ثمّة تضخيم ومبالغة كثيران في اعتبار مقال الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، في صحيفة نيويورك تايمز الأميركية، بمثابة رسالة وداع للتحالف التركي - الأميركي، لكن المؤكد أن المقال يقرع ناقوس خطرٍ يحدق بالتحالف الوثيق الذي دام عقودا، وذلك في خاتمته: "على واشنطن، قبل أن يفوت الأوان، التخلي عن الفكرة المضللة القائلة إن علاقتنا يمكن أن تكون غير متناظرة، وأن تقبل حقيقة أن لدى تركيا بدائل".
وهناك مبالغةٌ في وصف توتر العلاقات التركية - الأميركية، وإذا كان لا يمكن القول إن علاقات البلدين على ما يرام، فإنه أيضاً لا يمكن زعم أن الأزمة هي الأعمق من نوعها عبر تاريخ هذه العلاقات. وهي أزمة لا تقتصر على سوء العلاقات بين تركيا وأميركا فقط، إنما تمثل أزمة ينعكس تأثيرها على النظام العالمي الذي أسّسته أميركا، وأصبحت مركزاً لمحوره، إذ رأينا أخيرا إن أميركا تعاني من مشكلات مع جميع حلفائها وأعدائها، وليس تركيا فقط.
يمكن القول إن الأزمة الحالية شبيهة بالأزمات السابقة إلى حد كبير، ولم تصل إلى عمق السابقة وزخمها أيضاً، فقد وصلت العلاقات الأميركية - التركية إلى ذروة التوتر بعيد أزمة قبرص، وبادرت الادارة الأميركية بتطبيق حصارعلى تركيا في تلك الفترة، لم تصل الأزمة الحالية إلى درجة أن تكون الأعمق بعد، فليس ثمّة عقوبات ملموسة وواقعية من أميركا.
هناك عوامل متداخلة جعلت من العلاقات الأميركية - التركية متشابكة ومعقدة، وتقوم على عناصر تاريخية وجيواستراتيجية ومصالح مؤسّسية راسخة، يصعب تجاوزها في معادلات السياسات الخارجية، وتوجهات المواقف الإقليمية، ليس فقط انطلاقًا من الروابط القائمة بين البلدين في إطار حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وإنما أيضًا استنادًا إلى العلاقات على المستويات الاستخباراتية والعسكرية والاقتصادية.
مع وصول البيزنس مان، دونالد ترامب، إلى البيت الأبيض، بدأت صورة الولايات المتحدة تشهد تغيرات جذرية، من ناحية إدارة البلاد، ووضعها على الصعيد الدولي، فبعد مرحلة من الانطواء والتراجع النسبي في عهد الرئيس باراك أوباما، عادت الولايات المتحدة إلى مسرح الأحداث هذه المرة بصورة مختلفة عن المألوف، ولا سيما مع حلفاء واشنطن.
في ظل إدارة ترامب، لم تمنح البعثات الدبلوماسية الأميركية في تركيا الأتراك تأشيرات دخول لفترة طويلة، و فرضت حظرًا على إدخال الأجهزة الإلكترونية إلى الطائرات المتجهة من تركيا إلى الولايات المتحدة، وان توقيف نائب المدير العام لمصرف تركي، كما استمر الدعم العسكري الأميركي للامتداد السوري لحزب العمال الكردستاني، المصنف إرهابياً في تركيا ولدى "الناتو"، بالإضافة إلى الملف المتعلق بتنظيم الكيان الموازي (جماعة فتح الله غولن).
"مع وصول ترامب، إلى البيت الأبيض، بدأت صورة الولايات المتحدة تشهد تغيرات جذرية، من ناحية إدارة البلاد، ووضعها على الصعيد الدولي"
صحيح أن مراقبين كثيرين اعتبروا قضية منظومة إس 400 الدفاعية الروسية التي ترغب تركيا باستيرادها من موسكو، وكذلك موقف أنقرة المعلن من أي عقوبات أميركية جديدة على إيران، السبب وراء الأزمة الحالية، واعتبار قضية القس الأميركي المعتقل لدى تركيا، ثم تحويله إلى الإقامة الجبرية، ليست سوى ذريعة، إلا أن جوهر القضية هي استقلالية القرار التركي.
حصل ترامب على أصوات 80% من الإنجيليين في انتخابات الرئاسة عام 2016، ومن المقرر إجراء انتخابات جزئية في الولايات المتحدة في نوفمبر تشرين الثاني، وتوالت التهديدات من ترامب، ونائبه مايك بنس، مع اقتراب موعد هذه الانتخابات، بفرض عقوبات على تركيا، في حال عدم الإفراج عن القس. وقد يكون التصعيد مرتبطا بملفات أميركية داخلية بحتة، لا علاقة لتركيا بها، بغرض استجداء دعم الإنجيليين في هذه الانتخابات. وكانت المسألة وليدة محاولات ترامب، للتأثير على السياسة الداخلية لبلاده. بتعبير آخر، حاول ترامب تحقيق انتصار خارجي ضد تركيا من أجل ضمان استمرار دعم الإنجيليين له في الداخل الأميركي.
ولم يعد خافيا أن الأزمة الناشئة بين تركيا وأميركا ليست مشكلة على المدى القصير، إنما هي تراكم مجموعة من المشكلات المشابهة في هذه الفترة، إذ تمر أميركا بفترة أزمات مختلفة مع دول أخرى عديدة، الحلفاء والأعداء منها.
وليس من الصعب الوصول الى حل مشترك للأزمة، بين حكومتي البلدين، في إطار مباحثات ومفاوضات متبادلة، فالمسألة ليست معقّدة إلى هذه الدرجة. قد تستغرق المسألة أسابيع وحتى أشهر، لأن قضية القسّ ليست كافية، لتكون عاملاً مؤثراً على مستقبل العلاقات بين البلدين، لكن الجميع يدركون أن المسألة لا تقتصر على قضية القس فقط، ولن تنتهي جميع المشكلات مع وصول هذه القضية إلى حل مشترك.
ستوفر المعارضة المتزايدة في الاتحاد الأوروبي ضد الولايات المتحدة، لأسباب اقتصادية، أرضية مناسبة لتركيا، من أجل تخفيف أي تصعيد من الجانب الأميركي. وهنا على أنقرة إقامة تعاون مع العواصم الأوروبية المتضرّرة من التحركات الأميركية أخيرا، ومن دون طرح مواضيع جدل جديدة، كتطبيق عقوبة الإعدام، بالإضافة إلى توجهاتها المستمرة نحو روسيا والصين، فالتحرّك التركي الواضح للتقارب مع بكين وموسكو، أخيرا، يشير إلى استعداد أنقرة لما هو أسوأ.
يبقى القول إنه، في ظل هذا التوتر مع إدارة ترامب، تتقدّم العلاقات التركية الروسية بخطوات واثقة على كل الأصعدة، بدءًا من الاقتصاد والطاقة، مرورا بالتجارة والسياحة والدبلوماسية والتعاون العسكري والاستخباري، ويثير هذا التقدم والتعاون المتنوع قلق الغرب.
يحدث أن يزور سوريون أو أجانب دمشق، فيرون أمامهم سيارات تسير، ومارّة يتحادثون ويضحكون، ومحلات عامرة بالخضار أو الفواكه، فيعودون إلى بلدانهم، ويقولون إن الأمور على ما يرام، وقد انتهت الحرب وحل السلام. هذا ما يحاول الوزير الروسي، سيرغي لافروف، أن يقنع به أيضا الدول الصناعية، المستودع الأكبر للأموال والرساميل الباحثة عن استثمارات وعقود وصفقات، حتى تنخرط معه في عملية إعادة الإعمار التي يطمح من خلالها إلى الحصول على الموارد اللازمة، لتسيير نظام الأسد المنهار، وتغطية تكاليف الاحتلال الروسي، وإرضاء الحلفاء الإيرانيين الذين يعيشون أكبر ضائقة مالية، بعد فرض العقوبات الأميركية الجديدة، وانهيار سعر صرف العملة، وانفجار الغضب الشعبي على سياسات الولي الفقيه، ورفع شعارات إسقاط الديكتاتور في المسيرات الاحتجاجية الشعبية المستمرة من دون توقف منذ أسابيع.
صحيحٌ أن النظام نجح، بمساعدة الروس والإيرانيين، لا ينبغي أن ننسى ذلك أبدا، أي ليس بقواه الذاتية وقدرته على التنظيم وتوفير الموارد الضرورية، في حسم المرحلة الأولى من الحرب لصالحه، لكن الحرب لم تنته بعد، ولن تنتهي، كما يدلّ على ذلك سلوك النظام نفسه، ليس في المناطق التي لم يضمن بعد إلحاقها الكامل بمناطق سيطرته، ولكن في مناطق حكمه التي تتعرّض باستمرار لتفجيرات ومنازعات وحروب محلية بين أنصاره والمليشيات التي يستند إليها للاستمرار بالبقاء. بل أكثر من ذلك، بسبب استمراره في تطبيق سياسة فرّق تسد وزرع الفتنة بين أطياف الشعب وطوائفه، حتى يضمن لنفسه تحييد فئات المجتمع وجماعاته، واحدتها بالأخرى، ويخفّف من أعباء قمعه المباشر، ويعوّض عن نقص الجنود والمادة البشرية التي يحتاجها لترميم قواته التي ذابت في نار المعارك التي أطلقها، متأملا أن يقطف ثمار النزاعات الاهلية مناشداتٍ لبقائه في السلطة من الناس ذاتهم الذين عانوا من قهره وتنكيله. هذا هو الوضع تماما في مدينة السويداء جنوب سورية التي نصب لها "الرئيس" فخا لا تزال تبحث عن المخرج منه، بعد أن نزع من سكانها أسلحتهم الشخصية، ونقل الدواعش من حوض اليرموك في دمشق إلى البادية القريبة منهم، وغطّى هجومهم على المدينة، قبل أن يرمي التهمة على العشائر البدوية المحيطة بها، لإعادة مناخ الحرب التقليدية بين الجماعتين، والتدخل باسم الأمن والتهدئة، ووضع اليد على المدينة، وإجبار شبابها على الالتحاق بقواته، بعد قرار شيوخها وقادتها المحليين برفض مشاركتهم في معارك ضد إخوانهم السوريين في الجبهات الأخرى، والاقتصار على حماية مدينتهم من الاعتداءات الخارجية، وردّا أيضا على رفض سكان المدينة شراء منتجات التعفيش، أي منهوبات المليشيات الأسدية من درعا ومحافظتها، كما جرت العادة بقرار من النظام نفسه.
ومع ذلك، لا يتعلق رفض الدول الأوروبية تلبية الطلب الروسي بشكّهم في مقدرة النظام على حسم المعركة في أغلب المناطق السورية، بما في ذلك في مناطق الشمال والشمالين الشرقي والغربي، ضد ما تبقى من مناطق المعارضة، وتلك التي يسيطر عليها حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، القائد لقوات سورية الديمقراطية (قسد)، فليس لدى الروس أي حرصٍ على تجنّب الكارثة في إدلب ونواحيها، ولا لدى الأميركيين التزام بحماية سلطة "قسد" الكردية، أو بتحويل منطقة سيطرتها إلى قاعدةٍ ثابتة لنفوذهم. كما لا يتعلق بعدم ثقة الدول الغربية في إمكانية حل مشكلة اللاجئين، في إطار إعادة تأهيل النظام القائم، ومن دون التّقدّم في عملية انتقال سياسي، لا يزالون مصرّين عليها لضمان الحد الأدنى من الشروط السياسية والأمنية الضرورية للاستثمار والإعمار، والبدء بمعالجة أوضاع ملايين النازحين والمشرّدين داخل سورية نفسها، ومعرفة مصير ملايين المساكن المدمرة المهدّدة بالاستملاك من الدولة وأنصارها بالقانون رقم 10 الذي صدر هذا العام، وأوضاع المدن المزروعة بالألغام التي يصعب على المدنيين العودة إليها. المشكلة أكبر من ذلك وأعمق، وأكثر إشكالا بكثير، وهي تفسخ النظام القائم ذاته وانحلاله، حتى داخل المناطق التي تقع تحت سيطرته، وتضم الجزء الأكبر من السكان، وحلول نظام آخر مكانه، هو ذاك النظام الذي أقامته المليشيات المحلية، والذي تسهر عليه، وتخضع من خلاله المجتمعات المحلية لسلطتها ومصالحها وأهوائها. وهذا ما يطرح تحدياتٍ لا أحد يدري كيف يمكن مواجهتها، لا أصحاب "النظام" الرسمي، ولا حماتهم من الروس والإيرانيين، ولا المتعاطفون معهم من الدول الغربية والعربية.
