في مقابلة إذاعية قبل يومين، قال وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان إن "الأسد كسب الحرب لكنه لم يفز بالسلام". بدت العبارة وكأنها التماس ذريعة أمام الرأي العام الغربي لا أكثر، بيد أنها خاطئة من مختلف وجوهها.
فالنظر من زاوية الأسد فقط إلى الحرب السورية برمتها وقراءة النتائج بالنسبة له فحسب قد لا يكون واقعيًّا. المتحكم الرئيسي بالعملية العسكرية والسياسية في سوريا هو بوتين، مع شريك صغير هو إيران.
وبالتالي، من الطبيعي أن يكون من المفيد أكثر النظر إلى التطورات العسكرية والسياسية من جهة بوتين للوصول إلى إجابة عن سؤال "من المنتصر في الحرب السورية؟".
مع وصول بوتين إلى السلطة بدأت روسيا، التي فقدت الكثير من هيبتها لصالح الغرب، بحملة مضادة في منطقة واسعة. وكانت أولى المبادرات استخدام القوة في جورجيا.
لاحقًا، اشعلت روسيا فتيل الأزمة الأوكرانية، وضمت القرم إلى أراضيها. اختبر بوتين قوته وقدراته واستراتيجيته من جهة، ووضع خصومه من جهة أخرى. وفي النهاية كرّس تركيزه لسوريا.
كان تركيز بوتين منصبًّا على تحقيق نتائج من شأنها إحباط آمال الغرب، أكثر منها ضمان مستقبل الأسد في سوريا. وبحسب روسيا فإن الغرب، وفي طليعته الولايات المتحدة، استغل الثورات الملونة والربيع العربي بـ "أسلوب رخيص"، من أجل توسيع ونشر نفوذه وإيديولوجيته.
مع مرور الوقت تغيرت التوازنات. حدثت تطورات سياسية وعسكرية غير منتظرة أثارت صراع مصالح بين الحلفاء الغربيين، وصعّدت التوتر السياسي تمامًا كما حدث في الأزمة التركية الأمريكية.
مخرجات الحرب في سوريا جاءت لصالح روسيا وإيران أكثر من النظام، ولهذا فإن المنتصر في سوريا هو بوتين وليس الأسد.
الوزير الفرنسي أخطأ في ناحية ثانية. نجاح مكافحة الثورة والحرب الداخلية والإرهاب عسكريًّا وسياسيًّا لا يمكن قياسه بمعايير الحرب التقليدية. المهم هنا هو جعل الكلفة مقبولة والقدرة على إدارة الحرب.
لا يمكننا الحديث عن مشهد يمكن أن يثير قلق روسيا، التي خبرت الحرب المدمرة في سوريا وتمتلك ثقافة لا تعير اهتمامًا لسقوط ضحايا مدنيين.
الناحية الثالثة التي أخطأ الوزير الفرنسي بتقديرها هي افتراضه أن روسيا لن تستطيع توفير التمويل اللازم لتحقيق السلام، وأنها ستكون بحاجة للغرب.
في الحقيقة، سوريا، التي دمرتها الحرب وتمثل أزمة إنسانية وأمنية، هي مشكلة أكبر بالنسبة لأوروبا من روسيا، وذلك لأسباب ثقافية وجيوسياسية. فروسيا لا يهمها "السلام الدائم" الذي تحدث عنه لودريان.
هناك حقيقة وهي أن الأسد بحاجة إلى مدة قصيرة من أجل تحقيق النصر العسكري بمساعدة من روسيا، وطويلة من أجل تحقيق السلام الدائم. لكن النظر إلى الصراع السياسي والعسكري والنفسي متعدد الأطراف من منظور الأسد فحسب ليس واقعيًّا تمامًا.
تقف إدلب في هذه اللحظة التاريخية من حياة الأمة شاهدة على الأوضاع التي وصل إليها حالنا من تشتت وتفرق وهوان، حين انكسر عمود خيمتنا، وهبّت عواصف الصحراء الهوجاء تعمي العيون فتفقدها البصر والبصيرة، وتغوص أقدامنا في رمالها المتحركة وكلما، تحركنا للنجاة منها غرقنا أكثر وأكثر. لم نفهم طبيعة الصراع معها كما ينبغي حتى ننقذ أنفسنا منها بدلا من أن تهلكنا.
إدلب هي آخر المعاقل التي تقع تحت سيطرة المعارضة السورية بتشكيلاتها المختلفة، وبسقوطها - لا قدّر الله - تسقط الثورة السورية بمنطق الجغرافيا لا منطق الحق في أيدي نظام بشّار الأسد وأسياده في الكرملين وطهران.
والمعركة التي يقرع طبولها الآن من الجميع تلخص لك سبع سنين عجاف من تاريخ الثورة السورية قتل فيها نحو مليون مواطن سوري على يد النظام وحلفائه، وشرّد وهجّر الملايين (12 مليون سوري) في أصقاع الأرض المختلفة، واعتقل وعذّب مئات الألوف من الأبرياء في مآس يندى لها جبين البشرية، وسط ضوء أخضر مخزٍ من دول الغرب المحتل السابق والحالي لأوطاننا، ومعاونة من دول الشرق العربي بالمال والسلاح والشجب والإدانة التي لا تغني ولا تسمن من جوع، وأحيانا الصمت المخزي على ضياع الأرض والعرض في سوريا.
المبعوث الأممي إلى سوريا ستافان دي ميستورا كان واضحا بوقاحة هذه المرة، ممهدا الطريق أمام الهجوم على إدلب، عندما أعلن نهاية شهر آب/ أغسطس المنصرم أنّ هناك "حوالي 10 آلاف مقاتل في إدلب من القاعدة والنصرة، الذين لا يشكك أحد في أنهم إرهابيون تتعيّن هزيمتهم"، على حدّ قوله، وهو ما يفهم منه أنه ضوء أخضر أممي للنظام والروس ببدء معركة إدلب وارتكاب حمّام للدماء فيها بحقّ أربعة ملايين مواطن من المدنيين، وهو ما يكشف حقيقة تحيزات هذه المنظمات الدولية خاصة السياسية منها، وأنها في الحقيقة ليست سوى ذراع في يد أمريكا وحلفائها.
الكارثة الأسوأ التي تحدّث بها دي ميستورا؛ عندما أكّد أنّ النصرة والقاعدة يمتلكون أسلحة كيماوية وأنهم قد يستخدمونها في معركة إدلب، وهو ضوء أخضر غير مباشر كذلك للنظام للاستخدام السلاح الكيماوي ضدّ المدنيّين، وبعد وقوع الكارثة سهل حينها إلقاء المسؤولية على فصائل المعارضة وأنها من استخدمت هذه الأسلحة.
وبناء عليه، فإنه يبدو دي ميستورا الناطق غير الرسمي للإدارة الأمريكية، وكأنّه يمهد للمعركة استعدادا لتصفية ملف الثورة السورية والبدء في حلب بقصة إعادة الأعمار على أشلاء ملايين السوريين، وهو ما يجعل عقلية "رجل الأعمال" التي يتعامل بها ترامب مع الأزمة السورية أشبه بـ"صفقة قرن" جديدة، لكن هذه المرة في الملف السوري.
على الجانب الآخر تبدو روسيا أكثر نهماً لتصفية القضية السورية بالقضاء على المعارضة في إدلب، حتى يتسنّى لها تأسيس نفوذ مستقر ودائم على الأراضي السورية، خصوصا أنّها وقّعت في السابق مع النظام السوري، في 26 آب/ أغسطس 2015، اتفاقا يعطي الحق للقوات الروسية باستخدام قاعدة حميميم في كل وقت من دون مقابل ولأجل غير مسمى!!
وتكرر الأمر في 18 كانون الثاني/ يناير 2017 بتوقيع اتفاقية تقضي ببقاء القاعدة الروسية في مدينة طرطوس السورية لمدة 49 عاما قابلة للتمديد، وتحديثها وتوسعتها لاستيعاب حاملات الطائرات والغواصات النووية!!
وعليه، فإنها تسعى روسيا للانتقال إلى خطوتها التالية في سوريا عبر تأمين وجود سياسي واقتصادي دائمين لها، إلى جانب الوجود العسكري، ما يجعلها أكثر شراهة لدخول معركة إدلب والقضاء على المعارضة فيها، حتى تتفرغ لعملية إعادة الأعمار التي تبني عليها آمالا كبيرة لتحسين أوضاعها الاقتصادية المتدهورة، فضلا عن حضور قوي ودائم في قلب الشرق الأوسط وفي نقاطه الساخنة، واستعادة شيء من ظلال إمبراطوريتها السوفييتية.
من ناحية أخرى، تعتبر إدلب الملجأ الأساسي لعملية التهجير القسري المتعمد من كافة أنحاء سوريا إليها، وضمّت الهجرات إليها مدنيين وعسكريين ومنتمين لمجموعات مصنفة دوليا كمنظمات إرهابية.
ونتيجة للنمو السكاني المفاجئ فيها بسبب النزوح المتواصل إليها، فقد تدهورت الحياة في المدينة سريعا، اقتصاديا وخدميا، فضلا عن صراعات الفصائل العسكرية المختلفة على السيطرة والنفوذ داخلها، واستهدافها بالقصف المستمر من قبل النظام والروس، كل هذا جعل أكثر من 90 في المئة من سكان المدينة تحت خط الفقر، مع ما يقل عن 40 دولارا شهريا.
بهذه الخلفية تستعد إدلب المنهكة والمثخنة بالجراح لمعركة مصيرية، ليس في الصراع مع النظام وحلفائه فحسب، ولكن حتى في الجانب الأخلاقي والإنساني، لما يتوقع من استخدام الروس والنظام لسياسة الأرض المحروقة مع المدينة وسكّانها لغلق ملف الصراع العسكري في سوريا، كما يأملون.
