نسمع أو نقرأ من حين إلى آخر هنا وهناك، ما مفاده أن السوريين المناهضين لحكم بشار الأسد وحزب البعث قد أضاعوا فرصة الانتصار نتيجة تشرذمهم، وعدم قدرتهم على توحيد الصفوف والطاقات، ليتحولوا لاحقاً إلى أدوات بيد الدول وأجهزتها التي استخدمتهم مجرد واجهات لتمرير ما تم التوافق عليه. توافقات لا تقيم وزناً لتضحيات السوريين الجسمية التي قدّموها على مدار أكثر من سبع سنوات.
وللتوضيح ضمن هذا السياق نقول: إننا لم، ولن، نزعم أن الأطر السياسية التي ظهرت في خضم الثورة كانت مثالية متكاملة، تجسّد المطلوب. بل بيّنا باستمرار أنها كانت مشاريع مفتوحة لتشكيل مجموعة قيادية متماسكة، قادرة على التوفيق بين طاقات السوريين التوّاقين الى الحرية، وتعمل على تركيزها في مواجهة النظام. وتسعى في الوقت ذاته، من أجل حشد تأييد الرأي العام العربي والدولي لمصلحة قضية شعبها.
فقد بيّنا منذ اليوم الأول، أن المشكلة الأساسية التي تواجه السوريين الثائرين على الحكم الفاسد، تتمثّل في عدم وجود أحزاب سياسية ومنظمات مجتمع مدني قوية بمصداقيتها وبقاعدتها الشعبية، وقادرة على وضع الخطوط الأساسية لاستراتيجية تكون في مثابة خارطة طريق للتعامل مع الوضعية الصعبة بغية الخروج منها بأقل الخسائر.
لكن مع ذلك، بُذلت جهود كبيرة من أجل تجاوز هذه العقدة. وكان التحرّك في مختلف الاتجاهات من أجل دعم دولي مساند للشعب السوري، ومدافع عنه في مواجهة نظام وحشي، لم، ولن، يتورع عن ارتكاب أفظع الجرائم من أجل البقاء.
وقد أنجز المجلس الوطني السوري على رغم ضعف الإمكانات، وقلة الخبرة والسلبيات الكثيرة التي كان يعاني منها، الكثير على طريق جمع كلمة السوريين. وحافظ على استقلالية القرار ضن حدود المستطاع. وكان في مقدوره أن يفعل الأكثر إيجابياً.
إلا أنه كان من الواضح والمؤكد أن الموقف الدولي منذ البداية لم يكن في مصلحة السوريين، فكانت الذرائع المتواصلة، والمطالب المستمرة من جانب الدول المؤثرة في المجموعة التي أعلنت عن نفسها صديقة للشعب السوري، بضرورة العمل من أجل تقديم البديل المقنع.
وما تبين لنا في ما بعد، أنها لم تكن مقتنعة أصلاً بعملية التغيير، بل كانت تسعى الى احتواء ثورة السوريين، وتهدد بما ينتظرها من التشدّد والإرهاب. هذا في حين أنها تجاهلت، من موقع العارف، الدعم اللامحدود الذي كان النظام يحظى به من جانب حلفائه.
فالمشكلة إذاً لم تكن في السوريين، وصعوبة توافقهم واتفاقهم. وإنما كانت تتجسد أساساً في عدم وجود إرادة دولية تدعم عملية تغيير النظام في سورية، وذلك لأسباب عديدة يعرفها الجميع.
الحالة السورية هذه تتماثل وتتقاطع في أوجه كثير منها مع الحالة اللبنانية قبل، وبعد، اغتيال الرئيس رفيق الحريري، الذي جاء ليكون ذروة الاغتيالات التي كانت تتم في ذلك الحين في لبنان. وهي اغتيالات شملت شخصيات سياسية وثقافية مناهضة لوجود قوات النظام السوري ونفوذه الأمني في لبنان.
فقد تمكنت قوى 14 آذار في ذلك الحين، من استقطاب الجمهور الأوسع من اللبنانيين من مختلف الطوائف والتوجهات السياسية. وكانت القوى والأحزاب السياسية الأساسية بزعاماتها المعروفة هي التي تقود اللبنانيين المطالبين بالخروج السوري العسكري والأمني من لبنان. وقد تحقق هذا المطلب في خضم التحرك الشعبي العارم، وذلك بفضل التعاطف والضغط الدوليين، لا سيما من جانب فرنسا بزعامة جاك شيراك. وتشكلت لجنة دولية، كما نتذكر جميعاً، للتحقيق في موضوع الاغتيال أو الاغتيالات. وكانت تقارير ميليس موضوع اهتمام الجميع تحليلاً، ودراسة، وتوقعاً.
وذلك كله ترافق مع وجود نحو 150 ألف عسكري أميركي في المنطقة بعد إسقاط حكم صدام حسين. وتصدّر المحافظون الجدد المشهد أميركياً، ودولياً، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وتخبّطت روسيا في جملة مشكلاتها الداخلية.
واعتقد كثيرون منا أن التغيير قادم إلى المنطقة، وأن مجتمعاتنا ستبدأ بعملية الدمقرطة، لتتمكّن من تجاوز مشكلاتها، وتتفرّغ لقضايا التنمية التي من شأنها ضمان فرص التعليم والعمل للأجيال الشابة، وذلك كله يصادر بطبيعة الحال على الإرهاب وذرائعه، ويجفّف مستنقعاته.
لكن الذي تبين لنا في ما بعد، أننا كنا تحت تأثير منطق التمنيات، والرغبات، والأحلام الوردية التي كانت تحلق في عوالم جميلة، لا علاقة لها بعالم الحسابات والمصالح. فلجنة التحقيق المشار إليها باتت جزءاً من الماضي المستبعد الذي قد يستخدم، بمقادير مدروسة، حين اللزوم. وعاد حزب الله بعد فترة كمون، أعقبت الخروج السوري من لبنان، إلى الواجهة، ليستعرض قواته في بيروت والجبل. وأجبر الحريري الابن كما نتذكر جميعاً، في سياق التفاهمات القسرية التي كانت، على تمضية ليلة، ولا أصعب منها، ولا يحسد عليها، مع المسؤول عن اغتيال الحريري الأب، وذلك في رسالة أفهمت الجميع، بخاصة ميشال عون خصم النظام السوري السابق وحليفه الحالي، بأن التغيير المنشود لن يكون. وأن السياسة المعتمدة أميركياً في لبنان وسورية ما زالت هي هي، سياسة محورها تغيير سلوكية النظام السوري، وليس تغييره هو نفسه.
ولعله من اللافت أن مصطلح تغيير السلوكية عاد إلى الظهور هذه الأيام مجدداً في سياق التشدد الأميركي مع النظام الإيراني، بعد أن تمكّن هذا الأخير من زعزعة استقرار وأمن دول المنطقة بأسرها ومجتمعاتها.
والاعتقاد السائد هو أن هذا التشدد سيستمر إلى حين الاتفاق على صفقة مع النظام الإيراني، الذي يثبت سجله أنه هو الآخر لا يقل براغماتية عن النظام السوري، فكل شيء في عرفهما مباح من أجل البقاء.
أما لغة الشعارات التي يعتمدها هذا النظام أو ذاك، فهي تعد جزءاً من» عدة الشغل» هدفها استهلاك محلي، وتجييش مذهبي، قوموي، لمصلحة مشاريع لا تخدم أمن المنطقة وسلامتها.
إننا إذا عدنا إلى العام الأول للثورة السورية، وتابعنا المواقف والتحركات الدولية التي كانت في حينها، واستمرت في أشكال متباينة في السنوات اللاحقة، وصولاً إلى يومنا هذا، ندرك أن سياسة إدارة الأزمة التي اعتُمدت منذ البداية ما زالت مستمرة، وهي سياسة استنزفت الطاقات، وتسببت وتتسبب بتدمير سورية، وتشريد أكثر من نصف شعبها، لكن مع هذا نسمع هنا وهناك أصواتاً تدعو إلى التكيّف مجدداً مع وجود نظام بشار باعتباره أهون الشرين، أو أن السلام الناقص أفضل من الحرب، على حد تعبير الرئيس كارتر في مقال له أخيراً حول الموضوع ذاته.
وكما اختزلت تضحيات اللبنانيين ومطالباتهم في لجنة تحقيق غدت في حكم المنسي، ها هي مطالب السوريين وتضحياتهم تختزل اليوم في لجنة دستورية، لجنة لن يتمخض عنها، في أفضل الأحوال، سوى دستور شكلي، لن يتم العمل به في ظل نظام أمني قمعي، ما زال هو المهيمن والمتحكّم في مفاصل الدولة والمجتمع.
أكدت إدارة ترمب في 18 أغسطس (آب) استمرار وجود القوات الأميركية في سوريا. وأوضح مسؤولون أميركيون أنه ليس هناك موعد زمني محدد لإنهاء الوجود العسكري الأميركي في سوريا.
والآن إذا كانت القوات الأميركية باقية في سوريا، السؤال الأبرز: ما الهدف الأميركي من وراء هذا القرار؟ من ناحيتهما أعلنت وزارتا الخارجية والدفاع أن الهدف إنزال الهزيمة بتنظيم داعش إلى الأبد. ومن المنتظر أن تشن القوات الأميركية وحلفاؤها من «قوات سوريا الديمقراطية» هجوماً قريباً على آخر معاقل «داعش» في سوريا للسيطرة عليه، تبعاً لما أفاد به مسؤول رفيع المستوى.
ومن المقرر، أن يقوم الأميركيون بتوجيه عملية إعادة بناء الرقة على المدى القصير بالاعتماد على أموال قادمة من دول حليفة. وتقوم النظرية الأميركية في هذا الجانب على أنه إذا توافرت لدى الأسر المحلية مياه نظيفة وكهرباء وإسكان فلن يتمكن «داعش» من تجنيد مقاتلين جدد. أيضا، يقوم الأميركيون بتدريب قوات أمنية محلية في شرق سوريا للمعاونة في احتواء «داعش».
