدح مرتزقتها انهم باقون ماب قي الزيتون ولكن للحق نقول إنهم ورقة التوت الأخيرة التي ستسقط في اللحظات الأخيرة متذرعين بأنها رايات الجهاد (وهو برئ منهم).
وللعلم حين خرج السوريين في بدايات الثورة لم تكن راياتهم سوى أعلام الثورة حتى قدوم مرتزقة (أسود المعابر وأصحاب الرايات الحمراء وليس العصائب الحمراء) حتى أصبح يحارب تارة من قبل النظام وتارة من تحرير الشام.
ماالذي تريده تحرير الشام اليوم؟
لو وضعنا فرضا وهو بعيد الاحتمال أن النظام سيطر على الشمال السوري اليوم والسؤال أين ستذهب تحرير الشام هل ستعود الى حضن الوطن وتشكيل لواء تحرير الشام بقيادة العميد (أبو محمد الجولاني) أم ستنقل أمراضها وخبثها لمكان أخر وتشكل هيئة تحرير روما (كما قال كبير الصبيان لديهم).
مع بداية العام الدراسي في روسيا الاتحادية، بثَّ التلفزيون الرسمي «RT» شريطاً مصوراً عن تدريب أعداد كبيرة من الأطفال السوريين في المدارس العسكرية الروسية، وأظهر الشريط المتلفز الأطفال بالملابس العسكرية الزاهية لطلبة الكليات الحربية الروسية، معهم كثير من الضباط الروس الذين يهتمون بتوفير متطلباتهم من الأمور الدراسية إلى نوعية الطعام.
يبرز الشريط أن هذا الأمر يأتي تنفيذاً لقرار يسمح بالتحاق الأطفال السوريين بالمدارس العسكرية الروسية. أحد المتدربين وبدا في سن العاشرة، ذكر للقناة أن والدته اعتقدت في البداية أنه سافر لفترة إجازة 15 يوماً؛ لكن البرنامج شدد على إبراز الهدف، وهو «إعداد هؤلاء التلامذة كقادة محتملين في السنوات القادمة»، موضحاً أكثر بأن إعداد هؤلاء «الضباط العسكريين هو استثمار كبير في مستقبل سوريا». وتضمن الشريط المتلفز تأكيداً من السفارة السورية في موسكو، جاء فيه أن «تدريب الأطفال السوريين ضمن فيلق الطلاب الروس، يأتي ضمن إطار اتفاق دائم».
ينتهي الشريط، فيثور السؤال طارحاً نفسه: أين حدث ما هو شبيه؟ هل هي اسبرطة في نسخة محدثة؟ أو حالة إنكشارية جديدة؟ أو عودة لبدايات زمن القياصرة، عندما كان الهم الوصول إلى المياه الدافئة، ومن أجل هذه الغاية شهدت الإمبراطورية الروسية، ولا سيما الأطراف، أوسع عمليات تجنيد طالت الأطفال، أو أنها النسخة الروسية - السورية المتماثلة مع تجنيد الحزب النازي للأطفال الألمان؟
من فيلق الطلاب في موسكو إلى «الفيلق الخامس اقتحام»، ذهبت روسيا بعيداً في البناء على تأهيل حالة سورية تؤمن الغطاء لوجود روسي مديد، قالت الاتفاقات السورية الروسية التي تناولت قاعدة «حميميم» إنه مستمر لـ49 سنة قابلة للتجديد، ومعه باتت قاعدة «حميميم» الجوية البرية وقبلها قاعدة «طرطوس» البحرية، أراضي سورية خاضعة للقانون الروسي، ويتضح أن كل الخطوات الروسية تصب في خدمة هذا الهدف.
تروي جهات سورية معارضة مطلعة على ما يجري، أنه بالعمق هناك رهانات سورية على دور روسي للقطع مع الوضع المخيف الذي خلقه الحرس الثوري الإيراني وميليشياته الطائفية المتطرفة التي استقدمها من أكثر من بلد، ونجح في توطين أعداد لا يستهان بها، كما نجح في اختراق ما كان يعتبر النواة الصلبة في الجيش السوري، أي الحرس الجمهوري و«الفرقة الرابعة» التي يقودها ماهر الأسد. لكن منذ إقرار «مسار آستانة» ما سُميت مناطق «خفض التصعيد»، باشر ضباط «حميميم» العمل لتغيير المشهد السوري، وهؤلاء يلقون الدعم من حزب كبير، يضم عشرات ألوف الضباط الذين تخرجوا من المدارس العسكرية الروسية، ومع الوجود الروسي باتت أكثريتهم ترفض تلقي الأوامر من الميليشيات الإيرانية، ومثلهم عشرات ألوف الأطباء والمهندسين، وسواهم من الخريجين، إضافة إلى المصاهرات التي تصل إلى نحو 300 ألف.
وتغيير المشهد يتم بدعم من قوات ضاربة برية، هي الشرطة الروسية، حيث لم يعد الأمر يقتصر على استمالة بعض كبار الضباط البارزين ووحداتهم، والمثال «قوات النمر»؛ بل بدأت خطوات حل الميليشيات السورية التي أنشأها الحرس الثوري، وبالمقابل إطلاق حملة تجنيد واسعة لصالح «الفيلق الخامس اقتحام»، الذي خصص له الروس ميزانية، وأولت القيادة الروسية اهتماماً خاصاً لضباطه، كما ركزت من خلال المصالحات التي نفذتها، وما سُميت «تسوية أوضاع» على اجتذاب أعدادٍ كبيرة ممن حمل السلاح ضد النظام إلى صفوفه، وهذا ما حدث على نطاق واسع في الجبهة الجنوبية، بعد إعادة الروس محافظة درعا وريف السويداء والقنيطرة إلى سيادة النظام السوري.
منذ الأول من أغسطس (آب) الماضي، بات الصراع مكشوفاً. منع الضباط الروس «الفرقة الرابعة» من المشاركة في عمليات الجنوب، وأدت الاتفاقات المعلنة مع المحتل الإسرائيلي لإعادة العمل باتفاقية فصل القوات في الجولان لعام 1974، وقضت الاتفاقات بموافقة طهران على ابتعاد الحرس الثوري والميليشيات التابعة له مسافة 85 كيلومتراً إلى الشمال من الجولان المحتل. واقعياً تم نشر وحدات عسكرية موالية لـ«حميميم» على امتداد الحدود مع الأردن والجولان ولبنان، وطيلة أكثر من شهرين توالت الأنباء عن الصدامات بين القوات الروسية و«الفيلق الخامس» و«قوات النمر» من جهة، ومن الجهة المقابلة «الفرقة الرابعة» وكثير من الميليشيات التي أقامها الحرس الثوري، وكان الأبرز في منتصف أُغسطس المواجهات في ريف حماة الشمالي والغربي، وانتهت بإبعاد «الفرقة الرابعة» والميليشيات العاملة معها عن معبر مورك، والأهم معبر قلعة المضيق الذي يدر أموالاً طائلة، ضرائب وإتاوات. وامتدت المواجهات من مناطق الساحل في جبلة والدريكيش إلى سهل الغاب؛ حيث أبعد الروس هذه القوى عن كل القرى والمواقع التي تنتشر فيها بمواجهة قوى المعارضة المسلحة في ريف حماة الغربي، واقتصر الوجود على وحدات من «الفيلق الخامس» و«قوات النمر»، بعدما اعتقلت الشرطة الروسية المئات من عناصر الميليشيات و«الفرقة الرابعة».
إنه الصراع المفتوح على التمدد في كل سوريا، وعلى النفوذ في كل المناطق الاستراتيجية التي ترغب روسيا في السيطرة عليها.
