سورية أمام خيارين، إما أن تكون جمهورية الأسد، انطلاقاً من الوقائع الراهنة، حيث استعاد الأسد السيطرة على أجزاء واسعة مقابل انهيار مكونات المعارضة، بما يعنيه ذلك من إدارة روسية لشؤون البلد، أو سورية جديدة، عبر عملية انتقال سياسي سلمية بتعاون إقليمي ودولي تحضيراً لاستحقاقات المرحلة القادمة، وبخاصة إعادة الإعمار وعودة اللاجئين.
الخياران، تتحكم بهما القوى الخارجية، ولن يكون هناك طرف سوري مقرّر، وستقتصر أدوار السوريين على تنفيذ القرار الخارجي، وبالتالي فإن سورية المستقبلية، على مستوى طبيعة نظام الحكم وشكل الدولة، والتوجهات السياسية، وحتى ألوان العلم والنشيد الوطني، سيتم تشكيلها وإقرارها خارج دمشق، سواء بقيت جمهورية الأسد أو سورية ما بعد الأسد.
حتى اللحظة، تبدو جمهورية الأسد، مع بعض التحسينات الشكلية، هي الأقرب للواقع والأكثر التصاقاً بمجريات الأحداث، ذلك ان هذه الجمهورية ستعتبر رمز الانتصار الروسي، عسكرياً وديبلوماسياً وإعلامياً، ومثالاً على قدرة روسيا البوتينية، وانعكاساً لمدى تأثيراتها في المستوى الدولي، وستحاول موسكو استعراض هذا النموذج واستثمار رمزيته في إخضاع خصومها الدوليين، كما ستحاول فرض الأسد وإعادة تأهيله دولياً بإعتباره الخيار الوحيد والإجباري لسورية.
غير أن نجاح هذا الخيار يتوقف بدرجة كبيرة، ليس على إرادة روسيا ورغباتها، بل على مدى إستجابة الأطراف الدولية والإقليمية ومدى خضوعها للخيار الروسي، والأهم من ذلك، طبيعة تحضيراتها للتعاطي مع المرحلة السورية المقبلة، فهل سيكون لديها إستراتيجية واضحة ومحدّدة، وإطار تنطلق منه، وتستطيع إجبار روسيا على الإمتثال للرغبة الدولية في حصول إنتقال سياسي في سورية، أم سيكون هناك مواقف متفرقة لكل دولة على حدة، وهو ما تفضله روسيا، حيث سيكون بإمكانها تفتيت قوة خصومها تفاوضيا، تماما كما فعلت مع فصائل المعارضة، ودفعهم للإستسلام لرؤيتها.
على ذلك، فإن القضية السورية اليوم، وبعد انتهاء الجزء الأكبر من العملية العسكرية، باتت في مجال التفاوض، والمعلوم أن عوامل الخبرة وحشد الموارد الديبلوماسية ورفدها بالعناصر الاقتصادية، عوامل مهمة في هذه العملية إذا تم تنظيمها واستثمارها جيداً، وبخاصة أن الموقف العسكري في سورية غير دقيق ولا يكفي وحده لحسم المشهد، إذ عدا عن حقيقة أن انتصار الأسد تم بجهد روسي– إيراني، غير ممكن تأمينه دائماً، فإن المشهد الذي رتبته روسيا على الأرض فوضوي بدرجة كبيرة وقد ينقلب في مدى زمني قريب إلى حالة استنزاف ضدها، والمقصود هنا التسويات التي أجرتها في الجنوب والقلمون وأرياف حمص، ما لم تدعمها بعملية سياسية حقيقية.
تدرك روسيا أنها أمام مرحلة التفاوض هذه ستواجه قوى دولية خبيرة ولديها اشتراطات ورؤى مختلفة، وبالتالي يستدعي هذا الوضع رفع سقف التفاوض بدرجة كبيرة، ولا بأس أن يكون بحجم تسليم الأطراف الدولية والإقليمية بإبقاء الأسد في السلطة وحقه في الترشح للانتخابات المقبلة، مقابل تقديم إغراءات للدول الغربية، على وجه الخصوص، في ملفات لا تؤثر كثيراً في سلطة الأسد، كأن يتم الاعتراف للأكراد بالحكم الذاتي، أو صناعة عملية سلام بين نظام الأسد وإسرائيل، أو حتى إغراء الأطراف الإقليمية والدولية بالفوائد الإقتصادية المتخيلة نتيجة إعادة تنشيط طرق التجارة الإقليمية العابرة لسورية، او الإزدهار الإستثماري الناتج عن إقلاع عملية إعادة الإعمار.
لكن نقطة الضعف في الخطة الروسية تتمثل بدرجة كبيرة بعامل الوقت، ذلك أن تطبيق هذه الأجندة، من إقناع الأطراف الإقليمية والدولية، وتأمين سير الأمور في سورية بسلام، والتحكم بإدارة مفاصل هذه العملية المرهقة، كل ذلك يحتاج وقتا لا تستطيع روسيا الصمود خلاله، بخاصة أن روسيا نفسها بدأت تطوير أهدافها وتوسيع دائرتها ونسج علاقات، وإن كان طابعها تقنياً، مع المجتمعات المحلية، ولم يعد هدفها منحصراً في تامين قاعدة عسكرية لها، فهذا هدف غير قادر على الصمود في بلد محطم، كما أنه لن يفيد روسيا كثيراً اذا بقيت سورية في عزلة إقليمية ودولية، وهذه المعطيات سيكون لها انعكاس على موقف روسيا وسياستها السورية إجمالاً.
بالمقابل، يبدو أن الموقف الدولي ما زال متماسكاً في مواجهة السياسة الروسية، حيث ترفض الدول الفاعلة الانخراط بالخطة الروسية الداعية لإعادة تأهيل نظام الأسد، كما ترفض محاولات روسيا تلزيم المجتمع الدولي عملية إعادة الإعمار في سورية، وقد كان كلام السفير الفرنسي في مجلس الأمن، بأن الدول الغربية ترفض المساهمة في اعادة الإعمار ما لم تحصل عملية انتقال سياسي، بمثابة رسالة تأكيدية لروسيا أن المواقف لم تتبدل بعد، كما أعادت فرنسا أخيراً طرح ورقة «الخمس» التي اتفقت عليها في باريس، بداية العام الجاري، كل من فرنسا والولايات المتحدة وبريطانيا والسعودية والأردن، والتي تتضمن رؤية للحل السياسي في سورية.
من سيفوز بهذا الصراع، جمهورية الأسد، أم دولة سورية للجميع، هذا ما ستحدّده مجريات التفاوض في المرحلة القادمة، وهنا يتوجب على المعارضة السورية أن تلعب دوراً رفيداً للجهود الدولية والإقليمية، وأن تكون بحجم هذه المهمة، بما يتطلبه ذلك من تجهيز ورشات قانونية وسياسية وإعلامية لتدعيم عملية ولادة سورية الجديدة والخلاص من جمهورية الأسد التي تنذر بمستقبل قاتم للسوريين.
كثيراً ما كنّا نظنهم صادقين، لكن حقيقتهم ظهرت بعد أول لقاء، نعم لقد عاد العُشّاق إلى قفص حُبهما، مَنْ هم؟ إنهم نظام الأسد وضفادع الثورة السورية، وأين هو قفص حُبهم؟ إنه حظيرة حضن الوطن. عشاق حظيرة حضن الوطن يتحدثون باستمرار عن وطنهم المزعوم يتحدثون باستمرار عن معاملة قوات النظام السوري لهم بحنية ورفق وذلك بمجرد أن تقول لهم "شكراً لإنقاذنا من الإرهابيين" هكذا كانت في البداية والآن بدأ النظام بمساعدة ضفادعه باعتقال الشباب وسحبهم لقتال تنظيم داعش وقتال المعارضة السورية في شمال البلاد وجنوبها.
وبحجة بسط الأمن والأمان بمساعدة الضفادع الإلكترونية بدأ النظام بنشر نقاط أمنية تحولت إلى حواجز عسكرية في مناطق شمال حمص، مهمة هذه الحواجز المتموضعة في أعلى نقاط في مدن الريف ومداخلها مراقبة المارين وانتظار الأوامر من الضفادع لينقضوا على من يخطئ ويتحدث مع أحد أفراد عائلته الذي هُجّر إلى شمال البلاد.
الضفدع الموالي للنظام يعيش على مواقع التواصل الاجتماعي يبث الفتن بين فصائل الثورة السورية ويبخس عمل الجميع يطعن بالمجالس المحلي ومنظمات حقوق الإنسان ويردد باستمرار عبارات "النظام أحسن منكم" "لو كنا عند النظام بـ 100 ليرة منشتري نص البلد" صحيح لماذا تشتري نصف البلد بـ 100 ليرة لأن النظام السوري ورئيسه بشار حافظ الأسد يسوا أبناء هذا البلد والدليل تدمير مدن ومحافظات سوريا واحدة واحدة شرّد الملايين وقتل مئات الألاف واعتقل الألاف من أجل الرئاسة هل يبدو هذا الحاكم جديراً بحكم سوريا العظيمة؟
كما كان الضفدع البشري يدخل في كل تفصيل حتى لو كان صغيراً كان يسعى لهدم أي مشروع حتى لو كان صغيراً لماذا ؟ كي لا يتمكن الثوار من خلق مؤسسة قد تكون حجرة عثرة في طريق مهمته في إخضاع البلاد فكان يدخل بصفة ثورية وكان يقاتل ويخرب ويغرر حتى تهدم تلك المؤسسة وبالمقابل كان النظام السوري يقدم له كل الدعم حسب وثائق نشرت بعد انتهاء المناطق المحاصرة تبين أن النظام وأجهزة المخابرات السورية كانت تقدم الدعم اللازم لكافة الضفادع المنتشرة كي تقضِ على روح الثور وجعل الجيش الحر والمعارضة مكروهة من قبل الحاضنة الشعبية لها بغض النظر عن المنطقة وتضاريسها وهذا ما حصل في حمص ودمشق ومناطق أخرى .