هذه هي مجمل الخطة الأميركية لتوفير حل دائم لتهديد «داعش»، لكن المشكلة أن الخطة تكاد تبدو وكأنها موجهة لدولة أخرى غير سوريا. مثلاً، من الواضح أن أميركا لا تشغل بالها بمسألة تجنيد «داعش» لعناصر من داخل المناطق التي تسيطر عليها الحكومة السورية. إضافة لذلك لا تزال حكومة الأسد تتعهد بإعادة السيطرة على جميع الأراضي السورية بما في ذلك الواقعة شرق البلاد، وذلك باستخدام القوة العسكرية إذا لزم الأمر.
أما الأميركيون، فيتعهدون بالدفاع عن حلفائهم المتمثلين في «قوات سوريا الديمقراطية» حال تعرضها لهجوم من جانب القوات الحكومية. ويعني ذلك إقرار وجود عسكري أميركي دائم داخل سوريا والذي أكد الرئيس ترمب مراراً أنه لا يرغبه.
ويبقى هذا الغموض حتى مع تعيين السفير الأميركي السابق لدى العراق وتركيا، جيمس جيفري، ممثلا لوزير الخارجية مايك بومبيو لشؤون التعاون السوري. وتدور مهمة جيفري حول دفع المحادثات التي تقودها الأمم المتحدة قدما بغية الوصول لحل دبلوماسي للحرب الأهلية السورية. وسبق أن أعلن بومبيو في 17 أغسطس أن الحل سيتضمن تعديل الدستور والانتخابات بصورة تتماشى مع الخطة الواردة في قرار مجلس الأمن رقم 2254 الصادر عن الأمم المتحدة.
من جانبي، سبق لي العمل بصورة وثيقة مع السفير جيفري داخل العراق منذ 15 عاماً. وهو رجل شديد الذكاء ودؤوب للغاية. ولا بد أنه يدرك خاصة بعد تجربة العراق أن الدستور ليس سوى حبر على ورق من دون حكومة تحترم حكم القانون. بالنسبة إلى الرئيس الأسد واستخباراته فإنهما لم يحترما من قبل قط حكم القانون. كما أن جيفري ذكي بما يكفي لمعرفة أن الانتخابات في ظل النظام الأمني السوري لن تكون سوى مزحة سخيفة. وقد اعترف وزير الخارجية بومبيو نفسه في يونيو (حزيران) خلال جلسة عامة لمجلس الشيوخ الأميركية بأن الولايات المتحدة لا تملك سلطة تحقيق الحل السياسي الذي ترغبه داخل سوريا.
ومن المثير للاهتمام أن المبعوث الخاص للأمم المتحدة للشأن السوري ستيفان دي ميستورا وجه الدعوة فقط إلى روسيا وإيران وتركيا للحضور الشهر المقبل في جنيف لمناقشة الدستور السوري. وبذلك يتضح أن القوات الأميركية في شرق سوريا لم تفلح في توفير مقعد لجيفري في محادثات الأمم المتحدة بجنيف.
ويأمل الأميركيون في أنه إذا رفضوا هم وحلفاؤهم جميع الطلبات الروسية لتمويل إعادة بناء سوريا تحت قيادة الأسد فإنهم بذلك سيحصلون على مزيد من النفوذ داخل سوريا، وسيجبر الروس الأسد وإيران على تقديم تنازلات سياسية كبيرة. الحقيقة أن الأسد بمقدوره الاستمرار في الحكم لفترة طويلة دون الشروع في إعادة بناء البلاد. علاوة على ذلك فإن حلفاءه الروس يحاولون عزل واشنطن عن الملف السوري.
جدير بالذكر، هناك مواجهة دبلوماسية قائمة بين أميركا وتركيا في وقت تعمل روسيا بصورة تدريجية على بناء علاقة تقوم على الضغوط والتعاون مع تركيا بخصوص سوريا. أيضا سيتولى لافروف تنظيم اجتماع مع تركيا وفرنسا وألمانيا لمناقشة الملف السوري. وفي تلك الأثناء فتح الأسد الباب أمام مفاوضات داخل دمشق مع الحزب السوري الكردي الذي تعتبر الميليشيا التابعة له النواة التي قامت عليها «قوات سوريا الديمقراطية» المتحالفة مع الولايات المتحدة. وإذا نجح الأسد في التوصل لاتفاق سياسي مع الأكراد السوريين فإن الموقف الأميركي في شرق سوريا سيزداد صعوبة رغم المهارات الدبلوماسية التي يمتلكها السفير جيفري وزملاؤه.
من ناحيته، قال جون بولتون مستشار الأمن القومي لترمب في 22 أغسطس إن روسيا في مأزق لا تستطيع الفكاك منه داخل سوريا. ويأمل بولتون في أن ينجح في المساومة بخصوص انسحاب أميركي من سوريا، مقابل انسحاب مماثل من جانب إيران. كما يأمل في أن تتمكن روسيا من الضغط على إيران لقبول اتفاق الانسحاب، لكن روسيا من ناحيتها تصر على أنها لن تجبر إيران أو ليس باستطاعتها إجبارها على مغادرة سوريا. وبالتالي يبدو أن الأميركيين محصورون هم أيضا داخل سوريا. وليس بمقدور القوات الأميركية ولا دبلوماسييها السيطرة على القرارات السياسية للأسد أو إجبار إيران على الانسحاب من سوريا. ولا تعتمد استراتيجية واشنطن لوضع حل دائم لمشكلة «داعش» على الإجراءات التي تتخذها واشنطن فحسب، وإنما أيضا إجراءات دمشق وموسكو والتي يمكن لواشنطن التأثير عليها بصورة طفيفة لكن لا يمكنها السيطرة عليها.
عينت الإدارة الأمريكية مبعوثًا خاصًّا جديدًا لها في سوريا، في إطار مساعيها لإيجاد حل سياسي.
منذ استقالته من العمل في الدولة، يعمل السفير جيمس جيفري في مؤسسة بحثية بواشنطن.
جيفري هو واحد من القلة النادرة من الدبلوماسيين المنطقيين الذين يفهمون تركيا جيدًا، ويعملون على إيجاد حلول للمشاكل العالقة من خلال اتخاذ مواقف ودية.
عمل جيفري سفيرًا في أنقرة ما بين 2008 و2010، وفي بغداد ما بين عامي 2010 و2012، وعليه فهو من أفضل الخبراء المختصين بشؤون تركيا والمنطقة، في واشنطن.
وفي ظل دخول الملف السوري مرحلة شديدة الحساسية بالنسبة لتركيا، اعتبر من جهتي تعيين جيفري مبعوثًا خاصًا لأمريكا في سوريا خبرًا جيدًا فهو شخص معقول ومؤيد لحل المشاكل عن طريق الحوار مع تركيا.
ينتمي جيفري للحزب الجمهوري، لكنه عارض انتخاب ترامب قبل إجراء الانتخابات الرئاسية، بل إنه أصدر بيانًا أعلن فيه صراحة معارضته.
ويقف جيفري بعيدًا عن التيار الإنجيلي المسيطر على الحزب الجمهوري في الآونة الأخيرة، وهو قريب جدًّا من الخط السياسي الكلاسيكي الساعي إلى التفكير بطريقة منطقية في الحزب.
وحالت خبرته الكبيرة بشؤون تركيا والمنطقة دون تصاعد الاعتراضات على تعيينه مبعوثًا لبلاده في سوريا.
بيلينغسلي في وزارة الخارجية
في سياق آخر، عينت الإدارة الأمريكية مارشال بيلينغسلي مساعدًا لوزير الخارجية لشؤون الديمقراطية وحقوق الإنسان، بعد أن كان يشغل منصب مساعد الوزير المسؤول عن قسم تمويل الإرهاب والجرائم المالية في وزارة الخزانة الأمريكية.
ومن المعروف أن بيلينغسلي لا يحب تركيا كثيرًا، وهو لا يخفي آراءه هذه. وخلال اجتماع له مع رجال أعمال في أنقرة كانت مواقفه المتصلبة وتصريحاته غير الدبلوماسية ملفتة للنظر.
خصص معظم جهوده عندما كان في وزارة الخزانة لمتابعة إيران وتركيا، وتترقب أوساط المتابعين للشؤون التركية في واشنطن ما سيفعله بيلينغسلي في وزارة الخارجية.
طاقم جديد لمتابعة الشأن الإيراني
جدد وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو الطاقم المختص بمتابعة الشأن الإيراني، الذي من المنتظر أن تشهد الأمور فيه سخونة متصاعدة.
عين بومبيو برايان هوك على رأس الطاقم المذكور. وهوك هذا ليس من أبناء السلك الدبلوماسي، وعينه ترامب في الخارجية، لينسق العمليات المقرر تنفيذها في مواجهة إيران.
وجه الكونغرس الأمريكي خطابًا إلى بومبيو اعترض فيه على تعيين هوك في هذا المنصب. وأعرب الكونغرس في الخطاب عن اعتقاده بأن تعيين هوك في المنصب المذكور أمر غير صائب، لأنه يتعامل بعنصرية مع موظفي السلك الدبلوماسي، ويتصرف معهم بأسلوب سيئ. بيد أن اعتراض الكونغرس لن يقف حائلًا أمام تعيين هوك.
