يبدو بأن ملف محافظة إدلب يزداد تعقيدا يوما بعد يوم، حيث بات يشغل حيزا كبيرا من التحركات السياسية والدبلوماسية للأطراف المنخرطة في الشأن السوري. وقد كنا في مقال سابق بعنوان "عن سيناريوهات إدلب.. هل ستحميها تركيا؟" قد تناولنا بالتحليل ما يمكن لتركيا فعله في إدلب. وقلنا بأن تركيا لا تملك حقيقة أوراقا قوية لتلعبها في هذه المحافظة سوى الورقة الإنسانية، وخاصة في ظل عدم التزام الروس والإيرانيين بتعهداتهما فيما يتعلق بمناطق خفض التصعيد الموقعة بين النظام السوري وفصائل المعارضة السورية بضمانة تركية روسية إيرانية.
وكنا قد توصلنا إلى نتيجة مفادها بأن مصير المحافظة بات أقرب إلى سيناريو العودة إلى سيطرة النظام السوري، إلا أن أسلوب استعادتها، من خلال عمل عسكري أو من خلال صفقات سياسية هو الموضوع الذي تجري عليه المفاوضات اليوم بين الأطراف الفاعلة وخاصة روسية وتركيا وإيران، بينما كانت الولايات المتحدة تراقب الوضع من القاطرة الخلفية.
إلا أن الولايات المتحدة عادت مرة أخرى لتتقدم صفوف الفعل الأمامية وتظهر اهتماما مفاجئا بموضوع إدلب. وقد تمت ترجمة هذا الاهتمام بالفعل من خلال تصريحات بعض المسؤولين الأمريكيين وعلى رأسهم وزير الخارجية مايكل بومبيو الذي غرد قبل عدة أيام قائلا: "تعتبر الولايات المتحدة هذه (الحملة) على إدلب تصعيدا للنزاع الخطير أصلا". وأضاف بومبيو في تغريدة ثانية أن "ثلاثة ملايين من السوريين الذين اضطروا إلى مغادرة ديارهم وموجودين حاليا في إدلب، سيعانون من هذا العدوان.. إنه ليس جيدا.. العالم يراقب الوضع".
غني عن القول بأن هذا الاهتمام الأمريكي المفاجئ في إدلب ليس لدواع إنسانية كما يتم إظهاره، بل يندرج في خانة الاستعمال الإنساني لخدمة وتمرير أهداف سياسية. وعلى الرغم من وجود بعض المصالح الأمريكية في خلط الأوراق في ملف إدلب، وعلى رأسها إعاقة أي حل سياسي قد يقرب بين موسكو وأنقرة، إلا أننا نعتقد بأن سر هذا الاهتمام المفاجئ يأتي من زاوية أخرى وتحديدا كأحد السناريوهات التي ربما يعدها ترامب للهروب إلى الأمام من مشاكله الداخلية على خلفية سلسلة الفضائح التي ضربت دائرته المقربة وبدأت تقترب منه شخصيا مما بات يهدده بالعزل من منصب الرئيس.
جاء الرد قويا على الموقف الأمريكي الجديد من الطرف الروسي حيث صرح وزير الخارجية سيرجي لافروف أن موسكو قد حذرت دول الغرب "بوضوح وصرامة" من خطورة "اللعب بالنار" من خلال دعم استفزازات كيميائية مفبركة في إدلب وعرقلة محاربة الإرهاب هناك.. وتبعا لذلك أطلقت روسيا مؤخرا مناورات عسكرية ضخمة قبالة سواحل المتوسط لاستعراض قوتها فيما يبدو وتوجيه رسالة لمن يهمه الأمر بان روسيا مصرة على دعم النظام السوري في استعادة إدلب.
إن دخول الولايات المتحدة الأمريكية على المشهد أربك بلا شك جميع اللاعبين وأعاد خلط الأوراق من جديد. فبعدما كانت إدلب متجهة فعليا نحو استعادتها من قبل النظام السوري مهما كلف الثمن وبدعم لا محدود من حلفائه الإيرانيين والروس ورغما عن الأتراك الذين لا يملكون أوراقا كثيرة ليلعبوها في هذا الملف عداك عن الضغوط الاقتصادية التي تمارس عليهم اليوم، أصبحت اليوم السيناريوهات أكثر تعقيدا وغموضا.
المشكلة في تحليل مثل هذا المشهد هي أن تدخل الولايات المتحدة التي يمكن أن تقود تحالفا ثلاثيا أمريكا فرنسيا بريطانيا في إدلب ليس مبنيا على مخطط واضح أو مصالح محددة متعلقة بالأمن القومي الأمريكي (وهذا ليس غريبا أو مفاجئا في الحقيقة، فالسياسة الأمريكية في المنطقة باتت أقرب إلى الفوضوية والتخبط منها إلى الرصانة والعقلانية)، بل إن هذا التدخل مرتبط من حيث توقيته ومن حيث قوته، بل من حيث احتمالية وقوعه أو عدم وقوعه بمدى حاجة ترامب له لتشتيت الانتباه عن مشاكله الداخلية.
لكن لا بد من الإشارة إلى نقطة مهمة للغاية وهي أن التدخل الأمريكي فيما لو تم بالفعل فلن يكون محدودا هذه المرة. فتشتيت الانتباه الداخلي في مثل هذا السياق سيتطلب بالتأكيد ملفا مفتوحا يتجاوز مسألة إطلاق عدة صواريخ في ليلة. وهذا ما يمكن أن تؤشر عليه سلسلة من التحضيرات التي تقوم بها واشنطن في الشمال السوري وعلى رأسها ارسال حوالي 150 شاحنة محملة بأسلحة ثقيلة ومتوسطة إضافة إلى تأهيل وتوسيع مطار الشدادي وإنزال أسلحة ثقيلة فيه مؤخرا. بناء على هذا السياق يمكننا تصور مواجهة كبيرة في إدلب، أو في سوريا عموما، فيما لو تم اختيارها ككبش فداء لتوترات الداخل الأمريكي.
أما بالنسبة لمسالة الصدام مع روسيا، فالموضوع أعمق مما يتخيله كثيرون. فلو لجأ ترامب لإشعال سيناريو إدلب للهرب من مشاكله الداخلية، فأغلب الظن بأن روسيا، وعلى عكس كل المواقف المعلنة، سوف تتعاون معه بشكل أو بأخر ولو من وراء ستار نظرا لأن مصلحتها تكمن في بقائه في منصبه. فالعلاقات الروسية الأمريكية ستضرر أكثر وأكثر لو تم عزل ترامب على خلفية تدخل روسيا في الانتخابات، لأن خلفه سيتخذ بالضرورة خطوات قاسية ضد روسيا لإرضاء الرأي العام والنخبة الحاكمة في الولايات المتحدة.
في المحصلة: هل ستتدخل الولايات المتحدة في إدلب أم لا.. ما هي حدود هذا التدخل إن حصل؟ وما هي السيناريوهات التي تنتظر المحافظة؟ كل هذه الأسئلة أصبحت صعبة الإجابة الآن، وإننا نكاد نجزم بأن لا أحد يعلم إجاباتها بدقة.. ولا حتى دونالد ترامب نفسه.. فالظروف والتطورات وحدها هي الحاكمة.
أخي الإنسان، لا أدري كم تعرف عن قصتي؛ أنا السوري، أخيك في الإنسانية. على أي حال، أشعر أن من واجبي أن أخاطبك، لسببين: كي تعلم بحالي علم اليقين، وكي أبرئ ذمتي أمامك وأمام رب العالمين، آمنت به أم لم تؤمن.
بداية، أنا مثلك تماما فيزيولوجياً، وإن اختلفت بعض ملامحنا. لم أختر اسمي، ولا ديني، ولا والدي، ولا البلد الذي أعيش فيه. ولم تكن لي يوماً علاقة بنمط الحياة التي أعيشها ثقافياً أو اجتماعياً أو سياسياً. في تاريخها الحديث، رزحت بلادي تحت الاحتلال العثماني أربعة قرون، وقرابة ربع قرن تحت الاحتلال الفرنسي. تَبِع ذلك ربع قرن، كنّا فيه ننام على انقلابٍ، لنصحو على آخر؛ إلى أن جاء مَن قرّر ألا تكون هناك انقلابات في بلدنا؛ وأن يحكمنا إلى الأبد. رضينا بذلك، وردّدنا شعار الأبدية عنوةً أكثر من الفاتحة.
بعد عقدٍ على حكمنا المؤبد، دمّر من يحكمنا جزءاً من أحد مدننا، وقَتَل عشرات الآلاف؛ وصمتنا كالخراف؛ حيث قال لنا إن من قتلهم إرهابيون، ويريدون تخريب البلد. كانت يدُه على كتف السوفييت وقلبه مع أميركا؛ فقلنا: لا بأس بالتوازن. قَتَل الحياة السياسية، وامتطى ما كان موجودا من أحزاب؛ صمتنا على مضض، وبحثنا عن السلامة؛ فالعين لا تقابل المخرز.
احتل الصهاينة فلسطين فلسطين، فكانت قضيتها أكلنا وشربنا وثقافتنا واقتصادنا. جعنا وعرينا وأشحنا النظر عن الفساد والإفساد والعبث في مصير الوطن تحت شعار "المقاومة والممانعة"؛ فكنا نتلقّى الضرب من إسرائيل؛ ونسمع: "سنرد في الزمان والمكان المناسبين". عبث الإيرانيون في بلدنا تحت يافطة إعلانهم "تحرير القدس"؛ وما كان علينا إلا الترحيب بهم، رغما عن أنوفنا. خضنا كل حروب حزب الله التحريكية، كما كنا قد خضنا حرب تشرين التمثيلية، وخرسنا أمام "صوت المقاومة" الذي يعلو ولا يُعلى عليه.
