مقالات مقالات رأي بحوث ودراسات كتاب الثورة
٢٤ أغسطس ٢٠١٨
الرجل الذي لم يوقّع

"الرجل الذي لم يوقّع" سلسلة وثائقية تبثّها قناة الميادين، عن حافظ الأسد، وكيف أنه لم يوقع على "اتفاق سلام" مع الدولة الصهيونية، لتهدف إلى إظهار "الوجه الناصع" له. العنوان لافت، حيث أظهر أن حافظ الأسد قد أُدرج في صفوف الممانعة. لكن الأمر يتعلق كذلك بـ "لغز" يخصّ جملة "لم يوقّع" في وضع يظهر فيه أن هناك من سيوقّع. وبالتالي يظهر وكأنه استعادة أيديولوجية لموقفٍ جرى اتخاذه منذ عقود. حيث يظهر واضحاً أن "اتفاق سلام" بات "ممكناً"، بل مفروضاً الآن. وربما يكون ذلك هو الأساس الذي يمكن أن يحقّق استقرار النظام، بعد أن تهالك.

طبعاً سأقول إن حافظ الأسد هو "الرجل الذي لم يوقّع"، لكنه حمى حدود الدولة الصهيونية أكثر من أي رئيس آخر. هذا يعيدنا إلى اتفاق فصل القوات الذي جرى توقيعه سنة 1974 مع الدولة الصهيونية، والذي كان في خطورته أسبق على اتفاق كامب ديفيد. بني على توافقاتٍ تزيل كل تهديد للدولة الصهيونية من جبهة الجولان، فقد ظلت القوات الصهيونية تسيطر على كل المنطقة الجبلية المرتفعة، وبالتالي كانت تتحكّم في كل جنوب سورية حتى دمشق. وفرضت ابتعاد الجيش السوري مسافة كبيرة عن المنطقة المحتلة من الجولان، ومنعت دخول أي سلاح سوى السلاح الخفيف. ومن ثم فرضت وجود قواتٍ دوليةٍ للفصل بين القوات الصهيونية والجيش السوري. وسنلمس كيف أن حافظ الأسد التزم بذلك كله إلى آخر لحظةٍ في حياته، وجدّد بشار الأسد الالتزام به.

هل هذا اتفاق سلام؟ لا بالتأكيد، لكنه اتفاق يضمن "السلام الدائم"، حيث لم يعد مطروحاً من الجانب السوري خوض حربٍ، ولا كانت القوات الموجودة أو طبيعة المساحة التي تفصل بين وجود القوات السورية والجولان، تسمح بتقدّم عسكري سوري. وذلك كله ضمِن للدولة الصهيونية الاستقرار طويل الأمد، وعدم الخشية من نشوب حربٍ على جبهة الجولان، وبالتالي تصرّفت كأنها تعتبر الجولان جزءا من "أرض إسرائيل"، لهذا ضمّته من دون خشية أو تردّد. في المقابل، ضمنت لحافظ الأسد انتفاء احتمالات حربٍ مع الدولة الصهيونية فترة طويلة الأمد كذلك. وهذا ما كان يريده، لكي يضمن سيطرة مطلقة على الدولة السورية. حيث أعاد بناء الجيش والأجهزة الأمنية، ليس انطلاقاً من وجود عدو صهيوني، بل انطلاقاً من كيفية أن تبقى خاضعةً لسلطته، وعاجزةً عن التغيير والانقلاب. وبهذا ضمِن سلطة "إلى الأبد" وراثية. كما ضمن دوراً إقليمياً يتحقّق بالتوافق مع أميركا (كما جرى في لبنان)، ومع الدولة الصهيونية. وذلك كله من دون أن يكون هناك توقيع اتفاقات، ومن دون أن يحتاج إلى ذلك كله. وقد كان يتجنّب ذلك في كل اللحظات التي جرت فيها مفاوضات.

إذن، كان ذلك يريح الدولة الصهيونية، حيث استفردت في كل الجبهات الأخرى، وحقّقت اتفاقات فيها، وأنجزت السيطرة الاستيطانية على معظم الضفة الغربية، من دون خوفٍ من تهديد أمني على جبهة الجولان. هل كان أفضل لها من ذلك؟ لا، لهذا ما زالت متمسّكة باتفاق فصل القوات. أما النظام، فقد فرض سلطته الاستبدادية عقودا خمسة تقريباً، وأنجزت الطبقة المسيطرة عملية نهبها سورية من دون خشيةٍ من "قلاقل". وفي الوقت ذاته، ظل النظام يزاود بأنه لم يوقّع أي اتفاقٍ مع الدولة الصهيونية، على الرغم من أنه وقّع أخطر اتفاق. إذن حافظ الأسد هو الرجل الذي وقّع أخطر اتفاق، وأكثرها حنكةً، وظل متمسكاً بأنه لم يوقّع. لم يوقع على اتفاق سلام رسمي، لكنه وقّع على اتفاقٍ يضمن حماية الدولة الصهيونية بالتأكيد. وظلّ قادراً على المزاودة بلا تردّد.

اقرأ المزيد
٢٤ أغسطس ٢٠١٨
"سورية الديموقراطية" إلى حضن النظام

بذل القيادي الكردي في حزب الاتحاد الديموقراطي، صالح مسلم، جهودا كي يكون من ضمن وفد المعارضة السورية في جولات جنيف  منذ البداية. وحين رفضت المعارضة طلبه، ووقفت ضد رغبته، ذهب أكثر من مرة إلى هناك، ليواكب المفاوضات من خلال الكواليس. وفي أكثر من مرة، حاول الروس  أن يضموه إلى المعارضة، مثلما فرضوا قدري جميل، لكن جواب المعارضة كان دائما بالرفض، وهناك من اعتبر مكانه الطبيعي داخل وفد النظام.

في ذلك الوقت، وتحديدا في اكتوبر/تشرين الأول 2015، تم تأسيس "قوات سورية الديموقراطية"، وعرّفت عن نفسها بأنها "تحالف كردي وعربي وسرياني وأرمني وتركماني، يسعى إلى طرد تنظيم الدولة الإسلامية، وإنشاء سوريا ديمقراطية علمانية"، وبعد فترة قصيرة، تبيّنت "تبعيتها" لحزب الاتحاد الديموقراطي الذي يعتبر الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني التركي، وغلبة العنصر الكردي على بقية المكونات في العدد وسلطة القرار، وكانت القوة العربية الوحيدة من حيث العدد هي "قوات الصناديد" التي يقودها حميدي دهام الجربا من قبيلة شمّر الذي تولى منصبا اعتباريا (الرئاسة المشتركة لمشروع الإدارة الذاتية)، وصدر عنه تصريح لافت في أحد المؤتمرات، يدعو رأس النظام السوري بشار الأسد إلى زيارة الحسكة حتى "يرى ما تم تحقيقه من إنجازات"، وفق تعبيره، مخاطبا إياه بـ"السيد الرئيس".

يبدو أن الجربا استبق الأحداث لعدة سنوات، وربما كان مطّلعا على ما يدور في الخفاء من ترتيبات، بعيدة كل البعد عما جرى في العلن، وتؤكّد كل المؤشرات أن أسرارا كثيرة سوف تتكشف، بعد أن صارت المفاوضات والزيارات تتم بصورة علنية، لوفود "قوات سورية الديموقراطية" إلى دمشق، وجاء الحديث، قبل أيام قليلة، عن إمكان انضمامها للجيش السوري، حسب تصريح لرئيسة الهيئة التنفيذية لـ"مجلس سوريا الديموقراطية"، إلهام أحمد، رجّحت فيه انضمام هذه القوات إلى الجيش السوري النظامي.

وفي الوقت الذي شدّدت مصادر كردية على أن انضمام هذه القوات إلى الجيش النظامي مرهون بالتسوية النهائية، والمفاوضات الجارية بين الطرفين، فإن هذه الخطوة سوف تشكّل سابقةً في حال حصولها، لأنها ستكون القوة الوحيدة التي يقبل جيش النظام السوري انضمامها إليه. وعلى الرغم من أن النظام أجرى، على مدى الأعوام الماضية، مصالحاتٍ كثيرة، فإنه لم يضم أي قوة إلى صفوف الجيش الرسمي، لتصبح جزءا منه، بل استخدم "المتصالحين"، ليقاتلوا رفاقهم القدامى.

يثير التفاهم بين النظام السوري وقوات سورية الديموقراطية (قسد) وجناحها السياسي (مسد) ملاحظات كثيرة، ويطرح أسئلة بشأن مستقبل منطقة الجزيرة السورية التي تشكل أكثر من ثلث مساحة سورية، وتسيطر عليها "قسد"، بدعم مباشر من الولايات المتحدة، تحت لواء محاربة "داعش". ويحيل التفاهم الجديد بين "قسد" والنظام السوري إلى بدايات الثورة السورية، حين سلّم النظام بعض المناطق الحساسة إلى حزب الاتحاد الديموقراطي، خصوصا مواقع النفط في رميلان، ومنذ ذلك الحين لم تحصل بين الطرفين سوى بعض المناوشات.

ولم يكن للتفاهم بين حزب الاتحاد الديموقراطي والنظام أن يسير على نحو تام، لو لم يكن قرار "سوريا الديموقراطية" يأتي من جبال قنديل، مقر قيادة حزب العمال الكردستاني، فليس من السهولة أن يتنازل هذا الحزب عن المكاسب التي حققها على الأرض، وقدّم تضحيات كبيرة من أجلها، لا سيما وأن الدعم الأميركي لا يزال يتدفق، وجديد ذلك تم قبل أيام، وهناك معلومات عن إنشاء مطار عسكري أميركي جديد في منطقة الشدادي.

وليس سرّا أن علاقة قيادة العمال الكردستاني مع إيران على أحسن ما يرام، ومن المرجّح فإن طهران هي التي تولت ترتيب التفاهمات وأشرفت عليها، بما في ذلك مفاوضات "قسد" الجارية للعودة إلى حضن النظام السوري.

اقرأ المزيد
٢٤ أغسطس ٢٠١٨
بعد الجنوب السوري وغزة: لبنان وجائزة من يحمي حدود إسرائيل

لم يحن بعد موعد خروج الحكومة اللبنانية إلى الضوء، العراقيل التي تحول دون تشكيل الحكومة اللبنانية لا تزال هي الأقوى بعد أكثر من مئة يوم على الانتخابات النيابية، ولا تبدو في الأفق مؤشرات على موعد قريب لتشكيلها.

إزاء هذا الواقع الذي تؤكد جهات عربية رسمية استمراره لمدى غير قريب، لا تعود أسبابه فقط إلى عوائق داخلية تقوم على محاولة حزب الله ترجمة ما يعتقده من أن نتائج الانتخابات النيابية قد أفرزت أكثرية نيابية لصالحه ويجب أن تترجم في الحكومة انتقالا إلى السيطرة الأمنية والعسكرية التي حققها على امتداد لبنان، إلى الحكومة عبر شبكة من الحلفاء يجب أن تحظى بتمثيل حاسم لجهة السيطرة على القرارات الحكومية.