الضفدعة: خرج هذا المصطلح من الغوطة الشرقية بريف دمشق بعد أن أحدث المدعو "بسام ضفدع " ثغرةً مكنت النظام السوري من احتلال الغوطة بعد أعوام من حصارها بدأت عدوة الضفدعة تنتشر في الأراضي السورية رويداً رويداً سقطت الغوطة الشرقية واتجهت الأنظار إلى آخر معاقل المعارضة في المنطقة الوسطى لينهي النظام بذلك ملفي دمشق وحمص. كان لا بد للنظام تجنيد عدد من الأشخاص داخل الريف الشمالي لحمص، فكان أضعف شخص انصاع له يملك أقوى العتاد في شمال حمص إنه "منهل الصلوع" والذي خلف أبو حاتم الضحيك الذي كان يترأس أكبر فصائل الريف الشمالي لحمص قوةً.
جيش التوحيد الذي ساهم في تسليم آخر مناطق المعارضة في المنطقة الوسطى إلى حظيرة حضن الوطن على طبق من ذهب، نعم بعض الدولارات وجولة صغيرة من قبل صبايا العطاء مع قائد جيش التوحيد جعلته يبيع بلده من أجل العودة إلى حظيرة حضن الوطن ويخلّد اسمه على أنه بطل قومي من أولئك الأبطال الذين سلموا البلاد إلى قاتل الأطفال هل نسوا مجازر الأسد في الغوطة الشرقية ؟ في حمص وحماه في إدلب.
وبعد انتهاء النظام من آخر المناطق المحاصرة أي سوريا انتقل ليحتل الجنوب الروسي والذي قدم أيضاً على طبق من ذهب بوجود الضفادع أيضاً كأمثال أحمد العودة و بعد الانتهاء من الجنوب السوري لم يبقى بيد المعارضة سوى ومناطق النفوذ التركي " إدلب وريف حلب". فهل وصلت الضفادع إلى هناك؟ هل ستكون محافظة إدلب وما تبقى من ريفي حلب وحماه بيد المعارضة السورية؟
ليهنأ من أرادها "نصراً" يُسحقُ به المجتمع، وتتوجُ فيه قيم التسلط والتفرد؛ فقد صار مؤكداً غياب "اللحظة السياسية الجديدة" في سورية (سمّوها انتقالا، تغييرا، إصلاحا، سمّوها ما شئتم)؛ وصار خراب سورية (دولة ومجتمعاً) الثابت الأكثر وضوحاً في المدى المنظور؛ فمنذ حوّل المجتمع الدولي قضية الكرامة المجتمعية والمطالب الشعبية السورية، السياسية منها أو السياساتيّة، إلى مسألة تنازعٍ سياسي بين نظام أمني ومعارضة لم تعن بقضية التمثيل؛ أضحت "السيولة" و"تغيير الاتجاهات" و"تدمير حوامل الثورة" البوصلة المتحكّمة بمسار العملية السياسية؛ حتى غدت دفعاً نحو عودة سورية إلى ما قبل الأزمة مع كثير من الخراب الاجتماعي والاقتصادي والإنساني؛ وتمكين الاستبداد ومليشياته، ومنحهم كل الأدوات اللازمة لجعل الاستحقاقات السياسية الكبرى تحدياتٍ حكوميةً غير مستعجلة، وغير مرتبطة بأي محدّد سياسي؛ ولا يعد ملف المعتقلين، وما يفعله النظام والروس، استثناء عن هذا الدفع، فها هو وعلى مرأى العالم يعلن بكل بساطة عن موتهم، وبالتالي عن وجع سورية الأبدي، وليكشف، للمرة الألف، زيف ادّعاءات الفواعل المحلية أولاً، والإقليمية والدولية لاحقاً، إذ باتوا جميعهم وفق منطق"البراغماتية المتخيلة" يبنون خططهم للتكيّف مع الظلم والقهر، إن لم نقل لجعله مدخلاً لشرعنة نظرية جديدة في العلاقات الدولية، ربما سيسمونها "النيو نيو ليبرالية".
"بشّرنا" مؤتمر سوتشي أخيرا، وسيبقى "يبشّرنا" المؤتمر المقبل بمزيد من الإنكار لفواتير التضحية التي دفعها المجتمع السوري ولا يزال؛ وبكثيرٍ من سياسات الهشاشة والتبسيط و"العودة الكريمة" لتحكّم الأجهزة الأمنية، وأزلامها الجدد، في رقاب الدولة والمجتمع، هذا المؤتمر الذي أرادته الإدارة الروسية مساراً وحيداً لتعريف الحل السياسي في سورية، واختصارها بتغييرات دستورية، مشروطة بموافقة رأس النظام، حتى تغدو تعديلات دستورية (وهذا ما لم يمنحه أيام ضعفه)، أو انتخاباتٍ يكون فيها حزب البعث الناظم للقواعد الانتخابية، وشروط العمل في الهيئة العليا للانتخابات ومعاييره، حلٌ سياسيٌّ يهندسه "المنتصر" عسكرياً، كيف لا؟ وموسكو منذ تدخلها وهي تعمل على المضي في إعادة تشكيل المشهد السوري، وترتيب مسرحه العسكري بما يتفق كلياً مع محدّدات الحل الصفري، وفرض واقع عسكري مثبت باتفاقات مصالحة (استسلام) متباينة، ليصعب على المجموعة الدولية تجاهل هذا المشهد الجديد، فكان البدء من الغوطة الشرقية، وإبعادها عن دوائر التأثير في المحيط الجيوسياسي للعاصمة، ومن بعدها القلمون الذي يشرف على عقد مواصلات بالغة الأهمية في المعنى العسكريّاتي، لينتقل إلى جنوب دمشق، ومن بعدها إلى ريفي حمص وحماة، ولتخرج كل جيوب المقاومة من مناطق "سورية المفيدة"، ليضمن كلياً سحب كل أدوات التأثير للمعارضة، وداعميهم ضمن المناطق الحيوية للنظام، والتي تؤمن له تمكيناً أمنياً يسمح له بامتلاك زمام الفاعلية التنموية والإدارية؛ ولتعزّز أخيرا القواعد الضابطة لحدود التأثير الدولي، ومحاصرة المناطق المتبقية بخياراتٍ لا تتجاوز ثنائية "الرضوخ، التهجير"، وهذا ما كان في درعا.
بالتزامن مع ذلك كله؛ وصلت الارتكاسات السياسية الذاتية للمعارضة إلى مداها الأوسع بعد معركة حلب، والتي تبيّن أنها لم تعد قادرةً على الفعل السياسي، ولو بأدنى درجاته، فمرت كوارث التدخل الروسي والإيراني، وما حمله من تغييرات ديمغرافية وعسكرية واضحة، من دون أن يلمس المراقبون لهذه الأجسام أي استراتيجية تعاط إبّان هذا التدخل، إذ لا تزال تمضي المعارضة باتجاه موتها الوظيفي، إلى درجةٍ غدت فيها ظاهرة "الضفادع" الفاعل المتحكّم في بنى هذه المعارضة السياسية والعسكرية؛ حقائق عديدة تدل على هذا المآل، فلا أفعالُ مراجعة، ولا البدء بتقييم الأدوات، سوى محاولتين ترقيان إلى أن تكونا استعراضاً لمص الصدمة ليس إلا، ولا تدارساَ موضوعياً لصلاحية البنية الحالية لهذه المرحلة، الشكل الذي حال دون أي فعل سياسي حقيقي يُحدث أثراً ملموساً، سواء على المستوى المحلي، كتنظيم الصف الثوري الداخلي، أو على المستوى الخارجي، كتمثيل بديل مقنع للمجتمع الدولي، ما ولّد فراغاً سياسياً في الثورة السورية، وغُربة عن الشارع الثوري الذي شُرعِن خروجه من كل المعادلات.
أمام هذا الانكسار الذي لا يبقي ولا يذر؛ والذي يقيّد حركات التفاعل الوطني المستقبلية، ويجعلها أسيرة التكيف مع الفشل الوظيفي للدولة والسلطة والموت السريري الحتمي لقوى المعارضة التقليدية من جهة؛ ويخرج أي أثر متوقع لـ "داعمين" إقليميين أو دوليين من دوائر أي حساب وطني مستقبلي من جهة أخرى؛ يبرز الشباب السوري الوطني المؤمن بالتغيير فرصة لتشكيل حامل مجتمعي استراتيجي، يعنى بأسباب الاستقرار والبناء، تلك الشريحة التي جعلت السبع سنوات الماضية منهم جيلاً مكتظاً بالتجارب والخبرات والخيبات والاهتزازات، فتعرّفوا على كل أشكال الممارسة والفعل الثوري، وخاضوا كفاحاً مسلحاً في ظروفٍ بالغة التعقيد، فأنتجوا وزرعوا وصنعوا وصمدوا وشكلوا من بلداتهم وقراهم أيقوناتٍ في العزّة والحرية، وشهدوا أيضاً على غوغائية مشاريع التبعية والتطرّف، فوهبهم ذلك توازناً فكرياً ينبغي له أن يدفعهم إلى تشكيل مشروعهم السياسي وفق فلسفةٍ تحيط بكل الجراح، وتستوعب ألم المراجعات، وتدرك أهمية تدافعهم لانتشال ما تبقى، والبناء عليه بمحدّدات جديدة، وأدوات مقاومة نوعية، تطاول المهجّر منهم وغير المهجّر؛ وأن تبدأ بتصدير خطاباً سياسياً وطنياً نوعياً عابراً للعقائد والأيديولوجيات، وكل ما تمليه الثنائيات الفكرية من احترابٍ مجانيٍّ، استنزف القدرات وشتّت المسير.
كل ما ذكر أعلاه هو دعوة صريحة وملحة إلى أن يكون شعار واستراتيجية "السياسة أولاً" عنوان الحركة الشبابية السورية التي يعوّل على وعيها في التأثير الإيجابي في هذا المشهد القاتم؛ فوفقاً لمدخلات المشهد السوري الراهن لا استقرار يُرتجى في المدى المنظور؛ ولا عملية تغيير سياسية حقيقة؛ ولا تماسكاً اجتماعياً؛ ولا دستوراً قوياً؛ يلغي القوانين الاستثنائية ويعيد للمجتمع حقوقه، ولا ولا... إلخ. هذه الحركة، كما كانت المنظم والمنفذ والمنسق لثورة العز والكرامة في سورية، قادرة على أن تكون الرابطة الوطنية الجامعة والدافعة لاسترداد الوطن واستقراره.