الأتراك من جانبهم يعززون تواجدهم عسكريا في شمال إدلب ومحيطها، خصوصا بعد فشل المفاوضات مع جبهة تحرير الشام كي تقوم بحلّ نفسها لتفويت الفرصة على الروس والنظام؛ الذين يبررون هجومهم على إدلب بالقضاء على الجبهة التي يصفونها بالإرهابية، حيث طلب الأتراك من الروس فرصة حتى الرابع من أيلول/ سبتمبر لإقناع الجبهة بحلّ نفسها، في حين ترى فصائل من المعارضة أن المفاوضات مع النظام لن تؤدي إلى شيء، كما حدث سابقا، وأنها فرصة يستغلها الروس للاستعداد للمعركة وكسب مزيد من الوقت.
وهذا ما يجعلنا أمام كارثة إنسانية بحق بسبب هذا الخلاف، فالأتراك أعلنوا الجبهة منظمة إرهابية، وهو ما يعني احتمالية وقوع صدام عسكري بينهما رغم وجود تفاهمات وتنسيق كبير بينهما قبل ذلك، كما أنّ الجبهة تسيطر فعليا على معظم أنحاء إدلب، ما يعني معركة على نطاق واسع يخسر فيها الجميع ويكسب النظام وحلفاؤه، وبالتالي نصبح أمام المعضلة الآتية: هجوم منتظر للنظام والروس على المحافظة، وفصائل منقسمة على نفسها، جزء منها موالٍ للأتراك، وآخر رافض لها، وثالث ينسّق أمريكيا.
وهنا نصل إلى النتيجة الحتمية التي نسير إليها، وهي الحرب. فلا تنازلات حقيقية بين الأطراف ولا ثقة بينهم لتقديمها، وعليه سيعتمد حسم مصير إدلب على صوت البندقية، ونصبح أمام مأساة إنسانية على وشك الحدوث نتيجة حالة الضعف والتشرذم التي تحياها الأمة. اللهم إنّا نسألك السلامة والأمن لأهلنا في إدلب وسوريا.
منذ سقوط حلب نهاية العام 2016 ومناطق سيطرة المعارضة السورية في شرق البلاد وغربها ومن شمالها إلى جنوبها، تنتظر دورها إلى ذات المصير، وسط مشهد يطغى عليه طابع الاستسلام أو الرضوخ تحت وطأة الضغوط الدولية والإقليمية. في المقابل بدأ نظام الأسد يتقدمه الروس ومعهم الإيرانيون، أكثر جدية وسعيًا للوصول إلى كافة المناطق السورية الخارجة عن سيطرتهم، مستغلين بذلك موقف المعارضة الضعيف، وانكماش الولايات المتحدة وحلفائها من المشهد السوري، حتى الوصول إلى خطة "أستانا" التي كانت الطريقة المُثلى لخداع الفصائل السورية وتطويع الأتراك للوصول إلى تصفية للقضية السورية أو حلّ لها لصالح النظام.
كان مبدأ "أستانا" واضحًا لدى الروس، وهو تقسيم المناطق "المحررة" إلى إرهابية وغير إرهابية، واستدراجها -جميعًا- إلى المصير نفسه واحدة تلو الأخرى، فلا الغوطة سلِمت ولا ريف حمص الشمالي ولا درعا، وجميعها كانت تصنف على أن من فيها مسلّحين معارضين وليسوا إرهابيين -ليس بينهم عناصر من "النصرة" أو "داعش"-، وبالتالي يخضعون لاتفاق "خفض التصعيد". وبعد أن خسرت المعارضة جلّ مناطقها، تتجه أنظار السوريين إلى آخر حصونها "إدلب"، النظام يحشد إعلاميًا وعسكريًا، وتتفق موسكو وطهران معه بالتأكيد على أن الحسم في المدينة لا بدّ منه.
إذ صرح وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف أن "الوضع القائم في إدلب لم يعد يحتمل ومن المستحيل إبقاء الحال على ما هو عليه"، وذلك بزعم أن "نظام وقف إطلاق النار في سوريا يتم انتهاكه يوميا من قبل الإرهابيين"، وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف قال أيضًا إنه "يجب تطهير إدلب من المسلحين"، رابطًا إعادة إعمار سوريا وعودة اللاجئين والنازحين بسيطرة النظام على كل الأراضي السورية.
وبالرغم من هذه التصريحات فإن إدلب تمتلك خصوصية تزيد من التعقيد حول البتّ في مصيرها، أبرزها أن سياسة التهجير التي لجأ إليها النظام في المناطق التي سيطر عليها سابقًا، جعل منها خزانًا بشريًا لنحو أربعة ملايين مدني، ما يعني أن أي عمل عسكري قد يؤدي لكارثة إنسانية وموجات نزوح واسعة باتجاه مناطق أخرى، وبالرغم من تشديد الأتراك على خطورة هذه النتيجة، إلّا أن النظام السوري لم يتوانى سابقًا عن ارتكاب مجازر بشعة باستخدام صنوف الأسلحة، مستغلًا الضوء الضمنيّ الأخضر الذي منحه إيّاه المجتمع الدولي برعاية روسية، فما الذي سيمنعه من ارتكاب مجازر أخرى، لا سيما وأنه يعيش لذة "الربع ساعة الأخيرة قبل النصر"، كما قال وليد المعلم.
بالإضافة إلى ذلك، لدى إدلب خصوصية قربها من تركيا والاهتمام التركي منذ سيطرة المعارضة عليها بشؤونها المدنية والعسكرية، ما يجعل مصير المدينة مهما جدًا لدى أنقرة، التي تعتبر وصيّة عليها أيضًا ضمن اتفاق "أستانا"، لكن الأتراك اليوم وفي ظل خلافهم المتفاقم مع الأمريكيين وفرض التقارب مع الروس، لا يبدون قادرين على السير بعيدًا في ذات الاستراتيجية القديمة، حتى تصريحات وزير الخارجية جاويش أوغلو اقتصرت على التحذير من الكارثة الإنسانية المرتقبة حال حُسمت الأمور عسكريًا، وبعض التحليلات تشير إلى أن تركيا لن تمانع من عودة علاقاتها مع النظام في دمشق، شريطة الحصول على مكاسب سياسية لحلفائها المعارضين في أي حلٍّ سياسي منتظر، أو الإبقاء على بعضهم كوكلاء داخليين، عبر المجالس المدنية أو حتى الجسم العسكري.
الموقف الأمريكي الباهت اتضح في "تغريدة" ترامب بالتحذير من مهاجمة إدلب "بشكل متهوّر"، كما أن الرد العسكري -إن كان واردًا- سيكون مشروطًا بشن هجوم كيميائي، وطبيعة الرد لن تكون مغايرة لتلك التي تمت في نيسان الماضي، ببساطة الموقف الأمريكي الحقيقي يتضح بقرارات ترامب الأخيرة بوقف دعم فصائل المعارضة وإزالة الغطاء عنها، وجعل "قوات سوريا الديمقراطية" مشروع واشنطن في سوريا. ويعقد مشهد الحل في إدلب طبيعة الفصائل التي تسيطر عليها، والتي تندمج في جسمين، الأول هو "الجبهة الوطنية للتحرير" وعدد مقاتليه يقدر بـ 70 ألفًا، وتُعدُّ معظم فصائله من المعارضة المعتدلة، أي أنه من المتوقع أن تكون قابلية تطويعه لحل سياسي ممكنة، نظرًا لتفاهمهم مع الأتراك وما آلت إليه تجارب سابقة لفصائل قريبة في النهج كالجبهة الجنوبية مثلًا، ضمن سيناريوهات متشابهة وليست متطابقة.
أما "هيئة تحرير الشام" المصنفة لدى الأمم المتحدة "إرهابية" والتي يبلغ عدد مقالتيها حوالي 25 ألفًا، فإنها إن لم تقبل بالحل السياسي ستكون عرضة لجرّها إلى مصير مشابه لمصير تنظيم الدولة في الرقة، أو تعود إلى تموضع "تنظيم القاعدة" الطبيعي في تشكيل خلايا لشن هجمات في المناطق السورية. لن تتغيّر رغبة النظام في السيطرة على إدلب بأيّ ثمن، بل سيحاول الضامنون واللاعبون الاتفاق على تحديد طريقة للانتهاء من ملف المدينة، وعلى الأرجح ستكون الضغوط جميعها باتجاه الوصول إلى "حسم سياسي"، لا سيما وأنهم -تحديدًا الروس- في مراحل إعادة تأهيل النظام وإنعاشه وإعادة اللاجئين، ومن غير اللائق بالنسبة لهم أن تتم هذه المراحل بكثير من الدماء.
خبر خطير جاءنا أمس، من شبكة «فوكس نيوز» حول نقل طائرتين تابعتين للحرس الثوري الإيراني الى لبنان أسلحة ل«حزب الله» ولمصنع أسلحة إيراني. أهمية الخبر أن من نقله شبكة فوكس نيوز شبه الوحيدة التي تحظى بترحيب ورضا الرئيس دونالد ترامب، الذي ينهال على باقي وسائل الإعلام الأميركية بالشكاوى وبوصفها أنها أخبار كاذبة fake news. فما نقلته «فوكس نيوز» عن مصادر استخباراتية يعني أن إسرائيل التي تضرب يومياً أهدافاً إيرانية في سورية، قد تضرب أيضاً مواقع «حزب الله» وإيران في لبنان.
لا شك أن مثل هذا الخبر مقلق جداً، لأن تعرض مطار بيروت أو أي موقع آخر لضربة إسرائيلية مع الضوء الأخضر الأميركي سيكون كارثة جديدة على لبنان. وكتب مسوؤل سابق في «موساد» أن إسرائيل الآن ستغير نهجها مع «حزب الله» وتعتمد دفع حليفها ترامب الى المزيد من العقوبات على «حزب الله» ولبنان. وهذا يعني أن لبنان على أبواب مأساة اقتصادية إضافية جديدة قد تؤدي الى كارثة حقيقية. فاليوم، والحكومة لم تتشكل بعد، وحليف «حزب الله» المسيحي الرئيس ميشال عون وصهره الوزير جبران باسيل يضغطان على الرئيس المكلف تشكيل حكومة بشروطهما، وقد يكون من الأفضل أن يستمر الرئيس المكلف سعد الحريري بالتجاوب مع مطالب الآخرين، «القوات اللبنانية» و«الحزب التقدمي الاشتراكي»، لكي يحمي لبنان من عقوبات أو ضربة تستهدفه، بحجة أن الرئاسة والحكومة والديبلوماسية كلها تحت سيطرة «حزب الله». وهذا خطر كبير على لبنان، خصوصاً في ضوء مثل هذه المعلومات حول سيطرة «حزب الله» على مطار بيروت ومرفأها.