استمرت العائلة في حكمنا؛ فقلنا إن هذا جزء من شعار الأبدية؛ ولا بد أن يتم استكمال المسيرة؛ وحَدانا الأمل في أن يكون في التغيير خير. صبرْنا وكتمْنا وبدأنا من جديد. أكلت العائلة ومحيطها وزبانيتها اقتصاد البلد؛ وكان علينا أن نشدّ الأحزمة. حوّطت مدننا أحزمة الفقر، وقلنا لا بد من أن الإصلاحات آتية، وأن كل ما نراه من أوبئة زائل.
هبّت رياح الربيع العربي؛ فقلنا لابد أن ساعة التغيير قد أزفت؛ استبشرنا بالخير. قيل لنا لن يحدث في سورية ما يحدث في دول عربية أخرى؛ لكنه حدث؛ وصدح صوت وجعنا، وطلبنا شيئاً من أوكسجين الحرية؛ فتم وصفنا بأقذع الصفات، وفي مقدمتها أننا إرهابيون وخونة. ولكن، أخي الإنسان، إليك جردة مختصرة لما حدث لأخيك الإنسان السوري خلال أعوام بدأت بشعارٍ لم يفهمه أو يصدّقه السوري عندما أُطلق، وهو "الأسد أو نحرق البلد". والنتائج: نصف سورية مدمر، نصف مليون سوري قضوا، نصف مليون سوري معاق، نصف سكان سورية خارج بلداتهم نازحون داخل البلد أو خارجه، أكثر من نصف جيل سوري كامل لم يعرف تعليما، ربع مليون سوري في معتقلات النظام تحت التعذيب، سورية تعود ربع قرن إلى الوراء، استخدم نظامها السلاح الكيميائي على السكان ولا يزال، البلد تحت حماية إيران وروسيا. والآن، أخي الإنسان: ماذا تتوقع من السوري، وقد شاهد بأم عينيه من استضافهم في بيته يقتلونه؛ شَهِدَ طائرات بلده التي دفع ثمنها دماً ودموعاً ترميه ببراميل متفجرة. سمع 134 دولة تسمّي نفسها أصدقاء سورية، وما قدّمت له إلا الكلام المعسول الذي لا يوقف نزيف دمه، أو دمار بلده؛ شاهد وسمع إعلامه يتحدّث عن مؤامرةٍ كونية، ليجد نفسه وحيدا يدفع ثمنها؛ رأى يد المندوب الروسي يمنع قراراتٍ تدعو إلى وقف قتله، ودمار بلده، أو حتى إدخال الطعام لأهله المحاصرين في الجوع؛ رأى قيادته مرتهنةً لإرادة إيران ومليشياتها التي تمنع سقوط قاتله؛ شهد جثث آلاف من إخوانه تخرج من زنازين التعذيب؛ تيقن أن من يحتل أرضه حريصٌ على بقاء من يفعل به ذلك كله؛ شَهِدَ أن الآخر لم يعد يرى فيه إلا ما يثير الشفقة أو الاحتقار.
من هنا، وبناءً عليه، لا يحمّل الإنسان السوري فقط من فعل به ما فعل كامل المسؤولية، بل الذين كانوا شهودا على مأساته؛ فهم يتحمّلونها بالتكافل والتخاذل والتناذل والصمت. فهل يلومنّ أحد السوري إنْ قتل، حيث قتله الجميع من دون رادع أو واعز ضمير؛ وما عنى قتله شيئاً لأحد؟ أو إن سرق، لأن كل شيءٍ بحيلته قد سُرِق؟ أو إنْ عكّر أمان العالم وسلامه، لأن أحداً لم يلتفت إلى أمانه وسلامه أو سلامته؟ أو إنْ سعى إلى تدمير أي مناقبية، لأن الجميع لم يلتفتوا إلى أخلاقياته أو مناقبياته؟ أو إن دعس كل قانون للبشرية، لأن أحداً لم يحترم أي قانونٍ في التعامل معه أو في إنصافه؟ أو إنْ طارت أي رحمة أو إنسانية من قلبه، لأن العالم تعامل معه بلا رحمة أو إنسانية؟ وللأسف، إنْ هو كفر بكل القيم، لأنه تيقّن أن هذا العالم بلا قيم؟
لم يعد لحسابات هذا العالم ومصالحه ودبلوماسيته مكان في ساحة ذهن السوري. حوّلتموه إلى مخلوقٍ لا يخضع لحساباتكم وتكتيكاتكم الكمبيوترية. أنتم لا تحاصرون معدة السوري، أو سلامة رأسه؛ أنتم تحاصرون وجوده وكينونته الروحية والأخلاقية. ولا أتكلم هنا عن ألف أو مائة ألف؛ وإنما عن ملايين من كرماء البشر، بعقولهم وأرواحهم وإبداعاتهم ومساهماتهم في التاريخ والحضارة الإنسانية.. أتكلم عن السوري الكريم، فاحذروا غضبة الكريم إذا أُهين أو أُذل. ومع ذلك كله، السوري لن يسيء، إن هو أُنصِف. فلا تحسبوا أن دماء السوريين لم تصل إليكم؛ إنها تسيل في بيوتكم، تغطّي أسرّتكم، وتغطي عيون أطفالكم وغيوم سمواتكم التي قد تمطر وابلاً لا يصدّه صاد.
أخيرا، ما زال أمامك أخي الإنسان فرصة، لا لتنقذ أخاك السوري فقط، بل لتنقذ نفسك. عليك بصانعي سياسة بلدك؛ فالمجال لا يزال مفتوحاً لتدارك العيب واللعنة. لقد تفلّت نظام الأسد من العقاب، عندما استخدم السلاح الكيميائي؛ واستمر شلال الدم السوري؛ وكان بالإمكان وقفه عندها. والآن، مع استنفار رئيس روسيا، فلاديمير بوتين، لإعلان انتصاره على الدم السوري، وسعيه الإجرامي إلى إعادة الاستبداد إلى سورية؛ لن يُعفى هذا العالم من أخطائه بحق السوريين، ولن يُنصف السوري إلا هزّ بوتين كي يواجه حقيقة تقول: لم ولن تحقق شيئاً، إن لم يتم الخلاص من منظومة الاستبداد.
تجمع التقارير على أن المعركة المرتَقَبة في محافظة إدلب ستكون خاتمة «الحرب» السورية، وبداية «تعافي» سوريا.
ربما يكون ذلك صحيحاً. ولكن حول موضوع نهاية الحروب، أودّ العودة إلى قصة حقيقية طريفة عن سائق سيارة الماريشال الفرنسي الشهير فردينان فوش، القائد العام للقوات الحليفة إبان الحرب العالمية الأولى.
القصة أن أهالي قرية السائق، واسمه إميل، كانوا يعانون كغيرهم من الفرنسيين من تلك الحرب المدمّرة، وكانوا يعدّون الأيام، بل الساعات، على انتهاء عذاباتها. وكان المصدر الوحيد للأخبار عند هؤلاء المساكين «المسيو إميل» سائق القائد العظيم - وكان يومذاك برتبة جنرال - إذ كانوا ينتظرون على أحرّ من الجمر مجيئه إلى القرية لتفقد أوضاع أسرته في إجازات قصيرة خاطفة.
وفور وصوله كانوا يتوافدون على بيته المتواضع ويبادرونه بالسؤال، وبلهفة: «ما هي الأخبار؟ هل سمعت من الجنرال أي خبر؟ هل قال شيئاً عن الحرب؟ هل يتوقع موعداً لنهايتها؟»... ولكن في كل مرة كان إميل يخيّب آمالهم فيجيب: «لا... لم أسمع شيئاً من سيدي الجنرال».
ومرَّت الأيام ثقيلة مؤلمة، حتى حلّ يوم جاء فيه إميل في إجازة، وتوافد أهالي القرية على بيته لطرح سؤالهم المعتاد. هذه المرة صعقهم إميل بقوله: «نعم... نعم... قبل بضعة أيام تكلم الجنرال!»... ولكن قبل أن يسألوه عمّا قاله، تابع السائق: «لقد سألني: يا إميل، بربّك قُل لي: متى ستنتهي هذه الحرب؟!».
خلاصة القول إن نهايات الحروب في علم الغيب. وكم من حرب طالت وتشعّبت معطياتها بعدما تقاطعت فيها مصالح عديدة، واختلفت طبيعة تحالفات المتحالفين، واختل ميزان القوى بين الكبار الذين كانوا يغذّونها أو يدعمون أطرافها.
والواقع أن معظم الأحداث التي شهدتها منطقة المشرق العربي منذ ولادة الكيانات الحالية عام 1920، وبتركيز أكثر منذ نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945 - عندما استقل معظمها عن الانتدابات الأجنبية - تركت ذيولها ومسبّبات حروبها حتى يومنا هذا.
في منطقة «الهلال الخصيب»، تحديداً، التي باتت لقمة سائغة وحلبة نزاع بين ثلاث قوى إقليمية، تقف خلفها قوتان عالميتان، «الغائب» الوحيد عن القرار هو صاحب الأرض الذي يفترض به أن يكون صاحب القرار. نعم، شعوب المنطقة هُم هذا «الغائب»، ولا أقول «المغيَّب»، لأن بعضها ارتضى أن يخدم مشاريع الآخرين... ويغلّب مصالحهم على مصالحه.
في هذه الساعات الحرجة من عُمر المنطقة، ثمة «حروب» سياسية وميدانية وديموغرافية تُخاض في أقطار المشرق العربي، كلها لها رواسبها القديمة التي يجري استنهاضها عند الحاجة، إما من أجل التحشيد العاطفي والميداني، أو إضفاء «شرعية» وهمية لاستحضار العداوات والأحقاد وإراقة الدماء وتغيير الخرائط وتهجير الناس.