لا شيء حقيقياً ينتج عن القمم والمؤتمرات الدولية والإقليمية الخاصة بسورية، ولا تسويات فعلية تنتجها الأتفاقيات العديدة، ولا تعدو المسألة سوى مناورات دبلوماسية بين اللاعبين، أو تحليلات متفائلة، وتوقعات تحاول القفز بخطوات واسعة إلى الأمام على أرض رخوة.
ومنذ حلّت روسيا في سورية، تم الإعلان عن عشرات التفاهمات والتسويات، وصدرت قرارات عن مجلس الأمن بهذا الخصوص، وعلى الأرض لا يوجد صدى لذلك كله، وما هو موجود حرب، تلك التي يسمّونها الأرض المحروقة، ينتج عنها خسارة طرف وتقدم آخر، أما التسوية التي طالما جرى الحديث عنها فلن تأتي أبداً، حتى لو سكتت الجبهات ووقفت المدافع، ما يعني أن وزن السياسة صفر في هذه المعادلة، والعملية حرب وليست سياسة.
سيجري الحديث عن تسوية سياسية في سورية ونجاحها وإنتهاء الأزمة، وعلى الرغم من بروز عشرات الأسئلة في مواجهة مثل هذه التسوية، إلا أنه سيجري تعميمها بوصفها تسوية التسويات في سورية، وماذا تحتاج التسويات سوى ممثلين عن الطرفين، وستجد روسيا مئات من منصات دمشق وحميميم وموسكو وأستانة، والمرأة والمجتمع المدني، وربما منصّات لم نسمع بها، لتعتبرهم ممثلين للشعب السوري، لن يحاسبها أحدٌ على معايير السورنة الخاصة باختيارها سوريين يمثلون شعبهم واستبعادها آخرين.
لكن، هل بين هؤلاء من يمثل اللاجئين في لبنان والأردن وتركيا، وهم يشكلون أكثر من ربع السوريين؟ أو هل بينهم من يمثل أبناء الأحياء المدمّرة في دمشق وحلب وحمص وحماة وإدلب ودير الزور والرقة والقنيطرة، وأرياف هذه المدن، أولئك من يسمّونهم نازحي الداخل، وعددهم يساوي ثلث سكان سورية؟ وهل بينهم من يمثل أهالي القتلى والمعتقلين والمفقودين والمعاقين، ومجموع هذه الفئات، وفق تقديرات متحفظة، يتجاوز مليونين؟ هل يوجد ضمن وفد المرأة واحدة اغتصبت في سجون الأسد، لتمثل المغتصبات اللاتي يقدّرن بالآلاف.
وإذا لم تطرح قضايا هؤلاء، ولم يكونوا ممثلين في هيئات التفاوض، ولن يكونوا، فإن أي تسويةٍ ستحصل في سورية ستكون مجرد كذبة، أو بلغةٍ أدق، ستكون على مقاسات فلاديمير بوتين ووزير خارجيته سيرغي لافروف، اللذين يعتبران كل معارض لبشار الأسد إرهابيا، ويعقدان التسويات مع فصائل المعارضة، ويوقعان معهم على التفاهمات، وبعد أقل من ساعة يصفانهم بإرهابيين، من دون تبرير كيف لدولة عظمى عقد اتفاقيات وتفاهمات مع إرهابيين، وما بنود تلك الاتفاقيات وعناصرها؟
أما المشهد الذي يجري العمل على إنتاجه، على خلفية قمة هلسنكي وأخواتها، فهو مجرّد فانتازيا غير مسلية، إبعاد إيران عن حدود "إسرائيل" أو بقاءها، بعد أن صارت أهداف إيران وراءها، القضاء على ثورة الشعب السوري، ولو كانت تريد مهاجمة إسرائيل لفعلت ذلك منذ عشرين سنة وأكثر، فهي موجودة في سورية قبل تاريخ الثورة بكثير، وتملك حرية حركة كاملة، ولديها تأثير كبير على صناعة القرار في سورية، ثم إن سورية كانت ضمن مدار حلف الممانعة، حين كان ذلك الحلف يبحث عن طريق للوصول إلى القدس.
من المضحك المبكي، معا، أن المسألة السورية يجري اختصارها بحجم المسافة التي يجب أن تبتعد فيها ايران عند الحدود السورية. ولكن ماذا عن ملايين السوريين الذين سحقتهم آلة الموت، وماذا عن الذين ستنتقم منهم أجهزة نظام الأسد، حينما تنتهي روسيا من تجريدهم من وسائل الدفاع عن أنفسهم، قبل الحصول على تسوية منطقية؟
تحاجج الدبلوماسية الروسية بأن بوتين لا يستطيع إخراج الإيرانيين من سورية، لانه لا يستطيع فرض الأمر على إيران وسورية، إذاً لماذا دخل اللعبة "العملية" من الأساس: هل لأنه يستطيع أن يفرض على السوريين احتلال ايران لهم، وعبثها بتركيبتهم الديمغرافية وتوازناتهم المذهبية، وما دامت المطالبة بإخراج إيران من كامل سورية أمرا غير منطقي، حسب لافروف، فهل فرض تسوية ليس فيها ملامح عدالة أمر منطقي؟
ليس صعبا تصوّر بقية السيناريو من هذه المؤتمرات والقمم واللقاءات، ستبقى إيران في سورية، وسيستنزف بوتين مفاوضيه من الإسرائيليين والأميريكيين بعدد الأمتار التي ستبتعد فيها مليشيات إيران عن حدود الجولان، وستستمر إسرائيل بضرباتها الجراحية إلى حين تجد إيران وسيلة لتمويه وجودها في سورية، وشيئاّ فشيئاَ تصبح الضربات الإسرائيلية من ذكريات الماضي، ويعلن ترامب أن انسحابه من سورية صار مستحقاً بعد زوال الخطر الإيراني.
وحقيقة الأمر أن كل ما يجري مناورة لإعادة تاهيل الأسد ونظامه، لكن الأطراف تبحث عن ذريعةٍ للتخلص من عقابيل الأزمة، والخروج من حال الانسداد التي تراوح فيها أزمات كثيرة، وهي أوهام يمنّي الطرف المقابل لروسيا نفسه فيها، عبر الاعتقاد أن الحل في سورية سيكون مفتاح حلول أزماتٍ كثيرة، وأن السماح لبوتين بتحقيق اختراق في الأزمة السورية سيجعل حصول ذلك ممكنا في أزمات أوكرانيا والتسلح النووي، وغيرها من الأزمات.
غير أن هذا النمط من الحلول ولّاد لأزمات لن تنتهي، ستخمد مدافع الحرب السورية، وستخمد تعبيرات الاعتراض الشعبية، وتتراجع إلى مجرد اعتراضات مكبوتة ومخنوقة في الصدور، لكن ذلك ليس مؤشّراً على نهاية أزمةٍ قذفت ملايين من البشر في أتون محرقة كبرى، ولم توفر حلولها رافعةً لإخراج هؤلاء من الجحيم.
مع أنَّ وقف إطلاق النار الذي أُبرم بين سوريا وإسرائيل عام 1974 بقي صامداً ولم يتم اختراقه، حتى بعد انطلاق الثورة السورية في عام 2011، فإن الإسرائيليين قد استقبلوا المستجدات الأخيرة، التي توصل إليها الروس في أعقاب حسم مواجهة الجبهة الجنوبية بدرعا ولاحقاً حوض اليرموك وعودة قوات تابعة لنظام بشار الأسد بمشاركة قوات روسية وقوات تابعة للأمم المتحدة إلى حدود وقف إطلاق النار بإقامة الأفراح والليالي الملاح كما يقال، وبالترحيب الغامر بهذه العودة وكأنها هبطت عليهم أي على الإسرائيليين من السماء!!
وحتى قبل أن تُحسم مواجهات الجبهة الجنوبية، التي كان دور القوات الروسية ومعها قوات من الحرس الثوري الإيراني ومن «حزب الله» اللبناني وأيضاً مجموعات من التنظيمات المذهبية والطائفية التابعة للجنرال قاسم سليماني وتالياً للولي الفقيه في طهران، فقد دأب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ومعه وزير دفاعه أفيغدور ليبرمان على كيل المديح لنظام بشار الأسد والترحيب بعودة قواته إلى مواقعها السابقة، قبل عام 2011، والإشادة بدورها في ضبط الأوضاع الأمنية فيما يسمى خطوط وقف إطلاق النار، والحرص كل الحرص على اتفاقية عام 1974 التي اعتبرتها إسرائيل ولا تزال تعتبرها اتفاقية حدود أبدية.
وهنا فإن المفترض أنه بات معروفاً أن هذا النظام، حتى في عهد «صاحبه» الأول حافظ الأسد وقبل سيطرته النهائية على الحكم في عام 1970 لا بل وقبل ذلك، كان أحرص من الإسرائيليين أنفسهم على ضبط خطوط وقف إطلاق النار في هضبة الجولان التي غدت محتلة بعد حرب عام 1967 ويومها كان وزيراً للدفاع، وكان في حقيقة الأمر هو الحاكم الفعلي في سوريا لا الدكتور نور الدين الأتاسي الذي كان يعتبر، مراسمياً وشكلياً، رئيساً للجمهورية، ولا اللواء صلاح جديد الذي كان يحتل موقع الأمين القطري المساعد ولا القيادة القطرية لحزب البعث وأيضاً لا القيادة القومية.