بعد الهزائم القاسية التي تعرّضت لها التنظيمات التكفيرية المتطرّفة، خرج قادة "داعش" وهيئة تحرير الشام و"القاعدة"، في وقت واحد، للإعلان عن استمرارهم في العمل التخريبي الذي كرّست له المنظمات الثلاث جهودها في السنوات الطويلة الماضية في المشرق العربي، والذي كان من نتيجته تثبيت الحكم الطائفي المذهبي في بغداد، وتقديم الذريعة المطلوبة لتأليب الرأي العام العربي والعالمي ضد الثورة الشعبية السورية، ومشروع الديمقراطية عموما في المنطقة العربية، وزرع الخوف من جديد في الدول الكبرى من أي تغيير أو انتقال سياسي في الشرق الأوسط، وتخليد الحروب الداخلية التي تمزّق شعوبه، واستدعاء التدخلات والحروب الخارجية التي تتّخذ من الحرب ضد الإرهاب وسيلتها لإجهاض أي حركة تغيير، أو تقدّم، داخل المنطقة، وربما تغيير خريطتها الجيوسياسية والديمغرافية.
ليس من المؤكد أن هذه المنظمات صنيعة مباشرة لأجهزة الأمن التي تستخدمها، أو تستفيد منها في البلدان المختلفة، لتبرّر أعمالها، لكن أحدا لا يمكن أن يُنكر أنها عملت في السنوات الماضية حليفا، شرعيا أم ابن زنى، للتحالف المعادي للثورة، وكانت بمثابة الخنجر الذي غرز في ظهر الحركات الشعبية والديمقراطية العربية. ولا يغيّر شيئا من هذه الواقعة إن كان ذلك نتيجة التقاء المصالح في تدمير الدول القائمة، وزرع الفوضى واليأس عند الشعوب، أو بسبب الاختراقات الكبيرة والأكيدة التي نجحت أجهزة الأمن الإقليمية والدولية في إحداثها فيها. فليس هناك أدنى شك في أن خطط هذه المنظمات ومشاريعها كانت تسير في تناغم واسع مع خطط الثورة المضادة واستراتيجياتها. لكن الدول الغربية والشرقية التي تتخذ من هذه المنظمات ذريعةً لتبرير الحظر الذي تفرضه على ولوج الشعوب العربية عصر الحرية والديمقراطية والسلام والتقدّم، ليست بريئة أبدا. فهي التي صنعت، بسياساتها الاستعمارية واستهتارها بمصالح الدول والشعوب، ودعمها النظم الاستبدادية، بل فرضها حكومات ظالمة وجائرة وحمايتها والدفاع عن سقطاتها وجرائمها، ومثالها الفاقع حكومة الأسد، المستنقع المنتن الذي نشأت فيه وترعرعت هذه النبتة الوحشية السامة.
وإذا كانت هذه المنظمات لا تزال، بعد ما عانته من هجماتٍ "مميتةٍ"، بحسب الروس والأميركيين، تتجرأ على تهديد الجميع، وتستطيع أن تستعيد المبادرة من جديد، فذلك لأنها تدرك أن فشل الدول التي ادّعت محاربتها في التوصل إلى حلول دائمة وعادلة في المنطقة، وفي سورية الملتهبة بشكل خاص، يترك لها هامش المناورة واسعا، كي تستعيد أنفاسها وتستمر في حربها التخريبية الدائمة. فهي تعيش في الحرب، وتتغذّى منها، والسبب الرئيسي لاستمرار الحرب في المنطقة هو اليوم تنازع الدول على السيطرة ومناطق النفوذ وتقويضها استقرار الدول والشعوب الضعيفة، وتخلّيها عن التزاماتها الدولية، وتنكّرها لقرارات الأمم المتحدة والشرعية الدولية التي حوّلتها إلى كلمات فارغة، ومعها القانون الدولي والتضامن الإنساني والأمل بمستقبل خالٍ من الاستبداد والاستعباد والعدوان.
يتخذ هذا التحليل أهمية خاصة اليوم، على ضوء المواجهة الجديدة المنتظرة في محافظة إدلب السورية التي يبحث فيها الروس، وأداتهم الأسد، عن ذريعة للهجوم على المحافظة، والسيطرة عليها، بصرف النظر عن النتائج الكارثية على السكان، ودول الجوار المهدّدة باستقبال ملايين اللاجئين الجدد، بل ربما من أجل ذلك. بينما تسنّ هذه المنظمات المتطرّفة أسنانها، معتقدة أن إدلب ستكون فرصتها لتكبيد خصومها هزيمة سياسية وأخلاقية منكرة، إن لم تكن هزيمة عسكرية، وبالتالي استعادة بعض ما فقدته من رصيدٍ وصدقيةٍ استراتيجية. وهي تراهن لتحقيق هذا "النصر" على استخدام المدنيين درعا لها، وتحدّي خيار التجرؤ على قتلهم وتهجيرهم من قبل خصومها.
ليس هناك حل لمسالة الإرهاب الذي يطاول المدنيين بتضخيم الإرهاب المضاد والمزاودة على المنظمات المتطرّفة بالقتل بالجملة، أو بإظهار الاستعداد لقتل عدد أكبر من المدنيين، كما حصل في السنوات الماضية، حيث تمّت التضحية بمدن ومحافظات كاملة، من أجل إجبار "داعش" وأخواتها على الانتقال من مكان إلى مكان، ونقلها أحيانا في حافلاتٍ رسمية روسية وغير روسية، ومنها ما كان مكيّفا، من محافظة إلى محافظة، واستخدامها، كما حصل أيضا في السويداء هذا الشهر، للضغط على السكان المدنيين والتسليم له، من خلال تقصّد إيقاع مئات الضحايا بين المدنيين. لا يمكن ربح الحرب على الإرهاب بالمزايدة على الإرهابيين في قتل المدنيين. بالعكس، هذا هو ما يغذّي شجرته، ويعزّز صفوفه. وهو الذي يوفّر لهم المناخ والبيئة ومنابع الحقد والكراهية وحب الانتقام التي يحتاجونها لتبرير أفعالهم الشنيعة.
لا يمكن محاربة الإرهاب باستخدامه ذريعة لتمرير أهداف أخرى، لا صلة له بها، كمقاومة الانتفاضات الشعبية والاحتجاجات الطبيعية للجماهير المهمّشة، أو الفاقدة للأمل، والخائفة من المستقبل. ولا يمكن محاربة الإرهاب باستخدام وسائله نفسها، وتحويل الدولة إلى عصابة، ومؤسّساتها الأمنية والعسكرية إلى ميلشيات إرهابية مضادّة، أي بتقويض الدولة وتفريغها من مضمونها القانوني والأخلاقي، وربما إلى غير رجعة، والتشريد السياسي لملايين البشر.
لن يقلّص القضاء على بعض عناصر "تحرير الشام" لقاء تدمير إدلب على رؤوس سكانها، والتضحية بملايين المدنيين، وتدمير شروط بقائهم، قاعدة الإرهاب والتطرّف، ولن يساعد على حصاره، ولكنه سيقدّم له بالعكس المستنقع الآسن والضغائن الظاهرة والدفينة التي يحتاجها كي يستمر ويتكاثر.
الحل الوحيد لمحاصرة التطرّف والقضاء على الإرهاب هو العمل الجدّي على إيجاد الحلول السياسية التي تعيد توحيد الشعوب والمجتمعات، وتمكّنها هي نفسها من لفظ التطرّف ورفض الإرهاب والعمل على مكافحته. وهذا للأسف ما تحاول موسكو، برفضها الانتقال السياسي الذي نصّت عليه قرارات الأمم المتحدة، وأولها 2254، وإصرارها على بقاء الأسد بأي ثمن، أن تحول دونه.
من دون مشاركة المجتمعات نفسها في محاربة التطرّف، ومحاصرة الإرهاب، لن يكون هناك أي أمل في القضاء عليهما. ولا يمكن كسب مشاركة المجتمعات إلى هذه القضية، باستخدام القصف الجوي المكثف على قراها ومدنها، وتدمير بيوتها على رؤوس ساكنيها. ولا يمكن تقليص قاعدة التطرّف والإرهاب، بتجاهل المشكلات الحقيقية، والتنكّر للمطالب الحقة والتلاعب ببعض النخب الانتهازية، والإصرار على حسم الصراع على السلطة، وتوزيع الموارد بالقوة العسكرية. ولا تعزيز الميول السلمية والتصالحية، والتفاهم داخل الشعوب والمجتمعات بالدفاع حتى آخر سوري عن نظام أثبت إفلاسه، وفرضه بالقوة على شعبٍ عانى منه الأمرّين، وكان السبب الأول وراء دمار بلاده، وقتل الآلاف، وتشريد الملايين من أبنائه. وهذا بصرف النظر عن حجم المصالح القومية الروسية، وشرعية أو عدم شرعية تحدّي موسكو على حساب السوريين السياسات الغربية، كما هو الحال في سورية منذ سنوات. اللهم إلا إذا كان الهدف من محاربة الإرهاب هو بالعكس تخليد الإرهاب نفسه، وزجّ الشعوب في حروب داخلية، لا مخرج منها، وتقويض عوامل الألفة والانسجام والتفاهم بين أعضائها، من أجل السيطرة على مواردها أو التحكّم بموقعها.
يراقب العالم بحذرٍ شديد الأوضاع المتأزمة في إدلب السورية وتتوالى الحشود العسكرية والتصريحات النارية من جميع الأطراف بغية تحقيق المكاسب المرجوة لكل طرف في هذه المعادلة الصعبة جداً، فنرى الزيارات الماراثونية الكثيرة ذات الهيئة الدبلوماسية العالية والصبغة الملتهبة وربما المتصادمة في كثير من المواقف والآراء، فمن زيارة مستشار الأمن القومي الأمريكي جون بولتن إلى موسكو بعد أيام قليلة من الزيارة المهمة التي تحمل في طياتها الكثير من الرسائل السياسية والعسكرية والتي قام بها كل من وزير الدفاع التركي خلوصي آكار برفقة رئيس الاستخبارات هاكان فيدان إلى موسكو أيضاً، وآخرها زيارة مسؤول في الخارجية الأمريكية إلى الشمال السوري، زامنها زيارة وزير الدفاع الإيراني إلى دمشق.