وبعيداً عن المجاملات، أظهرت قمة طهران الثلاثية أن أطراف «مسار آستانة» الذين يريدون الحفاظ على تجمعهم بوجه كماشة العقوبات الأميركية، يختلفون على أمور كثيرة؛ لكن رهانات أنقرة وطهران بقيت انتزاع موافقة موسكو على حصول كلٍ من البلدين على حصة من الكعكة السورية، رغم أن القيصر ماضٍ في قصقصة أجنحة «حليفيه» الإيراني والتركي. وما تعاني منه طهران الآن ينتظر أنقرة، إذ ليس أمام الرئيس إردوغان سوى ابتكار طريقة لتسليم إدلب بعد الانتهاء من «جبهة النصرة»، وما يتردد عن صفقة تسمح بموجبها أنقرة بعودة مؤسسات النظام المدنية، فيما يعهد بالأمن لوحدات مشتركة روسية – تركية، أمر لا يُعوّل عليه؛ لأنه سيبقى إطاراً مؤقتاً مع الرفض الروسي لمثل هذه الشراكة.
ستارة الفصل الراهن من رقصة الموت فوق المسرح السوري تُسدل قريباً، ومعه تزدحم جعبة القيصر الروسي بالانتصارات التكتيكية، وهو الطامح إلى فرض «انتداب روسي» يتم تحضير مسرحه من فيلق الطلاب إلى «الفيلق الخامس»؛ لكن تحقيق هذا الهدف يتطلب تسوية سياسية تعكس حجم الإنجازات العسكرية الروسية. هذا الحلم الروسي سيبقى بعيد المنال لأن منطقة شرق الفرات ليست إدلب، هنا الروس وجهاً لوجه مع الوجود الأميركي ومع الأهداف الأميركية المعلنة، التي تستهدف الوجود الإيراني، وتستهدف تحقيق تسوية حقيقية عبر مسار جنيف والقرار 2254، ما يفتح المجال لعودة اللاجئين وبدء عودة سوريا، هنا هامش المناورة الروسية سيضيق تباعاً، والصفقة مع الأميركيين لتحقيق الإنجاز السياسي يستحيل تحققها على قاعدة استمرار رأس النظام، ولو حتى بالانتخابات، ومعه بقاء النفوذ الإيراني - ولو نسبياً - أقل من السابق.
بعد أيام على انطلاق الربيع العربي في عدد من الدول العربية قبل أكثر من سبع سنوات، كتبت مقالاً حذرت فيه من تكرار المثال الأفغاني والصومالي، ووضعت أمام المنتفضين الخطايا التي وقع فيها الأفغان والصوماليون في انتفاضاتهم على الطغاة. وسأعيد الآن نشر المقال حرفياً ليس لأنني توقعت النتيجة الحاصلة في الكثير من بلاد الثورات الآن، بل لنتساءل: لماذا لا يتعلم العرب من التاريخ؟ لماذا يكررون الأخطاء نفسها مع أنها مازالت حية في الذاكرة؟ إلى نص المقال:
«لا شك أن التخلص من الطواغيت العرب وأنظمتهم العفنة والحقيرة هدف عظيم للغاية. ولتعش الأيادي التي ساهمت وتساهم في دق المسمار الأخير في نعوشهم. لكن هناك هدفا آخر لا يقل أهمية وخطورة عن الهدف الأول، ألا وهو قيادة المرحلة التالية بعد سقوط الطغاة. فقد قدم لنا التاريخ أمثلة مرعبة يجب على الثوار العرب أجمعين التعلم منها وتجنبها وهم في بداية النتفاضاتهم بكل ما أوتوا من قوة وعقل كي لا يتحول الانتصار على الطغيان وبالاً على الشعوب.
لقد نجح المجاهدون الأفغان في يوم من الأيام في التخلص من نظام نجيب الله المرتزق الذي كان مجرد ألعوبة في أيدي السوفيات الأوغاد. لا بل تمكن المجاهدون أيضاً من كنس الاحتلال السوفياتي الغاشم نفسه إلى جهنم وبئس المصير. لكن الانتصار الأفغاني على السوفيات وأزلامهم لم يأت لأفغانستان بالمن والسلوى ولا بالتحرير الحقيقي. فما إن انتهى المجاهدون الأفغان من مهمة تنظيف البلاد من الاحتلال الداخلي والخارجي حتى راحوا يتقاتلون فيما بينهم على الغنائم.
لا شك أن الكثير منا يتذكر ما حل بأفغانستان بعد انتصار المجاهدين، فقد تحولت البلاد إلى ساحة حرب من أقصاها إلى أقصاها بين المجاهدين أنفسهم، مما أدى إلى الإمعان في تمزيق البلاد وزعزعة استقرارها وإفقارها وتحويل شعبها إلى لاجئين وجائعين.
فبدلاً من التكاتف للملمة جراح أفغانستان الغائرة وتوحيد الصفوف راح المجاهدون يذبحون بعضهم البعض من أجل الاستيلاء على السلطة، وكأنهم جاهدوا ليس لتحرير الوطن من ربقة المحتلين وأزلامهم، بل من أجل أن يحلوا محلهم في الجثم على صدور البلاد والعباد.
ومن كثرة ما عانى الأفغان من اقتتال المجاهدين فيما بينهم لم يكن لديهم أي مانع بعد طول عناء من القبول بديكتاتورية جديدة أشد وأنكى من ديكتاتورية الشيوعيين وأزلامهم، ألا وهي ديكتاتورية طالبان التي تمكنت من الانتصار على المجاهدين والفوز بحكم البلاد.
قد يجادل البعض بأن حركة طالبان كانت في وقتها أفضل حل لبلد أنهكته الحرب الأهلية. وربما يكونون على حق. لكن الشعب الأفغاني لم يقدم كل تلك التضحيات وقتها كي ينتقل من حضن الديكتاتورية الشيوعية إلى حضن ديكتاتورية دينية خانقة. ولو لم يتقاتل المجاهدون فيما بينهم لما أوصلوا السلطة إلى أيدي طالبان، ولما جعلوا أفغانستان مرتعاً للقاصي والداني كي يتدخل في شؤونها ويستغل معاناة أهلها. لا شك أننا نتذكر كيف أصبحت أفغانستان لاحقاً ساحة للاستخبارات الإقليمية والدولية والقوى المتصارعة على ذلك الجزء الحيوي جداً من العالم.
ولا ننسى الدرس الصومالي البشع، صحيح أن الشعب الصومالي استطاع التخلص من الطاغية سيئ الصيت محمد سياد بري، لكنه فشل بسبب احترابه الداخلي ونزاعه الدموي على السلطة فيما بعد في بناء صومال جديد أفضل من ذلك الذي كان يرزح تحت ربقة الطاغوت سياد بري.
ولو قارنا وضع الصومال في عهد الطاغية القديم بوضع البلاد بعده لرأينا حجم الدمار والانهيار اللذين حلا بالبلاد على مدى السنين الماضية. فقد أصبح الصومال مضرباً للأمثال في التشرذم والفشل والتفكك.
فبدل أن يبني الصوماليون دولة ديموقراطية حديثة بعد التخلص من بري أنتجوا دولة فاشلة بامتياز، لتصبح البلاد مرتعاً ليس فقط للعصابات المحلية المتقاتلة بل أيضاً للطامعين والعابثين بأمن واستقرار البلاد من خارج الحدود. ولا ننسى أن الفراغ السياسي يغري الخارج بالتدخل دائماً، لا سيما وأن الطبيعة نفسها لا تسمح بالفراغ.
ومما يجعل الكثير من بلادنا العربية الثائرة عرضة للأفغنة والصوملة أن حكامها «الأشاوس» لم يبنوا على مدى عقود دولاً حقيقية متماسكة، بل حولوها إلى مجرد تجمعات مفككة للملل والنحل والطوائف والأفخاذ والقبائل والعشائر التي لا تأمن جانب بعضها البعض. لقد حاول الطواغيت العرب ضرب مكونات البلاد ببعضها البعض على المبدأ الاستعماري الحقير: «فرّق تسد». فتلك هي الوسيلة الأفضل للطغاة العرب للسيطرة على الشعوب والتحكم برقابها.
بعبارة أخرى، ليس لدينا دول وطنية حقيقية في البلدان الثائرة بسبب غياب مبدأ المواطنة. وبالتالي، فإن بلداننا مرشحة للسقوط بسهولة في المستنقع الصومالي والأفغاني واليوغسلافي إذا ما سار الثوار العرب على النهج الأفغاني بعد سقوط الأنظمة الحالية.