ما تقوم به إيران في المنطقة، في سورية والعراق واليمن والبحرين، وأينما كان، هو نتيجة حروب وأزمات أعطت طهران فرصة للتدخل في جميع هذه الأماكن. ومن يراهن على أن روسيا ستخرج إيران من سورية لا يعرف ماذا يقول. فإيران التي حاربت لحماية بشار الأسد وللبقاء في سورية والتي مولت حرب «حزب الله» في سورية، لن تغادر هذا البلد الذي أصبح بالنسبة إليها كما كان لبنان تحت الاحتلال السوري. لكن سورية الآن تحت سيطرة روسيا وإيران. وبقاء روسيا في سورية وامتلاكها قاعدة هناك مهمان جداً لها ولموقعها العالمي.
وإيران أيضاً مستفيدة من بقائها مسيطرة على الأرض السورية لأنها تهيمن من هناك على البلد وتشارك في اختيار الشعب لمستقبل بلده وتضع وكلاءها السوريين في سورية المستقبل تماماً كما فعلت سورية في لبنان خلال سنوات الاحتلال. والسؤال إذاً: الى أين يأخذ الحرس الثوري الإيراني هذه المنطقة التي يهيمن عليها عبر «حزب الله» وبشار الأسد ونوري المالكي. إن التحذير الأميركي لجميع أصدقاء أميركا في لبنان إزاء عدم تسليم «حزب الله» حقائب خدماتية مثل الصحة أو أي حقيبة مهمة أخرى هو جدي. فإدارة ترامب لن تترك مطار بيروت ومرفأها يتحولان الى مركز نقل أسلحة إيرانية لـ «حزب الله». كما أنها لن تساعد دولة يسيطر على مؤسساتها الحكومية «حزب الله». ورغبة هذا الحزب في الإسراع بتشكيل الحكومة سببها أن الحزب يطمح الى شرعية مؤسساتية بعد هيمنته العسكرية في البلد. لقد اختار الرئيس في إطار تسوية بين سعد الحريري وميشال عون. فعون حليف «حزب الله» وهو الذي اختاره رئيساً لأنه يعطيه تغطية مسيحية أكبر. وخطورة هذا الحلف أن قراءة ترامب وحليفه الإسرائيلي أن لبنان تحت سيطرة الثنائي «حزب الله» والتيار الوطني الحر، حزب عون، وأنهما مسوؤلان عن العقوبات التي قد تضاف على هذا البلد المسكين لبنان.
أما تشكيل الحكومة فإذا تم بشروط هذا الثنائي فالمشكلة ستكون أكبر، والأحداث في لبنان لن تكون مشجعة. لذا المطلوب من الرئيس المكلف أن يحاول قدر الإمكان عدم التنازل لكل ما يريدونه، وإلا فإن لبنان سيغرق. الأفضل للحريري الانتظار وعدم الاستسلام. فإذا قرر الرئيس اللبناني إقالته والإتيان بأي مرشح آخر فلن يحصل على أي تأييد غربي والمساعدات لن تصل... هذا إذا لم يتعرض لبنان لضربات إسرائيلية.
يبدو بأن ملف محافظة إدلب يزداد تعقيدا يوما بعد يوم، حيث بات يشغل حيزا كبيرا من التحركات السياسية والدبلوماسية للأطراف المنخرطة في الشأن السوري. وقد كنا في مقال سابق بعنوان "عن سيناريوهات إدلب.. هل ستحميها تركيا؟" قد تناولنا بالتحليل ما يمكن لتركيا فعله في إدلب. وقلنا بأن تركيا لا تملك حقيقة أوراقا قوية لتلعبها في هذه المحافظة سوى الورقة الإنسانية، وخاصة في ظل عدم التزام الروس والإيرانيين بتعهداتهما فيما يتعلق بمناطق خفض التصعيد الموقعة بين النظام السوري وفصائل المعارضة السورية بضمانة تركية روسية إيرانية.
وكنا قد توصلنا إلى نتيجة مفادها بأن مصير المحافظة بات أقرب إلى سيناريو العودة إلى سيطرة النظام السوري، إلا أن أسلوب استعادتها، من خلال عمل عسكري أو من خلال صفقات سياسية هو الموضوع الذي تجري عليه المفاوضات اليوم بين الأطراف الفاعلة وخاصة روسية وتركيا وإيران، بينما كانت الولايات المتحدة تراقب الوضع من القاطرة الخلفية.
إلا أن الولايات المتحدة عادت مرة أخرى لتتقدم صفوف الفعل الأمامية وتظهر اهتماما مفاجئا بموضوع إدلب. وقد تمت ترجمة هذا الاهتمام بالفعل من خلال تصريحات بعض المسؤولين الأمريكيين وعلى رأسهم وزير الخارجية مايكل بومبيو الذي غرد قبل عدة أيام قائلا: "تعتبر الولايات المتحدة هذه (الحملة) على إدلب تصعيدا للنزاع الخطير أصلا". وأضاف بومبيو في تغريدة ثانية أن "ثلاثة ملايين من السوريين الذين اضطروا إلى مغادرة ديارهم وموجودين حاليا في إدلب، سيعانون من هذا العدوان.. إنه ليس جيدا.. العالم يراقب الوضع".
غني عن القول بأن هذا الاهتمام الأمريكي المفاجئ في إدلب ليس لدواع إنسانية كما يتم إظهاره، بل يندرج في خانة الاستعمال الإنساني لخدمة وتمرير أهداف سياسية. وعلى الرغم من وجود بعض المصالح الأمريكية في خلط الأوراق في ملف إدلب، وعلى رأسها إعاقة أي حل سياسي قد يقرب بين موسكو وأنقرة، إلا أننا نعتقد بأن سر هذا الاهتمام المفاجئ يأتي من زاوية أخرى وتحديدا كأحد السناريوهات التي ربما يعدها ترامب للهروب إلى الأمام من مشاكله الداخلية على خلفية سلسلة الفضائح التي ضربت دائرته المقربة وبدأت تقترب منه شخصيا مما بات يهدده بالعزل من منصب الرئيس.
جاء الرد قويا على الموقف الأمريكي الجديد من الطرف الروسي حيث صرح وزير الخارجية سيرجي لافروف أن موسكو قد حذرت دول الغرب "بوضوح وصرامة" من خطورة "اللعب بالنار" من خلال دعم استفزازات كيميائية مفبركة في إدلب وعرقلة محاربة الإرهاب هناك.. وتبعا لذلك أطلقت روسيا مؤخرا مناورات عسكرية ضخمة قبالة سواحل المتوسط لاستعراض قوتها فيما يبدو وتوجيه رسالة لمن يهمه الأمر بان روسيا مصرة على دعم النظام السوري في استعادة إدلب.
إن دخول الولايات المتحدة الأمريكية على المشهد أربك بلا شك جميع اللاعبين وأعاد خلط الأوراق من جديد. فبعدما كانت إدلب متجهة فعليا نحو استعادتها من قبل النظام السوري مهما كلف الثمن وبدعم لا محدود من حلفائه الإيرانيين والروس ورغما عن الأتراك الذين لا يملكون أوراقا كثيرة ليلعبوها في هذا الملف عداك عن الضغوط الاقتصادية التي تمارس عليهم اليوم، أصبحت اليوم السيناريوهات أكثر تعقيدا وغموضا.
المشكلة في تحليل مثل هذا المشهد هي أن تدخل الولايات المتحدة التي يمكن أن تقود تحالفا ثلاثيا أمريكا فرنسيا بريطانيا في إدلب ليس مبنيا على مخطط واضح أو مصالح محددة متعلقة بالأمن القومي الأمريكي (وهذا ليس غريبا أو مفاجئا في الحقيقة، فالسياسة الأمريكية في المنطقة باتت أقرب إلى الفوضوية والتخبط منها إلى الرصانة والعقلانية)، بل إن هذا التدخل مرتبط من حيث توقيته ومن حيث قوته، بل من حيث احتمالية وقوعه أو عدم وقوعه بمدى حاجة ترامب له لتشتيت الانتباه عن مشاكله الداخلية.
لكن لا بد من الإشارة إلى نقطة مهمة للغاية وهي أن التدخل الأمريكي فيما لو تم بالفعل فلن يكون محدودا هذه المرة. فتشتيت الانتباه الداخلي في مثل هذا السياق سيتطلب بالتأكيد ملفا مفتوحا يتجاوز مسألة إطلاق عدة صواريخ في ليلة. وهذا ما يمكن أن تؤشر عليه سلسلة من التحضيرات التي تقوم بها واشنطن في الشمال السوري وعلى رأسها ارسال حوالي 150 شاحنة محملة بأسلحة ثقيلة ومتوسطة إضافة إلى تأهيل وتوسيع مطار الشدادي وإنزال أسلحة ثقيلة فيه مؤخرا. بناء على هذا السياق يمكننا تصور مواجهة كبيرة في إدلب، أو في سوريا عموما، فيما لو تم اختيارها ككبش فداء لتوترات الداخل الأمريكي.
أما بالنسبة لمسالة الصدام مع روسيا، فالموضوع أعمق مما يتخيله كثيرون. فلو لجأ ترامب لإشعال سيناريو إدلب للهرب من مشاكله الداخلية، فأغلب الظن بأن روسيا، وعلى عكس كل المواقف المعلنة، سوف تتعاون معه بشكل أو بأخر ولو من وراء ستار نظرا لأن مصلحتها تكمن في بقائه في منصبه. فالعلاقات الروسية الأمريكية ستضرر أكثر وأكثر لو تم عزل ترامب على خلفية تدخل روسيا في الانتخابات، لأن خلفه سيتخذ بالضرورة خطوات قاسية ضد روسيا لإرضاء الرأي العام والنخبة الحاكمة في الولايات المتحدة.