عام 1920 شهد رسم حدود العراق وسوريا و«لبنان الكبير»، أي لبنان بحدوده الحالية. وداخل هذه الكيانات حاولت الطبقات السياسية العمل باتجاهين: تعزيز مواقعها في السلطة، وبناء «ثقافة سياسية» تخدم المواقع السلطوية التي تناسبها.
كما نعرف، كانت البداية مع الإقطاع السياسي والعشائري الذي برز منذ عام 1920. وظلَّت شخصيات الإقطاع السياسي والعشائري تتصدّر المشهد حتى أواخر عقد الثلاثينات من القرن الماضي، عندما أخذ المشهد السياسي في أوروبا يتبدّل مع تحدّي ألمانيا النازية وروسيا السوفياتية القوتين الأوروبيتين المنتدبتين إقليمياً... بريطانيا وفرنسا.
بالتوازي، ظهر في المشرق العربي، وبالأخص بعد انكشاف «إعلان بلفور»، استقطاب بين مناصرين لألمانيا النازية ومناصري الانتدابين البريطاني والفرنسي، كما ظهرت بواكير الحركات اليسارية. ولم ينتهِ هذا الاستقطاب إلا بإسقاط ثورة رشيد عالي الكيلاني في العراق (1941) ثم هزيمة النازية (1945)، وولادة دولة إسرائيل (1948).
وكان لا بد لولادة إسرائيل أن تُحدِث تغييراً في تركيبة الطبقات المهيمنة على المشهد الوطني في المنطقة لمصلحة «العسكر». إذ كانت الباكورة بدء مسلسل الانقلابات العسكرية السورية عام 1949، الذي عكس في جزء منه تبدّل ميزان القوى في الغرب أيضاً، وصعود الولايات المتحدة على حساب بريطانيا وفرنسا، وبروز الاتحاد السوفياتي «قطباً منافساً» ووارثاً التراث القومي - الأرثوذكسي «المسكوبي» في المشرق، وهو ما تأكد لاحقاً في «حرب السويس» عام 1956. وهكذا بحلول مطلع الستينات من القرن الماضي دخلت المنطقة كلها، بل العالم أجمع، مرحلة «الثنائية القطبية» بين واشنطن وموسكو. بين الرأسمالية وخصمها الآيديولوجي... الاشتراكية.
في هذه الأثناء تغيّر الكثير في المشرق.
تركيا «الأتاتوركية» العلمانية كانت جزءاً من حلف شمال الأطلسي (ناتو) ضد «جارها» وعدوّها القديم روسيا، وعضواً مؤسساً في «الحلف المركزي» (حلف بغداد سابقاً) الراحل في وجه المشروع «القومي العربي». وإيران «البهلوية» الشاهنشاهية أيضاً كانت علمانية وغربية الميول وعضواً مؤسساً في «الحلف المركزي». أما إسرائيل - الاشتراكية سابقاً - فكانت قد بدأت تدريجياً مسيرة التحوّل في هوية نخبة السلطة، بعيداً عن الأحزاب العمالية الصهيونية والنقابات العمالية القوية... باتجاه تحالف الجماعات التوراتية وجنرالات الجيش و«مافيات أموال» المهاجرين، وانتهاءً بإقرار «قانون الدولة القومية»!
نهاية «الحرب الباردة» بسقوط البديل الاشتراكي السوفياتي أنهضت تيارين قويين في مختلف أنحاء العالم هما: التيار الديني، والتيار القومي - العرقي. وحقاً، شهدنا ذلك في العالم العربي كله، كما شهدناه في تركيا وقبلها في إيران... بل حتى في الهند، كبرى ديمقراطيات العالم، ثم في «انقلاب» الديمقراطيات الغربية في أوروبا والولايات المتحدة على «العولمة»، وأحياناً حتى على «العلمانية».
اليوم، من المفيد تذكّر هذه الخلفية عندما ننظر إلى تعثر التجربتين «الديمقراطيتين» في العراق ولبنان اللذين يعيشان عملياً تحت سطوة «ملالي» إيران العسكرية والأمنية، وإلى «معركة تصفية» الثورة السورية، التي تقودها روسيا.
من المفيد تذكرها عندما ننظر إلى الصمت الأميركي على ما تفعله القيادة الليكودية في إسرائيل، وإلى مسلسل «التآمر» على الشعب السوري، وإلى إشكالية علاقات واشنطن مع كل من السلطتين الحاليتين «الإسلاميتين» في طهران وأنقرة، وإلى هشاشة كيانات «عربية» توهّمنا طويلاً أنها كانت «مستقلة» و«متجانسة» تتوافر لدى شعوبها رغبة حقيقية في التعايش
تتحرّك روسيا في عدة اتجاهات، لتحويل وجودها إلى واقعٍ لا يمكن الاستغناء عنه، بربط نفسها بسيناريو عسكري واقتصادي طويل الأمد في سورية. لذلك تحاول عزل الولايات المتحدة عن الملف السوري بشكل أساسي، والبدء بعمليات جني الأرباح، وإظهار روسيا بوجه مشرق.. يخطّط الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، لعقد لقاءاتٍ مع قادة أوروبيين، فرنسيين وألمان، ويندرج الهدف تحت عناوين إعادة الإعمار، وهو بندٌ يفترض أن يحقّق لها كثيرا من عائدات استثماراتها في سورية، وقد تندرج زيارة وزير الخارجية السعودي، عادل الجبير، موسكو في الأيام الماضية ولقاؤه نظيره، سيرغي لافروف، في الخانة نفسها..
تشكل السعودية المصدر الأول للتمويل في الخليج والمنطقة العربية. ولكن قبل إعادة الإعمار، وهو ملف طويل، موسكو مهتمة بما تسمى المعركة الأخيرة في إدلب، ولذلك هي مستمرة في حشد قطعها العسكرية التي وصلت إلى سبع عشرة قطعة بحرية، وهو عدد مرشّح للزيادة، بالإضافة إلى إعلان مجلجل، يقول إنها ستقوم بمناورة عسكرية ضخمة، بثلاثمائة ألف جندي وألف طائرة، وعدد كبير من القطع العسكرية المختلفة.
تعتبر روسيا معركة إدلب محسومة النتائج، وهي تمهد لذلك بهذا الحشد العسكري، بالإضافة إلى مناورتها الدبلوماسية والإعلامية التي تعيد فيها التذكير بمؤامرات الهجوم الكيميائي المزعومة، وهو أسلوبٌ لجأت إليه سابقاً عند الهجوم على الغوطة، وهي بذلك تعطي مؤشّراً عن حجم الهجوم الهائل الذي يعد لإدلب، وقد يؤجّل هذا الهجوم إلى ما بعد اللقاء الثلاثي المخطط له في طهران في السابع من شهر سبتمبر/ أيلول الجاري بين قادة الدول الضامنة، روسيا وتركيا وإيران.
تأتي هذه التحرّكات في ظل مواقف أميركية تسربت عنها أخبار عن زيارة وفد عسكري أميركي إلى دمشق، ليقدّم عروضاً سياسية، حتى لو كان الخبر صحيحاً، فالموضوع يتعلق بمساومةٍ هي أسلوب أصيل في ممارسة السياسة الأميركية، والثمن معروف ومعروض أمام الجميع، وهو إيران، هذا الأمر الذي تغاضى التسريب عن ذكره، وقد تكون الولايات المتحدة راغبةً بمثل هذا اللقاء، لفتح ثغرة في جدار التماسك بين روسيا وإيران وسورية.
يقول التسريب إن اللقاء جرى قبل شهرين، وقد يكون مفهوماً حصوله في أجواء لقاء آخر كان مرتقباً بين بوتين والرئيس الأميركي، دونالد ترامب، في هلسنكي، وعلى ضوء تصريحات الأخير عن رغبته في خروج بلاده من سورية، ولكن ذلك المناخ تغير الآن، وقد ظهر فشل محاولات إخراج إيران من سورية، وجاء رد إيران صريحاً بزيارة أكبر مسؤوليها العسكريين دمشق، وتوقيعه اتفاقياتٍ، هي في الواقع رسائل تَحَدٍّ. وتأتي هذه المظاهر متزامنة مع التحشيد البحري الروسي والاتفاقيات العسكرية السورية الإيرانية. وهناك استحقاق عسكري على الأبواب، يعكس شيئاً من التنافس بينهما، فروسيا راغبةٌ بأن تكون اللاعب رقم واحد، لكنها تبدي حالياً فتوراً تجاه دفع إيران إلى الخروج من سورية، لأنها ما زالت بحاجة لجهودها الأرضية التي تتكامل مع جهود الروس من الجو للسيطرة الكاملة على المناطق، لكن البَلدين يتوقعان توقف الحرب بعد معركة إدلب، وتأتي بعد ذلك مهمة إزالة أكوام الركام والأنقاض الهائلة. وهذه مهمة ينتظرها كثيرون، لما تدرّه من أرباح، وتترافق محاولات بوتين لإبعاد الولايات المتحدة مع رغبة أميركا بعدم إنفاق دولار واحد، فلا يبقى في الميدان إلا روسيا وإيران. وقد وقّعت إيران بالفعل عقوداً في مجالات كثيرة مع الطرف السوري، قد يكون قطاع الاتصالات أهمها، أما الروس فحصتهم مضمونة، لكن حجمها يتوقف على مدى التفاهم الروسي الإيراني. وستحرص روسيا هنا على أن تكون الرقم واحد في المعادلة المطروحة. ولا يأخذ هذا السيناريو بالاعتبار إسرائيل، وهي التي لا ترغب برؤية إيراني واحد على حدود الجولان، وقد تأكد الآن بقاء إيران وتمدّدها أيضاً. وهنا لن تكون إدلب نهاية للصراع، كما هو متوقع، بل فاتحة لصراع آخر، ومن نوع أخطر وأكبر، تستعمل فيه الأرض السورية مرة أخرى، وقد تكون الجيوش الأجنبية النظامية بكامل عتادها موجودةً فيه.
