أوهام حزب الله غير المقنعة
يهوى حزب الله الاحتفاليات على أنواعها، خصوصا منها ذكريات النصر، علما أنه لم يحقق إلا نصرا واحدا حقيقيا، هو انسحاب إسرائيل من لبنان عام 2000. وهو يحتفل به كل سنة، لكنه يحتفل أيضا كما احتفل بالأمس بانتصاره في حرب يوليو/ تموز 2006 حيث سقط خلالها نحو 1300 مواطن لبناني، وأجبرت إسرائيل مئات آلاف من الجنوبيين على النزوح، ولم تبق حجرا على حجرا، فدمّرت البنى التحتية والجسور والطرقات بشكل شبه كامل، وحوّلت الضاحية الجنوبية لبيروت معقل حزب الله وخزانه البشري إلى ركام، وذلك كله لأن قيادة الحزب ارتأت خطف جثتي جنديين إسرائيليين سقطا إثر اشتباك عند الشريط الحدودي الفاصل بين لبنان وفلسطين المحتلة، وقرّرت المراوغة بإخفاء الأمر، لكي تفاوض عليهما فيما بعد. وأمام هول ما حصل وفداحته خلال 33 يوما من القصف والدمار والخراب وعدد الضحايا، ظهر الأمين العام لحزب الله، حسن نصرالله، على إحدى الشاشات، وقال "لو كنت أعلم..."، أي أن ردة فعل إسرائيل ستكون بهذه الوحشية لما كان فعلها! ومع ذلك هو يحتفل كل سنة بالنصر في هذه المناسبة، ولا يعترف بدور رئيس حكومة لبنان يومها رجل الدولة الشجاع فؤاد السنيورة في وقف العدوان الإسرائيلي الذي كان له الفضل الأكبر في الاستحصال على قرار من مجلس الأمن رقم 1701 بوقف إطلاق النار، وإرسال 15000 جندي من قوات الأمم المتحدة لضمان حفط الأمن في الجنوب، وعلى الحدود اللبنانية الجنوبية، على الرغم من أن رئيس الحكومة كان قد أعلن معارضته منذ اليوم الأول للحرب، ولخطف حزب الله جثتي الجنديين الإسرائيليين. ومع ذلك، اتهم الحزب السنيورة يومها بالعمالة والتآمر عليه!
الاحتفاليات التي تتم بتنظيم محكم، وترفع شعاراتٍ تعبويةً محدّدة، وتلوّح بصور القائد، وتهتف له، هي خاصية أحزاب النظرية الواحدة والحقيقة الواحدة، الأحزاب الشمولية والسلطوية.
والاحتفاليات هذه وسيلة لحشد مئات الألوف في نظام مرصوص، بحيث يبدون رجلا واحدا وصوتا واحدا. وهذه تقنيّة يجيدها حزب الله بحرفية عالية، عندما يحتشد مئات الآلاف، ليستمعوا إلى نصرالله (وليس لمشاهدته)، وهو يخطب عبر شاشة عملاقة، نصبت خصيصا للمناسبة ويتفاعلون مع كلامه، وكأنه حاضر أمامهم، فهذه طريقة للتعبير عن قوة الحزب وفرض هيبة القائد، وهي، في الوقت عينه، أسلوب لممارسة اللعب على عواطف الجمهور، والسيطرة على عقول المستمعين، إذ ينفضون عن الاحتفالية بقوة شحن هائلة، واقتناع واحد مشترك. وحزب الله يحتفل أيضا بمناسبات دينية كثيرة، في مقدمها يوم القدس الذي خصّصته إيران وكرسته منذ سنوات يوما لفلسطين سنويا في آخر أسبوع من شهر رمضان. كما أن الحزب يحيي ذكرى الشهداء، ويقيم العروض العسكرية عندما يريد أن يستعرض قوته، ويشد عصب جمهوره، ويوجه رسائله في أكثر من اتجاه. وتنعكس قوة هذا الأسلوب أيضا في قدرته على إجبار جمهرة من السياسيين الحلفاء والتابعين على الحضور والاصظفاف جلوسا في الصف الأمامي في حضرة نصرالله الذي يطلّ عليهم عبر الشاشة.