المصادر الرسمية العربية التي تراقب المشهد اللبناني من دون أن يكون لها تأثير ولا تدخل في المشهد السياسي اللبناني تعتبر أن التغيير الذي نتج عن الانتخابات النيابية، كان يتركز بالدرجة الأولى على تيار المستقبل الذي تراجع تمثيله إلى الحد الذي استطاع فيه حزب الله بالدرجة الأولى والنظام السوري بدرجة أقل على قضم عدد من مقاعد النواب السنة، ولم يكن هذا فحسب بل فرضت طبيعة قانون الانتخاب من حيث اعتماده النظام النسبي، على تيار المستقبل التحالف مع قوى أو شخصيات طالما كانت تعتبر في صف النظام السوري ولاسيما في منطقتي عكار والبقاع الأوسط، وهذا ما خلص إلى أن تيار المستقبل وجد نفسه بعد الانتخابات النيابية أمام حقيقة وجود عشرة من النواب السنة من أصل سبعة وعشرون هم خارج دائرة تمثيله، بخلاف ما هو حاصل في دائرة حزب الله وحليفه الرئيس نبيه بري اللذين استحوذا بالكامل على التمثيل الشيعي.

تراجع تمثيل تيار المستقبل النيابي الذي لا يعني بالضرورة تراجعا بنفس النسبة ونفوذه السياسي، بل إلى طبيعة قانون الانتخاب الذي نجح حزب الله وحليفه الرئيس ميشال عون بإقراره واعتماده والذي كان معروفا أن هذا القانون لا غايات إصلاحية من ورائه كما جرى الترويج له، بل فرض تغيير في المعادلة النيابية لصالح محور إيران في لبنان بالدرجة الأولى.

‏ورغم التقدم الذي أحدثه تمثيل القوات اللبنانية في تمثيلها النيابي إلى حدود الضعف، فإن ذلك ترافق مع خسارة استراتيجية تمثلت برأي المصادر الرسمية العربية في منع تيار المستقبل والقوات اللبنانية ولأسباب مختلفة أخرى من خوض الانتخابات كحليفين من ضمن تحالف أوسع على المستوى الوطني.

‏وعلى الرغم من أن النتائج الانتخابية قد أفضت إلى نتائج لصالح التحالف الذي يقوده حزب الله فإن واقع الحال يقودنا إلى أن عملية تشكيل الحكومة تكشف عن واقع أن التحالفات ليست على هذه الصورة من التبسيط الذي يقودنا إلى أن اللبنانيين أمام محورين متصارعين داخليا ويتمتعان بدعم خارجي وكل منهما يسعى إلى مشروع في مواجهة الآخر.

‏القراءة السياسية للمشهد اللبناني ومن خارج الاصطفافات، تشير إلى أن لبنان ساحة لتنافس وصراع إقليميين يقومان على أولوية غير لبنانية، ويعكس تراجعُ الدور العربي تراجعا للأولويات اللبنانية في هذا الصراع.

واذا كانت إيران لا تزال هي القوة الأبرز إقليميا في لبنان، فإن أدوارا أخرى لا يمكن تغييبها عند قراءة ما يجري في لبنان، إذ لا يمكن التقليل من شأن الدور القطري الذي يتقاطع مع الدور التركي من جهة ومع الدور الإيراني من جهة ثانية، فقطر التي يحظى دورها برضاء أميركي في لبنان تعمل على تمتين العلاقة مع الرئاسة الأولى من خلال تحول قطر إلى حاضنة أعمال وممول للعديد من المشاريع لمؤسسات وأفراد ينتمون إلى التيار الوطني الحر، كما تلعب قطر دورا في استقطاب وتمويل شخصيات ومؤسسات إنسانية وإعلامية قريبة من حزب الله، في موازاة ذلك يلعب التمويل القطري دورا أساسيا في تنشيط العلاقة التركية مع لبنان من خلال دعم وتنشيط مؤسسات وجمعيات في الوسط السني في مواجهة السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة.

‏كما أن الإدارة الأميركية التي لا تزال تعتمد العقوبات المالية على حزب الله من جهة، وعلى تعزيز التعاون مع الجيش اللبناني من جهة ثانية، تسعى إلى المحافظة على الاستقرار على الحدود الجنوبية، وهو ما نجح حزب الله في توفيره وعدم الإخلال به طيلة سنوات طويلة، فيما تبقى بعض الملفات المتصلة بمتطلبات استخراج الغاز من الحقول البحرية اللبنانية ولا سيما الاتفاق على ترسيم الحدود مع إسرائيل هو الملف الذي يجري إعداده بعيدا عن الأنظار وبإشراف أميركي، وهو ملف يتقاطع مع ملف التجديد لقوات الطوارئ الدولية (اليونيفل) الذي تلوح واشنطن بتعديل صلاحياتها لتصبح أكثر حزما وتشددا حيال السلاح غير الشرعي.

‏يبقى أن الدور العربي الذي تراجع في لبنان أمام التمدد الخارجي الإيراني والتركي فضلا عن الأميركي والإسرائيلي بالواسطة الروسية أولا والأميركية ثانيا، هو أمام اختبار جديد ذلك أن سياسة إدارة الظهر أمام ما يسميه بعض الدبلوماسيين العرب “خذلان لبناني للعرب من خلال الصمت الرسمي عن تدخلات يقوم بها حزب الله في الدول العربية” وكان منها استقبال أمين عام حزب الله وفدا حوثيا في لبنان قبل أيام، فإن الموقف العربي والذي يتخذ بعدا انكفائيا يعكس وجود سياسة ترى في الانكفاء وسيلة لإعادة الاعتبار لدور لبناني مستقل خارج تأثير إيران أو غيرها، لكن الوقائع تقول إن لبنان تكمن أهميته ليس في تأثيره على حدوده الجغرافية وما بينها، بل إن مواجهة المخاطر التي تحيط بالأمن الإقليمي لا بل بالأمن الوطني للسعودية والخليج عموما باتت تتطلب عناية خاصة بلبنان تقوم على استراتيجية واضحة هدفها إعادة ربط لبنان بمحيطه العربي، وهذا يتطلب سياسة تقوم على اعتماد سياسة الاحتواء بدل الانكفاء، وعلى تحصين الخيارات اللبنانية الوطنية وبالتالي العربية، ذلك أن إدارة الظهر ستبقى هي الأخطر من كل ما عداها من سياسات أخرى، علما أن تقييم السياسات التي اعتمدت سابقا لا يمكن أن تفضي إلا إلى خيار أوحد هو الانكفاء.

تراجع الدور العربي في لبنان ستكون مخاطره أشد مما يتوقع الكثيرون ليس على لبنان فحسب بل حتى على مستوى القضية الفلسطينية التي نجحت إيران وتركيا إلى حد بعيد من خلال اتفاق غزة الأخير بين حماس وإسرائيل في إظهار قدرتهما على تمرير رسائل إيجابية لإسرائيل، فيما يحاولان إظهار أن ما يجري على صعيد فلسطين هو صفقة عربية أميركية إسرائيلية، إلى هذا الحد سمح الانكفاء العربي بجعل من يسيطر على الحدود مع إسرائيل في لبنان و”سوريا الأسد” وفي غزة قادرا على عقد اتفاقات سرية مع إسرائيل وفي الوقت نفسه تحميل الدول العربية مسؤولية ما يرتكبه.

لبنان أمام هذه التحولات على الصعيد الاستراتيجي في المنطقة أمام مرحلة مصيرية قد تفضي إلى المزيد من ترسيخ الأدوار غير العربية في المنطقة بما يجعل لبنان جائزة لمن نجح في توفير المصالح الاستراتيجية لإسرائيل وبالتأكيد فإن من يمتلك الأوراق السياسية والأمنية هو القادر على المقايضة.

الحكومة اللبنانية اليوم رهينة تبلور لعبة المقايضة في فصولها الأولى، ويمثل الأمنُ الإسرائيلي أول هذه الفصول، بدأت الترتيبات في الجنوب السوري وانتقلت إلى غزة، فهل يكون لبنان جائزة إسرائيلية لمن وفر لها الضمانات على الأرض؟

اقرأ المزيد
٢٣ أغسطس ٢٠١٨
إنجازات المعارضة السورية رغم التدخلات الخارجية

لعل ما يستدعي الاعتراف بأن المعارضة السورية رغم كل ما تعرضت له من تآمر ومن اختراقات، قد حققت إنجازات فعلية كثيرة وهامة أن الولايات المتحدة ومعها بعض الدول العربية وبالطبع الكثير من دول العالم الفاعلة والمؤثرة قد أكدت أنه لا يمكن البدء بإعمار سوريا ما لم يكن هناك الحل السياسي المنشود، وفقا لـ«جنيف1» والقرار الدولي رقم 2254 وإعداد دستور جديد وإجراء انتخابات رئاسية مبكرة بإشراف الأمم المتحدة.

وهذا كله رغم أن هذا البلد العربي منذ انتزاع استقلاله وتخلصه من الاستعمار الفرنسي الذي هناك إجماع على أنه من أبشع أشكال الاستعمار لم يعرف إلا الانقلابات العسكرية المتلاحقة وأولها انقلاب حسني الزعيم عام 1949 وآخرها انقلاب حافظ الأسد عام 1970 وكل هذا مع وقفة عابرة في عام 1953، حيث جرت انتخابات برلمانية، فاز فيها حزب أديب الشيشكلي، حركة التحرير العربي، بثمانين مقعداً بينما فاز حزب البعث بعشرين مقعداً وأكثر بقليل في حين توزعت المقاعد المتبقية على عدد من الأحزاب الصغيرة، التي اختفت لاحقاً من الخرائط الحزبية بصورة نهائية.

إنَّ المقصود هنا هو أن سوريا التي شهدت بعد نيل الاستقلال في عام 1946 حياة حزبية وديمقراطية لنحو ثلاثة أعوام لم تتكرر منذ تلك الفترة المبكرة وحتى الآن، اللهم باستثناء تلك اللحظة العابرة في عام 1953. إذْ أن ما جرى لاحقاً كان مجرد أنظمة عسكرية اعتبرها أصحابها ثورات مع أن الحياة الحزبية ومعها الديمقراطية وإن تشابهت أشكالها قد اختفت نهائياً، وذلك مع أن هناك من لا يزال يعتبر أن مرحلة «الانفصال» القصيرة العمر كانت قد شهدت بعض الانفراجات المعقولة إن ليس في الممارسات الديمقراطية الحقيقية ففي ألوان مقبولة من الحريات العامة.

عندما أخذ الضباط البعثيون، ومعهم بعض زملائهم القوميين والناصريين، سوريا إلى الوحدة مع مصر وأصبح هناك: «الجمهورية العربية المتحدة» أصرّ جمال عبد الناصر، الذي كان شديد العداوة للأحزاب والحياة الحزبية، على حل حزب البعث ومنعه من مزاولة العمل فيما أصبح يسمى «الإقليم الشمالي»، وكل هذا مع أن الذين وقعوا على مشروع تلك الوحدة، التي لم تعمر إلا لنحو ثلاثة أعوام، هم قادة هذا الحزب: ميشيل عفلق وصلاح البيطار وأكرم الحوراني... وغيرهم.

والمقصود هنا ورغم أن هناك من لا يزال «يتحسر» على انهيار تلك الوحدة بانقلاب الانفصال الذي كان قاده مدير مكتب عبد الحكيم عامر، الذي كان في ذلك الوقت الرجل الثاني في الإقليم الجنوبي والإقليم الشمالي أيضاً بعد الرئيس جمال عبد الناصر، مما يدل على أن تلك الوحدة كانت مجرد عملية إلحاقية، وأن الشعب السوري بمعظمه وبأغلبية أحزابه قد أصبح ضدها وذلك إلى حدِّ أن قادة البعث الثلاثة، ميشيل عفلق وصلاح البيطار وأكرم الحوراني، قد تحولوا من معها وبحماس منقطع النظير إلى ضدها وإن بخجل وعلى استحياء، تحاشيا من التصادم مع بعض التيارات والاتجاهات والقوى التي لم تكن معجبة بالممارسات الناصرية، لكنها كانت تعلن أنها متمسكة بتلك الوحدة مع ضرورة جعلها تقف على أقدامها بدل وقوفها على رأسها.