لقد كانت كل جبهات المواجهة مع المحتلين الإسرائيليين إنْ برضا الدول المعنية وإنْ بحكم الأمر الواقع كلها مفتوحة أمام الفدائيين الفلسطينيين باستثناء الجبهة السورية، جبهة هضبة الجولان المحتلة، وكانت حجة حافظ الأسد عندما كان وزيراً للدفاع وعندما أصبح رئيساً للجمهورية ورئيساً لكل شيء في «القطر العربي» السوري وأيضاً حجة ابنه بشار هذا الرئيس الحالي عندما حل محله لاحقاً بعد وفاته، أنه لا يجوز توفير أي حجة وأي عذر للإسرائيليين لافتعال حرب مع سوريا هي غير مستعدة لها وقبل أوانها، وهذا ما بقي قائماً ومتواصلاً اللهم باستثناء حرب عام 1973 المعروفة وأيضاً باستثناء ما يسمى حرب «الاستنزاف» التي انتهت باتفاق وقف إطلاق النار على أساس «معاهدة» عام 1974 التي إنْ ليس من المؤكد فمن الواضح، أنها قد تحولت إلى اتفاقية حدود أبدية دولية، وذلك مع أن الأمم المتحدة لا تزال تطلق على الهضبة السورية اسم الهضبة المحتلة.
ولعل ما يجب أخذه بعين الاعتبار ونحن بصدد الحديث عن هذا الموضوع الخطير بالفعل والذي يهم الشعب السوري كله والأمة العربية كلها وكثيرين في العالم بأسره من مسلمين وغير مسلمين، أنه كان واضحاً عندما أسقط بلاغ وزير الدفاع في ذلك الحين، في يونيو (حزيران) عام 1967 هضبة الجولان قبل سقوطها بيومين... والبعض يقول لا بل بثلاثة أيام؛ ذلك البلاغ الذي نسب إلى عبد الحليم خدام وكان يومها محافظاً لمدينة القنيطرة، والذي هناك الآن معلومات تتحدث عن أنه يسعى بعد هجرة كل هذه السنوات الطويلة للتصالح مع نظام بشار الأسد والعودة إلى دمشق وسوريا، وهذا يقال أيضاً عن النجل الأكبر لمصطفى طلاس رجل الأعمال الناجح فراس طلاس الذي يبدو أنه يريد أن يحصل على حصة مجزية في إعادة إعمار «بلده» الذي تسعى للمشاركة في إعماره جهات كثيرة... وكل هذا وكأنه قد جرى تدميره كل هذا الدمار من أجل هذه الغاية غير الشريفة.
في كل الأحوال فإن ما أصبح واضحاً ومؤكداً هو أن اتفاقية عام 1974 هذه المشار إليها قد أصبحت اتفاقية حدود دولية نهائية وبضمانة روسية وعلى أساس أن روسيا الاتحادية غدت دولة منتدبة على هذا البلد العربي وحتى نهاية القرن الحالي، القرن الحادي والعشرين، وهذه مسألة غدت معلنة وغير سرية، وقد اعترف بها بشار الأسد نفسه عندما قال في أحد تصريحاته التي أطلقها مؤخراً، أي قبل أيام قليلة، إنَّ القوات الروسية باقية في سوريا إلى فترة طويلة أي حتى نهايات هذا القرن وربما إلى ما بعد ذلك!!
وهكذا ولأن «السكوت» هو علامة الرضا، كما يقال، فإن هذا الصمت المريب الذي يلوذ به بشار الأسد تجاه كل ما يقوله وما يفعله الإسرائيليون بالنسبة لاعتبار معاهدة عام 1974 التي من المفترض أنها اتفاقية مؤقتة لوقف إطلاق النار وليس اتفاقية حدود دولية سرمدية وأبدية تعني اعتراف الطرف المعني الرئيسي الذي هو النظام السوري بهذا التطور الخطير الحمّال لأوجه كثيرة بضم إسرائيل لهضبة الجولان التي احتلت في عام 1967، والواضح أنَّ روسيا التي غدت «منتدبة» على هذا البلد العربي وبكل معنى الانتداب هي من قامت بترتيب هذه الفعلة، وعلى أساس، ما دام أنها أصبحت دولة شرق أوسطية، أن حليفها الذي يعتمد عليه والذي لا غنى عنه هو إسرائيل التي غدت بعد كل هذا التمزق العربي والرضا الأميركي الرقم الرئيسي في هذه المنطقة الملتهبة التي لا تزال تنتظر مآسي كثيرة.
وعليه فإن السؤال الواجب طرحه ونحن بصدد الحديث عن هذا التطور الخطير الذي ستترتب عليه خرائط سياسية وجغرافية كثيرة هو: لماذا يا ترى انقلب الروس على حلفائهم الإيرانيين بعد حسم مواجهة الجبهة الجنوبية مباشرة وأيضاً بعد حسم موضوع تحول اتفاقية وقف إطلاق النار 1974 التي من المفترض أنها عابرة ومؤقتة إلى اتفاقية حدود دولية نهائية وأبدية لا يمكن إلا اعتبار أنها مكملة لذلك القرار الإسرائيلي المشؤوم بضم إسرائيل للهضبة السورية المحتلة مما يعني أن الإسرائيليين قد أصبحوا يتحكمون بسوريا بأكملها ومعها كل الطرق التي تربط هذا البلد العربي بلبنان وبالأردن وأيضاً بالعراق؟!
لقد انقلب الروس على حلفائهم الإيرانيين لأنهم باتوا يشعرون أن هؤلاء كنظام باتت نهايتهم قريبة ولأنهم بعد تمتين تحالفهم مع إسرائيل ما عادوا بحاجة إلى حليفهم الإيراني، ولأنهم في ضوء هذا كله غدوا مطمئنين للبقاء في سوريا حتى نهاية هذا القرن، ولأن استمرار الأمور على ما كانت عليه بين موسكو وطهران سيجعل الإسرائيليين أكثر حذراً وغير مطمئنين لعلاقاتهم مع الروس الذين بدورهم لا يمكن أن يستمر رهانهم على من أصبح حصاناً خاسراً بينما البديل الآخر الذي هو الدولة الإسرائيلية قد أصبح الرقم الرئيسي في هذه المعادلة الشرق أوسطية المستجدة!!
والآن وبعد ما تمكنت إسرائيل من الحصول على ما بقيت تسعى للحصول عليه قبل احتلال عام 1967 وبعده، فإن الخطوة اللاحقة التي لن تكون بعيدة على أي حال هي البدء باستيراد مهاجرين من اليهود من أربع رياح الأرض لتوطينهم ليس بالألوف وإنما بالملايين في هضبة الجولان هذه التي يبدو أن «تهويدها» هو الدافع الرئيسي لقرار اعتبار الدين اليهودي «قومية» اليهود كلهم من هم داخل إسرائيل ومن هم خارجها، وحيث كان بنيامين نتنياهو قد أطلق تصريحاً قبل أيام قليلة قال فيه إنه بعد هذا القرار بإمكان أي يهودي أن يأتي إلى إسرائيل كإسرائيلي مثله مثل الإسرائيليين الذين جاءوا إليها في عام 1948 وبعد ذلك وبالطبع فإنه يعني هضبة الجولان تحديداً بهذا التصريح التي غدت تعتبر أراضي إسرائيلية بعد هذا الاعتراف الشائن باتفاقية عام 1974 الآنفة الذكر اتفاقية حدود دولية دائمة بين الدولة الصهيونية وسوريا.
ولذلك وفي النهاية فإن الواضح أيضاً هو أن إصرار الإسرائيليين على مغادرة الإيرانيين لسوريا يعني تفادي أي محاولات شغب قد يقومون بها لاحقاً ضد اتفاق عام 1974 الذي أصبحت حدود الجولان بموجبه حدوداً إسرائيلية يعترف بها من قبل الروس قبل نظام بشار الأسد، وأيضاً.. أيضاً ربما يأتي ذلك انسجاماً مع هذا الاستهداف الأميركي لإيران وعلى أساس الاعتقاد الذي يلامس اليقين بأن مغادرة إيران لهذا البلد العربي ستعني وتلقائياً مغادرتهم للعراق ولبنان واليمن وهذه المنطقة كلها والانكماش داخل حدودها «القديمة» التي أصبحت سياجاً لكل هذه الاضطرابات الهائلة التي باتت تضرب هذا البلد بكل مدنه وكل قراه وكل مناطق أعرافه ومذاهبه الكثيرة والمتعددة.
كثير من الغموض يخيّم على مصير مناطق كثيرة في الشمال السوري الممتد على أربع محافظات، إدلب وحلب وحماة واللاذقية، لا سيما بعد سيناريو درعا وتخلي واشنطن العلني عن دعم المعارضة في الجنوب السوري، بعد أن كانت طرفاً ضامناً في اتفاق التهدئة هناك، إلا أن مستقبل إدلب بات يتصدر معظم التصريحات السياسية والإعلامية، بالإضافة إلى تحذيراتٍ من مختلف الأطراف بشأن الكارثة الإنسانية التي تتربص بالمدينة، في حال شن أي هجوم عسكري عليها.
يعيش في إدلب اليوم قرابة أربعة ملايين نسمة، ونصفهم ممن هجروا إليها من مدن ومحافظات سورية أخرى، الأمر الذي يجعل أي عملية عسكرية على المدينة كارثية من الناحية الإنسانية، كما أنها ستضع علاقات وتفاهمات أنقرة - موسكو على المحكّ، وتدفع محادثات أستانة الخماسية نحو المجهول.
ولعل أبرز تعقيدات شن عملية عسكرية واسعة على إدلب تكمن في المساحة الشاسعة للمحافظة، وامتلاك المعارضة هناك مقاتلين كثيرين، وكميات ضخمة من السلاح الثقيل، وتعزّزت قوتها أكثر، بعد نزوح آلاف المقاتلين إليها من مناطق كانت تحت سيطرة المعارضة سابقاً، وهو الشيء الذي يجعل أي هجوم عسكري عليها باهظ الثمن للطرف المهاجم.
لا يمكن تجاهل حقيقة أن أكثر من سيناريو ينتظر إدلب والمعارضة التي حشرت فيها، من بينها السيناريو العسكري، وقد يساهم تعقيد حالة إدلب، في دفع الأطراف الأخرى إلى تجزئة الملف وقضم المناطق المحيطة بشكل تدريجي، بعضها عسكري، وبعضها الآخر عبر تسوياتٍ، وربما تبادل في المناطق. وبكلام آخر، سيكون هناك سيناريو مزيج للمحافظة (غير مستبعد أن يتضمن أيضاً صفقات) بين القوى صاحبة النفوذ الحقيقي، في إطار نظرة أوسع للمرحلة التالية من الصراع في سورية وعليها، وذلك كله في حال لم تتمكن تركيا، في فترة زمنية باتت قصيرة، من التعامل، بشكل ناعم وسريع، مع المنظمات الموجودة هناك، والمصنفة على قوائم الإرهاب.