وفي بداية انخراطه ربيع 2013 في القتال ضد الشعب السوري، ودفاعا عن نظام بشار الأسد، كان حزب الله يشعر بالإحراج في الكشف عن ضحاياه، لذلك كان يحيط إحضار الجثث بالكتمان، ومن ثم يتم التشييع سريعا وبدون إعلان كل في قريته، إلا أن ذلك لم يعد ممكنا لاحقا بسبب ازدياد حجم الخسائر وعدد القتلى، وتصاعد التململ لدى أهالي الضحايا، فبات مضطرا للإعلان عن ذلك، وإجراء مراسم تشييع "رسمية"، تحوّلت مع التدخل الروسي عام 2015، وازدياد حجم عدد فرق مليشياته المنخرطة في القتال، في أكثر من محافظة وجبهة، إلى احتفاليات علنية، يخطب فيها مسؤولوه في المدن والبلدات التي ينتمي إليها القتلى، غير أن هذا الانخراط الكلي في الأزمة السورية، وهذا التورّط في المشاركة في سفك دماء السوريين، راحا يخفّفان تدريجيا من قوة حزب الله وقدرته على الحشد، حتى في صفوف جمهوره. كما أن باقي اللبنانيين راحوا يشيحون نظرهم جانبا عن القناة التي تنقل وقائع ظهور نصرالله خطيبا في ساحات ضاحية بيروت الجنوبية، إذ إن مسألة "داعش" والإرهاب كانت ورقة رابحة في يده، استعملها طويلا بين عامي 2013 و2015 موهما اللبنانيين أنه ذهب للقتال في سورية لمنع وصول الإرهابيين إلى لبنان. وهي اليوم سقطت. والعامل الآخر هو إشاحة نظر حزب الله عن مشكلات اللبنانيين، وخصوصا الاقتصادية، بحجة أنه متفرّغ للمقاومة. ولكن هذه "المقاومة" هي منهم، وتقوم عليهم، وتستعمل أولادهم وقودا لها، فكيف لهم أن يستمرّوا ويصمدوا، من دون تأمين فرص العمل لهم وتزويدهم بالكهرباء والماء، ورفع النفايات والتلوث من بيئتهم وشوارعهم، وعن أنوفهم وأجهزة تنفسهم... بعد أن أصبح حزب الله مكونا أساسيا من مكونات السلطة، في الحكومة وفي البرلمان وفي مختلف مواقع القرار. ناهيك عن ظاهرة فساد الطبقة السياسية الذي بات الحزب جزءا منها، والفساد متغلغل في مفاصله. ولهذا الغرض، أعلن نصرالله، عشية الانتخابات النيابية، عن تشكيل لجنة خاصة لمكافحة الفساد، بإشرافه هو شخصيا، ولكن لا خطوة فعلية، ولا شحطة قلم منذ تشكيلها قبل خمسة أشهر!
أما التطور السلبي الآخر الذي انفجر أخيرا بشكل قوي في وجه حزب الله فهو الشرخ الذي بدأ يتسع بين الجنوب والبقاع، وهما محافظتان بأغلبية من الطائفة الشيعية، ومعقودتا الولاء للطرفين الشيعيين المهيمنين، حزب الله وحركة أمل، فأهل البقاع، وتحديدا مدينة بعلبك وجوارها المعتبرة خزّانا للحزب، تشكو من الإهمال اللاحق بها، ليس فقط من الدولة، وإنما من دويلة حزب الله الذي لم يهتم بتحسين ظروف عيش أهلها وإنماء مدينتهم، على الرغم من أنه يسيطر على معظم مقاعد ممثليها في البرلمان منذ عقود. وكادت نقمة المدينة أن تطيح نصف مقاعد الحزب في الانتخابات أخيرا لو لم يسارع نصرالله إلى توجيه النداء تلو النداء، ويكثّف ظهوره التلفزيوني، ويعلن استعداده لزيارة المدينة، والتجوّل في شوارعها. ومع ذلك، خسر ثلاثة مقاعد لصالح حزب القوات اللبنانية وتيار المستقبل بزعامة سعد الحريري. وهناك من حاول زرع الشقاق بين "الثنائي الشيعي"، عبر تحريض حزب الله على زعيم حركة أمل، نبيه بري، "الجنوبي جدا" الذي يدفع بكل المشاريع إلى الجنوب ويحرم البقاع منها. وأخيرا، اضطر نصرالله قبل أيام إلى إقامة احتفالية النصر بحرب تموز في ضاحية بيروت، والإعلان عن تخصيص بعلبك باحتفالية أخرى بمناسبة النصر على "التكفيريين"، بعد أن أعلنت الدولة عزمها على تشريع زراعة الحشيش (الخشخاش) إرضاء للبعلبكيين، واضطرار حزب الله إلى رفع الغطاء عن بطل تهريب المخدّرات الملقب "إسكوبار لبنان"، الصادر بحقه أكثر من ثلاثة آلاف مذكرة توقيف، ومع ذلك لم تتمكّن الأجهزة الأمنية من القبض عليه من قبل. كما أن المثير أكثر في الأمر أن "إسكوبار" هذا لم يتم توقيفه، وإنما تصفيته على الفور مع أفراد مجموعته فور مداهمة مقره. وبعدها بأيام راحت وسائل التواصل الاجتماعي تتداول شريط فيديو جمع وزيرا من حزب الله ومدير الأمن العام السابق الذي أصبح نائبا وأحد المشايخ المعروفين وآخرين ضيوفا على الغداء عند "إسكوبار" هذا خلال الحملة الانتخابية أخيرا.