جبهة الحوامل بلا زواج
ربما تكون زيارة الوفد الأمريكي برئاسة السيد وليام روباك لهذه (الجبهة) التي يسيطر عليها الأكراد والمتمثلة بمناطق الشمال الشرقي في سوريا هي الأهم على الإطلاق لما تعتزم واشنطن القيام به وهو تشكيل جيش كردي بطابعٍ قومي، الأمر الذي أغضب الحليفين تركيا وروسيا كثيراً، ووصفت روسيا بدورها هذه الزيارة (بالعمل الطائش)، وقد شملت هذه الزيارة كلاً من ريف دير الزور وريف حلب وريف الحسكة، وتأتي هذه الزيارة بعد المحادثات التي أجرتها ما يسمى بقوات سوريا الديمقراطية مع النظام الأسدي في دمشق ونتج عنها تحالف جديد بطعم (الباندول).
إدلب القنبلة الموقوتة
استبقت روسيا جميع الأحداث وحذرت قبل كل شيء من أنَّ هناك ضربة بالسلاح الكيمياوي يتم التجهيز لها ستقوم بها جماعات من المعارضة، ولا بد من الإشارة هنا لماهية هذا التهديد المُبطّن، فمنطقة الشمال السوري تعج بالقوات متعددة الجنسيات ولأمريكا وحدها ما يقرب من العشرين قاعدة عسكرية جميعها ستكون ضمن إطار الاستهداف إذا ما انفجر الوضع في إدلب التي يقطنها قرابة الأربعة ملايين جلّهم مُهجرون ونازحون، وبهذا تكون روسيا قد أعفت نفسها من المسؤولية إذا ما حدث فعلاً هجوم بالسلاح الكيماوي ضد أيٍّ من القواعد الأمريكية التي قامت أمريكا مؤخراً بإمدادها بالعتاد العسكري الثقيل والمتوسط.
تركيا: التي تعتبرُ منطقة الشمال السوري عمقاً استراتيجياً يمسُّ أمنها القومي ويُثير مخاوفها كثيراً لكونها منطقة تجمّعٍ لحزب العمال الكردستاني المدرج على قوائم الإرهاب التركية ومخافة تدفق موجة قد تكون مليونية من النازحين الجدد، هي أيضاً لن تقف مكتوفة الأيدي فشريطها الحدودي البالغ طوله أكثر من 900 كلم يشكل خاصرةً هشّة وربما ممراً عبر بعض قنواته لجماعات إرهابية أو عمالية كردستانية تقوم بزعزعة أمنها الداخلي وهذا ما تخشاه تركيا، لذا قامت بتعزيزات عسكرية إضافية على شريطها الحدودي يضمن لها أمناً ولو بشكل من الأشكال، أما سياسياً فتركيا قادرة على إغراق أوروبا بملايين اللاجئين بزمن قياسي إذا ما تخلى حلف الناتو عن دعم موقفها في هذه الحرب المحتملة، وهذه ورقة سياسية مهمة جداً تُجيد تركيا استخدامها ببراعة فائقة.
النظام الأسدي: والذي يقوم منذ أيام بزج تعزيزاتٍ عسكرية هائلة لخطوط التماس مع الشمال متذرعاً بالأسطوانة المشروخة في محاربة الإرهاب واستعادة وحدة التراب السوري، محاولاً بذلك فرض نفسه كلاعبٍ أسياسي في هذه المعادلة، أما الحقيقة فإن هذ النظام وبجميع مكوناته عبارة عن بيدق روسي يحركه كيفما يشاء.
إيران: التي تدافع عن تواجدها في سوريا بحجة أنها جاءت بطريقة شرعية من النظام الأسدي (الفاقد للشرعية أصلاً)، هي تحاول أن تُبقي على مصالحها في سوريا والمتمثلة ببعض القواعد العسكرية التي تقوم من خلالها برفد منظماتها الإرهابية العاملة في لبنان واليمن بالمؤن والسلاح والمقاتلين والخبراء العسكريين والحفاظ على مختبراتها النووية التي أقامتها في سوريا والتي تُشكل حجر زاوية يضمن لها تواجداً إقليمياً لتحاول الالتفاف من خلاله على العقوبات الأمريكية التي ستزيد وطأتها في شباط/ فبراير المقبل من هذا العام.
روسيا: التي تُمسك بزمام جميع الأمور، وتعمل من خلال نفوذها المُطلق في سوريا على مراقبة جميع الجبهات وتحريك أحجار الرقعة بدقة متناهية لضمان دور المايسترو من جهة، ومن جهة أخرى مغازلة العالم وخصوصاً أوروبا من خلال العزف على وتر إعادة اللاجئين وضمان ملف إعادة الإعمار.
جميع المؤشرات تقول إنَّ حرباً ضروساً ستدور رحاها في الشمال السوري خلال الفترة القريبة القادمة، ليبقى أيلول/ سبتمبر موعداً لاجتماعات وقمم عديدة في إسطنبول وطهران وجنيف ستشارك فيها الدول اللاعبة بالإضافة إلى فرنسا وألمانيا (الدولتان القويتان في الناتو) ليس لمنع الحرب ولكن لضمان محدودية هذه الحرب التي ستنتج عنها تفاهمات جديدة، سيتحدد من خلالها وجه المنطقة واصطفافات الدول.
إدلب هي إحدى المدن السورية النادرة التي لم يتوضّح مصيرها إلى الآن، وكانت ضمن أهداف النظام السوري وروسيا وإيران منذ البداية، لكن تم تأجيل المسألة أو إيجاد حلول بديلة في كل مرة، وكان النظام السوري المدعوم من قبل روسيا والذي وصل إلى مدينة حلب مسبقاً يؤجل مسألة إدلب إلى أجل غير مسمى بسبب انتهاء طاقته عند اقترابه من إدلب.
لاحقاً تدخلّت تركيا في مجرى الأحداث وساهمت في إخلاء حلب من المدنيين، إضافةً إلى تهدئة الأمور من خلال تأسيس نقاط عسكرية في إدلب، لكن كان وجود العامل التركي وتأسيس نقاط عسكرية تركية في إدلب يتسبب بالإزعاج لإيران ونظام الأسد، في حين أن روسيا دعمت الوجود التركي في المنطقة لأنها تشاهد الأمور من منظور السياسة الواقعية، لكن لطالما كان الجانب الروسي يسعى لدفع تركيا إلى مكافحة بعض التنظيمات مثل جبهة النصرة.
من المؤكد أن تركيا تستطيع مواجهة جميع التنظيمات المتطرفة في الساحة السورية، لكن الوقت ليس مناسباً لذلك، إذ كان موقف تركيا تجاه مدينة إدلب منذ بداية الأمر يهدف إلى تطهير المنطقة من المجموعات الراديكالية، ويجدر بالذكر أن تركيا اتّخذت خطوات عديدة في الصدد ذاته، لكن لكي تتمكّن من القيام بذلك كان يتوجّب عليها فتح المجال التقدّم أمام المجموعات المعتدلة، وكانت روسيا تتقبّل هذا الواقع حتى وإن كان الأمر صعباً عليها، لكن حاول نظام الأسد وإيران الضغط على تركيا بسبب موقفهم القاسي تجاه المسألة المذكورة.
بطبيعة الحال لم يكن موقف النظام السوري وإيران هاماً كثيراً، بل كان الموقف الروسي الأمر الأهم في هذه النقطة، ولذلك ما تزال تركيا تجري معظم مباحثاتها ومفاوضاتها مع روسيا ضمن إطار دبلوماسي، وخصوصاً أن روسيا عقب عملية عفرين أصبحت تنتظر من تركيا أن تتّخذ خطوات أسرع من السابق في الساحة السورية.
من جهة أخرى يجب أن لا ننسى أن تل رفعت ما زال تحت سيطرة روسيا إلى الآن، إذ تستغل روسيا هذه المنطقة كورقة رابحة لكونها هامّة في خصوص أمان مدينة حلب وكذلك أهميّتها بالنسبة إلى المفاوضات الروسية-التركية، في حين أن تركيا تهدف إلى تداول مسألة تل رفعت بعد الانتهاء من قضية منبج أولاً، لكن روسيا تستعجل المسألة لأنها تسعى لزيادة امتدادها في الساحة السورية والسيطرة على تل رفعت بما يتناسب مع مصالحها الاستراتيجية في هذا الصدد.
في هذا السياق ليس من الصعب أن نتوقّع جريان مفاوضات صارمة جداً حول مسألة تل رفعت، إذ أجرى رئيس منظمة الاستخبارات الوطنية "هاكان فيدان" ووزير الدفاع القومي "خلوصي أكار" اجتماعين خلال أسبوع واحد مع نظرائهم حول هذه المسألة، لا نعلم مضمون الاجتماعات لكن يمكننا توقّع البعض منه، بشير المظهر الخارجي للاجتماعات إلى أن روسيا مصرّة على موقفها، في حين أن تركيا لا ترغب بتنفيذ عملية عسكرية بطرف واحد فقط، عند ذكر مسألة إدلب يذهب الجميع إلى التفكير بقدوم موجة جديدة من اللاجئين السوريين إلى تركيا، لكن أعتقد أن أهمية المسألة لا تقتصر على اللاجئين فقط، إذ يمكن لموجة لجوء واردة من مدينة إدلب التي يقطن فيها مليون ونص مواطن سوري أن تتسبب ببعض المشاكل لتركيا، لكن إن الأزمات الأمنية التي قد يؤدي إليها وفود مثل هذا العدد الكبير من اللاجئين ستكون أكبر بكثير من المشاكل التي سنواجهها بسبب حجم اللجوء.