الواضح أن أنقرة استشعرت الخطر الذي يحيق بإدلب، وبعض مناطق الشمال، واتصال الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، قبل أيام، بنظيره الروسي، فلاديمير بوتين، وإشارته إلى أن تقدُّم قوات النظام السوري نحو الشمال، بشكل مماثل لما حصل في الجنوب، يعني تدمير جوهر اتفاق أستانة، لم يكن سوى خطوة استباقية، في ظل التركيز الإعلامي الكبير على مصير الشمال السوري، وفي ضوء التقارير التي تعلن محافظة إدلب وجهة عسكرية مقبلة .
لا يرضي الوضع في إدلب اليوم وانتشار المنظمات المصنفة على قوائم الإرهاب تركيا، لكن ما تخشاه هو وقوع كارثة إنسانية هناك، بذريعة وجود تلك المنظمات، خصوصا بعد حشر كل أصناف المعارضة فيها، بالإضافة إلى كل الرافضين أي تسوياتٍ وتهجيرهم إلى إدلب من باقي المناطق والمدن السورية. وبالتأكيد العواصم الأوروبية الفاعلة أقرب إلى تسوية بإشراف تركي، حتى لا تشهد المنطقة موجة نزوحٍ جديدة، على غرار ما حصل في العام 2015، إلا أن هناك صعوبة كبيرة أمام المهمة التركية، وخصوصا في ما يتعلق بمصير عناصر هيئة تحرير الشام الأجانب.
ولا يخفى أن المعارضة السورية لم تعد تتحكم باتجاه الأوضاع داخل سورية، منذ ظهور التنظيمات الإرهابية، المتطرّفة منها والانفصالية، وسيطرتها على مناطق واسعة في الجغرافيا السورية، وهو ما جعل الأولويات تتغيّر لدى القوى العظمى والإقليمية في تعاملها مع الحالة السورية.
ويكتنف الغموض مصير إدلب تحديدا، لا سيما بعد جمع مجموعات وفصائل عسكرية كثيرة، مختلفة المشارب والتوجهات فيها، بالإضافة إلى وجود المنظمات المصنّفة على قوائم الإرهاب. وسبب الغموض عدة أمور، أبرزها أن تلك الفصائل التي فشلت بالتعامل في إدارة مناطقها، وفهم توجهات القوى الدولية والإقليمية الفاعلة على الأرض السورية، وتمسّكت بتفرقها، فحالها بالتأكيد لن يكون أفضل في إدلب، وستقبل هناك بالشروط التي كانت مرفوضة بالنسبة لها في مناطقها، والهدوء النسبي الذي تعيشه المدينة اليوم مرحلي.
لم يعد سرّا أن إعلان إدلب منطقة وقف إطلاق نار شامل مرتبط بإعلانها خالية من أي وجودٍ لقوى مصنّفة إرهابية، فكل طرف دولي سيجعل من المنظمات المصنفة إرهابية في إدلب هدفا له، ويؤكد المشهد اليوم على أرض إدلب أن الوقت مبكر على إعلانها منطقة آمنة، لا سيما أن تركيا لم تظهر أي توجهات سياسية أو عسكرية جديدة للتعامل مع الوضع في إدلب، حيث فوضى السلاح.
ويعزّز الاعتقاد بأن إدلب باتت في مرمى النيران ما تم تنفيذه سابقاً بدعم روسيا من شن عمليات عسكرية انتهت بالسيطرة على حلب، مرورا بالغوطة الشرقية، وصولا إلى الجنوب السوري، بعد أن عقدت تفاهمات مع الولايات المتحدة والأردن وإسرائيل انتهت بوصول قوات النظام إلى الحدود الجنوبية لسورية، للمرة الأولى منذ ستة أعوام.
يبقى القول إنه لا يمكن تجاهل السلاسة والسرعة التي تم فيها تنفيذ أو استكمال تنفيذ اتفاق سابق لإفراغ بلدتي كفريا الفوعة، وتوقيت هذه العملية الذي يتزامن مع رسم مرحلة جديدة من عمر الصراع في سورية وعليها، وملامحها الواضحة "ظاهريا" بانتصار فريق روسيا وإيران والنظام، ما يجعل غضّ الطرف الروسي عن استكمال عملية الإخلاء يثير تساؤلاتٍ كثيرة بشأن ما ينتظر الشمال السوري خصوصا، وخريطة سورية بشكل عام، ويجعل كل الخيارات المتناقضة مطروحة في الوقت نفسه، من سيناريو عسكري شامل إلى صفقة كاملة المعالم.
في الفترة المقبلة، والمقبلة سريعاً، سوف نقرأ أو نسمع تنويعات كثيرة على هذه العبارة:
«ألقى فضيلة الشيخ الدكتور محمّد عبدالستّار السيّد، وزير الأوقاف، مساء أمس، محاضرة كبيرة في حشد من السادة العلماء بعنوان: ضوابط وقواعد تفسير القرآن الكريم تفسيراً معاصراً (التفسير الجامع نموذجاً) وفق المرتكزات الفكريّة للسيّد الرئيس بشّار الأسد في الإصلاح الدينيّ. وتأتي هذه المحاضرة ضمن فاعليّات الدورة السادسة والعشرين لجائزة الشيخ أحمد كفتارو لحفظ القرآن الكريم وتحفيظه».
استدعاء «المرتكزات الفكريّة» للسيّد الرئيس لا يُغني عن استدعاء «المرتكزات المبدئيّة» لوالده، السيّد الرئيس أيضاً. لهذا الغرض، مثلاً، بدأتْ قناة «الميادين» تعرض مسلسلاً سمته «الرجل الذي لم يوقّع» (قاصدةً التوقيع على سلام مع إسرائيل)، حيث تُرك تاريخ سوريّة والمنطقة في عهدة السيّدة بثينة شعبان.
بطبيعة الحال هناك تفاصيل كثيرة لا تحتمل هذه العجالة أكثر من إشارة عابرة إليها، كأنْ يكون النظام السوريّ اليوم مهتمّاً بمخاطبة الحساسيّات السنّيّة، الدينيّة والقوميّة، بالطريقة التي يظنّها مفيدة، وأن يكون الشيخ كفتارو هو من نُصّب مفتياً عامّاً ورئيساً لمجلس الإفتاء عام 1964، بُعيد وصول حزب البعث إلى السلطة، إثر إسقاط الشيخ حسن الحبنّكة المنافس على المنصب. وعام 1964، للتذكير، كانت تستدعي غطاء دينيّاً قويّاً لأفعال كاقتحام حماة الأوّل وهدم جامع السلطان فيها. أمّا عدم التوقيع، الميدانيّ – الشعبانيّ، فأعطى «العدوّ الإسرائيليّ» ما لم يُعطه أيّ توقيع: الجولان كانت أهدأ الجبهات ما بين 1974 و2011. الهدوء هذا استدعى تأجيج الحروب الأهليّة في عموم المشرق العربيّ، وأمّن للأسد سلطة تحترف قهر مجتمعها وإخضاعه.
الشيء المهمّ هنا، وهو الجديد نسبيّاً، هو تجديد ذاك الميل (الذي قطعته سنوات الثورة ثمّ الحرب الأهليّة) المعهود: إسباغ الإعجاز على السلالة الأسديّة، وبالتالي تمليكها «مرتكزات» فكريّة أو سياسيّة لا يحلم الآخرون، كلّ الآخرين، بامتلاكها.
لكنْ لنلاحظ أنّ الإعجاز الأسديّ مرّ بطورين وانطوى على معنيين:
مع حافظ خصوصاً، وقبل الثورة عموماً، كان واحداً من التعابير المضخّمة لعبادة الشخصيّة التي تستعرضها، بقدر ما تستدعيها، سلطة بالغة العتوّ والفيضان. هذا سبق أن رأيناه في الصفات الخارقة التي نُسبت لستالين وماو تسي تونغ وكيم إيل سونغ وصدّام حسين، وهم يتربّعون في ذروة البأس والتمكّن.
مع بشّار خصوصاً، وبعد الثورة عموماً، بات الإعجاز تمكيناً يعوّض نقص التمكّن: صحيح أنّ بشّار انتصر، إلا أنّه لم ينتصر بقوّته الذاتيّة. لقد تدخّلت قوى هائلة، إقليميّة ودوليّة، لجعله ينتصر. إذاً الإعجاز مطلوب بوصفه الأداة التي تجعل الخيال، لا الواقع، مسرح الفعل. إنّه إعلان عجز لا إعلان قدرة.وفي أنظمة كهذه تقوم على الهيبة المفروضة بالقوّة، سيكون صعباً التعامل بجدّ مع تلك الهيبة بعد كلّ الوحل الذي لُطّخت به أسماءً وصوراً وتماثيل. هكذا تتعاظم الحاجة إلى الإعجاز الذي سيغدو، مع مرور الزمن، أكثر فأكثر غرائبيّة وأقلّ فأقلّ قابليّة للتصديق!
لقد كان إعجاز حافظ في حياته، وفي عداده «انتصاراته» في تشرين وفي عدم التوقيع، سبباً للغضب الممزوج بالخوف. إعجاز بشّار، ومعه إعجاز حافظ في الزمن البشّاري، هو سبب لقهقهة طويلة لا يمنعها ألم السوريّين العميق.
لم يعد الحوار الأميركي ـ الإيراني محظوراً. في الواقع، لم يكن كذلك إطلاقاً. تحالف الثمانينيات أو "إيران كونترا" بين إيران والولايات المتحدة ضد العراق مؤرّخ تاريخياً، وتصادمهما في أحيان كثيرة لم يؤدِّ لا إلى إسقاط النظام الإيراني، ولا إلى إطاحة "الاستكبار الأميركي". لكن الأميركيين دائماً ما كانوا متقدّمين بخطوة على الإيرانيين، وحالياً باتوا يتقدّمون بخطوات في سياق العقوبات الأميركية المفروضة على إيران. لم تعد إيران في موقع قوي، وحتى أنها باتت أضعف من ذي قبل. في سورية، تراجعت إلى مسافة 85 كيلومتراً عن الحدود السورية مع فلسطين المحتلة. في اليمن، تصارع للحفاظ، عبر حلفائها الحوثيين، على منطقة الحديدة. في العراق، لم تفز بما كانت تظن أنها ستفوز به في الانتخابات العراقية، كما أن تظاهرات الجنوب أثّرت سلباً عليها.