أول هذه التحدّيات التي تكاد تصبح مستحيلة الحل دمار الآلة لإنتاجية، الصناعية والزراعية والتجارية معا، وما يعنيه ذلك من فقدان آلاف فرص العمل، واستحالة إحداث الجديد منها، وذوبان الأجور والموارد، حتى لم يبق في الاقتصاد قطاع مزدهر سوى اقتصاد االغزو القائم على التعفيش، وفرض الخوات وسرقة موارد الدولة، وتفكيك البنى التحتية ونهبها من قادة النظام ومليشيات دفاعه وحماته أنفسهم.
والثاني زوال المجتمع من حيث هو عضوية حية ومتفاعلة، وانقسامه إلى قطائع، داخل المدينة الواحدة، بين موالين ومعارضين، لا يجمع بينهم سوى الحقد والكراهية، وإرادة الانتقام، مع اعتقاد الموالين، أو القسم الأكبر منهم، أن كل ما يملكه خصومهم أو معارضوهم هو غنيمة شرعية لهم، وتعويض محدود عن التضحيات التي قدّموها لبقاء الأسد والنظام، ولا يتردّدون عندما تسنح الفرصة في تجريد الناس من أملاكهم ومواردهم. كما أن تأجيج الانقسامات الطائفية والمذهبية، وتأليب الطوائف المختلفة، أو القوميات المتعايشة بعضها على بعض، أدّى إلى تكوين مجتمعات محلية منطوية على نفسها، تعيش خائفة بعضها من بعض، وإلى إجبار الأفراد على الالتحاق بطوائفهم وعصبياتهم الأهلية، بحثا عن الحدّ الأدنى من الحماية والتضامن الإنساني.
والثالث الغياب الكامل لحكم القانون، مع تسليم الأمن في الأحياء والمدن والقرى لمليشيات الدفاع الخاصة، أي اللاوطنية التي تستخدم كل وسائل التشبيح والتهديد والابتزاز، لتعظيم مواردها، وتتصارع فيما بينها على اقتسام مناطق النفوذ، ومصادر العيش الضيئلة التي بقيت لدى السكان والمجتمعات المحلية.
أما التحدّي الرابع، فهو انهيار النظام الأمني وتفكّكه إلى درجةٍ لم يعد للنظام نفسه قدرة على ضمان أي اتفاق أو التزام، ولا حتى مع المساعدة الكبيرة لحلفائه الروس. ولم يبق في أيدي جماعة النظام لترويع السكان وفرض الإذعان عليهم سوى وضعهم تحت خطر التفجيرات وعمليات الاغتيال والاعتقال الدائمة، بينما تكاد تخلى القرى والمدن من الرجال في سن حمل السلاح.
هكذا، باستثناء القلة الضعيفة من أثرياء الحرب ومفترسي العباد والاقتصاد، ما يميز حياة السوريين اليوم في مناطق النظام هو الجمع بين حياة الفقر والبؤس والبطالة وغياب الأمن والخضوع لسلطة المليشيات التشبيحية وقانونها، والخوف المتبادل لدى السكان، بعضهم من بعض، ومن النظام وحلفائه، وانعدام أي ثقةٍ في المستقبل، أو في عودة الهدوء والأمن. يعزّز من هذا المناخ السياسي والاجتماعي المأساوي استمرار الصراع الإقليمي والدولي، وتمسّك كل طرف من الدول المنخرطة في النزاع بمشاريعها الخاصة، في شمال البلاد وجنوبها وشرقها وغربها.
لا يملك الروس، ولا الإيرانيون، القدرة والإمكانات والموارد، لمساعدة النظام على مواجهة هذه الأوضاع التي سيزداد الشعور بكارثيتها مع انقشاع دخان الحرب والعودة النسبية إلى ما يشبه الحالة الطبيعية، كما هو الحال في قسم من الأراضي الخاضعة لسلطة الأسد. ولن يستطيع الروس، من دون قوة عسكرية كبيرة، لا يريدون المغامرة بإرسالها، السيطرة على المناطق وإخراجها من تحت سيطرة المليشيات التي تتصرّف على أنها ربحت الحرب، وأنها هي بالتالي صاحبة الحق بالتصرّف في أملاك الشعب المهزوم وأرزاقه، والبتّ في تقرير مصيره على مستواها المحلي. أما الرهان لمواجهة هذا الوضع على المليشيات المموّلة من إيران، كما هو الحال اليوم، فهو يعني معالجة الداء بالداء نفسه، وتعميق المشكلة بدل حلها. وإذا لم ينجح سيرغي لافروف في تأمين الدعم الغربي لإعادة الإعمار، أي لتمويل ما تبقى من الحرب وإدارة الاحتلال، ولن ينجح، لن تزيد مكاسب النظام العسكرية سوى في تعميق أزمته السياسية، وإظهار الجوهر الوحشي والمأساوي لخياراته الاستراتيجية، وتضييق الخناق عليه، ومحاصرته بالقضايا الأساسية التي أعلن على شعبه الحرب من أجل التغطية عليها.
يعرف الروس أنهم يضحكون على أنفسهم، وعلى العالم، عندما يتحدّثون عن إعادة الإعمار. لكنهم يعتقدون أن بإمكانهم خداع الغرب، للحصول على الموارد الضرورية لإنقاذ النظام المتهاوي الذي قدّم لهم سورية على طبق من ذهب. والحال لن ينجح الروس، ولا غيرهم، مهما فعلوا، في إنقاذ نظامٍ لا يصلح، وغير قابل للإصلاح، فشلت دول عديدة قبلهم في مساعدته، لأنه قائم على منطق الغزو، والنهب والسلب والاستيلاء، ولا يقبل أي تقاسم أو شراكة مع السكان والمحكومين، ويرفض أي مساومةٍ على حقه في الاحتكار الكامل للسلطة والثروة والنفوذ، ولا يعرف التعامل بغير منطق القوة والعنف الذي يسقيه يوميا لمحكوميه من دون حساب، حتى وهو يعاني سكرات الموت.
لا ينبغي للسوريين انتظار الحل من أحد. وليس في مصلحة الروس، ولا الإيرانيين، إنهاء النظام الذي انتنزع جيل الثورة الأول، ببطولاته وتضحياته اللامحدودة روحه الخبيثة، وحوله جثة هامدة، تفوح رائحة تفسّخها اليوم كل الأنحاء وتتآكلها الديدان. لكن في الوقت نفسه، لن يدخل الركام المتفسخ من تلقاء نفسه في حفرته الأخيرة. هذه وظيفة المعارضة، والمهمّة التاريخية التي تنتظرها.
ما إن انتهت قمة هلسنكي بين الرئيسين الأميركي، دونالد ترامب، والروسي، فلاديمير بوتين، في 16 تموز/ يوليو 2018، حتى شرعت روسيا في حملة علاقات عامة على المستوى الدولي، سعت من خلالها إلى إعطاء انطباع مفاده أنّ "الحرب" في سورية قد انتهت، أو قاربت نهايتها، وأنّ عمليتَي إعادة الإعمار وإعادة اللاجئين والمهجّرين السوريين إلى مدنهم وقراهم تُوشكان أن تبدآ. وكان الرئيس الروسي قد دعا، في المؤتمر الصحافي المشترك مع ترامب، إلى ضرورة تعاوُن البلدان في معالجة الجوانب الإنسانية للأزمة السورية، وتسهيل عودة اللاجئين والمهجّرين السوريين إلى بيوتهم.
وعلى الفور، أرسلت الخارجية الروسية فريق عمل إلى تركيا والأردن ولبنان، أكبر ثلاث دول تستضيف اللاجئين السوريين في المنطقة، لشرح "الخطة الروسية" المتعلقة بإعادة اللاجئين. وأشار رئيس مركز مراقبة الدفاع الوطني الروسي، الجنرال ميخائيل ميزينتسيف، الذي يبدو أنه بات مسؤولًا عن تنسيق الجهود الإقليمية، من أجل إعادة اللاجئين السوريين من دول الجوار، إلى أنّ بيانات مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية أكّدت له أنه "يمكن أن يعود نحو 890 ألف مواطن سوري إلى وطنهم خلال الأشهر المقبلة"، وأضاف قائلًا: "أنشأت الحكومة اللبنانية فريقًا عاملًا لتشكيل لجنة مشتركة للتعاون مع سورية بخصوص عودة اللاجئين. وقد أفادت مراكز اللاجئين الإقليمية اللبنانية أنها تلقّت 10 آلاف طلب من مواطنين سوريين [يسعون] إلى العودة إلى وطنهم". وقال ميزينتسيف، أيضًا، إنّ الأردن "اتخذ عددًا من الخطوات لتشجيع أكثر من 200 ألف مواطن سوري على التعبير عن رغبتهم في العودة إلى أماكن إقامتهم الدائمة".
لكن هذا الموقف الروسي الذي أوّل موقف موظفي المنظمة الدولية، بحسب رغبته، وبما يبرّر تفاؤله المعدّ سلفًا، اصطدم بموقفٍ غير متحمس من الأمم المتحدة ووكالاتها المختصة؛ مثل مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، والمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، اللذيْن وجدا "تسرّعًا" غير محسوبٍ في الخطة الروسية، ما دعا المنسق الروسي إلى انتقاد وكالات الأمم المتحدة المختلفة، واتهامها بأنها "تسترشد بموقف الغرب، وتنتظر حتى يتغير هذا الموقف الغربي". وقد بدا الفتور الغربي غير مفهوم بالنسبة إلى روسيا التي اعتقدت أن إعادة اللاجئين السوريين ستمثّل نقطة جذبٍ مهمة للسياسة الغربية، أو على الأقل لأوروبا تحديدًا؛ فموضوع الهجرة كان محور سياسات القارة الأوروبية منذ عام 2015، حين شهدت موجات غير مسبوقة من اللاجئين والمهاجرين، وقد كانت نسبة السوريين منهم كبيرة. فهل هي خطة لعودة اللاجئين إلى منازلهم وبيوتهم "المدمّرة"؟ أم هي إعادة بعضهم مشهديًا من أجل تأهيل نظام الأسد؟
خلفيات الخطة الروسية
منذ انطلاق الثورة السورية في ربيع عام 2011، مثّلت روسيا، لأسباب مختلفة، ظهير النظام السوري الرئيس على الساحة الدولية، ووفّرت له الحماية في مجلس الأمن، بدايةً من تشرين الأول/ أكتوبر 2011؛ عندما استخدمت حق النقض (الفيتو)، في المرة الأولى، بالتعاون مع الصين، من أجل منع صدور قرارٍ يدين الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في سورية، ويهدّد بإجراءاتٍ ضد حكومة الرئيس بشار الأسد. منذ ذلك الوقت، استخدمت روسيا حق النقض في الأزمة السورية 12 مرة، كان جميعها مخصصًا لحماية النظام من أي إدانةٍ في مجلس الأمن. ولم تكتفِ روسيا بتوفير هذا الغطاء الدبلوماسي، بل أمدّت أيضًا النظام بمختلف أنواع الأسلحة، قبل أن تتدخل عسكريًا لمصلحته في أيلول/ سبتمبر 2015، بحجّة فشل التحالف الدولي الذي تقوده واشنطن في القضاء على تنظيم الدولة الإسلامية (داعش). ومنذ ذلك الحين، تمكّنت روسيا من منع إلحاق هزيمة محقّقةٍ بالنظام وقلب موازين القوى في الصراع لمصلحته، والتحول إلى طرفٍ رئيس في تقرير مستقبل حل الأزمة في سورية. وقد تبيّن أن هذا هو هدفها الحقيقي الذي يمنحها أوراقًا على الساحتين الإقليمية والدولية.
