لم تعد سيناريوهات تعامل النظام السوري مع عقدة "إدلب" متعددة ومعقدة، فقد بات الاحتمالات تنحصر في خيارين محددين؛ يقوم الأول على تحقيق تسوية، ويستند الثاني إلى تصعيد المواجهة. وفي الوقت الذي تشي تصريحات الأمم المتحدة إلى احتمال التصعيد، فإن تركيا لا تزال تراهن على مسار التسوية، لكن سلوك النظام السوري المفضل منذ التدخل الروسي يقوم على المزج بين الخيارات، حيث يبدو النظام وكأنه غير ملتزم بالاتفاقات التي تعقدها روسيا مع مختلف القوى، وتلعب روسيا دور الوسيط مرة أخرى وفق سلسلة من الألعاب أصبحت مكشوفة.
إن خطوط اللعبة الروسية في سوريا تعتمد على إقناع جميع اللاعبين أنها تمتلك خيوط اللعبة التي تؤهلها للقيام بدور الوسيط، كجهاز توازن بين الأطراف الدولية والإقليمية التي ترتبط بجماعات المعارضة المسلحة المحلية. وبذلك، أعفت نفسها من تهمة الاحتلال والقتل والتدمير، رغم أن كافة عمليات النظام تتمتع بتغطبة جوية روسية، في ذات الوقت الذي تقوم به بدور الوساطة بين الأطراف الدولية والإقليمية المتزامنة مع عملية العزل والقضم والتطهير العسكري لقوات المعارضة المسلحة، تحت مسمى "المصالحة" في مناطق تخضع لاتفاقات "خفض التصعيد".
السلوك الروسي في سوريا بالتعامل مع عقدة "إدلب"، لا يختلف كثيرا عن سلوكها في المناطق الأخرى، فقد استبق الرئيس السوري بشار الأسد المحادثات محادثات "أستانة 10" بالإعلان عن أن "هدف الجيش السوري حاليا محافظة إدلب"، وهو ما ظهر جليا مع تصريحات رئيس وفد النظام السوري إلى "سوتشي - أستانة 10"، حيث هدد بشار الجعفري بعملية عسكرية لاستعادة محافظة إدلب التي تسيطر على معظمها المعارضة المسلحة. وقال الجعفري: "إذا عادت مدينة إدلب بالمصالحات الوطنية فهذا ما تريده الحكومة السورية، وإذا لم تعد فإن للجيش السوري الحق باستعادتها بالقوة". ووصف وجود القوات التركية في الشمال السوري بالاحتلال، وتوعد بطردها.
خطوط اللعبة الروسية كوسيط توازن ظهرت مع تصريحات رئيس الوفد الروسي في ختام اجتماع "أستانة 10" ألكسندر لافرينتييف، في 31 تموز/ يوليو 2018، بأنه ليس ثمة حديث في الوقت الحاضر عن هجوم عسكري واسع النطاق ضد المسلحين في محافظة إدلب السورية، وذلك بانتظار إنجاز تسوية مع تركيا في إطار مهلة للتعامل مع إدلب بحلول أيلول/ سبتمبر المقبل، بالتزامن مع تهديدات النظام بالتصعيد، ولذلك عاد لافرينتييف ليؤكد في نفس الوقت على إصرار موسكو على ضرورة قطع دابر المجموعات الإرهابية في هذه المنطقة، وفي مقدمتها "جبهة النصرة". وتابع: "لذا فقد دعونا المعارضة المعتدلة إلى تنسيق أكبر مع الشركاء الأتراك من أجل حل هذه المشكلة،".
وصرح لافرينتييف بأن روسيا مستعدة لدعم جهود المعارضة السورية المعتدلة في دحر الإرهابيين في المنطقة إذا احتاجت لذلك، مشيرا إلى الوفد الروسي عرض بشكل صريح دعمها لممثلي المعارضة في سوتشي. وأشار لافرينتييف إلى أن المشاركين في الاجتماع توصلوا إلى فهم مشترك لكيفية محاربة الإرهاب في سوريا، قائلا إن الإرهاب لا بد من مكافحته حتى هزيمته التامة وفي أسرع وقت ممكن. ورغم تصريحات لافرينييف بعدم وجود حملة شاملة في إدلب، فإن وزارة الدفاع الروسية عادت وأشارت إلى ضرورة تطهير هذه المنطقة من "الإرهابيين"، وهي ذات الذريعة التي استخدمت في كافة مناطق "خفض التصعيد"، إذ أشارت وزارة الدفاع إلى أن "الإرهابيين"، بدأوا يشنون هجمات على "القوات الشرعية" شمال سوريا.
إذا كان ثمة جدل حول وجود منظمات "إرهابية" في مناطق "خفض تصعيد"، كما هو حال درعا والغوطة الشرقية، ومع ذلك تم تصعيدها، فإنه لا جدال حول وجود منظمات تعتبر "إرهابية" في إدلب، بل ثمة توافق بين معظم المتجادلين على أن إدلب في قيضة "الإرهابيين"، فهي تعتبر ملاذا لتنظيمات مصنفة كحركات إرهابية، تصنف كسلالات تتبع تنظيم "القاعدة"، وعنوانها الأبرز "جبهة النصرة" التي تحولت إلى "جبهة فتح الشام" ثم إلى "هيئة تحرير الشام"، وقد أدرجتها الولايات المتحدة الأمريكية على قائمة المنظمات الإرهابية، وكذلك تنظيم "حراس الدين" الأقرب للقاعدة، والذي اندمج في "حلف نصرة الإسلام"، فضلا عن جماعة أنصار الدين، والحزب الإسلامي التركستاني المكون من أقلية الإيغور الصينية، الأمر الذي جعل الصين تفكر في المشاركة في معركة إدلب. فرغم أن السفارة الصينية بدمشق أشارت إلى عدم دقة ترجمة تصريحات السفير الصيني بدمشق بأن "جيش بلاده مستعد للمشاركة في معركة إدلب أو أي مكان آخر في سوريا لمكافحة الإرهابيين، وخاصة الإيغور القادمين من الصين، إلا أنها أوضحت أن الصين تتمسك بالحل السلمي والسياسي، غير أن ذلك لا ينفي وجود مصلحة للصين في محاربة مقاتلين صينيين من أقلية الإيغور المسلمة، المنضوين ضمن "حزب تركستان الإسلامي" الذي يقدر عدد أعضائه بنحو 2500 شخص في إدلب.
تدرك تركيا طبيعة اللعبة الروسية، وأن دخول قوات النظام السوري مسألة وقت، وهي تحاول تحقيق بعض المكاسي عن طريق تسوية. فقد اتفقت دمشق وطهران وموسكو على تأجيل الهجوم مؤقتا على إدلب، والسماح لتركيا نفسها بالتعامل مع التهديدات التي تنبثق من جماعات إرهابية منفصلة في المنطقة، لكن هذا الحل الوسط، لن يدوم طويلا؛ فتركيا في ظل أزمتها باتت الحلقة الأضعف مع التدهور الحاد في علاقة أردوغان بالغرب، وسوف تتنحى جانبا مع التصعيد، وتكتفي بالحصول على تنازلات غير ذات قيمة، الأمر الذي دفعها إلى الإسراع بمحاولة فرض واقع جديد للمعارضة السورية المسلحة في محافظة إدلب من خلال تأسيس "الجبهة الوطنية للتحرير" في 1 آب/ أغسطس 2018، والتي تضم معظم فصائل المعارضة المسلحة في الشمال، وهي: "جبهة تحرير سوريا" تشكلت بعد اندماج حركتي "أحرار الشام" و"نور الدين زنكي"، وكذلك "ألوية صقور الشام"، و"جيش الأحرار"، و"تجمع دمشق"، إلى جانب "الجبهة الوطنية للتحرير"، التي أعلن عن تأسيسها في أيار/ مايو الماضي، وتضم 11 فصيلاً؛ وهي "فيلق الشام" و"جيش إدلب الحر" و"الفرقة الساحلية الأولى" و"الفرقة الساحلية الثانية" و"الفرقة الأولى مشاة" و"الجيش الثاني" و"جيش النخبة" و"جيش النصر" و"لواء شهداء الإسلام في داريا" و"لواء الحرية" و"الفرقة 23". وقالت الفصائل في بيان التأسيس، إن الاندماج يأتي كنواة لـ"جيش الثورة القادم"، ليشكلوا بذلك أكبر كيان عسكري معارض للنظام قوامه قرابة 100 ألف مقاتل، حسب مصادر هذه الفصائل، وهو رقم لا يخلو من مبالغة، حيث يمكن الحديث عن أقل من نصف هذا الرقم. وقد تجنبت تركيا وضع أي قيادات قد تثير التساؤلات في المناصب القيادية العليا، وفضلت قيادات عملت طويلا في إطار "الجيش الحر" الذي عمل لسنوات مع أمريكا في غرفة "الموم" التي كانت تعمل في إطار برنامج المخابرات الأمريكية السري لدعم المعارضة "المعتدلة" قبل إنهائه والتخلي عنه.
خطوط اللعبة الروسية في إدلب لا تختلف عما حصل في كافة مناطق خفض التصعيد، حيث تقوم روسيا بلعب دور الوسيط للتسوية ظاهريا، في الوقت الذي يعمل النظام السوري على التصعيد عسكريا
لم يبلغ المسؤولون الأتراك قادة الفصائل المتحدة بالأفكار الموجودة في ذهن أنقرة، حسب إبراهيم حميدي، فالأفكار التركية تتضمن أيضاً إعطاء مهلة لـ"هيئة تحرير الشام" كي تحل نفسها، بحيث ينضم السوريون من التحالف ضمن الكتلة الجديدة، و"إيجاد آلية" للأجانب من المقاتلين لـ"الخروج من سوريا بعد توفير ضمانات"، ويشمل ذلك "العزل" أو "التحييد" أو "الإبعاد" للمقاتلين الأجانب الموجودين في "حراس الدين" و"الجيش التركستاني الإسلامي". وقد واصل الجيش التركي تحصين نقاط المراقبة التي تصل إحداها إلى حدود محافظة حماة جنوب إدلب، في وقت حصلت أنقرة على مهلة من موسكو في اجتماع سوتشي الأخير للبحث عن "تسوية" للشمال، بالتزامن مع انعقاد القمة الروسية - الألمانية - الفرنسية - التركية في 7 أيلول/ سبتمبر المقبل.
خلاصة القول أن خطوط اللعبة الروسية في إدلب لا تختلف عما حصل في كافة مناطق خفض التصعيد، حيث تقوم روسيا بلعب دور الوسيط للتسوية ظاهريا، في الوقت الذي يعمل النظام السوري على التصعيد عسكريا، ثم يعمد إلى خلط المسارات بعد خلق واقع ميداني جديد. ولهذا، فإن مسألة التسوية تعبد الطريق أمام التصعيد، وبهذا فإن عودة إدلب إلى النظام السوري هو مسألة وقت في محاولة للحد من الخسائر المتوقعة.