وتلك ستكون أكبر هدية يقدمها الثوار للمستبدين الساقطين الذين سيكونون في غاية السعادة لتشرذم البلاد والعباد بعد سقوطهم. ولا ننسى أن الطواغيت العرب لا مانع لديهم أبداً، عندما يجدون أنفسهم محصورين في الزاوية، في تحويل بلدانهم إلى دويلات متناحرة، أو حتى الانفصال عن البلد الأم وتشكيل كيانات قبلية أو طائفية هزيلة.
لقد علمنا التاريخ أن الطغاة ربما يستطيعون بناء دول بالحديد والنار لفترة ما، كما فعل الرئيس اليوغسلافي السابق جوزيف بروس تيتو، لكن ما إن يرحل الديكتاتور أو يسقط حتى تعود البلاد إلى مكوناتها الأساسية.
وقد شاهدنا كيف تشرذم الاتحاد السوفياتي رغم قوته الجبارة، وكيف تفككت يوغسلافيا بعد تيتو إلى كيانات ودويلات متناحرة. ورأينا أيضاً كم كان سهلاً تفتيت العراق بعد رحيل الديكتاتورية. وما حل بالعراق وبيوغسلافيا ممكن أن يحل ببعض البلدان العربية ذات التنوع العرقي والطائفي والديني. لهذا على الثوار العرب أن يعملوا جاهدين على رص الصفوف بعد سقوط الطواغيت للحفاظ على النسيج الوطني وحماية الوحدات الوطنية المنهكة. بعبارة أخرى، عليهم أن يعوا الدرس الأفغاني واليوغسلافي والصومالي والسوفياتي والعراقي جيداً كي لا يقعوا في الحفرة نفسها.
ويجب على الثوار العرب أن لا ينسوا أيضاً أن هناك الكثير من القوى الإقليمية الطامعة بالمواقع الإستراتيجية للبلدان الثائرة، وهي مستعدة في أسرع وقت لمناصرة جماعة ضد أخرى لتتحول بلداننا إلى ساحات صراع كبرى تكون فيها الشعوب أكبر الخاسرين. فلا ننسى التنافس التركي والإيراني والإسرائيلي والأمريكي بطبيعة الحال على المنطقة.
وبالتالي، فإن منع التناحر بين الجماعات والمعارضات الثائرة والحيلولة دون الصراع على السلطة بعد نفوق الأنظمة الحالية أمر في غاية الأهمية كي لا نقول إننا استبدلنا قواداً بديُّوث».
منذ أسابيع ولا يزال مستقبل شمال غرب سورية المحرر شاغل الساسة والعسكريين بين مشارك في خرابها ومؤيد له وصامت عنه وعلى الرغم من اختباء هذه المدينة الوادعة في شمال غرب البلاد غير أنها في عين العاصفة وفي مركز الحدث وكأنها عاصمة كبيرة من عواصم الدول العظمى في الحروب العالمية ولا يكاد يخلو تحليل عسكري أو سياسي عميق حول مستقبل المنطقة إلا وصفرة الكيماوي تعلو وجوه المحللين وخطره لا يفارق أذهان الآمنين فيها فالمجرم من شأنه أن لا يفرق بين أداة رحيمة أو أداة قاسية للإجرام ومن تجرأ على القتل فقد القدرة على التمييز بين أنواعه ومن جرب البراميل الغبية والقصف العشوائي وقطع الرقاب بالسكاكين لن يتردد لحظة عن استخدام ما أتيح له من وسائل للوصول لمآربه.
وعلى الرغم من الفزع الذي يجعل حروفي ترتعد وهي تنتظم في جمل للحديث عن كيماوي الأسد إلا أن ذاكرتي المختنقة بأحداث الاعتداءات السابقة والتي بلغ عددها نحو 125 حسب المنظمة السورية لحقوق الإنسان والتي استخدم فيها بشار الكيماوي غاز الخردل والسارين والكولرين والفوسفور وغاز الأعصاب وكأنه عابث مجنون يجرب في مطبخه ما وصلت إليه يديه الملطختان بالدم ولم تردعه من قبل خمس قرارات صدرت عن الأمم المتحدة تتعلق باستخدام الكيماوي كان أولها القرار رقم 2018 في أيلول عام 2013 الذي أعقبه ما يقارب 182 هجوم شنيع بلا تردد.
وقد أثبت في العديد من المرات بشكل رسمي استخدامه لهذه الأسلحة المحرمة والمجرمة بناء على تقارير لجان التحقيق المشتركة المنبثقة عن القرار الأممي 2235 التي فشلت في مهمتها رسمياً وتم حلها كما فشل المجتمع الدولي في وضع حد لتمادي النظام في استخدام هذا السلاح وحسب ما أوردته صحيفة الغارديان في مقال مخصص لها عن استخدام نظام الأسد للأسلحة الكيماوية فإن عدم توانيه عن استخدامها يعود لسببين: أولاهما يقينه من نجاته من أي ملاحقة دولية إثر كل هجوم والثاني هو امتلاكه لها ورغبته بذلك.
ولا يخفى على سوري أن النظام لا يزال يمتلك قسم كبير من هذه الترسانة التي يطورها منذ 40 عام وقد أكد ذلك أحد قادة الحرس الجمهوري الذي تعمد أن يسرب أنباء تقول أن النظام لا يزال يحتفظ بالمخزون الأكبر منها في خمس مواقع رئيسية في سورية ويضاف على كلامه تصريح للعميد أحمد بري رئيس أركان الجيش الحر أن النظام لا يزال يصنع هذه الأسلحة والمواد السامة وعلى الرغم من أنه يجد استخدامها أمراً متاحاً وخاصة بعد الإعلان الأخير عن دراسة الولايات المتحدة خيارات الانسحاب من شرق سورية وعدم قدرتها على فرض خطوط حمراء في سورية حسب صحيفة الواشنطن بوست إلا أن السؤال الذي لا يزال يتكرر في أذهان السوريين إلى اليوم لماذا يصر الأسد على استخدام هذه الأسلحة المحرمة والمحرجة مع العلم أن كل التصريحات الغربية تتوعده في حال استخدمها تاركة لها نوافذ استخدام أسلحة لا تقل وحشية ودموية خلفت مئات آلاف الضحايا ولعل الإجابة على هذا السؤال تدعونا للتفكير في الاحتمالين التاليين:
1- كلفة المعارك الباهظة عسكرياً واقتصادياً:
يعتمد النظام بشكل كلي في معاركه الأخيرة على ميلشيات مستأجرة سياسياً أو طائفياً أو مالياً والتي يبلغ تعدادها ما يقارب 200 ألف بالمقابل فإن أعداد عناصر الجيش السوري لم تعد تتجاوز 25 ألفاً حسب تقرير معهد الشرق الأسط في واشنطن أي ما يعادل جهاز شرطة لمدينة واحدة في سورية لا أكثرو بالتالي فإن هذا النزيف الحاد في تعداد القوات النظامية لا يسمح له بخوض معارك استنزاف إضافية تؤدي إلى فقدان المزيد من العناصر أو تتطلب مزيداً من التنازلات والمقايضات مع الميلشيات الداعمة له وبالتالي فإن سلاح الكيماوي يعتبر وسيلة سهلة تقصم ظهر المعارضة وتنهي المعارك وترضخ المعارضة وتجبرها على الاستلام حفظاً للأرواح تحت ضغط أخلاقي وشعبي ويعتبر الأسد هذه الاستراتيجية ناجحة من خلال العديد من التجارب التي خاضها مع شعبه والتي كان آخرها هجوم الكيماوي في الغوطة الشرقية عام 2018 والتي أنهت محاولة المقاومة الأخيرة من قبل المعارضة.
بنفس الوقت فإن النظام المجرم دولياً فاقد الشرعية المعاقب اقتصادياً وعسكرياً المقاطع عربياً يعتبر أن الكلفة الدبلوماسية والسياسية جراء استخدامه الكيماوي أهون وأخف من الكلفة العسكرية للمعارك فهذا السلاح بالنسبة له ضامن للحسم العسكري بينما العمليات البرية تعتبر ذات تكلفة اقتصادية وعسكرية كبيرة جداً لم يعد يملك الموارد الكافية لتأمينها في حين أن النظام يعلم تماماً من خلال موافقة روسيا على كل الهجمات الكيماوية التي ينفذها بأن الأخيرة ستؤمن له الحصانة الحقيقية من أي رد فعل غربي على مغامراته الإجرامية وأن ردود الفعل لن تضعه في ضغوط أسوء مما هو عليه الآن أي بمعنى آخر لم يعد للنظام ما يخسره سياسياً واقتصادياً وهو محصن عسكرياً من قبل روسيا.