في المحصلة: هل ستتدخل الولايات المتحدة في إدلب أم لا.. ما هي حدود هذا التدخل إن حصل؟ وما هي السيناريوهات التي تنتظر المحافظة؟ كل هذه الأسئلة أصبحت صعبة الإجابة الآن، وإننا نكاد نجزم بأن لا أحد يعلم إجاباتها بدقة.. ولا حتى دونالد ترامب نفسه.. فالظروف والتطورات وحدها هي الحاكمة.
أخي الإنسان، لا أدري كم تعرف عن قصتي؛ أنا السوري، أخيك في الإنسانية. على أي حال، أشعر أن من واجبي أن أخاطبك، لسببين: كي تعلم بحالي علم اليقين، وكي أبرئ ذمتي أمامك وأمام رب العالمين، آمنت به أم لم تؤمن.
بداية، أنا مثلك تماما فيزيولوجياً، وإن اختلفت بعض ملامحنا. لم أختر اسمي، ولا ديني، ولا والدي، ولا البلد الذي أعيش فيه. ولم تكن لي يوماً علاقة بنمط الحياة التي أعيشها ثقافياً أو اجتماعياً أو سياسياً. في تاريخها الحديث، رزحت بلادي تحت الاحتلال العثماني أربعة قرون، وقرابة ربع قرن تحت الاحتلال الفرنسي. تَبِع ذلك ربع قرن، كنّا فيه ننام على انقلابٍ، لنصحو على آخر؛ إلى أن جاء مَن قرّر ألا تكون هناك انقلابات في بلدنا؛ وأن يحكمنا إلى الأبد. رضينا بذلك، وردّدنا شعار الأبدية عنوةً أكثر من الفاتحة.
بعد عقدٍ على حكمنا المؤبد، دمّر من يحكمنا جزءاً من أحد مدننا، وقَتَل عشرات الآلاف؛ وصمتنا كالخراف؛ حيث قال لنا إن من قتلهم إرهابيون، ويريدون تخريب البلد. كانت يدُه على كتف السوفييت وقلبه مع أميركا؛ فقلنا: لا بأس بالتوازن. قَتَل الحياة السياسية، وامتطى ما كان موجودا من أحزاب؛ صمتنا على مضض، وبحثنا عن السلامة؛ فالعين لا تقابل المخرز.
احتل الصهاينة فلسطين فلسطين، فكانت قضيتها أكلنا وشربنا وثقافتنا واقتصادنا. جعنا وعرينا وأشحنا النظر عن الفساد والإفساد والعبث في مصير الوطن تحت شعار "المقاومة والممانعة"؛ فكنا نتلقّى الضرب من إسرائيل؛ ونسمع: "سنرد في الزمان والمكان المناسبين". عبث الإيرانيون في بلدنا تحت يافطة إعلانهم "تحرير القدس"؛ وما كان علينا إلا الترحيب بهم، رغما عن أنوفنا. خضنا كل حروب حزب الله التحريكية، كما كنا قد خضنا حرب تشرين التمثيلية، وخرسنا أمام "صوت المقاومة" الذي يعلو ولا يُعلى عليه.
استمرت العائلة في حكمنا؛ فقلنا إن هذا جزء من شعار الأبدية؛ ولا بد أن يتم استكمال المسيرة؛ وحَدانا الأمل في أن يكون في التغيير خير. صبرْنا وكتمْنا وبدأنا من جديد. أكلت العائلة ومحيطها وزبانيتها اقتصاد البلد؛ وكان علينا أن نشدّ الأحزمة. حوّطت مدننا أحزمة الفقر، وقلنا لا بد من أن الإصلاحات آتية، وأن كل ما نراه من أوبئة زائل.
هبّت رياح الربيع العربي؛ فقلنا لابد أن ساعة التغيير قد أزفت؛ استبشرنا بالخير. قيل لنا لن يحدث في سورية ما يحدث في دول عربية أخرى؛ لكنه حدث؛ وصدح صوت وجعنا، وطلبنا شيئاً من أوكسجين الحرية؛ فتم وصفنا بأقذع الصفات، وفي مقدمتها أننا إرهابيون وخونة. ولكن، أخي الإنسان، إليك جردة مختصرة لما حدث لأخيك الإنسان السوري خلال أعوام بدأت بشعارٍ لم يفهمه أو يصدّقه السوري عندما أُطلق، وهو "الأسد أو نحرق البلد". والنتائج: نصف سورية مدمر، نصف مليون سوري قضوا، نصف مليون سوري معاق، نصف سكان سورية خارج بلداتهم نازحون داخل البلد أو خارجه، أكثر من نصف جيل سوري كامل لم يعرف تعليما، ربع مليون سوري في معتقلات النظام تحت التعذيب، سورية تعود ربع قرن إلى الوراء، استخدم نظامها السلاح الكيميائي على السكان ولا يزال، البلد تحت حماية إيران وروسيا. والآن، أخي الإنسان: ماذا تتوقع من السوري، وقد شاهد بأم عينيه من استضافهم في بيته يقتلونه؛ شَهِدَ طائرات بلده التي دفع ثمنها دماً ودموعاً ترميه ببراميل متفجرة. سمع 134 دولة تسمّي نفسها أصدقاء سورية، وما قدّمت له إلا الكلام المعسول الذي لا يوقف نزيف دمه، أو دمار بلده؛ شاهد وسمع إعلامه يتحدّث عن مؤامرةٍ كونية، ليجد نفسه وحيدا يدفع ثمنها؛ رأى يد المندوب الروسي يمنع قراراتٍ تدعو إلى وقف قتله، ودمار بلده، أو حتى إدخال الطعام لأهله المحاصرين في الجوع؛ رأى قيادته مرتهنةً لإرادة إيران ومليشياتها التي تمنع سقوط قاتله؛ شهد جثث آلاف من إخوانه تخرج من زنازين التعذيب؛ تيقن أن من يحتل أرضه حريصٌ على بقاء من يفعل به ذلك كله؛ شَهِدَ أن الآخر لم يعد يرى فيه إلا ما يثير الشفقة أو الاحتقار.
من هنا، وبناءً عليه، لا يحمّل الإنسان السوري فقط من فعل به ما فعل كامل المسؤولية، بل الذين كانوا شهودا على مأساته؛ فهم يتحمّلونها بالتكافل والتخاذل والتناذل والصمت. فهل يلومنّ أحد السوري إنْ قتل، حيث قتله الجميع من دون رادع أو واعز ضمير؛ وما عنى قتله شيئاً لأحد؟ أو إن سرق، لأن كل شيءٍ بحيلته قد سُرِق؟ أو إنْ عكّر أمان العالم وسلامه، لأن أحداً لم يلتفت إلى أمانه وسلامه أو سلامته؟ أو إنْ سعى إلى تدمير أي مناقبية، لأن الجميع لم يلتفتوا إلى أخلاقياته أو مناقبياته؟ أو إن دعس كل قانون للبشرية، لأن أحداً لم يحترم أي قانونٍ في التعامل معه أو في إنصافه؟ أو إنْ طارت أي رحمة أو إنسانية من قلبه، لأن العالم تعامل معه بلا رحمة أو إنسانية؟ وللأسف، إنْ هو كفر بكل القيم، لأنه تيقّن أن هذا العالم بلا قيم؟
لم يعد لحسابات هذا العالم ومصالحه ودبلوماسيته مكان في ساحة ذهن السوري. حوّلتموه إلى مخلوقٍ لا يخضع لحساباتكم وتكتيكاتكم الكمبيوترية. أنتم لا تحاصرون معدة السوري، أو سلامة رأسه؛ أنتم تحاصرون وجوده وكينونته الروحية والأخلاقية. ولا أتكلم هنا عن ألف أو مائة ألف؛ وإنما عن ملايين من كرماء البشر، بعقولهم وأرواحهم وإبداعاتهم ومساهماتهم في التاريخ والحضارة الإنسانية.. أتكلم عن السوري الكريم، فاحذروا غضبة الكريم إذا أُهين أو أُذل. ومع ذلك كله، السوري لن يسيء، إن هو أُنصِف. فلا تحسبوا أن دماء السوريين لم تصل إليكم؛ إنها تسيل في بيوتكم، تغطّي أسرّتكم، وتغطي عيون أطفالكم وغيوم سمواتكم التي قد تمطر وابلاً لا يصدّه صاد.
أخيرا، ما زال أمامك أخي الإنسان فرصة، لا لتنقذ أخاك السوري فقط، بل لتنقذ نفسك. عليك بصانعي سياسة بلدك؛ فالمجال لا يزال مفتوحاً لتدارك العيب واللعنة. لقد تفلّت نظام الأسد من العقاب، عندما استخدم السلاح الكيميائي؛ واستمر شلال الدم السوري؛ وكان بالإمكان وقفه عندها. والآن، مع استنفار رئيس روسيا، فلاديمير بوتين، لإعلان انتصاره على الدم السوري، وسعيه الإجرامي إلى إعادة الاستبداد إلى سورية؛ لن يُعفى هذا العالم من أخطائه بحق السوريين، ولن يُنصف السوري إلا هزّ بوتين كي يواجه حقيقة تقول: لم ولن تحقق شيئاً، إن لم يتم الخلاص من منظومة الاستبداد.
تجمع التقارير على أن المعركة المرتَقَبة في محافظة إدلب ستكون خاتمة «الحرب» السورية، وبداية «تعافي» سوريا.
ربما يكون ذلك صحيحاً. ولكن حول موضوع نهاية الحروب، أودّ العودة إلى قصة حقيقية طريفة عن سائق سيارة الماريشال الفرنسي الشهير فردينان فوش، القائد العام للقوات الحليفة إبان الحرب العالمية الأولى.
