"الأوضاع في سوريا ستشهد خلال الأشهر القليلة المقبلة تطورات حاسمة تحدد مستقبل هذا البلد والدول المحيطة به".. هذا ما تؤكده الأوساط السياسية والدبلوماسية في بيروت. لكن هذه الأوساط لا تتفق على رؤية موحدة لمستقبل سوريا والمنطقة، ففي حين أن المصادر القريبة من النظام السوري وحلفائه (إيران وحزب الله وروسيا) تؤكد أن "الأمور أصبحت محسومة في هذا البلد"، وأن "هناك خطة متكاملة سيتم تنفيذها في المرحلة المقبلة"، فإن مصادر دبلوماسية لبنانية رسمية تعتبر أن "الصراع في سوريا لم يحسم نهائيا، بل إن الأشهر المقبلة ستشهد المزيد من التصعيد لحسم الخيارات المستقبلية، رغم التقدم الكبير الذي أحرزه النظام السوري وحلفاؤه خلال الأشهر الماضية على الصعيد الميداني وخصوصا في الجنوب".
فما هي تفاصيل الرؤيتين حول مستقبل سوريا؟ وإلى أين تتجه الأوضاع في المرحلة المقبلة؟ وما هو تأثير ما يجري على الصراع في المنطقة؟
على صعيد الرؤية الأولى، تقول مصادر سياسية مطلعة في بيروت (قريبة من النظام السوري وحزب الله): "إن الأزمة السورية أصبحت في مرحلتها الأخيرة بعد القمة الروسية-الأمريكية الأخيرة في هلسنكي، وبعد التسليم الأمريكي لروسيا بالدور الأساسي في سوريا ومتابعة كل المراحل المقبلة. وإن هناك قرارا أمريكيا بالانسحاب من سوريا، باستثناء إبقاء قوات أمريكية محدودة في شمال شرق سوريا (لحماية آبار النفط) وفي منطقة التنف، بانتظار الحلول النهائية، ولإبقاء الضغط على حزب الله والقوات الحليفة لإيران ومنع فتح المعابر الحدودية إلا بعد الاتفاق السياسي الشامل".
وتضيف المصادر: "إن روسيا تتابع حاليا عدة ملفات في سوريا، ومنها ترتيب عودة النازحين، ولا سيما من لبنان والأردن، وإعادة الإعمار ووضع الخطط المتنوعة لتنفيذ ذلك، وإعادة هيكلة الجيش السوري كي يكون قادرا على مواكبة المرحلة المقبلة، ووضع أسس الحل السياسي الشامل من خلال وضع دستور جديد، وإجراء انتخابات نيابية ومن ثم رئاسية. أما على الصعيد الميداني، فهناك تركيز الآن على حسم الأوضاع في منطقة إدلب بالتعاون مع تركيا، وذلك إما من خلال المفاوضات أو عبر الحسم العسكري، وإن المشكلة الأساس تتعلق حاليا بمستقبل عشرات آلاف المقاتلين الأجانب وتحديد مصيرهم".
وتؤكد المصادر أن "كل الحلول السياسية والترتيبات الأمنية، ولا سيما في الجنوب، لم ولن تكون على حساب الدور الإيراني ودور حزب الله، وإن هناك تنسيقا روسياً سورياً إيرانياً، وحزب الله يواكب التطورات، وإن الحلول السياسية المقبلة ستكون لمصلحة الجميع".
وفي مقابل هذه الرؤية المتفائلة حول مستقبل سوريا ودور حلفاء النظام السوري، فإن مصادر دبلوماسية رسمية في بيروت لديها وجهة نظر أخرى، ومن المعطيات التي تتضمنها هذه الرؤية؛ أن "الصراع على مستقبل سوريا والمنطقة لا يزال قائما، رغم التقدم الميداني الذي حصل لصالح النظام وحلفائه (والذي تم وخصوصا في الجنوب بتنسيق أمريكي-روسي)، وبمراعاة الحسابات الإسرائيلية؟ وإن الأمريكيين وحلفاءهم لم يعطوا الروس الضوء الأخضر الكامل لإدارة الملف السوري، وإن الصراعات الميدانية في شمال سوريا وشرقها وبعض مناطق الجنوب ستستمر لحين حسم القرار بشأن مستقبل النظام السوري، وإن الدور التركي لا يزال فاعلا، والأتراك لم يحسموا قرارهم بالاتجاه الكامل نحو روسيا وإيران، وهم يراعون الموقف الأمريكي وبعض الدول العربية، كذلك فإن الأكراد لم يتخذوا القرار النهائي بالاتفاق مع النظام السوري. وإن كل الخيارات لا تزال قائمة، كما يوجد في سوريا عشرات الألوف من المقاتلين الأجانب والعرب والسوريين لم يدخلوا في التسوية حتى الآن، ولذا فإن الصراع مستمر والحلول ستأخذ بعض الوقت".
وتجمع كلا الرؤيتين على أن مستقبل الوضع في سوريا سيكون له تأثير على كل الأوضاع في المنطقة. وفي المقابل، فإن ما يجري في لبنان وتركيا والأردن والعراق وإيران له تأثير على الوضع في سوريا، وإن كلا المحورين المتصارعين في المنطقة يضغطان كي تكون نتائج الصراع لصالح كل منهما. لكن رغم الاختلاف في تفاصيل كل من الرؤيتين، فإنه يمكن القول إن الأشهر المقبلة ستكون حاسمة على صعيد مستقبل الصراع في سوريا، وإن نتيجة هذا الصراع لن تحسم فقط مستقبل سوريا ونظامها، بل سيكون لها تأثير مباشر على دول المنطقة والنظام الإقليمي والدولي، فأي مستقبل ينتظرنا؟
إشكالات كثيرة تحيط بالموقعة القتالية الأخيرة في الصراع السوري. إدلب هي المحافظة الوحيدة التي طُرد منها النظام بكلفة بشرية ومعنوية هائلة، إذاً تشكل استعادتها ثأراً بالنسبة إليه. إدلب كانت الهدف التالي الذي تأهّبت قوات النظام وحلفاؤها الإيرانيون وأتباعهم لاجتياحه أواخر 2016 غداة سقوط شرق حلب، غير أن الروس شاؤوا مساراً آخر للأحداث وما لبثوا أن غيّروا المعادلة لإدخال تركيا التي سهّلت لاحقاً استخدام هذه المحافظة مقرّاً لاستقبال المقاتلين المرحّلين من حلب وحمص وحماة ثم من القلمون والغوطة وأخيراً من درعا. إدلب هي المعقل الأخير الذي لا يزال يشار إليه كموقع لـ «المعارضة» بمفهوم عسكري - سياسي، فالمناطق الأخرى التي عاد إليها النظام بمعيّة الإيرانيين وأتباعهم إما أخليت من سكانها أو أن الظروف القاسية لمَن بقوا فيها لا تسمح لهم بممارسة أيٍّ من مظاهر الاحتجاج. وإدلب التي لم يزد سكانها عن مليون ونصف المليون إنسان باتت تؤوي الآن ما يقرب من أربعة ملايين تحت سيطرة مزيج من نحو مئة فصيل أو أكثر، متقاربة أو متنافرة وموزّعة بين «الجبهة الوطنية للتحرير» و «هيئة تحرير الشام/ جبهة النُصرة سابقاً»، إضافة إلى فصيل «حرّاس الدين» الذي انشقّ عن «النصرة» التي اعتبر أنها ابتعدت من أصولها «القاعدية».
في اجتماع «آستانة - سوتشي» الأخير، كانت إدلب المحور الأساسي، فهي منطقة «خفض التصعيد» الأخيرة، ولا بدّ من استعادتها. أوضح الروس أنهم يرفضون بقاءها خارج سيطرة النظام لكنهم لا يزالون يفضّلون الخطط والأفكار التركية كبديل من خطط النظام الذي يلحّ على اجتياحات لعقد ما يسمّيها «مصالحات»، إلا أنه لا يستطيع ذلك بمساعدة الإيرانيين وأتباعهم وحدهم بل يحتاج إلى الدعم الجوي الروسي. القرار لموسكو، إذاً، وكان مندوبها ألكسندر لافرنتييف حاسماً وتاركاً الباب موارباً في آنٍ حين قال أن «لا عملية عسكرية واسعة قريباً في إدلب». وفُهم ذلك بأنه تمديد للاعتماد على تركيا، وكان استياء وفدَي النظام وإيران بادياً في تصريحات بشار الجعفري الذي لم يجد الكثير من الديبلوماسية لتغليف شتائمه لتركيا. لكن أحداً في النظام لا يستطيع اليوم معارضة الروس أو إغضابهم.
«معركة» أو لا معركة في إدلب، إذاً، ومَن يريدها ومَن لا يريدها؟ لمس النظام والإيرانيون منذ فترة طويلة أن ثنائي روسيا - تركيا أصبح المحور الرئيسي لمسار آستانة. ولهذا أسبابه، فروسيا تريد «كل سورية» في نهاية المطاف، وإذ احتاجت إلى الإيرانيين وأتباعهم لاستكمال ما تبقّى من عمليات قتالية فإنهم قاموا بما طُلب منهم لكن الحاجة إليهم تتناقص كلّما اقترب الصراع المسلّح من نهايته. وإذا كانت روسيا لا تطالب الإيرانيين بسحب ميليشياتهم فلأنها قد تطلب منهم مؤازرة قوات النظام في مهمة أخيرة في إدلب. لكنها في هذه المنطقة تحديداً تحتاج أولاً إلى تركيا ولا تستطيع تجاهل المكاسب التي قدمتها إليها أو الأدوار التي لعبتها منذ 2016 وستلعبها في خدمة الخطط الروسية، فلولا تعاون أنقرة لما أمكن احتواء الفصائل وحصرها في إدلب ولا وقف تدفق اللاجئين الذي يحمّل الأوروبيون روسيا مسؤولية أساسية فيه.
تركّز التفاهم الروسي - التركي في شأن إدلب على ضرورة إيجاد مقاربة مختلفة للوضع في هذه المحافظة السورية، بسبب تعقيداته العسكرية (خليط الفصائل وانتماءاتها...) والمدنية (تكدّس المهجّرين من مناطق مختلفة). قد تكون موسكو تفهّمت موجبات هذه المقاربة التركية بعدما تعهّدت أنقرة بأنها قادرة على إدارة حلّ سياسي - استخباري يحقّق الهدف المتّفق عليه: إنهاء سيطرة متشدّدي «جبهة النصرة/ هيئة تحرير الشام» بأي وسيلة. لكن التسهيلات والضمانات التي قدّمتها موسكو لم تكن دائماً مساعدة لـ «الخيار التركي»، إذ إنها لم تتخلَّ عن الخيار الآخر، أي اجتياح قوات النظام والميليشيات الإيرانية لإدلب، بل إنها دعمته وتواصل دعمه بضربات جويّة أو بغضّ النظر عن هجمات لاختراق المنطقة. وعلى رغم أن النقاش مع أنقرة استدعى مجدّداً التمييز بين «المعتدلين» و «المتشدّدين»، كما في الجدل الروسي – الأميركي طوال 2016، إلا أن الروس الذين تجاوزوا دائماً هذا التمييز وجدوا مصلحة في مراعاة الحجج التركية، أولاً لاجتذاب أنقرة وإبقائها في مسار آستانة، وثانياً لوجود اصطفاف غير متماثل على الأرض بين المصنّفين «قاعديين» و «إرهابيين» وبين الفصائل التي ينتمي معظم مقاتليها إلى «الجيش الحر» الذي يريد الروس إعادته إلى كنف النظام، بالأحرى إلى كنفهم.