تتّجه الإدارة الأميركية نحو رسم سياسة جديدة حيال الوضع في سورية، بعد أن تخلت إدارة الرئيس السابق، باراك أوباما، عن دورها الفاعل في سورية، لصالح إطلاق يد نظام الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، كي يفعل فيها ما يشاء، مع تحويل كل جهودها لمحاربة مسلحي تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وغض النظر عن جرائم نظام الأسد. وفي السياق نفسه، تابعت إدارة الرئيس دونالد ترامب الخطوط العامة نفسها لهذه السياسة، لكن بعد أن بدا الأمر وكأن المستفيد الأكبر من ميل الكفة على الأرض في سورية هو نظام الملالي الإيراني، بدأت السياسة الأميركية بالتغيير نحو مزيدٍ من التدخلية، والتأثير في سير الأحداث في سورية، من بوابة الحدّ من نفوذ نظام الملالي.
وتدفع مراكز صنع القرار والسياسات في الولايات المتحدة نحو سياسة أميركيةٍ أكثر تدخليةً وانخراطيةً في الملف السوري، خصوصا بعد تراجع الحديث عن انسحاب أميركي وشيك من سورية، حسبما كان يرغب به الرئيس ترامب. وفي هذا السياق، جاءت المذكرة السياسية، أو الرسالة كتبها: كاثرين بوير وسونر كاغابتاي وباتريك كلوسون ومايكل إيزنستاذ وجيمس جيفري وبابرا ليف وماثيو ليفيت ودينس روس وروبرت ساتلوف، ونشرها معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى في 11/7/2018، كي تضع الخطوط الرئيسية لهذه السياسة الجديدة، وتضع المسوّغات والحدود والأهداف كذلك.
وتكتسي هذه الرسالة أهمية خاصة من أنها كُتبت قبل تعيين جيمس جيفري، السفير السابق في كل من تركيا والعراق، مبعوثاً خاصاً لوزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، إلى سورية. إضافة إلى أنه كتبتها شخصيات نافذة ومؤثرة في صنع السياسة الخارجية الأميركية، ولعل الأهم أن الرسالة تأتي بالتضادّ مع المنحى الذي آلت إليه الأمور عسكرياً، لصالح ساسة النظام البوتيني، وحليفيه نظام الملالي الإيراني والأسد الإجرامي. وجاءت الرسالة بعنوان "نحو سياسة أميركية جديدة في سورية"(Toward a New U.S. Policy in Syria)، وخطوطها العريضة تتمحور حول مواجهة نظام الملالي الإيراني، وردع "إحياء داعش"، حسب عنوانها الفرعي: (ground zero for countering iran and deterring an islamic state revival).
تنظر الرسالة إلى سورية بعد "سبع سنوات من النزاع"، بوصفها "ميدان المعارك الوحيد في العالم" الذي تنشط فيه "القوى العسكرية الأميركية والروسية والتركية والإسرائيلية"، إضافة إلى جيش النظام وحزب الله اللبناني، وسائر مليشيات نظام الملالي الشيعية، ومليشيات حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، وفصائل المعارضة السورية، والفصائل الإسلامية، بما فيها هيئة تحرير الشام و"داعش".
ويكشف الانخراط العسكري لمجموعة واسعة من القوى الدولية والإقليمية الأهمية التي توليها هذه القوى لسورية، بوصفها ساحة صراع وتنافس استراتيجية في الشرق الأوسط، وتنظر الرسالة إليها بوصفها "وازنةً في ميزان المصالح الأميركية"، من جهة أن عاصمة "داعش" السابقة كانت توجد فيها، وبوصفها كذلك "حلقةً حيويةً" من حلقات سعي إيران للسيطرة على ممرّ بري، يمتد من البحر الأبيض المتوسط، وصولاً إلى جنوب غرب آسيا. والأهم بالنسبة إلى كاتبي الرسالة هو سعي نظام الملالي الإيراني إلى "فتح جبهة جديدة مع إسرائيل"، وأن "سورية دولة (حلقة) مركزية، فضلاً عن أنها تشكّل مصدراً محتملاً "لسيل ضخم من اللاجئين"، و"منصّة أو بوابة بحرية روسية واستخباراتية في شرق المتوسط".
ويحاول كاتبو الرسالة التمييز ما بين أهداف نظام بوتين في سورية وأهداف نظام الملالي الإيراني، معتبرين أن "روسيا قد لا تدعم طموحات إيران إلى الهيمنة من لبنان إلى جنوب غرب آسيا، ولا تريد أن تفتح جبهات جديدة ضد إسرائيل". كما أنها لا تريد مرابطةً دائمةً للمليشيات في سورية، يمكّن نظام الملالي من التحكم بها، و"تهمّش دور الأسد". لذلك يرون أن تعاون الولايات المتحدة الوثيق مع الحلفاء يمكّنها من "الضغط على روسيا، إذا هدّدت ما ترمي إليه موسكو: حماية نظام الأسد". وهنا يأتي دور إسرائيل، بوصفها أكثر المؤهلين لزرع شقاق ما بين نظام الملالي ونظامي بوتين والأسد، إذ يتصوّر كاتبو الرسالة أن إسرائيل "قادرة على وضع روسيا أمام معضلة: تقييد عدائية إيران أو مواجهة احتمال حرب بين إسرائيل وإيران وحزب الله على الأراضي السورية، ما يهدّد المصالح الروسية في المنطقة"، لذلك يطالبون بإرفاق العقوبات الأميركية على نظام الملالي بخليطٍ من الديبلوماسية النشطة مع الحلفاء الإقليميين، وفرض "قيود على هامش حركة طهران". ولتحقيق ذلك، ينبغي "إبقاء القوات الأميركية في سورية، وإعادة فرض منطقة حظر جوي في منطقة شمالي سورية، التي تسيطر عليها أميركا وتركيا".
وهكذا يعود بنا كاتبو الرسالة إلى مسألة فرض منطقة حظر جوي في شمالي سورية في المناطق التي توجد فيها القوات الأميركية وتلك التي توجد فيها قوات تركية إلى جانب فصائل من المعارضة السورية، أي على منطقة تبلغ مساحتها 40% من مساحة سورية. ويتطلب هذا الأمر إصلاح الصدع الكبير في العلاقات الأميركية التركية، والتوصل إلى اتفاق أميركي تركي، يمكنه إبعادها عن مساري أستانة وسوتشي التي أطلقهما نظام بوتين، كي يرسم وجه سورية المستقبلية، والدفع باتجاه حل سياسي، ينهي حكم آل الأسد، وفق مسار جنيف والقرارت الأممية.
ولعل ملامح السياسة الأميركية الجديدة التي يرسمها كاتبو الرسالة تأتي على خلفية عزم الولايات المتحدة "الطعن في منحى الأمر الواقع في سورية"، والذي يميل لصالح نظامي موسكو وطهران. لذلك يحذر كاتبو الرسالة من أن الانسحاب الأميركي من سورية سيشكل "خطوة توحي بضعف أميركي"، وبغياب الرغبة في الوقوف في وجه نظام الملالي، فضلاً عن أنه يشير إلى تخلٍّ أميركيٍّ عن الحلفاء، ويقوّض ثقة قوى المنطقة التي تريد الانضمام إلى مسعى الإدارة الأميركية لمواجهة النظام الإيراني. ويتطلب تحقيق هذه السياسة الجديدة التزاماً أميركياً جاداً، والعمل على تنفيذها، وبناء تحالفات حقيقية مع القوى المناهضة لمشروع التوسع الإيراني.
الاستراتيجية الأميركية لمواجهة السلوك الإيراني الإرهابي يبدو أنها تجاوزت العقوبات الاقتصادية على إيران، وبدأت تطال بتلك العقوبات وكلاءها في المنطقة، عبر الاستهداف المباشر أو عبر الضغط عليهم بإدراجهم في قائمة الإرهاب، الذي هو المآل الصحيح لهم. فإن أضفنا إليها الاستراتيجية العربية التي تقودها المملكة العربية السعودية لمواجهة وكلاء إيران في اليمن أو في دول الخليج، أو الجهود السعودية التي تبذل لإعادة العراق للحضن العربي، كلها بدأت تتضافر لتؤتي أكلها، وتنقلب الأيام على من ظن أن «هلاله» اكتمل!!
فبعد إدراج «سرايا الأشتر» (الميليشيا البحرينية التي عاثت في أرضنا إرهاباً وقتلت عدداً من رجال الأمن البحرينيين) يناقش الكونغرس إدراج أحد أهم فصائل «الحشد الشعبي» العراقي وهي «عصائب الحق» التي يرأسها قيس الخزعلي الخادم الإيراني بامتياز على ذات القائمة، وفقاً لما جاء في صحيفة «وول ستريت جورنال» يوم الخميس الماضي.
وتتصاعد حدة الخلاف في البيت الشيعي العراقي الآن على خلفية التشكيل الحكومي والضغوط الأميركية، ما يجعل من كلفة الإبقاء على الفصيل العراقي الإيراني كلفة عالية الثمن في المرحلة القادمة على إيران، تربكها، وهي المرتبكة أصلاً بمشهدها الداخلي.
وعلى صعيد آخر، يجري قطع دابر القوات التي تدعمها إيران في سوريا كقطع لشريان أساسي لمشروعها التوسعي، الذي بذلت من أجله الغالي والنفيس، وهو الهدف الذي تصر عليه المملكة العربية السعودية وأميركا حتى إسرائيل في تسويات هيلسنكي!!