قبلت إيران الحوار مع الأميركيين، فموقف المساعد الأول للشؤون الدولية لرئيس البرلمان الإيراني، حسين أمير عبد اللهيان، واضحٌ في هذا الصدد، إذ ذكر في تغريدة على "تويتر" أن "التفاوض مع الولايات المتحدة لم يكن محرّماً أو محظوراً أبداً"، معتبراً أن "المشكلة ليست بالحوار، وإنما بالسلوك العدائي، وبانتهاك التعهدات، وبالجرائم المرتكبة". كما أن المتحدث باسم لجنة الأمن القومي والسياسات الخارجية في البرلمان، علي نجفي خوشرودي، اعتبر أنه "إذا كانت المفاوضات ضمن إطار يحفظ العزّة والمصلحة والحكمة، التي يؤكد عليها المرشد الأعلى (علي خامنئي)، وإذا ما قدّمت واشنطن اعتذاراً، ووضعت سياساتها العدائية جانباً، وعادت إلى الاتفاق النووي، والتزمت ببنوده، فمن الممكن القبول بالحوار".
تريد إيران الحوار، حتى أنها مرّرت رسالة سورية في هذا السياق، فقد أكد المتحدث باسم الخارجية الإيرانية، بهرام قاسمي، يوم السبت، أنّ "وجود المستشارين الإيرانيين في سورية يأتي بناءً على طلب من حكومة دمشق، وسيبقون هناك ما دامت هذه الحكومة تريد ذلك"، قائلاً إنه "حين تشعر طهران بأن الوضع في سورية وصل إلى استقرار نسبي، وأن الحرب على الإرهاب انتهت، وأن الإنجازات تحققت، فمن الممكن حينها تقليص الوجود في سورية، أو الخروج منها". وجاءت هذه التصريحات خلال لقاء خاص أجراه قاسمي مع موقع "بانا" الإيراني. وأضاف "أن تدخل إيران في سورية لم يأت بناءً على طلب دولةٍ أخرى، فلن نتركها وفقاً لمطلب دولة ثانية"، في إشارة منه إلى التطوّرات الأخيرة المتعلقة بالحديث الروسي الإسرائيلي عن الوجود الإيراني في الجنوب السوري.
وبالإضافة إلى قرار الحوثيين وقف العمليات العسكرية في منطقة الحديدة أخيراً، فإن الإيرانيين أرادوا إظهار قبولهم بالحوار مع الأميركيين، على وقع تظاهراتٍ اجتماعيةٍ في طهران، ومشهد وأصفهان، في ظلّ التدهور الاقتصادي غير المسبوق، والتراجع المقلق للعملة المحلية، مع بدء حزمة العقوبات الأميركية الجديدة اليوم الاثنين. تخشى إيران من أن التأخر في الحوار سيجعلها في موقعٍ أضعف تجاه الأميركيين، والتعويل على أوروبا والصين وروسيا لإنجاد اقتصادهم، والوقوف بوجه الأميركي أمر غير مطروح. الجميع تقريباً، لا يريد إيران قوية. يريدها دولة أخرى وغير قطبية، على الرغم من موقعها الجيوبوليتيكي على طريق الحرير. لا أحد يرغب في رؤية مجموعة من الجنود المؤمنين بشعار "الموت لأميركا" يحكمون ضمن عالم متعدّد الأقطاب. كانت كوريا الشمالية عقبة وانتهى الأمر. ولن يختلف مصير إيران عن مصير كوريا الشمالية.
أمام إيران عملياً ثلاثة أشهر لبدء الحوار مع الأميركي، قبل فرض العقوبات الجديدة في نوفمبر/ تشرين الثاني، والمرتبطة بالنفط، وهو ما سيؤلم الاقتصاد الإيراني كثيراً. لا يريد الأميركيون إسقاط النظام. هم واضحون في هذا الصدد. لا أحد يرغب في رؤية جحافل من اللاجئين الإيرانيين إلى تركيا وأوروبا، لكن الأميركي لن يرغب بأقلّ من أن تكون إيران جزءاً من حيّزه الجغرافي الواسع، وتطلع إلى وسط آسيا، لا عدواً له.
لم يخطر في بالي سوى بيت شعر بول سيلان هذا، عندما قرأت أخبار توزيع النظام السوري، بكل برود واستهتار ويقين عميق بالإفلات من العقاب، أسماء مئات، إن لم يكن آلاف الشبان الذين قضوا في سجونه على مدار سني الثورة: الموت سيد من ألمانيا عينُه زرقاء.
حضور الشعريِّ في حالةٍ كثيفة الألم كهذه حتمي على ما يبدو. فماذا يمكن أن يقال حيال هذه الميتات المجهولة، حيال كل هذه الأسماء التي كانت لها وجوه وسير حياة يومية معلومة، وصارت أرقاماً أو تبليغات رسمية؟
يتحدّثون عن آلاف الأسماء التي انقطع خبرها وصارت أثراً بعد عين! يتحدّثون عن مجزرة عملت في صمت مطبق، وراء القضبان، وجدران الإسمنت، وفي الأقبية العميقة، سنين عديدة.
كيف يمكن لخبرٍ كهذا أن يثير ما يظنّ النشطاء السوريون أن يثيره في فضاء العالم المشبع بالنفاق، المستسلم، بلا أدنى مقاومة، لإرادة "الأيدي الإلهية" التي ترتفع، كقضاءٍ لا رادَّ له، تحت قبة مجلس الأمن الدولي، لتحمي الجريمة باعتبارها حقاً سيادياً؟ ما لا نلاحظه، أو نفعل ونعجز عن حرف مساره، أن كثرة الموت تزري بالموت، وتجعله أقل، وأن التكرار لا يعني مزيداً من تركيز الحقائق. كلا. الأمر مقلوب. وهذا ما يعرفه المجرمون، فالمثل السائر يقول إن سرقتَ فاسرق جملاً. إن قتلت فكثِّر، لأن فعلتك، يستحيل، حينها، تعدادُها وحصرها، فالدم يتوزّع في جهاتٍ ومسارب، ولا يعود له مُطالب. من يطالب بدم مجزرة؟ من في وسعه تبيَن وجوه الراقدين في قبور جماعية، وردَّ حقوقهم الفردية؟
لكي يكون الموت موتاً، وقابلاً لرد فعل إنساني وقانوني، عليه أن يكون فردياً، ومتعيّناً. وهذا يعني تحويل أسماء القتلى إلى وجوه وقصص ملموسة. غير ذلك ليس للموت كلفة، وهذا ما يعرفه نظام عائلة الأسد، ومارسه ونجح فيه، وأفلت كل مرةٍ من دفع الثمن. يعرف هذا النظام أنه لكي لا يكون لفعلته حساب عليه أن يدفعها خارج المتوقع والمتعارف عليه، حتى لتصبح عمل كائنات قادمةٍ من الفضاء الخارجي، لا يمكن التكهن بأفعالها، لأن لا مرجع لها، في تجاربنا وأذهاننا، ولا قياس.
التقط بعض النشطاء السوريين بعداً غير معهودٍ في سياسة السجن والإخفاء والتعذيب وهدر الكرامة البشرية التي سنَّها نظام عائلة الأسد دستوراً مُعلناً له، فإذا كانت صور العقاب وأشكاله التي تطاول المعترضين على النظام (أيِّ نظام في العالم حتى عند وحشيات القرن العشرين الثلاث: النازية والفاشية والستالينية) تبقى، غالباً، في حيز وسائل الإخضاع والسيطرة. بيد أن نظام عائلة الأسد أحدث تحوّلاً فريداً على هذه "السياسة" لفهم ما لا يُفهم. فكيف يمكن فهم إرساله برقيات، رسائل، أو نصوص هاتفية لآلاف العائلات، تفيدها بموت أبنائها وأقاربها المباشرين في السجون: سكتات قلبية؟ لكن ليس تحت التعذيب؟!
لقد بيّنت الحرب في سورية أن نظام عائلة الأسد ليس سوى جهاز أمني كبير بمئة جسد ووجه. كادت الحرب تقتلع النظام من جذوره، وخرجت معظم مناطق سورية من سيطرته، وكادت البلاد تتفكّك أجزاء، لكنَّ شيئاً واحداً ظل يعمل في كفاءةٍ طول الوقت: جهازه الأمني. هذا هو سرّ النظام السوري (الأسدي بالأحرى) ولا شيء غيره. ولا ضرورة للتذكير أن "حلفاءه" الذين مكَّنوه من "البقاء" حتى الآن لم يرهق كاهلهم على هذا الصعيد، فهنا اختصاصه، وبهذا هو قادرٌ على تقديم خدمةٍ حتى لرجل "كي جي بي" في موسكو. عندما تنكشف "الدولة" عن لا شيء سوى جهاز أمني، فهذا يعني أننا كنّا دائماً حيال عصابة وفرق موت صنعت "دولة" من عظام معارضيها. يعود صوت بول سيلان الفردي، ما بعد المحرقة، ليطلّ على دخان المحرقة السورية، ويتقمّصني: الموت سيدٌ من دمشق، مُكمَّمٌ بقناع غاز، على صدره تشعُّ محاجر القتلى بأضواء الفسفور.
بدعوةٍ من النظام السوري في دمشق، عُقد أخيرًا اجتماع بين وفدٍ من "مجلس سوريا الديموقراطية" (الكردي) والحكومة السورية، كان هدفه، كما قالت المصادر الكردية، وضع الأُسس التي تمهد لحواراتٍ أوسع وأشمل، ولحل كل المشكلات العالقة، و"تسهيل دخول الجيش السوري إلى المناطق ذات الغالبية الكردية، وإعادة مؤسسات الدولة إليها في مقابل اعتراف الدستور المقبل بالمكون الكردي.. ومنحه حقوقه الثقافية"، كما قالت أجواء دمشق.