وبالطبع وعلى هذه الخلفية فإن حرباً كلامية وإعلامية شعواء، ومن دون أي محرمات، قد نشبت لاحقاً بين جمال عبد الناصر ونظامي البعث في العراق وسوريا خلال هذه الفترة التي امتدت عمليا حتى بعد وفاة الرئيس المصري الأسبق، رحمه الله، حيث بقي العداء مستحكماً بين الطرفين رغم أن الحكم في بلاد الرافدين قد انتقل إلى عبد الكريم قاسم، وأنه انتقل بعده أولا إلى عبد السلام عارف ثم إلى شقيقه عبد السلام عارف.

أما في سوريا فإن المعروف أن «الجناح اليساري» في حزب البعث قد انقلب على رفاقه في القيادة القومية في الثالث والعشرين من فبراير (شباط) عام 1966 وأن حافظ الأسد ما لبث أن انقلب على هؤلاء في نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1970، وأن تدمير الحياة السياسية في هذا البلد العربي قد استمر وتواصل خلال كل هذه السنوات الطويلة منذ ذلك الحين وحتى نوفمبر عام 2011، وعمليا وحتى الآن حيث أصبح «القطر العربي السوري»، حسب المصطلحات البعثية، محتلاً من قبل الإيرانيين وحيث غدت روسيا دولة منتدبة عليه حتى نهاية هذا القرن الحادي والعشرين.

وهكذا فإنه عندما بدأ انفجار الأوضاع في سوريا في مارس (آذار) عام 2011. بدءاً بمدينة درعا، تأثراً بما سمي: «الربيع العربي» كانت الحياة السياسية في «القطر العربي السوري» مدمرة تدميراً شاملاً وأن البداية كانت عفوية وغير مخطط لها ومن دون أي أحزاب لأن الحزبين اللذين كان مسموح لهما بالعمل العلني في هذا البلد الذي غدا متعباً ومنهكاً هما الحزب الشيوعي والحزب القومي الاجتماعي السوري فقط.

وعليه فإن المقصود بكل هذا الذي قيل والذي جرى التنويه إليه هو أن حادثة أطفال درعا، الباسلة فعلا، قد تحولت إلى انتفاضة شعبية من دون أي أحزاب سياسية، وهذا يشمل الإخوان المسلمين الذين كانوا قد أعلنوا سابقاً مراراً وتكراراً أنه لم يعد لهم أي وجود تنظيمي على الأراضي السورية بعد مذابح حماة المعروفة في عام 1982، ويقيناً أنه لو لم يواجه النظام هذه الانتفاضة بنفس ما كان واجه به انتفاضة حماة وحلب وجبل العرب في وقت مبكر فلكان بالإمكان القبول ببعض الإصلاحات الضرورية، ولكانت الأمور قد انتهت عند هذا الحد، وعلى غرار ما حدث عندما اكتفى الشعب التونسي برحيل الرئيس السابق زين العابدين بن علي والخروج من البلاد واستأنف مسيرته على أسس بورقيبية، ولكن بحريات عامة وبأساليب ديمقراطية.

والمشكلة التي بقيت المعارضة السورية تعاني منها ومعها غالبية الشعب السوري، هي غياب الأحزاب وغياب الحياة السياسية التي كان قد جرى تدميرها تدميراً كاملاً على مدى مراحل الانقلابات العسكرية المتلاحقة، منذ انقلاب حسني الزعيم في عام 1949 وحتى انقلاب حافظ الأسد في عام 1970، وما بينهما من انقلابات متلاحقة إذ أنّ هذا كله قد أدى إلى كل ذلك التشرذم التنظيمي الذي حال دون أن يكون هناك تنظيم قيادي واحد وموحد قادر على فرض نفسه وبالقوة العسكرية، إذا تطلبت الأمور، ذلك على كل هذه التشكيلات «الميكروسكوبية» التي تجاوز عددها المائة تشكيل وكلها وليس بعضها تحمل أسماءً إسلامية مما سهل على النظام وعلى الروس والإيرانيين وغيرهم إلصاق تهمة الإرهاب بالثورة السورية، التي كانت قبل كل هذه التدخلات الخارجية قد بدأت بداية صحيحة، وحققت إنجازات فعلية جعلت بشار الأسد في عام 2015 يبدأ بحزم حقائبه استعداداً لمغادرة سوريا مغادرة نهائية وإلى الأبد.

ولعل ما زاد الطين بلة، كما يقال، أن الروس بعد تدخلهم العسكري في سوريا عام 2015 قد «أمسكوا» بالرئيس التركي رجب طيب إردوغان من الذراع التي تؤلمه التي هو الأكراد وحزب العمال الكردستاني – التركي، بقيادة عبد الله أوجلان، المقيم ومنذ سنوات طويلة في إحدى زنازين السجون التركية، حيث دفعوا هذا الحزب ومعه بعض التشكيلات الكردية إلى تنشيط عملياتهم العسكرية، ومن ضمنها بعض العمليات الإرهابية ضد تركيا من بينها عمليات استهدفت العاصمة أنقرة ومدينة إسطنبول التاريخية التي تعتبر وهي كذلك من أجمل مدن العالم.

إنه لم يسمح للثورة وللمعارضة السورية بأن تشكل جيشها الموحد بقيادة واحدة وهيئة أركان موحدة وعلى غرار ما كان عليه الوضع بالنسبة لجيش التحرير الجزائري، وحيث رفضت الثورة الجزائرية فتح أبوابها التنظيمية لأي تنظيمات وافدة كان من الممكن أن تدمر تلك الثورة الباسلة وعلى نحو كان سيؤخر عملية التحرير واستعادة الإرادة الوطنية، وحيث أصبح هذا البلد العظيم يحتل موقعاً قياديا مؤثراً في المنطقة العربية وفي أفريقيا وأوروبا والعالم بأسره.

ثم إن مشكلة التشرذم هذه بالإضافة إلى مساوئها الكثيرة، فإنها جعلت القوات العسكرية للمعارضة لا تخوض معارك مخططا لها من قبل هيئة أركان موحدة وغرفة عمليات واحدة، مما سهل على الروس والإيرانيين وغيرهم الإنفراد بجبهات القتال جبهة بعد جبهة ومنطقة بعد منطقة، وإلى أن أصبح هناك «مستودع» إدلب البشري، وأصبح هناك أكثر من سبعة ملايين لاجئ بعضهم في الداخل وبعضهم في الخارج، وهذا هو أحد الأعباء الثقيلة التي غدت تعاني منها الثورة السورية.

اقرأ المزيد
٢٣ أغسطس ٢٠١٨
مستقبل سوريا بين رؤيتين: التسوية الشاملة أو التصعيد والصراع؟

"الأوضاع في سوريا ستشهد خلال الأشهر القليلة المقبلة تطورات حاسمة تحدد مستقبل هذا البلد والدول المحيطة به".. هذا ما تؤكده الأوساط السياسية والدبلوماسية في بيروت. لكن هذه الأوساط لا تتفق على رؤية موحدة لمستقبل سوريا والمنطقة، ففي حين أن المصادر القريبة من النظام السوري وحلفائه (إيران وحزب الله وروسيا) تؤكد أن "الأمور أصبحت محسومة في هذا البلد"، وأن "هناك خطة متكاملة سيتم تنفيذها في المرحلة المقبلة"، فإن مصادر دبلوماسية لبنانية رسمية تعتبر أن "الصراع في سوريا لم يحسم نهائيا، بل إن الأشهر المقبلة ستشهد المزيد من التصعيد لحسم الخيارات المستقبلية، رغم التقدم الكبير الذي أحرزه النظام السوري وحلفاؤه خلال الأشهر الماضية على الصعيد الميداني وخصوصا في الجنوب".

فما هي تفاصيل الرؤيتين حول مستقبل سوريا؟ وإلى أين تتجه الأوضاع في المرحلة المقبلة؟ وما هو تأثير ما يجري على الصراع في المنطقة؟

على صعيد الرؤية الأولى، تقول مصادر سياسية مطلعة في بيروت (قريبة من النظام السوري وحزب الله): "إن الأزمة السورية أصبحت في مرحلتها الأخيرة بعد القمة الروسية-الأمريكية الأخيرة في هلسنكي، وبعد التسليم الأمريكي لروسيا بالدور الأساسي في سوريا ومتابعة كل المراحل المقبلة. وإن هناك قرارا أمريكيا بالانسحاب من سوريا، باستثناء إبقاء قوات أمريكية محدودة في شمال شرق سوريا (لحماية آبار النفط) وفي منطقة التنف، بانتظار الحلول النهائية، ولإبقاء الضغط على حزب الله والقوات الحليفة لإيران ومنع فتح المعابر الحدودية إلا بعد الاتفاق السياسي الشامل".

وتضيف المصادر: "إن روسيا تتابع حاليا عدة ملفات في سوريا، ومنها ترتيب عودة النازحين، ولا سيما من لبنان والأردن، وإعادة الإعمار ووضع الخطط المتنوعة لتنفيذ ذلك، وإعادة هيكلة الجيش السوري كي يكون قادرا على مواكبة المرحلة المقبلة، ووضع أسس الحل السياسي الشامل من خلال وضع دستور جديد، وإجراء انتخابات نيابية ومن ثم رئاسية. أما على الصعيد الميداني، فهناك تركيز الآن على حسم الأوضاع في منطقة إدلب بالتعاون مع تركيا، وذلك إما من خلال المفاوضات أو عبر الحسم العسكري، وإن المشكلة الأساس تتعلق حاليا بمستقبل عشرات آلاف المقاتلين الأجانب وتحديد مصيرهم".

وتؤكد المصادر أن "كل الحلول السياسية والترتيبات الأمنية، ولا سيما في الجنوب، لم ولن تكون على حساب الدور الإيراني ودور حزب الله، وإن هناك تنسيقا روسياً سورياً إيرانياً، وحزب الله يواكب التطورات، وإن الحلول السياسية المقبلة ستكون لمصلحة الجميع".

وفي مقابل هذه الرؤية المتفائلة حول مستقبل سوريا ودور حلفاء النظام السوري، فإن مصادر دبلوماسية رسمية في بيروت لديها وجهة نظر أخرى، ومن المعطيات التي تتضمنها هذه الرؤية؛ أن "الصراع على مستقبل سوريا والمنطقة لا يزال قائما، رغم التقدم الميداني الذي حصل لصالح النظام وحلفائه (والذي تم وخصوصا في الجنوب بتنسيق أمريكي-روسي)، وبمراعاة الحسابات الإسرائيلية؟ وإن الأمريكيين وحلفاءهم لم يعطوا الروس الضوء الأخضر الكامل لإدارة الملف السوري، وإن الصراعات الميدانية في شمال سوريا وشرقها وبعض مناطق الجنوب ستستمر لحين حسم القرار بشأن مستقبل النظام السوري، وإن الدور التركي لا يزال فاعلا، والأتراك لم يحسموا قرارهم بالاتجاه الكامل نحو روسيا وإيران، وهم يراعون الموقف الأمريكي وبعض الدول العربية، كذلك فإن الأكراد لم يتخذوا القرار النهائي بالاتفاق مع النظام السوري. وإن كل الخيارات لا تزال قائمة، كما يوجد في سوريا عشرات الألوف من المقاتلين الأجانب والعرب والسوريين لم يدخلوا في التسوية حتى الآن، ولذا فإن الصراع مستمر والحلول ستأخذ بعض الوقت".