إذن، فالجسر الذي بنته طهران، وصولاً للبحر المتوسط، من قوات شيعية عربية وغير عربية، وأنفقت عليها المليارات، يتعرض الآن لضغط شديد من القوى الدولية والإقليمية لتفكيكه وقطعه، وتتولى إسرائيل تصفية الوجود الإيراني في الجزء السوري برعاية أميركية، وبغض طرف روسي متعمد، ليجعلوا من ثمن الاحتفاظ بهذا الجسر والإبقاء عليه ثمناً باهظاً جداً في ظل الضغوط الداخلية الإيرانية.
فوفقاً لموقع «المرصد الاستراتيجي» فإن خيار مهاجمة القوات التابعة لإيران سيكون بيد إسرائيل بعد أن يستكمل الأسد سيطرته على هضبة الجولان السورية، حيث يسود الشعور بأن الجنوب السوري سيشهد في المرحلة المقبلة جولة صراع ثانية بين الوكلاء الجدد!!
ومن أبرز هذه القوات التي تتموضع في العمق السوري، والتي استغرق بناؤها 7 أعوام، هي عمر الحرب السورية، وبكلفة باهظة تقدر بمليارات الدولارات (100 مليون دولار تذهب سنوياً لـ«حزب الله» فقط):
1: «فيلق القدس» التابع للحرس الثوري الإيراني، ويتراوح عدد أفراده ما بين 2000 و5000 مقاتل.
2: «قوات الدفاع الوطني السوري»، وهي ميليشيات أنشأتها إيران ومولتها وسلحتها، وتضم نحو 90 ألف متطوع سوري من الطائفتين العلوية والشيعية.
3: «قوات الدفاع المحلية»، وهي وحدات شرطة تعمل في مجالات الحراسة والإدارة المدنية للميليشيات المحلية، ويقدر عددها بنحو 50 ألف مقاتل.
4: ميليشيات شيعية من أفغانستان وباكستان، يتراوح عددها ما بين 10 آلاف مقاتل إلى 15 ألفاً.
5: حاميات شيعية ينتمي عناصرها إلى ميليشيات عراقية ولبنانية، تستخدمهم إيران كقوات تدخل سريع في مناطق القتال، وعلى رأسهم «حزب الله» ومرتزقة لا ينتمون إلى ميليشيا بعينها، ويقدر مجموعهم بنحو 30 ألف مقاتل.
إسرائيل لم تنتظر إلى حين اكتمال الفرصة لمهاجمة هذه القوات، بل يضيف التقرير أن إسرائيل حين عجزت عن إقناع بوتين بطرد الإيرانيين من جميع الأراضي السورية، عملت على تصفية قياداتهم واحداً تلو الآخر، وتصفية القيادات السورية التي تم تدريبها على أيد إيرانية!!
فكلفت حكومة نتنياهو جهاز الموساد باستئناف عمليات تصفية القيادات المتخصصة في مجال الصواريخ، ما أسفر عن اغتيال عزيز أسبر الذي يعتبر الضابط السوري الأرفع في هذا القطاع. وجاءت عملية اغتيال أسبر (4 أغسطس/ آب) عقب تنفيذ عملية نوعية أسفرت عن مقتل 3 ضباط في السويداء (1 أغسطس) هم العميد طيار نديم أسعد في الاستخبارات الجوية، قائد مفرزة أمن السوق في منطقة الضمير، والرائد سليمان إسماعيل الذي يتحدر من قرية أوبين من قضاء صافيتا، والرائد عاصم قائد مفرزة أمن منطقة المحطة، في منطقة الضمير. تبعتها عملية اغتيال نوعية أسفرت عن تصفية أحمد عيسى حبيب المسؤول في المخابرات العسكرية السورية بالقرب من مدينة مصياف (18 أغسطس الماضي) وهو ضابط رفيع في فرع فلسطين. ووفقاً لمصادر مقربة من حكومة نتنياهو فإن تل أبيب قررت العمل في الفترة المقبلة على سياسة «حرمان القوى المعادية من تطوير أسلحة متقدمة»، عبر تصفية المسؤولين والعلماء المتخصصين في الأسلحة الكيماوية والتقنيات الصاروخية، حيث تأتي عملية اغتيال عزيز أسبر وزملائه ضمن هذا الإطار.
ومع التقدم الذي يحرزه التحالف العربي في اليمن، خاصة في صعدة والحديدة، يبدو أننا سنشهد تمدد العقوبات بأنواعها كافة (حتى الربانية منها!) على وكلاء إيران في المنطقة الذين خانوا أوطانهم وباعوا أنفسهم رخيصة للعدو الخسيس.
تمثّل إدلب خريطة التفاهمات الدولية، ليس سورياً فحسب، وإنما إقليمياً ودولياً، فحيث تتسع مساحتها لحشد قوات لكل المتصارعين على سورية، فهي اليوم مأوى ما يزيد على ثلاثة ملايين مدني مرحّل من كل مناطق سورية، إضافة إلى القوات الفصائلية المحلية والمختلطة، وهي تمثل المعبر لمصالح الدول داخل سورية وخارجها، وكما أنها وسيلة ضغط تحدّد مكانة محوري الصراع في منطقة البحر المتوسط، وتوزيع مهامها، في محاولةٍ روسيةٍ للخروج من التبعية إلى موقع الندّية مع الولايات المتحدة الأميركية. وعلى ذلك، فإن السعي الروسي إلى تأزيم ملف الصراع على إدلب يأخذ مستوياتٍ مختلفة، فهو، من جهة، بين شركائها في مساري المفاوضات أستانة وسوتشي (إيران وتركيا)، ومن جهة ثانية، بين دول التحالف الدولي تحت الزعامة الأميركية.
ويمثل استحضار نشاط المتطرّفين وترويجه إعلامياً، المتمثل بجبهة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً)، في الوقت الذي تلزم فيه روسيا حليفتها تركيا بالتخلي عنها، واعتبارها منظمة إرهابية، يمثّل تحدّياً جديداً أمام نزع أحد ملفات القوة التي امتلكتها تركيا على مدار سنوات أربع. وفي مقابل ذلك، لم يترك كل من إيران وتركيا، وهما طرفا الشراكة مع روسيا، الحبل بالكامل بين يديها، فقد سعتا إلى محاصرة أطماع موسكو بالتفرّد، من خلال تفاهمات بينية بينهما، أنتجت انسحاب المليشيات الإيرانية من محيط إدلب، لتخفيف الضغط عن الفصائل المدعومة تركياً، في مقابل خرق تركيا العقوبات الأميركية المفروضة على إيران، والإبقاء على تبادل السلع بين أسواقهما، لتخفيف عبء الحصار الأميركي على اقتصاديْهما، هو ما قد يترجم إلى تحالف القوى المهزومة أمام العقوبات الأميركية التي لم تستثن روسيا أيضاً منها، ويجعل من اجتماع طهران يوم الجمعة المقبل (7 سبتمبر/ أيلول) محطة مفصلية، لمواجهة مخاوفهم البينية من ناحية، ومخاطر التحرّك الأميركي الغربي في المقابل، من ناحية ثانية، فحيث لا يمكن تجاهل الخلافات التركية الروسية، بما يتعلق بدور كل منهما في ملف الصراع السوري، ومواقفهما المتضادّة أحياناً، على الرغم من شراكتهما في مساري أستانة وسوتشي، نتيجة مصالحهما المشتركة في إزهاق مسار جنيف الأممي الذي يتناقض مع رغبة موسكو بإعادة تعويم النظام السوري، كما يتضارب مع مصالح تركيا بما يتعلق بملف الأكراد، وتوسيع دائرة نفوذهم في الشمال، وفق دستورٍ يضمن حقوقهم كاملةً كمواطنين أفراد، وكجماعة قومية تتنافس معها على الشراكة مع الولايات المتحدة الأميركية التي تسعى إلى تمكينهم من إقامة مناطق إدارة ذاتية شمال سورية، ما يهدّد، حسب زعم تركيا، الأمن القومي لها، ويهدّد استقرار مناطقها المحاذية لها، وهو ما جعلها تذهب إلى التحالف مع روسيا، على الرغم من اختلاف مواقعهما في ساحة الصراع في سورية.
كما أن التعتيم على الخلافات المصلحية بين روسيا وإيران لا يجعل من تلك التباينات في ملف الصراع السوري غير مرئية للجانبين، فإيران تدرك حجم التقارب الروسي - الإسرائيلي، كما تقيس بدقة مسافة تقارب موسكو مع واشنطن، بما يتعلّق بمبادرة السلام المزعومة في منطقة الشرق الأوسط (صفقة القرن)، حيث تقضي تفاصيلها بإبعاد إيران وتحجيمها، وتغيير سلوكها بما يتوافق والإرادة الأميركية الإسرائيلية في المنطقة، وبما يضمن أمن إسرائيل، وتوزيع خارطة النفوذ الاقتصادي بناءً على مبدأ الأرض مقابل السلام، والاقتصاد المتبادل مقابل الأمن والاستقرار.
وتأتي الرغبة الأميركية بإخراج إيران من سورية في مصلحة تمدّد النفوذ الروسي، وبما لا يتعارض مع إرادة كل من إسرائيل والإدارة الأميركية والدول الأوروبية، حيث تمارس روسيا دور الشرطي في المنطقة، كما تمثّل خط الدفاع الأولي لأوروبا في إبعاد مخاطر نمو التطرّف الإسلامي، الذي تدّعي موسكو محاصرته في إدلب اليوم، وأن من شأن وجودها في سورية طويل الأمد أن يبدّد ما عملت عليه المجموعات المتطرّفة فكرياً خلال سنوات الحرب.