ترد في تصريحٍ لبطريرك روسيا الأرثوذكسي معلوماتٌ مفاجئةٌ، تلقي أضواء على أحد مسوّغات الحرب التي شنتها روسيا ضد شعب سورية، تحت شعارٍ لطالما اعتقدنا أنه من ابتداع المخابرات السورية، وها هو البطريرك يخبرنا أن جيش روسيا اعتمده مع شيءٍ من التصحيح، فلم يعد "الأسد أو نحرق البلد"، بل "الأسد ونحرق البلد".
يقول البطريرك إن علاقات الكنيسة الروسية مع آل الأسد قديمة، وإنهم كانوا حلفاء للبيزنطيين وقفوا إلى جانبهم في الصراع على المشرق وسورية. يضيف البطريرك إنه هو من أنقذ بشار الأسد وليس بوتين، وهو من أقنع الرئيس الروسي بالتدخل عسكريا في سورية، ولذلك أصدرعام 2015 بيانا أيّد شن غارات جوية في سورية، واعتبرها جزءا من "معركة مقدّسة".
بصراحة، كنت أستخفّ شخصيا بترّهات البطريرك، وأرى فيه شخصا يعيش في الحقبة السابقة للعصر الوسيط، وأن مواقفه تفسّر بغربته المرضية عن العالم، وتخلفه الذهني الذي تمليه في العادة معتقداته الدينية المتطرّفة، والتي تحدّد مواقفه السياسية بما تسبّبه من كوارث "مقدّسة" بين البشر، لكنني أميل اليوم إلى قراءة تصريحاته باعتبارها جزءا تكوينيا من خيارات روسيا الرسمية التي يخالطها ضربٌ من هوس ديني، يجعل الأسد مركز "معركة مقدسة "في سورية، وقضية كنسية روسية تتجسّد فيه شخصيا، يضمن وحده، من دون بقية خلق الله، بقاء سورية "بؤرة جيوسياسية روسية"، حسب قول أحد كبار قادة الجيش الروسي: الجنرال فيدوروف الذي تحدّث عن وضع خاص، يجب أن تأخذه روسيا بالاعتبار، يرتبط باختيار الرئيس السوري من "المجلس العلوي الأعلى في الساحل".
تلتقي الكنيسة الروسية وعسكريتاريا موسكو على بشار الأسد، الأولى بسبب دور أسرته في التعاون مع بيزنطة ضد المسلمين، والثانية بحجة أنه شخصيا مصلحة جيوسياسية روسية، تختارها الجهة التي يذكّر البطريرك بدورها التاريخي إلى جانب بيزنطة، ويجدّد قتالها اليوم ضد "الإرهاب الإسلامي" دورها التاريخي حليفا تلتقي عنده تشابكاتٌ تاريخيةٌ واستراتيجيةٌ ودينيةٌ دفعت روسيا إلى احتلال سورية لإنقاذه هو وجماعته، وفاءً لعلاقة قامت قبل أكثر من نيّف وألف عام مع بيزنطة، اخترقت خلالها العالم الإسلامي، وها هي موسكو ترد لهما الجميل، وتحتل سورية لفرضهما بالقوة على شعبها الذي يرفضهما، وللمحافظة على مؤسّساتهما الطائفية من جيشٍ ومخابرات، والتي بنتها روسيا، وتحارب اليوم معها في إطار علاقة تتبنّى الكنيسة والدولة الروسية فيها موقفا موحد المنطلقات، يندمج مجلس الساحل الأعلى فيه عبر شخص بشار الذي لا بديل ولا مثيل له، ويلتقي في شخصه عفن التاريخ الكنسي مع التطلّع الاستعماري المستعاد، والتخلف الطائفي الذي قتل السوريين، ودمر دولتهم ومجتمعهم، تحت إمرة روسيا.
تقول تصريحات البطريرك والجنرال الروسيين إنه لا علاقة لخلفيات الموقف الروسي بظاهره، بل تستأنف صراعا كنا نعتقد أنه عفا عليه الزمن، يتبنّاه عندنا قتلة باسم الدين، تقول تصريحات الروس إن الحال هناك ليس أقلّ جهاديةً من الحال هنا، وأن روسيا تعتبر بشار الأسد جزءا من الحرب المقدّسة ضد السوريين، لن تتخلى عنه، لأن وجوده مصلحة روسية فوق سياسية، تفسّر خلفياتها هذه تصريح لافروف بشأن رفض إقامة حكومة سنية في دمشق، وحديث البطريرك عن حرب روسيا المقدّسة في سورية.
إذا كان هذا التشابك الذي أفصحت عنه التصريحات يفسّر ما خفي من سياسات روسيا تجاه وطننا، لماذا فاتنا المغزى العميق لحديث بطريرك روسيا عام 2015 عن حرب روسيا المقدّسة في سورية، وحديث لافروف عن منع قيام الدولة السّنية.
نشهد سلسلة نتائج غير متوقعة للحرب السورية. فبينما أفسدت الحرب ذات بين تركيا والولايات المتحدة، عززت وعمقت علاقات أنقرة- موسكو على نحو غير مسبوق.
السؤال المطروح اليوم هو: بما أن طبيعة العلاقات التركية الروسية بدأت تتغير في سوريا، هل تفسد بعض المشاكل الميدانية هذه العلاقات؟
أجلت تركيا وروسيا بعض المشاكل وتمكنتا من العمل بشكل "منسجم". وصلنا الآن المرحلة الأخيرة من الحرب السورية. يجب قراءة المشهد من جديد في جميع المجالات، وعلى الأخص في أربع قضايا.
مستقبل الأسد، والوضع السياسي للمعارضة المسلحة المدعومة من تركيا، وعلاقة موسكو مع تنظيم "بي كي كي" الذي استولى على "تمثيل" أكراد سوريا، ومشكلة إدلب.
تثير هذه القائمة فضول الكثير من المحليين السياسيين والعسكريين والاستخباراتيين، الذين يسعون لاستشراف كيفية تأثير الوضع المحتقن حاليًّا على العلاقات التركية الروسية. ومعظمهم يتوقع حدوث مشكلة خطيرة بين البلدين.
من أجل تحديد مدى خطورة المشكلة ينبغي قراءة حجم وعمق التعاون بين أنقرة وموسكو. وعند النظر من هذه الناحية يتضح أن سوريا عمومًا وإدلب خصوصًا مسألة "ثانوية".
فالعلاقات التركية الروسية تجاوزت المسألة السورية بأشواط، وهي تتقدم بخطوات واثقة على العديد من الصعد بدءًا من الاقتصاد والطاقة، وحتى التجارة والسياحة والدبلوماسية والتعاون العسكري والاستخباري.
هذا التقدم والتعاون المتنوع يعزز قوة روسيا في مواجهة الناتو والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. وليس سرًّا أن الجناح الجنوبي للناتو "تراخى"، وهذا يثير قلق الغرب.
منذ أن اكتشف طرق وأدوات ممارسة السياسة التركية، والرئيس الروسي يبدو أنه بنى استراتيجيته بصبر كبير على موقف الغرب الذي لا يبعث على الثقة، تجاه تركيا.
وبشكل عام، يبدو أن بوتين يمتلك المرونة والبصيرة اللتين تتيحان له إدارة الأمور في سوريا دون مواجهة مشاكل مع تركيا. وبينما يترك بعض المسائل للوقت، سيلقي بسؤولية المشاكل الأخرى كبي كي كي، على عاتق الغرب.
بالنتيجة، مستقبل الأسد والمعارضة المدعومة تركيًّا أمر يمكن مناقشته لاحقًا. وبي كي كي مشكلة متأصلة في المنطقة. أما إدلب فهي مشكلة تكتيكية تُرك حلها لتركيا. العلاقات التركية الروسية تتمتع بأهمية كبيرة إلى درجة أن بوتين لن يسمح لمشكلة إدلب بأن تفسدها.
ننهار وينهار العالم من حولنا وتزلزل الأرض من تحت أقدامنا وتثور البراكين من فوق رؤوسنا وتضيق الأرض بنا وتبقى الأم شامخة وملجأً لنا عند الشدائد والمصائب. لا أعلم عن البقية، من أين يستمدون قوتهم لكني أتكلم عن نفسي أني أستمد قوتي من صبر أمهاتنا، أمهاتنا اللاتي فقدن أولادهن بالمعتقل، أمهاتنا اللاتي صار أولادهن بخانة المفقودين، أمهاتنا اللاتي سقط أولادهن بين شهيد وجريح ومبتور اليد ومبتور الساق، أمهاتنا الجبل الشامخ. أمهاتنا يعلمن جيداً أننا نحن معشر الرجال الذين ندعي القوة والعظمة والجبروت قاب قوسين أو أدنى من الانهيار والسقوط.
جميعنا نرى في أمهاتنا مصدر قوة وضعف، قوتها في صبرها وجلدّها على الصعاب والمشاق، وتحملها للألم الذي يعتصرنا ونخبئه في أعماقنا، ولكنها تشعر به وتدركه بأمومتها ومشاعرها الجياشة وعاطفتها الحنون فتلجأ إلى المساعدة والعون دون طلب أو إذن. هي الحضن الرؤف الذي أخذ على عاتقه مساعدة وحماية جميع أبنائه دون استثناء، ومصدر قوتنا في ثباتها وصبرها على أهوال الأمور وشدائدها. فكم من أم فقدت ولدها في سجن ومعتقل، وكم من أم فقدت أمها شهيد أو فقيد، تحمل في قلبها ألم وحزن لا تحمله الجبال ولا تستطيع، ومع ذلك تحمله أمهاتنا وتخبئه دون أن تبديه لأحد، لأنها تحاول أن تساعد وتصبّر من حولها على شدة الفاجعة وصعوبتها. فالأب يحزن وكذلك الأخ والأخت، فلا يجدون أقوى من عزيمة الأم وصبرها ومساعدتها لهم رغم كونها الأشد وجعاً. فهي فقدت فلذة من كبدها تجتاحها عواطف الحزن والغم، مع ذلك لا تبديها خوفاً على الأخرين من أبنائها، وتثبيتاً لقلوبهم على تحمل الصعاب والفقد.
