ننتصر عندما نهزم حافظ الأسد
علينا أن نعترف بأن تأثيرات حافظ الأسد لا تزال فاعلة ومؤثرة وصانعة لأفكارنا وموجهة لسلوكنا، ولم تستطع الثورة في سورية تشكيل قطوع ذات شأن مع ذلك البناء الفكري والسلوكي الذي صنعه، وبدا الأمر وكأنه اعتراضٌ على ضآلة حصصنا في توزيع الموارد والمناصب، وتضاربها مع توقعاتنا وتقديراتنا، من دون أن يعني ذلك رفضنا نمط الإدارة والحكم التي أوجدها حافظ الأسد.
لم يعد سرّاً أن السوريين أداروا الثورة، عسكريا وسياسيا وإعلامياً، من وحي تكتيكات حافظ الأسد وأساليبه، وهذا ما يفسّر وصول الأوضاع في سورية إلى طريق مسدود، بعد أقل من عامين على انطلاق الثورة، لتشابه التكتيكات والأساليب والأدوات، ذلك أن غالبية من تولوا إدارة فعاليات الثورة كانوا قد خدموا في مؤسسات الأسد وإداراته، سواء كانوا ضباطا في جيشه أو إعلاميين في منابره أو سياسين في الأحزاب التي سمح بوجودها، ولم ينج من هذه اللوثة حتى السجناء الذين قضوا سنواتٍ في مؤسسته العقابية.
لكن ما سر هذا التعلق والانشداد لفكر حافظ الأسد وأساليبه في إدارة السياسة؟ هل لأنه إستمر في الحكم سنوات طويلة، وبالتالي، فإن تأثيرات تلك السياسات طوت تحت جناحها أجيالا عديدة، دجّنتهم وسلبت منهم إمكانية التفكير المستقل والقدرة على صناعة أنماط فكرية وإدارية مختلفة؟ أم أن حافظ الأسد يعتبر صانع السياسة الحديثة في سورية، بغض النظر عن طبيعة هذه السياسة ومخرجاتها، باعتبار أن من سبقوه لم يتسنّ لهم الوقت، ولم تسمح لهم الظروف، لتنظيم المجال السياسي، ليأتي حافظ الأسد، ويشكّل هذا المجال على هواه ومقاسات مصالحه، وبذلك يكون قد أوجد أطراً وأقفاصا سياسية لم يستطع العقل السياسي السوري تجاوزها حتى اللحظة؟
وحتى لا يبدو أنه يتم هنا أخذ الأمور باتجاه اتهاميّ استباقي، في وقت نبحث فيه عن تفسير لظاهرة استمرار تأثيرات حافظ الأسد السياسية ودوامها، وبالتالي نحرم أنفسنا من إمكانية الوصول إلى إجابة منطقية، وتفسير حقيقي، لهذه الظاهرة، فلا بد من تسليط الضوء على كامل المشهد، عبر طرح الأسئلة: هل ناسبت سياسات حافظ الأسد السوريين، وجاءت متوافقة مع طبيعة تفكيرهم وسلوكهم وإستجاباتهم؟ هل أحبّ السوريون هذا النمط من السياسات، بحيث لا يجدون ضرورة لمغادرة شيء أحبّوه؟ هل حافظ الأسد هو الذي تأثر بالسوريين، وعبقريته أنه صنع المجال السياسي السوري بما يتطابق مع المواصفات والشروط التي يحبّذها السوريون أنفسهم؟
ارتكز حافظ الأسد على جملة من العناصر، شكلت البنية الأساسية لهياكل سلوكه في سياساته الداخلية:
المناطقية والطائفية: حيث يتم تعريف السوري بمنطقته، وهذه تتضمّن انتماءه الطائفي، فلا حاجة لإعلان السوري عن طائفته أو مذهبه، لأن انتماءه المناطقي يكشف بوضوح عن طائفته. وعلى هذا الأساس يتم التعاطي مع الشخص في دوائر السلطة، ويجري تفضيل ابن المنطقة عن سواه في مختلف التعاملات.