اجتياح قوات النظام والإيرانيين لإدلب بغطاء جويّ روسي يبقى خياراً قائماً وممكناً، بمعزل عن الوقت الذي يستغرقه، لكنه بالتأكيد مشروع مذبحة كبرى معلنة على الجانبين، ووصفة لدفع أكثر من مليونَي لاجئ إلى خارج إدلب وقد لا تتمكّن منطقة «درع الفرات» من استيعابهم، إضافة إلى الدمار الذي سيثقل فاتورة إعادة الإعمار... انطلاقاً من هذه الاعتبارات الواقعية وغير المضخّمة عمد الروس دائماً إلى لجم النظام والإيرانيين، كما فعلوا أخيراً غداة الاجتماع العاشر لمسار «آستانة - سوتشي»، وما عزّز ميلهم إلى خطط أنقرة أمران: الأول، أن اللازمة السياسية المبرمجة منذ قمة بوتين - ترامب في هلسنكي باتت دائمة التركيز على «عودة اللاجئين» و «إعادة الإعمار» و «معالجة الأوضاع الإنسانية»، لكن من دون نسيان «محاربة الإرهاب». والآخر، أن تفجّر الأزمة التركية - الأميركية يستوجب عدم الضغط على أنقرة، خصوصاً أنها أحرزت تقدّماً بتوحيد معظم الفصائل «المعتدلة» تحت مسمّى «الجبهة الوطنية للتحرير»، وهي الخطوة التي كان متفقاً عليها وانتظرت «اكتمال النصاب» بانتهاء عمليات ترحيل المقاتلين من جبهة الجنوب. وبالنسبة إلى الروس فإن المهمة الأولى لهذه «الجبهة» هي المسارعة إلى القضاء على «النُصرة» وحلفائها، لذلك حدّدوا لتركيا مهلة زمنية، وتقدّر مصادر عدّة أن نهاية السنة هي الحدّ الأقصى لاعتبار «عقدة» إدلب محسومة.
قد يتطلّب هذا الحسم وقتاً أطول، ذاك أنه يشبه عملياً تصفية لمجمل تعقيدات الأزمة السورية، سواء كانت «عسكرة الثورة» من جهة أو «وحشية النظام» وحلفائه بمن فيهم الروس من جهة أخرى. وإذ تراهن الخطة التركية على قبول «هيئة تحرير الشام/ النصرة» طوعاً بحلّ نفسها وبـ «ترحيل الأجانب» على أن يُتّفق على حلول (نوقشت سابقاً) لأوضاع مقاتليها السوريين، وهم الغالبية. الطوعية تستلزم واقعية وبراغماتية، وقد يرضخ لها قادة «النُصرة» متى تعرّفوا إلى كل ما يُعرض عليهم، لكن عناصر أي «اتفاق» محتمل ليست واضحة. إذا لم يرضخوا فقد لا تكون هناك ممانعة مبدئية لدى الفصائل الموحّدة من ضرب «النُصرة»، إذ حصلت سابقاً مواجهات دموية بين الطرفين في مناطق شتّى، ثم إن الظرف الحالي بات مسألة حياة أو موت لأيٍّ منهما. لكن، هنا أيضاً، تريد فصائل «الجبهة الوطنية للتحرير» التعرّف إلى معالم خريطة الطريق التي يدفعهم إليها الأتراك، فمع قبولها التزام «خفض التصعيد» وعدم مقاتلة النظام تحتاج الفصائل إلى ضمانات بأن الروس والنظام والإيرانيين لن يتدخّلوا في قتالها - إذا كان لا بدّ منه - مع «النُصرة»، ولن يبادروا إلى اجتياح إدلب بعد إنجاز المهمة ضد «النُصرة». الضمانات التركية لا تكفي، والضمانات الروسية لا يوثق بها طالما أنها تستند دائماً إلى «مصالحات» مع النظام.
كان الرئيس الروسي والمستشارة الألمانية بالغَي الوضوح في مؤتمرهما الصحافي الأخير (18/08)، إذ طلب بوتين أن تساهم الدول الأوروبية «مالياً» في إعادة إعمار سورية، مسوّقاً وصفته السحرية لـ «تلازم» عودة اللاجئين مع إعادة الإعمار. لكن أنغيلا مركل حذّرت من «كارثة إنسانية في إدلب وسورية والدول المجاورة»، وقالت أنها ناقشت سابقاً مع بوتين «قضية الإصلاحات الدستورية والانتخابات المحتملة (في سورية)». وفي ذلك أكثر من إشارة: أولاً أن الحسم في إدلب قد يفاقم مجدّداً قضية اللاجئين. وثانياً، أن الأوروبيين يواصلون ربط مساهمتهم في إعادة الإعمار بعودة اللاجئين والحل السياسي. وثالثاً، أن أطروحات روسيا فشلت حتى الآن في الإقناع بأنها كفيلة بتحقيق الأهداف التي تتوخّاها من دون أي تغيير في سلوك النظام.
في موسكو عزف وزير الخارجية اللبناني جبران باسيل على وتر الطموحات الإمبراطورية الروسية، أثناء اجتماعه مع مهندس عودة موسكو الخشنة إلى الساحة الدولية نظيره الروسي سيرغي لافروف، المنشغل بإعادة استقطاب الجماعات الإثنية والدينية المقيمة ضمن ما كان يُعرف سابقاً بالمجال الحيوي السوفياتي الممتد من الفضاء الإسلامي جنوب روسيا حتى المياه الدافئة شرق البحر المتوسط، فقد استغل باسيل المؤتمر الصحافي المشترك مع لافروف وكرر دعوته لروسيا العظمى إلى القيام بدورها التاريخي في حماية الأقليات الدينية.
في موسكو حاول باسيل نفض الغبار عن بعض من تفاصيل معاهدة «كيتشوك كاينارجي» التي عقدت بين الإمبراطوريتين الروسية والعثمانية في يوليو (تموز) 1774، وانتزعت فيها بطرسبورغ من إسطنبول الحق في رعاية شؤون المسيحيين الأرثوذكس الذين يعيشون في الولايات العثمانية، فقد شرّعت الهزيمة العثمانية في حرب البلقان في القرن الثامن العشر التدخل الروسي المباشر في الشؤون الداخلية للسلطنة العثمانية، وتطور هذا التدخل بعدما طالب رهبان في الكنيسة الروسية الإمبراطورة الروسية كاترين الثانية بالتدخل ليس فقط في البلقان؛ بل في بسط النفوذ على الأماكن المقدسة المسيحية في فلسطين، والتي أسست لاحقاً لـ«المسألة الشرقية». فمن جادة سمالنسكيا حيث موقع وزارة الخارجية الروسية وسط العاصمة موسكو، أعاد جبران باسيل عقارب الزمن إلى معسكر «كيتشوك كاينارجي» الذي عقدت فيه الاتفاقية الروسية - العثمانية في بلغاريا، محاولاً إغراء الروس بأن معسكراتهم الجديدة في سوريا تحتاج إلى سياسيين لبنانيين من دعاة حلف الأقليات، وليس إلى رهبان أرثوذكس من أجل إعادة فرض النفوذ الروسي في الشرق الأوسط، حيث من الطبيعي أن تتقاطع السياسة الخارجية الروسية حول سوريا مع بعض القوى السياسية اللبنانية التي كانت تدور في فلك النظام السوري في زمن الوصاية على لبنان، خصوصاً في قضية إعادة تعويم النظام من البوابة اللبنانية، حيث تتمسك هذه القوى التي يمثل وزير الخارجية جبران باسيل أحد أركانها بضرورة التطبيع الكامل مع نظام الأسد.
وفي الاعتبارات الروسية تُعدّ الدعوة إلى التطبيع مع دمشق في صلب مصالح موسكو التي تحاول استغلال إصرار الأطراف اللبنانية على هذا الموقف، بهدف تحويل لبنان إلى مثال حي لبعض الدول العربية والأوروبية في إمكانية إعادة علاقات غير مشروطة بتطورات العملية السياسية، باعتبار أن النظام السوري خرج منتصراً في الحرب على الإرهاب وفقاً للتوصيف الروسي، أما في أدبيات حلفائه اللبنانيين فإن رغباتهم تدفعهم إلى القول إن النظام عاد أقوى مما كان.
في المؤتمر الصحافي المشترك بين باسيل ولافروف عبّر الأخير عن امتعاض بلاده من الشروط الأميركية الأوروبية في ربط إعادة الإعمار بالعملية السياسية، التي يصبح نجاحها شرطاً لعودة النازحين واللاجئين السوريين إلى مناطقهم، وهي معادلة تعرقل رغبات الوزير باسيل المطالب بعودة سريعة وآمنة للنازحين من دون ربطهم بالحل السياسي، ووفقاً للعرض الروسي الذي حدد نحو 75 منطقة آمنة في سوريا يمكن العودة إليها، وقد وضعت موسكو آلية حسابية لعودة السوريين تقوم على طرح عدد سكان المناطق الآمنة سنة 2010 من عدد السكان في 2018 من أجل تحديد الدفعة الأولى من العائدين.
وعليه؛ فإن الوزير باسيل المقتنع بانتصار خيارات محوره السياسية في سوريا يُلمح إلى جعل لبنان منصة لإعادة إعمار سوريا وإلى أن التعاون الاستراتيجي بين لبنان وروسيا ضروري لهذه الغاية، ولكن على ما يبدو أنه غاب عن بال الوزيرين أن خزائنهما خالية، وأن إعمار سوريا يحتاج إلى دول غنية؛ تستطيع في لحظة معينة أن تفرض شروطها السياسية على موسكو وبيروت مهما كان الحضور الروسي أو اللبناني طاغياً على الجغرافيا السورية. فحتى الآن لم تقتنع الأطراف المُصرّة على بقاء الأسد والتطبيع معه، بأن الدول القادرة على الاستثمار في سوريا ليست جمعيات خيرية ستقدم للقوى اللبنانية الموالية للأسد هدايا سياسية مكافأة لها على ضلوعها السياسي والعسكري في تحويل الأغلبية السورية إلى أقلية، جرّاء تغطيتها عمليات القتل الجماعي والتهجير الممنهج الذي نفذه نظام الأسد بإشراف ومساعدة روسية وإيرانية.
وعليه، لا يمكن لبنانياً الرهان على موسكو من أجل الالتفاف على المطالب بإعادة العلاقات الرسمية مع دمشق، والتواصل مع الروس من أجل تجنب الاتصال المباشر مع النظام، فموسكو الوصية على نظام الأسد تحولت إلى قبلة للمسؤولين اللبنانيين الباحثين عن وصاية دائمة، وهي تدفعهم للضغط من أجل التطبيع الرسمي اللبناني مع الأسد، باعتبار أن النظام استعاد عافيته في الداخل وهو يحتاج إلى خطوة خارجية، ومن خلال البوابة اللبنانية يستعيد الأسد دوره الإقليمي، وتعيد موسكو من جديد إنتاج «المسألة الشرقية».