2- الأثر النفسي:
لم تتوقف أجهزة الاستخبارات السورية والمستشارون الأجانب للحظة عن صناعة بروباغاندا تؤثر بشكل إيجابي على داعميه وتحبط معارضيه لتدفعهم إلى العودة إلى حضن المخابرات والانتقام ولعل لمثل هذه الانتصارات السريعة عبر استخدام الكيماوي أثراً كبيرا في نفوس داعميه حيث يظهر نفسه إثر كل حملة عسكرية على بلدة أمنة يسمم أطفالها بمظهر القوي المنتصر القادر على الحسم بسرعة وكأن جيوشاً جرارة تقاتل إلى صالحه وفي الواقع فإن جيوشه الجرارة ليست أكثر من غازات سامة ومواد كيميائية قاتلة ولكن الماكينة الإعلامية الرسمية المنحرفة عن أخلاقياتها الإعلامية لا تركز في أي من دعايتها على أخلاقيات الحرب من تدمير للبنى التحتية والجرائم ضد الإنسانية المرتكبة بحق المدنيين باستخدام هذه الأسلحة المحرمة دولياً.
بالإضافة إلى ذلك فإن النظام يريد أن يمرر رسالة إلى داعميه والحاضنة الشعبية للثورة بأنه نظام لا يزال يحظى بحصانة دولية وأن الضغوط الممارسة عليه هي ضغوط ظاهرية هدفها إرضاء بعض الدولة العربية أو غرضها ابتزاز إيران وهو يتكأ في ذلك على عجز أو عدم رغبة المجتمع الدولي عن محاسبته قانونياً وجر كل المجرمين المتورطين إلى محكمة الجنايات الدولية أو التدخل تحت البند السابع لميثاق الأمم المتحددة وبالتالي فإن يريد أن يكسر أمل ملايين السوريين بالتغيير ويشكك في الدعم الدولي لقضية الثورة السورية العادلة.
أخيراً فإن أكبر صدمة شعبية سورية كانت ليست في تجاوز المجتمع الدولي صمته تجاه استخدام النظام أسلحته المحرمة دولياً وتركته مدججاً بالمزيد من هذه القدرات بل كانت في السماح له بتولي رئاسة مؤتمر نزع السلاح الكيمائي في سوسرا وكأن المجتمع الدولي جعل النظام السوري الخصم والحكم ويصدق في هذا يأس المتنبي من عدالة تأتي من ظالميه حيث قال: يا أعدل الناس إلا في معاملتي فيك الخصام وأنت الخصم والحكم.
الاستماع لنتائج الادعاء في المحكمة الدولية الخاصة بلبنان وباغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري مؤلمة بالنسبة لمستقبل هذا البلد. لقد أكد المدعي العام أن «الأدلة لدى المحكمة تشير إلى أن المتهمين بدر الدين وعنيسي وصبرا لدى توجيه قرار الاتهام بحقهم تم الاعتراف بهم من قبل القيادة العامة لـ «حزب الله» على أنهم إخوة من المقاومة وأنهم من الشرفاء وأنه تم تكريمهم من «حزب الله» لدى وفاتهم وحضرت مراسم تشييعهم شخصيات بارزة من المنظمة». وتابع المدعي العام أن النظام السوري في صلب مؤامرة اغتيال الرئيس رفيق الحريري عارضاً الظروف السياسية التي سادت حينها من إجبار الرئيس الحريري على التمديد لرئاسة اميل لحود إلى اجتماعات المعارضة اللبنانية في البريستول واستعداد الحريري لانتخابات مع المعارضة والقرار ١٥٥٩ المطالب بإخراج الجيش السوري من لبنان وتجريد الميليشيات من الأسلحة».
ادعاء المحكمة أكد ما كان يعرفه جزء كبير من المراقبين للحياة السياسية في لبنان. ولكن هذه الجلسات ونتائج ما تؤكده تطرح مشكلة مأسوية للمواطن اللبناني النزيه والمستقل، وهي كيف يكون مستقبله في ظل هيمنة حزب تواطأ لخدمة نظام بشار الأسد لقتل رئيس حكومة لبناني دفع ثمن حياته ورفاقه لتحرير بلده وإنعاشه وجعل العالم يهتم به. فالسؤال الآن ونجل الرئيس الشهيد سعد مكلف تشكيل حكومة البلد كيف سيكون مستقبل لبنان مع حزب مهيمن بسلاحه على كل قرارات الدولة بما فيها اختيار الرئيس وقانون الانتخاب والتحالفات الدولية وفرض العلاقات مع النظام السوري القاتل. من هذا المنطلق لا أمل ليس فقط في لبنان ولكن أيضاً في منطقة جواره المباشر حيث يترك نظام مجرم لم يكتف فقط بقتل رئيس حكومة لبنان ورفاقه وكل الشهداء بعدهم بل أكمل عمله داخل بلده يقتل مئات الألوف من شعبه ويشردهم طالباً مساعدة إيران و«حزب الله» وروسيا لإبقائه على رأس بلد دمره. فمهما كانت حكومة لبنان وإن تم تشكيلها أو لم يتم وإن بقي الحريري أو اعتذر وأتى غيره... فإن المستقبل في هذا البلد مؤلم إذ إن جزءاً كبيراً منه ينكر الواقع الأليم وهيمنة «حزب الله» وعودة وكلاء النظام السوري إلى السياسة في لبنان. وهذا الجزء يدعي أن المحكمة الدولية مخطط دولي يريد النيل منه في حين أنها قضاء دولي يؤكد حقائق لا يمكن نفيها. إن بقاء بشار الأسد تحت حكم وإرادة روسيا وإيران و«حزب الله» كارثة لسورية ولبنان والمنطقة بأسرها. ومن يعتقد أن بشار الأسد أو فلاديمير بوتين سيخرج الإيرانيين من سورية خاطئ. فلو أن إيران أجبرت على الخروج بدوافع اقتصادية ستعتمد على بقاء وكيلها اللبناني وجنوده في سورية. أما هؤلاء اللبنانيين المستعجلين في التطبيع والقيام بزيارات بشار الأسد والادعاء أن سورية مستعدة أن تزود لبنان بكهرباء رخيصة، فليعرفوا أن كل ما جاء من هذا النظام وحلفائه كان الشر والقتل والدمار والتهجير.
معروف أن رفيق الحريري لم يكن الأول من بين الشهداء الذين سقطوا بأمر من نظام عائلة الأسد ولو أنه يكاد يكون من بين أوائل كبار شهداء لبنان الذين سقطوا بأيدي منفذين من «حزب الله». أما بالنسبة للبنان فكل الذين تحالفوا مع «حزب الله» لأنه العنصر القوي والمهيمن في البلد سيكونون مسؤولين عن مصير شعب لبناني كان يمكن أن يأمل بمستقبل أفضل مما هو أمامه اليوم. المحكمة الدولية ليست كما يقول قياديو «حزب الله» «لعباً بالنار» لأن الأسد وحليفيه الإيراني و«حزب الله» وأيضاً إسرائيل المتمسكة ببقاء الأسد هم الذين يشعلون نار المنطقة. فعلى رغم تأكيد سعد الحريري أنه لن يلجأ إلى الثأر، فإن مستقبل لبنان غير مطمئن في مثل هذه الظروف. إن كل ما قيل عن النأي بالنفس عما يحدث من صراعات في المنطقة لا معنى له طالما «حزب الله» اللبناني موجود في ساحة الحرب السورية والعراق وإلى جانب الحوثيين. فكيف ينهض لبنان والحزب المهيمن يريد تشكيل حكومة بسرعة ويريد حقيبة الصحة التي قد تجلب على البلد المزيد من المآسي إذا قررت الولايات المتحدة تكثيف العقوبات عليه؟
ظروف الناس صعبة ومزرية مع النفايات المتراكمة والبيئة الكارثية والنقص الكهربائي والفضائح الشبه اليومية والفساد السائد. وحرام لبنان وشهدائه وشهداء سورية لقد قتلوا وبقيت شلة مجرمة تبحث عن شرعية دولية. ولربما تجدها لسوء حظ شعوب المنطقة في مقايضة تضمن مصالح الدول الكبرى.
