هل يحتاج السوريون جيشاً؟
قد يفاجئ بعضهم عنوان المقالة، وخصوصا الذين تربوا على الشعارات البرّاقة، وحب "القائد وجيشه الباسل"، وسيسألون على نحو بديهيّ: وهل تقام الدول على غير الجيوش، أو هل لدولةٍ أن تعيش بدون جيش؟ لعلَّ المتأمل عميقاً في حال جيوشنا العربية، وما قامت به منذ تأسيسها، يدرك حقيقة الوهم الكبير الذي تعيشه شعوب تلك الدول، كما يدرك خلفية تعظيم هذه الجيوش، ومباركة أفعالها الشجاعة، وإنْ لم تخض أيّة معركة مشرّفة، ولعلَّ القدسية التي يحيطها الحكام بجيوشهم تستمدّها من قدسية قائدها الرجل الأوَّل في هذه الدولة أو تلك، رئيساً كان أم ملكاً أم أميراً.. إذ هو مطلق اليد في كل شيء، وهو "ظلِّ الله على الأرض"، والويل لمن يتعرّض له، أو لجيشه، وإن بوردة (مظاهرة داريا السلمية في سورية حملت الورود للجيش عام 2011، فكافأتها أجهزة الأمن بألف شهيد تحت التعذيب).
ذات يوم، تعرَّضت صحيفة النور السورية إلى مطلبٍ محقٍّ لعاملين مدنيين في معامل الدفاع قرب بلدة السفيرة شرق حلب، فكان أنْ جاء رسولٌ برتبة مساعد، ليبلِّغ مسؤول الصحيفة رسالة شفوية من قيادته، تتضمن تحذيراً من خوض الصحيفة بمسائل كهذه، وإلا ستغلق! وللعلم، تعود ملكية الصحيفة للحزب الشيوعي السوري عضو الجبهة الوطنية التقدمية الذي يفترض أنَّ له "نتفة" شراكة مع حزب البعث في حكم البلاد، ما يوجب مخاطبته ضمن الأقنية القانونية. لكن القانون هنا هو الجيش، "جيش الشعب" (أطلق "البعث"، منذ اغتصب السلطة، على الجيش اسم "جيش الشعب" و"الجيش العقائدي"، ومنع عنه السياسة وفكرها، والخوض فيها لغير البعثيين).
وصحيفة النور مرخّصة منذ خمسينيات القرن الماضي، أيَّام كان لسورية دولة وقانون وأحزاب وصحافة، وقد أغلقت مع ما أغلق من صحف ومجلات ونواد وجمعيات بقرارٍ صدر عمَّا سمّيت "قيادة الثورة" للانقلاب البعثي الذي جرى في 8 آذار/ مارس عام 1963. أعيد إصدارها صحيفة حزبٍ منضو تحت راية الجبهة الوطنية التقدمية عام 2001 بـ: "عطاء ميمون" من القائد "الملهم" بشار الأسد، بطل شعاري "التطوير والتحديث!" تيمنّاً بوالده بطل التشرينيْن "التصحيح والتحرير".
يستنتج المتتبع لواقع حال الحكم في سورية قاعدة مهمة، أنه: "كلما ارتفعت وتيرة التعظيم كثرت عيوب المعظَّم ونواقصه"، ومن هنا، ومع كل أسف، يمكن القول: إنَّ هذا الجيش "المعظَّم" لم يربح حرباً ضد عدوٍّ مبين، فلا معركة ميسلون ضد فرنسا عام 1920 ولا حروب 1948/ 1967/ 1973 ضد إسرائيل. وإذا كان لمعركة ميسلون (24 يوليو/ تموز 1920) وحرب 1948 ظرفاهما الموضوعيان، فنتائج معركة ميسلون محسومة سلفاً، فلا تكافؤ بين الجيشين! لكنَّ وزير الدفاع السوري آنذاك، يوسف العظمة، أرادها إعلاء لقيم وطنية وأخلاقية، وكيلا يقال: إنَّ الفرنسيين دخلوا دمشق دونما مجابهة السوريين لهم.
أما حرب 1948 فكانت حرباً عربية ارتبطت، آنذاك، بظروف العرب المختلفة/ المتخلفة. وما يهم هنا حرب يونيو/ حزيران التي جاءت، بعد تحضيرٍ لها وتوقُّع حدوثها، وبعد "طفح" ثوري غطَّى المساحة العربية من محيطها إلى خليجها، وأعلن كثيرون ممن دقّوا طبولها أنهم سيلقون بالإسرائيليين إلى البحر، خلال أربع وعشرين ساعة. أما حرب تشرين (أكتوبر) عام 1973 التي على الرغم من ربحها المعلن كان طرفاها، مصر وسورية، قد خسرا أراضي جديدة، وأسفرت الحرب عن زيارة أنور السادات الإسرائيليين رافعاً الراية البيضاء، ليتبعه حافظ الأسد بتوقيع اتفاقية الفصل بين القوات، وليعدَّ الاتفاقية انتصاراً، بل غسْلاً لعار هزيمة حزيران، إذ استعاد القنيطرة، مدمَّرةً، وكان أن سلّمت عامرة قبل وصول العدو بزمن! (يُذْكَر أنَّ عبد الرحمن الأكتع وزير الصحة خلال حرب حزيران، تساءل في أول اجتماع لمجلس الوزراء السوري بعد الهزيمة، عن سبب تسليم القنيطرة، دونما قتال، مطالباً بمحاسبة المسؤول عن ذلك الفعل، فما كان من حافظ الأسد وزير الدفاع آنذاك، إلا أن قام إليه، وصفعه بلؤم وقسوة، ما جعله يغادر، رحمه الله، الاجتماع والوزارة معاً، وإلى الأبد).