ويثير التركيز على موضوع اللاجئين والمهجّرين، وطرح خطة دولية تشرف روسيا على تنفيذها، أسئلةً عن حقيقة الأهداف التي تسعى موسكو إلى تحقيقها في هذه المرحلة، علمًا أن روسيا استخدمت اللاجئين قبل ذلك سلاحًا في مواجهة الغرب، والضغط عليه، لتغيير موقفه من الصراع في سورية، إذ استهدف سلاح الجو الروسي استهدافًا مباشرًا المدنيين في مناطق المعارضة؛ لدفع أكبر عدد منهم إلى الهجرة، وإغراق أوروبا بموجاتٍ منهم، الأمر الذي تسبّب بأزمة سياسية كبرى على صعيد الاتحاد الأوروبي، وأسهم في صعود التيارات اليمينيّة المتطرّفة المعادية للأجانب التي استخدمت قضايا اللاجئين، للحشد والتعبئة، بهدف الوصول إلى السلطة (تعاطفت معها روسيا علنًا، وأبدت هي إعجابًا ببوتين وبشار الأسد)؛ كما حصل في ألمانيا، والمجر، وإيطاليا، وغيرها من الدول الأوروبية. والملاحظ، أيضًا، أن روسيا تستضيف العدد الأقل من اللاجئين السوريين، ومعظمهم يعاني أوضاعًا صعبة على الأراضي الروسية، ويعتبر هذه الأراضي منطقة عبورٍ إلى الأراضي الأوروبية.
وفي محاولةٍ لفهم حقيقة الأهداف الروسية من طرح خطة إعادة اللاجئين المهجرين السوريين، يمكن أن نحيل على نقطتين رئيستين:
• رغبة روسيا في جني أرباح التدخل في سورية، على الرغم من أنه لا توجد أرقام روسية رسمية متعلقة بالتكلفة البشرية أو المادية التي كابدتها روسيا في سورية، خصوصًا في ضوء استخدامها شركات أمنية خاصة، مثل شركة "واغنر" المتعاقدة مع وزارة الدفاع، والتي تضم مرتزقةً من الروس يقاتلون في سورية، من دون أن تدخل سجلاتهم في وزارة الدفاع الروسية، وقد سقط مئاتٌ من هؤلاء المقاتلين في سورية، بحسب تقارير مختلفة. أما التكلفة المادية فتفوق، بحسب بعض التقارير، ثلاثة مليارات دولار أميركي؛ ولذلك ترغب روسيا حاليًا في الحصول على بعض العائدات، في ضوء الصعوبات الاقتصادية التي تواجهها بسبب العقوبات الغربية. وقد وجدت القيادة الروسية أن المدخل الوحيد لإقناع الأوروبيين بتقديم التمويل اللازم لعمليات إعادة الإعمار التي تضطلع الشركات الروسية بجزء كبير منها، هو استخدام ورقة عودة اللاجئين السوريين التي تمثّل أولويةً بالنسبة إلى دول أوروبية كثيرة، أخذ الرأي العام فيها ينحرف يمينًا من جرّاء قضية المهاجرين واللاجئين.
• النقطة الثانية: رغبة روسيا في إعادة تأهيل نظام الأسد دوليًا. وفي هذا السياق، تدرك روسيا أن الحاجة الدولية إلى نظام الأسد ربما انتهت تمامًا، فقد استطاعت الولايات المتحدة، ومن خلفها الحلفاء الأوروبيون، استعادةَ معظم المناطق التي كان يسيطر عليها تنظيم الدولة الإسلامية، وفي مقدمتها مدينة الرقة، من دون التنسيق مع النظام السوري، أو التعاون معه؛ ومن ثمّ فقد استهلكت "ورقة محاربة الإرهاب" التي غالبًا ما كان يتذرّع بها النظام السوري لدعوة الأطراف الغربية إلى الحوار معه، ولم يعد هناك سوى "ورقة اللاجئين"، بوصفها الورقة التي يمكن أن تغيّر الموقف الغربي كليًا من النظام السوري.
وعلى الرغم من أنه لا يمكن استبعاد ارتفاع بعض الأصوات الهامشية الغربية التي قد تنادي بالحوار مع الأسد في المستقبل، باعتبار وجوده في الحكم أمرًا واقعًا، بعد أن تمكّن من استعادة السيطرة على جزء كبير من الأراضي السورية، بالتعاون مع الحليفيْن، الإيراني والروسي، سوف تكون التكلفة، أو الثمن السياسي لهذا الحوار، مرتفعةً جدًا؛ فالأسد اليوم في عين المجتمع الدولي، ربما باستثناء الموقفين، الروسي والإيراني، هو مجرم حرب، بسبب ما ارتكبه من جرائم ضد الشعب السوري، وهذا ما تؤكّده عشرات التقارير الصادرة عن مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، والجمعية العامة للأمم المتحدة، ولجنة التحقيق الدولية المستقلة، وغيرها من هيئات ومنظمات دولية؛ ما يعني أنّ أي دعوةٍ إلى لقاء الأسد، أو مساعدته، أو الحوار معه، ستكون مكلفة. لذلك يرجّح أن تصطدم محاولة روسيا إعادةَ تأهيل النظام السوري بعقبة رئيسة، متمثلة بالرأي العام الغربي الذي لن يتقبّل بسهولة عملية شرعنة "مجرم حرب". وفوق ذلك، على روسيا تجاوز مجموعة من التشريعات والقوانين التي سنّتها البرلمانات الأوروبية، وكذلك الكونغرس الأميركي، والتي تجعل أي اتصالٍ بحكومة الأسد، أو حتى طرح موضوع رفع العقوبات عنه، أمرًا غير ممكنٍ في ظل الظروف الراهنة، وقبل التوصل إلى حل سياسي عادل للأزمة السورية.
وعلى الرغم من أن الرئيس ترامب يُبدي تجاوبًا أكبر مع اهتمامات الرئيس الروسي المتعلقة بإعادة اللاجئين والمهجرين، وفقًا لأجندته الدعائية والانتخابية التي تستهدف المهاجرين واللاجئين في الولايات المتحدة وأوروبا، فإن جهات أخرى في الإدارة الأميركية تبدو، في أحسن الأحوال، غير متحمسةٍ للخطة الروسية. وهذا يفسّر الرد الفاتر الذي تلقّاه رئيس هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة الروسية من نظيره الأميركي على الرسالة التي دعاه فيها إلى المشاركة في عملية إعادة الإعمار في سورية. لقد أشار اقتراح رئيس هيئة الأركان الروسي بواقعيةٍ إلى افتقار النظام السوري إلى المعدّات والوقود والتمويل اللازم لإعادة بناء البلاد، من أجل عودة اللاجئين. فكان الرد الأميركي على لسان المتحدثة باسم وزارة الخارجية أنّ الولايات المتحدة "لن تدعم عودة اللاجئين إلا عندما تكون آمنةً وطوعيةً وكريمة". وواقع الحال أنّ ملايين اللاجئين السوريين لن يختاروا العودة طواعية إلى بيوتهم، لأنه ببساطة لم يعد لديهم بيوتٌ، حتى يعودوا إليها بعد أن دمّر الأسد بيوتهم وقراهم ومدنهم، كما أنهم لا يضمنون، ولا يضمن لهم أحد، سلامتهم الشخصية من الاعتقال والتنكيل، في حالة العودة.
حتى الآن، يبدو الموقف الغربي صلبًا بخصوص إعادة الإعمار وعودة اللاجئين، إذ يجري ربطه ربطًا وثيقًا بموضوع الانتقال السياسي. وفي الحال التي لا يكون فيها انتقال سياسي، لن تساهم الدول الغربية، في ما يبدو، في دفع "أرباح جرائم الحرب" التي اقترفها الأسد ضد شعبه.
في الأسبوع الماضي، انقضى الموعد الأول الذي قدمته الولايات المتحدة لإعادة فرض العقوبات على إيران. على الرغم من أن إعادة تطبيق العقوبات لن تُترجم إلى انهيار في الاقتصاد الإيراني على المدى القصير، فمن المرجح أن تجد إيران نفسها تحت ضغط مالي كبير على المدى الطويل.
لقد أعطى إعلان الولايات المتحدة في مايو (أيار)، أنها تنسحب من الاتفاقية النووية مع إيران، ثلاث مهل زمنية لإعادة فرض العقوبات الأميركية. كان الأولى في السادس من أغسطس (آب)، والثانية في الرابع من نوفمبر (تشرين الثاني)، والموعد النهائي هو 180 يوماً منذ إعلان الانسحاب الأميركي من الاتفاقية النووية. يمكن أن يُنظر إلى اختيار الولايات المتحدة إعطاء إيران إخطاراً نهائياً مدته ستة أشهر لإعادة تطبيق المجموعة الكاملة من العقوبات على أنه وسيلة للولايات المتحدة لمنح إيران فرصة لتعديل سلوكها. ولكن مع اهتمام إيران بصورتها الذاتية تقريباً بقدر ما تهتم بسياساتها الفعلية، فهي لن تقبل أن يُنظر إلى أنها تنحني أمام الضغط الأميركي.
كان رد الفعل الرسمي من إيران على إعادة فرض العقوبات في 6 أغسطس هو تصويرها كحالة «حرب نفسية» من قبل الولايات المتحدة. تستهدف هذه المجموعة الأولى من العقوبات قدرة إيران على شراء الأوراق النقدية الأميركية وإجراء المعاملات بالريال الإيراني، وتجارتها في المعادن الثمينة وغيرها من المعادن بالإضافة إلى قطاعي السيارات والطيران. وكان رد الرئيس روحاني اتهام إدارة ترمب بإعادة فرض العقوبات لمناشدة الناخبين المحليين الأميركيين في الانتخابات النصفية المقبلة في نوفمبر. وقال أيضاً إن هذا الإجراء العقابي من جانب الولايات المتحدة هو محاولة لتقسيم الشعب الإيراني.
المفارقة في رد روحاني أنه موجّه إلى جمهوره المحلي أكثر من الجمهور الدولي. إن تصريحه بأن إيران «دائماً إلى جانب الدبلوماسية والمحادثات... لكن المحادثات تحتاج إلى الصدق» يهدف مباشرةً إلى مخاطبة الجمهور الإيراني ليوضح أن الولايات المتحدة لم تكن صادقة أبداً عندما توسطت في الاتفاق النووي بينما كانت إيران ملتزمة بشروط الاتفاق.
في الفترة التي سبقت المهلة المحددة في 6 أغسطس، أكد الرئيس ترمب أن الولايات المتحدة ما زالت «منفتحة على التوصل إلى اتفاق أكثر شمولية يتناول المجموعة الكاملة من الأنشطة الخبيثة للنظام، بما في ذلك برنامج القذائف التسيارية ودعمه للإرهاب». وكان رد روحاني هو اتهام الولايات المتحدة بإدارة ظهرها للدبلوماسية، قائلاً إن «المفاوضات مع العقوبات ليست منطقية». ومع ذلك، مع عدم اعتراف إيران أبداً بأن تصرفاتها في أماكن مثل سوريا واليمن تصل إلى مستوى الإرهاب، فإنه من المستحيل أن نتصور سيناريو تقبل فيه إيران وصفها بأنها راعية للإرهاب. لذا فمن المرجح أنه في الوقت الذي تنتهي فيه المهلة النهائية التي تبلغ 180 يوماً، لن يتم تحقيق أي تقدم بين الولايات المتحدة وإيران.
تمتد مجموعتا الجزاءات التاليتان لتشمل المؤسسات المالية والنفطية الإيرانية وفي ما بعد الأفراد الذين كانوا مدرجين في قائمة العقوبات الأميركية قبل الاتفاق النووي. وهذا من شأنه أن يعيد إيران إلى الضغوط الاقتصادية التي كانت قد تحمّلتها قبل أن يتم التوصل إلى الاتفاق النووي. تظهر الأرقام الصادرة عن البنك المركزي لجمهورية إيران الإسلامية أن إنتاج البلاد من النفط انخفض بشكل حاد عندما فرضت الولايات المتحدة عقوبات في عام 2012، والتي تبعها حظر الاتحاد الأوروبي على الواردات النفطية، حيث انخفض بنحو 10 ملايين برميل. بعد أن تم رفع العقوبات الأميركية في عام 2016، تعافى إنتاج إيران من النفط إلى مستوياته قبل عام 2012.
كما عانى الناتج المحلي الإجمالي لإيران نتيجة للعقوبات، ودخل في حالة ركود في عام 2012 و2013 و2015، حيث تعافى فقط مع رفع العقوبات في عام 2016، الأمر الذي أخذ النمو الاقتصادي الإيراني إلى مستوى أعلى من أي نمو في العقد السابق. وهذا يعني أن الانخفاض المستقبلي في الناتج المحلي الإجمالي سيشعر محلياً بقسوة أكبر من ذي قبل.