التصعيد السياسي حول الوضع القلق في إدلب يتوالى على ألسنة مسؤولين كبار في الإقليم وأوروبا والولايات المتحدة، ويبدو شديد اللهجة إلى حد اعتباره إعلان حرب.
يؤكد الإعلام الأميركي أن الرئيس السوري بشار الأسد أصدر أوامره باستخدام الكيماوي في قصف إدلب. وتعلن موسكو أن مجموعة من معتمري الخوذ البيض وصلت من تركيا لتصور ضحايا القصف بالكيماوي الذي ينسبه الروس إلى المعارضة المتطرفة لا إلى جيش الأسد. ويكرر جون بولتون كلام الرئيس دونالد ترامب عن استعداد عسكري أميركي للردّ على استخدام الكيماوي في معارك إدلب المتوقعة. ويبدو أن قوى كثيرة ترغب في خوض تلك المعارك، آخرها المانيا التي تنسق مستشارتها أنغيلا مركل مع الحلفاء مشاركة جيشها في الحرب. كأننا على عتبة حرب عالمية تخاض في المنطقة التي ولد فيها وعاش أبو العلاء المعري، الشاعر والمفكّر الذي نقلت مؤلفاته الى لغات العالم الحية، وقدم فيها رسائل انحياز إلى الإنسان مشككاً بالحماسات العاطفية العمياء التي تتسبب بقتل بشر وتحطيم عمرانهم بلا مسوّغ منطقي.
عضّ على الأصابع قبل حرب إدلب، بل هو عضّ للأصابع حتى إسالة الدم وتحطيم العظام.
حشود عسكرية روسية وسورية مع ميليشيات موالية لإيران، وحشود تركية على الحدود، وتعنت المسلحين المتطرفين حين يصمّون آذانهم عن نداءات أردوغان بتسليم السلاح الثقيل وترحيل الأجانب منهم إلى بلادهم أو إلى أي مكان يستقبلهم. وبذلك تضمن الإدارة التركية حلاً يقي إدلب ومنطقتها، بل البلاد المجاورة وأوروبا، نتائج القتل والهدم والنزوح إلى أماكن قريبة أو بعيدة.
ولكن، هناك من يعتبر الحرب أول الحلول لا آخرها، وليس النظام السوري وروسيا وحدهما في هذا الخيار بل هناك أيضاً قوى أجنبية، تعتبر نفسها صديقة للشعب السوري، متحمسة لخوض الحرب تأكيداً لحصصها مادياً واستراتيجياً.
لكن المعركة، إذا حدثت، ستكون قاسية جداً على الروس وجيش الأسد كما على المعارضين المسلحين ومناصريهم في تركيا وأوروبا والولايات المتحدة. ويقدّر العارفون بأن معركة معقدة مثل هذه ستستغرق ستة أشهر على الأقل، ولا أحد يتوقع لها نتائج محددة، فمنطقة إدلب حساسة لتركيا ولنظام دمشق ولقواعد الجيش الروسي في حميميم، كما أن نتائجها الكارثية ستمتد الى أوروبا، استناداً الى تهديد الرئيس التركي بتسهيل نزوح سكان منطقة إدلب غرباً، وعددهم حوالى ثلاثة ملايين، فيشكلون ضغطاً على الدول والمجتمعات الأوروبية لن تحتمله، خصوصاً مع المتغيرات السياسية والاقتصادية الناتجة عن النزوح الأخير للسوريين وغيرهم إلى القارة العجوز. هنا قد تتطور حرب إدلب الى ما يشبه معركة أوروبية للدفاع عن أوروبا، تماماً عند حدود بحر إيجة، وما يحمل هذا التطور من صعود دراماتيكي لليمين المتشدد يهدد جوهر الديموقراطية في بلاد أطلقتها ونشرتها في العالم.
إدلب أمام احتمالين، الأسوأ والأخطر. ويرجح معارضون سوريون معتدلون الاحتمال الأول مستندين إلى العلاقة المتينة بين موسكو وأنقرة التي يحرص عليها الطرفان، فالروس لا ينسون تسهيل تركيا سيطرة النظام على حلب التي مهدت لسيطرته لاحقاً على الغوطة والجنوب السوري، والأتراك يقدرون لروسيا وقوفها معهم في أزمتهم الحالية مع الولايات المتحدة. لذلك يرجح المعارضون حصول حرب قاسية تؤدي إلى سيطرة النظام على جسر الشغور والغاب، ما يعني تأمين سلامة القواعد الروسية في حميميم وسلامة اللاذقية، قلب النظام. وما تبقى من ملف إدلب تتابعه أنقرة على طريقتها، مشددة في الوقت ذاته على حلّ شامل في شمال سورية ينهي إرهاب «النصرة» والإرهاب الذي تنسبه تركيا إلى المسلحين الأكراد، معاً وفي وقت واحد.
علينا أن نعترف بأن تأثيرات حافظ الأسد لا تزال فاعلة ومؤثرة وصانعة لأفكارنا وموجهة لسلوكنا، ولم تستطع الثورة في سورية تشكيل قطوع ذات شأن مع ذلك البناء الفكري والسلوكي الذي صنعه، وبدا الأمر وكأنه اعتراضٌ على ضآلة حصصنا في توزيع الموارد والمناصب، وتضاربها مع توقعاتنا وتقديراتنا، من دون أن يعني ذلك رفضنا نمط الإدارة والحكم التي أوجدها حافظ الأسد.
لم يعد سرّاً أن السوريين أداروا الثورة، عسكريا وسياسيا وإعلامياً، من وحي تكتيكات حافظ الأسد وأساليبه، وهذا ما يفسّر وصول الأوضاع في سورية إلى طريق مسدود، بعد أقل من عامين على انطلاق الثورة، لتشابه التكتيكات والأساليب والأدوات، ذلك أن غالبية من تولوا إدارة فعاليات الثورة كانوا قد خدموا في مؤسسات الأسد وإداراته، سواء كانوا ضباطا في جيشه أو إعلاميين في منابره أو سياسين في الأحزاب التي سمح بوجودها، ولم ينج من هذه اللوثة حتى السجناء الذين قضوا سنواتٍ في مؤسسته العقابية.
لكن ما سر هذا التعلق والانشداد لفكر حافظ الأسد وأساليبه في إدارة السياسة؟ هل لأنه إستمر في الحكم سنوات طويلة، وبالتالي، فإن تأثيرات تلك السياسات طوت تحت جناحها أجيالا عديدة، دجّنتهم وسلبت منهم إمكانية التفكير المستقل والقدرة على صناعة أنماط فكرية وإدارية مختلفة؟ أم أن حافظ الأسد يعتبر صانع السياسة الحديثة في سورية، بغض النظر عن طبيعة هذه السياسة ومخرجاتها، باعتبار أن من سبقوه لم يتسنّ لهم الوقت، ولم تسمح لهم الظروف، لتنظيم المجال السياسي، ليأتي حافظ الأسد، ويشكّل هذا المجال على هواه ومقاسات مصالحه، وبذلك يكون قد أوجد أطراً وأقفاصا سياسية لم يستطع العقل السياسي السوري تجاوزها حتى اللحظة؟
وحتى لا يبدو أنه يتم هنا أخذ الأمور باتجاه اتهاميّ استباقي، في وقت نبحث فيه عن تفسير لظاهرة استمرار تأثيرات حافظ الأسد السياسية ودوامها، وبالتالي نحرم أنفسنا من إمكانية الوصول إلى إجابة منطقية، وتفسير حقيقي، لهذه الظاهرة، فلا بد من تسليط الضوء على كامل المشهد، عبر طرح الأسئلة: هل ناسبت سياسات حافظ الأسد السوريين، وجاءت متوافقة مع طبيعة تفكيرهم وسلوكهم وإستجاباتهم؟ هل أحبّ السوريون هذا النمط من السياسات، بحيث لا يجدون ضرورة لمغادرة شيء أحبّوه؟ هل حافظ الأسد هو الذي تأثر بالسوريين، وعبقريته أنه صنع المجال السياسي السوري بما يتطابق مع المواصفات والشروط التي يحبّذها السوريون أنفسهم؟
ارتكز حافظ الأسد على جملة من العناصر، شكلت البنية الأساسية لهياكل سلوكه في سياساته الداخلية:
المناطقية والطائفية: حيث يتم تعريف السوري بمنطقته، وهذه تتضمّن انتماءه الطائفي، فلا حاجة لإعلان السوري عن طائفته أو مذهبه، لأن انتماءه المناطقي يكشف بوضوح عن طائفته. وعلى هذا الأساس يتم التعاطي مع الشخص في دوائر السلطة، ويجري تفضيل ابن المنطقة عن سواه في مختلف التعاملات.