وفي المحصلة، فإن الشركاء الثلاثة يحتاجون في اجتماعهم المقبل إلى تبديد مخاوفهم، والإفصاح عن مصالحهم، لإيجاد تقاطعاتٍ تحصّنهم من مواجهة ثنائية:
أولاً، ضد حلفائهم المحليين من النظام والمعارضة، حيث يعمل النظام على استرجاع منطقة خفض التصعيد الأخيرة، ليمتلك أوراق قوة تمكّنه من فرض رغباته في تفاهمات العملية السياسية، بدءاً من صياغة الدستور، مروراً بتشكيل الحكومة المشتركة بين شركاء طاولة التفاوض. ومن جهة المعارضة المسلحة، فإن أي تفاهماتٍ تؤدّي إلى تسوياتٍ على شكل ما حدث في درعا، وقبلها في الغوطتين، فهذا يعني إنهاء وجود الفصائل، وتحويلها إلى شرطة تحت إشراف مشترك روسي تركي، وهذا ما هو خلاف رغبتها، وتبعيتها التركية فقط، كما تجعلها، في الآن نفسه، في مواجهة جبهة النصرة التي تفوقهم عدداً وتدريباً وعتاداً.
ثانياً، بمواجهة خصومهم الدوليين الذين يرفضون وجود إيران ضمن تحالفٍ يصون مصالحها في سورية، ويبدّد جهود الإدارة الأميركية في حصارها، وتسوير نشاطها داخل حدودها، كما يخالف رغبتهم بتحجيم دور تركيا في إدلب، ومحاصرة مساعيها في الشمال، لإنهاء الوجود الكردي الحليف لقوى التحالف الدولي في معاركهم ضد "داعش". ما يعني أن الثلاثي الدولي (روسيا، إيران، تركيا) يواجه اليوم معضلة لقاء مصالحه البينية، في ظل حروبٍ على أطرافه "مجتمعة"، و"منفردة"، كما يواجه معضلة تفرّد موسكو وتنمّرها على شريكيْها، باعتبارها تمتلك إرادة النظام "الطرف الشرعي" في ظل الحرب المعلنة على الحليف الآخر، والأقرب للنظام أي (إيران)، ما جعل النظام يتنازع بينهما، وينقسم على نفسه بين نظام سوري روسي ونظام سوري إيراني.
وينطبق هذا على حال الفصائل المسلحة المعارضة التي انقسمت أيضاً بين فصائل مسلحة تحت الرعاية الروسية وأخرى مسلحة تحت الهيمنة المباشرة التركية، وهو ما يهيئ أجواء متوترة للشركاء، على الرغم من الحالة الظاهرية للوفاق المعلن، حيث استغلت موسكو التوترات الأميركية - التركية لتلزم الأخيرة بالتخلي عن جبهة النصرة، والوقوف إلى جانبها في حربٍ محتملةٍ على الإرهاب الذي تمثله هيئة تحرير الشام، وفصائل من التركستان، والتي فتحت المجال لدخول الصين عليها طرفا مساندا للقوات الروسية، على الرغم مما يتّسع الوقت من مفاوضات لا تزال جارية بين الأطراف الدولية، لتطويق نتائج الحرب المحتملة التي ستبتلع جهود إيقاف تدفق اللاجئين، وإعادة توطينهم داخل بلادهم.
في المحصلة، الحرب التي يروّجها النظام السوري في إدلب تجعله في قلب العاصفة، وتهيئ المناخ المناسب لانتزاع أسباب تأجيل الحل السياسي الذي سعت إليه روسيا من خلال مساراتها التعطيلية لمفاوضات جنيف، وتترك المجال عكس رغباته لإعادة إحياء مسار جنيف، على أساس أن "لا مكان للأسد في مستقبل سورية"، ليبدو النظام وكأنه يحفر حفرة لرئيسه، بدلاً من ردمها.
غارة إسرائيلية جديدة على مطار المزة العسكري في دمشق. الغارات هذه صارت بوصلة يمكن المرء أن يعتمدها لتحديد خرائط النفوذ الدولي والإقليمي داخل النظام السوري. موسكو أبعدت طهران عن الحدود السورية الإسرائيلية. هذه خطوة استدلال أخرى. تل أبيب طلبت أن تشمل الخطوة كل سورية. موسكو لم تستجب، ويبدو أن غارة الأمس مؤشر إلى صحة هذه المعلومات. والمشهد وفق هذه المعطيات يكشف عن أغرب حرب يشهدها المرء.
إسرائيل تقصف وطهران تتجاهل أنها مستهدفة. موسكو تتعهد ضبط الحدود لكنها غير معنية بما يجري خارج جنوب سورية. مطار المزة يحترق والنظام يقول إن احتكاكاً كهربائياً تسبب بهذا الحريق الهائل الذي عاينه معظم سكان دمشق. وفي هذا الوقت كان الأمين العام لـ «حزب الله» حسن نصرالله يُعلن النصر من على شاشة كبيرة مثبتة على حائط في بيروت، وكان أنصاره يحتفلون معه، بينما كان خصومه ينشرون صور المطار وهو يحترق.
هذه الحرب يمكن لأي كان أن يدعي أنه منتصر فيها.
إسرائيل منتصرة، فهي تملي شروطها والراعي الروسي يتولى تصريفها. «حزب الله «منتصر أيضاً، فالمهمة المتمثلة بحماية النظام أنجز الجزء الأكبر منها. النظام السوري انتصر أيضاً، فها هو يلتقط أنفاسه بعد سنوات طويلة من الاختناق.
علينا إذاً أن نبحث عن المهزوم في هذه الحرب. فالقول إن السوريين هم من هُزموا صحيح، إلا أننا ابتذلنا هذا القول إلى حدٍ جعلنا نشك فيه. من هم السوريون «المهزومون»؟ الإجابة عن هذا السؤال تبدو لي مستحيلة. هل هم نصف المليون قتيل؟ القتلى لا يُهزمون، كما أنهم طبعاً لا ينتصرون. وهذه حال نصف المليون مختفٍ، وأيضاً حال ملايين اللاجئين من أبناء المدن المدمرة والأرياف المستأصلة.
إذا لم يتمكن المرء من العثور على مهزوم واضح في هذه الحرب، فعليه أن يعيد النظر بهوية المنتصر. والحال أن إسرائيل، وهي أكثرنا واقعية في هذا المشرق، لا تشعر أنها منتصرة، وهي مرتابة بكل ما تم إنجازه، ووضعته موسكو على الطاولة بصفته إنجازاً. غارة الأمس على مطار المزة تكشف أن تل أبيب غير مقتنعة بما أنجزته لها موسكو. وتكشف أيضاً أن طهران لم تستكن لإرادة موسكو في إبعادها عن الحدود. وغارة الأمس تقول الكثير عن هذه الحرب الغامضة والغريبة، وتكشف فصولاً من العلاقات المعقدة التي تربط أطرافها. فهل من شيء أغرب من هذا «الاحتكاك الكهربائي» الذي عاينه أهل دمشق؟ إنه القناع الحقيقي لكل مقولات الصراع الأبدي مع عدو يقصفنا ونحن ننكر على أنفسنا أنه يقصفنا ويُمعن في قصفنا. ثم ماذا عن تفاهم تل أبيب- موسكو، الذي كان من المفترض أنه حقق للأولى شروطها؟ لقد أوقفت إسرائيل قصف المواقع في جنوب سورية. جيش النظام هناك في مأمن، بينما هو نفسه مع حلفائه هدفاً في دمشق!
الأرجح أن الغارة الأخيرة هي مقدمة لفصلٍ جديد من الحرب في سورية. وإذا كانت علامة على قناعة تل أبيب وواشنطن بأن طهران لم تستكن لتعهدات موسكو بضبطها، وهذا هو المرجح، فهذا يعني أن مشهد النيران في مطار المزة سيكون امتداداً لنيران مواجهات في سورية وفي غير سورية قالت واشنطن بالأمس إنها لن تكون بعيدة عنها.
اعترف المرشد الأعلى للجمهورية الإيرانية علي الخامنئي، في منتصف شهر آب/ أغسطس بأن المشاكل الاقتصادية التي تعاني منها إيران بشكل متزايد مؤخرا، إنما تعود في حقيقة الأمر إلى أسباب داخلية وليس خارجية.
وقال المرشد في خطاب ألقاه في طهران، إن خبراء الاقتصاد والعديد من المسؤولين يعتقدون أن سبب الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها البلاد، داخلي وليس خارجيا!
يعدّ مثل هذا الموقف لافتا للانتباه، اذ جرت العادة في إيران ودول المنطقة أن تنسب المشاكل الداخلية إلى الخارج، في محاولة للتهرب من تحمل المسؤولية، أو لتجنب تغيير السياسات المتّبعة.
رمي المشاكل على الخارج لا يحمل معه أي تكاليف سياسية، كما أنه عادة ما يلقى تجاوبا من الجمهور المحلي أو الإقليمي، نظرا للصورة السلبية التي يمثلها الخارج لدى الرأي العام في غالبية دول المنطقة.
لمثل هذا الأمر تبريراته الموضوعية بطبيعة الحال، لكن غالبا ما يتم استغلاله وتوظيفه من الأنظمة السياسية لأهدافها الخاصة.
لكن إذا كان الأمر كذلك، فهذا يستدعي بطبيعة الحال السؤال: "لماذا لم يقم خامنئي هذه المرّة بما كان من المفترض أن يقوم به، بأن يلقي اللوم على الخارج كما جرت العادة؟".
جزء من الجواب على هذا السؤال نجده في الطبيعة المركّبة للنظام الإيراني. شكليا، يوجد أجهزة ومؤسسات في إيران تقوم بما تقوم به نظيراتها في الدول الأخرى لإدارة شؤون البلاد، لكن عمليا يوجد حزام آخر من السلطات فوق هذه المؤسسات وهو حزام سلطة المرشد الأعلى.