أعلن الاتحاد الأوروبي عن تطبيق «قانون عرقلة» مماثل لذاك الذي كان قد وضعه خلال فترة العقوبات الأميركية على كوبا، من أجل حماية الشركات الأوروبية من العقوبات الأميركية في تعاملاتها مع إيران. ومع ذلك، على الرغم من هذا الإجراء من قبل أوروبا، كان أداء الاقتصاد الكوبي ضعيفاً عندما كانت العقوبات الأميركية سارية المفعول. ولذا من غير المحتمل أن يكون قانون العرقلة الأوروبي كافياً لطمأنة الشركات متعددة الجنسيات حول إدارة الأعمال مع إيران. وقد انخفض سعر الريال بالفعل، وبدأ بعض الشركات الدولية في الانسحاب من صفقات إيران حتى قبل إعلان الولايات المتحدة عن انسحابها من الاتفاق النووي في مايو (أيار).
روحاني على حق في ربط إعادة فرض العقوبات بتقسيم المجتمع في إيران. كانت التوقعات المحلية عالية بعد توقيع الاتفاقية النووية، مع توقع اتفاقيات التجارة والاستثمار الدولية التي كانت ستخلق فرص عمل وتحسن الاقتصاد بشكل كبير. هذه التوقعات لم يتم تلبيتها بالكامل في حين كانت الاتفاقية النووية قائمة، واليوم أصبح من المؤكد أنها لن تتحقق على الإطلاق ما دامت العقوبات الأميركية نشطة.
وتشهد إيران سلسلة من الاحتجاجات حول التظلمات الاقتصادية، ومع وجود مزيد من العقوبات في الأفق، من المرجح أن تصبح هذه التظلمات أسوأ. في المستقبل، هذا يعني دقّ إسفين ليس فقط بين الشرائح الضعيفة من المجتمع والحكومة، ولكن أيضاً بين الحكومة وطبقة رجال الأعمال النافذين في إيران الذين ستكون خيبة أملهم أكبر من غيرهم.
طبعاً لا يزال لدى إيران شركاء تجاريون دوليون نشطون مثل الصين والهند، الذين من المحتمل أن يستمروا في دعمها كما فعلوا قبل عام 2012. ولكن مع ارتفاع توقعات الشعب الإيراني إلى مستوى جديد مع الاتفاق النووي، فإنه من غير المحتمل أن يكون الدعم الهندي والصيني للاقتصاد الإيراني كافياً لإشباع الشهية المحلية.
وبهذا ستكون إيران قادرة على ركوب موجة العقوبات على المدى القصير والمتوسط، لكن التوقعات طويلة الأجل للازدهار الاقتصادي تبدو قاتمة.
ءإذا كان ما يميز الكائن البشري هو العقل والإدراك، أي الوعي، فكيف يمكن النظر إلى وعي الشعوب التي اشتعلت فيها الحروب المدمّرة، مثل الشعب السوري؟
لقد أدّت الحرب والضخّ الإعلامي الموجّه، والمدجّج بالعقائد والتضليل، إلى تشظّي الوعي الجمعي الذي أظهرت المحنة التي تمر بها سورية أنه وعي مهلهل، تداعى باكرًا منذ أول خطابٍ أضرم فتيل الطائفية، حتى قبل أن يستشري العنف في الساحات، ومن يتابع التفاصيل، لا بد أن يرى انعكاس تلك الظاهرة في التفاصيل اليومية لسلوك الأفراد، ابتداء من تحصين البيوت بأبواب الحديد وأقفاص الحديد، تخوفًا من الآخر الذي كان هناك تاريخ وماض مشترك معه، بحكم الجيرة الطويلة. وإلى قهر الوعي الفردي، بدافع الخوف الذي يجعل الفرد يلوذ بالجماعة، ويتنازل عن ضميره لصالح الضمير الجمعي، مؤجلاً النظر في هذا الضمير، أو انتقاده إلى وقت آخر، بحجة أن ليس وقته الآن، فالآن مرصودٌ للقضية الأكبر باستمرار، القضية التي تكثّفت في فكرة ما يتبنّاها الضمير الخاص بالجماعة، القضية التي أخذت مسمياتٍ وعناوين متباينة لدى الجماعات التي يتشكّل منها الشعب، من قضايا دينية وطائفية، وهي الأكثر توهجًا، إلى القومية التي تأزّم الصراع حولها إلى مستوياتٍ خطيرة أيضًا.
في مجتمعٍ تسوده الثقافة التسلطية، والموروث الديني والاجتماعي القائم على طمس الفردية، وتضخيم المعايير التي تقوم عليها المنظومة القيمية التي تخدم النزعة التسلطية، لا يمكن أن يكون هناك وعي فردي، ولا وعي جمعي مزدهران، بل هناك تجانس ثقافي مفروض بالقوة التي تمارس بأشكال مختلفة، تؤدي بالنتيجة إلى شكل من التنظيم، يقوم على أساس القطيعية المحكومة من أنظمةٍ مستبدّة، تحكم بالقوة، وليس للشعب أو للمحكومين مساهمة في صنع القرار والتخطيط للمستقبل.
يخفي هذا الضمير الجمعي المفروض بالقوة، تحت سطحه، منظوماتٍ أخرى من القيم والوعي الخاص بالجماعات الدينية أو الطائفية أو الإثنية الموجودة في المجتمع، والتي قُمعت هويتها الخاصة، وفي الوقت نفسه كُرّس إحساسها بالمظلومية، بطريقةٍ ممنهجةٍ بممارسات قوانين الظل، أو النظام العميق المتحكّم بمفاصل الدولة والمجتمع، والذي يخدم القوى السلطوية المتحالفة التي تملك زمام الحياة.
تبيّن أن هناك وعيًا جمعيًا تحت سطح الثقافة السلطوية القسرية، يخص الجماعات والشرائح المختلفة في سورية، وكل هذه الأشكال من الوعي تشبه النمط الشامل الذي ترسّخ خلال العقود، وربما القرون، فكان هناك خوفٌ عام من التغيير، كما شأن الشعوب التي حُكمت بالقوة، ولم تمنح مساحة من حرية التفكير والتعبير والمساهمة في ابتكار حياتها وقيمها. وهذا ما عبرت عنه شريحة كبيرة من الشعب السوري "كنّا عايشين"، أو "هذه هي الحرية التي تريدونها؟" أو نحن ندافع عن كياننا بوصفنا طائفةً مستهدفة، أو طائفة مسلوب حقها في المقابل"، فقد كانت فكرة التغيير مرعبةً بالنسبة إلى عموم الناس، غافلين عن أن الاستقرار الذي كانوا ينعمون به ليس أكثر من حالة استنقاع، تتعارض مع ازدهار الحياة. لذلك كان اللوْذ بجسد الجماعة أمرًا بديهيًا، كسلوك يصدر عن غالبية الشعب، وليست المشكلة هي بتخاذل الأقليات، وعدم التحاقها بالحراك الشعبي، خصوصا الطائفة العلوية التي نالها ما نالها من الشيطنة من شريحةٍ من الملتحقين بالثورة، والتي لا تختلف، في الواقع، في نخبها وممثليها وطروحاتها وسلوكها عن النظام القمعي الذي ترعرعت في ظله، ونهلت من ثقافته. وبالتالي يتحكّم بنشاطها وعي جمعي مماثل، يقوم على العنف والتطرّف تجاه الآخر الذي تقاتل ضده.
بعد ثماني سنوات دامية، ما الذي تغير؟ لا بد من طرح السؤال، ورصد الواقع بأدق تفاصيله، ومواكبة التمظهرات منذ البداية، بتحولاتها، للوصول إلى قاعدة بيانات تصلح للبناء من أجل المستقبل.
لقد أظهرت السنوات الماضية أن هناك وعيًا مهلهلاً متهتّكًا، قياسًا بمفاهيم الحداثة، وأسس قيام الدول الحديثة، واستمرارها وتطورها، وأن ما كان سائدًا من تعريف للدولة السورية بأنها محكومة بنظام سياسي علماني، وتدير مجتمعًا علمانيًا، لم يكن أكثر من وهم وسراب وادّعاء مضلّل. لا أنسى الدهشة حد الذهول، عندما علمت بعض الصديقات اللبنانيات في أثناء جلسة جمعتنا في بيروت أن ليس هناك زواج مدني في سورية، وأن التزاوج بين الطوائف مشكلة كبيرة، ينمّيها العرف والقانون والتوجه الثقافي العام، المفروض بسلطة جبارة متغلغلة في المجتمع، كان هذا في العام الثاني للحراك في سورية، وكان السؤال بصيغته الاستنكارية مربكًا لي: معقول في سورية، البلد العلماني، الوضع هكذا؟
ليس هذا فحسب، بل في سورية العلمانيّة، كما يطرح نفسه نظامها السياسي والحزب القائد الوحيد للدولة والمجتمع، كان الضمير الشخصي يُصاغ ويكبر وينمو في الظل، تحت خيمة العلمانية، ليتمثل قيم القبيلة أو العشيرة أو الطائفة ومبادئها، عن طريق قمع الفردية والحريات والتعبير، كما في المجتمعات التقليدية البدائية، القائمة على العائلة والعشيرة أو العلاقات القبلية، حيث يلعب الدين دوراً مهما في توحيد الأفراد من خلال إيجاد ضمير مشترك بين جميع الأفراد في الجماعة نفسها، وهذا يخلق تضامنًا اجتماعيًا أكثر ما يُعبر عنه في أوقات التحولات الكبرى المرعبة بالنسبة إلى الهويات، المتشكلة تاريخيًا على هذه الأسس الدينية أو الطائفية او الإثنية.
ليس هذا هو الشكل الوحيد الذي تجلى فيه واقع الضمير الجمعي المتهتّك، والمنسوخ عنه ضمائر أخرى، تستقطب جماعاتٍ متباينة، تزدهر وتزداد سطوتها في أوقات الأزمات كالأزمة السورية، بل هناك تكتّلات نخبوية، نمت في ظل الحراك أو على هامشه، أو في متنه، ومارست سلوكًا مدفوعًا بضميرٍ مشابه، يمكن أن نلمسها بوضوح على صفحات التواصل، حيث تشكلت شللٌ متكاتفة منسجمة متراصة، على أساس بند عريض "مع الثورة أم ضدها"، وتلك الشلل هي من يضع المعايير، ويصنّف الأفراد بين وطني أو غير وطني.
يكفي أن يكون الفرد بارعًا في سبّ النظام وشتمه، كي يكون ثوريًا. ويكفي في المقابل للفرد أن يؤيد الحراك، أو يقرّ بشرعية انتفاضة الشعب السوري، ليكون في المقلب الآخر إرهابيًا مدفوعًا مسبقًا من أجل المؤامرة الكبرى الرامية إلى تدمير سورية نظامًا وشعبًا، ولا بد من إشهار الانتماء إلى ذلك الجسد، عند كل مناسبةٍ أو تذكير الفرد بنفسه، مثل من يؤدّي التحية الخاصة، أو كلمة السر أو شعار الحزب. هناك بعض ممن كانت حساباتهم مغلقةً على صفحات التواصل فتحوها عند موت الفنانة مي اسكاف، ليسجلوا موقفًا فقط، ويؤدوا طقسًا من طقوس الجماعة، من الطرفين، بين ناعٍ لها وشاتم للنظام، وبين شامت بموتها ولاعن كل من يترحّم عليها بوصفه إرهابيًا، ثم أغلقوا حساباتهم، بعد أن أعلنوا الولاء وارتاحوا.
لا بدّ من الاعتراف، انطلاقًا من مآلات الحراك السوري، وما وصل إليه الحال، بأن هناك ضميرًا جمعيًا راسخًا لدى مجموع الشعب السوري، تقوم أساساتُه على الموروث الذي يكتسب خصوصيةً تميّزه لدى كل جماعة دينية أو مذهبية أو قومية، وأن هذا الضمير المتهالك المعيق لعملية البناء لا بدّ من هدمه، وهدم مسلمات وبديهيات كثيرة بني عليها الوعي السابق، والعمل على تحرير الضمير الفردي منها. حتى اليوم لم نلمس الجرأة على تحرير الوعي الفردي، إلاّ بنسبة قليلة، وإذا كان البناء القادم أو الموعود سيقوم على ما كان راسخا قبل الحراك، فالكارثة ستبلغ منتهاها بأشدّ درجات الانحطاط والانهيار.