يهوى حزب الله الاحتفاليات على أنواعها، خصوصا منها ذكريات النصر، علما أنه لم يحقق إلا نصرا واحدا حقيقيا، هو انسحاب إسرائيل من لبنان عام 2000. وهو يحتفل به كل سنة، لكنه يحتفل أيضا كما احتفل بالأمس بانتصاره في حرب يوليو/ تموز 2006 حيث سقط خلالها نحو 1300 مواطن لبناني، وأجبرت إسرائيل مئات آلاف من الجنوبيين على النزوح، ولم تبق حجرا على حجرا، فدمّرت البنى التحتية والجسور والطرقات بشكل شبه كامل، وحوّلت الضاحية الجنوبية لبيروت معقل حزب الله وخزانه البشري إلى ركام، وذلك كله لأن قيادة الحزب ارتأت خطف جثتي جنديين إسرائيليين سقطا إثر اشتباك عند الشريط الحدودي الفاصل بين لبنان وفلسطين المحتلة، وقرّرت المراوغة بإخفاء الأمر، لكي تفاوض عليهما فيما بعد. وأمام هول ما حصل وفداحته خلال 33 يوما من القصف والدمار والخراب وعدد الضحايا، ظهر الأمين العام لحزب الله، حسن نصرالله، على إحدى الشاشات، وقال "لو كنت أعلم..."، أي أن ردة فعل إسرائيل ستكون بهذه الوحشية لما كان فعلها! ومع ذلك هو يحتفل كل سنة بالنصر في هذه المناسبة، ولا يعترف بدور رئيس حكومة لبنان يومها رجل الدولة الشجاع فؤاد السنيورة في وقف العدوان الإسرائيلي الذي كان له الفضل الأكبر في الاستحصال على قرار من مجلس الأمن رقم 1701 بوقف إطلاق النار، وإرسال 15000 جندي من قوات الأمم المتحدة لضمان حفط الأمن في الجنوب، وعلى الحدود اللبنانية الجنوبية، على الرغم من أن رئيس الحكومة كان قد أعلن معارضته منذ اليوم الأول للحرب، ولخطف حزب الله جثتي الجنديين الإسرائيليين. ومع ذلك، اتهم الحزب السنيورة يومها بالعمالة والتآمر عليه!
الاحتفاليات التي تتم بتنظيم محكم، وترفع شعاراتٍ تعبويةً محدّدة، وتلوّح بصور القائد، وتهتف له، هي خاصية أحزاب النظرية الواحدة والحقيقة الواحدة، الأحزاب الشمولية والسلطوية.
والاحتفاليات هذه وسيلة لحشد مئات الألوف في نظام مرصوص، بحيث يبدون رجلا واحدا وصوتا واحدا. وهذه تقنيّة يجيدها حزب الله بحرفية عالية، عندما يحتشد مئات الآلاف، ليستمعوا إلى نصرالله (وليس لمشاهدته)، وهو يخطب عبر شاشة عملاقة، نصبت خصيصا للمناسبة ويتفاعلون مع كلامه، وكأنه حاضر أمامهم، فهذه طريقة للتعبير عن قوة الحزب وفرض هيبة القائد، وهي، في الوقت عينه، أسلوب لممارسة اللعب على عواطف الجمهور، والسيطرة على عقول المستمعين، إذ ينفضون عن الاحتفالية بقوة شحن هائلة، واقتناع واحد مشترك. وحزب الله يحتفل أيضا بمناسبات دينية كثيرة، في مقدمها يوم القدس الذي خصّصته إيران وكرسته منذ سنوات يوما لفلسطين سنويا في آخر أسبوع من شهر رمضان. كما أن الحزب يحيي ذكرى الشهداء، ويقيم العروض العسكرية عندما يريد أن يستعرض قوته، ويشد عصب جمهوره، ويوجه رسائله في أكثر من اتجاه. وتنعكس قوة هذا الأسلوب أيضا في قدرته على إجبار جمهرة من السياسيين الحلفاء والتابعين على الحضور والاصظفاف جلوسا في الصف الأمامي في حضرة نصرالله الذي يطلّ عليهم عبر الشاشة.
وفي بداية انخراطه ربيع 2013 في القتال ضد الشعب السوري، ودفاعا عن نظام بشار الأسد، كان حزب الله يشعر بالإحراج في الكشف عن ضحاياه، لذلك كان يحيط إحضار الجثث بالكتمان، ومن ثم يتم التشييع سريعا وبدون إعلان كل في قريته، إلا أن ذلك لم يعد ممكنا لاحقا بسبب ازدياد حجم الخسائر وعدد القتلى، وتصاعد التململ لدى أهالي الضحايا، فبات مضطرا للإعلان عن ذلك، وإجراء مراسم تشييع "رسمية"، تحوّلت مع التدخل الروسي عام 2015، وازدياد حجم عدد فرق مليشياته المنخرطة في القتال، في أكثر من محافظة وجبهة، إلى احتفاليات علنية، يخطب فيها مسؤولوه في المدن والبلدات التي ينتمي إليها القتلى، غير أن هذا الانخراط الكلي في الأزمة السورية، وهذا التورّط في المشاركة في سفك دماء السوريين، راحا يخفّفان تدريجيا من قوة حزب الله وقدرته على الحشد، حتى في صفوف جمهوره. كما أن باقي اللبنانيين راحوا يشيحون نظرهم جانبا عن القناة التي تنقل وقائع ظهور نصرالله خطيبا في ساحات ضاحية بيروت الجنوبية، إذ إن مسألة "داعش" والإرهاب كانت ورقة رابحة في يده، استعملها طويلا بين عامي 2013 و2015 موهما اللبنانيين أنه ذهب للقتال في سورية لمنع وصول الإرهابيين إلى لبنان. وهي اليوم سقطت. والعامل الآخر هو إشاحة نظر حزب الله عن مشكلات اللبنانيين، وخصوصا الاقتصادية، بحجة أنه متفرّغ للمقاومة. ولكن هذه "المقاومة" هي منهم، وتقوم عليهم، وتستعمل أولادهم وقودا لها، فكيف لهم أن يستمرّوا ويصمدوا، من دون تأمين فرص العمل لهم وتزويدهم بالكهرباء والماء، ورفع النفايات والتلوث من بيئتهم وشوارعهم، وعن أنوفهم وأجهزة تنفسهم... بعد أن أصبح حزب الله مكونا أساسيا من مكونات السلطة، في الحكومة وفي البرلمان وفي مختلف مواقع القرار. ناهيك عن ظاهرة فساد الطبقة السياسية الذي بات الحزب جزءا منها، والفساد متغلغل في مفاصله. ولهذا الغرض، أعلن نصرالله، عشية الانتخابات النيابية، عن تشكيل لجنة خاصة لمكافحة الفساد، بإشرافه هو شخصيا، ولكن لا خطوة فعلية، ولا شحطة قلم منذ تشكيلها قبل خمسة أشهر!
أما التطور السلبي الآخر الذي انفجر أخيرا بشكل قوي في وجه حزب الله فهو الشرخ الذي بدأ يتسع بين الجنوب والبقاع، وهما محافظتان بأغلبية من الطائفة الشيعية، ومعقودتا الولاء للطرفين الشيعيين المهيمنين، حزب الله وحركة أمل، فأهل البقاع، وتحديدا مدينة بعلبك وجوارها المعتبرة خزّانا للحزب، تشكو من الإهمال اللاحق بها، ليس فقط من الدولة، وإنما من دويلة حزب الله الذي لم يهتم بتحسين ظروف عيش أهلها وإنماء مدينتهم، على الرغم من أنه يسيطر على معظم مقاعد ممثليها في البرلمان منذ عقود. وكادت نقمة المدينة أن تطيح نصف مقاعد الحزب في الانتخابات أخيرا لو لم يسارع نصرالله إلى توجيه النداء تلو النداء، ويكثّف ظهوره التلفزيوني، ويعلن استعداده لزيارة المدينة، والتجوّل في شوارعها. ومع ذلك، خسر ثلاثة مقاعد لصالح حزب القوات اللبنانية وتيار المستقبل بزعامة سعد الحريري. وهناك من حاول زرع الشقاق بين "الثنائي الشيعي"، عبر تحريض حزب الله على زعيم حركة أمل، نبيه بري، "الجنوبي جدا" الذي يدفع بكل المشاريع إلى الجنوب ويحرم البقاع منها. وأخيرا، اضطر نصرالله قبل أيام إلى إقامة احتفالية النصر بحرب تموز في ضاحية بيروت، والإعلان عن تخصيص بعلبك باحتفالية أخرى بمناسبة النصر على "التكفيريين"، بعد أن أعلنت الدولة عزمها على تشريع زراعة الحشيش (الخشخاش) إرضاء للبعلبكيين، واضطرار حزب الله إلى رفع الغطاء عن بطل تهريب المخدّرات الملقب "إسكوبار لبنان"، الصادر بحقه أكثر من ثلاثة آلاف مذكرة توقيف، ومع ذلك لم تتمكّن الأجهزة الأمنية من القبض عليه من قبل. كما أن المثير أكثر في الأمر أن "إسكوبار" هذا لم يتم توقيفه، وإنما تصفيته على الفور مع أفراد مجموعته فور مداهمة مقره. وبعدها بأيام راحت وسائل التواصل الاجتماعي تتداول شريط فيديو جمع وزيرا من حزب الله ومدير الأمن العام السابق الذي أصبح نائبا وأحد المشايخ المعروفين وآخرين ضيوفا على الغداء عند "إسكوبار" هذا خلال الحملة الانتخابية أخيرا.
لم يُكتب للقاء المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي جرى السبت الماضي في قصر الضيافة الحكومي بولاية براندنبورغ الألمانية، حظوظ نجاح مماثلة لتلك التي لقيها بوتين في حفل زفاف وزيرة الخارجية النمساوية كارين كنايسل، حين عبرت الرقصة التي اشتركا في أدائها عن روحية التوافق العالية بين الكرملين وحكومة ائتلاف اليمين المحافظ والمتشدد في النمسا.
نقاط الخلاف التي خيمت على اللقاء كانت تبدأ من الملف الذي عمق التباعد بين برلين وموسكو، أي الموقف الروسي من المتمردين في أوكرانيا، حيث طالبت المستشارة الألمانية بأن يبذل الكرملين جهوداً جديدة وملموسة للفصل بين القوات العسكرية الأوكرانية والانفصاليين على خطوط التماس في إقليم دونباس. وفي ملف خط أنابيب الغاز «نورث ستريم 2»، اعتبرت ميركل أن «على أوكرانيا أن تضطلع بدور في عبور الغاز إلى أوروبا» حتى بعد بدء تشغيل الخط، وهذا ما لاح أن بوتين غير موافق عليه.