عندما خاضت المؤسسات الإيرانية المفاوضات مع إدارة أوباما وتوصلت إلى اتفاق النووي، كان الشعب الإيراني يتوقع أن يلمس نتائج هذا الاتفاق على الصعيد الاقتصادي تحسّنا في وضعه المعيشي.
وبالرغم من أن الأموال كانت قد دخلت إلى إيران، وكذلك فعلت الشركات الأجنبية، إلا أن الوضع الاقتصادي اتجه إلى التدهور ثم ما لبثت واشنطن أن انسحبت من الاتفاق، وشرعت في فرض العقوبات مجددا.
على أحد ما أن يتحمل تبعات ما يجري داخليا، فالأموال دخلت البلاد، لكنها ذهبت في الغالب إلى الحرس الثوري الذي ازدادت موازنته بشكل كبير في الأعوام القليلة الماضية، في وقت يسيطر فيه على جزء كبير من الأنشطة الاقتصادية الضخمة في البلاد، ولا شك أن تمويلا إضافيا ذهب لمعارك إيران الخارجية وأذرعها الإقليمية في لبنان وسوريا والعراق واليمن.
المرشد الأعلى هو من أعطى الضوء الأخضر لمسؤولي المؤسسات الإيرانية وعلى رأسهم رئيس الجمهورية بالتفاوض مع أمريكا، وهو أيضا من يمتلك صلاحيات اقتطاع الأموال للحرس الثوري ولنشاطات إيران التوسعية الخارجية ولتمويل أذرعها، وهذا يعني أنه يتحمل إلى حد كبير مسؤولية ما آلت إليه الأوضاع.
في تعامله مع هذا المأزق، المرشد أمام خيارين، إما أن ينكر وجود أزمة من الأساس وهذا سيؤدي إلى تزايد التآكل في مصداقيته أمام العامة، وإمّا أن يلقي اللوم على الولايات المتّحدة.
الخيار الأول غير ممكن، والخيار الثاني أصبح مستهلكا لدرجة أنه فقد إلى حد كبير تأثيره السياسي، وأصبح البعض ينظر إليه على أنه شماعة لتغطية الأخطاء، بالتالي، فإن الاستعانة بهذه الذريعة –حتى وإن كانت صحيحة- أصبح يؤدي إلى حد بعيد عكس الهدف المطلوب من استخدامها.
هذا ما يفسر إلى حد بعيد تصريحات المرشد الموجهة إلى المسؤولين الإيرانيين. اتّهام المرشد لهؤلاء المسؤولين يخدم هدفه الأساسي -في رفع المسؤولية عن نفسه- بشكل أكبر من استخدام ذريعة أمريكا في هذه المرحلة، فهو يجعل من المسؤولين في السلطات أدناه بمثابة كبش فداء، ويعفي بذلك نفسه من المسؤولية.
بالإضافة إلى ذلك، فإن الإشارة إلى وجود مشاكل داخلية فيه شيء من الصحة، الأمر الذي يخدم المرشد في مجالات أخرى تتضمن تعزيز مصداقيته وتجديد ثقة العامة بأحكامه.
فضلا عن كل ما ذكر، فإن التصريح يتيح لخامنئي قدرة أكبر على المناورة السياسية مستقبلا، إذ إنه يحضر الناس للتأقلم مع الوضع القادم، ويدفع الحكومة القائمة والمسؤولين الجدد إلى بذل أقصى الطاقات لتحسين الوضع، وإذا فشلت، فإن البدائل الداخلية حاضرة بشكل أكثر تشددا، كما أنه سيبقى بإمكان المرشد في جميع الأحوال استخدام ذريعة واشنطن لاحقا إذا لم يتحسن الوضع الاقتصادي جراء التغييرات الحاصلة.
يثير مصير إدلب مخاوف ملايين السوريين في منطقتها وخارجها. ويطرح هؤلاء سؤالا قلقا عمّا إذا كانت أنقره ستتمسّك بضمانتها للشمال السوري، أم ستتخلى عنه... ثمّة عوامل تقرّر مصير إدلب، هي:
ـ أهمية تركيا بالنسبة لروسيا التي تفوق أهمية إدلب، وربما نظام الأسد، وستحكم موقف روسيا من دولةٍ لها مصلحة استراتيجية في إبعادها عن المعسكر الغربي. لذلك لن تغامر بإلحاق هزيمة في إدلب بها لسببين: الضرر الفادح الذي سيترتب على ابتعادها عن روسيا بالنسبة لموسكو، والنتائج القاسية والكارثية بالنسبة لمكانة الرئيس التركي أردوغان، ولصدقية نهجه السياسي. بقول آخر: لن تكرّر روسيا في إدلب ما سبق أن فعلته في الغوطة وريف حمص الشمالي، ليس فقط لأن تركيا دولة قوية، وإنما أيضا لأن عواقب استفزازها ستكون شديدة الخطورة على مجمل سياسات روسيا السورية، واستراتيجيتها الإقليمية والدولية. في المقابل، سيرغم التداخل بين الوضعين، السوري والتركي، وإخراج تركيا من إدلب بالقوة، رد فعل تركي، يتصل بحفظ أمن أنقرة القومي، وسيجبر أردوغان على الدفاع عن بلاده في إدلب، وربما في غيرها أيضا، بالخسارة المؤكدة لموسكو التي لن تتمكن من تعويضها في أي مكان آخر، وستكون أكبر بكثير من إبقاء الوضع في إدلب على حاله القائم اليوم، بضمانة تركيا.
ـ بما أن الرئيس الروسي بوتين حدد آخر العام الحالي مهلة نهائية لإنهاء القتال في سورية، ومطلع العام لبدء الحل السياسي، وبالنظر إلى التزام عسكر ودبلوماسيي روسيا بخططها، فإن خيار موسكو سيذهب، على الأرجح، نحو عمليةٍ محدودةٍ، لا يموت فيها الذئب أو يفني الغنم، تبقي على صدقية الكرملين، من دون أن تطيح علاقاته مع أنقرة، وتضعف مكانة أردوغان ونهجه، عبر ما يسمّيه الأسد متبجحا: "معركة تحرير إدلب" التي ما كان ليجد في نفسه الجرأة على مجرد الحديث عنها، من دون دعم جوي روسي، يرجح أن يقدّم له بصورة مقيّدة في الساحل، وصولا إلى جسر الشغور، لفتح طريقي حلب/ دمشق، واللاذقية / حلب السريعين، كما يقال.
ـ ليس لروسيا مصلحة في تخريب علاقات استراتيجية الأبعاد مع تركيا، من أجل مسألةٍ لها حلول متنوعة غير الدخول في مكاسرة عسكرية/ سياسية مع أنقرة التي أخبرت موسكو أن صلاتها الطيبة معها ليست بديلا لعلاقاتها مع أوروبا وأميركا. وليس أردوغان خوّافا يستسلم أمام التلويح بالقوة، لذلك جدّد تمسّكه بإعادة الأمن والاستقرار إلى سورية والعراق، بينما تبدو واشنطن مصمّمة على تعزيز موقع الكرد في المعادلة السورية، وربما الإقليمية، ما يجعل لإدلب أهمية استراتيجية مضاعفة بالنسبة للرئيس التركي، بالنظر إلى أن إخراج تركيا منها يعني خروجها من المسألة السورية، ودخول في المقابل إلى تركيا. وفي السياسة، يفضل المرء الدفاع عن أمنه خارج حدوده، على ترك الأخطار تقتحمها، وتنتقل إلى داخلها.
ـ إخراج الشمال، ولو مؤقتا، من قرار روسيا الإجهاز على مناطق خفض التصعيد والتوتر، الذي قضى عليها في الغوطة الشرقية وجنوب دمشق وريف حمص الشمالي، وترك فسح متعاقبة من الوقت، لحل مشكلة جبهة النصرة في إدلب ومحيطها، دليل آخر على ما لأنقرة من أهمية استثنائية في نظر موسكو، وثقة بأنها تستطيع حل مشكلتها من دون حرب.
ـ هناك، أخيرا، احتمال وحيد قد يغير هذه الحسابات، هو تفاهم أميركي/ روسي على طي الصفحة الكردية، وسماح أنقرة بعودة الأسدية إلى الشمال السوري، بما فيه الجزء الذي تحتله أميركا منه. هل هذا احتمال واقعي؟ لا أعتقد. لذلك يبقي مصير إدلب رهنا بالعلاقات بين أنقرة وموسكو.
قال سقراط منذ القرن الخامس قبل الميلاد: "الخوف يجعل الناس أكثر حذرًا، وأكثر طاعة، وأكثر عبودية". تحوّلت هذه المقولة إلى منهج حقيقي يستخدمه الطغاة، خصوصا طغاة هذا العصر، لاستعباد شعوبهم، ولعل أهم مثال هو النظام الحاكم في سورية، لن يتفوّق عليه أحد في حجم الرعب الذي نشره، وفي طريقة استفادته من هذا الرعب، وجعل الإنسان السوري مخيرا دائما بين وجود النظام ونشر الفوضى والموت في كل زاوية وكل لحظة.
يحتفي العالم باليوم العالمي للمغيّبين قسريا، وفيه توثّق منظمات حقوق الإنسان ما يزيد عن ستين ألف اسم سوري مغيب قسريا، لا يعرف أحد عنهم شيئا، وتقول الأمم المتحدة إن 90% منهم مغيبون على يد عناصر الأمن التابعة للنظام الذي لا يعترف بوجود أحد منهم، والذي يعتمد التغييب القسري للتخلص من الناشطين، ولإثارة المزيد من الذعر، والخوف، وللتهرّب من مساءلته عن مصير معارضيه السلميين المغيبين قسريا، والذين ليس بينهم وبين اعترافه بموتهم تحت التعذيب إلا بعض الزمن، وبعض الأرقام التي تحولوا إليها، بعدما كانوا عقولا تحمل أحلام الحياة والحرية والعدل والمساوة، وتراهن على عالمٍ خذلها حتى الموت.