انتهت إيران إلى ما ابتدأت فيه؛ عقوبات اقتصادية وطوق من العزلة الأميركية. دخل برنامج العقوبات الأميركية الأكثر تشدداً حيز التطبيق، وليفقد الريال الإيراني نصف قيمته في أسابيع.
هذه ليست سوى الحزمة الأولى من العقوبات التي طالت بعض القطاعات الحيوية لإيران، ففي جعبة الإدارة الأميركية حزمة ثانية يبدأ سريانها بعد شهرين، تشمل صادرات إيران من النفط والغاز، وتكبل تعاملات البنك المركزي.
على المستوى الاقتصادي تكشفت على الفور الآثار القوية للعقوبات على اقتصاديات إيران. شركات عالمية أعلنت انسحابها من السوق الإيرانية، وأبطلت صفقاتها المبرمة مع طهران. القطاعات الإيرانية المنهكة من سنوات العقوبات الطويلة والتي كانت تراهن على ترميم أوضاعها في مرحلة الانفتاح على العالم، تخسر فرصتها، وتعود للمعاناة مرة ثانية.
سياسياً، تتخذ القيادة الإيرانية موقفاً متشدداً، يزيد من معاناة شعبها، وفي لحظة استعجال هدّد قادتها بإغلاق مضيق هرمز في حال منعت واشنطن صادرات النفط الإيراني. الرد الأميركي كان حاسماً ما استوجب تراجع طهران عن تهديداتها لتجنب السيناريو الأسوأ.
تراهن طهران على دول الاتحاد الأوروبي والصين وروسيا وتركيا لكسر الحصار الأميركي وتخفيف أثر العقوبات الأميركية.
لكن حلفاء إيران ليسوا أفضل حالا منها، فجميعهم دون استثناء يكابدون سيلا من العقوبات الأميركية.
الاتحاد الأوروبي وقع فعلا تحت بند العقوبات الأميركية والعوائق الجمركية بعد فرض واشنطن رسوماً إضافية على صادرات دول أوروبا الصناعية.
الصين دخلت في حرب اقتصادية مع واشنطن، وتنهال عليها العقوبات بشكل يومي، بعد رفع الرسوم الجمركية على صادراتها للسوق الأميركية.
واشنطن قررت أخيراً تشديد العقوبات على موسكو تضامناً مع بريطانيا، في خطوة تضاعف من مصاعب الاقتصاد الروسي. القيادة الروسية تعلم حجم المشاكل التي تواجهها جراء العقوبات الأميركية، وتسعى لصفقة مع واشنطن تخفف من أعبائها، وقد يكون ذلك على حساب إيران.
تركيا في طور أزمة مشتعلة مع واشنطن عنوانها قس أميركي في سجون أنقرة، وفشلت المحاولات الدبلوماسية لتسوياتها. وسارع الرئيس الأميركي دونالد ترمب إلى تحذير تركيا من حزمة عقوبات اقتصادية في الطريق إليها.
تركيا التي كان لها باع طويل في التحايل على العقوبات الدولية ضد طهران، لا تملك هذه المرة نفس الهامش للمناورة خلف الستار، فعملتها تعاني من انخفاض متسارع، وعلاقاتها متوترة مع دول الاتحاد الأوروبي على الصعيدين السياسي والاقتصادي. وفي حال فرضت واشنطن عقوبات اقتصادية عليها فلن يكون بمقدور حكوماتها وقف التدهور في سعر صرف الليرة التركية، وتسجيل التضخم نسباً لا يمكن احتمالها شعبياً.
الشركات العملاقة العابرة للقارات، تعلمت من تجارب سابقة، ولم تعد مستعدة لتحدي الإدارة الأميركية. الفرنسيون أظهروا سرعة استجابة لقرارات الإدارة الأميركية دون أن يلتفتوا لتصريحات حكومتهم، فقررت كبريات شركاتهم التي دخلت السوق الإيرانية بصفقات كبيرة الانسحاب على الفور، حتى لا تقع تحت مقصلة ترمب.
الجميع أخذ تحذيرات ترمب على محمل الجد، فالعقوبات لن تقتصر على إيران وحدها، بل ستشمل الأشخاص والكيانات التي تخرقها، وفي ذلك رسالة صريحة للبنوك والشركات الصينية والأوروبية التي تستثمر المليارات في السوق الأميركية ولا تستغني عن مصارف نيويورك في تعاملاتها التجارية.
الأكيد أن العقوبات على إيران ستكون عنواناً جديداً من عناوين الحرب التجارية العالمية التي أطلقتها إدارة ترمب، وساحة من ساحاتها. تحاول طهران الاستثمار في حالة اضطراب حاصلة في العلاقات الدولية بين الكيانات الاقتصادية الكبرى، وتسجيل نقاط لصالحها تخفف قدر المستطاع من تأثير العقوبات الأميركية عليها.
ربما يكون هذا ممكناً على المدى القصير، لكن أبعد من ذلك سيغدو الأمر صعباً، خاصة مع نية واشنطن تنويع خياراتها وتصميم حزم جديدة من العقوبات يستحيل معها على الدولة الرافضة خرق جدار العزلة المفروض على طهران، وأخطر من ذلك التهديد بعمل عسكري إذا ما استمرت طهران في تحدي إرادة واشنطن، وتهديد جيرانها.
السؤال الذي يخص المنطقة يدور بشكل رئيسي حول تأثير العقوبات الأميركية المشددة على دور إيران الإقليمي. هل يستمر تدخل إيران في شؤون دول الخليج العربي والعالم العربي أم يتراجع بفعل العقوبات؟
منحت العوائد النفطية إيران فرصة للإنفاق على وكلائها في المنطقة، وحتى عندما كانت تخضع لعقوبات دولية، كانت قادرة على الوفاء بمتطلبات التدخل الخارجي وأكلافه. لكن مشاكل إيران الاقتصادية مرشحة للتفاقم، وحالة التذمر الداخلي من تبعات الدور الخارجي تتنامى بشكل كبير وعبرت عن نفسها بحركات احتجاج واسعة اجتاحت مدنا كبرى.
لكن من الصعب رؤية القيادة الإيرانية وهي تتراجع عن ممارسة لعبتها المفضلة في الإقليم. سيمثل هذا التحول تراجعاً عن جوهر فلسفتها في الحكم، وربما نهاية مشروعها في إيران. ولهذا يعتقد خبراء في الشأن الإيراني أن طهران سترد على العقوبات بإثارة المزيد من المتاعب للمنطقة العربية، مستفيدة من السياسة الأميركية التي تفتقر لرؤية واضحة في الشرق الأوسط تتعدى الملف الإيراني. لكن هذا لن يفيدها.
سوريا على وجه التحديد مثال على عدم الوضوح في الرؤية الأميركية، فبينما تحاصر واشنطن طهران اقتصادياً، تترك لموسكو ترتيب الوضع في سوريا بما يشمل دور إيران في تقرير مستقبلها.
الأشهر القليلة المقبلة ستكون حافلة بالرهانات حول مستقبل العلاقة بين طهران وواشنطن، فالتصعيد الجاري حاليا قد يراوح مكانه لفترة من الوقت، وقد ينفجر بمواجهة عسكرية كبرى إذا ما تجاوزت إيران حدودها مع إدارة أميركية مستعدة دائماً للحرب. لكن في أوساط النخبة الأميركية ثمة من يعتقد أن المفاوضات بين الطرفين ممكنة في ظل العقوبات، فهل ترضخ طهران لإدارة ترمب على غرار ما فعلت كوريا الشمالية؟
تحاورت مع صديق يبحث عن تفسير لإعلان مرض أسماء الأسد، وكيس المصل معلق بارتجال فوق رأسها في الصورة الثابتة، وكأنها في مشفى سوري عمومي، وليست زوجة الرئيس الإله، وحقيبتها على الأرض، وزوجها إلى جانبها كما في الأفلام الهندية، يقوي من بأسها ويشدُّ من عضدها، أو أنه لا يثق بالطب الفارسي والروسي. وقال الصديق: هذا يحتاج إلى تأويل، في بلد اعتادت على الكتمان. فقلت: إن أسماء ليست خطراً على أحد.. ليست رئيساً لفرع أمني، مثل رستم غزالة، أو قائداً مثل عصام زهر الدين، وهي أم أولاد الرئيس الذي قد يكون بينهم الوريث الثالث، ولم تقترف خطأ بتصريحات كاشفة.. وليس لهذا التأويل ما يبرره، النساء عادة دروع بشرية في الدفاع أو الهجوم، لكن الأغنية كشفت الأمر لبعض النابهين: سيدة السرطان مرشحة للرئاسة.
سرطان وردة الصحراء سكر خفيف، أيضا سوبر ستار. فقد غنى شادي أسود للضحية مواسياً لها قبل أن تبرأ. سرطانها ليس أكثر من نزلة شعبية أو كذبة، سرعان ما سيعلن القصر الجمهوري جلاء المرض عن "ست الكل"، لقب أم منجل الجديد، ونحتفل بعيدين للجلاء: جلاء الاستعمار الفرنسي عن سوريا، وجلاء الاستعمار السرطاني عن جسد السيدة الأولى. الاستعماران الروسي والإيراني قدما بدعوة لمحاربة الإرهاب.. ليسا احتلالين، ستطول الإقامة نصف قرن على الأقل. إسرائيل قالت: الأسد آخر ملك علوي لسوريا. الرجل قدّم خدمات هائلة لشعبه، جعل مليوناً منهم شهداء، ونصفه نازحاً.. الاستعمار سيغير قفازاته.
صباح الحادي عشر من شهر آب اللهاب، ظهر الدخان الرمادي من مدخنة صحافة القصر الجمهوري السوري، وتبيّن من الأغنية أنّ زوجة الرئيس مرشحة للرئاسة. القيصر بوتين، قال للرئيس الأسد الذي حكم ما يقارب العقدين وراثة عن أبيه الجمهوري، الذي حكم ثلاثة عقود: يجب أن تتخلى عن "المسؤولية". لنتذكر أنّ محمد بن نايف قال لولي العهد محمد بن سلمان، مكرهاً غالباً: "الحين ارتحت" وجاء دورك. ستبقى في الظل معززاً مكرماً، تحكم من وراء زوجتك. كثير من الممثلين في أدوار البطولة يتحولون للإخراج. طبعاً لن يكتب الرئيس مذكراته.. المسؤول العلوي لا يكتب مذكراته. الأغنية التي غناها شادي أسود عنوانها "ياسمينة الشام"، بُثت بسرعة، وأوحت بهذا التأويل. العنوان قريب من "وردة الصحراء". لقد أثمرت أخيراً بطولة ملايين السوريين، استشهاداً تحت البراميل والقنابل العنقودية والكيماوية والسكتة القلبية، ثمرة، وهي أن تتولى زوجة الرئيس الرئاسة، غالباً لدورتين.
من مساوئ الصدف أنّ ملوكنا يتبعون السنّة الغربية، وينسبون الزوجة إلى أنسابهم، فأسماء الأخرس بعد الزواج صارت أسماء الأسد.. ادعوهم لآبائهم هو أقرب للتقوى. يقال إنّ الأسد لا يخلو بيته من العظام، وقد أخفى الأسد سماوات سوريا بالقبوات. القبوات هي كرشة محشوة بالرز، هي المقاومة والممانعة والديمقراطية الشعبية. هي الشفافية. ستخفى مجازر سوريا بياسمينة الشام.
لكن شجاعة القصر الجمهوري الذي واجه 86 دولة كبيرة، منقطعة النظير، انتصر النظام بمساعدة دولتين هما روسيا وإيران، وسيرافق هذا الانتصار دحر وردة الصحراء لمرض السرطان. ويقال إنّ مرحلة جديدة من الشفافية ستبدأ، ذلك المصطلح الذي تكرر على ألسنة موظفين في صندوق دولة أسود شديد الكتمان والعزل، يعبر فيها عن الموت تحت التعذيب بالسكتة القلبية، وعن الزكام بالسرطان، وعن الوحدة والحرية والاشتراكية بأضدادها: تفرقة، عبودية، رأسمالية.