الفساد: أصبح الفساد في سورية حلاً سهلاَ، ليس فقط في مواجهة البيروقراطية، وإنما لتجاوز القانون، وبالتالي حظي الفساد بتواطؤ الجميع ورضاهم، الفاسد والمفسد.
الارتزاق: وفي ترجمتها السورية تحويل المواقف إلى سلع لها ثمن مقابل، ولا يوجد شيء مجاني.
الاستزلام: لكل مواطن سوري "زلمة" واصل في السلطة، أو يتبع "زلمة"، وكلما كان هذا الـ"زلمة" صاحب منصب كبير، فإن تابعه/ توابعه، يكونون ذوي شأن وأهمية، وقد يكون هذا الـ "زلمة" فرّاشا في مكتب أحد المسؤولين، أو يكون برتبة مساعد في مخفر شرطة، وربما يكون عضو مجلس شعب، أو ضابط مخابرات، أو حتى وزيرا، ومن ليس له "زلمة" فهو مكشوف للمخاطر. ووصل الأمر إلى حد أن وجود "الزلمة" ضروري لبرستيج الشخص، وجزءٌ من الثروة أو الرأسمال الرمزي.
لكن هذا السلوك السياسي الذي اتّبعه حافظ الأسد كانت له نتائج خطيرة على السوريين، أسهمت بدرجة كبيرة في حالة التخلف والانحطاط التي وصل إليها السوريون، ومن نتائجها طمس الشخصية السورية، وحرمانها من الإبداع والتميّز، شأن كل المجتمعات التي تعيش في ظل سلطات ديكتاتورية. ولذلك كانت سورية أقل دول المنطقة إنتاجاً للمبدعين والمثقفين المتميّزين، ما عدا استثناءات بسيطة لأشخاصٍ عاشوا وتعلموا في الخارج.
من يتابع سلوك المعارضة السورية اليوم لن يصعب عليه اكتشاف مدى تجذّر قيم حافظ الأسد في سلوكها. ولعل الصراعات الناشبة بين شرائح هذه المعارضة وفئاتها، وأسلوب الشللية والارتزاق والمناطقية، خير دليل على هذه الحقيقة، وكذلك ظاهرة الاستزلام، حيث يستطيع المرء معرفة إلى أي "زلمة" يتبع هذا المثقف أو ذاك، خصوصا بعد أن تحوّل جزء من مثقفي المعارضة وسياسييها إلى أزلام، صنعتهم أطرافٌ خارجية، وبات هناك حاجة لوجود مستزلمين.
غير أن أخطر صفة استنسخها المعارضون السوريون من الحكم الأسدي العطالة وقلة الفاعلية. وعلى الرغم من حصول قيادات المعارضة على أموال طائلة من دول الخليج، إلا أنهم لم يستطيعوا تأسيس إطار سياسي حقيقي يستثمر طاقة السوريين. هل يستطيع أحد تفسير عدم استثمار ملايين السوريين في تركيا وأوروبا لإيجاد لوبيات سورية تؤثر على صناع القرار في هذه الدول؟ ولماذا عجز السوريون عن إنتاج إعلام مؤثر وقادر على الوصول إلى الرأي العام العالمي، على الرغم من أن الدعم المالي الذي حصل عليه السوريون في هذا المجال كان كبيراً؟ وهل يستطيع أحدٌ تفسير سبب استسهال روسيا تشويه صورة السوريين إلى حدّ وصفهم بالبرابرة والهمج، من دون الخوف حتى من مجرد الرد إعلامياً على ذلك؟
على الرغم من كل المآسي التي تحيط بالسوريين، يجد مثقفو المعارضة الوقت وهناءة البال ليتصارعوا على قضايا تافهة. وقبلهم كانت فصائل المعارضة تتقاتل فيما بينها على الأرض، وطائرات روسيا تقصفها من السماء. وليس لهذا سوى معنى واحد، أن حافظ الأسد مقيمٌ داخل كل فردٍ منا، أو كما قال رئيس مجلس الشعب السابق في تأبينه حافظ الأسد: لقد صنعت لنا منهجاً وسنبقى ملتزمين به.. ألم يقل أحد المؤبنين: فقدناك شعباً فقدناك وطنأً فقدناك أمة؟ فنم قرير العين يا حافظ، على دربك سائرون.
بدا واضحا أنّ الفجوة بين الأتراك والرّوس حول مستقبل إدلب لن تردم بما يرضي الطرفين، حيث لم يستطيعا في قمّة طهران إخفاء خلافاتهما حول الموضوع. فقد أعلن الرّئيس الرّوسي صراحةً رفضه اقتراح الرّئيس التّركي أردوغان بعقد هدنة جديدة، بل ودَعا من أسماهم "المسلحين" لإلقاء السّلاح، وأكّدَ في الوقت ذاته أحقيّة الحكومة السّوريّة (نظام الأسد) بالسّيطرة على كافّة أراضي البلاد، بما فيها إدلب. وفهم كثيرون رفض بوتين للهدنة على أنّه بدء لساعة الصّفر، وقرع لطبول الحرب ضدّ إدلب، واستمرار لسيناريو روسيا في نقض اتفاقات مناطق خفض التّصعيد، كما حصل في الغوطة وريف حمص ودرعا.
يبدو هذا الكلام مقبولا لو أنّ الطّبيعة العسكريّة والسّياسيّة والجغرافيّة في مناطق خفض التّصعيد الأخرى تشبه إدلب.
فالقوّة العسكريّة الموجودة في إدلب غير موجودة في بقيّة المناطق، سواء من حيث عدد المقاتلين أو السّلاح، فضلا عن بعد مسرح العمليّات العسكريّة في إدلب عن إسرائيل التي ضغطت على أمريكا لمنع قيام معارك في الجنوب، ما شكّل عامل ضغط على فصائل الجنوب. كما أنّ الدّور التّركي كان هامشيّا في مناطق خفض التّصعيد الأخرى، إذ لا يملك الأتراك حدوداً مع درعا والغوطة خلافا لإدلب، فلا يُلام الأتراك في ملفي الغوطة ودرعا، بينما تتحمل جزءا من المسؤوليّة في إدلب التي تعد أمانةً في عنق الأتراك، وهذا ما يفسّر إرسال تركيا لتعزيزات عسكريّة عقب قمّة طهران التي رفضت الهدنة.
وثمّة أسباب تتعلّق بالرّوس ومصالحهم تحول دون انطلاقهم بعمليّة عسكريّة في إدلب، فالتّدخل العسكري الرّوسي بلغ النّهاية من النّاحية الاستراتيجيّة، ولن يضيف احتلال إدلب -لو تمّ- مكسبا جديدا لروسيا التي ستجد نفسها عاجزة تماما أمام الأمريكان، وهذا موقف لا يريد الرّوس حصوله، فأحقيّة النّظام السّوري في السّيطرة على كافّة الأراضي سيصيبها الشّلل عند الحدود التي رسمها الأمريكان للروس، حيث لن يستطيع الرّوس إطلاق رصاصة واحدة صوب المناطق الشرقيّة الواقعة تحت الحماية الأمريكيّة، كما يخشى الرّوس أن تكون إدلب الثّقب الأسود لكل استثماراتهم في سوريا، فالتّدخل الرّوسي اليوم يتجاوز عامه الثّالث بعد أن كان مقدّرا له ثلاثة شهور.