على صعيد الملف السوري، الذي كان الأهمّ بين الزعيمين، لم يقطع اللقاء خطوة ثانية إضافية تستكمل مباحثات اجتماعهما في سوتشي، في أيار/ مايو الماضي، التي تناولت القضايا ذاتها تقريباً، خاصة مسائل الإصلاحات الدستورية والانتخابات الحرة، مع تركيز من جانب ميركل على ضرورة أن تتحمل روسيا مسؤولياتها في الحفاظ على حقوق اللاجئين السوريين في ضوء المرسوم 10 الذي أصدره النظام.
بوتين، في المقابل، اختار صيغة ابتزاز ألمانيا عن طريق التلويح بأنّ قضية اللاجئين «عبء هائل» على أوروبا عموماً، ولكنه قصد برلين على وجه الخصوص، بالنظر إلى أن البلد استقبل مئات الآلاف من اللاجئين، وتسبب ذلك في زعزعة استقرار التحالف الحكومي الذي كانت تقوده ميركل قبل تدفق موجات اللجوء. وكان لافتاً أن الرئيس الروسي استذكر أعداد ملايين اللاجئين السوريين في الأردن ولبنان وتركيا، مشيراً في هذا الصدد إلى واجب أوروبا في تحمل أعباء إعادة إعمار سوريا، عن طريق موسكو وبواسطتها وإشرافها. في الآن ذاته كان وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف يبحث الملف ذاته في بيروت، ويصادق على نبرة التهديد التي حملتها تصريحات وزير الخارجية اللبناني جبران باسيل حول الإسراع في إعادة اللاجئين السوريين إلى سوريا.
وليس خافياً أن بوتين لم يعتمد صيغة الابتزاز في طرح مسألة اللجوء السوري وإعادة إعمار البلد عبر وصاية روسية، إلا بعد أن لمس تشجيعاً من بعض الديمقراطيات الغربية. الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون اتفق مع بوتين على إرسال 50 طناً من المعونات الإنسانية الفرنسية عبر طائرة أنتونوف روسية الصنع حمّلت شحنتها من قاعدة شاتورو الفرنسية، وهبطت في مطار حميميم الذي بات قاعدة جوية روسية كما هو معروف. كذلك فإن سياسات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تمنح بوتين فرصة ذهبية لاستغلال الشروخ المتعاظمة في العلاقات الأمريكية ـ الأوروبية إجمالاً، وفي الموقف من النظام السوري خاصة.
وإذا كانت ميركل قد اتخذت موقفاً مبدئياً إزاء ابتزاز بوتين، حتى الساعة على الأقل، فليس جديداً أن تدوس الديمقراطيات الغربية على مبادئها المعلنة فتقايض مجرمي الحرب، وتراقص الذئاب فوق جثث الضحية.
قد يفاجئ بعضهم عنوان المقالة، وخصوصا الذين تربوا على الشعارات البرّاقة، وحب "القائد وجيشه الباسل"، وسيسألون على نحو بديهيّ: وهل تقام الدول على غير الجيوش، أو هل لدولةٍ أن تعيش بدون جيش؟ لعلَّ المتأمل عميقاً في حال جيوشنا العربية، وما قامت به منذ تأسيسها، يدرك حقيقة الوهم الكبير الذي تعيشه شعوب تلك الدول، كما يدرك خلفية تعظيم هذه الجيوش، ومباركة أفعالها الشجاعة، وإنْ لم تخض أيّة معركة مشرّفة، ولعلَّ القدسية التي يحيطها الحكام بجيوشهم تستمدّها من قدسية قائدها الرجل الأوَّل في هذه الدولة أو تلك، رئيساً كان أم ملكاً أم أميراً.. إذ هو مطلق اليد في كل شيء، وهو "ظلِّ الله على الأرض"، والويل لمن يتعرّض له، أو لجيشه، وإن بوردة (مظاهرة داريا السلمية في سورية حملت الورود للجيش عام 2011، فكافأتها أجهزة الأمن بألف شهيد تحت التعذيب).
ذات يوم، تعرَّضت صحيفة النور السورية إلى مطلبٍ محقٍّ لعاملين مدنيين في معامل الدفاع قرب بلدة السفيرة شرق حلب، فكان أنْ جاء رسولٌ برتبة مساعد، ليبلِّغ مسؤول الصحيفة رسالة شفوية من قيادته، تتضمن تحذيراً من خوض الصحيفة بمسائل كهذه، وإلا ستغلق! وللعلم، تعود ملكية الصحيفة للحزب الشيوعي السوري عضو الجبهة الوطنية التقدمية الذي يفترض أنَّ له "نتفة" شراكة مع حزب البعث في حكم البلاد، ما يوجب مخاطبته ضمن الأقنية القانونية. لكن القانون هنا هو الجيش، "جيش الشعب" (أطلق "البعث"، منذ اغتصب السلطة، على الجيش اسم "جيش الشعب" و"الجيش العقائدي"، ومنع عنه السياسة وفكرها، والخوض فيها لغير البعثيين).
وصحيفة النور مرخّصة منذ خمسينيات القرن الماضي، أيَّام كان لسورية دولة وقانون وأحزاب وصحافة، وقد أغلقت مع ما أغلق من صحف ومجلات ونواد وجمعيات بقرارٍ صدر عمَّا سمّيت "قيادة الثورة" للانقلاب البعثي الذي جرى في 8 آذار/ مارس عام 1963. أعيد إصدارها صحيفة حزبٍ منضو تحت راية الجبهة الوطنية التقدمية عام 2001 بـ: "عطاء ميمون" من القائد "الملهم" بشار الأسد، بطل شعاري "التطوير والتحديث!" تيمنّاً بوالده بطل التشرينيْن "التصحيح والتحرير".
يستنتج المتتبع لواقع حال الحكم في سورية قاعدة مهمة، أنه: "كلما ارتفعت وتيرة التعظيم كثرت عيوب المعظَّم ونواقصه"، ومن هنا، ومع كل أسف، يمكن القول: إنَّ هذا الجيش "المعظَّم" لم يربح حرباً ضد عدوٍّ مبين، فلا معركة ميسلون ضد فرنسا عام 1920 ولا حروب 1948/ 1967/ 1973 ضد إسرائيل. وإذا كان لمعركة ميسلون (24 يوليو/ تموز 1920) وحرب 1948 ظرفاهما الموضوعيان، فنتائج معركة ميسلون محسومة سلفاً، فلا تكافؤ بين الجيشين! لكنَّ وزير الدفاع السوري آنذاك، يوسف العظمة، أرادها إعلاء لقيم وطنية وأخلاقية، وكيلا يقال: إنَّ الفرنسيين دخلوا دمشق دونما مجابهة السوريين لهم.
أما حرب 1948 فكانت حرباً عربية ارتبطت، آنذاك، بظروف العرب المختلفة/ المتخلفة. وما يهم هنا حرب يونيو/ حزيران التي جاءت، بعد تحضيرٍ لها وتوقُّع حدوثها، وبعد "طفح" ثوري غطَّى المساحة العربية من محيطها إلى خليجها، وأعلن كثيرون ممن دقّوا طبولها أنهم سيلقون بالإسرائيليين إلى البحر، خلال أربع وعشرين ساعة. أما حرب تشرين (أكتوبر) عام 1973 التي على الرغم من ربحها المعلن كان طرفاها، مصر وسورية، قد خسرا أراضي جديدة، وأسفرت الحرب عن زيارة أنور السادات الإسرائيليين رافعاً الراية البيضاء، ليتبعه حافظ الأسد بتوقيع اتفاقية الفصل بين القوات، وليعدَّ الاتفاقية انتصاراً، بل غسْلاً لعار هزيمة حزيران، إذ استعاد القنيطرة، مدمَّرةً، وكان أن سلّمت عامرة قبل وصول العدو بزمن! (يُذْكَر أنَّ عبد الرحمن الأكتع وزير الصحة خلال حرب حزيران، تساءل في أول اجتماع لمجلس الوزراء السوري بعد الهزيمة، عن سبب تسليم القنيطرة، دونما قتال، مطالباً بمحاسبة المسؤول عن ذلك الفعل، فما كان من حافظ الأسد وزير الدفاع آنذاك، إلا أن قام إليه، وصفعه بلؤم وقسوة، ما جعله يغادر، رحمه الله، الاجتماع والوزارة معاً، وإلى الأبد).
وإذا كان لا بد من ذكر الحروب الرابحة، فما جرى في لبنان بين عامي 1974 و1982 من اقتتالٍ جعل الجيش السوري، أراد أم لم يرد، أن يقف في الصفّ الذي تقف فيه إسرائيل، فمنذ دخوله وقف ضد جبهة الرفض (تحالف بين فصائل فلسطينية تؤيدها القوى الوطنية اللبنانية)، وفي النهاية، ضد منظمة التحرير الفلسطينية التي أبعدت عن حدود وطنها آلاف الكيلومترات. كما أنه وقف متفرّجاً، إن لم نقل قد ساعد، على مجازر تل الزعتر وصبرا وشاتيلا.
وهناك أيضاً حرب الخليج الثانية التي دخلها الجيش السوري تحت جناح تحالفٍ قادته الولايات المتحدة الأميركية، ليحظى حافظ الأسد بغنائم وفيرة. وكان أن غطَّى أمر دخوله برسالة نُصْحٍ، وجهها إلى الرئيس صدام حسين الذي لا شك أنَّ خطأه باحتلاله الكويت كان فادحاً.
وقبل الدخول إلى حروب الجيش السوري، ضدَّ شعبه، لا بد من الإشارة إلى صراعاته الداخلية وانقلاباته التي قادت إلى خسارة مئات الضباط، وربما آلاف، قتلاً أو تسريحاً، وزرعاً للفتن والأحقاد، وخصوصا بعد تسلُّط حزب البعث. أما الحروب الداخلية فكثيرة، منها: قصف مسجد السلطان في مدينة حماة في 1964، ما تسبّب بنحو سبعين إلى مئة قتيل. ثمَّ جاء تدمير حماة بالكامل عام 1982 على يد طلائع الجيش وقواته الخاصة، وحصد ما بين ثلاثين ألفا إلى أربعين ألف قتيل. وفي حلب، كانت مجزرة حي المشارقة عام 1980 التي التهمت ثمانين من الناس الأبرياء. وثالثة الأثافي هي ما نحن فيه الآن من حربٍ لا تزال تترك في المجتمع تأثيراتها المادية والاجتماعية والروحية، وتخلِّف أمراضاً على غير صعيد! وقد خلخلت كيان المجتمع السوري وبنيته. وانتهت إلى الاستعانة بدولٍ أجنبية لتدمير سورية، ورسم مستقبلها.
وفي العودة إلى أسباب بدء هذه الحرب، لا يوجد ما يستوجب نشوبها، فلا عدوَّ هدَّد الديار، ولا شعباً منع جيشاً قام إلى استرداد حقوق وطنه المضيَّعة، فتطلَّب قتله، أو سجنه، أو تهجيره، فكل ما جرى أنَّ الشعب طالب بجزءٍ من حرية تستقيم معها حياته.