في المحصلة، ها هو "مجلس سوريا الديمقراطية" الذي هو امتداد لـ"قوات سوريا الديموقراطية" (قسد) وحزب الاتحاد الديموقراطي، وكلها تنظيمات تنسق مع حزب العمال الكردستاني، الإرهابي كما تراه أنقرة، والذي استبعد عن أكثر من طاولة حوار ومؤتمر إقليمي ودولي، بطلب من تركيا، يجلس اليوم مع النظام، فكيف ستتصرف أنقرة، وما هي حصتها في كل هذه التطورات؟
مطالب النظام السوري واقتراحاته التي قدمها قبل أسبوع إلى الوفد الكردي الذي يمثل "قوات سورية الديمقراطية" المفاوض في دمشق تكاد تلتقي كلها عند حقيقة إمساكه بخيوط الملف السوري في الداخل والخارج، شاء بعضُهم أم رفض. تسليم شرق سورية وشمال شرقها إلى النظام، ورفع العلم السوري ليكون الرمز الوحيد، وإلغاء الاتفاقيات والتفاهمات الموجودة بين الأكراد والقوى الغربية بشكل تدريجي، وتخلي "حزب الاتحاد الديموقراطي" عن فكرة الجيش الحدودي ومشروع الفيدرالية في مقابل نقاش مسالة اللامركزية الإدارية في سورية، مبادئ وأسس قد يقبل بها أي سوري يبحث عن إخراج بلاده من المستنقع.
الرئيس المشارك الأسبق لحزب الاتحاد الوطني (الكردي) السوري، صالح مسلم، يقول إن قرار التوجه إلى دمشق خيار ذاتي، لا دخل لأحد فيه، لكن الجميع يعرف أن المفاوض الكردي هناك كان يستقوي بموسكو وطهران، ويستفيد من تراجع نفوذ تأثير العواصم الإقليمية والغربية، وتفكّك قوى المعارضة السورية وتشتتها، وانشغال أنقرة بملفي إدلب ومنبج وبأزمة التوتر التركي الأميركي أخيرا. لا بل هو كان يفاوض النظام نيابةً عن واشنطن، وفي إطار تفاهمات روسية أميركية تمت في قمة هلسنكي.
ما جمع النظام والسوريين الأكراد حول طاولة واحدة هو إبلاغ موسكو أنقرة أنها لن تطلق يدها في إدلب وتل رفعت من دون مقابل، وأن الثمن على الأقل سيكون مساعدتها في الوصول إلى ما تريده، لناحية عدم عرقلة مشروعها في المفاوضات المباشرة السورية - السورية، وحماية دور النظام في المرحلة الانتقالية السياسية والدستورية، ثم قبول الصيغة التي ستقترحها موسكو حول إشراك "قوات سورية الديمقراطية" في صناعة المشهد السياسي الجديد، ما دامت تصرّ على موقع هذه القوات ودورها في تحرير سورية من جماعات "داعش" الإرهابية، لكن ما ساهم في صناعة المشهد أيضا في دمشق هو الولايات المتحدة الأميركية التي قبلت الاكتفاء بشرط حماية مصالح الحليف المحلي الكردي في سورية، ومحاصرة النفوذ التركي والإيراني، في مقابل تعهدات قدمها بوتين لترامب في هلسنكي، قادت إلى ترك روسيا تتحرّك كما تشاء في الجغرافيا السورية؟
نجحت موسكو أيضا في إقناع الأتراك بقبول ما تقوله هي إنّ المرحلة الانتقالية لا بد أن تأخذ في الاعتبار وجود الأسد أمام الطاولة، من دون أية تحديدات زمنية، وأن ترى قوات سورية الديمقراطية أمام هذه الطاولة لاحقا جنبا إلى جنب، مع بقية فصائل المعارضة السورية، وكان الثمن، كما يبدو، تعهدا روسيا لتركيا بعدم قيام الدولة الكردية المستقلة على حدودها الجنوبية، في مقابل عدم عرقلة (أو رفض) أنقرة للحوار بين النظام والمجموعات الكردية.
هل يعتبر الموقف الإسرائيلي أخيرا، ضرورة الحوار مع النظام في جنوب سورية والمناطق الحدودية، وكذا تصريح الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، عن استعداده للاجتماع مع نظيره الإيراني، حسن روحاني، من دون شروط مسبقة، لبحث سبل تحسين العلاقات، رسائل موجهة إلى أنقرة، قبل أن تكون موجهة إلى النظام أو إلى طهران نفسها حول انطلاق المرحلة الجديدة في ملف الأزمة السورية التي تأخذ المتغيرات السياسية والميدانية بالاعتبار؟
قد تتمسّك أنقرة في رفض التطبيع السياسي مع دمشق، لكنها قد تبدي ليونةً أكبر في قبول فتح خطوط الاتصال بين النظام والقوى الكردية، وربما لاحقا بين دمشق وقوى معتدلة في المعارضة السورية المقرّبة منها، إذا ما شعرت أن ما تريده في الملف السوري قد ينجح عبر هذا السيناريو.
وقد قال الرئيس المشارك لحركة المجتمع الديموقراطي، آلدار خليل، قبل أيام، "لا نرى أننا بعيدون عن أن نكون طرفاً أكثر تأثيراً في إدلب، من خلال دعمنا اجتثاث الإرهاب هناك، والمساهمة في الحد من الدور التركي، وإفشال مخططات أردوغان في إطالة أمد الحرب، وتحقيق أهدافه في عفرين". في المقابل، هناك ما ردّدته القيادات السياسية التركية مراتٍ حول أن أنقرة تريد تشكيل مناطق آمنة للسوريين، من أجل عودة مزيد من اللاجئين إلى بلادهم، عند الانتهاء من تطهير عفرين، والانتقال إلى المراحل الأخرى لخريطة طريق منبج، لكن أردوغان نفسه قال إن التطورات في سورية، سواء في منطقة تل رفعت أو منبج، "لا تسير حاليّا في الاتجاه المطلوب"، فهل هذا ما يدفع المجموعات الكردية للإعلان أنها جاهزة لتسليم المدن الواقعة تحت سيطرتها إلى دمشق، لسحب مبرّرات التدخل التركي في شمال سورية؟ المستفيد من ذلك كله سيكون مرة أخرى النظام في دمشق، وهو ما يعرفه أكثر من طرف، تتقدّمهم أنقرة.
وقد أعلنت تركيا أن أية عملية عسكرية ينفذها النظام في إدلب ستفسّرها أنها تتم بقرار روسي إيراني، لتهديد الاتفاقيات والتفاهمات المعلنة تحت سقف تفاهمات أستانة، لكن "قوات سورية الديمقراطية" أعلنت استعدادها للتوقف عن المطالبة بالنظام الفيدرالي، والعودة إلى التركيز على النظام اللامركزي، وإشعال الضوء الأخضر أمام عملية عسكرية مشتركة، تجمع قوات النظام والوحدات الكردية في إدلب ضد مجموعات جبهة النصرة هناك. ألن يفسّر تركيّاً على أنه محاولة محاصرة للنفوذ والدور التركيين، يقف من خلفها أكثر من لاعب محلي وإقليمي؟
هل ما نشر في الإعلام التركي، قبل أيام، عن وجود مفاوضات تركية روسية بشأن تسليم مدينة حلب للأتراك، لتولي ملف إعادة إعمارها وتسهيل عودة مئات آلاف اللاجئين السوريين إلى أراضيهم، ثم ربطه بمشروع تقسيم البلاد إلى ثلاث مناطق نفوذ، هو عملية رد تحيّة تركية على التقارب الأميركي الروسي والكردي السوري مع النظام، والغزل المتزايد بين تل أبيب وأطراف عديدة.
التقارب بين النظام وقيادات "حزب الاتحاد الديمقراطي" الكردي يعني أن أميركا تريد في منبج كسب عامل الوقت في مفاوضاتها مع أنقرة لمعرفة مسار الأمور في المباحثات بين دمشق و"قوات سورية الديمقراطية"، ولتحدّد، على ضوء ذلك، موقفها في شرق الفرات، وشكل خريطة التفاهمات مع تركيا، لكنه يعني أيضا أن أنقرة ستعيد ترتيب أولوياتها هي الأخرى في مسائل موقفها من دمشق.
بقي أنه إذا ما شعرت واشنطن أن أنقرة تتصلب في مطالبها ومواقفها السورية، وأنها تريد أن تلعب الورقة الإيرانية ضدها، فهي ستذهب مباشرة إلى طهران للحوار معها، بدل منح تركيا مثل هذه الفرصة والورقة. هل ما أعلنه ترامب أخيرا عن استعداد بلاده للحوار المباشر مع طهران، وإطلاق عملية التصعيد مع أنقرة، مقدّمة لهذا التحول في الموقف الأميركي؟ وتدرك أنقرة التي أفشلت خطة حرس الحدود الأميركية في شمال سورية، وحاصرت واشنطن في منبج، وتقدمت ميدانيا في إدلب، يراد لها أن تدفع، عاجلا أم آجلا، ثمن ذلك. والتقارب بين النظام و"قوات سوريا الديمقراطية" الذي شجعت الإدارة الأميركية عليه، ودخلت في عملية تفاهمات بشأنه مع موسكو، من دون أي تردد، هو جزء من الثمن الهادف إلى إضعاف تركيا وعزلها أكثر فأكثر في سورية.
ثمة تصاعد واضح في الحديث عن عودة اللاجئين السوريين إلى سوريا، ولعل الأبرز في هذا الجانب إطلاق موسكو الخطة الروسية لإعادة اللاجئين، والتي تزامنت مع أحاديث أردنية ولبنانية وتركية، صدرت عن رسميين وكتاب ومتابعين للقضية السورية، توافقوا على قول، إن قضية اللاجئين في البلدان الثلاثة، ينبغي أن توضع في مسار الحل. بل إن البلدان الثلاثة وأطرافاً أخرى، وضعت خططاً وتصورات للمضي في هذا الطريق بما يتناسب مع موقعها في الصراع السوري، وظروفها الداخلية / الخارجية، ورؤيتها لحل قضية اللاجئين السوريين فيها.