وإذا كان لا بد من ذكر الحروب الرابحة، فما جرى في لبنان بين عامي 1974 و1982 من اقتتالٍ جعل الجيش السوري، أراد أم لم يرد، أن يقف في الصفّ الذي تقف فيه إسرائيل، فمنذ دخوله وقف ضد جبهة الرفض (تحالف بين فصائل فلسطينية تؤيدها القوى الوطنية اللبنانية)، وفي النهاية، ضد منظمة التحرير الفلسطينية التي أبعدت عن حدود وطنها آلاف الكيلومترات. كما أنه وقف متفرّجاً، إن لم نقل قد ساعد، على مجازر تل الزعتر وصبرا وشاتيلا.
وهناك أيضاً حرب الخليج الثانية التي دخلها الجيش السوري تحت جناح تحالفٍ قادته الولايات المتحدة الأميركية، ليحظى حافظ الأسد بغنائم وفيرة. وكان أن غطَّى أمر دخوله برسالة نُصْحٍ، وجهها إلى الرئيس صدام حسين الذي لا شك أنَّ خطأه باحتلاله الكويت كان فادحاً.
وقبل الدخول إلى حروب الجيش السوري، ضدَّ شعبه، لا بد من الإشارة إلى صراعاته الداخلية وانقلاباته التي قادت إلى خسارة مئات الضباط، وربما آلاف، قتلاً أو تسريحاً، وزرعاً للفتن والأحقاد، وخصوصا بعد تسلُّط حزب البعث. أما الحروب الداخلية فكثيرة، منها: قصف مسجد السلطان في مدينة حماة في 1964، ما تسبّب بنحو سبعين إلى مئة قتيل. ثمَّ جاء تدمير حماة بالكامل عام 1982 على يد طلائع الجيش وقواته الخاصة، وحصد ما بين ثلاثين ألفا إلى أربعين ألف قتيل. وفي حلب، كانت مجزرة حي المشارقة عام 1980 التي التهمت ثمانين من الناس الأبرياء. وثالثة الأثافي هي ما نحن فيه الآن من حربٍ لا تزال تترك في المجتمع تأثيراتها المادية والاجتماعية والروحية، وتخلِّف أمراضاً على غير صعيد! وقد خلخلت كيان المجتمع السوري وبنيته. وانتهت إلى الاستعانة بدولٍ أجنبية لتدمير سورية، ورسم مستقبلها.
وفي العودة إلى أسباب بدء هذه الحرب، لا يوجد ما يستوجب نشوبها، فلا عدوَّ هدَّد الديار، ولا شعباً منع جيشاً قام إلى استرداد حقوق وطنه المضيَّعة، فتطلَّب قتله، أو سجنه، أو تهجيره، فكل ما جرى أنَّ الشعب طالب بجزءٍ من حرية تستقيم معها حياته.
كلَّ الجيوش تربح وتخسر، وهذا عادي، لكن غير العادي، بل المعيب حقاً، أن يعوِّض الجيش خسائره بانتصاراتٍ، وهمية على شعبه ووطنه. وفي عودة إلى العنوان يتجدّد السؤال: ما فائدة الجيش الذي يلتهم موازنة الدولة، ويكون سوطاً على الشعب؟ بل ما الذي يُرتجى منه في ظل موازين قوى عالمية ليست في صالحه. ولعلَّ مجريات حرب تشرين خير دليل، إضافة إلى أنَّ شراءه الأسلحة ينعش بيوتات السلاح التي من مصالحها إشعال الحروب بين الشعوب (أبرمت روسيا صفقات سلاحٍ بأكثر من خمسة وثلاثين مليار دولار، ناهيكم باحتساب الحرب السورية تدريباً للقوات الروسية، وتجريباً للأسلحة الجديدة كما أعلن الرئيس فلاديمير بوتين). وما يمكن استنتاجه أنَّ التجربة السورية مع الجيش وحكم العسكر لم ينجم عنها إلا تمكين الاستبداد وترسيخ التخلّف. فاستبدال الجيش بشرطة داخلية تحفظ نظام الدولة، وتفتح الطريق أمام نظامٍ ديمقراطي، يساهم في التنمية الشاملة التي هي نصرٌ للمجتمع والإنسان، ووراء كل تقدّم في عالمنا المعاصر.