كلَّ الجيوش تربح وتخسر، وهذا عادي، لكن غير العادي، بل المعيب حقاً، أن يعوِّض الجيش خسائره بانتصاراتٍ، وهمية على شعبه ووطنه. وفي عودة إلى العنوان يتجدّد السؤال: ما فائدة الجيش الذي يلتهم موازنة الدولة، ويكون سوطاً على الشعب؟ بل ما الذي يُرتجى منه في ظل موازين قوى عالمية ليست في صالحه. ولعلَّ مجريات حرب تشرين خير دليل، إضافة إلى أنَّ شراءه الأسلحة ينعش بيوتات السلاح التي من مصالحها إشعال الحروب بين الشعوب (أبرمت روسيا صفقات سلاحٍ بأكثر من خمسة وثلاثين مليار دولار، ناهيكم باحتساب الحرب السورية تدريباً للقوات الروسية، وتجريباً للأسلحة الجديدة كما أعلن الرئيس فلاديمير بوتين). وما يمكن استنتاجه أنَّ التجربة السورية مع الجيش وحكم العسكر لم ينجم عنها إلا تمكين الاستبداد وترسيخ التخلّف. فاستبدال الجيش بشرطة داخلية تحفظ نظام الدولة، وتفتح الطريق أمام نظامٍ ديمقراطي، يساهم في التنمية الشاملة التي هي نصرٌ للمجتمع والإنسان، ووراء كل تقدّم في عالمنا المعاصر.
آخر الخطوات الروسية في معالجة القضية السورية، إعلان المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف، أن مشاورات جارية للتحضير لقمة حول سوريا، تجمع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مع زعيمي تركيا رجب طيب إردوغان وإيران حسن روحاني. وقال بيسكوف إن موعد القمة سيحدد بعد تنسيق جداول أعمال الرؤساء الثلاثة، مضيفاً أنها قد تعقد في بداية سبتمبر (أيلول) المقبل.
وفكرة قمة حول سوريا، فكرة جيدة، وقد تصير فكرة جدية في إيجاد معالجة للقضية السورية، التي امتدت تداعياتها الكارثية طوال نحو ثماني سنوات دون أن تتبلور لها نهاية حاسمة سواء في حل سياسي أو عسكري. بل هي مرشحة للاستمرار وسط تعقيدات وتشابكات متزايدة، تحمل المزيد من المآسي والكوارث، ليس للسوريين فقط، وإنما للمحيطين الإقليمي والدولي، بما تركته من تداعيات على المستويين الداخلي والخارجي.
غير أن المفترض في القمة، التي يمكن أن تعالج القضية السورية، أن تتوفر لها بيئة مناسبة وشروط حل، بيئة تؤكد رغبة المجتمع الدولي في إيجاد حل للقضية، وأن تشترك في القمة القوى الفاعلة والمؤثرة في القضية السورية أو الأهم في هذه القوى، ثم أن تتوفر إرادة سياسية وعملية لتنفيذ ما يتم الاتفاق عليه من خطوات وإجراءات، وأن تراعي مخرجات القمة مصالح الأطراف المختلفة في القضية، والأهم مما سبق كله، أن تراعي القمة عوامل تفجير القضية السورية، والتي جعلت السوريين يطلقون ثورة ضد نظام استبدادي من أجل الحرية والعدالة المساواة، وتفتح الأبواب باتجاه إجراء متغيرات جوهرية في طبيعة النظام القائم في سوريا.
وبالمقارنة بين الفكرة الروسية للقمة الثلاثية المرتقبة حول سوريا، وفكرة قمة قادرة على إيجاد حل للقضية السورية، يمكن القول، إن الفكرة الروسية، لا يمكن أن تؤدي إلى حل سوري، ولا حتى إلى معالجة جدية وعملية لواحدة من موضوعات أساسية في القضية السورية، مثل قضية المعتقلين والمختفين أو قضية إعادة اللاجئين والمهجرين، ولا حتى لقضية تزداد سخونة مثل قضية إدلب، التي تحمل مزيدًا من التداعيات الكارثية في سوريا، إذا قرر النظام وحلفاؤه وبينهم روسيا وإيران الهجوم على إدلب، لإعادتها إلى حظيرة نظام الأسد تحت شعار «مكافحة الإرهاب».
فأطراف القمة المرتقبة، تتشكل من روسيا وإيران الحليفين الرئيسيين لنظام الأسد، وقد حافظا عليه، ومنعا سقوطه مرات ومرات في السنوات الماضية، بل دافعا عن كل جرائمه، وقدما له كل المساعدة في استمرار ارتكابه تلك الجرائم، ويسعيان بكل السبل لحل في سوريا، يحافظ على النظام ورأسه، وإعادة تأهيله في العودة إلى المجتمع الدولي، وهو ما يجعل القمة المقترحة، تخدم هذا السياق.
لقد اختلفت سياسات تركيا في القضية السورية عن السياسات الروسية – الإيرانية، قبل أن يجتمع الأطراف الثلاثة أواخر عام 2016، ويطلقوا إعلان موسكو للحل السوري باعتباره تشاركية ثلاثية الأطراف، وسط تعقيدات أحاطت بالموقف التركي في سوريا لعجزه عن الدخول في مواجهة مع روسيا بعد تدخلها العسكري في سوريا أواخر عام 2015. وحرص أنقرة على عدم إغلاق أبواب العلاقات الثنائية مع إيران، وبعد فشل تركيا في الحصول على دعم ومساندة غربية لموقفها في سوريا، وعزوف حلف شمال الأطلسي عن دعمها كعضو أصيل في الحلف، وصاحب أكبر قوة عددية عسكرية بين أعضائه، وكلها أسباب دفعت تركيا للانخراط في تشاركية مع روسيا وإيران، هدفها حصول تركيا على ما أمكن من مكاسب بأقل الخسائر وسط رمال القضية السورية المتحركة.
وللحق فإنه وبمقدار ما كان الحضور التركي مقوياً للتشاركية الروسية-الإيرانية في سوريا بانضمام تركيا إليها باعتبارها صاحبة أوراق كثيرة، فإن حضورها في التشاركية حد ولو جزئياً من اندفاعات موسكو وطهران، لكنه لم يمنع تواصل مسارهما السياسي والميداني في الواقع السوري من أجل تكريس حل يحقق أهداف تحالفهم مع نظام الأسد، رغم الاعتراضات التركية، التي ظهرت هنا أو هناك، والتي سوف تظهر في القمة الثلاثية المرتقبة.
على أن العلة الأساسية في القمة الثلاثية، لا تكمن فقط في محدودية حضورها، واعتبارها جزءا من «تشاركية واحدة»، تسود الاختلافات الظاهرة والباطنة بين مكوناتها، وإنما أيضا في النتائج التي يمكن أن تخلص إليها القمة في تجسيد رؤية لحل في سوريا، لا يجد له حاملاً سياسيا من أطراف أساسية في الصراع السوري وحول سوريا في المستويات الداخلية والخارجية، حيث يغيب عنها السوريون الرافضون لاستمرار نظام الأسد، ويغيب عنها فاعلون أساسيون إقليميون ودوليون في القضية السورية من العرب والأوروبيين والولايات المتحدة، ودون هؤلاء لا يمكن رسم أي حل في سوريا، وكل هؤلاء يؤكدون ضرورة الحل الدولي وفق مسار جنيف، لا الحل بمحتوى توافق روسي- إيراني حتى لو شاركت فيه تركيا.
تسارع روسيا الى إغلاق ملف الحرب في سورية، وتسعى إلى إيصال رسالة الى كل الأطراف الإقليمية والدولية أن الحرب انتهت، ليس مهماً كيف، المهم أن في سورية دولة وحكومة شرعية وعلى الآخرين قبول هذا الأمر تماماً كما تقبل المجموعة الدولية أي حكومة وطنية في العالم وصلت إلى السلطة من طريق الانتخابات، فليس من حق أي طرف وضع اشتراطات سياسية وتحديد كيف يكون أداء السلطات الوطنية، ما دامت القضية مرتبطة بالسيادة الداخلية، وما دامت حكومة هذه الدولة لا تمارس أعمالاً غير قانونية على المستويين الإقليمي والدولي.
بيد أن روسيا تعرف حق المعرفة أن نظام الأسد لا يشبه أي حكومة منتخبة في العالم، بل هو نظام ارتكب مذابح منهجية بحق محكوميه، كما أنه لم يبق نمط من أنماط حروب الإبادة من دون أن يجربه على البيئات التي ثارت عليه، كما أنه ومنذ سنة 2011 وحتى هذا التاريخ، أسقط القانون في شكل نهائي، ولم يلجأ إلى قانون الطوارئ، على رغم قساوة هذا القانون أصلاً، بل حوّل البلاد إلى فوضى رهيبة كان الهدف منها تحفيز عناصر ميليشياته وميليشيات حلفائه على زيادة إنتاجيتهم في القتل والقمع إلى أبعد الحدود، ما دام لا قانون يحاكمهم ولا ضوابط تردعهم، وكل عنصر ميليشياوي يستطيع اتخاذ القرار وفق تقديره ومزاجيتيه.
ويؤشر حجم الدمار الكبير والعدد الهائل للقتلى والمشوّهين الى تلك الحقيقة الصلبة، لكن هذا بدوره يثبت حقيقة تسعى روسيا الى تمريرها، وهي أن هذا النظام الذي أسقط القانون عمداً لسحق المعارضة أسقط في الوقت نفسه أهليته القانونية لحكم البلاد، فالقانون ليس عباءة يتم خلعها متى ما أراد الحاكم، وهذه الحالة لا تستقيم مع مسألة إعادة تأهيله سياسياً، فيما الوضع الطبيعي أن يجري توصيفه كطرف من أطراف الصراع، التي يجب أن تحاكم على ارتكاباتها في الحرب، ولا يحق له تالياً احتكار المجال السياسي وادعاءه تمثيل الشعب ولا حتى غالبيته، ولا تحويل إجراءات الاستسلام، التي حصلت على أيدي أطراف خارجية، إلى وثائق تسويات نهائية وإعادة تأهيل نظام الأسد حاكماً على الجغرافية والديموغرافية السوريتين.
تدرك روسيا كامل المشهد وجميع التفاصيل التي شكلته، فقد عملت على صياغة الجزء الأكبر من هذا المشهد وتركيبه، وهي شريك قاتل للأسد في جميع الأرجاء السورية، وتعرف أن ملف الأسد مثقل بعشرات، إن لم يكن بمئات القرارات من المنظمات الدولية وغير الحكومية، وبالتالي فهي تواجه مهاماً تكاد تكون مستحيلة على صعيد إعادة تأهيل الأسد دولياً، بخاصة أن الأمر وصل إلى حد اندماج تلك القرارات في القوانين الوطنية والإقليمية للكثير من الدول، ولم يعد حكراً على المنظمات، ما يجعل من صعوبة تمرير تأهيل الأسد تبدو كأنها لعبة حاوي تمارسها الديبلوماسية الروسية وهي تعرف أن الجمهور المتلقي يعرف أن الأرانب التي يخرجها لافروف من كمه ليست حقيقية.