أجد في أمي مصدر قوة لا ينقطع ولا يتأثر بما يجري من حوله رغم الشدّة وصعوبة العيش في بلد ينهش فيه القوي الضعيف، وتضيع حقوق أبنائه بين مغتصب وجلاد ومتآمر وخائن. كل ذلك تجده في سوريا، البلد المتمزق والمتأكل والمظلوم شعبه تحت مباركة ورعاية دولية وأممية. كل ذلك يهدف إلى تحطيم معنويات أبنائه وتمزيق بلادهم وتحطيم أحلامهم ومعنوياتهم، فأنت حين تنظر إلى ذلك البلد المغصوب أرضه وحريته، ستجد الكثير ممن تحطمت أحلامهم وآمالهم وأخذت تتبدد مع الظلم الراسخ فوق الأرض والشعب. لكن بين ثنايا ذلك الظلم والقهر والخوف، ستجد دائماً أشخاص يبنون الأمل ويعيدون الثقة إلى أبناء سوريا. تلك المحاولة تأتي من أشدهم خوفاً وحزناً، تأتي من الأمهات أولاً، تستعجب أمرها وتحسدها وتشجعها كل ذلك في آن واحد، فلا يوجد في سوريا أم لم تفقد أحد أبنائها أو أقاربها. لن تجد في بلدي أي أم لم تفجع على غالي، لن تجد هناك أي أم لم تنزف دموعها دماً ونار، وصدقني لن تجد هناك في سوريا أي أم من أمهاتنا لم يجتاح الحزن والقهر والخوف قلبها.
هذه هي حالها، ومع ذلك ورغم الحزن والخوف والقهر، فهي كانت وستبقى أول مدرسة للصبر والشجاعة والثبات في وجه ذلك كله، فهي التي وقفت في وجه الظالم وتحملت ما تحملته ولا زالت تتحمل ذلك كله لأجل الباقي من أبنائها. فرغم سنين الظلم والحقد المنتشر فوق أرض بلدي لم تفقد الأم الأمل والشجاعة، فهي تتضرع إلى الله كل يوم وكل ساعة وكل دقيقة ليحمي الباقي من أبنائها، وتسأله الرحمة لمن فقدتهم منهم. وتُعلم أولادها الصبر والشجاعة والثقة بأن الله حق، وأن الحق سيدوم وستزول الغمة عنهم وتتغير أحوالهم وتتحقق أحلامهم وآمالهم بالله فقط. ثقة جاءت من الإيمان الذي في قلبها الحزين، ثقة بالله لم تفقدها أبداً، بأن ما يصيبها ويصيب أبنائها من خوف وفقد وفقر، فهو كله من عند الله ليجزيهم بخير من لدنه. تعلم أبنائها بأن الصبر حكمة، وأن النصر آت لا محالة، وأن الله معهم وبجانبهم رغم كل الأهوال والشدائد.
تعلمني أمي بأن لا أخسر آخرتي إن كنت قد خسرت كل شيء في دنياي، فما عند الله أكبر وأعظم. تعلمني أمي بأن أخي لم يمت ولم يفارق الحياة حين تقول إنه شهيد في الجنة يقف على أبواب الرحمن يسأله الجنة لمن خلفه من إخوانه. حين أبكي تعلمني أمي أن الدموع لا تُخفف شيئاً من الأوجاع بقدر ما يخففها الثقة بالله وذكره والنجدة به والتضرع إليه. تقول بأن كل ما حدث ويحدث هو اختبار من عند الله لعباده الصابرين فكن منهم يا ولدي واعلم أن الخير من الله، وأن الشر من الأنفس الضعيفة ومن الشيطان فإيّاك إياك أن تفقد ثقتك وتوكلك على الله فيما يصيبنا ومن حولنا، واعلم أن الظلم لا يدوم وإن طال أمده. أمهاتنا قُوتنا، حين تسمع منها ذلك الكلام تتشجع وتصبر، ولكن حين تنظر في عينيها وفي الحزن الساكن فيهما، تستحقر كل أمر عظيم في عينيك، فمصيبتها أجل وأعظم وأكبر من أي مصيبة سيمر بها إنسان على وجه الأرض، ومع ذلك تصبر وتتعلم من صبرها الكثير والكثير في طريق النجاة. صدقني حين أقول لك لا توجد أي كلمة من كلمات العالم أجمع، تخفف من حزن الأمهات الذين فقدوا أبنائهم وأحبابهم. لكنك ستجد في عيون الأمهات ألف مواساة تخفف من حزنك، وستجد في كلماتهن الدواء لكل داء قد يصيبك، أسأل الله تعالى أن يخفف عن أمي وجميع الأمهات ما أصابهن من حزن وألم، وأن يبدلهن بخير من لدنه يفرح به قلوبهن ويعيد البسمة إلى شفاههن.
تولى رئيس وزراء دولة الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ثمّ وزير دفاعه أفيغدور ليبرمان، تذكير الغافلين (ومعظمهم لا يتغافل إلا عن سابق قصد) بأنّ العلاقات مع النظام السوري، أو آل الأسد على وجه التحديد، كانت وتظل على ما يرام: «لم تكن لدينا مشكلة مع نظام عائلة الأسد، فطوال 40 عاماً لم تطلق رصاصة في هضبة الجولان. والأمر المهم هو الحفاظ على حريتنا في العمل ضد أية جهة تعمل ضدنا»، قال نتنياهو، أواسط تموز (يوليو) الماضي، في اختتام زيارة حافلة إلى موسكو. ليبرمان، من جانبه، لم يغلق الباب أمام علاقات مستقبلية مع النظام، كمَنْ يتمنى لآل الأسد عمراً مديداً؛ مشدداً على أنّ «الجبهة السورية ستكون هادئة» مع استعادة الأسد «للحكم الكامل» في سوريا.
كان أمثال نتنياهو وليبرمان (أو الإعلامي والأكاديمي إيدي كوهين، الذي أعلن أنه «لا توجد أي دولة تريد إسقاط الأسد، حتى إسرائيل لن تسمح بإسقاطه لأنه يحمي حدودنا منذ 1967 ولن نجد أفضل منه في كل سوريا. سقوطه يهدد أمن إسرائيل القومي»؛ أو الصحافي الإسرائيلي المعروف زفي برعيل، الذي سار عنوان مقالته هكذا، ببساطة بليغة: «كيف أصبح الأسد حليف إسرائيل»)؛ يعيدون التشديد على حقيقة ظلت مرئية منذ 51 سنة في الواقع، وليس 40 سنة كما احتسب نتنياهو: أنّ الناظم لعلاقات القوّة بين سوريا حزب البعث، بعد 1967، ودولة الاحتلال، كان حالة العداء في اللفظ والجعجعة فقط، مقابل والاستسلام الفعلي على الأرض؛ ولم يكن حالة اللاسلم واللاحرب كما شاع، بل حالة سلم الأمر الواقع؛ الذي حالت أسباب مركبة، داخلية وتخصّ نظام «الحركة التصحيحية»، دون التعاقد عليه في اتفاقيات علنية.
هنا وقائع التاريخ التي تشهد على تلك الحال:
ـ في 1967 أعلن الفريق حافظ الأسد، وزير الدفاع، سقوط مدينة القنيطرة، وعدد من أبرز مرتفعات الجولان، حتى قبل أن تطأها قدم جندي إسرائيلي محتل.
ـ 1973، وافق النظام على قرار مجلس الأمن الدولي رقم 338، وكان بذلك يعترف عملياً وحقوقياً بأنّ دولة الاحتلال جزء لا يتجزأ من تكوين المنطقة ومن نظام الشرق الأوسط السياسي والجغرافي.
ـ 1974، في أعقاب توقيع «اتفاقية سعسع» وإدخال النظام الأممي حول الفصل بين القوات، لم تُطلق في هضبة الجولان طلقة واحدة تهدد صيغة «السلام التعاقدي» المبرمة تحت الخيمة الشهيرة.
ـ بعد 1976 أيّد النظام قرار مجلس الأمن الدولي الذي يدعو إلى «ضمانات حول سيادة، ووحدة أراضي، واستقلال جميع الدول في المنطقة»، و«الاعتراف بحقّ هذه الدول في العيش بسلام داخل حدود آمنة معترف بها».
ـ 1982، وافق النظام على مبادرة الملك فهد وخطّة الجامعة العربية التي اعترفت عملياً بحقّ إسرائيل في الوجود (مع الإشارة إلى أنّ ذلك الاعتراف لم يرضِ دولة الاحتلال آنذاك).
ـ 1991 أرسل النظام مندوباً إلى مؤتمر مدريد.
ـ 1994، أقامت واشنطن «قناة السفراء» بين سفير النظام وليد المعلم، والسفير الإسرائيلي إيتمار رابينوفتش. في السنة ذاتها عُقدت اجتماعات بين رئيس أركان جيش النظام، حكمت الشهابي؛ ورئيس أركان جيش الاحتلال، إيهود باراك. في ما بعد سوف يقوم الدبلوماسيان الأمريكيان دنيس روس ومارتن إنديك بجولات مكوكية بين دمشق والقدس المحتلة، لمتابعة تفاهمات واشنطن.
ـ 1999، مفاوضات شبردزتاون، بين وزير خارجية النظام فاروق الشرع ورئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود باراك، برعاية أمريكية؛ في غمرة تركيز من النظام على ما سُمّي بـ«وديعة رابين».
ـ آذار (مارس) 2000، قبيل وفاته بنحو ثلاثة أشهر، اجتماع الأسد الأب مع الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلنتون في جنيف.
ـ 2004، تقارير عن مفاوضات سرية، غير مباشرة، يتولاها الدبلوماسي الأمريكي جيفري أهرونسون ورجل الأعمال السوري إبراهيم سليمان.
ـ 2008، سلسلة من جولات التفاوض السرية، برعاية تركية.
لماذا، والحال هذه، فشل الطرفان في التوصل إلى اتفاقية سلام؟
بعض الإجابة يرتد إلى سبب جوهري حكم تفكير الأسد الأب منذ مقتل باسل، ابنه والوريث المفضّل غير المتوّج، واضطراره إلى تعديل برنامج التوريث ونقله إلى بشار، وسط سباق محموم مع الزمن انطوى على عامل الصراع ضد سلسلة أمراض فتاكة لم تكن تمهل الأسد الأب وقتاً كافياً للطبخ على نيران هادئة. وهكذا توجّب الحسم حول واحد من خيارين، كلاهما حمّال مجازفات ومخاطر: 1) عقد اتفاقية سلام مستعجلة مع دولة الاحتلال، في حياة الأسد الأب، لن تجلب للنظام ما يحتاجه من مكاسب وضمانات لقاء هكذا خيار ستراتيجي؛ و2) التفرّغ، بدل ذلك، للمهمة الأكثر إلحاحاً وضرورة، أي ترتيب البيت الداخلي على أفضل وجه ممكن يتيح وراثة سلسة أمام فتى غير مجرّب، وسط غابة من ذئاب النظام وضباعه.