القصة أن أهالي قرية السائق، واسمه إميل، كانوا يعانون كغيرهم من الفرنسيين من تلك الحرب المدمّرة، وكانوا يعدّون الأيام، بل الساعات، على انتهاء عذاباتها. وكان المصدر الوحيد للأخبار عند هؤلاء المساكين «المسيو إميل» سائق القائد العظيم - وكان يومذاك برتبة جنرال - إذ كانوا ينتظرون على أحرّ من الجمر مجيئه إلى القرية لتفقد أوضاع أسرته في إجازات قصيرة خاطفة.
وفور وصوله كانوا يتوافدون على بيته المتواضع ويبادرونه بالسؤال، وبلهفة: «ما هي الأخبار؟ هل سمعت من الجنرال أي خبر؟ هل قال شيئاً عن الحرب؟ هل يتوقع موعداً لنهايتها؟»... ولكن في كل مرة كان إميل يخيّب آمالهم فيجيب: «لا... لم أسمع شيئاً من سيدي الجنرال».
ومرَّت الأيام ثقيلة مؤلمة، حتى حلّ يوم جاء فيه إميل في إجازة، وتوافد أهالي القرية على بيته لطرح سؤالهم المعتاد. هذه المرة صعقهم إميل بقوله: «نعم... نعم... قبل بضعة أيام تكلم الجنرال!»... ولكن قبل أن يسألوه عمّا قاله، تابع السائق: «لقد سألني: يا إميل، بربّك قُل لي: متى ستنتهي هذه الحرب؟!».
خلاصة القول إن نهايات الحروب في علم الغيب. وكم من حرب طالت وتشعّبت معطياتها بعدما تقاطعت فيها مصالح عديدة، واختلفت طبيعة تحالفات المتحالفين، واختل ميزان القوى بين الكبار الذين كانوا يغذّونها أو يدعمون أطرافها.
والواقع أن معظم الأحداث التي شهدتها منطقة المشرق العربي منذ ولادة الكيانات الحالية عام 1920، وبتركيز أكثر منذ نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945 - عندما استقل معظمها عن الانتدابات الأجنبية - تركت ذيولها ومسبّبات حروبها حتى يومنا هذا.
في منطقة «الهلال الخصيب»، تحديداً، التي باتت لقمة سائغة وحلبة نزاع بين ثلاث قوى إقليمية، تقف خلفها قوتان عالميتان، «الغائب» الوحيد عن القرار هو صاحب الأرض الذي يفترض به أن يكون صاحب القرار. نعم، شعوب المنطقة هُم هذا «الغائب»، ولا أقول «المغيَّب»، لأن بعضها ارتضى أن يخدم مشاريع الآخرين... ويغلّب مصالحهم على مصالحه.
في هذه الساعات الحرجة من عُمر المنطقة، ثمة «حروب» سياسية وميدانية وديموغرافية تُخاض في أقطار المشرق العربي، كلها لها رواسبها القديمة التي يجري استنهاضها عند الحاجة، إما من أجل التحشيد العاطفي والميداني، أو إضفاء «شرعية» وهمية لاستحضار العداوات والأحقاد وإراقة الدماء وتغيير الخرائط وتهجير الناس.
عام 1920 شهد رسم حدود العراق وسوريا و«لبنان الكبير»، أي لبنان بحدوده الحالية. وداخل هذه الكيانات حاولت الطبقات السياسية العمل باتجاهين: تعزيز مواقعها في السلطة، وبناء «ثقافة سياسية» تخدم المواقع السلطوية التي تناسبها.
كما نعرف، كانت البداية مع الإقطاع السياسي والعشائري الذي برز منذ عام 1920. وظلَّت شخصيات الإقطاع السياسي والعشائري تتصدّر المشهد حتى أواخر عقد الثلاثينات من القرن الماضي، عندما أخذ المشهد السياسي في أوروبا يتبدّل مع تحدّي ألمانيا النازية وروسيا السوفياتية القوتين الأوروبيتين المنتدبتين إقليمياً... بريطانيا وفرنسا.
بالتوازي، ظهر في المشرق العربي، وبالأخص بعد انكشاف «إعلان بلفور»، استقطاب بين مناصرين لألمانيا النازية ومناصري الانتدابين البريطاني والفرنسي، كما ظهرت بواكير الحركات اليسارية. ولم ينتهِ هذا الاستقطاب إلا بإسقاط ثورة رشيد عالي الكيلاني في العراق (1941) ثم هزيمة النازية (1945)، وولادة دولة إسرائيل (1948).
وكان لا بد لولادة إسرائيل أن تُحدِث تغييراً في تركيبة الطبقات المهيمنة على المشهد الوطني في المنطقة لمصلحة «العسكر». إذ كانت الباكورة بدء مسلسل الانقلابات العسكرية السورية عام 1949، الذي عكس في جزء منه تبدّل ميزان القوى في الغرب أيضاً، وصعود الولايات المتحدة على حساب بريطانيا وفرنسا، وبروز الاتحاد السوفياتي «قطباً منافساً» ووارثاً التراث القومي - الأرثوذكسي «المسكوبي» في المشرق، وهو ما تأكد لاحقاً في «حرب السويس» عام 1956. وهكذا بحلول مطلع الستينات من القرن الماضي دخلت المنطقة كلها، بل العالم أجمع، مرحلة «الثنائية القطبية» بين واشنطن وموسكو. بين الرأسمالية وخصمها الآيديولوجي... الاشتراكية.
في هذه الأثناء تغيّر الكثير في المشرق.
تركيا «الأتاتوركية» العلمانية كانت جزءاً من حلف شمال الأطلسي (ناتو) ضد «جارها» وعدوّها القديم روسيا، وعضواً مؤسساً في «الحلف المركزي» (حلف بغداد سابقاً) الراحل في وجه المشروع «القومي العربي». وإيران «البهلوية» الشاهنشاهية أيضاً كانت علمانية وغربية الميول وعضواً مؤسساً في «الحلف المركزي». أما إسرائيل - الاشتراكية سابقاً - فكانت قد بدأت تدريجياً مسيرة التحوّل في هوية نخبة السلطة، بعيداً عن الأحزاب العمالية الصهيونية والنقابات العمالية القوية... باتجاه تحالف الجماعات التوراتية وجنرالات الجيش و«مافيات أموال» المهاجرين، وانتهاءً بإقرار «قانون الدولة القومية»!
نهاية «الحرب الباردة» بسقوط البديل الاشتراكي السوفياتي أنهضت تيارين قويين في مختلف أنحاء العالم هما: التيار الديني، والتيار القومي - العرقي. وحقاً، شهدنا ذلك في العالم العربي كله، كما شهدناه في تركيا وقبلها في إيران... بل حتى في الهند، كبرى ديمقراطيات العالم، ثم في «انقلاب» الديمقراطيات الغربية في أوروبا والولايات المتحدة على «العولمة»، وأحياناً حتى على «العلمانية».
اليوم، من المفيد تذكّر هذه الخلفية عندما ننظر إلى تعثر التجربتين «الديمقراطيتين» في العراق ولبنان اللذين يعيشان عملياً تحت سطوة «ملالي» إيران العسكرية والأمنية، وإلى «معركة تصفية» الثورة السورية، التي تقودها روسيا.
من المفيد تذكرها عندما ننظر إلى الصمت الأميركي على ما تفعله القيادة الليكودية في إسرائيل، وإلى مسلسل «التآمر» على الشعب السوري، وإلى إشكالية علاقات واشنطن مع كل من السلطتين الحاليتين «الإسلاميتين» في طهران وأنقرة، وإلى هشاشة كيانات «عربية» توهّمنا طويلاً أنها كانت «مستقلة» و«متجانسة» تتوافر لدى شعوبها رغبة حقيقية في التعايش
تتحرّك روسيا في عدة اتجاهات، لتحويل وجودها إلى واقعٍ لا يمكن الاستغناء عنه، بربط نفسها بسيناريو عسكري واقتصادي طويل الأمد في سورية. لذلك تحاول عزل الولايات المتحدة عن الملف السوري بشكل أساسي، والبدء بعمليات جني الأرباح، وإظهار روسيا بوجه مشرق.. يخطّط الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، لعقد لقاءاتٍ مع قادة أوروبيين، فرنسيين وألمان، ويندرج الهدف تحت عناوين إعادة الإعمار، وهو بندٌ يفترض أن يحقّق لها كثيرا من عائدات استثماراتها في سورية، وقد تندرج زيارة وزير الخارجية السعودي، عادل الجبير، موسكو في الأيام الماضية ولقاؤه نظيره، سيرغي لافروف، في الخانة نفسها..
تشكل السعودية المصدر الأول للتمويل في الخليج والمنطقة العربية. ولكن قبل إعادة الإعمار، وهو ملف طويل، موسكو مهتمة بما تسمى المعركة الأخيرة في إدلب، ولذلك هي مستمرة في حشد قطعها العسكرية التي وصلت إلى سبع عشرة قطعة بحرية، وهو عدد مرشّح للزيادة، بالإضافة إلى إعلان مجلجل، يقول إنها ستقوم بمناورة عسكرية ضخمة، بثلاثمائة ألف جندي وألف طائرة، وعدد كبير من القطع العسكرية المختلفة.
تعتبر روسيا معركة إدلب محسومة النتائج، وهي تمهد لذلك بهذا الحشد العسكري، بالإضافة إلى مناورتها الدبلوماسية والإعلامية التي تعيد فيها التذكير بمؤامرات الهجوم الكيميائي المزعومة، وهو أسلوبٌ لجأت إليه سابقاً عند الهجوم على الغوطة، وهي بذلك تعطي مؤشّراً عن حجم الهجوم الهائل الذي يعد لإدلب، وقد يؤجّل هذا الهجوم إلى ما بعد اللقاء الثلاثي المخطط له في طهران في السابع من شهر سبتمبر/ أيلول الجاري بين قادة الدول الضامنة، روسيا وتركيا وإيران.