وتجمع كلا الرؤيتين على أن مستقبل الوضع في سوريا سيكون له تأثير على كل الأوضاع في المنطقة. وفي المقابل، فإن ما يجري في لبنان وتركيا والأردن والعراق وإيران له تأثير على الوضع في سوريا، وإن كلا المحورين المتصارعين في المنطقة يضغطان كي تكون نتائج الصراع لصالح كل منهما. لكن رغم الاختلاف في تفاصيل كل من الرؤيتين، فإنه يمكن القول إن الأشهر المقبلة ستكون حاسمة على صعيد مستقبل الصراع في سوريا، وإن نتيجة هذا الصراع لن تحسم فقط مستقبل سوريا ونظامها، بل سيكون لها تأثير مباشر على دول المنطقة والنظام الإقليمي والدولي، فأي مستقبل ينتظرنا؟

اقرأ المزيد
٢٣ أغسطس ٢٠١٨
إدلب العقدة والمفتاح لـ «الحلّ السياسي» في سورية

 إشكالات كثيرة تحيط بالموقعة القتالية الأخيرة في الصراع السوري. إدلب هي المحافظة الوحيدة التي طُرد منها النظام بكلفة بشرية ومعنوية هائلة، إذاً تشكل استعادتها ثأراً بالنسبة إليه. إدلب كانت الهدف التالي الذي تأهّبت قوات النظام وحلفاؤها الإيرانيون وأتباعهم لاجتياحه أواخر 2016 غداة سقوط شرق حلب، غير أن الروس شاؤوا مساراً آخر للأحداث وما لبثوا أن غيّروا المعادلة لإدخال تركيا التي سهّلت لاحقاً استخدام هذه المحافظة مقرّاً لاستقبال المقاتلين المرحّلين من حلب وحمص وحماة ثم من القلمون والغوطة وأخيراً من درعا. إدلب هي المعقل الأخير الذي لا يزال يشار إليه كموقع لـ «المعارضة» بمفهوم عسكري - سياسي، فالمناطق الأخرى التي عاد إليها النظام بمعيّة الإيرانيين وأتباعهم إما أخليت من سكانها أو أن الظروف القاسية لمَن بقوا فيها لا تسمح لهم بممارسة أيٍّ من مظاهر الاحتجاج. وإدلب التي لم يزد سكانها عن مليون ونصف المليون إنسان باتت تؤوي الآن ما يقرب من أربعة ملايين تحت سيطرة مزيج من نحو مئة فصيل أو أكثر، متقاربة أو متنافرة وموزّعة بين «الجبهة الوطنية للتحرير» و «هيئة تحرير الشام/ جبهة النُصرة سابقاً»، إضافة إلى فصيل «حرّاس الدين» الذي انشقّ عن «النصرة» التي اعتبر أنها ابتعدت من أصولها «القاعدية».

في اجتماع «آستانة - سوتشي» الأخير، كانت إدلب المحور الأساسي، فهي منطقة «خفض التصعيد» الأخيرة، ولا بدّ من استعادتها. أوضح الروس أنهم يرفضون بقاءها خارج سيطرة النظام لكنهم لا يزالون يفضّلون الخطط والأفكار التركية كبديل من خطط النظام الذي يلحّ على اجتياحات لعقد ما يسمّيها «مصالحات»، إلا أنه لا يستطيع ذلك بمساعدة الإيرانيين وأتباعهم وحدهم بل يحتاج إلى الدعم الجوي الروسي. القرار لموسكو، إذاً، وكان مندوبها ألكسندر لافرنتييف حاسماً وتاركاً الباب موارباً في آنٍ حين قال أن «لا عملية عسكرية واسعة قريباً في إدلب». وفُهم ذلك بأنه تمديد للاعتماد على تركيا، وكان استياء وفدَي النظام وإيران بادياً في تصريحات بشار الجعفري الذي لم يجد الكثير من الديبلوماسية لتغليف شتائمه لتركيا. لكن أحداً في النظام لا يستطيع اليوم معارضة الروس أو إغضابهم.

«معركة» أو لا معركة في إدلب، إذاً، ومَن يريدها ومَن لا يريدها؟ لمس النظام والإيرانيون منذ فترة طويلة أن ثنائي روسيا - تركيا أصبح المحور الرئيسي لمسار آستانة. ولهذا أسبابه، فروسيا تريد «كل سورية» في نهاية المطاف، وإذ احتاجت إلى الإيرانيين وأتباعهم لاستكمال ما تبقّى من عمليات قتالية فإنهم قاموا بما طُلب منهم لكن الحاجة إليهم تتناقص كلّما اقترب الصراع المسلّح من نهايته. وإذا كانت روسيا لا تطالب الإيرانيين بسحب ميليشياتهم فلأنها قد تطلب منهم مؤازرة قوات النظام في مهمة أخيرة في إدلب. لكنها في هذه المنطقة تحديداً تحتاج أولاً إلى تركيا ولا تستطيع تجاهل المكاسب التي قدمتها إليها أو الأدوار التي لعبتها منذ 2016 وستلعبها في خدمة الخطط الروسية، فلولا تعاون أنقرة لما أمكن احتواء الفصائل وحصرها في إدلب ولا وقف تدفق اللاجئين الذي يحمّل الأوروبيون روسيا مسؤولية أساسية فيه.

تركّز التفاهم الروسي - التركي في شأن إدلب على ضرورة إيجاد مقاربة مختلفة للوضع في هذه المحافظة السورية، بسبب تعقيداته العسكرية (خليط الفصائل وانتماءاتها...) والمدنية (تكدّس المهجّرين من مناطق مختلفة). قد تكون موسكو تفهّمت موجبات هذه المقاربة التركية بعدما تعهّدت أنقرة بأنها قادرة على إدارة حلّ سياسي - استخباري يحقّق الهدف المتّفق عليه: إنهاء سيطرة متشدّدي «جبهة النصرة/ هيئة تحرير الشام» بأي وسيلة. لكن التسهيلات والضمانات التي قدّمتها موسكو لم تكن دائماً مساعدة لـ «الخيار التركي»، إذ إنها لم تتخلَّ عن الخيار الآخر، أي اجتياح قوات النظام والميليشيات الإيرانية لإدلب، بل إنها دعمته وتواصل دعمه بضربات جويّة أو بغضّ النظر عن هجمات لاختراق المنطقة. وعلى رغم أن النقاش مع أنقرة استدعى مجدّداً التمييز بين «المعتدلين» و «المتشدّدين»، كما في الجدل الروسي – الأميركي طوال 2016، إلا أن الروس الذين تجاوزوا دائماً هذا التمييز وجدوا مصلحة في مراعاة الحجج التركية، أولاً لاجتذاب أنقرة وإبقائها في مسار آستانة، وثانياً لوجود اصطفاف غير متماثل على الأرض بين المصنّفين «قاعديين» و «إرهابيين» وبين الفصائل التي ينتمي معظم مقاتليها إلى «الجيش الحر» الذي يريد الروس إعادته إلى كنف النظام، بالأحرى إلى كنفهم.

اجتياح قوات النظام والإيرانيين لإدلب بغطاء جويّ روسي يبقى خياراً قائماً وممكناً، بمعزل عن الوقت الذي يستغرقه، لكنه بالتأكيد مشروع مذبحة كبرى معلنة على الجانبين، ووصفة لدفع أكثر من مليونَي لاجئ إلى خارج إدلب وقد لا تتمكّن منطقة «درع الفرات» من استيعابهم، إضافة إلى الدمار الذي سيثقل فاتورة إعادة الإعمار... انطلاقاً من هذه الاعتبارات الواقعية وغير المضخّمة عمد الروس دائماً إلى لجم النظام والإيرانيين، كما فعلوا أخيراً غداة الاجتماع العاشر لمسار «آستانة - سوتشي»، وما عزّز ميلهم إلى خطط أنقرة أمران: الأول، أن اللازمة السياسية المبرمجة منذ قمة بوتين - ترامب في هلسنكي باتت دائمة التركيز على «عودة اللاجئين» و «إعادة الإعمار» و «معالجة الأوضاع الإنسانية»، لكن من دون نسيان «محاربة الإرهاب». والآخر، أن تفجّر الأزمة التركية - الأميركية يستوجب عدم الضغط على أنقرة، خصوصاً أنها أحرزت تقدّماً بتوحيد معظم الفصائل «المعتدلة» تحت مسمّى «الجبهة الوطنية للتحرير»، وهي الخطوة التي كان متفقاً عليها وانتظرت «اكتمال النصاب» بانتهاء عمليات ترحيل المقاتلين من جبهة الجنوب. وبالنسبة إلى الروس فإن المهمة الأولى لهذه «الجبهة» هي المسارعة إلى القضاء على «النُصرة» وحلفائها، لذلك حدّدوا لتركيا مهلة زمنية، وتقدّر مصادر عدّة أن نهاية السنة هي الحدّ الأقصى لاعتبار «عقدة» إدلب محسومة.

قد يتطلّب هذا الحسم وقتاً أطول، ذاك أنه يشبه عملياً تصفية لمجمل تعقيدات الأزمة السورية، سواء كانت «عسكرة الثورة» من جهة أو «وحشية النظام» وحلفائه بمن فيهم الروس من جهة أخرى. وإذ تراهن الخطة التركية على قبول «هيئة تحرير الشام/ النصرة» طوعاً بحلّ نفسها وبـ «ترحيل الأجانب» على أن يُتّفق على حلول (نوقشت سابقاً) لأوضاع مقاتليها السوريين، وهم الغالبية. الطوعية تستلزم واقعية وبراغماتية، وقد يرضخ لها قادة «النُصرة» متى تعرّفوا إلى كل ما يُعرض عليهم، لكن عناصر أي «اتفاق» محتمل ليست واضحة. إذا لم يرضخوا فقد لا تكون هناك ممانعة مبدئية لدى الفصائل الموحّدة من ضرب «النُصرة»، إذ حصلت سابقاً مواجهات دموية بين الطرفين في مناطق شتّى، ثم إن الظرف الحالي بات مسألة حياة أو موت لأيٍّ منهما. لكن، هنا أيضاً، تريد فصائل «الجبهة الوطنية للتحرير» التعرّف إلى معالم خريطة الطريق التي يدفعهم إليها الأتراك، فمع قبولها التزام «خفض التصعيد» وعدم مقاتلة النظام تحتاج الفصائل إلى ضمانات بأن الروس والنظام والإيرانيين لن يتدخّلوا في قتالها - إذا كان لا بدّ منه - مع «النُصرة»، ولن يبادروا إلى اجتياح إدلب بعد إنجاز المهمة ضد «النُصرة». الضمانات التركية لا تكفي، والضمانات الروسية لا يوثق بها طالما أنها تستند دائماً إلى «مصالحات» مع النظام.

كان الرئيس الروسي والمستشارة الألمانية بالغَي الوضوح في مؤتمرهما الصحافي الأخير (18/08)، إذ طلب بوتين أن تساهم الدول الأوروبية «مالياً» في إعادة إعمار سورية، مسوّقاً وصفته السحرية لـ «تلازم» عودة اللاجئين مع إعادة الإعمار. لكن أنغيلا مركل حذّرت من «كارثة إنسانية في إدلب وسورية والدول المجاورة»، وقالت أنها ناقشت سابقاً مع بوتين «قضية الإصلاحات الدستورية والانتخابات المحتملة (في سورية)». وفي ذلك أكثر من إشارة: أولاً أن الحسم في إدلب قد يفاقم مجدّداً قضية اللاجئين. وثانياً، أن الأوروبيين يواصلون ربط مساهمتهم في إعادة الإعمار بعودة اللاجئين والحل السياسي. وثالثاً، أن أطروحات روسيا فشلت حتى الآن في الإقناع بأنها كفيلة بتحقيق الأهداف التي تتوخّاها من دون أي تغيير في سلوك النظام.