في الإطار الأعرض، الذي اتضح أكثر في ناظر الأسد الأب بعد لقاء جنيف مع كلنتون، بدا أنّ «وديعة رابين» ليست سوى رسالة غير مكتوبة حملها وزير الخارجية الأمريكي وارن كريستوفر، غير مُلزمة للجانب الإسرائيلي؛ ولكنّ الأسد الأب تلكأ في اغتنام تلك الفرصة، ثمّ عاد إلى التشبث بها بعد أن حمّلها أكثر مما تحتمل من أثر في أقنية التفاوض. كذلك لوّح الإسرائيليون بنفض الغبار عن خرائط ما قبل عام 1949، للمساجلة بأنّ القوّات السورية احتلت بالقوّة أجزاء واسعة من الأراضي الفلسطينية، واحتفظت بها حتى العام 1967 حين «حرّرتها» القوّات الإسرائيلية. وإذا كانت سوريا تزعم شرعية سيادتها على هذه الأراضي لأنها احتفظت بها طيلة 18 عاماً، فلماذا لا يحقّ لدولة الاحتلال أن تزعم شرعية السيادة على الأراضي ذاتها التي احتفظـــت بها طيلة 32 سنة، أي منذ عام 1967؟
وفي خلاصة القول، ما الذي يجبر دولة الاحتلال على عقد أية اتفاقية سلام مع آل الأسد، والنظام في وضعه الراهن محض تابعية متشرذمة بين موسكو وطهران، وسلاح الجوّ الإسرائيلي يسرح ويمرح متى شاء وحيثما شاء في عمق الأراضي السورية، والرئيس الروسي فلاديمير بوتين بات الضامن شخصياً لأمن الاحتلال الإسرائيلي في الجولان، وعناصر الجيش الروسي شاركت في إعادة إحياء اتفاقية فصل القوات في الجولان بالرغم من وضوح بنود الاتفاقية التي تحظر على جيوش الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن المشاركة في أية مهامّ هناك…؟ لا شيء، بالطبع، بل لعلّ من الحماقة الطوعية أن يفكر أيّ مسؤول إسرائيلي في إقامة أيّ تعاقد مع هكذا نظام، ما دام تعاقد الأمر الواقع هو السيد والفاعل.
هذا إذا وضع المرء جانباً حقائق علاقة الإدارات الأمريكية المتعاقبة مع نظام «الحركة التصحيحية»، في سياقات عربية عريضة أولاً (مثل انضمام جيش النظام إلى تحالف «عاصفة الصحراء»، أو تطويع الحركة الوطنية اللبنانية والمقاومة الفلسطينية)؛ أو في سياق الموقف من دولة الاحتلال والحقوق الفلسطينية. وبهذا المعنى فإنّ لجوء الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى قرص أذني الأسد، أو حتى وصفه بـ«الحيوان»، ليس سوى سمة السطح في تراث طويل من الرضا الأمريكي عن النظام، والتصديق على خيار آخر ثمين لدى إدارات البيت الأبيض هو الرضا الإسرائيلي عن النظام.
فأيّ عجب في أن تستميت دولة الاحتلال دفاعاً عن آل الأسد، وأن تجد في نظامهم الراهن الحارس الأشدّ يقظة على مصالحها في الجولان المحتل، وفي… سائر سوريا؟
ما الغرض من اللعبة الروسية بإثارة موضوع عودة اللاجئين السوريين الآن ووضعه أولوية في برنامجها؟ وهل حقا تقصد أن يعودوا إلى سورية؟ الهدف الأول، رسالة داخلية إلى الروس أن زمن الحرب والخسائر قد انتهى، ولا داعي للقلق من تزايد الخسائر البشرية والمادية الروسية بعد الآن، وأن زمن الحصاد قريب. الثاني، إعلان الانتصار والحسم، وأن الأمور بدأت بوضع الإطار السياسي لإعادة تأهيل النظام لإعادة إدارة سورية مجدّدا. الثالث، استثمار حالة القلق من دول اللجوء، وخصوصا دول الجوار من وضع اللاجئين، والضغط الكبير التي تشكله على مجتمعاتهم واقتصادهم، ودفعهم إلى التعامل بشكل مباشر مع النظام السوري. أي رسالة مباشرة لهم أن يعيدوا اللاجئين، وروسيا والنظام وإيران ستتكفل بقتلهم وإبادتهم في سورية، وإراحتكم منهم نهائيا. الرابع، استخدام موضوع عودة اللاجئين السوريين مدخلا مع أوروبا التي تؤرقها مسألة اللاجئين، ودفعها إلى استثمار أموالها في إعادة البناء، واستفادة الشركات الروسية التي سبق أن وقعت عقودا مع النظام، من أجل إعادة الإعمار، وبالتالي البدء باسترداد ما صرفته من أموال في سورية. وأخيرا صرف النظر نهائيا عن أي عملية مفاوضات أو تسوية أو أي تغيير ببنية النظام، أي عمليا تجاهل عملية جنيف، بل إسقاطها نهائيا، وإسقاط القرارات الدولية التي صدرت سابقا، باعتبار أن الوضع قد تم حله وانتهى. وطبعا لن يكون لمحادثات أستانة معنى، خصوصا وأنها صناعة روسية، والنتائج الهزيلة جدا التي صدرت عن آخر اجتماع فيها تبين أنها بلا معنى ولا قيمة.
هل التلاعب الروسي قابل للتحقق؟ هو مستحيل ومجرّد وهم يجتاح عقل مريض مهووس. وقد تجاهلت اللعبة القوانين الدولية التي تمنع إعادة اللاجئين قسريا إلى بلدانهم. ومع أن منظومة القوانين الدولية انهارت نهائيا، وتم تجاهلها كليا في الوضع السوري، إلا أن إهمال هذا القانون سيجعل من البلدان التي تتخذ هذه الخطوة شريكة رسمية، بجريمة إبادة جماعية، سيحملون وزرها، ويمكن ملاحقتهم قضائيا، كما تجاهلت رغبة النظام الذي لن يسمح بعودة اللاجئين إلى المناطق الخاضعة لسيطرته، حتى لا يواجه مشكلات أمنية أو اقتصادية.
كان موقف النظام واضحا من مسألة عودة اللاجئين من لبنان، رفض عودة كثيرين ممن أرادوا العودة، وفرض أن يوافق مسبقا على قوائم أسماء اللاجئين الراغبين بالعودة. تجاهل اللاعب الروسي إلى أين سيعود اللاجئون، إذ ما زالت مساحات واسعة من سورية خارج سيطرته، وهي المناطق التي شهدت موجات نزوح كبيرة، مثل ريف حلب والرقة ودير الزور والحسكة وغيرها، كما تجاهل أين سيعيش اللاجئون العائدون، إذا كانت بيوتهم مدمرة، ولا توجد خدمات أبدا، لا ماء ولا كهرباء ولا اقتصاد أساسا يستطيع استيعابهم، وخصوصا في المناطق المدمرة نهائيا، مثل ريف دمشق وحمص وحلب، حتى اللاجئون الموجودون في خيم في لبنان أو الأردن أعتقد أن معظمهم لن يفضل العودة ليعيش في خيمة مكان بيته المدمر وعرضة للاعتقال، ومن دون خدمات أو مساعدات، بينما في لبنان أو الأردن وتركيا على الأقل يتلقى مساعدات إنسانية سيحرم منها عند عودته، كما يتمتع بنوع من الحرية، على الأقل للتعبير عن رأيه، أو السفر إلى بلدان أخرى لطلب اللجوء، وتنتفي هذه الإمكانية في حال عودته.
تتجاهل اللعبة الروسية المسألة الأساسية، وهي أمان اللاجئين، فكيف يقبل اللاجئون العودة والعيش بأمان، وما زالت المنظومة الأمنية هي التي تتحكّم بكل مفاصل الحياة في سورية. وما زالت قوانين حماية عناصر الأمن والجيش والشرطة من المحاكمة عن الجرائم التي يرتكبونها ساريةً، وتسمح لهم بارتكاب ما شاءوا من جرائم بحق السوريين من دون رادع، وما زال عشرات ألوف المعتقلين مجهولي المصير، بل تباهى النظام أخيرا بقتلهم في المعتقلات، بإصدار وثائق وفاة لهم، أو تبليغ أهلهم بذلك. ومن سيضمن أمان السوريين العائدين، وعدم التنكيل بهم، وهناك أمام الجميع نماذج واضحة بمصير من وقع المصالحات مع النظام في ريف دمشق ودرعا، وكيف تم التنكيل بهم واعتقالهم وقتلهم بعد ذلك، من دون رادع مع وجود الروسي "الضامن" على الأرض.
اللعبة الروسية مكشوفة تماما. وللأسف هناك ممن يسمّون أنفسهم معارضة، وبعض الدول،
"لا عودة للاجئين
من دون
عملية انتقال سياسي كاملة"
ينجرّون إليها، على الرغم من أن روسيا نفسها، كما كل العالم، متأكّدة من أنه لا عودة للاجئين من دون عملية انتقال سياسي كاملة، يزال فيها النظام الاستبدادي المجرم، ويحاسب المسؤولون عن الجرائم التي ارتكبت، وتتغير الآلية القانونية التي تجعل الأمن المتحكّم الوحيد، وتعطي الحصانة للمجرمين. ولا عودة للاجئين من دون شعورهم بالأمان، فلن يعودوا ليعيشوا تحت أمرة من قتل أولادهم في السجون أو بالبراميل المتفجرة أو قصف الطيران أو بالسلاح الكيميائي، ولا ليتعايشوا معه. كما أنهم لن يعودوا بضمانة قاتل آخر، ومجرم ساهم بقتل أبنائهم، وبتدمير بيوتهم بقصف طائراته.
ولن يعود اللاجئون تحت وطأة مليشيات طائفية، تفرض أيديولوجيتها، سنية أو شيعية. ولن يعودوا تحت سيطرة مشروع أيديولوجي شيعي، يحاول السيطرة على المنطقة، وربط إيران بالبحر المتوسط. بل لا يمكن للاجئين أن يعودوا إلا ليقاوموا هذه المشاريع وهذا الاحتلال، إذا كانت هناك المساحة والإمكانية لذلك. وهذا ما هو متأكد منه النظام المجرم، وشريكاه الأكثر إجراما، روسيا وإيران. لذلك هما الأكثر قدرة على معرفة أن لعبتهم لن تجدي، وأن عودة اللاجئين كما يروّجون ستكون لإشعال شرارة مقاومة جديدة ضدهم، ولطردهم ومحاسبتهم.