تأتي هذه التحرّكات في ظل مواقف أميركية تسربت عنها أخبار عن زيارة وفد عسكري أميركي إلى دمشق، ليقدّم عروضاً سياسية، حتى لو كان الخبر صحيحاً، فالموضوع يتعلق بمساومةٍ هي أسلوب أصيل في ممارسة السياسة الأميركية، والثمن معروف ومعروض أمام الجميع، وهو إيران، هذا الأمر الذي تغاضى التسريب عن ذكره، وقد تكون الولايات المتحدة راغبةً بمثل هذا اللقاء، لفتح ثغرة في جدار التماسك بين روسيا وإيران وسورية.
يقول التسريب إن اللقاء جرى قبل شهرين، وقد يكون مفهوماً حصوله في أجواء لقاء آخر كان مرتقباً بين بوتين والرئيس الأميركي، دونالد ترامب، في هلسنكي، وعلى ضوء تصريحات الأخير عن رغبته في خروج بلاده من سورية، ولكن ذلك المناخ تغير الآن، وقد ظهر فشل محاولات إخراج إيران من سورية، وجاء رد إيران صريحاً بزيارة أكبر مسؤوليها العسكريين دمشق، وتوقيعه اتفاقياتٍ، هي في الواقع رسائل تَحَدٍّ. وتأتي هذه المظاهر متزامنة مع التحشيد البحري الروسي والاتفاقيات العسكرية السورية الإيرانية. وهناك استحقاق عسكري على الأبواب، يعكس شيئاً من التنافس بينهما، فروسيا راغبةٌ بأن تكون اللاعب رقم واحد، لكنها تبدي حالياً فتوراً تجاه دفع إيران إلى الخروج من سورية، لأنها ما زالت بحاجة لجهودها الأرضية التي تتكامل مع جهود الروس من الجو للسيطرة الكاملة على المناطق، لكن البَلدين يتوقعان توقف الحرب بعد معركة إدلب، وتأتي بعد ذلك مهمة إزالة أكوام الركام والأنقاض الهائلة. وهذه مهمة ينتظرها كثيرون، لما تدرّه من أرباح، وتترافق محاولات بوتين لإبعاد الولايات المتحدة مع رغبة أميركا بعدم إنفاق دولار واحد، فلا يبقى في الميدان إلا روسيا وإيران. وقد وقّعت إيران بالفعل عقوداً في مجالات كثيرة مع الطرف السوري، قد يكون قطاع الاتصالات أهمها، أما الروس فحصتهم مضمونة، لكن حجمها يتوقف على مدى التفاهم الروسي الإيراني. وستحرص روسيا هنا على أن تكون الرقم واحد في المعادلة المطروحة. ولا يأخذ هذا السيناريو بالاعتبار إسرائيل، وهي التي لا ترغب برؤية إيراني واحد على حدود الجولان، وقد تأكد الآن بقاء إيران وتمدّدها أيضاً. وهنا لن تكون إدلب نهاية للصراع، كما هو متوقع، بل فاتحة لصراع آخر، ومن نوع أخطر وأكبر، تستعمل فيه الأرض السورية مرة أخرى، وقد تكون الجيوش الأجنبية النظامية بكامل عتادها موجودةً فيه.
تتّجه الإدارة الأميركية نحو رسم سياسة جديدة حيال الوضع في سورية، بعد أن تخلت إدارة الرئيس السابق، باراك أوباما، عن دورها الفاعل في سورية، لصالح إطلاق يد نظام الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، كي يفعل فيها ما يشاء، مع تحويل كل جهودها لمحاربة مسلحي تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وغض النظر عن جرائم نظام الأسد. وفي السياق نفسه، تابعت إدارة الرئيس دونالد ترامب الخطوط العامة نفسها لهذه السياسة، لكن بعد أن بدا الأمر وكأن المستفيد الأكبر من ميل الكفة على الأرض في سورية هو نظام الملالي الإيراني، بدأت السياسة الأميركية بالتغيير نحو مزيدٍ من التدخلية، والتأثير في سير الأحداث في سورية، من بوابة الحدّ من نفوذ نظام الملالي.
وتدفع مراكز صنع القرار والسياسات في الولايات المتحدة نحو سياسة أميركيةٍ أكثر تدخليةً وانخراطيةً في الملف السوري، خصوصا بعد تراجع الحديث عن انسحاب أميركي وشيك من سورية، حسبما كان يرغب به الرئيس ترامب. وفي هذا السياق، جاءت المذكرة السياسية، أو الرسالة كتبها: كاثرين بوير وسونر كاغابتاي وباتريك كلوسون ومايكل إيزنستاذ وجيمس جيفري وبابرا ليف وماثيو ليفيت ودينس روس وروبرت ساتلوف، ونشرها معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى في 11/7/2018، كي تضع الخطوط الرئيسية لهذه السياسة الجديدة، وتضع المسوّغات والحدود والأهداف كذلك.
وتكتسي هذه الرسالة أهمية خاصة من أنها كُتبت قبل تعيين جيمس جيفري، السفير السابق في كل من تركيا والعراق، مبعوثاً خاصاً لوزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، إلى سورية. إضافة إلى أنه كتبتها شخصيات نافذة ومؤثرة في صنع السياسة الخارجية الأميركية، ولعل الأهم أن الرسالة تأتي بالتضادّ مع المنحى الذي آلت إليه الأمور عسكرياً، لصالح ساسة النظام البوتيني، وحليفيه نظام الملالي الإيراني والأسد الإجرامي. وجاءت الرسالة بعنوان "نحو سياسة أميركية جديدة في سورية"(Toward a New U.S. Policy in Syria)، وخطوطها العريضة تتمحور حول مواجهة نظام الملالي الإيراني، وردع "إحياء داعش"، حسب عنوانها الفرعي: (ground zero for countering iran and deterring an islamic state revival).
تنظر الرسالة إلى سورية بعد "سبع سنوات من النزاع"، بوصفها "ميدان المعارك الوحيد في العالم" الذي تنشط فيه "القوى العسكرية الأميركية والروسية والتركية والإسرائيلية"، إضافة إلى جيش النظام وحزب الله اللبناني، وسائر مليشيات نظام الملالي الشيعية، ومليشيات حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، وفصائل المعارضة السورية، والفصائل الإسلامية، بما فيها هيئة تحرير الشام و"داعش".
ويكشف الانخراط العسكري لمجموعة واسعة من القوى الدولية والإقليمية الأهمية التي توليها هذه القوى لسورية، بوصفها ساحة صراع وتنافس استراتيجية في الشرق الأوسط، وتنظر الرسالة إليها بوصفها "وازنةً في ميزان المصالح الأميركية"، من جهة أن عاصمة "داعش" السابقة كانت توجد فيها، وبوصفها كذلك "حلقةً حيويةً" من حلقات سعي إيران للسيطرة على ممرّ بري، يمتد من البحر الأبيض المتوسط، وصولاً إلى جنوب غرب آسيا. والأهم بالنسبة إلى كاتبي الرسالة هو سعي نظام الملالي الإيراني إلى "فتح جبهة جديدة مع إسرائيل"، وأن "سورية دولة (حلقة) مركزية، فضلاً عن أنها تشكّل مصدراً محتملاً "لسيل ضخم من اللاجئين"، و"منصّة أو بوابة بحرية روسية واستخباراتية في شرق المتوسط".
ويحاول كاتبو الرسالة التمييز ما بين أهداف نظام بوتين في سورية وأهداف نظام الملالي الإيراني، معتبرين أن "روسيا قد لا تدعم طموحات إيران إلى الهيمنة من لبنان إلى جنوب غرب آسيا، ولا تريد أن تفتح جبهات جديدة ضد إسرائيل". كما أنها لا تريد مرابطةً دائمةً للمليشيات في سورية، يمكّن نظام الملالي من التحكم بها، و"تهمّش دور الأسد". لذلك يرون أن تعاون الولايات المتحدة الوثيق مع الحلفاء يمكّنها من "الضغط على روسيا، إذا هدّدت ما ترمي إليه موسكو: حماية نظام الأسد". وهنا يأتي دور إسرائيل، بوصفها أكثر المؤهلين لزرع شقاق ما بين نظام الملالي ونظامي بوتين والأسد، إذ يتصوّر كاتبو الرسالة أن إسرائيل "قادرة على وضع روسيا أمام معضلة: تقييد عدائية إيران أو مواجهة احتمال حرب بين إسرائيل وإيران وحزب الله على الأراضي السورية، ما يهدّد المصالح الروسية في المنطقة"، لذلك يطالبون بإرفاق العقوبات الأميركية على نظام الملالي بخليطٍ من الديبلوماسية النشطة مع الحلفاء الإقليميين، وفرض "قيود على هامش حركة طهران". ولتحقيق ذلك، ينبغي "إبقاء القوات الأميركية في سورية، وإعادة فرض منطقة حظر جوي في منطقة شمالي سورية، التي تسيطر عليها أميركا وتركيا".
وهكذا يعود بنا كاتبو الرسالة إلى مسألة فرض منطقة حظر جوي في شمالي سورية في المناطق التي توجد فيها القوات الأميركية وتلك التي توجد فيها قوات تركية إلى جانب فصائل من المعارضة السورية، أي على منطقة تبلغ مساحتها 40% من مساحة سورية. ويتطلب هذا الأمر إصلاح الصدع الكبير في العلاقات الأميركية التركية، والتوصل إلى اتفاق أميركي تركي، يمكنه إبعادها عن مساري أستانة وسوتشي التي أطلقهما نظام بوتين، كي يرسم وجه سورية المستقبلية، والدفع باتجاه حل سياسي، ينهي حكم آل الأسد، وفق مسار جنيف والقرارت الأممية.