عند النظر إلى احتمال دخول المجموعات الراديكالية إلى تركيا أو تنمية شعور عداوة تركيا لدى هذه المجموعات، وسيطرة قوات النظام السوري لوحده على منطقة واسعة بهذا القدر، نرى أنه يتوجّب على تركيا إيجاد حلول بديلة في مثل هذه الظروف، ولذلك يجب على تركيا أن تكون يقظةً إلى أكبر درجة ممكنة نظراً إلى وجود احتمال تنفيذ روسيا لعملية عسكرية في المنطقة، خصوصاً أن الظروف الراهنة مناسبة جداً لعملية عسكرية روسية، لا يمكن لتركيا أن تكتفي بمحاولة منع روسيا من تنفيذ عملية عسكرية في إدلب، إذ يمكن لتركيا اتخاذ بعض الخطوات الهامّة وأخذ الاحتياطات اللازمة في حال لم تتمكّن من إيقاف العملية بشكل مباشر، وإن لم تتمكّن تركيا من السيطرة على المنطقة لوحدها يمكنها منع سيطرة النظام السوري لوحده على إدلب أيضاً، أي إنه يمكن لتركيا أن تأسس منطقة آمنة في شمال إدلب على الأقل.
لو أردنا أن نعرف التكيف الاجتماعي، لأمكننا الايجاز بأنه "عملية اجتماعية، تتضمن نشاط الأفراد أو الجماعات وسلوكهم، الذي يرمي إلى التلاؤم والانسجام، بين الفرد وغيره، أو بين جملة أفراد وبيئتهم، أو بين الجماعات المختلفة".
ولو نظرنا إلى الوضع السوري في الداخل، سنجد أن السوريين، تجرعوا مرارة التغيير القسري في حياتهم اليومية، ساعة فساعة، وأزمة تلو ازمة، إلى أن وصلوا إلى حالة هي أقرب ما تكون، إلى التشوه في آليات التكيف والاعتياد، هذه الحالة تفرضها نزعة أصيلة لدى الانسان، في الحفاظ على الحياة، والاستمرار في المقاومة.
فالقتل اليومي وتحول الأحياء المدنية إلى ساحات حرب لا تتوقف، وصور الجثث الملقاة في قارعة الطريق، وروائح الأحياء المشبعة بالدم والموت، والبارود والحرائق التي لا تكاد تنطفئ، وطغيان صوت البراميل المتفجرة، وصوت الرصاص الذي لا يتوقف. كل هذا هشم النمط المعتاد للحياة القديمة، التي كان يعيشها الانسان السوري، قبل الحرب شر تهشيم، واحالها إلى أنماط متوحشة من الحياة، والقفز المستمر على حسك الموت، واحتمالات لا تنتهي لمزيد من التردي نحو الأسوأ.
بالطبع المشهد من الخارج أشد وضوحا، وأنقى انفعالا، فالمنغمس في هذه الدوامة إنما تجرعها عقدة إثر عقدة، وانكساراً تلو انكسار، وبالتالي تكيفت مشاعره ومنعكساته النفسية والعصبية وتطوعت درجة إثر درجة، إلى أن اضحى كل ما دون الموت أمر يمكن التعاطي معه.
هذا بالضبط ما حدث معنا، في الحياة الطويلة في سجن تدمر، ففي المرة الأولى التي سمعنا بها، أن هناك عملية إعدام لعدد غير قليل من المعتقلين، وكان ذلك في الشهر العاشر من عام 1980، حيث دوى صوت الضابط، رئيس المحكمة الميدانية في الساحة السادسة كنعيب الغراب، آمرا عناصر السجن أن خذوهم للإعدام، وما هي إلا دقائق، حتى سمعنا صوت أقدامهم، تعبر الساحة السادسة جريا، تلاها صوت تكبير وحشرجة على أعواد المشانق، ثم صوت الدعامات الخشبية، تهوي أرضا بمن علقوا عليها، ثم صمت طويل، كان خلالها ضابط كبير يشرف على تصوير الضحايا، كيما يتمتع بها سيده القابع في قصر قاسيون.
يومها جلسنا منكمشين على أنفسنا، لا نغادر أماكننا في المهجع، ولم ينتبه أحد إلى دخول الطعام، وبقائه بعيدا لا تمسه الايدي، فمن ذا الذي يملك أدنى رغبة بطعام بعد هذه الفاجعة، أعدموا يومها ما يزيد عن ثمانين شابا، وتدور الأيام وتستمر عمليات الإعدام، كل أسبوع تقريبا لكن تتبدل وتنخفض سويات الانفعال، مع كل مرة جديدة، إلى أن أتى يوم بعد قرابة العامين، حيث كنا نجلس إلى قصعة الإفطار، فنودي على اسم حسن بركات ليتجهز للإعدام، فانتصب واقفا وكان يجلس إلى يميني، وما هي إلا دقائق ثلاثة، حتى كان مقيدا معصوب العينين يساق إلى المشنقة التي تنتظره، وكنا نعاود الجلوس بذات اللحظة، إلى قصعة الإفطار لنكمل ما بدأناه من وجبتنا، ونحن نهمهم بصوت منخفض رحمه الله.
هذا التحول الكارثي في تكيفنا مع المأساة المستمرة، عزز من قدرتنا على الاستمرار في الحياة، وربما كان سببا مهما لبقائنا أسوياء، لكنه بذات الوقت شوه جملة كبيرة من المنعكسات الطبيعية، التي تتمظهر بالحزن على الضحايا، أو بمنح هذا الحزن مساحة من الزمن في دقائقنا اليومية.
وهذا شبيه إلى أقصى درجات التشابه، ببعض التفاصيل اليومية التي يعيشها السوريون، في الداخل السوري، سواء في مناطق سيطرة النظام، أو خارجها، فجميع المناطق تستقبل القتلى المحمولين، من مواقع القصف أو القتال، وجميعها تستمر فيها أشكال الحياة، بآليات متنوعة من التكيف المعزز للبقاء، والذي يجعل من المأساة الطويلة، حالة طبيعية في سيرورة الحياة اليومية، إلى زمن غير معلوم، كنا نكرر في تدمر كل يوم، أن أكبر مشكلة، هي أننا لم نعد مشكلة لأحد.
ومن مرارة الشأن السوري اليوم، أننا والعالم من حولنا، نتكيف تدريجيا، بحيث أن القضية السورية، لم تعد مشكلة لأحد، وأن مجزرة ارتكبها الطيران الروسي بالأمس القريب، باتت أمرا عاديا، لم تعلق عليه معظم وكالات الأنباء. وربما من المهم أن نلاحظ، أن التكيف ليس بقيمة إيجابية، إلا بمعنى البقاء، وأن البطولة التي نعتز بها، في مقاومة شطر كبير من أبناء فلسطين، لفكرة الاحتلال والتطبيع معه، إنما هي رفض للتكيف والانصياع للظرف الراهن.
من هنا سيكون من المهم والمهم جدا، مراقبة البوصلة والاتجاهات التي تملى علينا كسوريين، والتي نقبل بعضها رغبة بوقف المقتلة، لكنها بذات الوقت هي تطوعنا وتكيفنا وفق مقتضياتها، فبئسا لهذا التكيف.
لم يكن كوفي أنان، الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة، الذي توفي مؤخراً، مثل غيره ممن تسلموا المنصب الأول في المنظمة الأممية منذ تأسيسها في العام 1945، رغم السمات العامة التي تجمعه معهم، والحكم في ذلك يستند إلى وقائع وظروف عايشها الرجل في منصبه طوال ثماني سنوات، وفي المهمات التي تابعها لاحقاً، وبينها مهمة المبعوث المشترك للأمم المتحدة ولجامعة الدول العربية في سوريا.
جاء الرجل من داخل البنية الوظيفية للمنظمة الدولية، وقد عمل في العديد من أجهزتها موظفاً ومديراً ومنظماً لسنوات طويلة، مما جعله عارفاً ومحيطاً، لا بعمل الأجهزة وبنيتها، إنما أيضاً بطبيعة وظائفها واحتياجاتها، ولأنه جاء من غانا من قلب القارة السمراء، فقد كان يحمل همومها، التي تمثل القلب في هموم الدول الأقل تطوراً، وسط عالم تؤثر في رسم سياساته ومستقبله قلة من الدول الأكثر نمواً وفاعلية، وكان في الوقت ذاته مدركاً الروابط المشتركة لكل الدول الأعضاء، وضرورة توافقها، دون أن يتجاهل حقيقة أن الأمم المتحدة، لا تعنى بشؤون الدول وعلاقاتها فحسب، وإنما تهتم أيضاً بمصالح الشعوب، وسعيها من أجل مستقبل أفضل، وهو ما يمثل مصلحة مشتركة للجميع.
لقد أدار أنان عمل الأمم المتحدة طوال ثمان سنوات بهذه الخلفية الوظيفية، مستنداً إلى فهم عميق لدور الأمم المتحدة وقدراتها في معالجة القضايا والتوترات الدولية، وفقاً لقاعدة أساسية، يقوم عليها عمل الأمم المتحدة في أنها «قوية حين يعيرها الكبار من قوتهم عبر توافقهم». وأنها «مشلولة حين يتحول مجلس الأمن حلبة لتسديد الحسابات وتحريك سيف الفيتو لقطع أعناق مشاريع القرارات»، ومدركاً «أن لا قدرة للمنظمة الدولية على فرض تطبيق قراراتها إلا بقوة الكبار وأحياناً جيوشهم. وأن الدول الكبرى ليست جمعيات خيرية، وأن بوصلتها تعمل وفق شبكة المصالح لا نصوص المبادئ». وقد عمل الرجل بجهد ودأب من أجل تحقيق أهداف المنظمة الدولية وسط عواصف دولية وإقليمية، أحاطت بعهد أنان في الأمم المتحدة، دون أن تفقده اتجاهه في البحث عن «عالم أكثر إنسانية أو أقل وحشية».