الغرفة مظلمة، والمكيِّف يشتغل بنصف طاقته. ضباط، وموظفون حكوميون، محمومون منهمكون. انهم ينفّذون أوامر القيادة العليا، التعليمات واضحة: إدراح أسماء آلاف المعتقلين في خانة "المتوفّين". بشهادة رسمية، صادرة عن دوائر النفوس، المولجة مهمة تثبيت أسماء الأحياء والأموات. مع الجزم بأن الوفاة "طبيعية"، أو ناجمة عن "عملية إرهابية". والتشديد على أن لا تسليم لجثثهم. ولا إقامة مراسم للعزاء من أجلهم. والمطلوب أيضاً إيصال هذا الخبر إلى الأهل مباشرة، أو عبر المختار. آلاف من الأسماء، أصحابها من الذين اعتقلوا بين 2013 و2015. غالبيتهم لم يحمل السلاح. بل ورودأ كانوا يوزّعونها على أفراد الشرطة والجيش، في تظاهراتهم السلمية.
لا نخترع هنا قصة للتشويق، إنما الواقع يخترعها. والواقع هو بشار الأسد، بمساعدة ربما من القائمين على عرشه من محتلين. وقائعه تتجاوز الخيال. ولا نقاط استدلال لها، غير التي سبقتها من أشكال قتل. كأن ثمّة عملية تراكمية في القتل، تزيد من إبداع القاتل، تنّمّي خياله، ترفع من "شجاعته"، فيحسن في ابتكار ألوانها. مثل عمليات التراكم الرأسمالي أو العلمي المفضية إلى شيء جديد، لا يكون جديداً في سمائهم.. فأصحاب التراكم لا يعرفون أصلاً أنهم، بذلك، إنما يبدعون. التراكم الإجرامي: اقتحام الأحياء التي تظاهر سكانها سلمياً، فقتلهم ورميهم فوق الشاحنات الصغيرة تحت حرامات، وهم بـ"البيجامات" (كما حصل في داريا وجديدة عرطوز). ثم، القتل بالطائرات والمدفعيات، بالمجازر، بالكيميائي، بالخطف، بالقنص والتشبيح والسكاكين والعصي وكِعاب البنادق، والصواريخ المسْمارية والبراميل المتفجرة، وقد استهولناها وقتها، وأصبحت الآن من العاديات.
وبموازاتها كلها، الابتزاز الصريح بالموت: فإما أن تموتوا، أو تموتوا؛ كما حصل أخيرا مع أهالي السويداء الذين وُضعوا بين خيارين: الموت عبر التجنيد الإلزامي أو الموت عن طريق "داعش". وهذا الأخير ارتكب مجزرةً بحقهم، وخطف من أبنائهم. وذلك بعد "انتصار" النظام على الإرهاب، ودخول قواته إلى بلداتهم وقراهم؛ فعجزت هذه القوات عن حمايتهم، أو بالأحرى عجّزت نفسها. ولسان حال قيادتها، على الرغم من كل التغطيات الخبيثة، المعهودة: ما عليكم سوى الإذعان لموتنا، لجريمتنا. إنهما أرحم من جرائم "داعش"، وأكثر نظامية، أكثر قانونية.
"القانونية" هي الصفة التي أرادتها السلطات السورية لطريقتها الجديدة بالقتل، فبعدما "انتصرت"، وصارت تتوهّم أن "نصرا" كهذا يفضي بها إلى "الحل السياسي"، باتَ لزاماً عليها أن تحلّ شؤونها القانونية. لكي يتمكن مندوبها إلى مجلس حقوق الإنسان من دوره الخطابي في الأمم المتحدة، فيعلن، أمام العالم أجمع أن لا غبار على بشار الأسد. إنه أصدر بحق المعتقلين في سجونه شهادة وفاة: لم يخفِ أحدا، لم يمحُ أحداً. كان لديه بضعة آلاف من السجناء، ومات هؤلاء لأسباب خارجة عن إرادة سجّانيهم الطيبة. وإليكم الشهادات الرسمية للوفاة، موقعة من الدوائر الرسمية، مثبّتة على الورق، بختم الجمهورية الرسمي.. إلخ. جريمة نصف معلنة، تغطيها حيثيات قانونية رسمية. جريمة عن سابق تصوّر وتصميم، أخذا وقتهما. جريمة منظَّمة، لها قنوات قانونية، داخلة في دهاليز البيروقراطية، وشبكاتها المتداخلة، السوداء، وموظفيها المذعورين من الطلبات المنهالة عليهم بتصديق شهادات "الوفاة"، أي القتل. وهم مذعورون من ارتكاب غلطة، أو هفوة. هل ارتجفوا؟ هل دمعت عين واحدهم؟ هل أوجعه قلبه؟ هل شطح في الخوف على نفسه؟ كيف لنا أن نعلم وظلمات شهادات الوفاة تنهمر على الأمهات والآباء والأحبة، كالصواعق فوق روؤسهم المنحنية من سنوات البحث والانتظار والابتزاز والصمت؟
يمكن أن يقول النظام أي شيء عن جرائمه، أن يتنصَّل منها، يمكن أن ينعت وثائق "سيزار" بـ"بنات خيال" صاحبها... طالما يعرّف نفسه مفلتاً مثل الشعرة من العجينة، كلما جاد على السوريين بالجديد من جرائمه. أما الجريمة الجديدة، فلا تردّ سؤالا، لأنها شبه معلنة. الشباب السلميون اعتقلوا في سجونه، وماتوا فيها، بعد تعذيبٍ يتجاوز حدود المخايل (جمع مخيلة)، وجثثهم لم تسلم إلى ذويهم، ومنعوا من المواساة. وطالما بقيت الجثث مخفيةً، ومهما سجلت دوائر النفوس، مهما "قوْننت"، مهما سكت العالم والعرب، فإن المطلوب، بعد الجريمة، تسليم هذه الجثث، ودفنها، وفقاً لشرائع كل الأديان، بل وفقاً لشريعة الغاب التي يسكنها الحيوان. وتسليم الجثث يفتح الباب على مصراعيه أمام جرائم النظام، مهما تأخرت ساعتُه، أو خلال تأخّر ساعته. فالنظام، بإخفائه جثث قتلاه، إنما نظَّف مسرح جريمته على مرأى العالم وسمعه، لا خلف الكواليس. ذكاؤه خانه، أو الظروف، يعلم ذلك ربما، ولكنه كان مضطراً. ألحّ الروس عليه ليقوم بتسوية "أوضاعه القانونية"، تمهيداً للحل السياسي المتعثر، والذي يتلهفون إليه بحرقة. كان مضطراً، فكشف عن نصف أوراقه. هذه المرة لا يستطيع التكذيب. ولا يستطيع القول إن زلّة أو خطأ أو أي شيء آخر..
ما كان للتجربة الإجرامية التراكمية لبشار الأسد أن تنضج وتتألق، لولا البيئة العالمية الساكتة، الساكنة، التي لا ترى ولا تسمع ولا تقول. ولا بالتالي تفعل شيئاً. إنها بيئة ابنة عصرها. مضروبة بالوباء الاستبدادي، تغازل الاستبداد، تدلّعه، تمنحه الشرعية الفلسفية. والإعلان الرسمي عن الجريمة الأسدية أخيرا مرّ عليها مرور الكرام، فالأفضل لرجالاتها أن يسكتوا، تجنباً لدفع ثمن ثرثراتهم لاحقاً؛ فلا يكون لهم حصة في الجبنة السورية.
يبقى الضمير، ومعه سؤالٌ سوف يعمّر طويلاً: أين هي الجثث الآن؟ أين اختفت؟ كيف اختفت؟ بأية عملية بيروقراطية سجل "موتها" رسمياً؟ ومع السؤال، مشوار طويل طويل من الكشف والتفكيك للإجرام الأسدي. ساعتها، قد تضعف حاجة النظام الغريزية للقتل، بكوابح السؤال المستمر، فينْضب خياله، يصيبه الجفاف، وتضيق به أشكال القتل، فتتراجع تجربته التراكمية في القتل. فيقترب يوم الحساب.
صمم حافظ الأسد سوريا، سلطة وجغرافيا وديمغرافيا، على مقاسات ورثته، وورثة ورثته، عبر عملية معقدة اشتملت مستويات عديدة، أمنية وعسكرية وحزبية، حيث قام الأسد بهندسة هذا التنظيم بالاستثمار بمعطيات داخلية وخارجية، والاستفادة من متغيرات، في البيئتين الداخلية والخارجية، على قاعدة تحويل التحديات إلى فرص.
اتبع الأسد الأب سياسة فرض الأمر الواقع بكل شيء، اعتبارا من جعل حزب البعث الحزب الحاكم للدولة والمجتمع، ودمج هذا الأمر في دستور الدولة، وتدجين المعارضة وتحويلها إلى مجرد ديكور ورديف للبعث في إطار ما سمي "الجبهة الوطنية التقدمية"، بالإضافة إلى صناعة هيكلة أمنية خاصة بمنظومة حكم الأسد، وليس لها أدنى استقلال وطني، بل إنه ذهب أبعد من ذلك عندما أعاد تصميم ديمغرافية العاصمة دمشق، عبر إنشاء عشرات المستوطنات السكنية لمؤيديه تحيط بدمشق من كل الاتجاهات، وجزء كبير منها يشرف على العاصمة ويضعها تحت سيطرته في حال حصول أي انقلاب على سلطة الأسد.
وفي السياسة الخارجية، قسّم الأسد المجتمع السوري إلى طرفين لا ثالث لهما، النظام الذي تقوده عائلة الأسد، ويملك القدرة على الانفتاح والتعامل مع العالم الخارجي، ويحترم مصالح الغرب تحديدا، عبر الحفاظ على أمن إسرائيل وضبط القوى المعادية لها.. والطرف الثاني هم معارضو الأسد، سواء من الإسلاميين أو اليساريين الراديكاليين، المعادين لإسرائيل والغرب، والذين يراهم هؤلاء وفق صورة نمطية قوامها التوتر والتسرع وافتقاد البراغماتية، ما يجعلهم غير مؤهلين لإدارة اللعبة السياسية لا في الداخل ولا مع العالم الخارجي.
ولم يكن ثمة ما يؤشر على إمكانية تعكير صفو هذه الهندسة الأسدية، وقد أبدت القوى الخارجية، العربية والغربية، استعدادها لضمان استمرار هذه الصيغة، من خلال دعمها للوريث بشار الأسد، مع يقينها أن هذا سيورث بدوره السلطة لابنه حافظ، الثاني، ضمن سلسلة لا أحد يعلم كم ستدوم وليس هناك مصلحة في إنهائها.
لكن أحد المتغيرات التي جاءت بها الثورة السورية، كان التدخل الروسي الذي جاء بهدف إنقاذ سلطة بشار الأسد من السقوط، واستثمار الفرصة لتثبيت مرتكزات الوجود الروسي في حوض البحر المتوسط، ولكن، وبما أن السياسة تحكمها في أحايين كثيرة؛ التطورات غير المقصودة، وليست الاستراتيجيات المبرمجة، وخاصة إذا كانت تلك الاستراتيجيات تسير وسط حقول ألغام كثيرة، فإن الوجود الروسي في سوريا يتحوّل شيئا فشيئا إلى دينامية لإنهاء سلطة آل الأسد وإلى الأبد.