تدفع هذه الحقيقة المربكة روسيا إلى اجتراح تكتيكات وأساليب تحاول من خلالها اختراق هذا الجدار الدولي بوجه تأهيل نظام الأسد، ثم تفكيكه في مرحلة لاحقة، وتراهن على أن العالم الذي تعب من الأزمة السورية لديه استعداد كبير للتغاضي عن تفاصيل كثيرة حصلت في الحرب السورية، وبالتالي فإن هذا العالم تنقصه فقط المحفزات ليتجاوز العقبات التي تم وضعها في لحظة « ملتبسة»، وأن استمرار روسيا في الإلحاح على هذا الطلب وعدم التراجع عنه سيأتي بنتائج جيدة، فكما تراجعت القوى الدولية عن هدف إسقاط النظام، وكذلك سمحت له بإعادة سيطرته على أجزاء واسعة من سورية متغاضية عن أساليبه الرهيبة، فلا بد أنها ستقبل في النهاية تأهيل الأسد.
إضافة الى ذلك، تراهن روسيا على أسلوب قضم المواقف الدولية بهذا الخصوص، وقد جربت بنجاح هذا الأسلوب عسكرياً حيث قضمت مناطق المعارضة قطعة تلو أخرى حتى أخرجتها نهائياً من اللعبة، ويبدو أن روسيا، المبهورة بنتائج هذا الأسلوب، تعمل على ترحيله للمجال الديبلوماسي في مشروعها إعادة تأهيل الأسد، والواضح أنها تبدأ من الخواصر الرخوة للبيئة الدولية وتضغط عليها بكثافة لتحقيق هذه الغاية، مثل الدول الإقليمية، لبنان والأردن وتركيا، التي لديها مشاكل معقدة على صعيد مسألة اللاجئين السوريين، وتبدأ روسيا كذلك من قضايا ليست لها علاقة بالسياسة، بل في الغالب قضايا تقنية واقتصادية وإدارية، مثل فتح المعابر الحدودية حيث يستفيد الجميع من التجارة الخارجية والبينية، وكذلك إعادة اللاجئين إلى مناطقهم في سورية، وتخليص بلدان الإقليم التي تعاني من ضغوط على الخدمات والموارد، ما يتسبب بأزمات داخلية في هذه البلدان.
وضمن هذا التكتيك، تسعى روسيا إلى زعزعة الموقف الغربي وإضعافه، من خلال تحقيق اختراقات في مواقف بعض دوله، ولا بأس إن حصل ذلك تحت عناوين غير سياسية، مثل استمالة فرنسا إلى تقديم مساعدات إنسانية، أو النقاش مع ألمانيا حول أفكار معينة بخصوص عودة اللاجئين، ثم يتطوّر الأمر إلى أن مثل هذه الإجراءات تستدعي فتح قنوات تنسيق وتواصل مع نظام الأسد، لأغراض تقنية بحتة ومن أجل إدارة هذه العمليات، وذلك يستدعي بالطبع إعادة تشغيل أجزاء من سفارات هذه الدول، بمستوى أقل من سفير، قائم بالأعمال مثلاً أو قنصل، للإشراف على تنفيذ عملية إعادة بعض اللاجئين، وتبادل المعلومات في شأن بعضهم وهكذا. ولتدعيم هذا التوجه، تصر روسيا على أنه لا يوجد محتوى قانوني، ضمن حزمة الادعاءات على نظام الأسد، يمنع إعادة تأهيل النظام، فما دام مجلس الأمن لم يصدر قراراً واحداً، او بالأحرى لم تسمح روسيا بتمرير قرار واحد يثبت ارتكاب الأسد جرائم الحرب، وما دام مجلس الأمن هو المرجعية القانونية والسياسية الأعلى بين المنظمات الدولية، فكل ما عداه ليست له قيمة.
غير أن أخطر تكتيك تقوم به روسيا، هو تحريف رواية الحرب نفسها، وفي الوثائق التي قدمتها لدول الجوار كـأفكار للنقاش معها حول إعادة اللاجئين، مرّرت روسيا شرطاً غريباً، وهو ضرورة تقديم المعارضة السورية ضمانات بعدم تهديد حياة اللاجئين العائدين، فالواضح أن روسيا تريد تثبيت فكرة أن المعارضة هي السبب في تهجير السوريين، ثم أين هي المعارضة في حمص ودرعا والغوطة حتى يمكنها القيام بذلك؟
لا شك أن روسيا ستعمل بكل طاقتها من أجل إعادة تأهيل نظام الأسد، وستسعى إلى تفكيك مواقف الدول والأطراف بمختلف الطرق والوسائل، لكن في المقابل، يوجد موقف لا يزال صلباً حتى اللحظة، ولا يبدو أنه قابل للتطويع في المدى المنظور، ولأن روسيا مستعجلة في قطف ثمار تدخلها في سورية، فقد يستدعي الأمر بحثها عن بدائل لخطة تأهيل الأسد، وهنا مكمن رهان الغرب على التشبث بمواقفه.
يعيش إقليمنا على وقع أزمتين اقتصاديتين هائلتين، في إيران وفي تركيا، ولكل من الدولتين المأزومتين حضور كبير في المأساة السورية. هذه المعادلة تفرض بدورها تساؤلاً عن ارتدادات انهيار الاقتصادين على حضور كل من طهران وأنقرة في الحدث السوري، ومدى تأثر دورهما في هذه اللحظة السورية التي تشهد تحولات بدأت تظهر ملامحها الميدانية!
ليس في سورية من يمكن أن يستثمر في وهن أصاب نفوذ كل من إيران وتركيا. لا قوى سورية يمكنها أن تطمح إلى ذلك. النظام الذي يتراءى لنا أنه في صدد إعادة التقاط أنفاسه لا يمكنه فعل ذلك، وما يجري اليوم هو إعادة تموضع جناحيه الدوليين حول خريطة نفوذه المستجدة. موسكو تتقدم على حساب طهران. المعادلة نفسها تصح، وعلى نحو أوضح في حالة المعارضة، والمعادلة هنا هي أن موسكو تتقدم على حساب أنقرة.
لكن ثمة لاعباً آخر بدأت الوقائع تكشف عن تقدمه جراء مؤشرات تأزم كل من أنقرة وطهران، وهذا الأخير ستكون حصته محفوظة في جمهورية الأسد الثانية. إنه تل أبيب التي جرى تثبيت الوضع في جنوب سورية وفق رغباتها، وتولت موسكو المهمة بصمت لكن بمثابرة. والآن صار بإمكاننا معرفة سر الدفء الذي يسود العلاقة بين بنيامين نتانياهو وفلاديمير بوتين، ذاك أن المرء وكلما لاحا له في لقاءاتهما الكثيرة، مبتسمين ومطمئنين، شعر أنه أمام لغز ليس بيده ما يساعده على تفسيره.
لكن للمشهد في ظل تداعي اقتصادي الحرب السورية، أي الاقتصاد الإيراني والاقتصاد التركي، بعداً غرائبياً. فواشنطن هي من يتولى نحر الاقتصادين وموسكو هي من يستثمر. ما جرى في جنوب سورية وما يبدو أنه سيجري في شمالها، سيكون جزءاً من خريطة يتولى الضباط الروس رسمها. الشرطة الروسية هي الضمانة في الجنوب لكل من إسرائيل وعمان وضمانة للسكان أيضاً، ويبدو أن ثمة سيناريو موازياً يُعد للمناطق الكردية، تكون فيه موسكو ضامناً لأكراد سورية، وقناة لتصريف توتر أنقرة من طموحاتهم بإقليم وبفيدرالية على حدودها الطويلة مع سورية.
الأرجح أن موسكو تعد العدة لدور في الإدارة المحلية تلعبه «وحدات حماية الشعب» الكردية في شمال سورية، سيكون موازياً وربما فاق قليلاً دور «الشرطة المحلية» في جنوب سورية. وما الزيارة الثانية التي قامت بها قيادة هذه الوحدات إلى دمشق إلا جزء من عملية تحضير لهذا السيناريو.
لكن علينا الآن أن نبدأ رصد الحدث السوري انطلاقاً من الاحتمالات التي تمليها أزمتا طهران وأنقرة وتداعي اقتصادهما. فالانهيار ما زال في مراحله الأولى، ونتائج انخفاض قيمتي التومان الإيراني والليرة التركية لم تصل بعد إلى العمق السوري. قدرة أنقرة على رعاية ثلاثة ملايين لاجئ سوري وتوظيفهم في حضورها في تلك الحرب ستتراجع، وتمويل طهران الميليشيات الشيعية المقاتلة في سورية بدأ ينضب. قد لا يعني هذا تراجعاً لفرص استمرار الحرب، لكنه يعني من دون شك تغيراً في معادلات النفوذ في سورية على المستويين الميداني والسياسي على حدٍ سواء.
كان من الصعب على طهران أن تقبل بهذا الانكفاء «الناعم» عن الحدود مع إسرائيل هي التي شقت الطريق إلى هناك عبر الكثير من الدماء والحروب الأهلية والمذهبية، لولا شعورها بصعوبة خوض حربين في الوقت نفسه، الأولى عسكرية مع تل أبيب في سورية، والثانية اقتصادية مع واشنطن في إيران. والأرجح أن يصيب أنقرة في شمال سورية ما أصاب طهران في جنوبها. على أن موسكو تعرف في الحالين أن هزيمة أنقرة وطهران يجب أن لا تكون نهائية، وأن المنتصر يجب أن لا يكون سورياً.
في جنوب سورية تحول ما تبقى من فصائل معارضة إلى شرطة محلية لا يضير النظام وجودها، ومن المرجح أن يكون هذا مصير الوحدات الكردية في الشمال. أما النظام «المنتصر» فسيكون بدوره شبه «شرطة محلية» تدير مناطق «سورية المفيدة»، مع معدل قسوة تدرك موسكو أنها «ضرورية» لكي يحمي النظام نفسه من محكوميه.
وجوهٌ وأسماء وأرواحٌ وأشلاء تغمرها الوقائع الإخبارية والمقاطع النمطية والإحصاءات العددية، حتى يطغى التناول الوقائعي والكمِّي على مآسي الشعوب، فيطمس الإحساسَ بضحاياها ويواري تفاصيلها المذهلة. ستبقى المحنة السورية، بأبعادها القياسية المتخِّضمة، وبنزيفها الدافق ودمارها الفائق، جرحاً غائراً في وعي يَقِظ، وستحمل الأجيالُ ذاكرةً تتزاحم فيها الوجوه وتتراكم معها التفاصيل، التي تستحقّ كلُّ منها وقفاتٍ ونظرات تنتشلها من فتور الحسّ وانكفاء الضمائر. ومن تفاصيل المأساة أطفالٌ انطلقت بهم زوارق التهريب دون ذويهم، حتى رَسَوْا في بيوت أوروبية بانتظار التئامٍ قد لا يأتي، وجدّاتٌ هلكن في غابات البلقان مع مسنّين تجمّدت أطرافهم في صقيع لا يحابي العالقين عند الحدود.