كما قد يؤدي الهجوم الرّوسي على إدلب لخسارة روسيا تركيا؛ التي لن تكون مسرورة تجاه أي حراك عسكري، إذ تعدّ تركيا إدلب جزءا من أمنها القومي، فضلا عن الاعتبارات الأخلاقيّة. فقد أوضح الرّئيس التّركي أنّ مستقبل إدلب لا يتعلّق بمستقبل سوريا بل بمستقبل تركيا أيضاً، وذهب الرّئيس التركي أبعد من ذلك عندما أكّد أنّ تركيا لن تقف موقف المتفرّج إذا تجاهل العالم قتل آلاف الأبرياء. ويلمس المتابع للتحركات العسكريّة التّركيّة جديّة موقفها، وهذا سيُوقع الرّوس لاحقاً في ورطة مع إيران، حيث ستزداد الضّغوط على روسيا لإخراجها ومليشياتها من سوريا، هذا إن استطاعت بدايةً حسم معركة إدلب، وهذا حسم مشكوك فيه.
ويدرك الرّوس جيّدا أنّ ابتعاد تركيا عنها سيؤدي مباشرةً لتحسّن العلاقات التّركيّة الأمريكيّة، ولا يستبعد هنا أن تكون إدلب أفغانستان جديدة؛ وتركيا باكستان جديدة.
وهنا يبرز السؤال التّالي: لماذا رفض الرّوس مقترح الهدنة التّركي؛ ما دام الهجوم العسكري مستبعداً ولا يصبّ في مصلحتهم على الأقل في المدى المنظور؟
يهدف الرّوس من رفضهم الهدنة ونبرتهم الهجوميّة؛ لابتزاز الجميع، فالرّوس يدركون عجزهم عن إعمار سوريا، فضلاً عن عجزهم تحقيق الحلّ السّياسي دون مساعدة الغرب الذي ما زال مصرّا على حل سياسي حقيقي قبل الإعمار، والتهديد بهجوم إدلب يعني إغراق أوروبا بمئات الآلاف وربما ملايين اللاجئين.
وفي الوقت عينه يريد الرّوس استمالة تركيا أكثر لجانبهم، وهذا حاصل ما دام التّعاون قائما في سوريا، لا سيما في ظل حاجة الأتراك لروسيا. وهذا ما يدفعنا للاعتقاد أنّ الرّوس لن يرتكبوا حماقة عسكريّة في إدلب تجعلهم يغوصون أكثر في المستنقع السّوري، فهل يحصل الرّوس من رفض الهدنة على طوق النجاة؟ هذا ما يعتقده الرّوس الذين وجدوا أنفسهم بين نار المتابعة ونار انتظار ما يريده الآخرون، وكلاهما يعني البقاء في المستنقع إلى حين.
في الوقت الحالي تبدو إدلب وكأنها إحدى الخطوات النهائية في إطار الحرب السورية، ولكن في الواقع لا يمكن القول إنها المرحلة الأخيرة لهذه الحرب، نعم إدلب هي المنطقة الأخيرة من بين المناطق التي تتقاسمها القوى المتدخّلة في الساحة السورية، ولكن يجب أن لا ننظر إلى الحرب الداخلية السورية على أنها مرحلة على المدى القصير، لأن تقسيم المناطق لا يعني نهاية الحرب وبدء المفاوضات من أجل تحقيق السلام بشكل سريع، كما ذكرت مسبقاً أصبحت سوريا أشبه بمتاهة كبيرة، والخروج من هذه المتاهة ليس بالأمر السهل، بل أصبح الأمر يزداد تعقيداً يوماً تلو الآخر.
قد تكون إدلب إحدى فترات هذه المرحلة، ولكن لن تكون نهاية المرحلة أبداً، إذ أدت مواقف أمريكا إلى مواجهة طرق مسدودة داخل المتاهة السورية، وقد توضّح أن هذه الطرق ستصبح مسدودة منذ أن دافعت أمريكا ودول الغرب عن الاستبداد بدلاً من الديمقراطية في سوريا، وكذلك عندما تغاضت أمريكا عن التدخّلات الروسية لصالح الاستبداد الذي نشهده في سوريا.
كانت أمريكا تستطيع الضغط من أجل الوصول إلى حل لصالح طرفها من خلال دفع الأسد للرحيل وتنصيب شخص آخر قريب للأسد أو معارض له ليؤسس حكومة جديدة، وبذلك كانت روسيا ستضطر للاكتفاء بالمشاهدة من بعيد، لكن أمريكا لم تفعل ذلك، بل دعمت هذه المتاهة وأدت إلى زيادة الطرق المسدودة، وعندما تدخّلت روسيا في مجرى الأحداث انتقلت الحرب السورية إلى منحى مختلف تماماً عن السابق.
عند دخول أي دولة تملك قوة نووية إلى دولة أخرى يُصبح إخراجها أمراً صعباً مهما كان مدى القوة الاقتصادية والعسكرية للدولة المدخول إليها، وخصوصاً إذا كانت الدولة المتدخّلة دولةً ذات قوة نووية ضخمة وقدرة عسكرية عالية مثل روسيا، عندها تُصبح استراتيجية أمريكا التي تعتمد على الضغط لصالح طرف واحد مستحيلة وغير نافعة ولن تحقق نتائج ملموسة.
منذ دخول الجيش الروسي إلى الساحة السورية أصبحت روسيا تملك الفرصة لتكون جزءاً من جميع أنواع المفاوضات والمباحثات لإيجاد حل للقضية السورية، وكذلك أخذت إيران وتركيا وأمريكا موقعها في المنطقة أيضاً، وبذلك تشّكلت أجواء تعيق مهاجمة أي قوة لقوة أخرى، وفي هذا السياق تزعم بعض الجهات المؤيدة لروسيا أن الأخيرة تستطيع إجبار تركيا على الانسحاب من المناطق التي سيطرت عليها القوات المسلّحة التركية من خلال عمليات درع الفرات وغصن الزيتون، لكن هذه المزاعم ليست واقعية، إذ يمكن لروسيا أن تهاجم تركيا في الساحة السورية عن طريق الغلط فقط، لكن ليس هناك أي احتمال يدور حول مهاجمة روسيا لتركيا بشكل مقصود، ويتوضّح ذلك من خلال النظر إلى مسار المفاوضات التي تجري بين الدولتين التركية-الروسية فيما يتعلّق بمدينة إدلب.
تحاول روسيا وشركائها الضغط من أجل تنفيذ عملية عسكرية في إدلب، لكن لا أحد ينظر إلى هذه المسألة على أنها المرحلة الأخطر أو الأهم في الخصوص السوري، لأن روسيا لن ترغب في خسارة كل ما اكتسبته منذ البداية إلى الآن فقط من أجل تنفيذ عملية عسكرية في إدلب، من جهة أخرى قد تكون إيران أكثر جرأة من روسيا في الصدد ذاته، ولكن نظراً إلى ارتباط إيران بروسيا بشكل كبير يمكن القول إنّ العامل المحدد في هذه النقطة هي القيمة التي يعطيها الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين" لشروط مرحلة أستانة، وفي هذا السياق يمكن لتركيا أن تُظهر لباقي القوى أن التدخّل العسكري في إدلب قد يؤدي لخسارة دعم وصداقة تركيا بشكل نهائي، ولكي تكتسب هذه المسألة جديّة أكبر يجب على أمريكا والدول الأوروبية أن تدخل في الساحة بشكل أبرز، لكن مع الأسف لم تُظهر هذه الدول الاهتمام المفروض للمسألة، لذلك يجب على تركيا أن تكون مستعدّة لجميع الاحتمالات خلال المراحل المقبلة، كما يمكن للأخيرة أن توضّح أنها قد تبادر بتدخّل إنساني والدخول إلى شمال إدلب في حال بدء العملية العسكرية على أرض الواقع.
نشرت صحيفة «الغارديان» البريطانية تقريراً لمارتن شلوف عن اللاجئين في إدلب الذين ينتظرون الهجوم عليهم ولا مكان للفرار.