ليس سرا أن السيطرة الروسية على مسرح الحدث السوري استلزمت إعادة تصميم وبناء هذا المسرح بطريقة جديدة، اضطرت معها إلى نسف مرتكزات التصميم الأسدي السابق، الذي بناه الأب، والذي لا يصلح لبناء وتطبيق الخطط الروسية. ويعتبر الجيش أحد هذه البنى التي تعمل روسيا على إعادة بنائها، عبر خليط من مليشيات وفصائل ومكونات مختلفة. ولا زالت التركيبة النهائية للجيش غير واضحة، لكنها لن تكون كما كانت في السابق، وأقل ما يقال عنها أنها فوضوية إلى حد بعيد، كما أن البنية الأمنية مؤهلة لمثل هذا التغيير، في ظل الاستقطاب الحاصل بين روسيا وإيران حول السيطرة على الأجهزة الأمنية وتبعيتها لهذا الطرف أو ذاك، وما يحدثه هذا الأمر من صراعات بين هذه الأجهزة كانعكاس للصراع الدائر بين المشغلين.
وفي جميع التسويات التي أجرتها روسيا مع المجتمعات المحلية الثائرة على سلطة الأسد، جرى الاتفاق بين روسيا وهذه المجتمعات، سواء عبر الضمانات التي قدمتها روسيا، أو من خلال صيغة العلاقة بين هذه المجتمعات والدولة السورية، دون اعتبار أن سلطة الأسد هي الممثل المطلق والنهائي للدولة السورية، وتأكيد البعد الخدمي لهذه العلاقة مقابل المحافظة على الأمن، وهذا النوع من العقود، حتى لو لم يتم التصريح به، هي عقود مرحلية وليست دائمة، وإن كانت تنطوي على تنازلات معينة فهي تصب في مصلحة الخطة الروسية للسيطرة على الأوضاع في سوريا أكثر من مصلحة سلطة الأسد، التي لم تخف عدم رضاها وتبرمها من هذه الترتيبات.
ومثل هذه الإجراءات، يتوقع أن يتم سحبها على مختلف المجالات في سوريا، وخاصة الاقتصادية، وصياغة الدستور، وعلاقات سوريا الخارجية وتوجهاتها السياسية وطبيعة المحاور التي تنخرط بها، وبما أنه يستحيل على روسيا إعادة إنتاج سوريا ما قبل 2011، فإن أي بنية سترسو عليها سوريا الجديدة لن تكون مناسبة لاستمرار سلطة آل الاسد.
ولعل ما يدعم هذه الفرضية، أن روسيا انخرطت بشبكة معقدة وواسعة من التفاهمات مع الأطراف المحلية والدولية، ولم تستطع تحقيق سيطرتها في سوريا إلا بناء على هذه الشبكة من العلاقات، التي لا يمكن تطويرها مستقبلا دون إجراء ترتيبات جديدة على الواقع السوري.
وتأتي عملية إعادة الإعمار، التي بدأت روسيا في الترويج لها، كواحدة من التغيرات التي ستفضي إلى قطع سلسلة حكم سلالة الأسد، ورغم التعنت الروسي الرافض لربط العملية بحصول تغييرات سياسية، إلا أن روسيا ستكتشف عاجلا وليس آجلا استحالة مثل تحقيق هذا الأمر، في ظل وجود بشار الأسد على رأس السلطة، ذلك معناه مغامرة اقتصادية وجيوسياسة لن تقدم عليها دولة لدى مسؤوليها ذرة عقل.
تدور هذه الأيام أحاديث عدة عن محاولات تُبذل لإعادة اللاجئين الفلسطينيين المهجرين من سوريا والمتواجدين حالياً في دول الجوار السوري ومصر وأوروبا، والذين تقدر وكالة الأونروا أعدادهم بنحو 120 ألفاً من أصل ما يزيد عن نصف مليون لاجئاً كانوا متواجدين في سوريا قبل الحرب.
البعض يتحدث عن مبادرات خاصة تتم عبر تسهيلات تقدمها السفارات ومنظمة التحرير الفلسطينية، والبعض الآخر يتحدث عن شملهم ضمن المبادرة الروسية التي لم تتبلور بعد، والتي تقول التسريبات إن روسيا ستكون الضامن الوحيد فيها لحياة المهجرين الذين ستتم إعادتهم إلى سوريا، في حين تحدثت مصادر تركية عن نية الحكومة التركية إعادة 250 ألف ضيف سوري خلال المئة يوم القادمة، دون تحديد ما إن سيكون ضمنهم لاجئين فلسطينيين سوريين.
لا شك أن المراقب للوضع يرى أن جميع الجهات الدولية تتحدث خلال هذه الفترة عن إعادة اللاجئين إلى سوريا، بل حتى إن هناك خطوات حقيقية على أرض الواقع بدأ اللاجئون الفلسطينيون السوريون يرون مقدماتها في أماكن تواجدهم في لبنان، وحتى في قطاع غزة الذي من المفروض أن يكون اللاجئون قد عادوا إلى أرضهم ولا يتم إعادتهم إلى مخيماتهم في الشتات. لكن ربما هي ظروف السياسة الدولية أولاً، والحصار المطبق على غزة ثانياً، ساهما بأن يعاد تهجير فلسطينيي سوريا مرة جديدة بعد أن عادوا إلى أرضهم، حيث أعلنت مؤسسات السلطة الفلسطينية عن استعدادها لتسهيل عودة فلسطينيي سوريا إلى مخيماتهم.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا: من هي الجهة التي تضمن سلامة فلسطينيي سوريا في حال عودتهم إلى سوريا؟ من يضمن عدم تعرضهم لأي عمل من شأنه المساس بحريتهم وحياتهم؟ من يضمن سلامة اللاجئين الشباب في سن التجنيد الإجباري في سوريا؟
والسؤال الثاني هنا: إلى أين سيعود فلسطينيو سوريا؟ هل سيعودون إلى مخيماتهم التي دمرت في دمشق وريفها ودرعا وحلب، والتي لم تسلم من القصف والدمار؟! وهل الأونروا قادرة اليوم على دعم اللاجئين الفلسطينيين السوريين في ظل الأزمة المالية الخانقة التي تمر بها؟ هذه الأسئلة في المناطق التي تعود لسيطرة النظام السوري.
وإن انتقلنا إلى مناطق سيطرة المعارضة، وتحديداً إلى الشمال السوري، فمخيم عين بلوط الذي أقيم مع عدد من المخيمات حديثاً في الشمال السوري، مستقبلاً المئات من اللاجئين الفلسطينيين السوريين الذين تم تهجيرهم من مخيم اليرموك إلى الشمال السوري، خير شاهد على مأساة الفلسطيني السوري في الشمال السوري، حيث لا تزال معاناتهم مستمرة، فهم في خيام وسط حرّ النهار وبرد الليل، في ظل نقص الخدمات الأساسية من ماء ورعاية طبية. وهنا يظهر لنا جلياً عدم قدرة المخيمات في الشمال السوري على استقبال المزيد من اللاجئين.
وإن تناولنا موضوع ضمان سلامة العائدين من فلسطينيي سوريا، يظهر لنا أن اللاجئين الفلسطينيين السوريين لا يزالون مكشوفي الظهر دون سند حقيقي حتى الآن، وذلك في ظل عجز واضح لمنظمة التحرير والسلطة الفلسطينية ليس للإفراج عن أكثر من 1600 معتقل فلسطيني، بل بمعرفة مصيرهم فقط! فكيف لجهة عجزت عن معرفة مصير المعتقلين خلال الحرب أن تضمن سلامة العائدين إن عادوا؟
أما بقية الفصائل الفلسطينية، فهي إما غير مرغوب بها في سوريا أو صامتة أو متماشية مع سياسية النظام في دمشق؟ وهذا ما يفقدها القدرة على ضمان سلامة فلسطينيي سوريا، أو لعب أدنى دور بذلك.
وإن تحدثنا عن وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى (الأونروا)، فقبل بداية الحرب في سوريا كانت الأونروا تعلن أنها غير معنية بحماية اللاجئين الفلسطينيين، وتربط ذلك بمسؤولية الدولة المضيفة للاجئين، وإن تحدثنا عن المفوضية السامية لشؤون اللاجئين، لوجدنا أنها هي الأخرى تتهرب من تحمل أي مسؤولية تجاه فلسطينيي سوريا، وذلك بحجة تجنبها للاشتباك بأداء الأدوار بينها وبين منظمة دولية أخرى وهي الأونروا، وأمام جميع تلك التساؤلات يبقى السؤال الرئيسي، فلسطينيو سوريا من يضمن سلامتهم إن عادوا؟
عبّرت الدول الأوروبية المشاركة في التوقيع على الاتفاق النووي مع إيران عن أسفها لمعاودة الولايات المتحدة فرض المقاطعة على إيران. وكانت هذه الدول تلاحق التقارير حول التصريحات التي صدرت عن الولايات المتحدة وإيران، وتجد نفسها في وضع إشكالي. كانت تحاول اللعب على الوقت رغم أن دقات الساعة لم تتوقف. ويوم الثلاثاء الماضي بدأ تنفيذ الحزمة الأولى من العقوبات، وستليها الثانية في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، وهو الموعد الذي قررته الدول الأوروبية الثلاث لتقديم حزمة من المساعدات لإيران. الإجراء الأميركي يشكل تحدياً للدول الأوروبية، وبما أنها تحاول إنقاذ ما تبقى من الاتفاق النووي، فإنها مجبرة على إيجاد حلول مبتكرة لتزويد إيران بتعويضات مالية. هذه الدول حتى مع بدء تنفيذ العقوبات تكرر رغبتها في العثور على صفقة تمكنها من التجارة مع إيران، والاستثمار فيها، وشراء النفط منها، وتنفيذ التعاون المصرفي معها على الرغم من العقوبات الأميركية. القيادة الإيرانية متوترة جداً في هذه الفترة... التهديد بالمقاطعة وتطبيقها بالكامل سيمنعان كل الشركات من العمل مع إيران.
إيران تريد أوروبا، لأن الأوروبيين يدفعون بالعملة الصعبة عندما يشترون النفط الخام والغاز، ولدى الشركات الأوروبية التكنولوجيا التي تحتاجها إيران لا سيما في صناعاتها الدفاعية. بنظر إيران؛ أوروبا في الحقيقة هي الحل. ومع ذلك، فإن الأفعال تتحدث بصوت أعلى من الكلمات، والضمانات التي قدمها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، ورئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي، ردت عليها إيران بكتف باردة، مدعية أن الحزمة المعروضة لن تمكنها من إنقاذ اقتصادها، وتحقيق إنجازات جديدة، مشيرة إلى قطاع تصدير النفط، والقنوات المالية مع المجتمع الدولي، التي من المتوقع أن تتعرض لضربة قاتلة.