اقرأ المزيد
٢٣ أغسطس ٢٠١٨
لبنان... بوابة روسيا لتعويم الأسد

في موسكو عزف وزير الخارجية اللبناني جبران باسيل على وتر الطموحات الإمبراطورية الروسية، أثناء اجتماعه مع مهندس عودة موسكو الخشنة إلى الساحة الدولية نظيره الروسي سيرغي لافروف، المنشغل بإعادة استقطاب الجماعات الإثنية والدينية المقيمة ضمن ما كان يُعرف سابقاً بالمجال الحيوي السوفياتي الممتد من الفضاء الإسلامي جنوب روسيا حتى المياه الدافئة شرق البحر المتوسط، فقد استغل باسيل المؤتمر الصحافي المشترك مع لافروف وكرر دعوته لروسيا العظمى إلى القيام بدورها التاريخي في حماية الأقليات الدينية.

في موسكو حاول باسيل نفض الغبار عن بعض من تفاصيل معاهدة «كيتشوك كاينارجي» التي عقدت بين الإمبراطوريتين الروسية والعثمانية في يوليو (تموز) 1774، وانتزعت فيها بطرسبورغ من إسطنبول الحق في رعاية شؤون المسيحيين الأرثوذكس الذين يعيشون في الولايات العثمانية، فقد شرّعت الهزيمة العثمانية في حرب البلقان في القرن الثامن العشر التدخل الروسي المباشر في الشؤون الداخلية للسلطنة العثمانية، وتطور هذا التدخل بعدما طالب رهبان في الكنيسة الروسية الإمبراطورة الروسية كاترين الثانية بالتدخل ليس فقط في البلقان؛ بل في بسط النفوذ على الأماكن المقدسة المسيحية في فلسطين، والتي أسست لاحقاً لـ«المسألة الشرقية». فمن جادة سمالنسكيا حيث موقع وزارة الخارجية الروسية وسط العاصمة موسكو، أعاد جبران باسيل عقارب الزمن إلى معسكر «كيتشوك كاينارجي» الذي عقدت فيه الاتفاقية الروسية - العثمانية في بلغاريا، محاولاً إغراء الروس بأن معسكراتهم الجديدة في سوريا تحتاج إلى سياسيين لبنانيين من دعاة حلف الأقليات، وليس إلى رهبان أرثوذكس من أجل إعادة فرض النفوذ الروسي في الشرق الأوسط، حيث من الطبيعي أن تتقاطع السياسة الخارجية الروسية حول سوريا مع بعض القوى السياسية اللبنانية التي كانت تدور في فلك النظام السوري في زمن الوصاية على لبنان، خصوصاً في قضية إعادة تعويم النظام من البوابة اللبنانية، حيث تتمسك هذه القوى التي يمثل وزير الخارجية جبران باسيل أحد أركانها بضرورة التطبيع الكامل مع نظام الأسد.

وفي الاعتبارات الروسية تُعدّ الدعوة إلى التطبيع مع دمشق في صلب مصالح موسكو التي تحاول استغلال إصرار الأطراف اللبنانية على هذا الموقف، بهدف تحويل لبنان إلى مثال حي لبعض الدول العربية والأوروبية في إمكانية إعادة علاقات غير مشروطة بتطورات العملية السياسية، باعتبار أن النظام السوري خرج منتصراً في الحرب على الإرهاب وفقاً للتوصيف الروسي، أما في أدبيات حلفائه اللبنانيين فإن رغباتهم تدفعهم إلى القول إن النظام عاد أقوى مما كان.

في المؤتمر الصحافي المشترك بين باسيل ولافروف عبّر الأخير عن امتعاض بلاده من الشروط الأميركية الأوروبية في ربط إعادة الإعمار بالعملية السياسية، التي يصبح نجاحها شرطاً لعودة النازحين واللاجئين السوريين إلى مناطقهم، وهي معادلة تعرقل رغبات الوزير باسيل المطالب بعودة سريعة وآمنة للنازحين من دون ربطهم بالحل السياسي، ووفقاً للعرض الروسي الذي حدد نحو 75 منطقة آمنة في سوريا يمكن العودة إليها، وقد وضعت موسكو آلية حسابية لعودة السوريين تقوم على طرح عدد سكان المناطق الآمنة سنة 2010 من عدد السكان في 2018 من أجل تحديد الدفعة الأولى من العائدين.

وعليه؛ فإن الوزير باسيل المقتنع بانتصار خيارات محوره السياسية في سوريا يُلمح إلى جعل لبنان منصة لإعادة إعمار سوريا وإلى أن التعاون الاستراتيجي بين لبنان وروسيا ضروري لهذه الغاية، ولكن على ما يبدو أنه غاب عن بال الوزيرين أن خزائنهما خالية، وأن إعمار سوريا يحتاج إلى دول غنية؛ تستطيع في لحظة معينة أن تفرض شروطها السياسية على موسكو وبيروت مهما كان الحضور الروسي أو اللبناني طاغياً على الجغرافيا السورية. فحتى الآن لم تقتنع الأطراف المُصرّة على بقاء الأسد والتطبيع معه، بأن الدول القادرة على الاستثمار في سوريا ليست جمعيات خيرية ستقدم للقوى اللبنانية الموالية للأسد هدايا سياسية مكافأة لها على ضلوعها السياسي والعسكري في تحويل الأغلبية السورية إلى أقلية، جرّاء تغطيتها عمليات القتل الجماعي والتهجير الممنهج الذي نفذه نظام الأسد بإشراف ومساعدة روسية وإيرانية.

وعليه، لا يمكن لبنانياً الرهان على موسكو من أجل الالتفاف على المطالب بإعادة العلاقات الرسمية مع دمشق، والتواصل مع الروس من أجل تجنب الاتصال المباشر مع النظام، فموسكو الوصية على نظام الأسد تحولت إلى قبلة للمسؤولين اللبنانيين الباحثين عن وصاية دائمة، وهي تدفعهم للضغط من أجل التطبيع الرسمي اللبناني مع الأسد، باعتبار أن النظام استعاد عافيته في الداخل وهو يحتاج إلى خطوة خارجية، ومن خلال البوابة اللبنانية يستعيد الأسد دوره الإقليمي، وتعيد موسكو من جديد إنتاج «المسألة الشرقية».

اقرأ المزيد
٢٢ أغسطس ٢٠١٨
أوهام حزب الله غير المقنعة

يهوى حزب الله الاحتفاليات على أنواعها، خصوصا منها ذكريات النصر، علما أنه لم يحقق إلا نصرا واحدا حقيقيا، هو انسحاب إسرائيل من لبنان عام 2000. وهو يحتفل به كل سنة، لكنه يحتفل أيضا كما احتفل بالأمس بانتصاره في حرب يوليو/ تموز 2006 حيث سقط خلالها نحو 1300 مواطن لبناني، وأجبرت إسرائيل مئات آلاف من الجنوبيين على النزوح، ولم تبق حجرا على حجرا، فدمّرت البنى التحتية والجسور والطرقات بشكل شبه كامل، وحوّلت الضاحية الجنوبية لبيروت معقل حزب الله وخزانه البشري إلى ركام، وذلك كله لأن قيادة الحزب ارتأت خطف جثتي جنديين إسرائيليين سقطا إثر اشتباك عند الشريط الحدودي الفاصل بين لبنان وفلسطين المحتلة، وقرّرت المراوغة بإخفاء الأمر، لكي تفاوض عليهما فيما بعد. وأمام هول ما حصل وفداحته خلال 33 يوما من القصف والدمار والخراب وعدد الضحايا، ظهر الأمين العام لحزب الله، حسن نصرالله، على إحدى الشاشات، وقال "لو كنت أعلم..."، أي أن ردة فعل إسرائيل ستكون بهذه الوحشية لما كان فعلها! ومع ذلك هو يحتفل كل سنة بالنصر في هذه المناسبة، ولا يعترف بدور رئيس حكومة لبنان يومها رجل الدولة الشجاع فؤاد السنيورة في وقف العدوان الإسرائيلي الذي كان له الفضل الأكبر في الاستحصال على قرار من مجلس الأمن رقم 1701 بوقف إطلاق النار، وإرسال 15000 جندي من قوات الأمم المتحدة لضمان حفط الأمن في الجنوب، وعلى الحدود اللبنانية الجنوبية، على الرغم من أن رئيس الحكومة كان قد أعلن معارضته منذ اليوم الأول للحرب، ولخطف حزب الله جثتي الجنديين الإسرائيليين. ومع ذلك، اتهم الحزب السنيورة يومها بالعمالة والتآمر عليه!

الاحتفاليات التي تتم بتنظيم محكم، وترفع شعاراتٍ تعبويةً محدّدة، وتلوّح بصور القائد، وتهتف له، هي خاصية أحزاب النظرية الواحدة والحقيقة الواحدة، الأحزاب الشمولية والسلطوية.

والاحتفاليات هذه وسيلة لحشد مئات الألوف في نظام مرصوص، بحيث يبدون رجلا واحدا وصوتا واحدا. وهذه تقنيّة يجيدها حزب الله بحرفية عالية، عندما يحتشد مئات الآلاف، ليستمعوا إلى نصرالله (وليس لمشاهدته)، وهو يخطب عبر شاشة عملاقة، نصبت خصيصا للمناسبة ويتفاعلون مع كلامه، وكأنه حاضر أمامهم، فهذه طريقة للتعبير عن قوة الحزب وفرض هيبة القائد، وهي، في الوقت عينه، أسلوب لممارسة اللعب على عواطف الجمهور، والسيطرة على عقول المستمعين، إذ ينفضون عن الاحتفالية بقوة شحن هائلة، واقتناع واحد مشترك. وحزب الله يحتفل أيضا بمناسبات دينية كثيرة، في مقدمها يوم القدس الذي خصّصته إيران وكرسته منذ سنوات يوما لفلسطين سنويا في آخر أسبوع من شهر رمضان. كما أن الحزب يحيي ذكرى الشهداء، ويقيم العروض العسكرية عندما يريد أن يستعرض قوته، ويشد عصب جمهوره، ويوجه رسائله في أكثر من اتجاه. وتنعكس قوة هذا الأسلوب أيضا في قدرته على إجبار جمهرة من السياسيين الحلفاء والتابعين على الحضور والاصظفاف جلوسا في الصف الأمامي في حضرة نصرالله الذي يطلّ عليهم عبر الشاشة.