لقد كان طغاتنا ينالون الشرعية من ساسة الغرب، وكانوا يتقربون إليهم زلفى بقرابين منها: قمع الحركات الديمقراطية إسلامية أو يسارية، وقد خف قمع الثانية بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، فلم تعد تخيف، بل باتت سنداً للطغاة، وبأمر آخر هو قرابين النساء وحقوقها، ليس كل النساء، المرأة العلمانية بخاصة، أو التي في حكمها، لقد بلغت عهد التميمي شهرة لم تبلغها النجيبات العتاق المراسيل. أسماء الأسد كانت إحدى جسور الأسد إلى أوروبا، فأسماء هي ابنة الغرب، تتقن اللغة والعادات، وهي جميلة. ابن سلمان منح المرأة السعودية رخصة السواقة، ففرح بها الغرب وطالب بالمزيد من الإصلاحات، ولم يغضب إلا لاعتقال امرأتين أو ثلاث، ليبراليات، أغدقت عليهن الألقاب بلا حساب. وهذا حسن، فحكوماتنا لا تغضب لشيء، بل تُسر بالاعتقالات، وتفرّق بين الرجل والمرأة في كل شيء إلا في العقاب، بل إن عقاب المرأة أنكى.
السيسي نفسه كان يكرر للصحافة، بل يكاد أن يمنُّ على الغرب، الذي ليس في برلماناته كل هذا العدد من "الولايا" والحريم، أن برلمانه الذي يسميه المصريون بالبرطمان، وهي زجاجة شديدة الإحكام لعمل المخللات، فيه ستون امرأة. التقارير الغربية تنتقده بشدة، وربما تخفي شماتتها، لكن الساسة الغربيين يحمدونه على مكافحة الإرهاب، الذي لم يكن معروفاً في مصر بعد. هو نفسه قال بلغته الركيكة إن العنف الحكومي يسبب الإرهاب ويولده: "طلّع نار يطلع قصادك مية نار".
النساء ضعيفات في بلادنا. عندما اختار الأسد نجاح العطار نائبة له بين ثلاثة نواب للرئاسة، ليسوا مصابين بالسرطان، قال مراسل صحيفة معروفة مبتهجاً: إن في التعيين سبع رسائل ذكية، وعدّدها، ولم يذكر الثامنة، وهي أنها ضعيفة وعجوز، ومهيضة الجناح. والحقيقة أن ثمة فرقا كبيرا بين اعتقال الذكر واعتقال المرأة، فحصتها من التعذيب والعار مضاعفة.
كما أن سوريا عربية الهوى، وليست مثل بنغلاديش وباكستان وتركيا، وهي دول إسلامية غير عربية، تولت فيها نساء الرئاسة مثل خالدة ضياء الرحمن، وحسينة واجد، وتانسو شيللر، حتى شجرة الدر التي تولت الحكم كانت غير عربية الدماء.. العرب لا يولون النساء إلا وزارة الثقافة. كانت زوجات بعض الخلفاء يأمرن وينهين، أمثال الخيزران وزبيدة، لكن لم يحكمن.. لم يحدث أن تولت سيدة عربية دفة الحكم بعد الإسلام، ويبدو أنّ سوريا تستعجم.
النساء إما جميلات فينفعن للإثارة والإعجاب، أو كبيرات فينفعن في التذكير بالأمومة والاحترام. الاستعطاف بالنساء وارد بعد قرون من الظلم، واعتبارهن من أدوات الشيطان.
إنها لإحدى الكُبر، وأغرب توطئة للرئاسة.. لقد اختار القصر الجمهوري بطولة الضحية.
لا "مجتهد" في سوريا، مجتهدها هو السرطان، وللمرض فوائد كثيرة.. الشامان القديم لم يكن يتولى الشامانية، وهي كهانة القبيلة، إلا بعد مرض عضال، لعل أسماء الأسد هي الشامان السوري المرتقب.
لم يعد خافيا على أحد أن نظام الحكم العربي المستبد -على طول وعرض الرقعة العربية باستثناءات محتشمة- يحرص على أن يستثمر بشكل ذكي، وعلى وجه أمثل في نكبة سوريا إلى أبعد الحدود. ومن ثم، فلا هَمّ للحكام العرب إلا أن يروا في المسلسل الدامي بالشام حلقاتٍ طويلةً ومفعمةً بألوان الآلام وبُعد الآمال؛ ولا يهمهم إنهاء الحرب فيها إلا أن يكون ذلك عين رغبتهم، يساير سلسلة الأهداف التي رسموها على طول الأيام والسنين التي مرت، وذلك راجع لعاملين اثنين:
أولهما: ذاتي؛ يتمثل في الانتفاع من إطالة أمد الأزمة، فبها يدبرون تحصين بقائهم على العروش، وما يعنيه ذلك من الاستمرار في مراكمة الثروات باحتكار الموارد والمقدرات.
وثانيهما: موضوعي؛ يتجلى -أساسا- في عدم القدرة على رسم خارطة طريق لإخراج البلاد من النفق المظلم بالنظر إلى حجم التدويل الذي شهدته القضية السورية والتشعبات التي امتدت إليه أذرع التدخلات بإزاء حالة الوهن العربية، وبالنظر أيضا إلى طبيعة الأطراف التي تدير الصراع ميدانيا وسياسيا؛ الممثلة في إيران بدءا من خلال تواجدها العسكري الذي لا تخفيه، عبر أوجه بارزة في الحرس الثوري، أو من خلال ذراعها اللبناني المتجسد في وجود عناصر من حزب الله.
وروسيا لاحقا التي التحقت بركب المتدخلين في الصراع. وأمريكا وتركيا اللتان تدخلتا لخلق التوازن العسكري الذي يخدم مصالحهما، ويؤَمّن لهما تأثيرا معينا لضمان مقعد المشاركة في تسوية سياسية ما بعد إنهاء الصراع، لترسم نقاط الاشتباك العسكري والاقتصادي. وكل ذلك يُعبّر عن حجم هذه الأطراف ووزنها في الوضع الجديد لسوريا؛ وهي ملامحُ أساسيةٌ يفتقر إليها النظام العربي المتسم بالصعف السياسي داخليا وتراجع القَبول الشعبي، والتبعية الخارجية التي تعكس ضعف القرار السيادي لديها.
التعاطي البارد مع ملف اللاجئين يعكس مستوى الشماتة التي طبعت الموقف العربي الرسمي بتعاملها مع المهجّرين السوريين، ورغبة الحاكم العربي بالاحتفاظ بهم داخل حدود دولته شهودا على "خطأ" الشعب السوري
فالأنظمة العربية لا يهمها استتباب الأمن، وعودة الوضع الطبيعي، بأي شكل وتحت أية تسوية سياسية أو حل عسكري؛ بل تدفع هذه الأنظمة في اتجاه تأزيم الوضع وتعقيده، لمزيد من الصراع والاستنزاف، وذلك لهدف رئيس هو الإبقاء على معالم الوضع الكارثي لأزمة القرن فزاعة للشعوب المضطهدة والتواقة لغد الحرية والانعتاق؛ ولسد الطريق أمام أية حركة تغييرية جادة في الشارع العربي، بل واغتيال فكرة التحرر من الأصل أمام مخاوف تَكرار ما حدث، وإنتاج سيناريو سوريا جديدة بالدول العربية.
لذلك لا نستغرب معاناة اللاجئين السوريين بالدول العربية، سواء في تلك التي رحبت بهم، أو في تلك التي تركت الباب مواربا ولم تحسم أمرها؛ والوضعان -معا- اللذان أنتجا التعاطي البارد مع الملف إنما يعكس مستوى الشماتة التي طبعت الموقف العربي الرسمي في تعاملها مع المهجّرين السوريين، ورغبة الحاكم العربي في الاحتفاظ بهم داخل حدود دولته شهودا على "خطأ" الشعب السوري الذي قرر الخروج من عباءة النظام المجرم، عِوض حِفظ كرامتهم وتجنيبهم ذل السؤال. أو بصورة أخرى هو انتقامٌ آخرُ من السوريين خارج بلادهم، وعقاب لهم غير مباشر على اختيارهم الثورة والاحتجاج، وخوضهم تجربة الخروج والعصيان التي نفذوها ضد طغمة الأسد، ومن خلال هذا العقاب غير المباشر تبعث منظومة الحكم العربية برسائلَ جديةٍ لشعوبها، مفادها "كُلِ القُوت وانتظر الموت، لا ثورة ولا بقرة". فالنظام العربي موحد واحد إذا ما تعلق الأمر بتوطيد أركان الحكم وتقويض إرادة الشعوب.
مثلا؛ فبقدر ما نصلي في المسجد الصلوات الخمس، فإن تذكيرا موازيا يعقب الفراغ من العبادة كلما هم الإنسان العربي بالخروج من المسجد، حين يجد بالباب تلك الشهود البريئة على أزمة النظام العالمي والعربي المنافقين المتواطئين. تذكير بحِرمة الاحتجاج ضد رغبة الحاكم المُؤلَّه واختياراته، وإن أتت زورا أو نطقت بهتانا وكفرا. وتشكل المناسبات والأفراح التي تلتئم فيها العائلات، امتحانا حقيقيا للسوريين اللاجئين في البلدان العربية، وهو ما يضيف عبئا نفسيا –بالدرجة الأولى- إلى معاناتهم، وكل ذلك مما يُحسِن النظام العربي استثماره في ترهيب الناس وتهديدهم بالحال الذي آلت إليه أوضاع الشاميين، وتحذيرهم من عاقبة التفكير في الانتفاض والصدع بالحق، ومآل التعبير عن التذمر ورفض الظلم.
إن أنظمة بهذا الخبث لحري بها أن تصلح نفسها قبل فوات الأوان، وأن يتحرك الرجل الرشيد إن وُجد في دوائرها وسُمح له بإبداء الرأي قبل خروج الأمر عن السيطرة والمناورة. ولو تعقلت قليلا هذه الأنظمة، وأدارت عين بصيرتها حول ما انتهت إليها نظائرها من التفكك لاستجابت لمطالب أبنائها، وأكرمت ضيفها. لكن.. قد أسمعت لو ناديت حيـًا ولكن لا حياة لمـن تنادي ولو نارٌ نفخت بها أضاءت ولكن أنت تنفخ في الرماد، وما أنت بمسمع من في القبور، فقد غدت أنظمة قهر وجور، ولا ريب أن عاقبتها الخسران والثبور مهما زعمت لنفسها التقوى والصلاح، ومهما رفعت من شعارات المجد الزائف.
عاش السوريون أكثر من خمسين عاماً في ظل نظام أمني عميق. ولم يكن سوري واحد بمن فيهم أكبر المسؤولين خارجه، وليس له ملف أمني، تكتب فيه سيئاته قبل حسناته، وتسجل فيه كل حركاته واتصالاته بما فيها حماقاته، إضافة إلى مواقفه وتصريحاته، كما يكتب فيه أسماء أقاربه من الأصول إلى الفروع، وتضاف أسماء بعض الأصدقاء والصديقات. وباختصار، كان الملف الأمني لكل سوري، كما يقول السوريون، يشبه «جراب الحاوي»، يحوي كل شيء، وكل ما يمكن جمعه من معلومات عن صاحب العلاقة.
ونظراً إلى تعدد الأجهزة الأمنية وتنوعها بين الأمن السياسي والجنائي والعسكري والجوي والمخابرات العامة، وصولاً إلى مكتب الأمن في رئاسة الجمهورية، فقد اعتاد كل جهاز أن يضع ملفاته بصورة مستقلة عن ملفات الأجهزة الأخرى، تمييزاً لاستقلاليته، وإبرازاً لعمله ومعلوماته في خدمة النظام، وهكذا صار للسوريين ملفات في أغلب الأجهزة، إن لم نقل كلها، وكانت معاملات السوريين في العمل والسفر، وحتى الزواج وغيرها تتطلب موافقة أكثر من جهاز في غالب الأحوال، تعبيراً عن السلطة الأمنية العميقة لنظام الأسد، الذي كان يرسم سياساته، وينسق جهود أجهزته بصورة مركزية على أعلى مستوى في السلطة.