تواجه المحاولات التي يبذلها قادة الدول الأوروبية الثلاث لإدراج الشركات الأوروبية والمشاركة في العملية وتسهيل الأمور بالنسبة إلى طهران، صعوبات جمة، فقد أعلنت شركة النفط الفرنسية العملاقة «توتال» أنه في ضوء فرض عقوبات أميركية فلن تتمكن من الوفاء بالتزاماتها بوصفها جزءاً من العقد الذي تبلغ قيمته عدة مليارات من الدولارات، والمتعلق بـ«مشروع غاز جنوب حقل بارس». وأعلنت اثنتان من كبرى شركات اللوجيستيات في العالم وهما: «CMA - CGM» و«DANISH DSV» أنهما على وشك التوقف عن التعامل التجاري مع إيران، كما أعلنت شركة الخطوط الهولندية أنها ستوقف كل رحلاتها المتجهة إلى إيران في شهر سبتمبر (أيلول) المقبل، وقد تتوقف شركة الخطوط الجوية الفرنسية، التي اندمجت مع شركة الخطوط الهولندية، عن السفر إلى طهران. ومن المتوقع أن تتوقف شركات الصلب الأوروبية عن توريد الفولاذ إلى إيران؛ حيث إن شركة «SEVERSTAL» المصنعة للصلب الروسي أنهت كل تجارتها مع إيران. وقالت شركة «رينو» لصناعة السيارات إنها، على عكس إعلاناتها السابقة، ستتوقف عن التعامل مع إيران حيث إن شريكتها «نيسان» لاعب مهم في السوق الأميركية.
وقد زاد رئيس بنك الاستثمار الأوروبي «EIB» من تأثير الدومينو بالإعلان أنه لا يوجد أي مصرف أوروبي قادر حالياً على التعامل مع إيران، كما أن الشركات الأوروبية من الدرجة الثانية تتخلى عن ممارسة الأعمال التجارية في إيران بسبب العقوبات الأميركية خصوصاً عندما تنظر إلى انسحاب الشركات الكبرى.
مسألة أن الشركات الأوروبية ترفض التعاون مع القيادة الأوروبية قد تكون مفهومة، لكن الإحراج الذي يشعر به القادة الأوروبيون الثلاثة عميق؛ إذ بينما يستثمرون الوقت والجهد في استرضاء الرئيس الإيراني حسن روحاني، فإن مؤسساته تشارك في نشاط إرهابي في أوروبا. إن محاولة التفجير التي وقعت في يوليو (تموز) الماضي في باريس والتي تم إحباطها قبل انعقاد مؤتمر منظمة «مجاهدين خلق»، كشفت النقاب عن النشاط الإرهابي الذي ينفذه الإيرانيون في أوروبا تحت غطاء المحادثات النووية المستمرة «لإنقاذ الاتفاق». ولا يمكن للمتابع إلا أن يتخيل الإحراج في مكتب الرئاسة الإيرانية عندما بدأت التقارير تتدفق، بينما كان روحاني في أوروبا، وهي تشير إلى أن الدبلوماسي الإيراني أسد الله أسدي الذي كان معتقلاً في النمسا للاشتباه بتورطه في محاولة التفجير الإرهابي، هو مسؤول في وزارة الاستخبارات التابعة لوزير المخابرات، ويتلقى التعليمات مباشرة من روحاني.
إن الإرهاب الإيراني في أوروبا ليس بجديد، لكن القادة الأوروبيين قرروا عدم التعامل معه في الوقت المفروض. على مدى السنوات الثلاث الماضية، اغتالت وزارة الاستخبارات عدداً من معارضي النظام في هولندا، وألمانيا، وتركيا، ما أودى بحياة 4 إيرانيين على الأقل. هذه الاغتيالات هي استمرار مباشر لسياسة الاغتيال التي اتبعتها وزارة الداخلية خلال التسعينات في أوروبا (من عام 1979 حتى عام 1996 تم تنفيذ أكثر من 200 تفجير إرهابي على المستوى الدولي). وفي واحدة من الحوادث المعروفة التي وقعت في سبتمبر 1992، اغتالت وزارة الاستخبارات الإيرانية 4 من زعماء الحزب الديمقراطي الكردستاني في مطعم «ميكونوس» في برلين. طبعاً نفت إيران تورطها في القضية، لكن المحكمة الألمانية قضت بأن القيادة في طهران أمرت بالاغتيال، وأن الإيرانيين قاموا بالتنفيذ. وقد سمع يومها الإيرانيون بصوت عال وواضح الرد الأوروبي الذي لا يقبل المساومة، والذي أظهر سياسة عدم التسامح الأوروبي في ما يتعلق بأي نشاط إرهابي. في الواقع تم اتهام القيادة الإيرانية، وتشمل القائد، بأنها مسؤولة عن الجريمة، كما صدرت مذكرة توقيف بحق وزير الاستخبارات، واتخذ الأوروبيون خطوة موحدة باستدعاء 15 سفيراً أوروبياً من طهران للتشاور. لم ترد إيران بالمثل يوم ذاك؛ بل لجأت إلى رد فعل معتدل نسبياً في محاولة للحفاظ على علاقات وثيقة مع أوروبا. بعدها خفضت وزارة الاستخبارات الإيرانية من أنشطتها الأوروبية، حتى وقت قريب.
رغم المحاولة الأخيرة، فإن الممثلين الأوروبيين لم يمتنعوا عن العودة إلى طاولة المفاوضات التابعة للجنة التنسيق المشتركة. ويبدو أن قادة الدول الأوروبية الثلاث سيواجهون كثيراً من العقبات في محاولاتهم لإرضاء الإيرانيين. والسؤال هو: إلى أي مدى هم على استعداد للذهاب؟ سيعمل كبار مستشاريهم على حزمة مالية، لكن كم وكيف؛ خصوصاً أن العقوبات الجديدة تمنع إيران من شراء أو حيازة أوراق العملة الأميركية؟
سيحاول مستشارون أوروبيون آخرون إقناع بلدان الاتحاد الأوروبي المتذبذبة بالبقاء تحت مظلة الاتفاق؛ ويعني تحدي أميركا في سبيل إيران، لكن بدأت دول من أوروبا الوسطى والشرقية في كسر جدار الاتحاد الأوروبي، وكانت بولندا وليتوانيا أول بلدين يفعلان ذلك. لا تملك هذه الدول مصالح مالية كبيرة في إيران... إنهم يراجعون السياسة الناجحة للولايات المتحدة في ما يتعلق ببلدان مثل كوريا الشمالية التي توقفت عن التجارب الصاروخية، وفككت منصات صواريخ، ويقارنونها بالجهود الدبلوماسية التي تبذلها أوروبا في ما يتعلق بإيران، والتي فشلت في أن تؤتي ثمارها.
إن ترسيخ إيران في سوريا، ونشر عقيدتها العميقة في العراق، واستمرارها في تسليح الميليشيات في لبنان والعراق، وتقديمها الدعم للتنظيمات الإرهابية الشيعية ولحركات «حماس» و«الجهاد الإسلامي» و«طالبان» وإيواء مسلحي «القاعدة»، والتهديد بوقف عمليات النقل البحري الدولية، والتي استمرت بعد أن تم توقيع اتفاق «أوروباما» النووي مع إيران... إنما هي كلها نتيجة سياسة ضعيفة تجاه إيران ولأن أوروبا تتجاهل النقد.
لقد حان الوقت كي يتوقف قادة أوروبا عن التمييز بين تورط إيران في النشاط الإرهابي وتطلعاتها النووية. إنها القيادة الإيرانية نفسها التي تتحدث بصوتين منفصلين، لذلك يتعين على أوروبا أن تتخذ موقفاً أكثر تشدداً إزاء إيران، وألا تميل إلى الاستجابة بالموقف نفسه. وقبل أن تفكر في مصالحها المالية؛ على الدول الأوروبية أن ترى أنه بعد رفع المقاطعة عن إيران بسبب اتفاق أوباما النووي، وتزويدها بالمليارات من الدولارات نقداً، ها هو الشعب الإيراني مستمر في الاحتجاجات على نقص المياه، وارتفاع الأسعار، وارتفاع نسبة الغضب من النظام الذي تصر أوروبا على حمايته. إنما إلى متى؟
بات واضحا أن بشار الأسد في طريقه إلى النجاة بجرائمه التي ارتكبها بحق السوريين على مرأى ومسمع من العالم الذي يعمل على إعادة تأهيله، على الرغم من كل الدماء والآلام التي سببها للسوريين في سبع سنوات من الحرب الدموية على شعبه. وبالطبع، لم يكن لهذه النجاة أن تتحقق من دون توافق دولي عليها، وتحديدا توافق روسي ـ أميركي ـ إسرائيلي خصوصا.
المعنى الأول الذي يمكن قراءته لهذه النجاة هو الإعلان المدوي عن افتقاد عالم اليوم إلى الحد الأدنى من العدالة الإنسانية، فأن يبقى مجرمٌ معلنٌ، مثل بشار الأسد، على رأس بلد قتل شعبه، أقل ما يقال فيه، إنه سقوط لفكرة العدالة في عالم اليوم. وهو رسالة لكل الضحايا اليوم، ولكل من يمكن أن يكون ضحية في المستقبل، أن هذا العالم لن يتلفت إلى آلامك، ولا إلى دمائك إن سفكها طاغية، فالعالم لا يملك أي إرادة أو رغبة في معاقبة المجرمين، فليس هناك عقاب للطغاة على جرائمهم، إنما العقاب لمن يفكّر في الاحتجاج على الطغيان.