الفساد: أصبح الفساد في سورية حلاً سهلاَ، ليس فقط في مواجهة البيروقراطية، وإنما لتجاوز القانون، وبالتالي حظي الفساد بتواطؤ الجميع ورضاهم، الفاسد والمفسد.
الارتزاق: وفي ترجمتها السورية تحويل المواقف إلى سلع لها ثمن مقابل، ولا يوجد شيء مجاني.
الاستزلام: لكل مواطن سوري "زلمة" واصل في السلطة، أو يتبع "زلمة"، وكلما كان هذا الـ"زلمة" صاحب منصب كبير، فإن تابعه/ توابعه، يكونون ذوي شأن وأهمية، وقد يكون هذا الـ "زلمة" فرّاشا في مكتب أحد المسؤولين، أو يكون برتبة مساعد في مخفر شرطة، وربما يكون عضو مجلس شعب، أو ضابط مخابرات، أو حتى وزيرا، ومن ليس له "زلمة" فهو مكشوف للمخاطر. ووصل الأمر إلى حد أن وجود "الزلمة" ضروري لبرستيج الشخص، وجزءٌ من الثروة أو الرأسمال الرمزي.
لكن هذا السلوك السياسي الذي اتّبعه حافظ الأسد كانت له نتائج خطيرة على السوريين، أسهمت بدرجة كبيرة في حالة التخلف والانحطاط التي وصل إليها السوريون، ومن نتائجها طمس الشخصية السورية، وحرمانها من الإبداع والتميّز، شأن كل المجتمعات التي تعيش في ظل سلطات ديكتاتورية. ولذلك كانت سورية أقل دول المنطقة إنتاجاً للمبدعين والمثقفين المتميّزين، ما عدا استثناءات بسيطة لأشخاصٍ عاشوا وتعلموا في الخارج.
من يتابع سلوك المعارضة السورية اليوم لن يصعب عليه اكتشاف مدى تجذّر قيم حافظ الأسد في سلوكها. ولعل الصراعات الناشبة بين شرائح هذه المعارضة وفئاتها، وأسلوب الشللية والارتزاق والمناطقية، خير دليل على هذه الحقيقة، وكذلك ظاهرة الاستزلام، حيث يستطيع المرء معرفة إلى أي "زلمة" يتبع هذا المثقف أو ذاك، خصوصا بعد أن تحوّل جزء من مثقفي المعارضة وسياسييها إلى أزلام، صنعتهم أطرافٌ خارجية، وبات هناك حاجة لوجود مستزلمين.
غير أن أخطر صفة استنسخها المعارضون السوريون من الحكم الأسدي العطالة وقلة الفاعلية. وعلى الرغم من حصول قيادات المعارضة على أموال طائلة من دول الخليج، إلا أنهم لم يستطيعوا تأسيس إطار سياسي حقيقي يستثمر طاقة السوريين. هل يستطيع أحد تفسير عدم استثمار ملايين السوريين في تركيا وأوروبا لإيجاد لوبيات سورية تؤثر على صناع القرار في هذه الدول؟ ولماذا عجز السوريون عن إنتاج إعلام مؤثر وقادر على الوصول إلى الرأي العام العالمي، على الرغم من أن الدعم المالي الذي حصل عليه السوريون في هذا المجال كان كبيراً؟ وهل يستطيع أحدٌ تفسير سبب استسهال روسيا تشويه صورة السوريين إلى حدّ وصفهم بالبرابرة والهمج، من دون الخوف حتى من مجرد الرد إعلامياً على ذلك؟
على الرغم من كل المآسي التي تحيط بالسوريين، يجد مثقفو المعارضة الوقت وهناءة البال ليتصارعوا على قضايا تافهة. وقبلهم كانت فصائل المعارضة تتقاتل فيما بينها على الأرض، وطائرات روسيا تقصفها من السماء. وليس لهذا سوى معنى واحد، أن حافظ الأسد مقيمٌ داخل كل فردٍ منا، أو كما قال رئيس مجلس الشعب السابق في تأبينه حافظ الأسد: لقد صنعت لنا منهجاً وسنبقى ملتزمين به.. ألم يقل أحد المؤبنين: فقدناك شعباً فقدناك وطنأً فقدناك أمة؟ فنم قرير العين يا حافظ، على دربك سائرون.