ومما لا شك فيه، أن وجود وممارسات النظام الأمني حيال السوريين، وتدخله في حياتهم، وصياغتها بما يخدم النظام واستمرار بقائه، كانت بين أسباب ثورتهم عليه، وكان شعار الحرية أبرز شعارات الثورة بما يعنيه من ضرورة الانعتاق من سلطة أجهزة تغولت على حقوقهم وحياتهم وأجبرتهم على العيش وفق أنماط وأساليب وقيم لا تتناسب وأدنى معايير الحياة الإنسانية المعاصرة.
ورغم التحفظات الإقليمية والدولية، التي أحاطت بثورة السوريين لأسباب متعددة ومعقدة، فإن الثورة باعتبارها فعلاً سياسياً مناهضاً للاستبداد والديكتاتورية والنظام الأمني العميق، حازت تأييداً عالمياً واسعاً في العامين الأولين، كان بين تعبيراته اعتراف إقليمي ودولي بتمثيلاتها السياسية، وتقديم مساعدات مختلفة للسوريين، وتعاطف مع موجات اللاجئين الهاربين من جحيم القتل والدمار.
غير أن تطورات سلبية، أحاطت بالثورة، لم تكن معزولة عن سياسات نظام الأسد وحلفائه، ولا عن تدخلات إقليمية ودولية، كانت تصنف نفسها «داعمة للثورة»، سعت إلى عسكرة الثورة وأسلمتها وتطييفها، بحيث تم استغلالها حاضنة لجماعات التطرف والإرهاب من «جبهة النصرة» إلى «داعش» وغيرهما، وتسلل أعضاء منها بين أوساط اللاجئين والمهاجرين إلى دول الجوار والأبعد منها، مما دفع دولاً كثيرة إلى استخدام ذلك حجةً في تحويل ملف الثورة السورية من ملف سياسي إلى ملف أمني، بحيث انتقلت متابعته من الجهات السياسية والدبلوماسية إلى الجهات الأمنية وأجهزة المخابرات في دول الجوار السوري وغيرها، وهكذا تحول السوريون بمن فيهم قياداتهم السياسية المعارضة إلى أسماء وأرقام في الملفات الأمنية الإقليمية والدولية، وصارت متابعتهم مسؤولية مباشرة لأجهزة المخابرات لتجمع عنهم كل المعلومات الممكنة على نحو ما كان يفعل نظام الأسد، لكن بطريقة عصرية، وأكثر تنظيماً وجدوى، وسرعان ما صارت معلومات وتقارير أجهزة المخابرات في مختلف الدول مصدر معلومات ومواقف القادة من السياسيين والمعارضين في اجتماعاتهم مع الشخصيات السياسية والقيادات الأمنية في تلك الدول، وبذلك نزعت الصفة السياسية للقضية السورية، ومما فاقم هذا الوضع تدخل الأجهزة الأمنية والاستخبارية للدول في شؤون وسياسات الجماعات المسلحة للمعارضة، وإخضاع الأخيرة لشروط الأولى في كل خطوة تقوم بها أو تعتزم القيام بها.
إن الآثار الأهم في تحول القضية السورية إلى قضية أمنية بالنسبة إلى دول الجوار والأبعد منها، هو انعكاسها على أشكال التعامل مع السوريين، خصوصاً في ظل أمرين اثنين، أولهما ظاهرة اللجوء والهجرة، والثاني ظاهرة الإرهاب، وكلاهما صار خاضعاً لمتابعة الأجهزة الأمنية والاستخبارية رغم ما بينهما من اختلافات، مما ضيّق على السوريين في نيل ما هو حق طبيعي يقرّه القانون الدولي مثل اللجوء إلى البلدان المختلفة، طلباً للحماية من القتل والاعتقال والملاحقة، حيث أغلقت أغلب دول العالم أبوابها في وجه السوريين، وأخضعت المقيمين فيها للمتابعة الأمنية الشديدة في كل القضايا بما فيها حق الإقامة ولمّ شمل العائلات والتنقل والعمل والسكن والحصول على المساعدات الإنسانية.
وقد أضاف هذا التحول أعباء جديدة على السوريين، وخلق صعوبات متزايدة تضاف إلى صعوبات ما خلفته حرب نظام الأسد وحلفائه عليهم من خسائر وترديات، وصلت إلى حد الكارثة، وبات التحرك في مواجهة هذا التحول أمراً ضرورياً، ليس من جانب السوريين وحدهم، إنما من جانب المنظمات الدولية والإنسانية خصوصاً المعنية بحقوق الإنسان وقضايا اللاجئين والمهاجرين، إضافة إلى منظمات المجتمع المدني والإعلام، ليس من أجل وقف تدهور وتردي أوضاع السوريين فقط، وإنما للحفاظ على حقوق إنسانية كرسها القانون الدولي طوال عقود مضت، يجري انتهاكها أو منع تطبيقها تحت حجج وادعاءات، لا تستند إلى حقائق وإثباتات في أغلب الأحيان.
منذ البداية، في مارس (آذار) 2011، اختارت القيادة الروسية تعريفها لانتفاضة الشعب السوري والتزمت به.
منذ البداية، اعتبرت أن المسألة برمّتها مؤامرة «أصولية» و«إرهابية» على نظام آل الأسد. ثم بعدما تحرّك بعض العرب وبعض العالم على وقع القمع الدموي للانتفاضة، أضافت موسكو عنصراً جديداً إلى تعريفها هو «رفض التدخل الأجنبي في الشؤون الداخلية لدولة مستقلة».
لم يتأثر هذا التعريف لا بتزايد القمع ولا تكرار المجازر، ولا استخدام الأسلحة الكيماوية والبراميل المتفجرة... بل، ولا حتى عمليات التطهير العرقي والطائفي الممنهج، المنتهي أخيراً باستخدام الحافلات الخضراء.
إطلاقاً، واصلت روسيا - ومعها الصين - الدفاع عن القمع والتهجير... سياسياً عبر «الفيتوهات» في الأمم المتحدة وإجهاض «مبادرة جنيف» الدولية، ثم عسكرياً، بدءاً بالجسر التسليحي الجوي... وانتهاء بالتدخل المباشر دعماً للنظام على الأرض.
وكما نتذكر، بعد «عسكرة» الانتفاضة الشعبية... ولاحقاً، وسط تبدّل مُريب في الأدوار، تراجعت الجهود الدولية بالتوازي مع نكوص موقف واشنطن عن دعم الانتفاضة الشعبية السورية. ثم، مع التفاف موسكو على «مبادرة جنيف» بابتكارها «مسار آستانة»، تحقّق للقيادة الروسية هدفان مهمّان:
الأول، الإمعان في «عسكرة» الانتفاضة وشقّ صفوف المعارضة عبر تهميش القيادات المدنية المعتدلة العاقلة، التي تآمر الجميع - تقريباً - ضدها من أجل إخراجها من المعادلة لمصلحة ممثلي ميليشيات محسوبين على أطراف إقليمية ودولية. وبالتالي، جرى تزكية مزاعم موسكو بأن لا وجود لانتفاضة شعبية معتدلة، بل كل ما هناك مؤامرة «أصولية» و«إرهابية» مسلحة مدعومة من الخارج.
والثاني، سحب تركيا، التي كانت في بدايات الانتفاضة عُمقاً سياسياً ولوجيستياً لها، إلى الخندق الروسي - الإيراني الذي كان يخوض معركة بشار الأسد ضد شعبه. لقد رضخت تركيا لتهديدات موسكو بعد إسقاطها طائرة الـ«سوخوي - 24» الروسية في نوفمبر (تشرين الثاني) 2015. وكان وراء الرضوخ التركي عاملان أساسيان، هما: إحجام حلف شمال الأطلسي «ناتو» عن التضامن مع أنقرة بوجه تهديدات موسكو، وإصرار إدارة باراك أوباما على المراهنة على الميليشيات الكردية في الشمال السوري وتسليحها ودعمها، متجاهلة مخاوف أنقرة ومناشداتها واشنطن تفهم تلك المخاوف. وهكذا، بين «مطرقة» الكرملين و«سندان» أوباما، انقلب رجب طيب إردوغان على كل مقاربته لما يحدث في سوريا، وارتضى الانخراط في تنسيق مباشر مع الروس والإيرانيين.
في هذه الأثناء، مع توالي الأحداث المتسارعة منذ أواخر عام 2015، لمصلحة تعزيز وضع جيش الأسد ميدانياً، خبا الكلام الدولي عن الانتقال السياسي. ومع صمت تركيا الفعلي في هذا الشأن، وتكرار واشنطن القول: إن مهمتها الميدانية في سوريا لا تخرج عن مقاتلة تنظيم داعش، كانت إيران تواصل التنسيق مع الروس لضمان استعادة نظام الأسد السيطرة على كامل أراضي سوريا.
صحيح، أن الكرملين خرج بمبادرة جديدة، الغاية الحقيقية منها التعجيل بدفن «جنيف» نهائياً هي «جولات سوتشي» (التي استضافتها وتستضيفها روسيا)، لكن المُعلن كان مواصلة «المتاجرة» بفكرة المفاوضات... بينما يغذي الوسيط الدولي ستافان دي ميستورا الأوهام بإثارته مسائل تفضيلية كتلك المتعلقة بدستور جديد وانتخابات، وما إلى ذلك من أمور إجرائية لا تقدّم ولا تؤخر في الأولويات الميدانية.
وهنا، بما يخصّ الأولويات الميدانية، في ظل غياب أميركي متعمّد وشبه كامل عن المشهد، ودور إسرائيلي ناشط في الكواليس، وعجز عربي غير جديد، وعجز تركي مستجد ولكن ملحوظ... دفعت كل من روسيا وإيران باتجاه الحسم العسكري النهائي. ولكن تفادياً للإحراج، وتزويقاً للصورة المأسوية البشعة لعمليات الحصار والتهجير المستمرة - طبعاً، بحجة «مقاتلة التنظيمات الإرهابية» - خرجت دبلوماسية موسكو بمصطلح «مناطق خفض التصعيد». وبالفعل، «باع» الروس هذا المصطلح للمجتمع الدولي مستفيدين من الارتباك الغربي بعد انتخاب دونالد ترمب رئيساً للولايات المتحدة في نوفمبر 2016.
أصلاً، حتى قبل اختراع أكذوبة «مناطق خفض التصعيد» كانت «المُصالحات» القسرية التي يعقدها النظام بدعم روسي - إيراني مع ممثلي سكان المدن والضواحي السورية المُحاصَرة بالتجويع والقصف، تنتهي بالتهجير الجماعي إلى محافظة إدلب بشمال غربي سوريا.
غدا التهجير إلى إدلب استراتيجية سياسية - عسكرية، تماماً، كتجاهل جيوب «داعش» المكشوفة لأسلحة الجو الروسية والأميركية والإسرائيلية والنظامية في أنحاء مختلفة من بادية الشام، ناهيك من ضواحي دمشق وخط الهدنة مع إسرائيل على نهر اليرموك. إذ بينما كانت الصواريخ وحمم القصف تحرق الأخضر واليابس وتهجّر وتقتل الألوف من المدنيين، كانت المفاوضات تعقد مع «جيوب» التنظيم المتطرّف لنقل مسلحيه بأمان!
والحقيقة أنه، بعد المجزرة الفظيعة التي ارتكبها «داعش» في محافظة السويداء في أواخر يوليو (تموز) الماضي، ذكر كثيرون من أبناء المحافظة، أن مسلحي «داعش» الذين ارتكبوا المجزرة كانوا من الجماعات التي نقلها النظام في حافلات من ضواحي دمشق، وأن قوات النظام لم تدافع عن المدنيين ولم تعترض سبيل «الدواعش»، مع أن النظام والروس كانوا يضغطون لتجريد أبناء السويداء من أسلحتهم كي يرسلوا أولادهم من رافضي أداء الخدمة العسكرية الإلزامية (نحو 50 ألف شاب) للقتال في إدلب.
في أي حال، بعد مجزرة السويداء، ربما ضعُفت - مؤقتاً على الأقل - حجة نقل أبنائها للقتال في إدلب، إذ بات منطق الأمور يستدعي بقاءهم في محافظتهم المهدّدة. غير أن الصورة العامة لسوريا في ظل التصوّر الروسي تستدعي الانتهاء من وجود عشرات الآلاف ممن تعتبرهم موسكو «إرهابيين» في ريف إدلب.
هنا، تتجه الأنظار مجدّداً إلى تركيا.