ولعل ملامح السياسة الأميركية الجديدة التي يرسمها كاتبو الرسالة تأتي على خلفية عزم الولايات المتحدة "الطعن في منحى الأمر الواقع في سورية"، والذي يميل لصالح نظامي موسكو وطهران. لذلك يحذر كاتبو الرسالة من أن الانسحاب الأميركي من سورية سيشكل "خطوة توحي بضعف أميركي"، وبغياب الرغبة في الوقوف في وجه نظام الملالي، فضلاً عن أنه يشير إلى تخلٍّ أميركيٍّ عن الحلفاء، ويقوّض ثقة قوى المنطقة التي تريد الانضمام إلى مسعى الإدارة الأميركية لمواجهة النظام الإيراني. ويتطلب تحقيق هذه السياسة الجديدة التزاماً أميركياً جاداً، والعمل على تنفيذها، وبناء تحالفات حقيقية مع القوى المناهضة لمشروع التوسع الإيراني.
الاستراتيجية الأميركية لمواجهة السلوك الإيراني الإرهابي يبدو أنها تجاوزت العقوبات الاقتصادية على إيران، وبدأت تطال بتلك العقوبات وكلاءها في المنطقة، عبر الاستهداف المباشر أو عبر الضغط عليهم بإدراجهم في قائمة الإرهاب، الذي هو المآل الصحيح لهم. فإن أضفنا إليها الاستراتيجية العربية التي تقودها المملكة العربية السعودية لمواجهة وكلاء إيران في اليمن أو في دول الخليج، أو الجهود السعودية التي تبذل لإعادة العراق للحضن العربي، كلها بدأت تتضافر لتؤتي أكلها، وتنقلب الأيام على من ظن أن «هلاله» اكتمل!!
فبعد إدراج «سرايا الأشتر» (الميليشيا البحرينية التي عاثت في أرضنا إرهاباً وقتلت عدداً من رجال الأمن البحرينيين) يناقش الكونغرس إدراج أحد أهم فصائل «الحشد الشعبي» العراقي وهي «عصائب الحق» التي يرأسها قيس الخزعلي الخادم الإيراني بامتياز على ذات القائمة، وفقاً لما جاء في صحيفة «وول ستريت جورنال» يوم الخميس الماضي.
وتتصاعد حدة الخلاف في البيت الشيعي العراقي الآن على خلفية التشكيل الحكومي والضغوط الأميركية، ما يجعل من كلفة الإبقاء على الفصيل العراقي الإيراني كلفة عالية الثمن في المرحلة القادمة على إيران، تربكها، وهي المرتبكة أصلاً بمشهدها الداخلي.
وعلى صعيد آخر، يجري قطع دابر القوات التي تدعمها إيران في سوريا كقطع لشريان أساسي لمشروعها التوسعي، الذي بذلت من أجله الغالي والنفيس، وهو الهدف الذي تصر عليه المملكة العربية السعودية وأميركا حتى إسرائيل في تسويات هيلسنكي!!
إذن، فالجسر الذي بنته طهران، وصولاً للبحر المتوسط، من قوات شيعية عربية وغير عربية، وأنفقت عليها المليارات، يتعرض الآن لضغط شديد من القوى الدولية والإقليمية لتفكيكه وقطعه، وتتولى إسرائيل تصفية الوجود الإيراني في الجزء السوري برعاية أميركية، وبغض طرف روسي متعمد، ليجعلوا من ثمن الاحتفاظ بهذا الجسر والإبقاء عليه ثمناً باهظاً جداً في ظل الضغوط الداخلية الإيرانية.
فوفقاً لموقع «المرصد الاستراتيجي» فإن خيار مهاجمة القوات التابعة لإيران سيكون بيد إسرائيل بعد أن يستكمل الأسد سيطرته على هضبة الجولان السورية، حيث يسود الشعور بأن الجنوب السوري سيشهد في المرحلة المقبلة جولة صراع ثانية بين الوكلاء الجدد!!
ومن أبرز هذه القوات التي تتموضع في العمق السوري، والتي استغرق بناؤها 7 أعوام، هي عمر الحرب السورية، وبكلفة باهظة تقدر بمليارات الدولارات (100 مليون دولار تذهب سنوياً لـ«حزب الله» فقط):
1: «فيلق القدس» التابع للحرس الثوري الإيراني، ويتراوح عدد أفراده ما بين 2000 و5000 مقاتل.
2: «قوات الدفاع الوطني السوري»، وهي ميليشيات أنشأتها إيران ومولتها وسلحتها، وتضم نحو 90 ألف متطوع سوري من الطائفتين العلوية والشيعية.
3: «قوات الدفاع المحلية»، وهي وحدات شرطة تعمل في مجالات الحراسة والإدارة المدنية للميليشيات المحلية، ويقدر عددها بنحو 50 ألف مقاتل.
4: ميليشيات شيعية من أفغانستان وباكستان، يتراوح عددها ما بين 10 آلاف مقاتل إلى 15 ألفاً.
5: حاميات شيعية ينتمي عناصرها إلى ميليشيات عراقية ولبنانية، تستخدمهم إيران كقوات تدخل سريع في مناطق القتال، وعلى رأسهم «حزب الله» ومرتزقة لا ينتمون إلى ميليشيا بعينها، ويقدر مجموعهم بنحو 30 ألف مقاتل.
إسرائيل لم تنتظر إلى حين اكتمال الفرصة لمهاجمة هذه القوات، بل يضيف التقرير أن إسرائيل حين عجزت عن إقناع بوتين بطرد الإيرانيين من جميع الأراضي السورية، عملت على تصفية قياداتهم واحداً تلو الآخر، وتصفية القيادات السورية التي تم تدريبها على أيد إيرانية!!
فكلفت حكومة نتنياهو جهاز الموساد باستئناف عمليات تصفية القيادات المتخصصة في مجال الصواريخ، ما أسفر عن اغتيال عزيز أسبر الذي يعتبر الضابط السوري الأرفع في هذا القطاع. وجاءت عملية اغتيال أسبر (4 أغسطس/ آب) عقب تنفيذ عملية نوعية أسفرت عن مقتل 3 ضباط في السويداء (1 أغسطس) هم العميد طيار نديم أسعد في الاستخبارات الجوية، قائد مفرزة أمن السوق في منطقة الضمير، والرائد سليمان إسماعيل الذي يتحدر من قرية أوبين من قضاء صافيتا، والرائد عاصم قائد مفرزة أمن منطقة المحطة، في منطقة الضمير. تبعتها عملية اغتيال نوعية أسفرت عن تصفية أحمد عيسى حبيب المسؤول في المخابرات العسكرية السورية بالقرب من مدينة مصياف (18 أغسطس الماضي) وهو ضابط رفيع في فرع فلسطين. ووفقاً لمصادر مقربة من حكومة نتنياهو فإن تل أبيب قررت العمل في الفترة المقبلة على سياسة «حرمان القوى المعادية من تطوير أسلحة متقدمة»، عبر تصفية المسؤولين والعلماء المتخصصين في الأسلحة الكيماوية والتقنيات الصاروخية، حيث تأتي عملية اغتيال عزيز أسبر وزملائه ضمن هذا الإطار.
ومع التقدم الذي يحرزه التحالف العربي في اليمن، خاصة في صعدة والحديدة، يبدو أننا سنشهد تمدد العقوبات بأنواعها كافة (حتى الربانية منها!) على وكلاء إيران في المنطقة الذين خانوا أوطانهم وباعوا أنفسهم رخيصة للعدو الخسيس.
تمثّل إدلب خريطة التفاهمات الدولية، ليس سورياً فحسب، وإنما إقليمياً ودولياً، فحيث تتسع مساحتها لحشد قوات لكل المتصارعين على سورية، فهي اليوم مأوى ما يزيد على ثلاثة ملايين مدني مرحّل من كل مناطق سورية، إضافة إلى القوات الفصائلية المحلية والمختلطة، وهي تمثل المعبر لمصالح الدول داخل سورية وخارجها، وكما أنها وسيلة ضغط تحدّد مكانة محوري الصراع في منطقة البحر المتوسط، وتوزيع مهامها، في محاولةٍ روسيةٍ للخروج من التبعية إلى موقع الندّية مع الولايات المتحدة الأميركية. وعلى ذلك، فإن السعي الروسي إلى تأزيم ملف الصراع على إدلب يأخذ مستوياتٍ مختلفة، فهو، من جهة، بين شركائها في مساري المفاوضات أستانة وسوتشي (إيران وتركيا)، ومن جهة ثانية، بين دول التحالف الدولي تحت الزعامة الأميركية.
ويمثل استحضار نشاط المتطرّفين وترويجه إعلامياً، المتمثل بجبهة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً)، في الوقت الذي تلزم فيه روسيا حليفتها تركيا بالتخلي عنها، واعتبارها منظمة إرهابية، يمثّل تحدّياً جديداً أمام نزع أحد ملفات القوة التي امتلكتها تركيا على مدار سنوات أربع. وفي مقابل ذلك، لم يترك كل من إيران وتركيا، وهما طرفا الشراكة مع روسيا، الحبل بالكامل بين يديها، فقد سعتا إلى محاصرة أطماع موسكو بالتفرّد، من خلال تفاهمات بينية بينهما، أنتجت انسحاب المليشيات الإيرانية من محيط إدلب، لتخفيف الضغط عن الفصائل المدعومة تركياً، في مقابل خرق تركيا العقوبات الأميركية المفروضة على إيران، والإبقاء على تبادل السلع بين أسواقهما، لتخفيف عبء الحصار الأميركي على اقتصاديْهما، هو ما قد يترجم إلى تحالف القوى المهزومة أمام العقوبات الأميركية التي لم تستثن روسيا أيضاً منها، ويجعل من اجتماع طهران يوم الجمعة المقبل (7 سبتمبر/ أيلول) محطة مفصلية، لمواجهة مخاوفهم البينية من ناحية، ومخاطر التحرّك الأميركي الغربي في المقابل، من ناحية ثانية، فحيث لا يمكن تجاهل الخلافات التركية الروسية، بما يتعلق بدور كل منهما في ملف الصراع السوري، ومواقفهما المتضادّة أحياناً، على الرغم من شراكتهما في مساري أستانة وسوتشي، نتيجة مصالحهما المشتركة في إزهاق مسار جنيف الأممي الذي يتناقض مع رغبة موسكو بإعادة تعويم النظام السوري، كما يتضارب مع مصالح تركيا بما يتعلق بملف الأكراد، وتوسيع دائرة نفوذهم في الشمال، وفق دستورٍ يضمن حقوقهم كاملةً كمواطنين أفراد، وكجماعة قومية تتنافس معها على الشراكة مع الولايات المتحدة الأميركية التي تسعى إلى تمكينهم من إقامة مناطق إدارة ذاتية شمال سورية، ما يهدّد، حسب زعم تركيا، الأمن القومي لها، ويهدّد استقرار مناطقها المحاذية لها، وهو ما جعلها تذهب إلى التحالف مع روسيا، على الرغم من اختلاف مواقعهما في ساحة الصراع في سورية.