وفي بداية انخراطه ربيع 2013 في القتال ضد الشعب السوري، ودفاعا عن نظام بشار الأسد، كان حزب الله يشعر بالإحراج في الكشف عن ضحاياه، لذلك كان يحيط إحضار الجثث بالكتمان، ومن ثم يتم التشييع سريعا وبدون إعلان كل في قريته، إلا أن ذلك لم يعد ممكنا لاحقا بسبب ازدياد حجم الخسائر وعدد القتلى، وتصاعد التململ لدى أهالي الضحايا، فبات مضطرا للإعلان عن ذلك، وإجراء مراسم تشييع "رسمية"، تحوّلت مع التدخل الروسي عام 2015، وازدياد حجم عدد فرق مليشياته المنخرطة في القتال، في أكثر من محافظة وجبهة، إلى احتفاليات علنية، يخطب فيها مسؤولوه في المدن والبلدات التي ينتمي إليها القتلى، غير أن هذا الانخراط الكلي في الأزمة السورية، وهذا التورّط في المشاركة في سفك دماء السوريين، راحا يخفّفان تدريجيا من قوة حزب الله وقدرته على الحشد، حتى في صفوف جمهوره. كما أن باقي اللبنانيين راحوا يشيحون نظرهم جانبا عن القناة التي تنقل وقائع ظهور نصرالله خطيبا في ساحات ضاحية بيروت الجنوبية، إذ إن مسألة "داعش" والإرهاب كانت ورقة رابحة في يده، استعملها طويلا بين عامي 2013 و2015 موهما اللبنانيين أنه ذهب للقتال في سورية لمنع وصول الإرهابيين إلى لبنان. وهي اليوم سقطت. والعامل الآخر هو إشاحة نظر حزب الله عن مشكلات اللبنانيين، وخصوصا الاقتصادية، بحجة أنه متفرّغ للمقاومة. ولكن هذه "المقاومة" هي منهم، وتقوم عليهم، وتستعمل أولادهم وقودا لها، فكيف لهم أن يستمرّوا ويصمدوا، من دون تأمين فرص العمل لهم وتزويدهم بالكهرباء والماء، ورفع النفايات والتلوث من بيئتهم وشوارعهم، وعن أنوفهم وأجهزة تنفسهم... بعد أن أصبح حزب الله مكونا أساسيا من مكونات السلطة، في الحكومة وفي البرلمان وفي مختلف مواقع القرار. ناهيك عن ظاهرة فساد الطبقة السياسية الذي بات الحزب جزءا منها، والفساد متغلغل في مفاصله. ولهذا الغرض، أعلن نصرالله، عشية الانتخابات النيابية، عن تشكيل لجنة خاصة لمكافحة الفساد، بإشرافه هو شخصيا، ولكن لا خطوة فعلية، ولا شحطة قلم منذ تشكيلها قبل خمسة أشهر!

أما التطور السلبي الآخر الذي انفجر أخيرا بشكل قوي في وجه حزب الله فهو الشرخ الذي بدأ يتسع بين الجنوب والبقاع، وهما محافظتان بأغلبية من الطائفة الشيعية، ومعقودتا الولاء للطرفين الشيعيين المهيمنين، حزب الله وحركة أمل، فأهل البقاع، وتحديدا مدينة بعلبك وجوارها المعتبرة خزّانا للحزب، تشكو من الإهمال اللاحق بها، ليس فقط من الدولة، وإنما من دويلة حزب الله الذي لم يهتم بتحسين ظروف عيش أهلها وإنماء مدينتهم، على الرغم من أنه يسيطر على معظم مقاعد ممثليها في البرلمان منذ عقود. وكادت نقمة المدينة أن تطيح نصف مقاعد الحزب في الانتخابات أخيرا لو لم يسارع نصرالله إلى توجيه النداء تلو النداء، ويكثّف ظهوره التلفزيوني، ويعلن استعداده لزيارة المدينة، والتجوّل في شوارعها. ومع ذلك، خسر ثلاثة مقاعد لصالح حزب القوات اللبنانية وتيار المستقبل بزعامة سعد الحريري. وهناك من حاول زرع الشقاق بين "الثنائي الشيعي"، عبر تحريض حزب الله على زعيم حركة أمل، نبيه بري، "الجنوبي جدا" الذي يدفع بكل المشاريع إلى الجنوب ويحرم البقاع منها. وأخيرا، اضطر نصرالله قبل أيام إلى إقامة احتفالية النصر بحرب تموز في ضاحية بيروت، والإعلان عن تخصيص بعلبك باحتفالية أخرى بمناسبة النصر على "التكفيريين"، بعد أن أعلنت الدولة عزمها على تشريع زراعة الحشيش (الخشخاش) إرضاء للبعلبكيين، واضطرار حزب الله إلى رفع الغطاء عن بطل تهريب المخدّرات الملقب "إسكوبار لبنان"، الصادر بحقه أكثر من ثلاثة آلاف مذكرة توقيف، ومع ذلك لم تتمكّن الأجهزة الأمنية من القبض عليه من قبل. كما أن المثير أكثر في الأمر أن "إسكوبار" هذا لم يتم توقيفه، وإنما تصفيته على الفور مع أفراد مجموعته فور مداهمة مقره. وبعدها بأيام راحت وسائل التواصل الاجتماعي تتداول شريط فيديو جمع وزيرا من حزب الله ومدير الأمن العام السابق الذي أصبح نائبا وأحد المشايخ المعروفين وآخرين ضيوفا على الغداء عند "إسكوبار" هذا خلال الحملة الانتخابية أخيرا.

اقرأ المزيد
٢٢ أغسطس ٢٠١٨
بوتين واللجوء السوري: لماذا يراقصون الذئب؟

لم يُكتب للقاء المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي جرى السبت الماضي في قصر الضيافة الحكومي بولاية براندنبورغ الألمانية، حظوظ نجاح مماثلة لتلك التي لقيها بوتين في حفل زفاف وزيرة الخارجية النمساوية كارين كنايسل، حين عبرت الرقصة التي اشتركا في أدائها عن روحية التوافق العالية بين الكرملين وحكومة ائتلاف اليمين المحافظ والمتشدد في النمسا.

نقاط الخلاف التي خيمت على اللقاء كانت تبدأ من الملف الذي عمق التباعد بين برلين وموسكو، أي الموقف الروسي من المتمردين في أوكرانيا، حيث طالبت المستشارة الألمانية بأن يبذل الكرملين جهوداً جديدة وملموسة للفصل بين القوات العسكرية الأوكرانية والانفصاليين على خطوط التماس في إقليم دونباس. وفي ملف خط أنابيب الغاز «نورث ستريم 2»، اعتبرت ميركل أن «على أوكرانيا أن تضطلع بدور في عبور الغاز إلى أوروبا» حتى بعد بدء تشغيل الخط، وهذا ما لاح أن بوتين غير موافق عليه.

على صعيد الملف السوري، الذي كان الأهمّ بين الزعيمين، لم يقطع اللقاء خطوة ثانية إضافية تستكمل مباحثات اجتماعهما في سوتشي، في أيار/ مايو الماضي، التي تناولت القضايا ذاتها تقريباً، خاصة مسائل الإصلاحات الدستورية والانتخابات الحرة، مع تركيز من جانب ميركل على ضرورة أن تتحمل روسيا مسؤولياتها في الحفاظ على حقوق اللاجئين السوريين في ضوء المرسوم 10 الذي أصدره النظام.

بوتين، في المقابل، اختار صيغة ابتزاز ألمانيا عن طريق التلويح بأنّ قضية اللاجئين «عبء هائل» على أوروبا عموماً، ولكنه قصد برلين على وجه الخصوص، بالنظر إلى أن البلد استقبل مئات الآلاف من اللاجئين، وتسبب ذلك في زعزعة استقرار التحالف الحكومي الذي كانت تقوده ميركل قبل تدفق موجات اللجوء. وكان لافتاً أن الرئيس الروسي استذكر أعداد ملايين اللاجئين السوريين في الأردن ولبنان وتركيا، مشيراً في هذا الصدد إلى واجب أوروبا في تحمل أعباء إعادة إعمار سوريا، عن طريق موسكو وبواسطتها وإشرافها. في الآن ذاته كان وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف يبحث الملف ذاته في بيروت، ويصادق على نبرة التهديد التي حملتها تصريحات وزير الخارجية اللبناني جبران باسيل حول الإسراع في إعادة اللاجئين السوريين إلى سوريا.

وليس خافياً أن بوتين لم يعتمد صيغة الابتزاز في طرح مسألة اللجوء السوري وإعادة إعمار البلد عبر وصاية روسية، إلا بعد أن لمس تشجيعاً من بعض الديمقراطيات الغربية. الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون اتفق مع بوتين على إرسال 50 طناً من المعونات الإنسانية الفرنسية عبر طائرة أنتونوف روسية الصنع حمّلت شحنتها من قاعدة شاتورو الفرنسية، وهبطت في مطار حميميم الذي بات قاعدة جوية روسية كما هو معروف. كذلك فإن سياسات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تمنح بوتين فرصة ذهبية لاستغلال الشروخ المتعاظمة في العلاقات الأمريكية ـ الأوروبية إجمالاً، وفي الموقف من النظام السوري خاصة.
وإذا كانت ميركل قد اتخذت موقفاً مبدئياً إزاء ابتزاز بوتين، حتى الساعة على الأقل، فليس جديداً أن تدوس الديمقراطيات الغربية على مبادئها المعلنة فتقايض مجرمي الحرب، وتراقص الذئاب فوق جثث الضحية.

اقرأ المزيد
٢٢ أغسطس ٢٠١٨
هل يحتاج السوريون جيشاً؟

قد يفاجئ بعضهم عنوان المقالة، وخصوصا الذين تربوا على الشعارات البرّاقة، وحب "القائد وجيشه الباسل"، وسيسألون على نحو بديهيّ: وهل تقام الدول على غير الجيوش، أو هل لدولةٍ أن تعيش بدون جيش؟ لعلَّ المتأمل عميقاً في حال جيوشنا العربية، وما قامت به منذ تأسيسها، يدرك حقيقة الوهم الكبير الذي تعيشه شعوب تلك الدول، كما يدرك خلفية تعظيم هذه الجيوش، ومباركة أفعالها الشجاعة، وإنْ لم تخض أيّة معركة مشرّفة، ولعلَّ القدسية التي يحيطها الحكام بجيوشهم تستمدّها من قدسية قائدها الرجل الأوَّل في هذه الدولة أو تلك، رئيساً كان أم ملكاً أم أميراً.. إذ هو مطلق اليد في كل شيء، وهو "ظلِّ الله على الأرض"، والويل لمن يتعرّض له، أو لجيشه، وإن بوردة (مظاهرة داريا السلمية في سورية حملت الورود للجيش عام 2011، فكافأتها أجهزة الأمن بألف شهيد تحت التعذيب).

ذات يوم، تعرَّضت صحيفة النور السورية إلى مطلبٍ محقٍّ لعاملين مدنيين في معامل الدفاع قرب بلدة السفيرة شرق حلب، فكان أنْ جاء رسولٌ برتبة مساعد، ليبلِّغ مسؤول الصحيفة رسالة شفوية من قيادته، تتضمن تحذيراً من خوض الصحيفة بمسائل كهذه، وإلا ستغلق! وللعلم، تعود ملكية الصحيفة للحزب الشيوعي السوري عضو الجبهة الوطنية التقدمية الذي يفترض أنَّ له "نتفة" شراكة مع حزب البعث في حكم البلاد، ما يوجب مخاطبته ضمن الأقنية القانونية. لكن القانون هنا هو الجيش، "جيش الشعب" (أطلق "البعث"، منذ اغتصب السلطة، على الجيش اسم "جيش الشعب" و"الجيش العقائدي"، ومنع عنه السياسة وفكرها، والخوض فيها لغير البعثيين).

وصحيفة النور مرخّصة منذ خمسينيات القرن الماضي، أيَّام كان لسورية دولة وقانون وأحزاب وصحافة، وقد أغلقت مع ما أغلق من صحف ومجلات ونواد وجمعيات بقرارٍ صدر عمَّا سمّيت "قيادة الثورة" للانقلاب البعثي الذي جرى في 8 آذار/ مارس عام 1963. أعيد إصدارها صحيفة حزبٍ منضو تحت راية الجبهة الوطنية التقدمية عام 2001 بـ: "عطاء ميمون" من القائد "الملهم" بشار الأسد، بطل شعاري "التطوير والتحديث!" تيمنّاً بوالده بطل التشرينيْن "التصحيح والتحرير".