وأكدت الصحيفة أن إدلب، الواقعة في شمال غربي سوريا، والمحاصرة من جميع الجهات، ويعيش فيها نحو 3 ملايين شخص، تتوقع هجوماً عسكرياً لا مفر منه على يد القوات الروسية التي تسعى لتحقيق النصر واستعادة آخر المعاقل الرئيسية للمسلحين. وأكد التقرير أن روسيا حشدت بوارجها الحربية في منطقة شرق المتوسط، وواكبت ذلك استعدادات لدول أخرى حول إدلب؛ إذ أرسل الجيش التركي قافلة مسلحة إلى العمق السوري، وتمركزت الميليشيات المدعومة من إيران في الجنوب، ووضع الجيش السوري على أهبة الاستعداد. وأردفت الصحيفة أن لجميعهم حصته في هذه المعركة التي ستكون الأخيرة لصراع هز بنية البلاد والذي قد ينتهي بإعادة ترسيم لحدود سوريا.
ما نشهده اليوم في سوريا هو سياسة روسية هجومية اتبعتها في سوريا منذ عام 2015، وانكفاء أميركي أمامها لم تشهده هذه الدولة منذ الحرب العالمية الثانية.
سوريا المنكوبة يُجرب في شعبها أحدث أساليب القتل والتهجير والتشريد والتجويع على مرأى ومسمع من كل دول العالم منذ عام 2011 حتى الآن، وما بقي من إنسانية، ومنظمات دولية عاجزة يستغيث بعضها ويصرخ بعضها الآخر ويتواطأ القليل منها.
لقد تدخل الروس في سوريا عام 2015 تحت ذريعة محاربة إرهاب «داعش»، وقد نسقت روسيا في البداية تدخلها مع الولايات المتحدة لتفادي أي مواجهات للمقاتلات العسكرية الروسية والأميركية.
من أهم أسباب تفاقم الأزمة السورية على مدى 7 سنوات، تدخل القوى الكبرى؛ وتحديداً روسيا والولايات المتحدة، حيث ألقى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ثقل روسيا وراء النظام، الذي بلغ مداه بالتدخل العسكري الشامل عام 2015.
التدخلات الروسية والأميركية في سوريا ليس الهدف منها محاربة الإرهاب كما يدّعون، فهم مدفوعون في المقام الأول بمصالحهم الذاتية وتنافسهم على القوة والنفوذ في المنطقة، فالرئيس بوتين مصمم على استعادة مكانة روسيا دولياً بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، وعلى مقاومة اعتبار أميركا والغرب أن روسيا ليست إلا قوة إقليمية.
واضح أن الدور الروسي في سوريا جعل منها قوة على نطاق الشرق الأوسط، وملأت الفراغ الذي تركته الولايات المتحدة تحت إدارة أوباما.
السؤال: لماذا تراجع دور أميركا والدول الغربية في المنطقة؟ هنالك أسباب كثيرة، لكن من أهمها تنامي الإرهاب في المنطقة الذي أسهم في تعميق أزمة النظام الديمقراطي الغربي، لأنه أتاح ذريعة لتفسير التراجع عن القيم الإنسانية الجوهرية التي لا تقوم لهذا النظام قائمة من دونها، فتخلت معظم الدول الغربية عن أهم المقومات الإنسانية للنموذج الديمقراطي عندما أغلقت حدودها أمام المهاجرين السوريين، وتخلت عن مواقف كانت تتبناها في شأن الأزمة السورية، وذلك في سلوك لا سابقة له في تاريخ الحروب الداخلية والحروب بالوكالة في العصر الحديث.
السؤال: لماذا كل هذا التدخل والتكالب العالمي على سوريا وشعبها، وما مدى تداعياته على جهود التسوية؟
تنبع أهمية سوريا من موقعها الجغرافي؛ حيث تحتل قلب المشرق العربي، وهي مجاورة لثلاث دول عربية؛ هي العراق ولبنان والأردن، ودولتين غير عربيتين هما تركيا وإسرائيل؛ اللتان تعدّان من أقوى دول المنطقة عسكرياً. بالنسبة لموسكو، تمثل سوريا حليفاً لها منذ الاتحاد السوفياتي السابق، حيث باشرت بكسر الاحتكار الغربي للتسليح في الشرق الأوسط. اليوم تتعاون موسكو مع كل من تركيا وإيران لدعم نظام بشار الأسد ومنع سقوطه وتأكيد استمراره في الحكم.
الولايات المتحدة تخلت عن مبادئها لعدم مقدرة النظام الديمقراطي على تجديد نفسه وتوسيع نطاق تفاعلاته لاستيعاب المستجدات الجديدة... كل ما يهم الولايات المتحدة تحت رئاسة ترمب هو حماية مصالحها ومصلحة إسرائيل وتوسع هيمنتها. الوضع في سوريا يزداد تعقيداً بعد تهديدات أميركا بالتدخل في حال استعمال الأسلحة البيولوجية في إدلب، ومزاحمتها النفوذ الروسي.
ما نتخوف منه هو استمرار المأساة السورية، والفشل في فرض تسوية سياسية، مما سيعود حتماً بأفغنة سوريا واستمرار الحرب... وزيادة مأساة الشعب السوري.
نشهد في الآونة الأخير تصاعدًا في الاقتتال الإقليمي، وبالتوازي معه مرحلة من اللامبالاة العالمية إزاء هذا الاقتتال. ولهذا يقف المجتمع الدولي غير عابئ بملايين النازحين من ديارهم، ومئات الآلاف من القتلى.
من الواضح عدم اكتراث الرأي العام العالمي إزاء دوامة الظلم والمجازر والاقتتال المستمرة في سوريا منذ عام 2011.
العالم الغربي فضل التعامي عن ديكتاتور يستخدم السلاح الكيميائي، خشية من أن يكون البديل الإسلام والمسلمين.
تغاضى العالم الغربي من أوروبا وحتى أمريكا عن جميع المجازر المرتكبة في سوريا، تحسبًا لتسلم معارضة مسلمة زمام الحكم.
تتصدر إدلب حاليًّا قائمة قضايا الساعة. إدلب مدينة صغيرة بدأت قوات النظام السوري ورسيا بقصفها شيئًا فشيئًا، وجراء القصف يسقط ضحايا بين المدنيين.
أضحت هذه المدينة التي أصبح عدد سكانها 3.5 مليون نسمة وتبعد عن تركيا 100 كم، ساحة مهيئة لارتكاب المجازر فيها.
تابعنا مباشرة القمة الثلاثية في طهران. دافع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بإصرار عن وقف إطلاق النار في مواجهة نظيريه الإيراني والروسي، لكن القمة انفضت عن حقيقة ظهرت مجددًا وهي أن تركيا هي المدافع الوحيد عن المظلومين والأبرياء.
أكد بيان القمة المكون من 12 مادة على أهمية مسار أستانة، ولفت إلى عزم البلدان الثلاثة على الوقوف في وجه الأجندات الانفصالية الرامية إلى إضعاف بلدان الجوار بحجة مكافحة الإرهاب.
وجدد البيان عزم البلدان الثلاثة على مواصلة الجهود المشتركة الرامية لدفع مسيرة التوصل إلى حل سياسي بقيادة الشعب السوري، وأكد على التعهدات بشأن المساعدة في إطلاق العمل على تشكيل لجنة صياغة الدستور.
وشدد البيان على أهمية مسألة المساعدات الإنسانية، وعلى فكرة عقد مؤتمر دولي بخصوص اللاجئين.
قمة طهران كانت هامة، لكننا رأينا كيف كانت الاستجابة إلى جهود تركيا الرامية إلى الحيلولة دون اقتران ذكر إدلب بمجزرة جديدة.
لكن بينما تسعى تركيا بكل طاقتها من أجل منع وقوع كارثة في إدلب، ماذا يفعل صناع القرار في العالم؟
تمامًا كما فعلوا منذ اندلاع الحرب السورية حتى اليوم.. يفشلون في اجتياز اختبار الضمير الإنساني..
ليحمي الله جميع الأبرياء من القصف العشوائي..