وفي المحنة السورية، كما شقيقاتها اليمنية والعراقية والليبية والأفغانية وغيرها، رسائل بليغة تبعث بها أشلاءٌ متناثرة إلى كل ضمير، فكيف إن كانت القطعةُ الشاخصةُ للناظرين قدَماً فريدة؛ هي كل ما تبقّى من صبيّ سحقه برميل متفجِّر؟ إنها "قدمٌ بطعم الموت، تمرِّغ أنفَ عالمنا، بكل أصناف الهوان، قدمٌ تضاهي هامةَ الدنيا التي ظلّت تنام، قدمٌ ذبيحة، أو رايةٌ رُفعت.. فوق الرُّكام". وقد جاوزت المأساة السورية حدود الجغرافيا حتى تحرّكت شواهدها عبر أقاليم العالم، فكانت هذه المعايشات الوجدانية المغموسة بالآلام المتزاحمة عبر منافٍ نتقاسمها.
صعدتُ القطارَ الألماني المتطوّر من فيينا قاصداً ميونيخ، فخالجتُ بمتاعي الخفيف جموعَ اللاجئين الذين تقطّعت بهم السبل في بحثهم عن مستقرّ ومستودع فوق رقاع الجغرافيا. اختطفَنا القطارُ سريعاً، منطلقاً بمحاذاة الدانوب صوب منبعه، فتلازَمَت في صفوف الجالسين ملابسُ أنيقة كالتي أحظى بها على استحياء، وهيئاتٌ رثّة توزّعت على المقاعد، وها نحن نتشاطر جميعاً حصتنا من مخزون الهواء ورشفة الماء ومساحة البصر وضجيج السفر.
ما إن بلغ القطارُ بنا تخومَ ألمانيا، التي تقف على رأسها امرأة يُقال لها أنجيلا، وهو اسم ملائكي لمن برزت من يومها في هيئة الأم الرؤوم؛ حتى عاجَلَنا بالمكوث في مدينة باسّاو، المحاذية للنمسا التي جاوزناها. صعدت قوات الشرطة إلى عرباته، ولا يفوتك أن تلحظ بَسْطَتها في الأجسام واقتصادها في الابتسامة واستجماعها السلاح والعتاد، كنايةً عن الجاهزية للمواقف جميعاً.
فحص المسلّحون الوثائقَ والأوراق بتمعّن، وأمروا اللاجئين واحداً واحداً بالنزول من القطار فوراً. كانوا لطفاء وهم يصدرون الأوامر الصارمة التي تحطّمت معها أحلام وتبخّرت بأثرها آمال، وتبدّد إذعاناً لها مزيدٌ من المال، فمن المرجح أنّ بؤساء العصر من أشقائنا وشقيقاتنا قد اشتروا تذاكر قطارهم رجاءَ أن يبلغ بهم محطته الأخيرة في هامبورغ القاصية، وبات عليهم الآن أن يقبعوا هنا للنظر في تصريفهم إلى وجهاتٍ مبعثرة أو أن يُقذَف بهم وراء الحدود.
مضى الشبان والشابات والأمهات والأطفال وكبار السنّ والمرضى في مسير طويل، لا تنقصه سوى موسيقى جنائزية، مَضَوْا منصاعين لمصائر غير معلومة تُدبَّر لهم. إنه المسير الذي سيذكرونه محفوراً في وعي أجيالهم القادمة، التي لا يُعلَم أين ستنشأ، وكدتُ أهتف بهم من أعماقي: لا تجزَعوا! فأنا شقيقكم في المِحنة وإن سبقتكم إليها قرناً من زمن، وما زلتُ أرتحل عبر العوالم وروحي تطوف هناك.. في يافا.
كانوا رفاق الرحلة المغموسة بالآلام، وافترقوا عنّا هنا في باسّاو، ومن ورائهم آلافٌ مؤلفةٌ ممن ينتظرون قطاراتٍ متلاحقة كي تحملهم إلى المصائر ذاتها. ما إن تُنصت لحديثهم في محطات فيينا أو ما قبلها حتى تتسلّل إلى مسامعك وفرةٌ من أسماء البلدان والمدن والقرى والجزُر التي اجتازوها ناجين من التهلكة التي ألمّت ببعض رفاقهم. ليس بوسعك بعد هذا أن تحلم بقضاء عطلة ممتعة في جزيرة يونانية أو غابة بلقانية أو حاضرة مجرية، وقد صارت جميعاً محطات في خرائط المأساة.
لا تنقطع حكاياتهم عن جشع المهربين الذين تجرّدوا من الإنسانية، والألوف المؤلفة من اليورو التي دفعوا بها إلى سماسرة الأرواح في رحلة لم تنته بعد؛ وإن آلت ببعضهم إلى جوف البحر أو نعوش لم يودِّعها أحد. ثم إنهم يحملون متاعهم الخفيف ويركبون المخاطر التي لا تتيح لأحدهم أن يمسّ الماءُ رأسه أياماً وأسابيع، حتى يتسلل إلى أنفك أثرُ شقائهم من بعيد.
لن تنسى في مخالجتك هذه المأساة الشاخصة للناظرين؛ وجهَ طفل أو ضفيرة طفلة، إذ يُحمَل الصغار إلى عوالم لا يعرفونها ولا تعرفهم، ليُغرَسوا رغماً عنهم في أرضٍ جديدة لا تتحدّث بلسانهم ولا يشبهون أهلها سوى بالتماثل في العينين واللسان والشفتين، والقلوب التي في الصدور .. إذ تلمس أوجاع البشر أو تعمى عنها.
وَحدَهُ هنا
يدسّ كفّه في جيبه، أو تتوارى كفّاه معاً في جانبيْ سرواله، وهو من قماش الجينز غالباً. يرتدي قبّعةّ تحمل علامة شهيرة وإن كانت مقلّدة، قبّعة مخصصة لأولئك المتحفِّزين الذين لا يبدو مثلهم. يمضي وحيداً وعيناه حائرتان، وقد تخفيهما نظّارةٌ معتمة، أو يقف مستنداً إلى جدار، منتظراً من قد لا يأتيه. وَحدَهُ هنا من يبدو كذلك، وكأنه قادمٌ من وراء الجبل، أو جيء به من عالمٍ آخر.
لا تتسلّل البسمةُ إلى صفحةِ وجهه الأسمر، بتضاريسها القاسية، وإن سَمِعتَ له قهقهةً يتيمةً بمعيّة هاتفه؛ المحمولِ بيَدٍ تُنبئ بمشاقّ خاضتها ومسيرة إنهاك اجتازتها؛ أو لا تزال فيها عالقة. وهاتفه هذا هو رفيقه حيثما حلّ، أو نافذته التي ينسلّ عبرها من ديارٍ لم تفتح له قلبها، ليرتحل مع جهازه المحمول بوجدانه إلى حيث كان، في ريف دمشق أو إدلب أو حلب.
ولا تفارق الدُّمى ابتسامتَها
دُمى باسمة، يحملها طفل في مثل قامتها. دمى ملوّنة يحتضنها بوجهه الشاحب، بوجهه المستدير المجرّد من الانفعالات. يطوف بها، وقد انتصف الليل المطير، على بقايا الجالسين في مطاعم المدينة، التي لم يجرِّب ملاعبها وملاهيها. ليس طفلاً هذا ابن الثامنة أو التاسعة، فقد شقّت الحياة مسالكها في كفّيْه وتخلّلت أدرانُها أظفارَه، منذ أن قذفت به الحرب من قريته إلى أزقة اسطنبول، حيث يطوفها كل يوم وليلة، طلباً لفتات المال من العابرين.
يعمل الطفل لصالح أبيه الذي فرِّق أولاده في أرجاء المدينة التي لا تعبأ بوجوه قاطنيها، ليرجِعوا إليه في الهزيع الأخير من الليل حاملين قطعاً معدنية هي مزيج من الأثمان والصدقة، استعداداً لانطلاقهم في الدروب ذاتها في يوم جديد، سيكون كسابقه ولاحقه. يشتغل الصبيّ في تصريف دمى بهيجة يقترضها الأب من تاجر جَشِع، هو ابن ريفهم المهجّر، على أن يقع السداد بعد البيع.
وفي انتصاف الليل يتحسّب الصغير من جشع التاجر المُوَرِّد، الذي يظهر له فجأة خلال جولته التفقدية لمطاردة الصغار الذين يتقاسمون الأزقّة، فيسلِّط ضغوطه عليهم لتحصيل المعلوم. يترجّل الجَشَعُ على ساقيْن، ينفلت لسانه الفاحش بأقسى النعوت المُستلّة من قعر الشتائم النابية، تنهال السياط اللفظية على حامل الدمى الباسمة: "قل لأبيك أيها الوغد.. قل لأبيك.. إن لم يدفع.. سأفتك به.. سأجعله قطعاً من لحم، أتفهَم؟!". لا تشفع للصغير الذي يحتضن الدمي كلّ اعتذارياته المعهودة ولا أقسامه المغلّظة بأنه لا يحمل قطعة نقد واحدة: "ليس معي ليرة واحدة، صدِّقني!".
تشتدّ لغة الوعيد الذي تتردّد أصداؤه الهادرة في الأزقة التي تغفو بعد سهر مديد، فتنطلق التهديدات بأنه لن يتوانى عن سحق والده إن لم يدفع دون مماطلة، سيُمعن في إذلاله، سيعتدي عليه، ويفعل به الأفاعيل! رسائل مدججة بالقسوة والفُحش، ينبغي على الطفل أن يحملها لوالده، الذي يرتقبه في حجرة تتقلّب بعذابات قاطنيها. هي رسائل يسمعها الصبي كل ليلة أو ليليتين دون أن تستدعي سطوتُها رمشةً من أجفانه الصغيرة، وهي رسائل لا تنتفض لها دمى ملوّنة، فتواصل ابتسامتها كلّ ليلة، لأنه يحملها إلى عالم بهيج ليس مخصصاً له.
تبلّد الإحساس بالضحايا
شكا صاحبنا: ما لي أراني فقدتُ الشعور بالصدمة والحزن والتأثر حين سقوط أحدهم ضحية في صراع مديد؟ فأجبته: إنما أنت بَشَر - عزيزنا - وما ذكرتَ هو من سماتهم، فإنهم إن اعتادوا أمراً بتكراره لم تنتفض له أبدانهم وإن احتوى الفظائع. والناس إذ تخالج الصدمات المتلاحقة تستهينُ بأمرها مع الوقت، فيتبلّد منها الإحساس بها، وقد تستوقفها حالاتٌ دون الفواجع فتنشغل بها وتأسى لها على نحو لم تحظَ به ما فاقتها من فواجع.
وقد ذكرتَ في طيِّ شكواك أنّك ما عُدتَ تشعر بصدمة أو حزن أو تأثّر عند سقوط أحدهم، وهذا بَيِّنُ العلّة، فَإنَّك إن عددتَهُ "أحدَهم" جُعِل في وعيِك وحدةً عددية لا وجه لها ولا اسماً، فهو كسابقيه ولاحقيه، تغمره الجمهرة الذبيحة التي يتضاءل إزاءها. والحلّ أن تترفّق مع نفسك ولا تجلدها بأرَقِ الاتهامِ بالتبلّد والفتور، ولعلها نعمة أنعم الله بها عليك كي تقرّ عينُكَ ولا تَحزَن، وهذا أدعى للتصرّف على بصيرة بما يُنصِف الراحلين في دنيا فارقوها.