لم يكن تعيين كوفي أنان مبعوثاً للأمم المتحدة وجامعة الدول العربية إلى سوريا في فبراير (شباط) 2012 مستنداً إلى مسيرته العميقة في المنظمة الدولية فحسب، إنما كان يستند إلى ما اكتسبه من خبرات في التعامل مع أزمات سابقة، شهدها عهده في رواندا وسريبرينيتسا والعراق وغيرها، تقارب ما كان يحدث في سوريا، ولعل ذلك في مقدمة أسباب جعلته يقبل دوره الجديد في معالجة القضية السورية، وقد رسمه مع فريقه في ثلاث خطوات عملية، أولها متابعة الواقع الميداني بما فيه من تطورات سياسية وعسكرية، والثاني إجراء لقاءات ومشاورات مع الأطراف السورية، بما فيها لقاءات مع مسؤولي نظام الأسد، وأخرى مع ممثلي الفعاليات الاجتماعية وقادة المعارضة في داخل سوريا وخارجها، إضافة إلى لقاءات مع ممثلي الأطراف الدولية والإقليمية ذات العلاقة والدول المهتمة بالقضية السورية، والثالث وضع خطة لحل سياسي للقضية، تتضمن المشتركات من جهة وتحقق المصالح المتقاطعة لمختلف الأطراف، فأعلن خطته في أبريل (نيسان) 2012، وتضمنت وقف إطلاق النار وإرسال بعثة من مراقبين دوليين لتثبيتها، والسماح بوصول المنظمات الإنسانية واللجنة الدولية للصليب الأحمر، وإطلاق سراح المعتقلين، والبدء في حوار سياسي مفتوح لا
يستثنى منه أي طرف، وهي الخطة، التي وافقت عليها المجموعة الدولية، وأعلنتها بموجب بيان جنيف في يونيو (حزيران) 2012 باعتبارها الطريق لحل القضية السورية.
وسط مسار الأحداث والتطورات السورية، اكتشف أنان وفريقه الأممي مراوغة نظام الأسد، وإصراره على الحل الأمني العسكري ودعم حلفائه الروس والإيرانيين له، مما عطل الإرادة الدولية، التي بدت مرتبكة وغير حاسمة إزاء التطورات السورية، ولا سيما حيال مجازر النظام المتكررة، فشدد مرات على خروقات النظام لخطته، وأعاد النقاش فيها مرات مع ممثلي نظام الأسد، دون الوصول إلى تغييرات عملية وإجرائية في سياسات النظام في الأحداث السورية.
أذكر أني كنت مع زميلين آخرين بين آخر من التقاهم كوفي أنان بدمشق في زيارته الأخيرة، وقتها حضر للموعد متأخراً بعض الوقت، لأنه كان في لقائه الأخير مع الأسد، وجاء محبطاً من نتيجة اللقاء لإصرار الأسد على القمع بما فيه قمع المظاهرات السلمية، لأن من شأن المظاهرات أن تملأ الساحات والشوارع، وتؤدي إلى إسقاط النظام، كما نقل أنان عن الأسد، وبعد تلك الزيارة بقليل في أغسطس (آب) 2012 أعلن أنان اعتزاله من مهمته، نتيجة «استخفاف» نظام الأسد بقرارات الأمم المتحدة، وبسبب «التصعيد العسكري والانقسام في مجلس الأمن»، وأكد أن العملية الانتقالية تعني تنحي بشار الأسد «عاجلاً أم أجلاً».
بعد أنان تقلب على المهمة اثنان من مبعوثي الأمم المتحدة، أولهما الأخضر الإبراهيمي الذي توصل إلى نتيجة مشابهة، فأنهى مهمته، وستيفان دي مستورا الذي تحول إلى مدير لـ«الأزمة»، وجرت تطورات كثيرة بما فيها محاولات المجموعة الدولية الخروج عن خطة أنان وبيان جنيف بعد مؤتمر جنيف 1 وسلسلته، كما جرب الروس وحلفاؤهم بالتزامن مع استمرار الحل الأمني العسكري جهودهم لحل في آستانة وسوتشي دون الوصول إلى نتيجة، الأمر الذي يفسر طلب كثير من الأطراف العودة إلى جنيف من أجل حل للقضية السورية.
لقد دفع السوريون والعالم أيضاً أثماناً باهظة من أجل حل ما في سوريا، لكن دون جدوى. فليس من حل خارج حل سياسي، يأخذ بعين الاعتبار مصالح السوريين أصحاب القضية، وأساسه الخطة التي كان أنان قد وضعها نهاية العام الأول لثورة السوريين.
بسرعة كبيرة مرت عيني على الكلمات، عدت مرة أخرى لأقرأ ما كتب ذلك الطبيب في شهادته على ذلك اليوم.
روى كيف هبط صاروخان، فأسرع هو وزميله للمستشفى، خصوصا مع توقف سيارة ونزول بعض المصابين. بداية ربما تبدو عادية لمن خبروا الوضع في سوريا، وإن كانت على المستوى الإنساني مفزعة.
مفزع أن ترى تلك الحالة من الجزع الإنساني لأم تحمل صغيرها وتنظر لإنسان ما، متتبعة حركات أصابعه لحظة بلحظة، ولسانها يلهج بالدعاء، وقلبها يكاد يقفز من مكانه، ودموع متحجرة في عينيها، وهي تتابع تحركات صدر صغيرها، تنتظر أن يفتح عينيه أو أن يبتسم. تنتظر منه هو أن يمنحها الأمل. إنها بلا شك لحظات مزلزلة.
شهادة الطبيب التي نقلتها إحدى صفحات الثورة السورية، تنقل لك بالتفاصيل، مشهدا يبدو أنه وباقي الأطباء السوريين كانوا قد تعودوا عليه، حتى ذلك الوقت من عام 2013، أي بعد عامين من اندلاع الثورة السورية.
كلمات الطبيب عن هبوط الصاروخين وتحركه مع زميله للمستشفى، وسرعة اتخاذهما للاستعدادات تُشعرك بخبرتهما التي اكتسباها من شهور من المجازر الوحشية والقصف الجوي الذي كان يرتكبه نظام بشار حتى ذلك الوقت. الجديد في شهادة الطبيب هو ما جاء بعد ذلك.
كلمات الطبيب أصابتني بالقشعريرة. الطبيب ذلك الإنسان القادر على التعامل مع إصابات نتجت عن قصف جوي، ذلك الذي يسرع في حرفية ليخيط جرحا أو يوقف نزيفا أو يسعف مصابا، ذلك الشخص الذي يتحرك في سرعة وهو يجر نقالة تقل جريحا ينزف، بينما يلقي هو مجموعة من الأوامر في سرعة وآلية.
ذلك الشخص القادر على التصرف بهذه الطريقة، بينما تدوي الصرخات حوله، يصف أعداد المصابين بأنها مخيفة!!
الوصف نفسه أصابني بالقشعريرة. الطبيب نفسه كان يتوقع نوبة من تلك النوبات التي اعتادها، حين تهاجمهم طائرات النظام، فيتعامل مع أعداد الجرحى التي ألفها. كلمات الطبيب تُشعرك بتلك الأجواء المخيفة التي تتحول فيها أعداد الجرحى من خانة العشرات إلى خانة المئات، ثم يفقد المتابع بعدها القدرة على العد.
المفزع في الأمر، وما لا أستطيع أنا شخصيا نسيانه، هو صورة الأطفال المتراصين بجانب بعضهم البعض، الذين يظنهم من يراهم لأول وهلة في غفوة، بينما هم قد فارقوا الحياة وعلى وجوهم ترتسم براءة الطفولة، وغفلة نوم لم يصحوا منه.
المبكي، أن تتصور أن هؤلاء الأطفال لم يشعروا حتى بتأثير الغازات السامة التي قصفها بهم نظام بشار. هؤلاء أطفال، ماتوا قبل أن يدركوا أنهم ماتوا.
أتذكر هذا المشهد الذي يأبى مفارقة ذاكرتي الآن بتفاصيله، وأتصور كيف يمكن لإنسان أن يصمد في مواجهة مشهد كهذا.
لا ريب أن ذلك الطبيب الذي روى في شهادته كيف نقلته إحدى السيارات إلى منازل مصابين، قد بذل مجهودا يفوق التصور، ليستطيع التجلد وهو يرى تلك المشاهد بينما يسرع لإسعافهم.
الحقيقة، أن هذه المشاهد في سوريا لم تكن ممكنة لولا مشاهد أخرى وقعت قبلها بأيام في رابعة.
إن قراءة شهادات الأطباء في كتاب مجزرة رابعة بين الرواية والتوثيق، التي تحدثت عن حرق المستشفى الميداني، ومقارنتها بالمشاهد التي ينقلها لنا طبيب الغوطة في شهادته، تبين أن ما يحدث في المنطقة أمر يفوق قدرة العقل على التصور.
لم تكن مجزرة الكيماوي في سوريا ممكنة دون مجازر ارتكبها الانقلاب في مصر، مجزرة رابعة والنهضة ومجزرة رمسيس ومجزرة عربة الترحيلات، ولم تكن هذه المجازر الكبرى ممكنة لولا مجازر أخرى سبقتها ومهدت كل واحدة منها الطريق إلى أختها.
رحم الله شهداء مجزرة الكيماوي في سوريا، وإخوانهم شهداء مجازر الانقلاب في مصر.
