إعادة لاجئين أم اتّجار سياسي بالبشر؟
كان مفاجئاً أن تبادر موسكو إلى وضع ما سمّتها خطة لإعادة اللاجئين السوريين إلى ديارهم. إذ لم يُعرف عن المسؤولين الروس أي تعاطفٍ، ولو بالحد الأدنى واللفظي، مع محنة هؤلاء، ولم تستقبل موسكو أي لاجئ مقتلع من بلاده. وخلافا لذلك، فقد أسهمت في عملية تشريد هؤلاء بالقصف المتكرّر لمدنيين، أو مرافق مدنية، وذلك منذ مطلع العام 2016، فترةً لا تقل عن ثلاثين شهرا. وقامت بتنظيم عملية نقل مدنيين في ظروف قسرية من أماكن إقامتهم، كما حدث أخيرا في درعا ومحيطها، وكما جرى من قبل في الغوطة الشرقية. ولم تبال يوما بمصير المدنيين أو أوضاعهم.
وأمر يثير العجب أن يكون طرفٌ شريك في التسبّب بمأساة هؤلاء هو من يتطوّع لأداء هذه المهمة، وحتى قبل أن تنتهي العمليات الحربية، علماً أن موسكو لم يسبق لها أن تحدّثت يوما عن وقفٍ لإطلاق النار، مكتفية بترديد تلك العبارة الملتوية عن خفض التصعيد. وغالبا ما كان يعقب إطلاق هذه العبارة، أو عقد مؤتمرات حولها في الأستانة وسوتشي، زيادة التصعيد من موسكو وحلفائها.
وبينما تتحدّث الأمم المتحدة هذه الأيام عن أعداد مهولة من المدنيين، مهدّدين بالتشريد، في حال استهداف مدينة إدلب، وبينما لا تكتم موسكو عزمها مع حلفائها من مليشيات إيران على شن حملة عسكرية على هذه المحافظة في شمال البلاد، فإنها تنهمك، في الوقت نفسه، بإعداد ترتيبات لعودة اللاجئين! وتجري اتصالات مع دول الجوار لهذا الغرض. وكان لافتاً أن مسؤولين روسا امتدحوا التجاوب اللبناني الرسمي "الممتاز" مع هذا الملف. وواقع الأمر أن اللاجئين السوريين تعرّضوا لمختلف اشكال التنكيل والتضييق والتشهير، لحملهم على العودة عُنوة إلى بلادهم، فيما سبق لقوى لبنانية، وخصوصا منها حزب الله، أن أسهمت في اقتلاع اللاجئين من ديارهم، وذلك تحت أنظار السلطات اللبنانية.
من حق اللاجئين السوريين العودة إلى بلدهم، في ظروف آمنة وكريمة، لكن هذه الظروف غير قائمة الآن. وحملهم على العودة، أو الضغط عليهم بهذا الاتجاه، لا يعني سوى الشروع في فصل جديد من فصول تعريضهم لأفدح الأخطار. هذا في وقتٍ يُدرك فيه القاصي والداني أن الحرب لم تضع أوزارها في هذا البلد، ولا يلوح في الأفق حل سياسي من النوع الذي اشتملت عليه قرارات الأمم المتحدة ووثائقها. ولم تدفع موسكو من جهتها، منذ حلولها، بصورة مباشرة، في هذا البلد في سبتمبر/ أيلول 2015، نحو أي حل سياسي، فقد انهمكت على الدوام بالحلول العسكرية التي تنال بصورة كثيفة من المدنيين، وقد تم اختراع مؤتمرات أستانة وسوتشي لهذا الغرض، ولصرف الأنظار عن مؤتمر جنيف المرعيّ دوليا.
والبادي بوضوح أن موسكو تستغل السلبية الدولية تجاه الوضع السوري المأساوي، وتسعى إلى ملء هذا الفراغ بإطلاق مبادراتٍ تضمن مصالحها في هذا البلد، مع محاولة تعظيم هذه المصالح (مضاعفتها) على المدى البعيد. وقد وجدت في محنة اللجوء ورقة قابلة للاستخدام السياسي، فمن جهةٍ يمكن، عبر لعب هذه الورقة، الإيحاء للأوروبيين أن في وسع موسكو تحريرهم من "عبء" اللجوء السوري، وتنظيم عودة اللاجئين، بانتظار التجاوب مع هذا الطرح، بممارسة ضغوط على اللاجئين. وفي مقابل ذلك، وبدون أن تتوقف الحرب (ومع استمرار وجود مليشيات إيران متعدّدة الجنسيات)، فإن على أوروبا المساهمة المالية في إعادة الإعمار. وخلال ذلك استئناف الاتصالات مع دمشق. وينسحب الأمر نفسه على دول الجوار: الأردن ولبنان وتركيا. وبحيث يتم، حسب الخطة، إيواء اللاجئين في مراكز إيواء مؤقتة (وللمرء أن يتخيل أحوال هذه المراكز، والبيئة السياسية والأمنية المحيطة بها)، وعلى أمل أن يشكل وجود هؤلاء عامل ضغط على دول عديدة، منها دول خليجية، للمسارعة بالإسهام المالي في إعادة الإعمار! وتتحدث تقارير عن شركات روسية، تتأهب للقيام بهذه المهمة، إلى جانب شركات أخرى، يمكن للمرء أن يتوقع أن تكون صينية وعراقية ولبنانية وإيرانية وسواها.
وأقل ما يقال في ملامح هذه الخطة أنها تضع العربة أمام الحصان، وتتعمد خلط الأوراق، وتقوم على الاستثمار والاتجار السياسي والاقتصادي بمحنة ملايين البشر، من دون منحهم أي أمل جدّي بالكرامة والأمن والسلام، مع "تهديد" اللاجئين بوضعهم أمام حملة تشهير جديدة ضدهم، إذا ما امتنعوا عن العودة، في ظروفٍ لا تسمح لهم أبداً بالعودة. وباستثناء لبنان الرسمي الذي "أبدع" في ممارسة كل أشكال التنكيل باللاجئين، بما في ذلك التحريض العنصري العلني، فإن أصداء الخطة الروسية تبدو باهتةً لدى الدول المعنية. اذ تقوم الخطة على خلط الأولويات، وعلى تأخير ما ينبغي أن يكون متقدّما، وتقديم ما هو متأخر على سلم الأولويات، استنادا إلى قناعة متزايدة لدى موسكو تنُبئ بها جملة سلوكها، بأن في وسعها أن تقرّر وحدها مصير سورية، ومصير السوريين، من دون تدخلٍ من أحد، بمن في ذلك السوريون أنفسهم.
والراجح أنه سيعود من قد قرّر العودة، قبل السماع بالخطة الروسية، كحال اللاجئين في لبنان الذين واجهوا عداءً مقيتاً، لا سابق له في تاريخ العلاقة بين الشعبين السوري واللبناني، وتلقوا بعض التضامن من قوى وشخصيات لبنانية نزيهة، لكنه لم يمنع التحريض الطائفي والعنصري عليهم، مع رعاية رسمية لهذا التحريض. وسوى هؤلاء، فإن بقية اللاجئين السوريين، على امتداد العالم، لن يروا في الخطة سوى محاولة فرض عبودية دائمة عليهم في وطنهم، هذا من دون أن تتوقف تطلعاتهم إلى عودة كريمة آمنة، تزول فيها الظروف التي أرغمتهم، ولأول مرة في حياتهم، على اللجوء القسري.