يستنتج المتتبع لواقع حال الحكم في سورية قاعدة مهمة، أنه: "كلما ارتفعت وتيرة التعظيم كثرت عيوب المعظَّم ونواقصه"، ومن هنا، ومع كل أسف، يمكن القول: إنَّ هذا الجيش "المعظَّم" لم يربح حرباً ضد عدوٍّ مبين، فلا معركة ميسلون ضد فرنسا عام 1920 ولا حروب 1948/ 1967/ 1973 ضد إسرائيل. وإذا كان لمعركة ميسلون (24 يوليو/ تموز 1920) وحرب 1948 ظرفاهما الموضوعيان، فنتائج معركة ميسلون محسومة سلفاً، فلا تكافؤ بين الجيشين! لكنَّ وزير الدفاع السوري آنذاك، يوسف العظمة، أرادها إعلاء لقيم وطنية وأخلاقية، وكيلا يقال: إنَّ الفرنسيين دخلوا دمشق دونما مجابهة السوريين لهم.

أما حرب 1948 فكانت حرباً عربية ارتبطت، آنذاك، بظروف العرب المختلفة/ المتخلفة. وما يهم هنا حرب يونيو/ حزيران التي جاءت، بعد تحضيرٍ لها وتوقُّع حدوثها، وبعد "طفح" ثوري غطَّى المساحة العربية من محيطها إلى خليجها، وأعلن كثيرون ممن دقّوا طبولها أنهم سيلقون بالإسرائيليين إلى البحر، خلال أربع وعشرين ساعة. أما حرب تشرين (أكتوبر) عام 1973 التي على الرغم من ربحها المعلن كان طرفاها، مصر وسورية، قد خسرا أراضي جديدة، وأسفرت الحرب عن زيارة أنور السادات الإسرائيليين رافعاً الراية البيضاء، ليتبعه حافظ الأسد بتوقيع اتفاقية الفصل بين القوات، وليعدَّ الاتفاقية انتصاراً، بل غسْلاً لعار هزيمة حزيران، إذ استعاد القنيطرة، مدمَّرةً، وكان أن سلّمت عامرة قبل وصول العدو بزمن! (يُذْكَر أنَّ عبد الرحمن الأكتع وزير الصحة خلال حرب حزيران، تساءل في أول اجتماع لمجلس الوزراء السوري بعد الهزيمة، عن سبب تسليم القنيطرة، دونما قتال، مطالباً بمحاسبة المسؤول عن ذلك الفعل، فما كان من حافظ الأسد وزير الدفاع آنذاك، إلا أن قام إليه، وصفعه بلؤم وقسوة، ما جعله يغادر، رحمه الله، الاجتماع والوزارة معاً، وإلى الأبد).

وإذا كان لا بد من ذكر الحروب الرابحة، فما جرى في لبنان بين عامي 1974 و1982 من اقتتالٍ جعل الجيش السوري، أراد أم لم يرد، أن يقف في الصفّ الذي تقف فيه إسرائيل، فمنذ دخوله وقف ضد جبهة الرفض (تحالف بين فصائل فلسطينية تؤيدها القوى الوطنية اللبنانية)، وفي النهاية، ضد منظمة التحرير الفلسطينية التي أبعدت عن حدود وطنها آلاف الكيلومترات. كما أنه وقف متفرّجاً، إن لم نقل قد ساعد، على مجازر تل الزعتر وصبرا وشاتيلا.

وهناك أيضاً حرب الخليج الثانية التي دخلها الجيش السوري تحت جناح تحالفٍ قادته الولايات المتحدة الأميركية، ليحظى حافظ الأسد بغنائم وفيرة. وكان أن غطَّى أمر دخوله برسالة نُصْحٍ، وجهها إلى الرئيس صدام حسين الذي لا شك أنَّ خطأه باحتلاله الكويت كان فادحاً.

وقبل الدخول إلى حروب الجيش السوري، ضدَّ شعبه، لا بد من الإشارة إلى صراعاته الداخلية وانقلاباته التي قادت إلى خسارة مئات الضباط، وربما آلاف، قتلاً أو تسريحاً، وزرعاً للفتن والأحقاد، وخصوصا بعد تسلُّط حزب البعث. أما الحروب الداخلية فكثيرة، منها: قصف مسجد السلطان في مدينة حماة في 1964، ما تسبّب بنحو سبعين إلى مئة قتيل. ثمَّ جاء تدمير حماة بالكامل عام 1982 على يد طلائع الجيش وقواته الخاصة، وحصد ما بين ثلاثين ألفا إلى أربعين ألف قتيل. وفي حلب، كانت مجزرة حي المشارقة عام 1980 التي التهمت ثمانين من الناس الأبرياء. وثالثة الأثافي هي ما نحن فيه الآن من حربٍ لا تزال تترك في المجتمع تأثيراتها المادية والاجتماعية والروحية، وتخلِّف أمراضاً على غير صعيد! وقد خلخلت كيان المجتمع السوري وبنيته. وانتهت إلى الاستعانة بدولٍ أجنبية لتدمير سورية، ورسم مستقبلها.

وفي العودة إلى أسباب بدء هذه الحرب، لا يوجد ما يستوجب نشوبها، فلا عدوَّ هدَّد الديار، ولا شعباً منع جيشاً قام إلى استرداد حقوق وطنه المضيَّعة، فتطلَّب قتله، أو سجنه، أو تهجيره، فكل ما جرى أنَّ الشعب طالب بجزءٍ من حرية تستقيم معها حياته.

كلَّ الجيوش تربح وتخسر، وهذا عادي، لكن غير العادي، بل المعيب حقاً، أن يعوِّض الجيش خسائره بانتصاراتٍ، وهمية على شعبه ووطنه. وفي عودة إلى العنوان يتجدّد السؤال: ما فائدة الجيش الذي يلتهم موازنة الدولة، ويكون سوطاً على الشعب؟ بل ما الذي يُرتجى منه في ظل موازين قوى عالمية ليست في صالحه. ولعلَّ مجريات حرب تشرين خير دليل، إضافة إلى أنَّ شراءه الأسلحة ينعش بيوتات السلاح التي من مصالحها إشعال الحروب بين الشعوب (أبرمت روسيا صفقات سلاحٍ بأكثر من خمسة وثلاثين مليار دولار، ناهيكم باحتساب الحرب السورية تدريباً للقوات الروسية، وتجريباً للأسلحة الجديدة كما أعلن الرئيس فلاديمير بوتين). وما يمكن استنتاجه أنَّ التجربة السورية مع الجيش وحكم العسكر لم ينجم عنها إلا تمكين الاستبداد وترسيخ التخلّف. فاستبدال الجيش بشرطة داخلية تحفظ نظام الدولة، وتفتح الطريق أمام نظامٍ ديمقراطي، يساهم في التنمية الشاملة التي هي نصرٌ للمجتمع والإنسان، ووراء كل تقدّم في عالمنا المعاصر.

اقرأ المزيد
٢١ أغسطس ٢٠١٨
قمة حول سوريا

آخر الخطوات الروسية في معالجة القضية السورية، إعلان المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف، أن مشاورات جارية للتحضير لقمة حول سوريا، تجمع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مع زعيمي تركيا رجب طيب إردوغان وإيران حسن روحاني. وقال بيسكوف إن موعد القمة سيحدد بعد تنسيق جداول أعمال الرؤساء الثلاثة، مضيفاً أنها قد تعقد في بداية سبتمبر (أيلول) المقبل.

وفكرة قمة حول سوريا، فكرة جيدة، وقد تصير فكرة جدية في إيجاد معالجة للقضية السورية، التي امتدت تداعياتها الكارثية طوال نحو ثماني سنوات دون أن تتبلور لها نهاية حاسمة سواء في حل سياسي أو عسكري. بل هي مرشحة للاستمرار وسط تعقيدات وتشابكات متزايدة، تحمل المزيد من المآسي والكوارث، ليس للسوريين فقط، وإنما للمحيطين الإقليمي والدولي، بما تركته من تداعيات على المستويين الداخلي والخارجي.

غير أن المفترض في القمة، التي يمكن أن تعالج القضية السورية، أن تتوفر لها بيئة مناسبة وشروط حل، بيئة تؤكد رغبة المجتمع الدولي في إيجاد حل للقضية، وأن تشترك في القمة القوى الفاعلة والمؤثرة في القضية السورية أو الأهم في هذه القوى، ثم أن تتوفر إرادة سياسية وعملية لتنفيذ ما يتم الاتفاق عليه من خطوات وإجراءات، وأن تراعي مخرجات القمة مصالح الأطراف المختلفة في القضية، والأهم مما سبق كله، أن تراعي القمة عوامل تفجير القضية السورية، والتي جعلت السوريين يطلقون ثورة ضد نظام استبدادي من أجل الحرية والعدالة المساواة، وتفتح الأبواب باتجاه إجراء متغيرات جوهرية في طبيعة النظام القائم في سوريا.

وبالمقارنة بين الفكرة الروسية للقمة الثلاثية المرتقبة حول سوريا، وفكرة قمة قادرة على إيجاد حل للقضية السورية، يمكن القول، إن الفكرة الروسية، لا يمكن أن تؤدي إلى حل سوري، ولا حتى إلى معالجة جدية وعملية لواحدة من موضوعات أساسية في القضية السورية، مثل قضية المعتقلين والمختفين أو قضية إعادة اللاجئين والمهجرين، ولا حتى لقضية تزداد سخونة مثل قضية إدلب، التي تحمل مزيدًا من التداعيات الكارثية في سوريا، إذا قرر النظام وحلفاؤه وبينهم روسيا وإيران الهجوم على إدلب، لإعادتها إلى حظيرة نظام الأسد تحت شعار «مكافحة الإرهاب».

فأطراف القمة المرتقبة، تتشكل من روسيا وإيران الحليفين الرئيسيين لنظام الأسد، وقد حافظا عليه، ومنعا سقوطه مرات ومرات في السنوات الماضية، بل دافعا عن كل جرائمه، وقدما له كل المساعدة في استمرار ارتكابه تلك الجرائم، ويسعيان بكل السبل لحل في سوريا، يحافظ على النظام ورأسه، وإعادة تأهيله في العودة إلى المجتمع الدولي، وهو ما يجعل القمة المقترحة، تخدم هذا السياق.

لقد اختلفت سياسات تركيا في القضية السورية عن السياسات الروسية – الإيرانية، قبل أن يجتمع الأطراف الثلاثة أواخر عام 2016، ويطلقوا إعلان موسكو للحل السوري باعتباره تشاركية ثلاثية الأطراف، وسط تعقيدات أحاطت بالموقف التركي في سوريا لعجزه عن الدخول في مواجهة مع روسيا بعد تدخلها العسكري في سوريا أواخر عام 2015. وحرص أنقرة على عدم إغلاق أبواب العلاقات الثنائية مع إيران، وبعد فشل تركيا في الحصول على دعم ومساندة غربية لموقفها في سوريا، وعزوف حلف شمال الأطلسي عن دعمها كعضو أصيل في الحلف، وصاحب أكبر قوة عددية عسكرية بين أعضائه، وكلها أسباب دفعت تركيا للانخراط في تشاركية مع روسيا وإيران، هدفها حصول تركيا على ما أمكن من مكاسب بأقل الخسائر وسط رمال القضية السورية المتحركة.

وللحق فإنه وبمقدار ما كان الحضور التركي مقوياً للتشاركية الروسية-الإيرانية في سوريا بانضمام تركيا إليها باعتبارها صاحبة أوراق كثيرة، فإن حضورها في التشاركية حد ولو جزئياً من اندفاعات موسكو وطهران، لكنه لم يمنع تواصل مسارهما السياسي والميداني في الواقع السوري من أجل تكريس حل يحقق أهداف تحالفهم مع نظام الأسد، رغم الاعتراضات التركية، التي ظهرت هنا أو هناك، والتي سوف تظهر في القمة الثلاثية المرتقبة.