يبدو عالم اليوم على الضعفاء في ظل السلطتين الأهم في كل من الولايات المتحدة وروسيا، فأن يكون على رأس كل من الدولتين رئيسان شعبويان يتعاملان مع السلطة بوصفها مزرعة شخصية، كما يفعل فلاديمير بوتين مع روسيا، أو شركة تجارية تمارس الابتزاز حتى على أصدقائها، كما يفعل دونالد ترامب، فإنهما يسيران خطوات كبيرة باتجاه تحويل السياسة من أداةٍ تمارس لتحقيق مصالح في الخلفية العملية السياسية، إلى السياسة بوصفها عملية ابتزازٍ، للحصول على مكاسب مباشرة. هذا ما فعله ترامب في اجتماع دول حلف شمال الأطلسي (الناتو) أخيرا، عندما تحدث عن جمع مبلغ معقول من المال، وعندما ضرب عرض الحائط بأصدقائه في الحلف، عندما قال إن اجتماعه مع بوتين كان أفضل من اجتماع "الناتو". ولم يتورع عن اتخاذ إجراءات ضد اللاجئين من بعض الدول الإسلامية، ومنع دخولهم الولايات المتحدة عبر معركة طويلة مع القضاء الأميركي. ولم يتورّع عن نقد المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، بسبب من سياسة الباب المفتوح التي تتبعها بلدها تجاه اللاجئين السوريين، والتي اعتبرها خطرا على الغرب، حتى إنه اخترع حوادث إرهابية في السويد لم تحصل لمهاجمة سياسة الهجرة الأوروبية. ووصل الابتزاز إلى ذروته مع المكسيك، حيث يريد بناء جدار عنصري على الحدود معها، يمنع الهجرة من المكسيك إلى الولايات المتحدة، على أن تدفع المكسيك كلفته. أما مع بوتين فحدّث ولا حرج، تدخل في الصراع السوري بذراعه العسكرية، ممثلة بالقوات الجوية التي عاثت تدميرا في المدن السورية، بحجة طرد الإرهابيين، وكان المثال الملهم لبوتين السياسة الروسية التدميرية في عاصمة الشيشان، غروزني. والعنوان الرئيسي لهذا السياسة أن ما لا ينجح بالتدمير ينجح في المزيد منه، وصولا إلى الأرض المحروقة بالقضاء على كل شيء، كما جرى في مناطق سورية عديدة، هدمت عن بكرة أبيها، بفضل الطيران الروسي. وقد استثمر بوتين في الأزمة السورية من أجل إثبات أن روسيا لا تزال معادلا في القوة للغرب، وأن التدخل في مناطق النفوذ الروسية، كما جرى في أوكرانيا، يجعل روسيا خطرةً حتى على الداخل الغربي، مثل التدخل في الانتخابات الأميركية لإنجاح ترامب، فهناك اتهاماتٌ جدّية بشأن هذا التدخل، دفعت لتكليف المحقق روبرت مولر للتحقيق في الموضوع، وهناك اتهامات بريطانية لقيام روسيا باغتيالات على الأراضي البريطانية.
عند الحديث عن سلطة شعبوية في كل من الولايات المتحدة وروسيا، ومد يمني عنصري أوروبي، لا نبتعد عن الصراع في سورية، فهذه الخريطة السياسية في العالم هي التي جعلت نجاة بشار الأسد ممكنة، ففي وقتٍ يتخلى من اعتبروا أنفسهم "أصدقاء الشعب السوري" عنه، بعد التوافق الأميركي/ الروسي على تقديم سورية للروس، في مقابل الحفاظ على أمن إسرائيل، بإبعاد الإيرانيين عن الحدود، والحفاظ على سلطة بشار الأسد. كان رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو واضحا في قوله إن إسرائيل "لا تعارض استقرار نظام الرئيس السوري بشار الأسد في سورية"، لكنها ستعمل على حماية حدودها، حتى لو كان ضد الجيش السوري، كما فعلت خلال سنوات من الحرب الأهلية. وأضاف، قبل زيارته الشهر الماضي موسكو، "لم تكن لدينا مشكلة مع نظام الأسد (فترتي الرئيسين، السابق حافظ الأسد والحالي بشار الأسد)، أربعون عاما لم تطلق رصاصة واحدة في هضبة الجولان". ولا شك أن السياسية الأميركية بشأن سورية ذات أولوية إسرائيلية، لا يدل عليها الصفقة مع روسيا لبقاء الأسد في السلطة فحسب، بل وأيضا المبادرة الأميركية "صفقة القرن"، والتي تكرّر المطالب الإسرائيلية، بعد أن نقل ترامب السفارة الأميركية في تل أبيب إلى القدس، مستبقا صفقته، وهو ما دلّ على انحياز فج غير مسبوق من إدارة ترامب إلى أجندة إسرائيلية، يتناسب مع عقلية الابتزاز التجاري.
تقاطعات المصالح اليمينية والشعبوية في العالم التي لا ترى أنين الضحايا، ولا تسمعها، ولا تفكر في محاسبة القاتل، جعلت من نجاة الأسد بجرائمه الدرس الأبلغ في عالم اليوم. ولا مبالغة في القول إن سلطات اليوم الفاعلة في العالم لا تهمها أية عدالة، ولا ترى أية ضحايا، فهي لا ترى سوى مصالحها الضيقة. وفي هذا السياق، لا يبدو غريبا أن يتصالح ترامب مع أردأ نظام في العالم في كوريا الشمالية، وأن يوافق على إعادة تأهيل بشار الأسد. والمحتجون على طغيان بشار الأسد هم الذين يُعاقَبون اليوم، بالتوافق على بقاء بشار يحكمهم بالحديد والنار. وهذا العالم الذي يتعايش مع القاتل، ويجبر الضحية على الركوع أمامه، هو عالمٌ أقل ما يقال إنه يتصف بالسفالة، لا أخلاقي، يحتاج إلى تغيير جذري. من دون ذلك، يُشرعن هذا العالم الظلم، ويجعل وجه العالم قاتما، وغير إنساني.
يجري الحديث عن إعادة إعمار سورية في بعض الأوساط، لا سيما اللبنانية، بطريقة أشبه بالترداد الببغائي أو الفولكلوري الذي يخفي وراءه أهدافاً أخرى أكثر من هدف إعادة الإعمار نفسه.
ولعل ما أعطى دفعاً لهذا الحديث المبادرة الروسية من أجل إعادة النازحين، إذ شملت الخطة التي أعدتها وزارة الدفاع الروسية في هذا الشأن الطلب إلى الأوروبيين والأميركيين المشاركة في إعادة إعمار البنى التحتية المهدمة في المناطق التي يفترض أن يعود إليها النازحون، انطلاقاً من مصلحة دول الغرب في إنهاء مأساة هؤلاء وتجنب المزيد من الأعباء على اقتصادات هذه الدول نتيجة استمرار تسرب اللاجئين إليها، وعلى نسيجها السياسي والاجتماعي، نظراً إلى تحولها قضية سياسية داخلية في بعضها.
إلا أن الهدف الإنساني من وراء المبادرة سرعان ما كشف عن صعوبات سياسية في إقناع دول الغرب بالإقبال على تمويل إعادة الإعمار. وإذا كانت النتيجة السياسية التي ترتكز إليها الدعوة إلى إعادة الإعمار في سورية، هي استتباب الوضع في بلاد الشام بسيطرة نظام بشار الأسد بمساعدة روسية رئيسية وإيرانية، بحيث أنه باق في الحكم وقضي الأمر، فإن قادة الدول الغربية على رغم أنهم يسلمون بهذه الوقائع التي فرضها ميزان القوى الميداني، لكنهم يطرحون الكثير من الأسئلة والموانع. لسان حال الأميركيين هو "أن علينا أن نتعايش مع فكرة بقاء الأسد في السلطة على ما يبدو في هذه المرحلة، لكننا نستغرب كيف سيقدر أن يحكم في ظل تقاسم النفوذ في سورية بين الروس والإيرانيين والأتراك، ووسط هذا الكم من التشكيلات العسكرية الموجودة على الأرض في معظم المناطق، إضافة إلى الأحقاد التي تركتها الحرب"... ولا يرى الجانب الأميركي موجباً للحماسة من أجل إعادة الإعمار. أما الأوروبيون فإنهم يختزلون الموقف بالقول إنه إذا كانت بعض الأجهزة الأمنية الأوروبية تبقي على خيط تواصل مع قيادات أمنية سورية، فهذا لا يعني أن الدول الأوروبية تسلم بشرعية الأسد قبل حصول حل سياسي على أساس قرار مجلس الأمن 2254 بقيام حكم انتقالي.
سيل الأسئلة التي يطرحها الغربيون، سواء كانوا من الديبلوماسيين في لبنان أو في دول أخرى، أم حتى بعض قادة دول الجوار، حول ضمانات عودة النازحين، ينطبق على إعادة الإعمار: هل ستدفع الأموال من أجل أن تستفيد منها إيران بنفوذها الواسع في سورية؟ هل ستنفق كلفة الإعمار من أجل أن يستثمرها الأسد في تثبيت حكمه على حساب سائر الشرائح الاجتماعية التي ثارت ضده ليستعيد القدرة على المزيد من القمع؟ وهل أن المستثمرين الذين يفترض أن يقبلوا على المساهمة في إنهاض سورية سينجون من مشاركة أمراء الحرب النافذين لهم إذا افترضنا أنها ستنتهي، وهل ستتيح مافيات ومواقع النفوذ المستفيدة من النظام لهؤلاء أن يوظفوا أموالاً من دون فرض "الخوات" عليهم؟ وهل أن الدول الغربية مجبرة على دفع كلفة الدمار الذي ألحقته موسكو بالبنى التحتية والسكنية السورية، لتستفيد هي بدورها من استثمارات ببلايين الدولارات؟ هذا كله، إذا جرى تخطي الهواجس الغربية حيال الوضع القانوني والإنساني للنازحين العائدين ومدى تلاؤمه مع القانون الدولي. فبعض الحكومات قد يتعرض للمساءلة من أفراد ومجموعات عائدة، إذا جرى ترحيلها في شكل مخالف لهذا القانون.
في الاجتماع الأخير الذي نظمته اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا التابعة للأمم المتحدة (الأسكوا) لنقاش تقرير "مشروع الأجندة الوطنية لمستقبل سورية"، بحث 50 خبيراً سورياً ودولياً، تحت عنوان "سياسات إعادة الإعمار في مرحلة ما بعد الاتفاق السياسي"، كل جوانب العملية ومنها تذليل الصعوبات التي تعترض إعمار ما هدمته الحرب. الأرقام هائلة: كلفة الدمار بلغت حجماً فلكياً تجاوز 388 بليون دولار أميركي، في حين قاربت كلفة الدمار الفعلي الـ120 بليون دولار أميركي. والأرقام لا تشمل الخسائر على الصعيد البشري الناتجة من موت وهروب العقول والقدرات البشرية واليد العاملة الماهرة التي كانت تعتبر أحد أهم ركائز الاقتصاد السوري، كما يقول التقرير نفسه. هذا فضلاً عن أن القدرات البشرية للنازحين وأبنائهم في سن التعليم تراجعت نظراً إلى أن كثراً منهم لم يتسنّ لهم دخول المدارس والمعاهد التقنية والجامعات.
ما لم يتعمق فيه الخبراء بعد هو أثر العقوبات في النظام، وتلك التي تفرضها وتنويها واشنطن على إيران، وعلى الإعمار في سورية.
في الانتظار، قد تكون المحاولات التي يقوم بها لبنان من طريق المديرية العامة للأمن العام لإعادة أعداد متواضعة من النازحين هي الأمر الوحيد المتاح.