ولعل الأهم من الأقوال والتصريحات، ملاحظة أن عمليات إعادة مجموعات من اللاجئين، بدأت بشكل محدود، كما هو الحال في لبنان الذي سلم الملف لحزب الله، وأخرى، يمكن أن تبدأ على نطاق واسع من جانب تركيا، فيما يستعد الأردن لبدء عملية واسعة لإعادة المقيمين على أراضيه بعد استكماله حيثيات تتصل بعودة اللاجئين.
ويشكل اللاجئون في البلدان الثلاثة، القسم الأكبر من اللاجئين السوريين. ففي تركيا قارب عدد اللاجئين الأربعة ملايين، وفي الأردن ولبنان، يقترب العدد في كل منهما من مليون، ليصل المجموع في الثلاثة قرابة ستة ملايين نسمة، يشكلون غالبية اللاجئين السوريين في العالم، مما يعني أن مصيرهم سيحدد المسار العام في القضية.
وإذا كانت عودة اللاجئين، تشكل طموحاً وهدفاً لغالبية السوريين، وهي حق إنساني لا ينبغي التساهل فيه، فهي من جهة أخرى، تمثل مخرجاً من الظروف غير الإنسانية والمعاشية الصعبة، التي يعيشها أغلب اللاجئين، وخصوصاً في لبنان والأردن.
وتمثل القضية بالنسبة للبلدان الثلاثة، عملية مرتبطة بأوضاعها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ومتصلة بأهدافها ومصالحها، وفي البلدان الثلاثة، يشكل اللاجئون نسبة ملموسة من السكان (لبنان نحو 1 من 7، والأردن نحو 1 من 10، وتركيا نحو 4 من 100)، ويعاني لبنان والأردن من تداعيات سياسية واقتصادية واجتماعية وأمنية، يفرضها وجود اللاجئين، فيما تبدو تداعيات القضية في تركيا مختلفة، الأبرز فيها تداعيات سياسية، تتعلق بالصراع السياسي والثقافي حول القضية السورية في الداخل التركي، مما يجعل عودتهم إلى بلدهم أمراً مطروحاً، وإن بدرجات متفاوتة، لكن المتفق عليه في موقف البلدان الثلاثة رغبتهم في إنهاء الملف بصورة ما.
أما عودة اللاجئين بالنسبة لنظام الأسد، فإنها متصلة بإعادة هندسة الخريطة الديموغرافية من الناحيتين الأمنية والسياسية. فالنظام الذي طرد ملايين السوريين أو دفعهم للخروج من بلدهم تحت القتل والاعتقال، لا يمكن أن يكون حريصاً على عودتهم إلا بإخضاعهم وفق شروط وأبرزها العودة إلى حظيرة النظام، والقبول بفكرة استمراره والموافقة على سياساته، كما تبدت في السنوات الماضية خاصة في ظل غياب أي موقف دولي، يجبره على إعادتهم دون شروط.
وكما هو واضح، فإن القضية محاطة بتناقضات واختلافات، مما يجعلها خارج الملفات الساخنة في القضية السورية، دون أن يعني ذلك تجاوزها، وهذا سيعطي للنظام فرصة أكبر لتكريس فهمه وخطته في إعادة اللاجئين، أو القسم المحتمل عودته منهم، لا سيما في ظل هامشية موقف الأمم المتحدة ومنظماتها المتخصصة، وضعف أو عدم مبالاة مواقف الدول الغربية بالموضوع.
وبخلاف الإطار السياسي الذي يفرضه النظام للتعامل مع عودة اللاجئين إلى سوريا، فإن الواقع الميداني / العملي، يضيف صعوبات أخرى لعودة اللاجئين. حيث أغلب المناطق التي ستتم العودة إليها مناطق مدمرة كلياً أو بشكل كبير، مما يعني عدم جاهزيتها لاستقبال العائدين لا في الإسكان ولا في البنى التحتية، كما أن معظم المناطق تسيطر عليها قوات معادية للاجئين ومعبأة ضدهم من القوات الإيرانية والميليشيات الطائفية بالإضافة إلى الشبيحة، مما سيعرض العائدين للقتل والاعتقال وللاضطهاد والابتزاز في الحد الأدنى.
إن عودة اللاجئين إلى سوريا، ليست قضية إنسانية وحقوقية فقط، بل هي قضية سياسية أيضاً مرتبطة بطبيعة الحل الذي ستؤول إليه القضية السورية، وخصوصاً فيما يتعلق بطبيعة النظام القائم وسياساته، الذي لا ينظر إلى العائدين بوصفهم أعداء أو خصوماً، وإنما مواطنون يعودون إلى بلدهم وبيوتهم وأرضهم، ويستحقون كل المساعدة والدعم، وكل كلام خارج هذا الإطار أو إجراءات، لن يؤدي إلى حل للقضية، بل سيجعلها أصعب ويزيد تعقيداتها على نحو ما تتضمنه الخطة الروسية ذات الطبيعة الدعاوية والانتقائية، أو تكليف حزب الله اللبناني بملف العائدين السوريين من لبنان بما يتناسب وموقفه منهم، وفي الحالتين، فإن الخطة الروسية، وما يقوم به حزب الله، يصبان في خدمة سياسة نظام الأسد وسياسة إعادة رسم الديموغرافية السورية من الناحيتين الأمنية والسياسية وفق مصالحه وسياساته.
يبحث الروس عن دعم مالي غربي وخليجي لإعادة الإعمار في سورية. ويقفزون ببحثهم عن الاشتراطات التي وضعها الغرب، لتقديم عونه المالي، وتتوقف على نوع الحل السياسي الذي تريد موسكو الوصول إليه، ويرجّح أن يكون بدون بشار الأسد، فإن لم يرحل في بدايته كان رحيله مسألةً من غير الجائز أن تتخطّى نهاية ولايته عام 2021.
هل يطلب الروس الأموال اللازمة لإعادة الإعمار، لأنهم توصلوا إلى تفاهم دولي مع أميركا بشأن الحل، ويريدون كسب الوقت، والبدء بإعادة إعمار البيوت التي دمّرتها طائراتهم على رؤوس ساكنيها، كي لا يرى العالم حجم الجريمة التي ارتكبوها ضد الآمنين، قبل أن ترحلهم عصابات الأسدية عنها؟ أم أنهم قرّروا إعادة الإعمار التزاما بسياساتهم التي انتهكت مسار الحل الذي أقرّته وثيقة جنيف، والقرارات الدولية للحل، وأخذت بمساراتٍ لم تقرّرها التوافقات الدولية أو منظمة الأمم المتحدة، ألغت "الهيئة الحاكمة الانتقالية" و"الانتقال الديمقراطي"، لأن تأسيس الأولى والشروع بالثاني يطيح الأسدية، أشخاصا ونظاما، وشنّت لإلغائهما أو تعطيلهما حربا تنتهك القانون الدولي والإنساني، من دون تفويضٍ من الأمم المتحدة أو مجلس الأمن، استخدمت فيها أسلحة فتاكة ممنوعة دوليا ضد ملايين الآمنين، بعد أن قامت بغزو من النمط الاستعماري لسورية، سوّغته بطلب مزعوم من رئيس مزعوم، فقد شرعيته بجميع معايير الوطنية والإنسانية، بما ارتكبه من جرائم جماعية ضد مصدر شرعية أي حاكم أو دولة: الشعب السوري الذي استحق الإبادة بيد موسكو، لأنه طالب بحريته، بعد استعباد سياسي دام قرابة ستة عقود.
هل ستتقيد روسيا برؤيتها لإخراج الشعوب من أوضاع تستوجب الثورات، بواسطة إصلاحات تقوم بها الحكومات؟ وأي حكومة هي التي ستقوم بالإصلاح، في حال صدق الروس، وكان هناك إصلاح؟ هل هي حكومة الذي قتل مليونا من السوريين، وشقّهم إلى معسكرين، وظيفة أحدهما إبادة الآخر؟ أم هي حكومة الانتقال الديمقراطي التي ألزمتها وثيقة جنيف بإصدار دستور يرسم ملامح دولته؟ أم هي أخيرا الحكومة التي ستنفذ التزامات الأسدية بوضع سورية تحت إشرافهم وإلحاقها بهم، وإن لم يكن الأسد على رأسها؟ إذا كان المعيار الذي سيعتمده الروس هو قرار مجلس الأمن رقم 2254 الذي يحبونه، فإنهم سيرغمون على قبول حكومةٍ لا تتبع لاستعمارهم أو تخضع له، تنجز إصلاحا يطيح الأسدية نظاما وعصابات، لأنهم لن يحصلوا بدونها على تمويلٍ لإعادة الإعمار التي يستبعد أيضا أن تتم بإشرافهم، أو يكون لهم الإسهام الأكبر في تنفيذها. ماذا سيختار الكرملين لمواجهة ورطة خصمه فيها، ليس المعارضة السورية المتهالكة، بل هو واشنطن التي تقصر سياساتها الدولية، بعد انتخاب ترامب على سلب الدول الأخرى أموالها؟
هل ستسعى روسيا، هذه المرة أيضا، إلى تطبيق الخطة التي سارت عليها بعد عام 2012، وقامت على خلط الأوراق والأولويات، والتلاعب بقرارات المجتمع الدولي؟ وهل تمهد اليوم أيضا لتقديم إعادة الإعمار على الحل الذي يفترض أن يسبقها، استغلالا لرغبة السوريين السياسية في العودة إلى وطنهم، ولابتزاز العالم ماليا والتهرّب من مسؤوليات السلام، بعد أن تقيدت بنسبة مائة بالمائة بالتزامات الحرب.
تطرح موسكو قضايا ما بعد السلام كأنها قضايا روسية، ليست سورية، ولا تعني السوريين. في هذه الأثناء، يرجوها من تحتقره وتستخف به في كل لقاء يجمعه ب "قيصرها" أن يحتل جيشها سورية إلى فترة غير محدّدة، بما أن مصيره يتوقف على تفاهم دولي وكلمة منها، بعد أن ذبح نفسه باليد الآثمة التي ذبح بها شعبه.