لا شك، أن وضع القيادة التركية حالياً حرج، فهي من ناحية تواجه كابوس إلغاء كل مكتسباتها الميدانية والسياسية في سوريا. ومن ناحية أخرى، تتعرّض لـ«حرب اقتصادية» أميركية مفتوحة بعد احتجاز أنقرة القس أندرو برنسون، الأمر الذي فاقم الخلاف المزمن حول الداعية فتح الله غولن المقيم في أميركا.
كل الطرق تؤدي الآن إلى إدلب... ولكن أي طريق سيسلك الرئيس إردوغان في هذه الفترة الحرجة؟
بعد أن دخلت الحزمة الأولى من العقوبات الأمريكية ضد إيران حيز التنفيذ، أبدى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب استعداده للجلوس مع إيران على طاولة المفاوضات، ومن الواضح أنه سيعرض عليها شروطاً جديدة لاتفاقية جديدة، من شأنها، أو هكذا يرغب، علاج الثغرات التي انسحب بسببها من الاتفاقية النووية التي وقعها سلفه الرئيس أوباما. أهم تحفظات ترامب على الاتفاقية السابقة أنها لم تعالج نقطتين محوريتين في نشاطات إيران السياسية في المنطقة، النقطة الأولى الصواريخ البالستية. النقطة الثانية حول نشاطاتها العدائية لدول المنطقة، إضافة -بالطبع - إلى التوقف عن تطوير مفاعلاتها النووية، بالشكل الذي يمنعها من امتلاك أسلحة نووية. ربما أن المرشد علي خامنئي يستطيع أن يوقف - ولو تكتيكياً - نشاطاتها المتعلقة بالصواريخ البالستية، أما نشاطاتها المتعلقة بالعمل على التدخل في شؤون المنطقة، وتقمص دور نصرة المستضعفين، والتي يصفه الإيرانيون أحياناً بتصدير الثورة، فهو مادة دستورية آمرة، ورثها خامنئي من الدستور الذي ورثه عن مؤسس الثورة الخميني، وتعديل دستور الخميني في عرف كهان إيران، هو في معاييرهم كتغيير (الدين)، أو بلغة فقهية مثل (تغيير الثابت من الدين بالضرورة).
فهم يعتبرون الخميني، وإن لم يصرحوا بذلك علناً، في درجة الأنبياء المرسلين، أو الملائكة المطهرين. وليس لدي أدنى شك أن ترامب يعلم ذلك، ويعرف يقيناً أن إيران الكهنوتية لا تملك تغيير مثل هذه المواد الدستورية الآمرة، من هنا يأتي طلب ترامب، الذي هو في تقديري تكتيك ذكي، ومناورة لاستقطاب جزء من الإيرانيين إلى موقف الأمريكيين، وإظهار نظام الجمهورية الإسلامية في إطار يظهر الخامنئي وأركان نظامه في خانة اليك، فإن قبل بالتخلي عن الدستور، وأمر بتعديله، فهو يدق أول مسمار في نعش جمهورية الخميني، وأن رفض العرض، فالعقوبات ستخنق نظامه، وتؤدي به إلى الانهيار حتماً. كما أن ملالي إيران، بكل تفرعاتهم، المتشددون منهم والإصلاحيون، لا يمكن أن يتماهوا مع العصر وشروط البقاء، فالنزعة العدوانية التي ينتهجونها لن يقبل بها عالم اليوم إطلاقاً، وتحول النظام في إيران من (الثورة) إلى (الدولة)، هو شبه مستحيل، إذا لم يكن هو المستحيل بعينه، والمثقفون في إيران يدركون ذلك تمام الإدراك، لكن هيمنة الحرس الثوري على القرار السياسي في إيران، يجعل قراراً كهذا بمثابة العملية الانتحارية بالنسبة لهذه المؤسسة العسكرية، التي نمت وتعاظمت، حتى أصبح الإيرانيون اليوم يحسبون حسابها بجميع فئاتهم، بما فيهم رجال الدين أنفسهم، وعلى رأسهم علي خامنئي نفسه.
الآن حزمة من العقوبات الأمريكية جرى تطبيقها على إيران، غير أن الحزمة الثانية واللاحقة ، والتي ستطبق بعدها بثلاثة أشهر، هي الأخطر، وهي الكفيلة بخنق الاقتصاد الإيراني خنقاً مميتاً، وليس في مقدور الإيرانيين مواجهة مصيرهم إلا بالتخلي عن توجهاتهم العدوانية، والاتجاه في سلوكياتهم السياسية إلى التخلي عن العنف والشغب وإثارة الفتن والمشاكل لدول الجوار.
لذلك فالملالي الآن في مأزق، وأمامهم خيارات أحلاه في منتهى المرارة، لهذا فلا أعتقد أن الإيرانيين قادرين على الخروج من هذا النفق المظلم الذي وجدوا أنفسهم فيه، إلا بتنحية رجال الدين عن السلطة بانقلاب عسكري، واستحواذ جنرالات الحرس الثوري على مقاليد الحكم، وإلا فإن جمهورية الخميني ستنهار حتماً.
كان مفاجئاً أن تبادر موسكو إلى وضع ما سمّتها خطة لإعادة اللاجئين السوريين إلى ديارهم. إذ لم يُعرف عن المسؤولين الروس أي تعاطفٍ، ولو بالحد الأدنى واللفظي، مع محنة هؤلاء، ولم تستقبل موسكو أي لاجئ مقتلع من بلاده. وخلافا لذلك، فقد أسهمت في عملية تشريد هؤلاء بالقصف المتكرّر لمدنيين، أو مرافق مدنية، وذلك منذ مطلع العام 2016، فترةً لا تقل عن ثلاثين شهرا. وقامت بتنظيم عملية نقل مدنيين في ظروف قسرية من أماكن إقامتهم، كما حدث أخيرا في درعا ومحيطها، وكما جرى من قبل في الغوطة الشرقية. ولم تبال يوما بمصير المدنيين أو أوضاعهم.
وأمر يثير العجب أن يكون طرفٌ شريك في التسبّب بمأساة هؤلاء هو من يتطوّع لأداء هذه المهمة، وحتى قبل أن تنتهي العمليات الحربية، علماً أن موسكو لم يسبق لها أن تحدّثت يوما عن وقفٍ لإطلاق النار، مكتفية بترديد تلك العبارة الملتوية عن خفض التصعيد. وغالبا ما كان يعقب إطلاق هذه العبارة، أو عقد مؤتمرات حولها في الأستانة وسوتشي، زيادة التصعيد من موسكو وحلفائها.
وبينما تتحدّث الأمم المتحدة هذه الأيام عن أعداد مهولة من المدنيين، مهدّدين بالتشريد، في حال استهداف مدينة إدلب، وبينما لا تكتم موسكو عزمها مع حلفائها من مليشيات إيران على شن حملة عسكرية على هذه المحافظة في شمال البلاد، فإنها تنهمك، في الوقت نفسه، بإعداد ترتيبات لعودة اللاجئين! وتجري اتصالات مع دول الجوار لهذا الغرض. وكان لافتاً أن مسؤولين روسا امتدحوا التجاوب اللبناني الرسمي "الممتاز" مع هذا الملف. وواقع الأمر أن اللاجئين السوريين تعرّضوا لمختلف اشكال التنكيل والتضييق والتشهير، لحملهم على العودة عُنوة إلى بلادهم، فيما سبق لقوى لبنانية، وخصوصا منها حزب الله، أن أسهمت في اقتلاع اللاجئين من ديارهم، وذلك تحت أنظار السلطات اللبنانية.
من حق اللاجئين السوريين العودة إلى بلدهم، في ظروف آمنة وكريمة، لكن هذه الظروف غير قائمة الآن. وحملهم على العودة، أو الضغط عليهم بهذا الاتجاه، لا يعني سوى الشروع في فصل جديد من فصول تعريضهم لأفدح الأخطار. هذا في وقتٍ يُدرك فيه القاصي والداني أن الحرب لم تضع أوزارها في هذا البلد، ولا يلوح في الأفق حل سياسي من النوع الذي اشتملت عليه قرارات الأمم المتحدة ووثائقها. ولم تدفع موسكو من جهتها، منذ حلولها، بصورة مباشرة، في هذا البلد في سبتمبر/ أيلول 2015، نحو أي حل سياسي، فقد انهمكت على الدوام بالحلول العسكرية التي تنال بصورة كثيفة من المدنيين، وقد تم اختراع مؤتمرات أستانة وسوتشي لهذا الغرض، ولصرف الأنظار عن مؤتمر جنيف المرعيّ دوليا.
والبادي بوضوح أن موسكو تستغل السلبية الدولية تجاه الوضع السوري المأساوي، وتسعى إلى ملء هذا الفراغ بإطلاق مبادراتٍ تضمن مصالحها في هذا البلد، مع محاولة تعظيم هذه المصالح (مضاعفتها) على المدى البعيد. وقد وجدت في محنة اللجوء ورقة قابلة للاستخدام السياسي، فمن جهةٍ يمكن، عبر لعب هذه الورقة، الإيحاء للأوروبيين أن في وسع موسكو تحريرهم من "عبء" اللجوء السوري، وتنظيم عودة اللاجئين، بانتظار التجاوب مع هذا الطرح، بممارسة ضغوط على اللاجئين. وفي مقابل ذلك، وبدون أن تتوقف الحرب (ومع استمرار وجود مليشيات إيران متعدّدة الجنسيات)، فإن على أوروبا المساهمة المالية في إعادة الإعمار. وخلال ذلك استئناف الاتصالات مع دمشق. وينسحب الأمر نفسه على دول الجوار: الأردن ولبنان وتركيا. وبحيث يتم، حسب الخطة، إيواء اللاجئين في مراكز إيواء مؤقتة (وللمرء أن يتخيل أحوال هذه المراكز، والبيئة السياسية والأمنية المحيطة بها)، وعلى أمل أن يشكل وجود هؤلاء عامل ضغط على دول عديدة، منها دول خليجية، للمسارعة بالإسهام المالي في إعادة الإعمار! وتتحدث تقارير عن شركات روسية، تتأهب للقيام بهذه المهمة، إلى جانب شركات أخرى، يمكن للمرء أن يتوقع أن تكون صينية وعراقية ولبنانية وإيرانية وسواها.
وأقل ما يقال في ملامح هذه الخطة أنها تضع العربة أمام الحصان، وتتعمد خلط الأوراق، وتقوم على الاستثمار والاتجار السياسي والاقتصادي بمحنة ملايين البشر، من دون منحهم أي أمل جدّي بالكرامة والأمن والسلام، مع "تهديد" اللاجئين بوضعهم أمام حملة تشهير جديدة ضدهم، إذا ما امتنعوا عن العودة، في ظروفٍ لا تسمح لهم أبداً بالعودة. وباستثناء لبنان الرسمي الذي "أبدع" في ممارسة كل أشكال التنكيل باللاجئين، بما في ذلك التحريض العنصري العلني، فإن أصداء الخطة الروسية تبدو باهتةً لدى الدول المعنية. اذ تقوم الخطة على خلط الأولويات، وعلى تأخير ما ينبغي أن يكون متقدّما، وتقديم ما هو متأخر على سلم الأولويات، استنادا إلى قناعة متزايدة لدى موسكو تنُبئ بها جملة سلوكها، بأن في وسعها أن تقرّر وحدها مصير سورية، ومصير السوريين، من دون تدخلٍ من أحد، بمن في ذلك السوريون أنفسهم.
والراجح أنه سيعود من قد قرّر العودة، قبل السماع بالخطة الروسية، كحال اللاجئين في لبنان الذين واجهوا عداءً مقيتاً، لا سابق له في تاريخ العلاقة بين الشعبين السوري واللبناني، وتلقوا بعض التضامن من قوى وشخصيات لبنانية نزيهة، لكنه لم يمنع التحريض الطائفي والعنصري عليهم، مع رعاية رسمية لهذا التحريض. وسوى هؤلاء، فإن بقية اللاجئين السوريين، على امتداد العالم، لن يروا في الخطة سوى محاولة فرض عبودية دائمة عليهم في وطنهم، هذا من دون أن تتوقف تطلعاتهم إلى عودة كريمة آمنة، تزول فيها الظروف التي أرغمتهم، ولأول مرة في حياتهم، على اللجوء القسري.