كما أن التعتيم على الخلافات المصلحية بين روسيا وإيران لا يجعل من تلك التباينات في ملف الصراع السوري غير مرئية للجانبين، فإيران تدرك حجم التقارب الروسي - الإسرائيلي، كما تقيس بدقة مسافة تقارب موسكو مع واشنطن، بما يتعلّق بمبادرة السلام المزعومة في منطقة الشرق الأوسط (صفقة القرن)، حيث تقضي تفاصيلها بإبعاد إيران وتحجيمها، وتغيير سلوكها بما يتوافق والإرادة الأميركية الإسرائيلية في المنطقة، وبما يضمن أمن إسرائيل، وتوزيع خارطة النفوذ الاقتصادي بناءً على مبدأ الأرض مقابل السلام، والاقتصاد المتبادل مقابل الأمن والاستقرار.
وتأتي الرغبة الأميركية بإخراج إيران من سورية في مصلحة تمدّد النفوذ الروسي، وبما لا يتعارض مع إرادة كل من إسرائيل والإدارة الأميركية والدول الأوروبية، حيث تمارس روسيا دور الشرطي في المنطقة، كما تمثّل خط الدفاع الأولي لأوروبا في إبعاد مخاطر نمو التطرّف الإسلامي، الذي تدّعي موسكو محاصرته في إدلب اليوم، وأن من شأن وجودها في سورية طويل الأمد أن يبدّد ما عملت عليه المجموعات المتطرّفة فكرياً خلال سنوات الحرب.
وفي المحصلة، فإن الشركاء الثلاثة يحتاجون في اجتماعهم المقبل إلى تبديد مخاوفهم، والإفصاح عن مصالحهم، لإيجاد تقاطعاتٍ تحصّنهم من مواجهة ثنائية:
أولاً، ضد حلفائهم المحليين من النظام والمعارضة، حيث يعمل النظام على استرجاع منطقة خفض التصعيد الأخيرة، ليمتلك أوراق قوة تمكّنه من فرض رغباته في تفاهمات العملية السياسية، بدءاً من صياغة الدستور، مروراً بتشكيل الحكومة المشتركة بين شركاء طاولة التفاوض. ومن جهة المعارضة المسلحة، فإن أي تفاهماتٍ تؤدّي إلى تسوياتٍ على شكل ما حدث في درعا، وقبلها في الغوطتين، فهذا يعني إنهاء وجود الفصائل، وتحويلها إلى شرطة تحت إشراف مشترك روسي تركي، وهذا ما هو خلاف رغبتها، وتبعيتها التركية فقط، كما تجعلها، في الآن نفسه، في مواجهة جبهة النصرة التي تفوقهم عدداً وتدريباً وعتاداً.
ثانياً، بمواجهة خصومهم الدوليين الذين يرفضون وجود إيران ضمن تحالفٍ يصون مصالحها في سورية، ويبدّد جهود الإدارة الأميركية في حصارها، وتسوير نشاطها داخل حدودها، كما يخالف رغبتهم بتحجيم دور تركيا في إدلب، ومحاصرة مساعيها في الشمال، لإنهاء الوجود الكردي الحليف لقوى التحالف الدولي في معاركهم ضد "داعش". ما يعني أن الثلاثي الدولي (روسيا، إيران، تركيا) يواجه اليوم معضلة لقاء مصالحه البينية، في ظل حروبٍ على أطرافه "مجتمعة"، و"منفردة"، كما يواجه معضلة تفرّد موسكو وتنمّرها على شريكيْها، باعتبارها تمتلك إرادة النظام "الطرف الشرعي" في ظل الحرب المعلنة على الحليف الآخر، والأقرب للنظام أي (إيران)، ما جعل النظام يتنازع بينهما، وينقسم على نفسه بين نظام سوري روسي ونظام سوري إيراني.
وينطبق هذا على حال الفصائل المسلحة المعارضة التي انقسمت أيضاً بين فصائل مسلحة تحت الرعاية الروسية وأخرى مسلحة تحت الهيمنة المباشرة التركية، وهو ما يهيئ أجواء متوترة للشركاء، على الرغم من الحالة الظاهرية للوفاق المعلن، حيث استغلت موسكو التوترات الأميركية - التركية لتلزم الأخيرة بالتخلي عن جبهة النصرة، والوقوف إلى جانبها في حربٍ محتملةٍ على الإرهاب الذي تمثله هيئة تحرير الشام، وفصائل من التركستان، والتي فتحت المجال لدخول الصين عليها طرفا مساندا للقوات الروسية، على الرغم مما يتّسع الوقت من مفاوضات لا تزال جارية بين الأطراف الدولية، لتطويق نتائج الحرب المحتملة التي ستبتلع جهود إيقاف تدفق اللاجئين، وإعادة توطينهم داخل بلادهم.
في المحصلة، الحرب التي يروّجها النظام السوري في إدلب تجعله في قلب العاصفة، وتهيئ المناخ المناسب لانتزاع أسباب تأجيل الحل السياسي الذي سعت إليه روسيا من خلال مساراتها التعطيلية لمفاوضات جنيف، وتترك المجال عكس رغباته لإعادة إحياء مسار جنيف، على أساس أن "لا مكان للأسد في مستقبل سورية"، ليبدو النظام وكأنه يحفر حفرة لرئيسه، بدلاً من ردمها.
غارة إسرائيلية جديدة على مطار المزة العسكري في دمشق. الغارات هذه صارت بوصلة يمكن المرء أن يعتمدها لتحديد خرائط النفوذ الدولي والإقليمي داخل النظام السوري. موسكو أبعدت طهران عن الحدود السورية الإسرائيلية. هذه خطوة استدلال أخرى. تل أبيب طلبت أن تشمل الخطوة كل سورية. موسكو لم تستجب، ويبدو أن غارة الأمس مؤشر إلى صحة هذه المعلومات. والمشهد وفق هذه المعطيات يكشف عن أغرب حرب يشهدها المرء.
إسرائيل تقصف وطهران تتجاهل أنها مستهدفة. موسكو تتعهد ضبط الحدود لكنها غير معنية بما يجري خارج جنوب سورية. مطار المزة يحترق والنظام يقول إن احتكاكاً كهربائياً تسبب بهذا الحريق الهائل الذي عاينه معظم سكان دمشق. وفي هذا الوقت كان الأمين العام لـ «حزب الله» حسن نصرالله يُعلن النصر من على شاشة كبيرة مثبتة على حائط في بيروت، وكان أنصاره يحتفلون معه، بينما كان خصومه ينشرون صور المطار وهو يحترق.
هذه الحرب يمكن لأي كان أن يدعي أنه منتصر فيها.
إسرائيل منتصرة، فهي تملي شروطها والراعي الروسي يتولى تصريفها. «حزب الله «منتصر أيضاً، فالمهمة المتمثلة بحماية النظام أنجز الجزء الأكبر منها. النظام السوري انتصر أيضاً، فها هو يلتقط أنفاسه بعد سنوات طويلة من الاختناق.
علينا إذاً أن نبحث عن المهزوم في هذه الحرب. فالقول إن السوريين هم من هُزموا صحيح، إلا أننا ابتذلنا هذا القول إلى حدٍ جعلنا نشك فيه. من هم السوريون «المهزومون»؟ الإجابة عن هذا السؤال تبدو لي مستحيلة. هل هم نصف المليون قتيل؟ القتلى لا يُهزمون، كما أنهم طبعاً لا ينتصرون. وهذه حال نصف المليون مختفٍ، وأيضاً حال ملايين اللاجئين من أبناء المدن المدمرة والأرياف المستأصلة.
إذا لم يتمكن المرء من العثور على مهزوم واضح في هذه الحرب، فعليه أن يعيد النظر بهوية المنتصر. والحال أن إسرائيل، وهي أكثرنا واقعية في هذا المشرق، لا تشعر أنها منتصرة، وهي مرتابة بكل ما تم إنجازه، ووضعته موسكو على الطاولة بصفته إنجازاً. غارة الأمس على مطار المزة تكشف أن تل أبيب غير مقتنعة بما أنجزته لها موسكو. وتكشف أيضاً أن طهران لم تستكن لإرادة موسكو في إبعادها عن الحدود. وغارة الأمس تقول الكثير عن هذه الحرب الغامضة والغريبة، وتكشف فصولاً من العلاقات المعقدة التي تربط أطرافها. فهل من شيء أغرب من هذا «الاحتكاك الكهربائي» الذي عاينه أهل دمشق؟ إنه القناع الحقيقي لكل مقولات الصراع الأبدي مع عدو يقصفنا ونحن ننكر على أنفسنا أنه يقصفنا ويُمعن في قصفنا. ثم ماذا عن تفاهم تل أبيب- موسكو، الذي كان من المفترض أنه حقق للأولى شروطها؟ لقد أوقفت إسرائيل قصف المواقع في جنوب سورية. جيش النظام هناك في مأمن، بينما هو نفسه مع حلفائه هدفاً في دمشق!
الأرجح أن الغارة الأخيرة هي مقدمة لفصلٍ جديد من الحرب في سورية. وإذا كانت علامة على قناعة تل أبيب وواشنطن بأن طهران لم تستكن لتعهدات موسكو بضبطها، وهذا هو المرجح، فهذا يعني أن مشهد النيران في مطار المزة سيكون امتداداً لنيران مواجهات في سورية وفي غير سورية قالت واشنطن بالأمس إنها لن تكون بعيدة عنها.