وإن طلبتَ الإحساسَ بما يستأهلُ الانفعالَ به؛ فارجِع البصرَ كرّتين إلى كل ضحية يُرى منها الوجهُ والعينان، واعقِد من سماتِ المشابهة فيها مع من تحبّ - حفظهم الله - وأطلِق العنان لشعورٍ دافق يُخالج وجدانك، ولا تأخذ بنفسك كلّ مأخذ بل افزَع إلى التصرّف الذي يبني ويزرع.. ويقيكَ آفة العجز المتأتية من إحساسٍ قاهر بغلبة الواقع على قواك. واستعن بالله ولا تعجز.
ما يريده الروس من تطميناتهم المتواصلة للأمريكيين، بإبعاد الإيرانيين من سوريا، هو في الحقيقة محاولة لمواصلة الاستفراد بالساحة السورية، بعيدا عن الأمريكيين مقابل تطمين واشنطن، بأن موسكو تراعي مخاوفها و»سنعمل على تبديدها، ولكن إبقوا بعيدين».
بلا شك تدرك واشنطن أن روسيا تراوغ، لكن الحفاظ على شعرة معاوية مع بوتين، في بلد يتقلص نفوذ واشنطن فيه يوما بعد يوم، ليس بالفكرة السيئة، خصوصا أن الولايات المتحدة الأمريكية مارست هذه السياسة نفسها في العراق سابقا، بقبولها ومجاراتها لهيمنة إيران المتغلغلة شعبيا وسياسيا، فلم يكن حينها أمام المسؤولين الأمريكيين من خيارات عديدة، وجيشهم يتعرض لحرب من قبل فصائل التمرد السني، كما أوضح الحاكم الأمريكي بول بريمر، لاحقا في مذكراته، لذلك إن كانت أمريكا عجزت عن منع نفوذ ايران في بلد كانت تتمتع فيه بسيطرة كبيرة، وبوجود قوتها العسكرية كالعراق، فكيف يمكن لها منع هذا النفوذ في سوريا، حيث لا تجد موطئ قدم إلا شمالا، وهي في طريقها للانسحاب أيضا؟ وكيف تطلب من الروس ما عجزت عنه الولايات المتحدة في العراق قبل ذلك؟ قراءة تقرير بيكر هاملتون الذي تحدث فيه الأمريكييون عن أخطاء سياساتهم في العراق، قد يعطينا جزءا من الإجابة في سوريا. من الواضح أن الهدف الروسي المتمثل باستعادة نفوذ الاتحاد السوفييتي خلال حقبة الحرب الباردة مع الولايات المتحدة، يتحقق شيئا فشيئا، وسوريا أحد أهم مراحله، لكنه يتحقق الآن بوتيرة متصاعدة في الشرق الاوسط، من دون مقاومة كبيرة من الولايات المتحدة، بسبب تراجع القوة الأمريكية الملحوظ يوما بعد يوم في المنطقة، فهم يتجهون لتحقيق ما قاله برنارد لويس عن ضرورة البحث عن «خروج مشرف» من المنطقة إذا واصلت واشنطن إخفاقاتها.
الساسة الأمريكيون يعرفون أيضا ان موسكو تخادعهم وتبيعهم بضاعة هي لا تملكها أولا، وهي مجرد تحصيل حاصل في سوريا الأسدية ثانيا، فمن ناحية النقطة الاولى، تحدث كثير من المسؤولين الأمريكيين والسفراء السابقين في عدة مقالات في الأشهر الماضية، ولم تلق رواجا لدى القراء العرب، المقبلون كالعادة على انتقائية تناسب رغبويتهم، تحدثوا بشكل صريح عن أن روسيا لا تملك قدرة أو هيمنة على القرار الإيراني في سوريا، وأن دور موسكو هو شراكة مكملة وليس مهيمنة. وناقش محللون آخرون تفاصيل ذلك في مفاصل الدولة السورية عسكريا وأمنيا، لذلك لا تملك روسيا هذا الترف السلطوي لتعد الامريكيين بما لا تملك. أما النقطة الثانية، فهي أكثر مفارقة، فالخروج المادي لبعض المستشارين الإيرانيين في سوريا والميليشيات الموالية لهم، هو اصلا تحصيل حاصل بعد إنجاز مهمتهم التي دخلوا لأجلها، وهي استعادة مناطق المعارضة وتثبيت حكم الاسد، فلا وجود عسكري رسمي ايراني، إلا من خلال ضباط يقودون غرف عمليات عسكرية وأمنية، وميليشيات شيعية معظم افرادها ليسوا إيرانيين، مرتبطة بالحرس الثوري الإيراني، كل هؤلاء لن تكون حاجة لوجودهم بعد استعادة أدلب المفترضة نهاية العام الجاري، لكن النفوذ الإيراني الاكبر سيبقى في سوريا، وهو بشار الأسد، فما دام الاسد باقيا في دمشق فإن ايران باقية وبقوة في سوريا، فهو حليف طهران الذي قاتلت لسنوات من أجله، ودفعت بكل حلفائها لمؤازرته من العراق ولبنان، وهو ثمرة تماسك التحالف الايراني الشيعي الأقلوي في المشرق، وعلينا أن لا ننسى أن سوريا اصبحت اكثر قوة في لبنان بعد خروج جيشها، وليس خلال تواجد قواتها هناك، من خلال تنامي قوة حزب الله في لبنان، وكذلك إيران هي اكثر قوة في لبنان، من دون أن يكون لديها جندي ايراني واحد، لذلك فإن الحديث عن خروج لقوات أو شخصيات عسكرية نظامية ايرانية من بلدان كسوريا ولبنان، لا قيمة له في منطقة لا تعترف بالمقاييس التقليدية، حيث تحول مفاتيح الجنة على صدور الملايين من أتباع آيات الله في العراق ولبنان وشرق السعودية والبحرين واليمن، تحولهم إلى جنود مجندة لإيران غير مسجلين رسميا في القوات الإيرانية.
على الرغم من المشهد المأساوي الذي وصلت إليه الأزمة السورية بعد سبع سنوات من الثورة، ما يزال النظام والمعارضة ينظران إلى تطورات المشهد السوري من منظار الفوز والهزيمة: النظام يعتقد أنه انتصر ومنع المعارضين والإرهابين من السيطرة على الدولة، وأنه يحظى برضى دولي وإن لم يظهر ذلك على المستوى الرسمي، في حين تعتقد المعارضة الرسمية والشعبية أن المجتمع الدولي غدر بالثورة المسلحة، لكنه لن يتخلى عن الثورة السياسية ومطالبها وإن بدا متراخيا على المستوى الرسمي حيال هذه المطالب.
هذه الرؤية هي التي تجعل كلا الطرفين يرفضان أنصاف الحلول، ويتمسكان بمواقفهما الحدية، ولم يدركا أن مطالب كل واحد منهما لن تتحقق كاملة، وإنما سيتم تحقيق جزءا منها: المعارضة تتعامل مع الثورة السورية من منطلق قيمي أخلاقي، فتطلق أحكاما وجوبية ـ معيارية وفق ما ينبغي أن يكون، أما النظام فينطلق من واقعية مفرطة خالية من أي محتوى أخلاقي، فيطلق أحكاما وجودية وفق ما هو قائم بناء على موازين القوى، مفتقدا في قاموسه فكرة الحقوق والعدالة وسيادة القانون.
منذ بداية عام 2013 إلى نهاية عام 2015 كانت الساحة العسكرية تموج بالتقلبات المتناقضة، فثمة أشهر تظهر فيها غلبة المعارضة، ثم لا يلبث أن يحدث العكس فيقوى النظام وتضعف الفصائل المسلحة، إلى أن يحدث العكس مرة ثانية، وظل هذا الوضع على ما هو عليه إلى أن حدث التدخل العسكري الروسي بتفاهم أو برضى أمريكي في سبتمبر/ أيلول 2015.
بدا منذ ذلك الحين، أن ثمة حقائق واضحة لم تنتبه لها المعارضة، أو أنها انتبهت إليها ولكن زمام الأمر فلت من يدها وأصبح بيد الدول الخارجية: أولى هذه الحقائق أنه لن يسمح بإسقاط النظام عسكريا على غرار ما جرى في ليبيا، وثاني الحقائق أن المعارك بين الطرفين يجب أن تستمر إلى مرحلة تصبح فيها البلاد مدمرة عن بكرة أبيها، وأن سوريا ذات الثقل الاستراتيجي لن تكون موجودة على الخارطة الإقليمية، وثالث الحقائق أن الولايات المتحدة غضت الطرف عن التثوير الطائفي والقومي المسلح، فسمحت للتيار السني الجهادي والسلفي بالامتداد داخل سوريا، في وقت غضت الطرف عن تمدد التيار الشيعي بكل حمولاته العسكرية والأيديولوجية.
تمت تغذية النزعات القومية والطائفية بين أطياف المجتمع السوري، ومورست سياسات أمريكية ساهمت بنشوء وعي سني سياسي/ عسكري زائف ومخالف للواقع، وبنشوء فورة قومية لدى الأكراد مخالفة أيضا لمقتضيات الجغرافية المحلية والإقليمية.
إن انتقال الولايات المتحدة من مرحلة توازن الصراع بين الطرفين السوريين، إلى مرحلة تغليب طرف على طرف عسكريا، لم يكن بسبب قناعات سياسية بهذا الطرف (النظام)، وإنما لأن الأمور وصلت إلى حد لم يعد يُسمح الاستمرار به، فالمطلوب تفتيت الدولة السورية ونشوء شبه كيانات فيها، ولكن ضمن إطار الوحدة الجغرافية السورية.
وأية محاولة لدفع سايكس بيكو جديد إلى الأمام سيؤدي إلى ارتدادات عكسية، ذلك أن سايكس بيكو الحالي حقق دوره في تفتيت الدول العربية من دون أن يحدث انفجارات طائفية أو قومية أو إثنية، في حين أن أية محاولة جديدة للتقسيم ستؤدي إلى انفجار طائفي ـ قومي غير مقبول دوليا، ومن هنا كان لا بد من انتصار النظام عسكريا، من دون أن تكون لديه القدرة على الاستحواذ بالجغرافية السورية على الأقل في هذه المرحلة، كما لن يكون مسموحا له الاستحواذ على مقدرات البلاد الاقتصادية، بحيث يبقى في عجز وأزمة اقتصادية.
ليس هدف الولايات المتحدة نشر الديمقراطية وتحقيق دولة القانون والعدالة الاجتماعية، ولم تكن تلك القيم هدفا سياسيا أو أيديولوجيا للولايات المتحدة، بقدر ما هي إما أداة للتدخل الخارجي، أو سلطة خطاب موجهة للداخل الأمريكي.
الهدف الأمريكي هو القضاء على مكانة سوريا الإقليمية التي شكلت معبرا جيواستراتيجيا في المنطقة، وبعدما تحقق هذا الهدف لا بد من استمرار سورية ضعيفة، وهذا لا يكون بقيام نظام ديمقراطي يعيد إنتاج الدولة والمجتمع، وإنما باستمرار السلطة الشمولية وفق أشكال جديدة، ولذلك يجب على المعارضة أن تهيئ نفسها لمزيد من التنازلات الأمريكية على المستوى السياسي كما فعلت على المستوى العسكري.