على أن العلة الأساسية في القمة الثلاثية، لا تكمن فقط في محدودية حضورها، واعتبارها جزءا من «تشاركية واحدة»، تسود الاختلافات الظاهرة والباطنة بين مكوناتها، وإنما أيضا في النتائج التي يمكن أن تخلص إليها القمة في تجسيد رؤية لحل في سوريا، لا يجد له حاملاً سياسيا من أطراف أساسية في الصراع السوري وحول سوريا في المستويات الداخلية والخارجية، حيث يغيب عنها السوريون الرافضون لاستمرار نظام الأسد، ويغيب عنها فاعلون أساسيون إقليميون ودوليون في القضية السورية من العرب والأوروبيين والولايات المتحدة، ودون هؤلاء لا يمكن رسم أي حل في سوريا، وكل هؤلاء يؤكدون ضرورة الحل الدولي وفق مسار جنيف، لا الحل بمحتوى توافق روسي- إيراني حتى لو شاركت فيه تركيا.

اقرأ المزيد
٢١ أغسطس ٢٠١٨
هل تستطيع روسيا تأهيل الأسد؟

 تسارع روسيا الى إغلاق ملف الحرب في سورية، وتسعى إلى إيصال رسالة الى كل الأطراف الإقليمية والدولية أن الحرب انتهت، ليس مهماً كيف، المهم أن في سورية دولة وحكومة شرعية وعلى الآخرين قبول هذا الأمر تماماً كما تقبل المجموعة الدولية أي حكومة وطنية في العالم وصلت إلى السلطة من طريق الانتخابات، فليس من حق أي طرف وضع اشتراطات سياسية وتحديد كيف يكون أداء السلطات الوطنية، ما دامت القضية مرتبطة بالسيادة الداخلية، وما دامت حكومة هذه الدولة لا تمارس أعمالاً غير قانونية على المستويين الإقليمي والدولي.

بيد أن روسيا تعرف حق المعرفة أن نظام الأسد لا يشبه أي حكومة منتخبة في العالم، بل هو نظام ارتكب مذابح منهجية بحق محكوميه، كما أنه لم يبق نمط من أنماط حروب الإبادة من دون أن يجربه على البيئات التي ثارت عليه، كما أنه ومنذ سنة 2011 وحتى هذا التاريخ، أسقط القانون في شكل نهائي، ولم يلجأ إلى قانون الطوارئ، على رغم قساوة هذا القانون أصلاً، بل حوّل البلاد إلى فوضى رهيبة كان الهدف منها تحفيز عناصر ميليشياته وميليشيات حلفائه على زيادة إنتاجيتهم في القتل والقمع إلى أبعد الحدود، ما دام لا قانون يحاكمهم ولا ضوابط تردعهم، وكل عنصر ميليشياوي يستطيع اتخاذ القرار وفق تقديره ومزاجيتيه.

ويؤشر حجم الدمار الكبير والعدد الهائل للقتلى والمشوّهين الى تلك الحقيقة الصلبة، لكن هذا بدوره يثبت حقيقة تسعى روسيا الى تمريرها، وهي أن هذا النظام الذي أسقط القانون عمداً لسحق المعارضة أسقط في الوقت نفسه أهليته القانونية لحكم البلاد، فالقانون ليس عباءة يتم خلعها متى ما أراد الحاكم، وهذه الحالة لا تستقيم مع مسألة إعادة تأهيله سياسياً، فيما الوضع الطبيعي أن يجري توصيفه كطرف من أطراف الصراع، التي يجب أن تحاكم على ارتكاباتها في الحرب، ولا يحق له تالياً احتكار المجال السياسي وادعاءه تمثيل الشعب ولا حتى غالبيته، ولا تحويل إجراءات الاستسلام، التي حصلت على أيدي أطراف خارجية، إلى وثائق تسويات نهائية وإعادة تأهيل نظام الأسد حاكماً على الجغرافية والديموغرافية السوريتين.

تدرك روسيا كامل المشهد وجميع التفاصيل التي شكلته، فقد عملت على صياغة الجزء الأكبر من هذا المشهد وتركيبه، وهي شريك قاتل للأسد في جميع الأرجاء السورية، وتعرف أن ملف الأسد مثقل بعشرات، إن لم يكن بمئات القرارات من المنظمات الدولية وغير الحكومية، وبالتالي فهي تواجه مهاماً تكاد تكون مستحيلة على صعيد إعادة تأهيل الأسد دولياً، بخاصة أن الأمر وصل إلى حد اندماج تلك القرارات في القوانين الوطنية والإقليمية للكثير من الدول، ولم يعد حكراً على المنظمات، ما يجعل من صعوبة تمرير تأهيل الأسد تبدو كأنها لعبة حاوي تمارسها الديبلوماسية الروسية وهي تعرف أن الجمهور المتلقي يعرف أن الأرانب التي يخرجها لافروف من كمه ليست حقيقية.

تدفع هذه الحقيقة المربكة روسيا إلى اجتراح تكتيكات وأساليب تحاول من خلالها اختراق هذا الجدار الدولي بوجه تأهيل نظام الأسد، ثم تفكيكه في مرحلة لاحقة، وتراهن على أن العالم الذي تعب من الأزمة السورية لديه استعداد كبير للتغاضي عن تفاصيل كثيرة حصلت في الحرب السورية، وبالتالي فإن هذا العالم تنقصه فقط المحفزات ليتجاوز العقبات التي تم وضعها في لحظة « ملتبسة»، وأن استمرار روسيا في الإلحاح على هذا الطلب وعدم التراجع عنه سيأتي بنتائج جيدة، فكما تراجعت القوى الدولية عن هدف إسقاط النظام، وكذلك سمحت له بإعادة سيطرته على أجزاء واسعة من سورية متغاضية عن أساليبه الرهيبة، فلا بد أنها ستقبل في النهاية تأهيل الأسد.

إضافة الى ذلك، تراهن روسيا على أسلوب قضم المواقف الدولية بهذا الخصوص، وقد جربت بنجاح هذا الأسلوب عسكرياً حيث قضمت مناطق المعارضة قطعة تلو أخرى حتى أخرجتها نهائياً من اللعبة، ويبدو أن روسيا، المبهورة بنتائج هذا الأسلوب، تعمل على ترحيله للمجال الديبلوماسي في مشروعها إعادة تأهيل الأسد، والواضح أنها تبدأ من الخواصر الرخوة للبيئة الدولية وتضغط عليها بكثافة لتحقيق هذه الغاية، مثل الدول الإقليمية، لبنان والأردن وتركيا، التي لديها مشاكل معقدة على صعيد مسألة اللاجئين السوريين، وتبدأ روسيا كذلك من قضايا ليست لها علاقة بالسياسة، بل في الغالب قضايا تقنية واقتصادية وإدارية، مثل فتح المعابر الحدودية حيث يستفيد الجميع من التجارة الخارجية والبينية، وكذلك إعادة اللاجئين إلى مناطقهم في سورية، وتخليص بلدان الإقليم التي تعاني من ضغوط على الخدمات والموارد، ما يتسبب بأزمات داخلية في هذه البلدان.

وضمن هذا التكتيك، تسعى روسيا إلى زعزعة الموقف الغربي وإضعافه، من خلال تحقيق اختراقات في مواقف بعض دوله، ولا بأس إن حصل ذلك تحت عناوين غير سياسية، مثل استمالة فرنسا إلى تقديم مساعدات إنسانية، أو النقاش مع ألمانيا حول أفكار معينة بخصوص عودة اللاجئين، ثم يتطوّر الأمر إلى أن مثل هذه الإجراءات تستدعي فتح قنوات تنسيق وتواصل مع نظام الأسد، لأغراض تقنية بحتة ومن أجل إدارة هذه العمليات، وذلك يستدعي بالطبع إعادة تشغيل أجزاء من سفارات هذه الدول، بمستوى أقل من سفير، قائم بالأعمال مثلاً أو قنصل، للإشراف على تنفيذ عملية إعادة بعض اللاجئين، وتبادل المعلومات في شأن بعضهم وهكذا. ولتدعيم هذا التوجه، تصر روسيا على أنه لا يوجد محتوى قانوني، ضمن حزمة الادعاءات على نظام الأسد، يمنع إعادة تأهيل النظام، فما دام مجلس الأمن لم يصدر قراراً واحداً، او بالأحرى لم تسمح روسيا بتمرير قرار واحد يثبت ارتكاب الأسد جرائم الحرب، وما دام مجلس الأمن هو المرجعية القانونية والسياسية الأعلى بين المنظمات الدولية، فكل ما عداه ليست له قيمة.

غير أن أخطر تكتيك تقوم به روسيا، هو تحريف رواية الحرب نفسها، وفي الوثائق التي قدمتها لدول الجوار كـأفكار للنقاش معها حول إعادة اللاجئين، مرّرت روسيا شرطاً غريباً، وهو ضرورة تقديم المعارضة السورية ضمانات بعدم تهديد حياة اللاجئين العائدين، فالواضح أن روسيا تريد تثبيت فكرة أن المعارضة هي السبب في تهجير السوريين، ثم أين هي المعارضة في حمص ودرعا والغوطة حتى يمكنها القيام بذلك؟

لا شك أن روسيا ستعمل بكل طاقتها من أجل إعادة تأهيل نظام الأسد، وستسعى إلى تفكيك مواقف الدول والأطراف بمختلف الطرق والوسائل، لكن في المقابل، يوجد موقف لا يزال صلباً حتى اللحظة، ولا يبدو أنه قابل للتطويع في المدى المنظور، ولأن روسيا مستعجلة في قطف ثمار تدخلها في سورية، فقد يستدعي الأمر بحثها عن بدائل لخطة تأهيل الأسد، وهنا مكمن رهان الغرب على التشبث بمواقفه.

اقرأ المزيد

مقالات

عرض المزيد >
● مقالات رأي
٢٤ يناير ٢٠٢٥
دور الإعلام في محاربة الإفلات من العقاب في سوريا
فضل عبد الغني - مؤسس ومدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان
● مقالات رأي
١٦ يناير ٢٠٢٥
من "الجـ ـولاني" إلى "الشرع" .. تحوّلاتٌ كثيرة وقائدٌ واحد
أحمد أبازيد كاتب سوري
● مقالات رأي
٩ يناير ٢٠٢٥
في معركة الكلمة والهوية ... فكرة "الناشط الإعلامي الثوري" في مواجهة "المــكوعيـن"
Ahmed Elreslan (أحمد نور)
● مقالات رأي
٨ يناير ٢٠٢٥
عن «الشرعية» في مرحلة التحول السوري إعادة تشكيل السلطة في مرحلة ما بعد الأسد
مقال بقلم: نور الخطيب
● مقالات رأي
٨ ديسمبر ٢٠٢٤
لم يكن حلماً بل هدفاً راسخاً .. ثورتنا مستمرة لصون مكتسباتها وبناء سوريا الحرة
Ahmed Elreslan  (أحمد نور)
● مقالات رأي
٦ ديسمبر ٢٠٢٤
حتى لاتضيع مكاسب ثورتنا ... رسالتي إلى أحرار سوريا عامة 
Ahmed Elreslan  (أحمد نور)
● مقالات رأي
١٣ سبتمبر ٢٠٢٤
"إدلب الخضراء"... "ثورة لكل السوريين" بكل أطيافهم لا مشاريع "أحمد زيدان" الإقصائية
ولاء زيدان