وقد كانت الأمم المتحدة، وفي قرار للجمعية العامة مؤرخ في 21 ديسمبر/كانون الأول 2010، قد أعربت عن قلقها العميق تجاه ازدياد حالات الاختفاء القسري، أو غير الطوعي، وتجاه تزايد عدد التقارير التي تشير إلى تعرّض أقارب المختفين للمضايقة، وسوء المعاملة أو التخويف، وإلى المضايقات التي يتعرّض لها المدافعون عن حقوق الإنسان، والشهود، والمحامون الذين يعنون بقضايا الاختفاء القسري؛ كما أنها أكّدت على خوفها من استغلال الدول الاستبدادية أنشطة مكافحة الإرهاب ذريعةً لانتهاك التزاماتها بقوانين حقوق الإنسان. وقد اعتمدت الجمعية حينها الاتفاقية الدولية لحماية الأشخاص من الاختفاء القسري، كما قرّرت أن تعلن 30 أغسطس/آب يوما دولياً لضحايا الاختفاء القسري، يُحتفل به اعتباراً من عام 2011، لكنها لم تتوقع أن يكون ذلك العام، وهو عام بدء الثورة السورية، بدايةً لتسجل سورية أكبر رقم للمختفين قسريا في العالم.
كانت حالات الاختفاء القسري قد بدأت في سورية منذ استلام الأسد الأب السلطة، خصوصا لمعارضيه السياسيين، ولزملائه في عملية الانقلاب العسكري التي قام بها، واستمرت بعد استلام الأسد الابن الذي أوهم الناس ببعض الانفتاح السياسي، ما جعل السياسيين يشكلون المنتديات في عام 2000. وشنّ بعدها بسنة حملة اعتقالات مرعبة، طاولت كل من وقّع على "إعلان دمشق" الذي جاء بعد مرحلة "ربيع دمشق" التي طالب بها مئات المثقفين في سورية، بالقيام بإصلاحات جذرية، وبإنهاء السلطة الأمنية التي تحكم البلاد، ورفع حالة الطوارئ، وبالسماح بقيام أحزاب مختلفة تتناوب على الحكم، وباستعمال منهج اقتصادي جديد ينقذ البلاد، وينهي الفساد الاقتصادي والسياسي فيها، لكن المشاركين جميعهم قوبلوا بالاعتقال والتعذيب، أو بالاختفاء القسري.
وبعد بدء ثورة الكرامة في سورية، ازدادت حالات الاختفاء القسري بطريقةٍ مرعبة، جعلت الأمم المتحدة تطالب بتشكيل "لجنة خاصة لتقصّي مصير ضحايا الاختفاء القسري في سورية"، وسمحت لمحامين سوريين عديدين بإثارة هذا الموضوع على المستوى العالمي، ولعل ما يقوم به أنور البني ومشيل الشماس هو أول خطوة عالمية حقيقية. لكن هل ستنجح في تذكير العالم بالذين يعيشون فقط بأسمائهم ما بين الموت والحياة؟
في اليوم العالمي للمغيبين قسريا، يحضر في أرواحنا وذاكرتنا المحامي خليل معتوق الذي دافع طوال عمره عن كل معتقلي الرأي في سورية، والذي أثار قضية المغيبين قسريا، وغيب قسريا منذ عام 2014، من دون أن يستطيع أحد معرفة شيء عنه. وهناك عبد العزيز الخير الذي دافع عن سلمية الثورة، واعتقله النظام منذ ست سنوات، ولم يعد يعترف بوجوده، على الرغم من طلب منظمات حقوق الإنسان العالمية الكشف عن مصيره. ونذكر ناصر بندق ومحمد ظاظا وزكي كريللو وابنه، ورانيا العباسي وزوجها عبد الرحمن ياسين وأطفالهما الستة، ولا ننسى رزان زيتونة وسميرة الخليل وناظم حمادة. واليوم نذكر أيضا مختطفات السويداء، اللواتي اختطفتهم عصاة النظام التي ينخرها السوس، وتسمى "داعش"، منذ شهر، ولم يزلن مغيبات قسريا، بينهن اثنتا عشرة طفلة.
نذكُركم يا ستين ألف قلب، وستين ألف حلم، وستين ألف أم تيبست وهي تنتظر، نذكركم ولا نعرف إن كنتم في زنازين النظام حيث تموت الحياة، أم أصبحتم كومة عظام في مقابر جماعية، تسع عظامكم وضمير العالم معكم. نقول لكم: لا تسامحوا هذا العالم، لا تسامحوا الأمم المتحدة، لا تسامحوا اليوم العالمي للمغيبين قسريا. ولا تسامحونا، لأننا لم نعد نمتلك لكم سوى الكتابة عنكم، وحمل أحلامكم معنا إلى بلاد الله الضيقة.
تتواصل أزمة تشكيل الحكومة اللبنانيّة التي جزم رئيس الجمهورية ميشال عون بأنه سيتغلب عليها في القريب العاجل، موحياً باحتمال تكليف شخص آخر غير سعد الحريري. ومن ناحيتهم، رفض قادة الطائفة السنية، على رغم اختلافاتهم، ما اعتبروه تعدياً على صلاحيات رئيس الحكومة السني. والحال أن هذه الأزمة هي خلاصة «عقد» ثلاث، بحسب اللغة السياسية والإعلامية المعتمدة في لبنان:
فهناك، أولاً، العقدة المارونية ومفادها رفض «التيار الوطني الحر»، أي حزب رئيس الجمهورية، الإقرار بالوزن الجديد الذي باتت تحظى به «القوات اللبنانية» في الانتخابات النيابية الأخيرة. أما ثانياً، فهناك العقدة الدرزية وتتمثل برفض «الحزب التقدمي الاشتراكي» وزعيمه وليد جنبلاط تمثيل خصومه في الطائفة ممن يتزعمهم طلال أرسلان. وثالثاً، هناك العقدة السنية وفحواها تمثيل السُنة المناهضين لزعامة آل الحريري، كعبد الرحيم مراد وأسامة سعد وسواهما ممن فازوا، هم أيضاً، في الانتخابات الأخيرة.
ولا شك أن أسباباً داخلية لبنانية تفسر جانباً من هذه الخلافات، أو «العقد». فكما تتنافس الطوائف عادة على توسيع حصصها وتقليص حصص سواها، كذلك تفعل الحزبيات داخل كل واحدة من الطوائف. هذه القاعدة الراسخة في السياسة اللبنانية، والتي تحرّكها الرغبة في الاستحواذ على تقديم الخدمات والتنفيعات، إنما يزيد في تعقيدها اليوم حضور المسألة السورية في لبنان. ذاك أن نظام بشار الأسد يتصرف وكأنه قد أنجز انتصاره على معارضيه، وأنه ينوي بالتالي استثمار هذا الانتصار في لبنان الذي كان سبّاقاً في كسر شوكته بدليل إخراج الجيش السوري منه في 2005.
والعودة الظافرة إلى لبنان لها عناوين كثيرة أهمّها التطبيع الكامل للعلاقات بين الدولتين، ومن ثم التحكّم ببضعة عناوين أساسية كعودة اللاجئين والنازحين السوريين من لبنان، وأوضاع المعارضين منهم المتروكين من دون أي حماية أو ضمانة، فضلاً عن ملف إعادة الإعمار في سوريا والذي لا تزال الجعجعة حوله تفوق كثيراً الطحن المأمول. فلبنان، إلى جانب كونه «خاصرة سوريا»، بحسب اللغة البعثية المعهودة، يستطيع أن يلعب دور كاسحة ألغام، عربياً ودولياً، أمام تطبيع أوسع مع نظام الأسد. وهناك إشارات كثيرة إلى أن الروس، ذوي الوزن المتعاظم في المنطقة، يلعبون دوراً ضاغطاً في الاتجاه هذا.
لكن انتصار الاتجاه المذكور يتطلب الإمساك بالحكومة اللبنانية عن طريق القوى الثلاث: «التيّار الوطني الحر» أو العونيين، والسنّة المناهضين للحريري، وطلال أرسلان. فالطرفان الثاني والثالث معروفان بعلاقات لم تفتر حرارتها مرةً مع دمشق، أو مع «حزب الله»، بينما ميز الطرف الأول بين مناوأة النظام السوري حين كان في لبنان قبل 2005 والانفتاح عليه بعد انسحاب جيشه. وفضلاً عن اتفاق «التفاهم» الذي جمع العونيين بـ«حزب الله»، فإنهم التزموا، في جميع المسائل الأساسية والكبرى، نفس مواقف النظام السوري.
لقد شارك «حزب الله»، كما هو معروف جيداً، في الحرب السورية، وكان لمشاركته أثرها في تعديل التوازنات العسكرية، قبل أن يتكفل التدخل الروسي، ابتداء ب 2015، بحسم الصراع لصالح بشار الأسد. وترتبت على هذه المشاركة، من قبل حزب ممثّل في الحكومة اللبنانية، نتائج عدة بعضها يتعلق بتهجير السوريين، وبعضها يتصل بتجويف معادلة «النأي بالنفس» اللبنانية وإفراغها من كل معنى. أما اليوم فيدل تعقيد تشكيل الحكومة على رغبة حلفاء حزب الله في الانتقال إلى الاستثمار السياسي للنتائج الحربية. هكذا لا يعود كافياً تعطيل مبدأ «النأي بالنفس» بل يغدو المطروح الانتقال إلى تحالف سياسي صريح مع النظام في دمشق. وأسوأ ما في الأمر أن «المعتدلين» في هذا الاتجاه لا يجدون إلا الروس طرفاً يراهنون عليه لضبط جموح إيران و«حزب الله»!