رد الجيش الأميركي على الرسالة التي نُسبت إلى أبو بكر البغدادي وطلب من أنصاره فيها الصبر ووعدهم بـ «فتوحات» قريبة، بأن الرجل لم يعد مهماً وأن تنظيمه صار في المراحل الأخيرة من هزيمته، وأن تصريحاته لم تعد تلقى الاهتمام في الدوائر الأمنية الغربية. والرد هذا على ما فيه من تجاهل لحقائق «النصر على داعش»، يملك مقداراً من الواقعية يمكن للمرء أن يوافق واشنطن عليه، مع تحفظٍ عن المبالغة في الاطمئنان، لا سيما أن «داعش» كان جزءاً من حرب أهلية طُوب فيها منتصر مذهبي على مهزومٍ مذهبي، وهذا بدوره مولدٌ لاحتمالات موازية لـ «داعش».
لكن وفي موازاة الرد الأميركي على البغدادي ما زال «داعش» حاجة لأنظمة الحروب الأهلية لكي تُصّرِف عبره أزماتها. في سورية كشفت الوقائع الدامية التي شهدتها محافظة السويداء الشهر الفائت عن هذه الحاجة، فإخضاع الجماعات المحلية ما زال يتطلب لعب النظام على الوتر المذهبي، ومن أقدر من «داعش» على تلبية هذه المهمة. ما جرى في السويداء هو تطبيق حرفي ومبتذل ومكشوف لهذه الحقيقة. لكن ليست هذه حال سورية فحسب، فالطبقة الحاكمة في العراق تعيش حالاً من الاختناق وتتخبط في فسادها وارتهانها وهو ما يستوجب عدواً تعيد عبره إنتاج نفسها. «داعش ما زال يعيش بيننا»، هذا ما يُردده الكثير من المسؤولين العراقيين. وبين الحين والآخر يُستدعى صحافيون لتصوير حروبٍ في الصحراء مهمتها تسجيل مزيدٍ من الانتصارات لا يعرف المرء شروطها ولا ظروفها ولا وقائعها. يقول الجيش مثلاً إنه داهم «مضافات» للتنظيم الإرهابي، وأن عناصر التنظيم الذين كانوا يشغلونها هربوا إلى سورية.
الحرب على التنظيم في سورية تدفع بعناصره إلى العراق، والحرب عليهم في العراق تدفعهم إلى سورية. بيانات جيوش «مكافحة الإرهاب» على طرفي الحدود تكشف هذه المعادلة على نحوٍ مذهل. والحقيقة أن ما تبقى من «داعش» يعيش آمناً خارج هذه البيانات، ومهمة المرحلة الأخيرة من الحرب على التنظيم هي تثبيت أنظمة الجريمة والفساد والمذهبية في هلال الحرب الأهلية المشرقي.
لبنان بدوره انضم إلى الراغبين في حصة من جبنة المنتصرين على «داعش»، وها هي أجهزته الأمنية تذيع كل أسبوع تقريباً بياناً عن نصرٍ أمني جديد على التنظيم، وهذه البيانات تُصور لبنان بصفته هدفاً يحلم أمراء التنظيم في مخابئهم في أن ينجحوا في الوصول إليه. لا بل أن «العدو التكفيري» صار صنواً لـ «العدو الصهيوني» في خطاب النصر اللبناني الذي يُضلل نظام الفساد والفشل والارتهان.
والحال أن نظرة من مسافة على حال الأنظمة الحاكمة الثلاثة في العراق وسورية ولبنان تكشف تشابهاً مخيفاً في أساليب حكمها جماعاتها، من دون أن يعني ذلك إغفال التفاوتات. المذهبية عصب الأنظمة الثلاثة، والفساد الهائل والوقح، والارتهان لدولة أو لدول خارجية، وهيمنة خطاب نصرٍ كاذب إلا أنه مدوٍ وهائل وفاعل. واليوم يمكن أن نضيف «داعش» إلى عناصر التشابه هذه، فالتنظيم صار جزءاً من هوية هذه الأنظمة وعنصراً في سعيها إلى التماسك.
كل هذا لا يعني أن «داعش» صار وهماً، وأن عملية دحره أنجزت، لا بل يعني العكس تماماً، فالتنظيم لطالما شكل حاجة في ظل الحروب الأهلية التي تعيشها المنطقة، وهذه الحاجة التقت مع شروط أخرى انعقدت جميعها في لحظة ولادته وتدفقه على المدن والمناطق. شرط الحروب الأهلية ما زال قائماً، لا بل تعزز بانتصار جماعات على جماعات، ومذاهب على مذاهب، وأنظمة مستبدة على شعوبها. أما الشروط الأخرى فهي تماماً ما فشل فيها التنظيم، ذاك أنه تحول عدواً للبيئة المتضررة من الأنظمة، وهو ما أدى إلى تسهيل دحره في مدنها ومناطقها.
واليوم يعيش هؤلاء الناس هزيمة مضاعفة، فقد هزمتهم أنظمة «الحرب على داعش» وهزمهم «داعش»، والمنطق يقول إن حال الهزيمة هذه لن تدوم طويلاً وسيأتي من يستثمر فيها.
في تحول مفاجئ مثير للريبة، زعم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مؤخرا أنه قلق بشأن مصير ملايين اللاجئين الذين فروا من المذبحة في سوريا. وفي اجتماع عقد مؤخراً مع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، أعرب بوتين عن أمله في أن يساعد الاتحاد الأوروبي في إعادة بناء سوريا حتى يتمكن النازحون من العودة إلى ديارهم. وفي الأسابيع الأخيرة، حمل الدبلوماسيون الروس نفس الرسالة عبر العواصم الأوروبية.
من المؤكد أنه بعد أن استعاد نظام بشار الأسد معظم أراضي البلاد، بدأت الحرب الأهلية في سوريا تنحسر. لكن هذه النتيجة ليست حتمية. على العكس، كان الجيش السوري قريبًا جدًا من الانهيار في وقتٍ سابق. فقط بمساعدة حاسمة من الميليشيات المدعومة إيرانيا والدعم الجوي الروسي تمكن الأسد من قلب الأمور.
في هذه الأثناء، لم تحقق الجهود الأمريكية لإنشاء معارضة مسلحة "معتدلة" سوى القليل، باستثناء قيام وحدات حماية الشعب الكردية (YPG)، فرع من حزب العمال الكردستاني (PKK) - بالسيطرة على قطاع شمال سوريا المتاخم للحدود التركية. الشيء الوحيد المتبقي الآن هو تدمير جيب جبهة النصرة المتبقي في إدلب والتوسط في نوع من التسوية بين وحدات حماية الشعب والأسد.
لقد نجا الأسد بتكلفة باهظة. ونزح أكثر من نصف السكان السوريين داخلياً أو أجبروا على الفرار إلى البلدان المجاورة أو إلى أوروبا. جزء كبير من البنية التحتية السورية - من المجمعات السكنية إلى المستشفيات - يكمن في الأنقاض. وغني عن القول إن اقتصاد البلد قد تم تدميره، بسبب الآثار المباشرة للصراع والعقوبات التي فرضت كجزء من الجهود الفاشلة لإجبار الأسد على التوصل إلى تسوية سياسية.
لم يعان أي بلد آخر في نصف القرن الماضي من خسائر فادحة في الأرواح البشرية والدمار المادي. لا شك أن المسؤولية عن هذه المأساة تقع على عاتق نظام الأسد ومن يؤيده من الروس والإيرانيين. وبالطبع سيقولون إنهم يحاربون الإرهاب، كما لو كان ذلك يعفيهم من أساليبهم العشوائية والاستهتار المتهور بأرواح المدنيين. لكن الأجيال القادمة سوف تتذكر المصدر الحقيقي للإرهاب الذي تم فرضه على المشرق خلال السنوات السبع الماضية.
التكلفة المقدرة لإعادة بناء سوريا تختلف على نطاق واسع. في حين وضعت دراسة للبنك الدولي في عام 2017 مقدار 225 مليار دولار، تشير التقييمات الأخيرة إلى إجمالي ما يقرب من 400 مليار دولار. ويتوقع آخرون أن يصل المبلغ إلى تريليون دولار. وذلك دون احتساب التكاليف البشرية للحرب.
من الواضح من هجوم بوتين الأوروبي الساحر أن روسيا لا تنوي تحمل أي جزء صغير من الفاتورة. على ما يبدو، لا يشعر الكرملين وكأنه واجب عليه إعادة بناء المدن واستعادة سبل العيش التي دمرتها قنابلها.
كما أن الولايات المتحدة غير متحمسة بشكل خاص للمساعدة. في الأسبوع الماضي، ألغت إدارة ترامب 230 مليون دولار لتمويل إعادة إعمار الرقة ومناطق أخرى محررة من داعش. وتأمل الآن أن تدفع السعودية الفاتورة بدلاً من ذلك. يبقى أن نرى ما إذا كانت هذه الخطوة حكيمة.
مع تراجع الولايات المتحدة، من الواضح لماذا يريد بوتين فجأة التحدث إلى الأوروبيين حول محنة اللاجئين السوريين. لم يهتم بهم عندما كانت قنابله تسقط على أحيائهم مجبرة إياهم على الفرار. لكنه الآن يريد أن تنقذ أوروبا الأسد، وقد يجد بعض التعاطف.
لكن ليس من الواضح أن الأسد يريد حتى عودة النازحين السوريين. إذا كان هناك أي شيء، يبدو أنه مستعد لاستغلال الوضع لإعادة تشكيل التركيبة العرقية والسياسية للبلد، مما سيجعلها أكثر أمانا لطائفة الأقلية الخاصة به، العلويين. ومن ثم، يمنح قانون جديد اللاجئين سنة واحدة فقط لاستعادة ممتلكاتهم قبل أن تضبطها الحكومة؛ ويبدو أن المتطلبات البيروقراطية الأخرى مصممة للسماح للسلطات السورية برفض الدخول إلى أي شخص لا يعجبهم.
علاوة على ذلك، فقد صرح الأسد صراحة أن الشركات الأوروبية غير مرحب بها للمساعدة في إعادة الإعمار، وأنه ينبغي إعطاء الأفضلية للشركات الروسية. من الواضح أن النظام يستعد للاستفادة من أي مساعدة لإعادة البناء تأتي في طريقه. لكل هذه الأسباب، فإن آخر ما ينبغي على الأوروبيين فعله هو إرسال الأموال مباشرة إلى الأسد. الخيار أفضل بكثير هو تقديم الدعم المالي المباشر للأفراد والأسر المستعدة والقادرة على العودة إلى بلدهم.
في الوقت نفسه، لا ينبغي للاتحاد الأوروبي رفع العقوبات حتى يتم التوصل إلى تسوية سياسية ذات مصداقية بين النظام وقوات المعارضة. السؤال المطروح هو هل هذه التسوية ممكنة. حتى الآن، تم إفشال كل اقتراح واقعي من خلال إصرار الأسد على بقائه في السلطة.
من الجيد أن يتذكر الأسد أنه الآن يحكم على حطام بلده. حتى عندما تسكت المدافع، ولن يكون نظامه آمنًا. إن عدم قدرته على إحياء وإعادة بناء سوريا سيتركه عرضة للخطر بنفس الطريقة التي رفض من خلالها إجراء الإصلاحات السياسية قبل ثماني سنوات. ليس لأوروبا مصلحة في إنقاذ الأسد من هذه الورطة. لمساعدة سوريا ينبغي إيجاد حل سياسي حقيقي. بعد الدمار الذي أحدثه نظام الأسد، لا يوجد طريق آخر إلى الأمام.
يوزّع بشار الأسد هداياه الاستثمارية الجزيلة بكرم سخي على أصدقائه هنا وهناك، فلروسيا يعطي استثمار بناء الشقق والفنادق الفخمة، ويمنح إيران مشاريع البنية التحتية، شبكات الكهرباء والطرق والجسور، أما الصين فلها حصة بناء (وصيانة) المرافق الكبرى من مطارات ومدن رياضية.
ولا ينسى الأسد إغراء لبنان والأردن بتجارة مزدهرة، وليالي فرح عامرة ينسى فيها اللبنانيون والأردنيون غلاء أسعار بيروت وعمّان، ويهربون من أجوائهما الرتيبة إلى حضن دمشق الحالم، والقادر في الوقت نفسه، على الاحتفال بحب الحياة والوفاء للمقاومة وشعارات تحرير فلسطين، وذلك في مطاعم دمشق القديمة، حيث الأصالة والتاريخ وأمجاد بني أمية ومراقد آل البيت.
لكن من أين سيموّل الأسد هذا النهوض العمراني الذي تتجاوز تكاليفة مبلغ الأربعمئة مليار دولار، ومن أين له تحقيق هذا الزخم الترفيهي لأصدقاء أجهزته المخابراتية، في بيروت وعمّان، في بلدٍ يصنّف أكثر من ثلاثة أرباع سكانه تحت خط الفقر، وأكثر من ثمانين بالمئة من عائلاته، الموالية والمعارضة، فقدت أبناءها في الحرب، أو أصيب أحد أفرادها بإعاقة دائمة؟.
لا يوجد أدنى شك أن الأسد محظوظ، إلى درجةٍ يمكن وصفه بأكبر المحظوظين في هذا الكون، فهو يجد دائماً من يصدّقه، فقد صدّقوه حين وصف الحراك بأنه مؤامرة خارجية من دون أن يكلفوه باستحضار دليلٍ يثبت صحة الاتهام، في حين أرهقوا الشعب السوري بالأسئلة عن سبب ثورتهم، ما دامت الجامعات بالمجان، وما دامت سورية البلد الوحيد غير المدين في المنطقة، من دون أن ينتبهوا إلى أن العائلة السورية تنفق على أولادها في الخدمة العسكرية، سنتين ونصف السنة، ما تنفقه أي عائلة في المنطقة على تدريس أبنائها في الجامعات الخاصة، بالطبع من دون احتساب السنوات التي تضيع من عمر الشباب، في جيشٍ غرضه تدجين الشباب، وإخضاعهم لسلطة الأسد، ومن دون الانتباه إلى حقيقة أن عدم وجود ديْن خارجي على سورية أمر لا ينعكس على حياة الناس، وليست له تأثيرات حقيقية على معاشهم، بدليل أن مئات آلاف العمال السوريين كانوا يبيعون أنفسهم في أسواق العمل الرخيصة في الأردن ولبنان.
أكثر من ذلك، صدّقته شريحة واسعة من الفلسطينيين في الأراضي المحتلة، بأنه سيحرّر لهم فلسطينهم، مع أن الأب والابن حكما سورية حوالي نصف قرن، من دون أن يطلقا طلقة واحدة على الجولان، وبشهادة الإسرائيلين أنفسهم الذين أبدوا سعادتهم لعودة الأسد للسيطرة على جنوب سورية، إلى درجة أن إحدى شركات السياحة الإسرائيلية سيّرت مركباتٍ وضعت عليها ميكروفونات تنادي في شوارع تل أبيب "أيها السائحون، عودوا إلى الإستجمام في الجولان، فالأسد انتصر". وكان إسحق رابين، في آخر لقاء معه على حاجز إيريز، لخص هذه الحقيقة مؤنباً ياسر عرفات "لو كنت أعرف أنك لن تلتزم ما اتفقنا عليه، لما وقعت معك اتفاق أوسلو، حافظ الأسد أفضل منك، يلتزم حرفياً بكل التفاهمات بيننا"، علماً أن أجهزة الأسد الإعلامية والمخابراتية كانت إذا أرادت وصف أحد بالعمالة والخيانة تشتمه بـأنه عرفاتي.
ولكن، لن يكون في وسع هذا الأسد المحظوظ، مع تلك الفئات من دون عناء، تسويق أوهامه تلك بالسهولة نفسها، فإذا وجد كثيرون في المنطقة يشترون تلك الأوهام، وهي ما زالت مخططات وخرائط في الأذهان، وليست على الورق، فالمؤكّد أنه لن يجد من يدفع أي مبلغ لوضع ركائز وقواعد لمشاريعه المكلفة، إلا في حال قام أعضاء مليشيات التعفيش وشبيحة الأردن ولبنان وفلسطين بعمل جمعيةٍ، يقبضها بشار أولاً، لإطلاق مشاريعه الإعمارية باهظة التكلفة، أو يقوم تجار عمان وبغداد، الذين يطمحون بربح وافر من عوائد استيراد البضائع الرخيصة من مصانع هرب عمالها إلى الخارج، وصدئت خطوط إنتاجها، ولا تتوفر لديها مواد خام لإنتاج البضائع، بتمويل مشاريع البنية التحتية السورية، ليصبح لافتتاح معبر نصيب معنى حقيقي؟
يبيع بشار الأسد الوهم، وهو يتكئ على وسادة مريحة في قصر الشعب، وإذا سأله مستشاروه، إن كانت لديهم الجرأة على فعل ذلك، عن مصدر هذه الأموال التي ستأتي إليه لتمويل هذه المشاريع، سيجيبهم، بثقة وابتسامة ماكرة: سندفّع الخليجيين والأوروبيين والاميركيين ثمن ذلك، وما عليكم سوى إعداد قوائم بكل حجر تهدّم، وكل حفرة على طريق قرية نائية في سورية، ولن نسمح لشركاتهم بالاستفادة من عوائد الإعمار هذه التي ستموّل حكوماتهم مشاريعها.. لن يتسنّى للمستشارين سؤاله عن حل لغز هذه المعادلة، لأن شاشة هاتفه المحمول ستنبّهه إلى أن صديقه، رجل الأعمال اللبناني، يريد أن يطمئن عن موعد انطلاق المشاريع الطموحة، حينها سيشير بإصبعه للمستشارين، الذين ما زالوا يشبكون أيديهم على بطونهم، أن ينصرفوا ويدعوه وحيداً، وأخر كلمة سيسمعونها وهم يغلقون الباب خلفهم... أهلا أهلا أبو فلان.
لا يشكل حجم التكاليف الكبيرة أدنى مشكلة لبشار الأسد، ولا يعنيه كيف ستتدبّر دول الخليج وأوروبا تأمين هذه المبالغ الفلكية، في وقت تضطر هذه البلدان للاستدانة من القطاع الخاص والبنك الدولي لدعم ميزانياتها السنوية، ويتظاهر كل يوم آلاف العاطلين في شوارع مدنها، مطالبين بأي فرص عمل. ليست مشكلته، ما دام يضع في جيبه بطاقةً اسمها فلاديمير بوتين وسيرغي لافروف، اللذان سيتحوّل تراب سورية بأيديهما إلى ذهب، وبمجرد إشارة من أصابعهما ستتقاطر دول العالم للوقوف في الطابور لتقديم الأموال لمشاريع الأسد.
واهمٌ من يعتقد أن تغير المعادلة في سورية لصالح الأسد سيشفيه من حالة الانفصال عن الواقع. العكس هو الصحيح، حيث لم يتحمل عقله هذا الانقلاب الميداني، وأدى إلى وصول حالة الانفصال إلى مرحلةٍ ميئوس من علاجها، لكن بوتين سيكون أكثر منه انفصالاً عن الواقع، لو أجل بيعه ثمناً لتورّط الدول الأوروبية وأميركا، ووعدها بأنها ستساهم في إعادة الإعمار، شرط حصول تغيير سياسي في سورية. وعليه، أي بوتين، استغلال لحظة حماوة الرأس الأوروبية، لأنه إن لم يفعل ذلك، وتنبهت الدول الغربية للثمن الباهظ الذي ستدفعه في مقابل شراء جثة هامدة، لن يجد بوتين من يشتري الأسد في مقابل إصلاح جارور صرف صحي في عشوائيةٍ مهملة.